الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موطأ مالك بن أنس رحمه الله
إن أهل العلم ورجال السنة اتفقت كلمتهم على أن «الموطأ» ألفه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، وكتبه بيده، وأنه أول كتاب أُلِّف في الإسلام من الكتب التي ظهرت بين أيدي الناس، وأنه قد رواه عن مالك جمهرة من أهل الحديث والفقه يتجاوزون الألف. قال ابن العربي في بعض كتبه: رواه عن مالك من أصحابه ألف أو يزيدون، وقد أحصاهم عياض في باب خصَّه من كتابه المعروف المسمى:«المدارك» فبلغ إلى ألف وثلاثمائة مرتبين على حروف المعجم، وكان الخطيب البغدادي عُني بإحصاء رواة «الموطأ» ، فبلغ تسعمائة وتسعين راويًا.
وإنَّ التوفيق الذي بعث مالكًا رحمه الله على تدوين «الموطأ» للُطفٌ ربانيٌ؛ جعله الله مثالًا لحملة سُنة رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يحقُّ لهم حملها وإبلاغها إلى الأمة، مما استخلصه من طرائق شيوخه. فقد رسم مالك بهذا الكتاب طريقته التي اتبعها ونوَّه بها في مجالس تحديثه ودروس علمه، وهي طريقة التمحيص، والتصحيح في الرواية، وتمييز من يستحق أن تحمل عنه السنة، وتبيين محامل الآثار المروية، بعد أن مضى زمن خُلط فيها بين الصحيح والسقيم، فإن التعطش إلى حفظ ما يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شبَّ في نفوس علماء الأمة حين أذن عصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالانتهاء؛ فهرع الناس إلى الذين تلقوا العلم عن الصحابة وهم التابعون. وكان من هؤلاء مُكثر ومقلٌّ، هل ومشدِّد، وطفقوا يقيِّدون، ويحفظون، ويحدِّثون بجميع ذلك خيفة اندراس العلم،
فكانت أعصرُ ركب الناس فيها كل صعب وذلول، كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه. ووجد أهل الأهواء، والنزاعات، ودُعاة الدول، والأحزاب في تلك الكثرة والسعة مخابئ دسُّوا فيها مفترياتهم، أو آثار غفلاتهم، فلا جرم أن أصبحت الأمة في حاجة إلى ضبط الصحيح من آثار رسولها صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكان أهل المدينة أحق الناس بذلك الضبط، فإنها مازالت يومئذٍ عاضَّة على السن بنواجذها، مقتفية هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وخاصةً أصحابه.
ولم يكن الوضاعون والمدلسون بالذين تنفق بالمدينة خزعبلاتهم، ولا تروج ترهاتهم؛ إذ كانت المدينة مكتظَّة بأهل العلم والأثر، هجيراهم الرواية، والتحديث، ودراسة العلم، وديدنهم التمسك بالحق الصريح، فلو رمى أحد الوضاعين بين ظهرانيهم بحصاة لتَفوهُ، فإن المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طِيبها.
وقد خلص علم فقهاء المدينة إلى مالك بن أنس رحمه الله وكانت زكانة رأيه، وصلابة دينه، وقوة نقده، قد هيأت له بتوفيق الله تعالى ذلك المقام الجليل، مقام الضبط، والتصحيح، والتحرير، حتى أيقنَّا أنه الذي بعثه الله على رأس المائة الثانية، مُجددًا للأمة أمر دينها، وماهيك بمثل هذا الأمر من الدين. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» . قال ذلك في
آخر سِنِي حياته المباركة، أي: في نحو سنة إحدى عشرة من هجرته، وقد ظهر مالك في العلم في حدود سنة إحدى عشرة ومائة 111 من الهجرة. وأخرج الترمذي وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فآلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة» ، ورُوي عن سفيان بن عيينة أن عالم المدينة مالك ابن أنسن وروي أيضًا عن عبد الرزاق: أنه مالك بن أنس.
وهذا الحديث رواه الشافعي أيضًا في «مسنده» ، والبيهقي في «سننه» ،
والحاكم في «المستدرك» ؛ فألحقه الحاكم بالصحيح. ومما يحقق ذلك أن مالكًا قد كان معاصروه بالمدينة وهم: عبيد الله العُمري، ومحمد بن أبي ذئب، ومحمد بن إسحاق، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومحمد بن عبد العزيز الزهري. فما شُدَّت الرحال من سائر الأقطار إلَّا إلى مالك. وقد انقرض عصر مالك فما خلفه بالمدينة إلا عصر أصحابه، ولا يعرف بالمدينة في عصرهم فقهاء غيرهم.
لقد ضيَّق مالكٌ في شروط قبول الأخبار تضييقًا اسْتبرأ فيه لدينه، وقضى به حقَّ الاحتياط في موافقة صحة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تواتر من حال المسلمين في زمانه وزمان الصحابة، روى الترمذي في آخر «جامعة» عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال:«ما في القوم أحدٌ أصح حديثًا من مالك بن أنس، كان مالك إمامًا في الحديث» .
وقد تقصَّيتُ مراجع شروط الصحة عند أهل الأثر؛ فوجدتها لا تعدو ثلاثة أشياء:
الأول: تحقُّق صدق الراوي فيما رواه، وهذا يندرج فيه شرط العدالة، واليقظة، والضبط، وعدم البدعة.
الثاني: تحقُّق عدم الالتباس، والاشتباه على الراوي، ويندرج في هذا صراحة طرق التحمُّل من انتفاء التدليس والتغفل.
الثالث: تحقُّق مطابقة المروي لما هو واقع من الأمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ويندرج تحت هذا قواعد الترجيح بين المتعارضات، ومحامل المتشابهات، وتأويلها، والنسخ، ونحو ذلك.
فالأمران الأولان يعتمدان صحة السند وثقته، والأمر الثالث يعتمد صحة المعنى. وكان معظم رجال الحديث في عصر مالك لا يتوخون إلا صحة السند، وقد شغلهم ذلك عن تتبع الأمر الثالث، وربما كان بعضهم لا يعبأ بالأمر الثالث إذا عنَّ له ويجعل العمدة الأمرين الأولين، حتى قال بعضهم:«إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي» ، مريدًا
صحته لهذا المعنى، وقد وقع هذا للشافعي كثيرًا في مسائل فقهه. أما مالك فقد جعل للأمر الثالث الحظ الأكبر، فكان بعد صحة سند الأثر يعرضه على عمل علماء المدينة من الصحابة والتابعين، وعلى قواعد الشريعة، وعلى القياس الجَلِي، فكان لا يعمل بخبر الواحد إذا خالف واحدًا من هذه الثلاثة، كما قال بِردِّ حديث خيار المجلس إذا حمل على ظاهر لفظه.
وإذا أحطنا بأسباب رواية الأخبار الموضوعة أو الضعيفة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدناها خمسة: افتراءً، أو نسيانًا، أو غلطًا، أو ترويجًا، أو إغرابًا.
فأما الكذب وهو شرها؛ لأنه لا يُقدم عليه إلا ضعيف الدين أو ضعيف العقل، وقد توخَّى مالك رحمه الله للوقاية منه شدَّة نقده للرواية في صحة الدين، واستقامة الفهم، واتباع السنة.
قال سفيان بن عيينة: رحم الله مالكًا ما كان أشد انتقاده للرجل. وقال ابن المديني: لا أعلم أحدًا يقوم مقام مالك في ذلك.
وقال أحمد بن صالح: ما أعلم مالكًا روى عن أحد فيه شيء.
وقال مسلم بن الحجاج في الأحاديث المعنونة بـ «باب إن الإسناد من الدين» .
عن بشر بن عمر قال: سألت مالكًا عن رجل، فقال لي: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا. فقال: لو كان ثقةً لرأيته في كتبي.
وقال أبو عمر بن عبد البر في ترجمة ثَور بن زيد الدَّيلي من كتاب «التمهيد» قال: كان (زيد بن ثور) ينسب إلى رأي الخوارج والقول بالقدر، ولم يكن يدعو إلى
شيء من ذلك.
قال أحمد بن حنبل: هو صالح الحديث وقد روى عنه مالك رحمه الله.
فتحصَّل من هذا أن لا تجد في رجال «الموطأ» أحدًا تُكُلِّم فيه بنقد حاله، وقد عرض ذلك لبعض رجال الأسانيد في غير «موطأ» مالك إما بندرة وإما بأكثر.
وأما النسيان والغلط فتوخى عنهما مالك رحمه الله إذ اشترط أن يكون الراوي من أهل المعرفة والفقه.
روى ابن وهب عن مالك، أنه قال: ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء، وقال: أدركت بهذه البلدة (يعني المدينة) أقوامًا لو استسقى بهم القطر لسقوا، ما حدَّثت عن أحدٍ منهم شيئًا؛ لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد (أي فحسب)، وهذا الشأن (يعني رواية الحديث) يحتاج إلى رجل معه تُقىً، وورع، وصيانة، وإتقان، وعلم، وفهم فيَعلَم ما يَخرج من رأسه وما يصل إليه غدًا. وروى عياض في «المدارك» أن مالكًا قال: اختلفت أيامًا إلى زيد بن أسلم، أسأله عن حديث عمر؛ أنه حمل على فرس في سبيل الله، فيحدثني، لعله يدخله شكٌّ أووهم فأتركه. وذكر مسلم بن الحجاج في الأحاديث المعنونة بعنوان «الإسناد من الدين» عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: قال لي مالك: اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إمامًا أبدًا، وهو يحدِّث بكل ما سمع.
ومن الحيطة لتجنب الغلط، كان مالك رحمه الله يشدِّد في رواية الحديث بالمعنى. قال عياض في «المدرك»: قال مالك: لا ينبغي للمرء أن ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم -
إلا كما جاء، وأما لفظ غيره فلا بأس بنقله بالمعنى، وإنما رَخص في زيادة مثل الواو والألف في الحديث والمعنى واحد.
وقد عرف من طريقة جمهور الصحابة في الرواية حرصهم على أداء مقالة النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعوها .. وفي حديث البخاري في أوائل كتاب الصلاة: أن عمر سأل حذيفة: هل يعلم حديث رسول الله في الفتنة، فقال حذيفة: قلت أنا كما قاله، أي: كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغير منه شيئًا، وروى الترمذي في آخر «جامعه»: أن مالك بن أنس كان يشدد في حديث رسول الله في الياء والتاء ونحوهما. وفي حديث أبي هريرة في «البخاري» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتا تفلت علي البارحة أو كلمة نحوها» إلخ. فهذا يدل على أن أبا هريرة كان يتوخى ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الترويج فمالك رحمه الله قد أعرض عن التصنُّع والتحسين في طرق الرواية، وكان يكرَّر أن يقول: قال أبو عبيدة بن محمَّد بن عمار بن ياسر لبعض أهل التصنع: «إذا أخذتم في الساذج تكلمنا معكم، وإذا أخذتم في المنقوش قمنا عنكم» . ومن أجل هذا لا تراه يتشدد في تحديد صيغ التحديث ولا في التزام التصريح بـ «قال رسول الله» صلى الله عليه وسلم، فكان أغلب الأحاديث المرفوعة في «الموطأ» هي بصيغة «أن رسول الله» .
وكان لا يرى فرقًا بين أن يقول المحدث: حدثنا، أو أنبأنا، أو أخبرنا، أو سمعت، أو العنعنة، أو أن رسول الله قال، وقال لأصحابه (حين سألوه أنَقُول: حدثنا أو أخبرنا) «ألست فرغت لكم نفسي، وأقمت لكم زلل الحديث، وسقطه فقولوا حدثنا أو أخبرنا» . قال إسماعيل بن أبي أويس سئل مالك عن حديث: أسماع هو؟ فقال: منه سماع ومنه عَرْض وليس العرض عندنا بأدنى من السماع، وكان البخاري يرجِّح العنعنة على قول الراوي: إن فلانًا قال، ومن الغريب أن البخاري روَى
حديث أبي سعيد (قول النبي صلى الله عليه وسلم): «ليس فيما أقل من خمسة أو شق صدقة» وهو من رواية مالك في «الموطأ» إلا أن أصحاب مالك رووه بلفظ: «أن رسول الله قال .... » ورواه يحيى بن سعيد عن مالك بلفظ «عن رسول الله أنه قال» . والبخاري لم يجرك يحيى بن سعيد فرواه عن مسدد، عن يحيى.
وكان مالك لا يرى فرقًا في السماع بين أن يقرأ المحدث على رواته، وبين أن يقرأ بعضهم عليه، وهو يسمع والبقية يسمعون، وقد ذكر البخاري في: باب القراءة والعروض على المحدث من كتاب العِلم من «صحيحه» فقال: سمعت أبا عاصم يذكر عن سفيان الثوري، ومالك أنهما يريان القراءة والسماع جائزًا، وأن القراءة على العالم وقراءته سواء. قال عياض: كان مالك ينكر أشدَّ الانكار على من يقول: لا يجوز العرض. بل كان مالك يرى العرض خيرًا من السماع (أي: السماع من فم الشيخ) إذا كان يقرأ متثبتًا، فكان أكثر رواية أصحاب مالك عنه هي: طريقة القراءة عليه، فيقوم أحد الرواة واقفًا يقرأ من كتاب مالك، ومالك يسمع، وقد جاء مرة بعض أهل خراسان للسماع من مالك، وكان أهل خراسان لا يرون العرض؛ فطلب من مالك السماع، فلم يجبه، فشكاه الخراساني إلى قاضي المدينة، وقال: جئت من خراسان ونحن لا ترى العرض، وأبى مالك أن يقرأ علينا، فحكم القاضي بأن مالكًا يقرأ له. قيل لمالك: أأصاب القاضي الحق؟ قال: نعم.
وأما التفاخر فقد أعرض عنه مالك أيَّما إعراض، قال له بعض أصحابه: إن فلانًا يحدثنا بالغريب، فقال مالك: من الغريب نفِرُّ، وقال له بعض من رأى كتابه: ليس في كتابك غريب، فقال مالك: سررتني.
وقد أدرك مالك عائشةَ ابنة طلحة بن عبيد الله، وهي تابعية فلم يأخذ عنها، فقيل
له في ذلك، فقال: رأيت فيها ضعفًا، ولو روى عنها لزاد في عواليه، ولكان بينه وبين عائشة أم المؤمنين راوٍ واسطة واحدة.
ولم يكن مالك حريصًا على الإكثار من الرواية، فكان يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء. قال سليمان بن بلال قاضي المدينة في عصر مالك: لقد وضع مالك «الموطأ» وفيه أربعة آلاف حديث فمات مالك وهي ألف حديث ونيف، يخلصها عامًا عامًا بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين، وأمثلُ في الدين. وذكر ابن العربي عن ابن الجبَّاب: أن مالكًا روى مائة ألف حديث، وجمع في «الموطأ» عشرة آلاف حديث، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويخبُرُها بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة، وقال الكِيَا الهَرَّاسي: كان «الموطأ» تسعة آلاف حديث؛ فلم يزل مالك ينتقيها حتى بقي سبعمائة.
أظهر مالك طريقته التي سار عليها في الرواية في كتابه «الموطأ» ، فأثبت فيه أحسن ما صح عنده من الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الخلفاء الراشدين، وفقهاء الصحابة، ومن بعدهم من فقهاء المدينة، وما جرى عليه عملهم بالمدينة مما يرجع إلى تلقي المأثور عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وقضاة العدل، أئمة الفقه.
وَبوَّب ذلك على أبواب بحسب ما يحتاج إليه المسلمون في عباداتهم، ومعاملاتهم وآدابهم، من معرفة العمل فيها الذي يكون جاريًا بهم على السنن المرضي شرعًا، فإن الأمة ما قصدت من حفظ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله إلا للاقتداء به في أعمالهم، وقد تبعه على هذا التبويب البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ومسلم في خصوص العنوان بالكتب من «صحيحه» .
وجعل مالك فيه بابًا جامعًا في آخره ذكر فيه ما لا يدخل في بابٍ خاص من الأبواب المخصصة بفقه بعض الأعمال. قالوا: ومالك رحمه الله هو أول من عنون كتابًا من كتب مصنفه بكتابِ الجامع.
وأضاف إلى ذلك ما استنبطه من الأحكام في مواقع الاجتهاد مما يرجع إلى جمع بين متعارضين، أو ترجيح أحد الخبرين، أو تقديم إجماع أو قياس، أو عرض على قواعد الشريعة، فكان بحق كتاب شريعة الإسلام.
فقوله: «وأما ما لم أسمعه» ، أي: ما يقول فيه: «فيما نرى أو فيما أرى، والله أعلم» . وقوله: «على مذهب من لقيته» ، أي: على طريقتهم وقواعدهم المعتادة في فهم الشريعة، وقوله:«حتى وقع الحق» ، أي: حتى وقع في نفسي موقع الحق يقينًا أو قريبًا منه وهو الظن. وقوله قبل ذلك: «فهو شيء استحسنته من قول العلماء» أي:
رجحته. فهذا مراده بالاستحسان هنا، وهو الأخذ بأرجح القولين، أو أقوى الدليلين.
وقد يُطلِق مالك الاستحسان على القياس حيث لا نص، كقوله في كتاب الديات من «المدونة»:«إنه لشيء استحسناه وما سمعت فيه شيئًا من أهل العلم» ، وذكر عياض عن بعض العلماء أن مالكًا، إذ قال:«الأمر المجتمع عليه عندنا» ، فهو عن قضاء سليمان بن بلال. وإذا قال:«على هذا أدركت أهل العلم ببلدنا أو الأمر عندنا» فإنه يريد: ربيعة بن أبي عبد الرحمن وعبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج. وأحسن أن هذا بعض مراده، وأن ما جاء عن إسماعيل بن أبي أويس عنه أوضح شيء في هذا الغرض.
فإذن قد خلص لنا أن ما حواه «الموطأ» أقسامُ:
القسم الأول: أحاديث مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد متصلة من مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: أحاديث مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد مرسلة، وهي التي يقول فيها من يروي عن الصحابة:«أن رسول الله قال كذا، أو فعل كذا» ، ولم يصرِّح بعزو ذلك إلى اسم من رواه عنه من الصحابة.
الثالث: أحاديث مروية بسند سقط فيه راو، ويسمى المنقطع.
الرابع: أحاديث يبلغ في سندها إلى ذكر الصحابي، ولا يذكر فيها أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يكون الخبر مما يُقال بالرأي، وهذا الصنف يسمى الموقوف.
الخامس: البلاغات، وهي قول مالك رحمه الله:«بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال .. » .
السادس: أقوال الصحابة وفقهاء التابعين.
السابع: ما استنبطه الإمام مالك رحمه الله من الفقه المستند إلى العمل، أو إلى القياس، أو إلى قواعد الشريعة.
ولم يختلف أئمة الأثر ونقد الرجال في أن ما يحتويه «الموطأ» من القسم الأول كله مقبول لا مغمز فيه. وحسبك أن البخاري، ومسلمًا، وأصحاب السنن قد أخرجوا جميع الأحاديث المسندة التي في «الموطأ» عن مالك بواسطة رواة «الموطأ» ، وقد
حكى عياض، وابن الصلاح عن أبي عبد الله البخاري أنه قال: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر. قال عياض: ويليه في الصحة: مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه، ثم مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.
قال جلال الدين السيوطي: قال بعض العلماء: إن البخاري إذا وجد حديثًا يؤثر عن مالك لا يكاد يعدل به إلى غيره حتى أنه يروي في «صحيحه» عن عبد الله بن محمَّد بن أسماء عن عمه جويرية بن أسماء عن كالك (يعني يتكلف الوصول إلى حديث مالك ولو من سندٍ بعيدٍ).
قلت: وروَى عن صدقة بن الفضل، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، وعن محمَّد بن المثنى، عن ابن مهدي عنه.
وإنما اختلفوا فيما يحتويه «الموطأ» من القسم الثاني، وهي الأحاديث المرسلة التي يرسلها التابعون عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما قلت:«التي يرسلها التابعون» ؛ لاتفاق الجميع على قبول مراسيل الصحابة، فإن معظم أحاديث ابن عباس مراسيل؛ لأنه لم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلًا لصغره؛ ولكنه كان يلازم كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخلص له من رواياتهم ما يوقن بصحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيحدث به عن رسول الله غير مبين من رواه له، وقد بين ذلك قوله في حديث أبي العالية عنه في «صحيح البخاري»:«شهد عندي رجالٌ مرضيُّون وأرضاهم عندي عمر: أن رسول الله نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب» .
ومن مراسيل التابعين نوع لا خلاف في جعله كالمسند؛ وهو أن يحدث التابعي أن صحابيًا ممن أدركهم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. فهذا له حُكمُ قوله: إن الصحابي أخبرني بكذا. فأما الذين يرون الاحتجاج بالحديث المرسل من التابعي الثقة فإنهم
يرونه من قبيل الحديث الصحيح. وإلى هذا كان يذهب مالك ومشائخه، وأبو حنيفة، والترمذي، ومحمد بن جرير الطبري، ومحققو المالكية، وروى أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» عن الطبري: أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين. قال أبو عمر: كأنه يعني: أن الشافعي أول من أبى من قبول المرسل، وتبعه أهل الحديث على ذلك الدين الذين جاءوا بعده. والذين لا يقبلون المرسل، يُعدونه دون مرتبة الصحيح، وعلى هذا قول الشافعي وجمهور أهل الحديث، فيما روى عنهم مسلم بن الحجاج في «صحيحه» ، وهو مجرد اصطلاح.
وهذا الشافعي يقول: إن كان التابعي المرسل من كبار التابعين، لم يدرك إلا الصحابة مثل سعيد بن المسيب، فمراسيله مقبولة، ولها حكم الصحيح.
وأقول: إن اتفاقهم على قبول مراسيل الصحابة؛ إنما هو لأجل عدالتهم، فما يمنع
من قبول مراسيل غيرهم ممن عُرفت عدالته.
وبعد هذا كله فإن مراسيل «الموطأ» قد ثبت إسنادها بأسانيد صحيحة في غير «الموطأ» إلا حديثًا واحدًا رأيته، وهو حديث عبد الله بن المغيرة ابن أبي بردة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر على قبيلة تكبيره على الميت؛ لأن رجلًا منهم غل. ذكره فيما جاء في الغلول.
قال ابن عبد البر: لم يُرْوَ مسندًا بوجهٍ، فلم يبق بنا حاجة إلى إطالة القول في اعتبار مراسيل «الموطأ» من الصحيح أو قريب منه.
وكذلك القول في القسم الثالث وهو الأحاديث المنقطعة في «الموطأ» ، فإنها قد علم مخرجها وثبت إسنادها الصحيح من غير طريق «الموطأ» .
قال عياض: «ما أرسله مالك في الموطأ عن ابن مسعود، فهو قد رواه عن عبد الله بن إدريس الأوْدي، وما أرسله عن غير ابن مسعود فهو رواه عن ابن مهدي» اهـ. يريد بـ (بما أرسله): ما قطعه.
وقال الترمذي في آخر «جامعه» عن يحيى بن سعيد القطان: مرسلات مالك أحبُّ
إليَّ من مرسلات غيره ليس في القوم أحد أصحُّ حديثًا من مالك.
واعلم أن سبب توقُّف من توقف غي عد المرسل من الصحيح ومَن رفضه منه، هو احتمال أن يكون قول التابعي:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» مجرد بلاغ لا يُعرف حال مبلغه، وهذا الاحتمال وإن كان واهيًا في جانب من عُرف بالثقة والاحتياط من التابعين، فإنه مُدحَض، إذا قال التابعي:«أرفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم» ، ولم يذكر أنه عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما إن قال:«عن بعض أصحاب رسول الله» فواضح أنه مسند، ودون ذلك أن يقول:«أرفعه إلى رسول الله» كما وقع في حديث مالك عن صفوان بن سليم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل» فإن البخاري أخرجه في «صحيحه» في كتاب الأدب عن إسماعيل عن مالك.
والقسم الرابع: قد أجمع العلماء على أن موقوفات الصحابة لها حكم الرفع فيما لا يقال من قبل الرأي، ويلحق بهذا القسم ما يقع في «الموطأ» من قوله:«كان يقال، أو يقال» ، كما وقع في جامع ما جاء في القَدَر. قال ابن عبد البر:«كان ابن سيرين إذا قال: «كان يقال» لم يُشَكَّ في أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان مالك» اهـ.
وسبب ذلك أن لفظ «كانوا يفعلون» ، ونحوه من صيغ إثبات السنة، كما تقرَّر في أصول الفقه؛ لأنه يقتضي أن ذلك لا يختص بعالم معين، فيدل على أنه مما اشترك الناس فيه، وذلك إنما يكون فيما شاع من السنة، وخاصةً إذا كان المروي كلامًا
محفوظًا لا يزاد فيه ولا ينقص.
وأما القسم الخامس: وهو البلاغات؛ فقد تقصاها أبو عمر بن عبد البر، وأخرج إسنادها بالطرق الصحيحة، ولم يشذُّ عن ذلك إلا أربعة بلاغات في «الموطأ»:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لا أنسى ولكن أنسي لأسن» .
الثاني: «إذا نشأت بحرية، ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة» .
الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرًا من ألف شهر.
الرابع: أن معاذ بن جبلٍ قال: آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وضعت
رجلي في الغرز، أن قال:«حسن خلقك للناس» .
وأما القسمان السادس والسابع: وهما أقوال الصحابة، والتابعين، وما استنبطه مالك، فأراد مالك أن تكون منهما مشكاة، اهتداءً في اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، مما تلقاه عنه أصحابه، أو مما فهموه من مقاصده وهديه، أو ما عملوا به في حياته بمرأى منه وأقره، وذلك ما بلغ إليه فقهاء المدينة من العلم المقتَبس من مصباح هدي الصحابة وعملهم في بلد السنة.
فكملت بالموطأ الأداة التي يتطلع إليها المسلم، المتفقه في الدين، المتطلب مصادفة الحق ومرضاة الله تعالى، وإنما دُوِّنَت السنة لأجل العمل بها والتفقه في دين الله بها، فإذا أعوزنا المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لنا في المأثور عن أصحابه، والمعمول به لدى فقهاء مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، معتصمًا نعتصم به، يقوم لنا مقام المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يكثر الاحتياج إليه في أبوابٍ من العقود والمعاملات مثل: العتق، والقراض، والمساقاة، فإذا كانت الأحاديث المسندة قد أبلغت إلينا أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام وأفعاله؛ فإن أعمال أصحابه، وخلفائه، وما جرى من العمل في مدينته منذ حياته واستمر إلى ما قارب ذلك، فهو كنز عظيم من التشريع والهدي، بقي مختزنًا بالمدينة لا يمكن نقله كما تنقل المسانيد، ولكنه يحكي ويوصف، وقد بقي وكفه مختزنًا في «الموطأ» لا نجده في غيره إلا قليلًا، فإن مالكًا قد اختص بتدوين ذلك، إذ اجتمع له في نقله قرب الزمان من زمان النبوة وكون المكان مكانها.
فإن قال قائل: ما الذي ألجأ مالكًا أو بعض شيوخه إلى رواية المرسل والمنقطع والموقوف والبلاغ؟ وهلا أسند ووصل ورفع فكفانا أمر الخلاف في قبول هذه الأصناف؟
فجوابه: أن أبا عُمر بن عبد البر قال في «التمهيد» : «والإرسال قد تبعث عليه
أمور لا تضيره، مثل أن يكون الرجل سمع ذلك الخبر عن جماعة عن المعزو الخبر، وصح عنده، ووقر في نفسه، فأرسله عن ذلك المعزو إليه علمًا بصحة ما أرسل وقد يكون المرسِل نسي من حدَّثه به، وعرف المعزو إليه الحديث، فذكره عنه، فهو أيضًا لا يضرُّ إذا كان أصل مذهبه، أن لا يأخذ إلا عن ثقة كمالك وشعبة، أو تكون مذاكرةٌ فربما ثَقُل معها الإسناد وحف الإرسال، إما لمعرفة المخاطبين بذلك الحديث واشتهاره عندهم، أو لغير ذلك من الأسباب الكائنة في معنى ما ذكرنا» اهـ.
وأقول: إن السلف كان أكثر تعويلهم في الرواية على الحفظ دون الكتابة، يعرض السهو، كما قال أبو عمر فينسى المحدث اسم الراوي، ويبقي في حفظه تحت صحة المروي تحققًا يوجب له ظنًا بقبوله، وقد كان الرواة عن السلف لا يلحُّون سؤالهم، فإذا أرسل الشيخ الحديث، لا يسألونه عمن رواه؛ لأنهم واثقون بعلم شيخهم وضبطه على أن الشيخ قد يُرسل الحديث؛ لأنه كان مشتهرًا بين أهل طبقته فيصير الاحتجاج به كالاحتجاج بالأمر المشهور، ثم يعرض في الطبقات الآتية بعدُ ذلك الحديث، فإن شهرة المعلومات وغرابتها قد تختلف في العصور والأجيال.
وقد يجلس الشيخ مجلس المذاكرة في العلم والتفقه، ولا يجلس مجلس الرواية فيجري من كلامه الاستدلال بما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيذكره؛ لأنه معلوم مقررٌ عندهم فيتلقاه عنه أصحابه وتلامذته، ولا يفيتونه فيثبتها في تقاييدهم وفناديقهم، كما سمي من فم الشيخ، كما وقع في جامع البيوع في «الموطأ» عن يحيى بن سعيد، أنه سمع محمَّد بن المنكدر يقول:«أحب الله عبدًا سمحًا إن باع» الحديث، ومحمد المنكدر يرويه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حسبما أخرجه عنه البخاري، ذلك أن يحيى سعيد سمعه من محمَّد بن المنكدر، ولم يسنده محمَّد بن المنكدر.
والتعويل في هذا كله على معرفة عدالة المرسل، وضبطه، وشدته في انتقاء الآثار ونقد الرجال، وذلك يختلف باختلاف أحوال المرسلين فلا ينبغي إطلاق عنان الخلاف في قبول المرسل وعدم قبوله وإنما هي أحوال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«استفت نفسك وإن أفتاك الناس» ، ومثل هذا يجري في المنقطع والبلاغ.
من أجل ذلك لم يختلف أهل النظر إلى معاني الأمور وغاياتها في أن «الموطأ» أول كتاب قصد منه إثبات الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال الشافعي رحمه الله:«ما على ظهر الأرض كتابٌ بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك» ، وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابه «التقصي لأحاديث الموطأ»:«إن الموطأ لا مثيل له ولا كتاب فوقه بعد كتاب الله عز وجل» ، وأطلقوا عليه وصف الصحيح. قال مغلطاي:«أول من صنف في الصحيح مالك» ، وقال ابن العربي في مقدمة كتابه في «شرح جامع الترمذي»:«الموطأ هو الأصل واللباب، وكتاب الجعفي هو الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع كالقشيري والترمذي» .
والمتأمل النحرير علم أن مدار وصف كتاب في السنة، بأنه صحيح على شرط صاحبه أن لا يُخرج فيه إلا أحاديث صحت نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحاديث «الموطأ» المسندة والموقوفة كلها صحيحة، وأحاديثه المرسلة هي بينة الإرسال للناظر. فالذين يعدون مثلها من الصحيح، وهو مذهب صاحب الكتاب وأئمة النقد وما درج عليه السلف، والذين يأبون ذلك هم على رأس أمرهم، وهي بمرأى ومسمع منهم وذلك شيء اصطلحوا عليه لأنفسهم بعد أن مضى أسلافهم على قبول ما أبوا قبول مثله، فإذا كانوا قد اصطلحوا عليه لأنفسهم، فليعرضوا عن إخراج المرسل في كتبهم، ولكن ليس لهم حمل الناس على رده؛ لأن ذلك تعمق منهم واتهام لأهل الثقة، وإن معظم حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من المرسل من كبار الصحابة، إلا ما قال فيه:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
أما ما يحتوي عليه «الموطأ» مما عدا ذلك، فلم يخل كتاب من الصحاح عن الاحتواء على مثل ذلك، بل نجد «صحيح البخاري» مشتملًا على أشياء كثيرة هي أبعد عن الحديث مما يشتمل عليه «الموطأ» ، وذلك مثل: تفسير مفردات القرآن، وتفسير مفردات لغوية في بعض الأبواب، وذكر أقوال للمفسرين في معاني القرآن، مثل: مجاهد، وقتادة. وتجد فيه من الآثار عن الصحابة في أسباب النزول كثيرًا، وفي غير ذلك مثل حديث ابن مسعود:«اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي» في كتاب التوحيد، وحديث ابن عباس في النهي عن سؤال أهل الكتاب أيضًا. وربما اقتصر في الباب على تخريج أثر من فعل صحابي كما في باب الوكالة في الوقف من كتاب الوكالة، فدع عنك الغوغاء، ولا تحفل بمن يُسِر حشوًا في ارتغاء.
صار اسم «الموطأ» علمًا على كتاب مالك رحمه الله تعالى، وهو بصيغة اسم المفعول، مشتقًا من وطأ بهمزة في آخره، أي المُسهل الموضح، قيل في وجه تسميته:
إن الخليفة أبا جعفر المنصور، لما جاء المدينة قال لمالك: ضُم هذا العلم يا أبا عبد الله ودونه كتبًا، وتجنب فيه شدائد عبد الله بن عمر، ورُخَصَ عبد الله بن عباس، وشواذ ابن مسعود، وأقصد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة.
وفي رواية أنه قال له: فألف للناس كتابًا ووطئه لهم توطئة، فسُمي هذا الكتاب «الموطأ» لذلك، وحكى جلال الدين السيوطي في «تنوير الحوالك»: أنه نقل عن الإمام مالك أنه قال: عرضت هذا الكتاب على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته «الموطأ» .
وقد عُني فيه مالك بذكر ما عليه إجماع أهل المدينة في الدين والمعاملات الشرعية؛ لأن المدينة هي دار علم الإسلام في القرنين الأول والثاني، وعلماؤها هم قدوة أهل الدين، والأثر، وأتباع السنة.
فأما أنها دار العلم والأثر الصحيح، فظاهر معلوم؛ لأنها مأوى أعلم الصحابة وأشدهم ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما أن علماؤها هم أتباع السنة؛ فلأن البدع والضلالات ظهرت في وسط آخر عصر الصحابة، فكان ظهورها في غير المدينة؛ إذ لم يكن في المدينة نخلة من العقائد الزائغة والضلالات؛ لأن علماءها كانوا ينفون عنهم أصحاب البدع، فلا يجدون فيها رواجًا، وفي الحديث:«المدينة تنفي خبثها» ، وأن أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالفضل في الحديث المعروف، كان وجودهم وأئمتهم وخيرتهم في المدينة، يعلم هذا كل من يعلم حال عصور الإسلام وتحولها، فلا نطيل ببيانه هنا؛ إذ ليس من غرضنا.
قال مالك رحمه الله: «لولا أن عمر بن عبد العزيز أخذ هذا العلم بالمدينة، لشككه كثيرٌ من الناس» ، قال ابن العربي في باب النوم عن الصلاة من كتابه «القبس»:
«قصد مالك رحمه الله في هذا الكتاب (أي الموطأ) تبيين أصول الفقه وفروعه» اهـ.
وقد أثبت مالك في «الموطأ» ما صح من علم، وحُكم عن الخلفاء الراشدين، وأئمة الإسلام أهل الفقه، والتثبت من الصحابة والتابعين، كما ذكرنا آنفًا؛ لأنه قصد منه بيان علم الشريعة، وليس علم الشريعة بمنحصرٍ في ما صح من الأقوال، والأفعال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أصحابه المهتدين بهديه، قد شاهدوا من تصرفاته ما كان رائدهم في قضاياهم وفتاواهم، إذ كانوا ممن لا يتسرع إلى القضايا والفتوى بغير هُدى من الله. وحسبك بمثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأشباههم، فمن يتصدى إلى جعل كتاب في الدين يقتصر فيه على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولٍ، وعملٍ فقد أعرض عن معين غامر من مصادر الفقه، ولولا ما أثبته مالك في «الموطأ» من ذلك لضاع علم كثير من علم الصحابة والتابعين، وحُرم من جاء بعد مالك من التبصر في مسالك فقه أولئك وتفقههم.
وقد تبع البخاري في صحيحه «مالكًا» فيما صنعه متابعة قليلة، وكذلك الترمذي في «جامعه» ، وأهمل ذلك مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وإني لأعجب من الشيخ أبي الحسن القابسي فيما ألَّف من «ملخص الموطأ» ، ومن أبي عمر بن عبد البر فيما ألف من كتاب «التمهيد» و «التقصي» ؛ إذا عمدا إلى الاقتصار على الآثار النبوية، فأنسيا بذلك مزية عظيمة للموطأ، وأحسبهما غلبت عليهما نزعة الصناعة.
وقال ابن العربي في آخر كتاب «القبس» : «إن مالكًا يُترجم أبواب الموطأ إذا كان المسمى بها جائزًا يقول: «ما جاء في جواز كذا» ، وإن كان ممنوعًا قال:«تحريم كذا» ، وإذا احتمل الأمرين عنده وأراد إخراج ما روي فيه أطلق القول كما قال:«باب الاستمطار بالنجوم» اهـ.
وقال عياض في «المدارك» : جعل مالك أحاديث زيد بن أسلم في أواخر الأبواب، فقيل له في ذلك، فقال: هي كالسراج تضيء لما قبلها. قال جلال الدين السيوطي: فكان يقول: «إذا مرَّ بحديث زيد بن أسلم أخَّروا هذا الشذر حتى نضعه
في موضعه» اهـ. وأحسب أن ما ذكره عياض والسيوطي أمرًا غالبًا، وإلا فإنه قدم حديث زيد بن أسلم مرسلًا في باب النهي عن الصلاة بالهاجرة، وذكر بعده حديثي عبد الله بن يزيد، وأبي الزناد مسندين عن أبي هريرة؛ فلعله إنما أخَّرهما عن حديث زيد بن أسلم إذ كان حديث زيد مرسلًا، وكان حديثا عبد الله، وأبي الزناد مسندين، فكان فيهما بيانٌ لمن أرسل عنه زيد بن أسلم.
وذكر شرَّاح «صحيح البخاري» : أن البخاري يأتي بأحاديث مالك بعد غيرها إن كانت؛ لأن روايات مالك فيها ما يبين إجمالًا في غيرها.
وقد يجئ في «الموطأ» أن يقول: «مالك عن الثقة عنده» ؛ وذلك فيما أحسب إذا كان قد تذكر الحديث، وتذكر أنه قَبِله، وأنه على شرطه؛ ولكنه نسي من رواه عنه، وليس يريد بذلك الكناية عن راو عين معروف عنده؛ ألا ترى أنه روى عن الثقة عنده حديث عمرو بن شعيب في النهي عن بيع العُربان، فقيل: الثقة هو ابن لَهيعة، وقيل: عمرو بن الحارث البصري، وقيل: عبد الله بن وهب؛ لأن هؤلاء رووا حديث النهي عن بيع العُربان عن عمرو بن شعيب.
وقال الدارقطني: أكثر ما يريد مالك «بالثقة عنده» الليث بن سعد.
قلت: وقع ذلك في ترجمة الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار. وقد قال مالك في مواقيت الإهلال «عن الثقة عنده أن عبد الله بن عمر أهل من إيلياء» فقيل: الثقة هو نافع مولى ابن عمر. وقال في باب الاستئذان: «عن الثقة عنده» فقال أبو عمر ابن عبد البر: الثقة، هو مخرمة بن بكير أو عمرو بن الحارث، وربما
لم يظفروا بمن يظن أنه الموصوف بالثقة، فقد وقع في فضل ليلة القدر «مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم» ، فلم يطلع نُظَّار «الموطأ» عليه، وكذلك في زكاة ما لا يُخرص من الثمار والعنب «مالك عن الثقة عنده» فلم أر لهم تعيينه، ولعله الليث بن سعيد.
وقريب من هذا ما وقع في مواضيع قليلة من «الموطأ» ، أن يقول:«مالك عن رجل» ففي ترجمة ما جاء فيس تحريم المدينة: «مالك عن رجل عن زيد بن ثابت» قال أبو عمر: الرجل هو شرحبيل بن سعد مولى الأنصار. وفي ترجمة ما جاء في الوفاء بالأمان: «مالك عن رجل من أهل الكوفة» قالوا: هو سفيان الثوري.
وذكر ابن العربي في كتاب المسالك في «شرح موطأ ابن مالك» أن مالكًا كان لا يرى رأي شيخه ابن شهاب في جمع المفترق من الحديث. كما قال ابن شهاب في حديث الإفك: دخل حديث بعضهم في بعض، كما أدخل مالك حديث فضل الغنيمة، ثم عقبه بقوله:«مر رجلٌ في طريقه بعض شوك» إلخ، فترى الجهال يتعبون في تأويله. وإنما كان ذلك؛ لأنه سمعه معه، وامتناعه من جمع المفترق أو فرق المجتمع؛ لفائدتين:
إحداهما: التعرض لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها» .
الثانية: أنه إن فتح هذا الباب تعرض له من لا يحسن الجمع والفرق، فيفسد الأحاديث، فلهذا أدخل مالك حديث:«لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه» عن أبي هريرة، ثم أعاده بسند آخر عن ابن عمر اهـ.
قلت: وقد يُجمع الحديث من روايات، إذا كان شيخه الذي روى عنه هو الذي جمعه، مثلًا حديث زيد بن أسلم عن عطاء، والأعرج عن أبي هريرة، فيمن أدرك ركعة من الصبح. وقد يجمعه مالك، كما قال في حديث حُميد بن قيس، وثور بن زيد في الرجل الذي نذر أن لا يتكلم:«وأحدهما يزيد في الحديث على صاحبه» .
وما يوجد في «الموطأ» برواية يحيى بن يحيى الليثي من قوله: «قال يحيى: وسمعت مالكًا يقول أو سئل مالك أو شبه ذلك» فقد سئل عنه أبو الوليد بن رشد فأجاب: «لا يصح أن يتقد أن يحيى بن يحيى زاد في «الموطأ» شيئًا على ما ألَّفه مالك، فأمَّا ما فيه من «قال يحيى، وسئل مالك» ، فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن مالكًا لما كتبه بيده، قال: وسئلت عن كذا، فلما رواه عنه أصحابه كتب كل واحد منهم في انتساخه:«وسُئل مالك» ؛ إذا لا يصح أن يكتب الناسخ وسئلتُ، فيُوهم أنه هو المسئول.
والوجه الثاني: أن يكون مالك رحمه الله لم يكتب «الموطأ» إذ ألفه بيده، وإنما أملاه على من كتبه، فأملى فيما أملى منه «وسئلت عن كذا» فكتب الكاتب: وسُئل مالك؛ إذ لا يصح إلا ذلك. وأما قوله: وسمعت مالكًا يقول، فإنما قاله في «الموطأ» فيما سمعه منه من لفظه، وهو يسير من جملة «الموطأ» ؛ لأن مالكًا رحمه الله إنما كان يقرأ عليه، فيسمعه الناس بقراءة القارئ عليه على مذهبه، في أن القراءة على العالم أصحُّ للطالب من قراءة العالم. فما سمعه عليه بقراءته أو بقراءة غيره ولم يسمعه من لفظه وهو الأكثر، قال فيه:«حدثني مالك أو قال مالك» . وما اتفق أنه سمعه منه من لفظه، قال فيه:«وسمعت مالكًا يقول» ، انتهى كلام ابن رشد.
وأقول: لا يمنع كلام ابن رشد من أن يكون في بعض ذلك صور أخرى لم يذكرها ابن رشد، فقد كان مالك لا يحدِّث في المجلس أحاديث كثيرة، ولم يكن الرواة عنه يتمكنون من نَسْخ «الموطأ» ، فهم يكتبون ما سمعوه من الحديث ومما أثبته مالك، ويزيد بعضهم على بعض بمقدار تمكنهم من سماع القارئ، وبمقدار تفاوتهم في سرعة الكتابة، وعلى حسب اختلاف أغراضهم، فإن منهم من يطلب الحديث دون الفقه، ومنهم من يطلب الأمرين، وهذا هو السبب فيما نجده من اختلاف «الموطأ» باختلاف روايته.
على أنه قد يفسر مالم كلامه حين القراءة عليه، وقد يذكر شيئًا لم يكن كتبه في أصله، فيثبته من سمعه؛ إذ لم يكن جميعهم ينتسخ من أصله. وفي «شرح القسطلاني على صحيح البخاري» في مناقب عبد الله بن سلام في ذكر زيادة في حديث أن عبد الله بن سلام من أهل الجنة، قال عبد الله بن يوسف: إن مالكًا تكلم بقوله وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] عقب ذكر الحديث وكانت معي ألواحي فكتبت هذا فلا أدري قاله مالك أو في الحديث.
وأحسب أن أوفى روايات الموطأ بجميع ما كتبه مالك أو بمعظمه، وأكثرها مطابقةً لأصل مالك، هو رواية يحيى بن يحيى الليثي، فإنه لقي مالكًا في آخر حياته؛ إذ هو رحل إلى المدينة في السنة التي مات فيها مالك، يدل ذلك على أنه روى عن زياد بن عبد الرحمن الملقب بشبطون أبوابًا فاتته؛ فلذلك وقع الإقبال على رواية يحيى.
وعندي أنه لا يبعد أن يكون بعض ما في رواية يحيى من قوله: «وسئل» أنه من زيادات يحيى بن يحيى على ما في أصل مالك. وقد رأيت كلامًا مأثورًا عن الشافعي