الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جواب للشرط. ويكون مجموع الشرط وجوابه في موضع الخبر، ومثل ما وقع في كلام عمر هنا قول جرير البجلي:
يا أقرع بن حابس يا أقرع
…
إنك إن يصرع أخوك تصرع
قال سيبويه: أي: أنك تصرع إن يصرع أخوك.
* * *
ووقع فيه قول عمر رضي الله عنه: «إنَّها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهليَّة، وأسلموا عليها في الإسلام» .
جعل قوله: «قاتلوا عليها في الجاهلية» إلخ بيانًا وتعليلاً لقوله: «إنَّها لبلادهم» ؛ وذلك لأنَّ أصل التملك بين البشر إنَّما كان بالابتزاز والقوة، وقد جهلت الأحوال التي صارت بها الأشياء في أيدي مالكيها، فلمَّا جاءت الشريعة أقرت الناس على ما بأيديهم بالأسباب التي كانوا قد تواضعوا على الرضا بكونها أسبابًا للملك والاختصاص، فليس معنى:«قاتلوا عليها في الجاهلية» أنَّهم قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ لأنَّه لو كان ذلك لكانت الأرض لبيت المال أو كانت صلحًا، فلا يكون لقوله:«إنها لبلادهم» موقع، ولأنَّه ينافي قوله:«وأسلموا عليها في الإسلام» ؛ بل المعنى أنهم قاتلوا عليها القبائل وأبعدوا عنها أصحاب المطامع، كما قال النابغة:
هموا طرفوا عنها بليًّا فأصبحت
…
بليٌّ بوادٍ من تهامة غائر
وأسلموا على أنهم يقرون فيها، أي: أسلموا على نية البقا بأرضهم، وليس المراد أنهم اشترطوا ذلك حين إسلامهم؛ إذ لم يحفظ ذلك في أخبار إسلام القبائل.
أسماء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
-
مالكٌ عن ابن شهابٍ عن محمد بن جبير بن مُطعمٍ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لي خمسة أسماء: أنا محمَّدٌ، وأنا أحمد، وأنا الماحي الَّذي يمحو الله بي الكفر. وأنا الحاشر الَّذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» .
أفاد لام الاختصاص في قوله صلى الله عليه وسلم: «لي خمسة أسماء» أنَّ هذه الأسماء المباركة أعلام له لا يشاركه فيها غيره، وأفاد ذلك ظاهر تقديم المسند على المسند إليه في قوله:«لي خمسة أسماء» أنَّه لا يشاركه فيها غيره، وأفاد الاقتصار على هذه الخمسة في مقام البيان أنَّ ليس لرسول الله أسماء غيرها، فنشأ من هذين المفادين إشكالان:
أحدهما: أنَّ بعض هذه الأسماء قد يسمَّى به غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثانيهما: أنَّ لرسول الله أسماء غير هذه الخمسة، فقد ثبت في صحيح الآثار أسماء منها: نبي التوبة، ونبي الرحمة في حديث أبي موسى الأشعري في «صحيح مسلم». وقال يونس عن ابن شهاب في روايته لحديث جبير بن مطعم:«وقد سمَّاه الله رؤوفًا رحيمًا» . وقد ذهب كثير من علمائنا في دفع هذين الإشكالين طرقًا غير مقنعة للناظر، ولا يطمئن لها الخاطر.
والذي هر لي في دفع هذين الإشكالين وبيان الحديث من أصله، أن نبيِّن تحقيق معنى الاسم والفرق بينه وبين الصفة، فإنِّي لم أر من عرَّج عليه في مثل هذا المقام، ثمَّ تكون تلك فاتحة استنارة المراد.
فالاسم لما كان مشتقًا من وسم على أظهر الوجوه كان المعنيُّ به العلامة التي تجعل لذاتٍ لتمييزها عن غيرها من الذوات، فهو في اللغة يرادف معنى العلم، ولذلك يقولون سمَّاه كذا، أي: جعله له علمًا، فكان حقُّ العلم والاسم أن لا يشارك المسمَّى به فيه غيره، وكان حقُّه أن لا يدلَّ على معنى وصفي؛ ولكنه قد يشعر بالوصف إشعارًا ما إذا كان واضع الاسم قد لاحظ عند التسمية بذلك اللفظ ملاحظة المناسبة أو للإشعار بوصفٍ في المسمَّى أو للتفاؤل؛ ولذلك يضمنون المعنى الوصفيَّ مع اختصار في اللفظ تقريبًا لمعنى العلمية، ولذلك كلِّه عرف النحويون العلم بأنَّه ما وضع لمعيَّن لا يتناول غيره، ولكن قد يرعض الاشتراك في الاسم العلم بين متعدِّد، إمَّا لتماثل مقاصد
الواضعين للاسم، وإمَّا لقصد التشبيه بالمسمى الأول، وكثر هذا الاشتراك بسبب اقتباس أسماء بعض الأسلاف من العائلة أو القبيلة؛ إذ لا وسيلة إلى ضبط الاختصاص ولا إلى العلم بمقدار المشاركة.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعلمنا أنَّ له خمسة أسماء، فعلمنا أنَّ هذه الخمسة أعلام له؛ وله بها مزيد اختصاص، فأمَّا كونها أعلامًا، فلأنَّ اسم «محمد» هو الذي أسماه به جده عبد المطلب حين ولادته وبه دعاه القرآن ثلاث مرات.
وأنَّ اسم «أحمد» قد سمِّي به على لسان الرسول الذي جاء قبله، وهو عيسى عليه السلام كما حكاه عنه القرآن، فهو بهذا الوجه أسبق من اسمه «محمَّد» في سجل الوحي والرسالة، وأحسب أنَّ اسم «أحمد» تعبير عمَّا سيسمَّى به أنه علم مشتق من قوَّة الحمد، أي: كثير الحمد.
فهذان علمان له لا محالة، ولم يتحقَّق أن قد سمي باسم «محمَّد» أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم أسمى نفسه بها، وذلك فيما نظنُّ بتوقيفٍ من الله تعالى، وهي وإن كانت أوصافًا له، كما دلَّ عليه تفسير كلِّ واحد منها بما يدلُّ على قصد ما فيه من الوصف، فإنَّ تلك الأوصاف لما بينت بمتعلقاتها، كانت خاصة به صلى الله عليه وسلم، ونُزلت بذلك الاختصاص منزلة الأعلام التي حصلت لها العلمية بالغلبة. وذلك أن الأوصاف إذا رمز بها إلى حالة خاصة في الموصوف أو حالة غريبة تصير ألقابًا، واللقب ملحق بالعلم، فأمَّا بقية أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في القرآن والسنة مثل:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] ومثل: الشاهد، والمبشر، والقدير، والداعي إلى الله، ومثل: نبي الرحمة، فإنها مراد منها الوصفيَّة دون العلمية؛ ولذلك لا تجد فيما ورد فيها من الآثار أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عبر عنها بأسماء، بل يقول:«أنا نبي الرحمة» ، مثل حديث حذيفة في كتاب «الشمائل» ، فلا منافاة بين ما أشعر به لفظ خمسة من حصر أسمائه في تلك الخمسة وبين ما دُعي به رسول الله عليه الصلاة
والسلام من صفات الكمال، وكذلك مفاد لام الاختصاص إنما هو الاختصاص الذي بمعنى الملك والأحقية، وهو معنى اللام وليس هو الاختصاص بمعنى الحصر، كما توهمه بعض الناس.
ولعلَّ ما دفعناه من الأوهام هي التي حملت بعض رواة هذا الحديث على حذف اسم العدد منه، وقد ثبت لفظ الخمسة في هذه الرواية، وهي أصحُّ الروايات، وثبت في روايات أخرى وهي تقضي على الروايات التي حذف منها لفظ الخمسة.
قال أبو بكر بن العربي في «القبس» : «نصَّ على أسمائه الخمسة التي ترتبت عليها الشريعة، فإنَّ الله تعالى سمَّى نفسه، وترتبت المخلوقات على أسمائه الحسنى، فتعلَّق بكلِّ اسم من أسمائه جزء من مخلوقاته، وكذلك تعلَّق كلُّ جزء من أجزاء الشريعة بكل اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم» اهـ. ويا ليته بيَّن كيفية تعلُّق كلِّ جزء من أجزاء الشريعة بكل اسم من هذه الأسماء
الخمسة؛ وإذ قد ألمَّ إلمامًا، ولم يشف من مطالعها أوامًا، فها أنا ذا أترسم أثره، وأرجو أن أصيب ما أضمره، ولا شكَّ أنَّه يريد بالجزء من أجزاء الشريعة الجزء النوعي، أي: التنويع الأول للشريعة كلِّها؛ إذ لا يمكن تعلُّق أجزاء الشريعة، أي: فروعها بأسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا بهذا الاعتبار. فالتنويع الأول للشريعة أنَّها تتنوع إلى الإيمان، والإسلام، والإحسان، كما أنبأ عنه حديث جبريل في «الصحيح». ودخل في الإيمان الإيمان بما جاء به الرسل من قبل وهو ما أنبأ عنه قوله تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13]. ودخل في ذلك ما اختصَّت به هذه الشريعة، وهو أنَّها ناسخة لجميع الشرائع التي سبقتها، وأنها خاتمة للشرائع كلِّها بحيث لا تنسخها شريعة أخرى، فأسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخمسة قد تعلَّق بكلِّ واحدٍ منها جزء من هذه الأجزاء، «فالماحي» الذي يمحو الله به الكفر تعلَّق به جزء الإيمان كله و «محمَّد» لما كان مشتقًّا من الحمد بمعنى المفعول أعني المحمودية، فهو الذي حمده الله فجعله واسطته إلى خلقه في تبليغ شريعته، وحمده الناس لما تلقوا الشريعة منه وعرفوا فضلها في نجاتهم، فتعلق بهذا الاسم الشريف جزء الإسلام.
«وأحمد» لما كان اسم تفضيل من الحمد كان مشتقًّا من الحمد المضاف إلى الفاعل أعني الحامدية، وذلك حمد الله على نعمه وملاحظة شكره، فتعلق بهذا الاسم جزء الإحسان.
«والحاشر» الذي فسر بأنَّه الذي يحشر الناس على قدميه، أي: على إثره، تمثيلًا لعدم الفصل بينه وبين الحشر بنبيٍّ آخر تتبعه أمةٌ أخرى، فتعلَّق بهذا الاسم جزء ختم الرسالة.
«والعاقب» بمعنى الآتي عقب من قبله، والمراد هنا عاقب الأنبياء، ولما كان هذا أمرًا معلومًا لم يكن الإخبار به أو الوسم به إلَّا للدِّلالة على لازمه أعني أنه الذي نسخت شريعته شرائعهم، فتعلَّق بهذا الاسم جزء نسخ هذه الشريعة الشرائع التي قبلها، فهذا ما لاح في تقفية كلام أبي بكر بن العربي رحمه الله.
وعلينا أن نلتفت إلى وجه اختصاص الرسول عليه السلام بهذه الأسماء من جهة معانيها، فالاسمان الأوَّلان هما علماه كما تقدَّم، فظهور اختصاصه بهما لا يحتاج إلى زيادة. والماحي المفسر بمعنى محو الكفر به اختصَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه بدعوته قد اقتلع الشرك من جذوره وفضح اعتقاد أهله بما نصبه من الأدلة على بطلانه، وفضائحه، وبهتانه بحيث لم يبق بعد الدعوة المحمدية له رواج، فلذلك كان الإشراك أبعد شيء عن المسلمين مع أنَّه لم تنج منه الأمم الأخرى، فقد عبدت بنو إسرائيل العجل، ثمَّ قالوا لموسى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وقد عبدت النصارى عيسى ابن مريم، ومريم؛ فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجَّة الوداع:«إنَّ الشيطان قد يئس أن يعبد في راضكم هذه؛ ولكنَّه قد رضي منكم بما دون ذلك ممَّا تحقرون من أعمالكم» . فالمراد من المحو محوه عن أمته بحيث لا يعود يظهر فيهم الشرك أو يكون المراد من محوه محو شبهه بالأدلة القاطعة المتكررة، فيكون المحو مجازًا في الإبطال القوي كقول الشاعر:
محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
«والحاشر» قد دلَّ على ختم الرسالة وهو من خصائصه، «والعاقب» دلَّ على نسخ الشرائع التي سلفت وذلك من خصائصه، فهذا جماع خصائص هذه الأسماء
الشريفة المباركة صلَّى الله وسلم على صاحبها.
هذا وقد وقع في رواية يحيى بن يحيى وأكثر رواة «الموطإ» لفظ «الذي يمحو الله بي الكفر» ، ووقع في رواية ابن بكير، ومعن بن عيسى «الذي يمحو الله به الكفر» وكلتا الروايتين جرى على استعمال شائع في الضمير العائد من الصلة على اسم الموصول، فإن اسم الموصول من قبيل الاسم الظاهر فحقه أن يعود إليه ضمير الغائب، ولكن إذا كان اسم الموصول خبرًا عن ضمير المتكلم جاز إجراؤه على ظاهر اللفظ، وجاز إجراؤه على المعني بالموصول، كما في قول علي بن أبي طالب:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
…
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
السندرة امرأة كانت تبيع القمح وتوفي الكيل. وجرى عليه بشَّار في قوله:
أنا الذي يجدوني في صدورهم
…
لا أرتقي صدرًا منها ولا أرد
وأما قوله في الحديث: «وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي» فاتفق رواة «الموطإ» على وجهٍ واحدٍ فيه، وهو «على قدمي» بياء المتكلم المفرد.
انتهى القول مني توضيح على أغلق من كتاب الموطأ. وكان تمامه في شهر صفر عام ستين وثلاثمائة وألف وفيما بعد، مما ألحق محمد الطاهر ابن عاشور
محمد الطاهر ابن عاشور