الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه. ولم يعتد الشرع بغير الماء من الموائع المطهرة؛ لأن الماء هو الممكن تناوله، ولا تختلف فيه منازع الناس، ولخصوصية في الماء علمها الله تعالى.
الطهور للوضوء
مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة، عن خالتها كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة الأنصاري أنها أخبرتها: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءًا فجاءت هرةٌ لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي، قالت: فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله قال: «إنها ليست بنجسٍ إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات» .
الظاهر أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي من الطوافين عليكم» من بقية قوله: «إنها ليست بنجسٍ» فيكون إيماء إلى علة إسقاط غسل ما ولغت فيه الهرة مع غلبة أكلها الجيف والمستقذر، فالاحتراز منها مشقة عفي عنها، فيشاركها في ذلك الكلب المتخذ للحراسة عند أهل البادية بالقياس. وعلى هذا يكون حكم غيرهما من السباع بخلاف ذلك. وهذا الاحتمال هو المناسب لقول مالك رحمه الله «إلا أن يُرى على فمها نجاسةٌ» لأن حالة رؤية النجاسة على فمها حالة تحقق مباشرة النجاسة للماء. وهي أيضًا حالة نادرة فليست من مواقع التيسير. ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام:«فإنما هي من الطوافين» إلخ لم يقع مقارنًا لقوله: «إنها ليست بنجس» بل وقع في سياق آخر للترئيف على الهرَّة وإن لا يؤذيها أهلها، كما يشهد له حديث: «دخلت امرأة النار في
هرة حبستها
…
»، ويكون أبو قتادة جمع بين الخبرين: فأولهما: لإظهار حكم شربها من إناء وضوئه، وثانيهما: لدفع تعجب امرأته من رفقه بالهرة؛ فيكون محل حُكم هو قوله: «إنها ليست بنجس» ، فيلحق بها كل حيوان هو مظنة لأكل الجيف والنجاسات لا يختص بما يعسر الاحتراز عنه، فالحكم هو العفو عن هذا الشك في النجاسة تيسيرًا على الأمة.
وهذا أوفق بمذهب مالك من طهارة لعاب الحيوان كله، حتى قال:«إن غسل الإناء من ولوغ الكلب غسل نظافة لا طهارة» . وهو أوفق بما يرد عقب هذا من قول عُمر لصاحب الحوض: «فإنا نرد على السباع وترد علينا» أي: يعسر الاحتراز عن الانتفاع بالمياه التي تردها السباع مع دلالته على أن ذلك قد مضى من السنة فلذلك كان من قبيل المسنون. وقوله: «إنما هي من الطوافين» صيغة قصر، وهو قصر قلب، للرد على من يتنزل منزلة المنكر كونها من الطوافين فيكثر أذى الهرة أو يتجنب سؤرها، كما تقول لمن يغلظ على أخيه: إنما هو أخوك.
***
ووقع فيه قوله: «فقال عمرو بن العاصي لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تُخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا» .
الحوض: وهدة متسعة من الأرض يجتمع فيها المطر، فيقر بها بعد السيل. وقد يكون مجعولاً بحفرٍ وتحويط. يقال: حوض فلان الماء، إذا حفر له وحاطه بجدر قصير
ويتعهده بسد ما تثلم منه لجريان الماء. قال زهير:
ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم
وربما جعلوا الحوض قرب البئر لينزل فيه ماؤها ويجمع لوقت ورود الماشية. وفي حديث نبع زمزم لأم إسماعيل «فجعلت تُحوضه» . والأحواض من خصائص عرب البادية أهل الخيام، وهم يتنافسون في أراضي النزول بكثرة ما فيها من مرور المياه والأحواض؛ ولذلك يسمون أهل الحِلة أهل الماء. وتسمى منازل العشائر في بادية العرب المياه. ومنه قوله: حُكام المياه. وقد يكون الحوض عامًا لأهل الماءة كلهم، وقد يكون مما اختص به واحد منهم، وإنما يكون ذلك لكثرة أنعامه. والاختصاص بها يكون بما تملك به الأشياء في البوادي، وذلك بالسبق إلى سكنى المكان الذي به الحوض أو باحتقار الحوض، ثم إذا اختص به يدفع الناس عن الشرب منه إلا بإذنه، وكانوا يبيحون ذلك لعابر السبيل. فذلك معنى قول عمر وقول عمرو بن العاص «يا صاحب الحوض» يعني المختص به، وفيه قول زهير:
ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحه
…
يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم
لأنهم كانوا إذا استضعفوا أحدًا غصبوا ماءه. قال صنان بن عباد اليشكري من شعراء الحماسة حين استضعفه بعض الناس بعد أخيه حمارٍ واسمه علقمة:
لو كان حوض حمار ما شربت به
…
إلا بإذن حمارٍ آخر الأبد
وإذا كان مجتمع الماء دون الحوض سمي الشَرَبة (بفتح الشين وفتح الراء). وهي حويض يسع من الماء مقدار ما يسقي نخلة. وإنما سأل عمرو عن ورود السباع الحوض؛ لأن السباع تسكن الأغيال التي بحذاء المياه لتفترس الدواب حين ترد الماء.
والنهي في قول عمر: «لا تخبرنا» مستعمل للتخيير، أي: إن شئت لا تخبرنا؛ إذ لا فائدة فيه.
ووجه الجمع في كلام عمر بين قوله: «لا تخبرنا» وقوله: «فإنا نرد على السباع»
إلخ قد أشار إليه الباجي.
***
مالكٌ عن نافع؛ أن عبد الله بن عمر كان يقول: إن كان الرجال والنساء في زمان رسول الله ليتوضؤون جميعًا.
أخرج الإمام هذا الحديث تحت ترجمة «الطهور للوضوء» لينبه على أن قول الراوي: «يتوضؤون جميعًا» أنهم يتوضؤون من إناءٍ متحد للرجال والنساء، للرد على أقوال غريبة في هذا الباب، قال بها بعض السلف في صدر الإسلام انجرت إليهم من أوهام بأخبار ضعيفة وعوائد قديمة، فقد كان أهل الجاهلية إذا استقوا من المياه سقي الرجال، ثم سقي النساء. وكان النساء إذا استقين بالغن في غسل أبدانهن وثيابهن، واغتسلت الحيض آخر ذلك. وقد وصف القرآن شيئًا من ذلك بقوله تعالى:{قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 23]. وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب
في تعيير أخويها وأوليائها:
ولا تردوا إلا فضول نسائكم
…
إذا ارتملت أعقابهن من الدم
فكان معهودًا أن الماء بعد سقي النساء يصير غير صالح، وربما كان مؤكدًا لهذا الوهم الاغترار ببعض أحوال أهل الكتاب، فقد قطنت المدينة وما حولها قبل الإسلام طوائف من اليهود: بنو قينقاع، وقريظة، وخيبر، والنضير، وكان في دين اليهود تحقير للمرأة وتنجيس لأغلب أحوالها، فسرى ذلك في أوهام كثير من سكان المدينة حتى قال بعضهم: إن مرور المرأة بين يدي المصلي يبطل الصلاة كالكلب، والحمار، فكانت عائشة تقول: بئسما عدلتُمونا بالكلب والحمار، ومن ذلك أن بعضهم قال: بكراهة تطهر الرجل بفضل وضوء المرأة. نقله ابن رزق في كتاب «الأنوار» . فكان هذا محل عناية المتفقهين من قبل. وذكر أن ابن عباس سئل عن التطهر بفضل وضوء المرأة فقال: هن ألطف بنانًا وأطيب ريحًا، وكذلك قال زيد بن ثابت اهـ، فكان حديث ابن عمر أقوى حجةٍ في هذا الباب؛ لأنه أثبت أن وضوء الرجال مع النساء كان من الأمر المعمول به في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن العجيب ما نقله الباجي وغيره عن أحمد وداود أنهما قالا: إن خلت المرأة بالتطهر فلا خير في فضل طهورها وإن تطهرت بحضرة الرجل فلا بأس أن يتطهر بفضلها، وأعجب منه توجيه البابلي شيخ الزرقاني.