الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما جاء في الرضاعة بعد الكبر
ما كان ينبغي أن يختلف أهل العلم في أن الرضاعة بعد الكبر، أي: بعد استغناء الطفل عن اللبن غير موجبة حُرمة ملحقة بحرمة النسب، ولو أوجبت ذلك لكان حكم الرضاع عبثًا؛ مع أن الشريعة إنما جعلت له تلك الحُرمة ما لأجل أشبه به النسب في استبقاء حياة الطفل واختلاط لبن المرضع بلحمه ودمه حين لا يغني عنه غيره؛ فهذا من جهة المعنى وقد تأيد بقول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه «انظرن من يدخل عليكن فإنما الرضاعة من المجاعة» ، ولا ينبغي أن يشك في أن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل في أن يدخل عليها سالمٌ مولى أبي حذيفة متبنى أبي حذيفة زوجها، إنما كان على وجه الرخصة لها؛ إذ كان حكم إرجاع المتبنين إلى الحقيقة في اعتبارهم أجانب من جهة النسب حكمًا، قد فاجأهم في حين كان التبني فاشيًا بينهم؛ وكانوا يجعلون للمتبنين مثل ما للأبناء؛ فشق ذلك عليهم وامتثلوا أمر الله تعالى في إبطاله. وكانت سهلة زوج أبي حذيفة بحال احتياج إلى خدمة سالم واختلاطه بهم؛ إذ لم يكن لها إلا بيت واحد، فعذرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورخص لها أن يدخل سالم عليها وهي فضل وجعل تلك الرخصة معضدة بعمل يشبه ما يبيح الدخول أصالة محافة على حكم إبطال التبني بقدر ما تمكن المحافظة في مقام الرخصة ومقام ابتداء التشريع، فإن للتدريج في أوائل التشريع أحوالاً مختلفة كما
رخص لهانئ بن نيار أن تجزئ عنه الضحية بالعناق التي ضحى بها قبل أن يضحي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان تعضيد الرخصة بعمل كتعضيد استشعار العجز عن الطهارة المائية بالتيمم كما أشرت إليه في باب التيمم. ألا ترى أنه لم يرخص لسهلة أن يكون لسالم أحكام الأبناء كلها وإنما اقتصر على أنه يدخل عليها وهي فضل، ولذلك لم يسمح أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد أن يدخل عليهن بعد الحجاب؛ بسبب رضاعة في الكبر مع احتياجهن إلى مثل ذلك ورأين حكم سهلة خصوصية كما في «الموطإ» . وقد كان النساء يحتجن إلى مثل ما احتاجت إليه
سهلة، فلم يؤثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد غير سهلة مع توفر الدواعي على سؤالهن الرخصة منه؛ لأن الناس كلهم قد علموا أن الرخصة لا يُقاس عليها وأنها يفوز بها السابق، فلو تلاحق به الناس وألحقوا لآل الأمر إلى إبطال الحكم. وكان ما رأته عائشة في ذلك شذوذًا لم يأخذ به أحد من الصحابة سوى أن أبا موسى الأشعري أفتى به ثم خطأ نفسه حين راجعه عبد الله بن مسعود، ولم يكن ما فعلته عائشة إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصحبه تقرير شرعي.
* * *
وقع فيه قوله: فقال أبو موسى: «لا تسألوني عن شيءٍ ما كان هذا الخبر بين أظهركم» الخطاب لأهل الكوفة، والحبر هو عبد الله بن مسعود. وإنما نهاهم أبو موسى عن أن يسألوه إعلامًا بفضل ابن مسعود وعلمه وإراحة لهم من عناء التردد على أبي موسى للاستفتاء؛ لأنه يردهم إلى ابن مسعود؛ إذ قد علم أنه أضلع منه في فقه الفتوى.
وفيه دليل على أن المستفتي مكلف باستفراغ الجهد في سؤال من يعتقده أرجح علمًا، وأنه لا يجوز تقليد المرجوح علمًا مع تحقق رجحان علم غيره غالبًا.
وهذا أصل لوجوب بحث المقلد عن مجتهد يرجح غيره أو يساويهم إن استطاع ذلك.
وفي كلامه دلالة على انهم يسألونه إذا غاب ابن مسعود عنهم، وأنه يفتيهم مع كونه قد رأى من نفسه الخطأ في مسألة الرضاع؛ لأن المفتي ليس مطالبًا بإصابة الحق في نفس الأمر، بل هو مطالب بالاجتهاد في الأدلة بحسب علمه مع كونه يعتقد نفسه أهلاً للفتيا ويرجو إصابة الصواب غالبًا، وإنما اعتمد أبو موسى على ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» . وعلى ظاهر فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل في إرضاعها سالمًا مولى أبي حذيفة، كما اعتمدت عائشة رضي الله عنها. وكان ابن مسعود أفقه إذ علم إن محل الحديث الرضاعة التي هي غذاء للطفل؛ فهو من حمل لفظ الرضاعة على معناه المقصود شرعًا دون ما هو كالعبث؛ وإذ علم أن مسألة
سهلة بنت سهيل كانت خصوصية ورخصة؛ إذ كان إبطال التبني في مبدأ أمره، كما فهم ذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهن الرضوان وعمر بن الخطاب، وفيه حديث صريح في الصحيح وهو قول رسول الله لإحدى أمهات المؤمنين:«انظرن من يدخل عليكن، فإنما الرضاعة من المجاعة» .