الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والخمسون
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلاِبْنِهِ عَلِيٍّ انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ. فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ. قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ.
وقوله: فإذا هو في حائط له يصلحه، زاد المصنف في "الجهاد": فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما يسقيانه. والحائط البستان، سمي بذلك لأنه لا سقف له، وهذا الأخ، زعم بعض الشراح، أنه قتادة بن النعمان، ولا يصح أن يكون هو، فإن عليّ بن عبد الله بن عباس ولد في آخر خلافة عليّ، ومات قتادة بن النعمان قبل ذلك في آخر خلافة عمر. وليس لأبي سعيد أخ شقيق، ولا من أبيه ولا من أمه إلا قتادة، فيحتمل أن يكون المذكور أخاه من الرضاعة، قال في الفتح: وإلى الآن لم أقف على اسمه.
وقوله: فأخذ رداءه فاحتبى، أي بالحاء المهملة والموحدة، أي جمع ظهره وساقيه بنحو عمامته أو بيديه، ثم أنشا يحدثنا، وفي الحديث إشارة إلى أن العلم لا يحوي جميعَه أحدٌ، لأن ابن عباس مع سعة علمه أمر ابنه بالأخذ عن أبي سعيد، فيحتمل أن يكون علم أن عنده ما ليس عنده، ويحتمل أن يكون إرساله إليه لطلب علو السند، لأن أبا سعيد أقدم صحبة، وأكثر سماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم من ابن عباس.
وفيه ما كان عليه السلف من التواضع، وعدم التكبر، وتعاهد أحوال المعاش بأنفسهم، والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، وإكرام طلبة العلم، وتقديم حوائجهم على حوائج أنفسهم، وفيه التأهب لإلقاء العلم، وترك التحديث في حال المهنة إعظامًا للحديث. وقوله: حتى أتى على ذكر بناء المسجد، أي النبويّ. وفي رواية كريمة: حتى إذا أتى. وقوله: لَبنة لَبنة، بفتح اللام وكسر الموحدة: الطوب النيء. وقوله: وعمار لَبِنَتينِ لَبنَتينِ، ذكرهما مكررتين كلبنة: زاد معمر في جامعه "لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد الإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرج فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمار، ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد من الله الأجر" وفي الحديث جواز ارتكاب المشقة في عمل البر، وتوقير الرئيس، والقيام عنه بما يتعاطاه من المصالح، وفضل بنيان المساجد.
وقوله: فينفض، فيه التعبير بصيغة المضارع في موضع الماضي، مبالغة لاستحضار ذلك في نفس السامع، كأنه يشاهده. وللكشميهنيّ "فجعل ينفض" ولأبي الوقت وابن عساكر "فنفض" بالماضي، وقوله: التراب عنه، في الجهاد "عن رأسه" وكذا المسلم، وفيه إكرام العامل في سبيل الله، والإحسان إليه بالقول والفعل. وقوله: وهو يقول، أي في تلك الحالة. وقوله: ويح عمار، وهي كلمة رحمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها، كما أن "ويل" كلمة عذاب لمن يستحقها، وهي بفتح الحاء حال الإضافة، فإن لم تُضف جاز الرفع والنصب مع التنوين فيهما.
وقوله: يدعوهم إلى الجنة، أعاد الضمير على غير مذكور، والمراد قَتَلَتُه، كما ثبت من وجه آخر يأتي قريبًا "تقتله الفئة الباغية يدعوهم
…
" إِلى آخره، فإن قيل: قَتَلتُه معاوية ومن معه يوم صفين، وقد كان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعونه إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإِمام، وكذلك كان عمّار يدعوهم إلى طاعة
عليّ وهو الإِمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون، للتأويل الذي ظهر لهم، فالمجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر.
والزيادة المذكورة التي هي "تقتل عمار الفئة الباغية" رواها جماعة من الصحابة، منهم أم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند التِّرمذيّ وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النَّسائيّ، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليَسَر وعمار نفسه، وكلها عند الطبرانيّ وغيره، غالب طرقها صحيحة أو حسنة.
وروي عن جماعة آخرين يطول عندهم، ووقعت هذه الزيادة في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما، عند المصنف، وفي نسخة الصغانيّ، التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربريّ التي بخطه، والزيادة تفصح بأن الضمير يعود على قتلة عمار، وهم أهل الشام، ولفظها "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم" .. الحديث. وقد أخرجها الإسماعيلي والبرقانيّ في هذا الحديث. ويظهر أن البخاريّ حذفها عمدًا لنكتة خفية، وهي أن أبا سعيد اعترف بأنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم، كما بين ذلك فيما أخرجه البزار عن أبي سعيد، فذكر الحديث في بناء المسجد، وحملهم لبنة لبنة، وفيه "فقال أبو سعيد: فحدثني أصحابي، ولم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يا ابن سُمَيّة: تقتلك الفئة الباغية" وسمية اسم أم عمار.
وإسناد البزار على شرط مسلم لا على شرط المصنف، وقد عين أبو سعيد من حدثه بذلك، ففي مسلم والنَّسائيّ عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني "أبو قتادة" فذكره، فاقتصر البخاريّ على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. وهذا دال على دقة فهمه، وتبحره في الاطلاع على علل الأحاديث، وأما قول المهلب إن الضمير في يدعوهم يعود على الخوارج، لأنهم هم الذين بعث إليهم عليٌّ عمارًا يدعوهم إلى الجماعة، فباطلٌ، لأن الخوارج إنما خرجوا على عليّ بعد قتل عمار، إذ لا خلاف أن ابتداء أمرهم كان عقب