الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والسبعون
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ قَالَ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى. وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ وِتْرًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهِ.
قوله: سأل رجل، لم يعرف اسمه، وفي المعجم الصغير للطبرانيّ أن السائل هوابن عمر، لكن يعكر عليه رواية عبد الله بن شقيق عن ابن عمر "أن رجلًا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا بينه وبين السائل" فذكر الحديث، وفيه "ثم سأله رجل على رأس الحَوْل وأنا بذلك المكان منه، قال: فما أدري. أهو ذلك الرجل أم غيره؟ " وعند النّسائيّ من هذا الوجه أن السائل المذكور من أهل البادية، وعند محمد بن نصر في كتاب "أحكام الوِتر" عن ابن عمر أن أعرابيًا سأل، فيحتمل أن يجمع بتعدد من سأل.
وقوله: ما ترى، أي ما رأيك، من الرأي أو من الرؤية، بمعنى العلم. وقوله: مَثْنى مثنى، أي صلاة الليل مثنى مثنى، فالمبتدأ محذوف، ومثنى غير منصرف للعدل والوصف، أي اثنتين اثنتين، وكرره للتأنيث، واستشكل التكرار بأن القاعدة فيما عدل من أسماء الأعداد أن لا يكرر، فلا يقال جاء القوم مثنى مثنى، وأجيب بأنه تكيد لفظي لا لقصد التكرار، فإن ذلك مستفاد من الصيغة، كقول الشاعر:
هنيئًا لأرباب البيوت بيوتهم
…
وللآكلين التمر مخمس مخمسَ
ففي الصحاح: إذا قلت جاء القوم مثنى بدون تكرار، فالمعنى جاؤوا مزدوجين. وأما ما قاله الزركشيّ من أن التكرار لابد منه إذا كان العدل في لفظ واحد، فهو غير صحيح، لا يُعرف أحد من النحاة ذهب إليه. وقوله: مثنى مثنى، فسره ابن عمر راوي الحديث كما عند مسلم عن عقبة بن حُرَيث قال: قلت لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين.
وقد اختلف العلماء في الوصل والفصل في النافلة أيهما أفضل؟ فقال مالك والشافعيّ وأحمد: السنة أن تكون مثنى مثنى ليلًا أو نهارًا. وقال أبو حنيفة: الأفضل الأربع ليلًا أو نهارًا. وقال أبو يوسف ومحمد: الأفضل بالليل ركعتان، وبالنهار أربع. وتفسير ابن عمر السابق لمثنى مثنى يَرُدّ على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال الرباعية مثلًا إنها مثنى، واستدل الأولون بحديث الباب على تعيُّن الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل.
قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر، وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل، أما صح من فعله صلى الله تعالى عليه وسلم بخلافه، ولم يتعين أيضًا كونه لذلك، بل يحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوقها، لما فيه من الراحة غالبًا، وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ولو كان الوصل لبيان الجواز فقط، لم يواظب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم. ومن ادعى اختصاصه به فعليه البيان. وقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم الفصل كما صح عنه الوصل، فعند أبي داو ومحمد بن نصر عن عائشة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين" وإسنادهما على شرط الشيخين. واستدل به أيضًا على عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر.
قال ابن دقيق العيد: والاستدلال به أقوى من الاستدلال بامتناع قصر
الصبح في السفر إلى ركعة، واستدل بعض الشافعية للجواز بعموم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم "الصلاة خير موضوع: فمن شاء استكثر، ومن شاء استقل" صححه ابن حِبّان، وقال الأثرم عن أحمد: الذي اختاره في صلاة الليل مثنى، فإن صلى في النهار أربعًا فلا بأس. وقال محمد بن نصر نحوه في صلاة الليل. قال: وقد صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أوتر بخمس، لم يجلس إلا في آخرها، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الوصل، إلا أننا نختار أن يسلم من كل ركعتين، لكونه أجاب به السائل، ولكون أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقًا، واستدل أبو حنيفة في صلاة الليل بما رواه أبو داو في سننه عن عائشة، أنها سُئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، فقالت: "كان يصلي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله، فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه
…
" الحديث، وفيه "حتى قُبِض على ذلك".
قلت: لا دلالة له في هذا على ما ذهب إليه؛ لأن لفظ "أربع ركعات" شامل للوصل والفصل، واحتج في صلاة النهار بما رواه مسلم عن معاذ "أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الضحى. قالت: أربع ركعات، يزيد ما شاء". قلت: هذا أيضًا مثل المتقدم، لا دلالة فيه، بل هذا أولى بعدم الدلالة؛ لأنه جواب عن سؤال عن العدد. قال العيني: رواه أبو يعلى في مسنده" وفيه "لا يفصل بينهن بسلام"واحتجوا أيضًا بمفهوم قوله في حديث الباب "صلاة الليل مثنى" على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعًا، وتعقب بأنه مفهوم لقب، وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به، فليس بمنحصر في أربع، وبأنه خرج جوابًا للسؤال عن صلاة الليل، فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال، وبأنه قد تبين من رواية أخرى أن حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به.
وأما حديث السنن، وصححه ابن خزيمة وغيره، عن عليّ الأزديّ عن ابن عمر مرفوعًا "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" فقد تعقب بان أكثر أئمة الحديث أعَلّوا هذه الزيادة، وهي قوله "والنهار"، بان الحُفّاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه، وحكم النَّسائيّ بأنها خطأ. وقال يحيى بن مَعين: ومَنْ علي
الأزديّ حتى نقبل منه؟ وروى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع أنّ ابن عمر كان يتطوع بالنهار أربعًا لا يفصل بينهن، ولو كان حديث الأزدي صحيحًا ما خالفه ابن عمر مع شدة اتِّباعه، رواه عنه محمد بن نصر في سؤالاته، لكن روى. ابن وهب بإسناد قويّ عن ابن عمر قال:"صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" موقوف، أخرجه ابن عبد البر، فلعل الأزديّ اختلط عليه الموقوف بالمرفوع، فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذًا. أو قد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن عمر أنه كان يصلي في النهار أربعًا، وهذا موافق لما نقله ابن مَعين.
وقوله: فإذا خشي الصبحَ، استدل به على خروج وقت الوِتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبو داود والنَّسائيّ، وصححه أبو عَوانة عن نافع أن ابن عمر كان يقول:"من صلى من الليل فليجعل آخر صلاته وترًا، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر" وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي سعيد مرفوعًا "من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له" وهذا محمول على التعمد أو على أنه لا يقع أداء لما رواه أبو داود عن أبي سعيد أيضًا مرفوعًا "من نسي الوِتر أو نام عنه فليصله إذا ذكره" وقيل: معنى قوله: إذا خشي أحدكم الصبح، أي وهو في شَفْع فلينصرف على وِتره، وهذا ينبني على أن الوتر لا يحتاج إلى نية.
وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي يخرج بالفجر وقته الاختياري، ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح. وحكاه القرطبيّ عن مالك والشافعيّ وأحمد. قال في الفتح: وإنما قاله الشافعيّ في القديم. وقال ابن قُدامة: لا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوِتر حتى يصبح، واختلف السلف في مشروعية قضائه، فنفاه الأكثر. وفي مسلم وغيره عن عائشة "أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره، فلم يقم من الليل، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه. ومن زعم أنه
عليه الصلاة والسلام قضى الوِتر ليلة نومهم عن الصبح في الوادي لم يُصب. وعن عطاء والأوزاعيّ: يقضى ولو طلعت الشمس. وهو وجه عن الشافعية حكاه النوويّ في شرح مسلم. وعندهم أيضًا يقضى مطلقًا، واستدلوا بحديث أبي سعيد المتقدم. وعن سعيد بن جبير يقضى من القابلة.
ويؤخذ من الحديث أن الصبح ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس من النهار شرعًا، وسئل الخليل بن أحمد عن حد النهار، فقال: من الفجر المستطير إلى بداءة الشفق. وحكى عن الشعبي أنه وقت منفرد لا من الليل ولا من النهار. وقوله: صلى واحدة، وفي رواية "ركعة واحدة". وفي رواية الشافعيّ وابن وهب ومكيّ بن إبراهيم عن مالك "فليصل ركعة" أي بصيغة الأمر. أخرجه الدارقطني في الموطات.
وقوله: فأوترت له ما صلى، أي تلك الركعة الواحدة. وقوله: وإنه كان يقول، بكسر الهمزة على الاستئناف، وقائل ذلك هو نافع، والضمير لابن عمر. وقوله: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا، استدل بهذا على أنه لا صلاة بعد الوتر، وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين، أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل هل يكتفي بوتره الأول؟ وليتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة، ثم يتنفل، ثم إذا فعل ذلك، هل يحتاج إلى وتر آخر أو لا؟
أما الأول فعند مسلم عن عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم "كان يصلي ركعتين بعد الؤلر وهو جالس" وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعلوا قوله "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" مختصا بمن أوتر آخر الليل. وأجاب من لم يقل ذلك بان الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النوويّ على أنه عليه الصلاة والسلام فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسًا.
وأما الثاني: فذهب الأكثرون إلى أنه يصلي شفعًا ما شاء، ولا ينقض وتره، عملًا بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم "لا وِتران في ليلة" وهو حديث حسن أخرجه النَّسائيّ وابن خُزيمة وغيرهما، عن طَلْق بن علي، وإنما يصح نقض
الوِتر عند من يقول بمشروعية ركعة واحدة غير الوتر. وقد مرَّ ما فيه. وروى محمد بن نصر عن سعيد بن الحارث أنه سأل ابن عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم، فاشفع ثم صل ما بدا لك، ثم أوتر، وإلا فَصلّ وتْرَكَ على الذي كنت أوترت.
ومن طريق أُخرى عن ابن عمر أنه سُئل عن ذلك فقال: أما أنا فأصلي مثنى، فإذا انصرفت ركعت ركعة واحدة، فقيل: أرأيت إن أوترتُ قبل أن أنام، ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح؟ قال: ليس بذلك بأس. قلت: أخرج مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان أبو بكر الصديق إذا أراد أن يأتي فراشَه أوتر، وكان عمر بن الخطاب يوتر آخر الليل، وقد قالوا: إن أبا بكر أخذ بالحزم، وعمر أخذ بالعزم، ومذهب مالك ندب فعله آخر الليل لمن عادته الانتباه آخر الليل، أو استوى الأمران فيه على قوله، وحملوا ما رواه البخاري عن أبي هُريرة من قوله "أوصاني خليلي بثلاث" إلى أن قال "وأن أُوتر قبل أن أنام". وروى مسلم مثله عن أبي الدرداء، والنَّسائيّ مثله عن أبي ذَرٍ على أنه في حق من لم يثق بالاستيقاظ، وإذا لم تكن عادته الانتباه ندب له تقديمه أول الليل، وإذا أفاق بعد ذلك جاز له النفل، أي استحب له إن طرأت له نية النفل بعد صلاة الوِتر، أو في أثناء الوِتر. وإذا نوى النفل قبل صلاة الوتر كره له التنفل بعد استيقاظه.
وقد مرَّ كثير من مباحثه في باب قراءة القرآن بعد الحدث، من كتاب الوضوء. وتأتي بقية يسيرة في أبواب الوتر. وقد اعترض الإسماعيلي على البخاريّ فقال: ليس فيما ذكره دلالة على التعليق ولا على الجلوس في المسجد بحال، وأجيب بأن كونه كان في المسجد صريح من تعليق الوليد بن كثير، وأما التَّحلقُّ فقال المهلبُ: شبه البخاريّ جلوس الرجال في المسجد حول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يخطب، بالتحلُّق حول العالم؛ لأن الظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكون في المسجد وهو على المنبر إلا وعنده جَمْعٌ جلوس محدقين به، كالمحلقين. وقال غيره: حديث ابن عمر يتعلق بأحد ركني