الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والخمسون
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي. وَقَالَ أَهْلُهَا إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتِهَا مَا بَقِيَ. وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً إِنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِهَا وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَنَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَّرَتْهُ ذَلِكَ فَقَالَ: ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ. ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ.
قوله: أتتها بريرة، فيه التفات إن كان فاعل قالت عائشة، وإن كان الفاعل عَمرة فلا التفات، وبريرة بفتح الموحدة بوزن فَعيلة، مشتقة من البَرير، وهو ثمر الأراك، وقيل إنها فعيلة من البِرّ بمعنى مَفعولة كمبرورة، أو بمعنى فاعلة كرحيمة، والأول أَوْلى؛ لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم غيّر اسم جويرية وكان اسمها بَرّة، وقال "لا تزكوا أنفسكم" فلو كانت بريرة من البِر لشاركتها في ذلك، قلت: يمكن ترك التغيير لاحتمال كونها من البرير.
وقوله: تسألها في كتابتها، أي تستعين في كتابتها، فضمَّن تسأل معنى تستعين، وثبت ذلك في رواية ابن شهاب في العَتق. وقوله: إن شئت أعطيت أهلك. أي مواليك، والأصل في الأهل الآل، وفي الشرع من تلزم نفقته، وحذف المفعول الثاني، الذي هو بقية ما عليها ، لدلالة الكلام عليه، وكان المتأخر على بَريرة خمس أواقٍ تجمعت عليها في خمس سنين، كما في رواية
ابن شهاب في العتق، وفي رواية هشام فيه "أنها كانت على تسع أواق، في كل عام أوقية" ويمكن الجمع بأن التسع أصل، والخمس كانت بقيت عليها، وبهذا جزم القرطبيّ والمحب الطبريُّ. ويعكر عليه قوله في رواية قتيبة "ولم تكن أَدَّت من كتابتها شيئًا" ويجاب بأنها كانت حصلت الأربع أواق قبل أن تستعين عائشة، ثم جاءتها وقد بقي عليها خمس.
وقوله: قال سفيان مَرّة، أي أن سفيان حدث به على وجهين، وهو موصول غير معلق. وقوله: ذكّرتُه ذلك، أي بتشديد الكاف، فقيل: الصواب ما وقع في رواية مالك وغيره بلفظ "ذَكرْتُ له ذلك" لأن التذكير يستدعي سبق علم بذلك، ولا يتجه تخطئة هذه الرواية" لاحتمال السبق أولًا على وجه الإجمال. وفي رواية هشام "فسمع بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألني، فأخبرته" وفي رواية مالك "فجاءت من عندهم، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسٌ، فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية أيمن "فسمع بذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو بلغه فقال: ما شأن بَريرة؟ ". ولمسلم وابن خزيمة عن هشام "فجاءتني بَريرة، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم جالسٌ، فقالت لي فيما بيني وبينها ما أراد أهلها، فقلت: "لا، هاالله إذًا، ورفعت صوتي، وانتهرتها، فسمع بذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فسألني فأخبرته" لفظ ابن خزيمة.
وقوله: فإن الولاء لمن أعتق، وفي رواية "فإنما الولاء لمن أعتق". وقوله: ما بال أقوام، كناية عن الفاعل، إذ من خُلُقه العظيم أن لا يواجه أحدًا بما يكره. وقوله: يشترطون شروطًا ليس في كتاب، أي ليس الاشتراط أو التذكير للضمير باعتبار جنس الشرط، وللأصيليّ: ليست أي الشروط. وقوله: ليس في كتاب الله فليس له، قال الخطابيّ: ليس المراد أن ما لم ينص عليه في كتاب الله فهو باطل، فإن لفظ "الولاء لمن أعتق" من قوله عليه الصلاة والسلام، لكن الأمر بطاعته في كتاب الله، فجاز إضافته ذلك إلى الكتاب، وتعقب بأن ذلك لو جاز لجازت إضافة ما اقتضاه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام إليه. والجواب عنه
أن تلك الإضافة إنما هي بطريق العموم، لا بخصوص المسألة المعينة، وهذا مصير من الخطابيّ إلى أن المراد بكتاب الله هنا القرآن، ونظير ما جنح إليه ما قاله ابن مسعود لأم يعقوب، في قصة الواشمة "ما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو في كتاب الله" ثم استدل على كونه في كتاب الله بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} لما أخرجه البخاري في التفسير عند هذه الآية.
وقال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة، سواء ذكر في القرآن أو لم يذكر. وقال ابن خزيمة: ليس في كتاب الله، أي ليس في حكم الله جوازه أو وجوبه، لا أنَّ كل من شرط شرطًا لم ينطق به الكتاب يبطُل، قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروطاً من أوصافه أو نجومه أو نحو ذلك، فلا يبطل. وقال القرطبيّ: قوله ليس في كتاب الله، أي ليس مشروعًا في كتاب الله تأصيلًا ولا تفصيلًا، ومعنى هذا أن من الأحكام ما يؤخذ تفصيله من كتاب الله كالوضوء، ومنها ما يؤخذ تأصيله دون تفصيله كالصلاة، ومنها ما أُصِّل أصْلُه لدلالة الكتاب على أصْلِية السنة والإجماع والقياس الصحيح، فكل ما يقتبس من هذه الأصول تفصيلًا، فهو مأخوذ من كتاب الله تأصيلًا. قلت: ومن أجل هذا المعنى صح تناول قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} لجميع الأحكام الشرعية إلى قيام الساعة.
وقوله: وإن اشترط مئة مرةٍ، في رواية المستملي "مئة شرط" قال النوويّ: معنى قوله "ولو اشترط مئة شرط" أنه لو شرط مئة مرة توكيدًا، فهو باطل. ويؤيده رواية "مئة مرة" وإنما حمل على التأكيد، لأن العموم في قوله "كل شرط" وفي قوله "من اشترط شرطًا" دال على بطلان جميع الشروط المذكورة، فلا حاجة إلى تقييدها بالمئة فإنها لو زادت عليها كان الحكم كذلك، لما دلت عليه الصيغة، فذكر المئة إنما هو على سبيل المبالغة. وقال القرطبيّ: قوله "ولو كان مئة شرط" خرج مخرج التكثير، يعني أن الشروط الغير المشروعة باطلةٌ ولو كثرت، ويستفاد
منه أن الشروط المشروعة صحيحة.
قال النوويّ: قال العلماء: الشروط في البيع أقسام:
أحدها يقتضيه إِطلاق العقد، كشرط تسليمه.
والثاني شرط فيه مصلحة كالرهن، وهما جائزان اتفاقًا.
الثالث اشتراط العتق في العبد، وهو جائز عند الجمهور، لحديث عائشة وقصة بريرة.
الرابع ما يزيد على مقتضى العقد، ولا مصلحة فيه للمشتري، كاستثناء منفعته فهو باطل.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز البيع بشرط العتق، وعند المالكية إِذا اشتراه على تنجيز العتق، "كأبيعُكَهُ بشرطِ أن تعتقه لزومًا" جُبرِ البائع على عَتقه إِن لم يعتقه. ولو قال على أنه حر بالشراء عتق بمجرد الشراء، فذهب الجمهور إلى بطلان البيع عند استثناء المنفعة، كاشتراط سكنى الدار، وخدمة العبد، وركوب الدابة. وذهب الأوزاعيّ وابن شُبرمة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وطائفة إلى صحة البيع، وتنزل الشرط منزلة الاستثناء، لأن المشروط إذا كان قدره معلومًا صار كما لو باعه بألف إلا خمسين درهمًا مثلا، ووافقهم مالك في الزمن اليسير بحسب المبيعات، كثلاثة أيام في الحيوانات، وسنة في الدار، وعشر سنين في الأرض. وحجتهم حديث جابر في استثناثه ركوب بعيره، وأجاب عنه الجمهور بان ألفاظه اختلفت، فمنهم من ذكر فيه الشرط، ومنهم من ذكر فيه ما يدل عليه، ومنهم من ذكر ما يدل على أنه كان بطريق الهبة، وأنها واقعة عين يطرقها الاحتمال، وبأنه عارضه حديث عائشة في قصة بَريرة. ففيه بطلان الشرط المنافي للمقصود من العقد.
وصح من حديث جابر أيضًا النهيُ عن بيع الثنيا، أخرجه أصحاب السنن، وإسناده صحيح، وورد النهي عن بيع وشرط، وأجيب عن هذا كله بأن البخاري صرح بأنه الاشتراط في حديث جابر أكثر وأصح، وبأن الذي ينافي المقصود من
البيع ما إذا اشترط مثلًا في بيع الجارية أنْ لا يطأها، وفي الدار أن لا يسكنها، وفي العبد أن لا يستخدم، وفي الدابة أن لا يركبها، أما إذا اشترط شيئًا معلومًا لوقت معلوم، فلا بأس به.
وأما حديث النهي عن الثنيا ففي نفس الحديث "إلا أنْ يعلم" يعلم أنّ النهي إنما يقع عما كان مجهولًا، وأما حديث النهي عن بيع وشرط، ففي إسناده مقال، واعلم أنّ في حديث بَريرة هذا روايات لم يرد عليها إشكال، كرواية ابن عمر "أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعنقها" وبهذا يتجه الإنكار على موالي بَريرة إذ وافقوا عائشة على بيعها، ثم أرادوا أن يشترطوا أن يكون الولاء لهم، ويؤيد هذه الرواية قوله في رواية أيمن "قالت لا تبيعوني حتى تشترطوا ولائي" وفي رواية الأسود الآتية في الفرائض عن عائشة "اشتريت بَريرة لأعتقها، فاشترط أهلها ولاءها". وفي رواية القاسم عن عائشة في الهبة أنها أرادت أن تشتري بَريرة، وأنهم اشترطوا ولاءها. وفي رواية هشام في العتق "خذيها واشترطي لهم الولاء" واستشكلت هذه الرواية بأنه كيف يصدر الإذن منه صلى الله تعالى عليه وسلم في البيع على شرط فاسدٍ؟ وكيف يأذن في البيع حتى يقع على هذا الشرط؟ ويقدم البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟
وأجيب عن ذلك بأجوبة، فمنها أن بعضهم أنكر الشرط في الحديث، فروى الخطابيّ في المعالم عن يحيى بن أكثم أنه أنكر ذلك. وعن الشافعي في الأم الإشارة إلى تضعيف رواية هشام، المصرِّحة بالاشتراط، لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه، ورواية غيره قابلة للتأويل، وأشار غيره إلى أنه روى بالمعنى الذي وقع له. وليس كما ظن. وأثبت آخرون الرواية، وقالوا: هشام ثقة حافظ، والحديث متفق على صحته، فلا وجه لرده.
ثم اختلفوا في توجيهها، فزعم الطحاويّ أن المزنيّ حدثه به عن الشافعيّ بلفظ "فأشرطي" بهمزة قطع بغير تاء مثناة، ثم وجهه بأن معناه، أظهري لهم حكم الولاء، والإشراط الإظهار. قال أوس بن حجر:
فأشرط فيها نفسَه وهو مُعْصمُ:
أي أظهر نفسه وأنكر غيره الرواية" والذي في "مختصر المزني" و"الأم" وغيرهما عن الشافعي كرواية الجمهور "واشترطي" بصيغة أمر المؤنث من الشرط، ثم حكى الطحاويّ أيضًا تأويل الرواية التي بلفظ "واشترطي" بأن اللام في قوله "واشترطي لهم" بمعنى "على" كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وهذا هو المشهور عن المزني. وهو صحيح عن الشافعيّ. أسنده البيهقي في "المعرفة" إليه. وحكى الخطابيّ عن ابن خزيمة أن قول يحيى بن أكثم غلط، والتأويل المنقول عن المزني لا يصح، وقال النووي تأويل اللام هنا بمعنى "على" ضعيف، لأنه عليه الصلاة والسلام أنكر الاشتراط، ولو كان بمعنى "على" لم ينكره، فإن قيل: ما أنكره إلا إرادة الاشتراط في أول الأمر، فالجواب أن سياق الحديث يأبى ذلك، وضعفه أيضًا ابن دقيق العيد، وقال: اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، فلابد في حملها على ذلك من قرينة.
وقال آخرون: الأمر في قوله "واشترطي" للإباحة، وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، فكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي، فذلك لا يفيدهم. ويقوّي هذا التأويل قوله في رواية أيمن الآتية آخر أبواب المكاتب "اشتريها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا". وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بأن اشتراط البائع الولاء باطل، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بَريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدم لهم العلم ببطلانه، أطلق الأمر مريدًا به التهديد على مآل الحال، كقوله:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وكقول موسى {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي فليس ذلك بنافعكم، وكأنه يقول: اشترطي لهم، فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم.
ويؤيده قوله حين خطبهم "ما بال رجال يشترطون
…
الخ" فوبخهم بهذا القول مشيرًا إلى أنه قد تقدم منه بيان حكم الله بإبطاله، إذ لو لم يتقدم بيان ذلك لبدأ ببيان الحكم في الخطبة، لا بتوبيخ الفاعل؛ لأنه كان يكون باقيًا على البراءة الأصلية، وقيل: الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي،
كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وقال الشافعيّ في الأم: لما كان من اشترط خلاف ما قضى الله ورسوله عاصيًا، وكانت في المعاصي حدود آداب، وكان من أدب العاصين أن يعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك، ويرتدع به غيرهم، كان ذلك من أيسر الأدب.
قلت: هذا لا يستقيم إلا عند تَقَدُّم تعليم منه صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بذلك، كما في التأويل الذي قبله، وإلا لما أمكن التأديب. وقال غيره: معنى "اشترطي" اتركي مخالفتهم. فيما شرطوا، ولا تظهري نزاعهم فيما دعوا إليه، مراعاة لتنجيز العتق، لتشوف الشارع إليه، وقد يعبر عن الترك بالفعل، كقوله تعالى:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسَّحر. قال ابن دقيق العيد: وهذا، وإن كان محتملًا، إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السياق. وقال النووي: أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاص بعائشة في هذه القضية، وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط لمخالفته حكم الشرع، وهو كنسخ الحج إلى العمرة كان خاصًا بتلك الحجة، مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج، ويستفاد منه ارتكاب أخف المفسدتين إذا استلزم إزالة أشدهما، وتعقب بان استدلال بمُختلف فيه على مختلف فيه، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل، وبأن الشافعيّ نصّ على خلاف هذه المقالة.
وقال ابن الجوزيّ: ليس في الحديث أنَّ اشتراط الولاء والعتق كان مقارنًا للعقد، فيحمل على أنه كان سابقًا للعقد، فيكون الأمر بقوله "اشترطي" مجرد الوعد، ولا يجب الوفاء به، وتعقب باستبعاد أنه عليه الصلاة والسلام يأمر أحدًا أنْ يعد مع علمه بأنه لا يفي بذلك الوعد، وأغرب ابن حزم فقال: كان الحكم ثابتًا بجواز اشتراط الولاء لغير المعتق، فوقع الأمر باشتراطه في الوقت الذي كان جائزًا فيه، ثم نسخ ذلك الحكم بخطبته عليه الصلاة والسلام، وبقوله "إنما الولاء لمن أعتق" ولا يخفى بعدما قال، وسياق طرق هذا الحديث تدفع في وجه
هذا الجواب.
وقال الخطابيّ: وجه هذا الحديث أن الولاء لمّا كان كلحمة النسب، والإنسان إذا ولد ثبت له نسبه، ولا ينتقل نسبه عنه، ولو نسب إلى غيره، فكذلك إذا أعتق عبدًا ثبت له ولاؤه، ولو أراد نقل ولأنه عنه، أو أذن في نقله عنه، لم ينقلُ فلم يعبأ باشتراطهم الولاء. وقيل: اشترطي ودعيهم يشترطون ما شاءوا ونحو ذلك، لأن ذلك غير قادح في العقد، بل هو بمنزلة اللغو من الكلام، وأخّر إعلامهم بذلك ليكون رده وإبطاله قولًا شهيرًا، يخطب به على المنبر ظاهرًا، إذ هو أبلغ في النكير، وأوكد في التعبير، وهو يؤول إلى أن الأمر فيه للإباحة كما مرَّ.
وفي حديث بَريرة من الفوائد، سوى ما سبق، جواز بيع المكاتَب لقوله عليه الصلاة والسلام "اشتريها وأعتقيها" إذا رضي المكاتب بذلك ولو لم يعجز نفسه، وهذا قول أحمد وربيعة والأوزاعي والليث وأبي ثَور، وأحد قولي الشافعي، ومالك، واختاره ابن جرير وابن المنذر وغيرهما، على تقاصيل لهم في ذلك، وضعفه أبو حنيفة والشافعيّ في أصح القولين عنه، والمشهور في مذهب مالك جواز بيع الكتابة دون الرقبة، وأجاب الجميع عن قصة بَريرة بانها عجزت نفسها، واستدلوا باستعانة بَريرة عائشةَ، وليس في استعانتها ما يستلزم العجز، ولاسيما مع القول بجواز كتابة من لا مال له ولا حرفة له.
قال ابن عبد البر ليس في شيء من طرق حديث بَريرة أنها قد عجزت عن أداء النجم، وأخبرت بأنه قد حل عليها شيء، ولم يرد في شيء من طرقه استفصال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لها عن شيء من ذلك. ومنهم من أوَّل قولها "كاتبتُ أهلي" فقال: معناه راودتهم، واتفقت معهم على هذا القدر، ولم يقع العقد بعد، ولذلك بيعت، فلا حجة فيه على بيع المكاتب مطلقًا، وهو خلاف ظاهر سياق الحديث، ويقوي الجوازَ أيضًا أنّ الكتابة عتق بصفة، فيجب أن لا يعتق إلا بعد أداء جميع النجوم، كما لو قال: أنت حر إنْ دخلت الدار، فلا يعتق إلا بعد تمام دخولها، ولسيده بيعه قبل دخولها.
وفيه أن كلمة"إنما للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه ممن عداه، ولولا ذلك، لما لزم من إثبات الولاء للمعتق، نفيه على غيره، واستدل بمفهومه على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل، أو وقع بينه وبينه محالفة، ولا للملتقط خلافًا للحنفية في الجميع. قال ابن المنذر: الجمهور على أن لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل. وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن النخعيّ أنه يستمر إنْ عَقَل عنه، وإن لم يعقل عنه فله أن يتحول لغيره، واستحق الثاني، وهلم جرًا وعن النخعي قول آخر: ليس له أن يتحول، وعنه: إن استمر إلى أن مات تحول عنه، وبه قال إسحاق وعمر بن عبد العزيز، والجمهور على أن اللقيط وولاءه لبيت المال. وجاء عن النخعيّ أنّ ولاءه للذي التقطه، واحتج بقول عمر لأبي جميلة في الذي التقطه "اذهب فهو حر، وعلينا نفقته، ولك ولاؤه" وأجيب عنه بأن معنى قول عمر "ولك ولاؤه" أي أنت الذي تتولى تربيته، والقيام بأمره، فهي ولاية الإِسلام لا ولاية العتق. وروي عنه كالجماعة.
وجاء عن علي أن اللقيط مولى من شاء،، وبه قال الحنفية، إلى أن يعقل عنه، فلا ينتقل بعد ذلك عمن عقل عنه، وروى عن شريح وإسحاق بن راهويه مثل قول النخعيّ الأول، واستفيد من منطوق "إثبات الولاء لمن أعتق سائبة، ويدخل فيمن أعتق عتق المسلم للمسلم وللكافر، وبالعكس. وقال ابن عمر: من أعتق سائبة، هو ولي نعمته، وله ميراثه، فإنْ تأثَّم أو تحرَّج جعل إرثه في بيت المال" وبهذا الحكم في السائبة قال الحسن البصريّ وابن سيرين والشافعيّ. وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح أن سالمًا مولى أبي حذيفة الصحابيّ أعتقته امرأةٌ من الأنصار سائبة، وقالت له: والِ من شئت، فوالى أبا حذيفة، فلما استشهد باليمامة دفع ميراثه للأنصارية أو لابنها.
وأخرج ابن المنذر أن ابن عمر أتي بمالِ مولى له مات، فقال: إنّا كنا أعتقناه سائبة، فأمر أن يشترى بثمنه رقابٌ فتعتق، وهذا يحتمل أن يكون فعله على سبيل الوجوب، أو على سبيل الندب، وقد أخذ بظاهره عطاء، فقال: إذا لم يخلّف السائبة وارثًا، دعي الذي أعتقه، فإن قبل ماله وإلا ابتيعت به رقابٌ
فأعتقت. ومذهب عمر بن عبد العزيز والزّهري ومالك أن ولاءه للمسلمين، يرثونه ويعقلون عنه.
وقال الشعبيّ والنخعيّ والكوفيون: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته. ومذهب أحمد أن ولاءه للمعتق عليه، فلو أخذ من ميراثه شيئًا رد مثله، وفيه دليل على جواز الكتابة، فإذا كاتَبَ رجلٌ عبده أو أمته على مال شرط عليه، ورضي العبد ذلك، صار مكاتَبا، والدليل عليه أيضًا قوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} والأمر دال على مشروعية العقد، سواء كان الأمر للوجوب أو لغيره. وهذا ليس بأمر إيجاب إجماعًا سوى ما ذهب إليه داود الظاهريّ ومن تبعه، وروى نحوه عن عمرو بن دينار وعطاء وأحمد في رواية، وروى صاحب التقريب عن الشافعيّ نحوه، فإن قيل ظاهر الأمر للوجوب، كما ذهب إليه هؤلاء، فالجواب أن هذا في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، وهنا مقيد بقوله:{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فيكون أمر ندب. وذهب بعض الحنفية إلى أنه للإباحة، وهو غير صحيح، لأن في العمل على الإباحة إلغاء الشرط، إذ هو مباح بدونه اتفاقًا، وكلام الله منزه عن ذلك.
والمراد بالخير المذكور في الآية أن لا يضر المسلمين بعد العتق، فإن كان يضرهم فالأفضل أن لا يكاتبه، وإن كان يصح. وعن ابن عباس وابن عمر وعطاء: القوةُ على الكسب، والوفاء بما وقعت الكتابة عليه. وروي عن الثَّوريّ والحسن البصريّ أنه الأمانة والدين خاصة. وقيل: هو الوفاء والأمانة والصلاح، وإذا فقد الأمانة والكسب والصلاح لم تكره عند مالك وأبي حنيفة والشافعيّ. وقال أحمد وإسحاق، وأبو الحسين بن القطّان من الشافعية: تكره، وليس المراد به المال. ويؤيد ذلك أن المال الذي في يد المكاتب لسيده، فكيف يكاتبه بماله؟ لكن من يقول إن العبد يملك لا يرد عليه هذا، وقد نقل عن ابن عباس أن المراد بالخير المال، مع أنه يقول: إن العبد لا يملك، فنسب إلى التناقض، والذي يظهر أنه لا يصح عنه أحد الأمرين. واحتج غيره بأنّ العبد مال سيده، والمال الذي معه لسيده، فكيف يكاتبه بماله؟ وقال آخرون: لا يصح تفسير
الخير بالمال في الآية؛ لأنه لا يقال فلان لا مال فيه، وإنما يقال فلان لا مال له، أو لا مال عنده، فكذا إنما يقال: فيه وفاء، وفيه أمانة، وفيه حُسْن معاملة ونحو ذلك.
وفيه دلالة على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ووجه الدلالة منه أن بريرة بيعت بعد أن كاتبت، ولو كان المكاتب يصير بنفس الكتابة حرًا لامتنع بيعها، وهذا هو قول الجمهور، مستدلين أيضًا بما رواه البخاريّ معلقًا، وابن أبي شيبة وابن سعد موصولًا، عن عائشة "المكاتب عبد ما بقي عليه شيء" ومما رواه البخاريّ معلقًا والشافعيّ وسعيد بن منصور موصولًا، عن زيد بن ثابت أنه قال "هو عبد ما بقي عليه درهم" وبما رواه البخاريّ أيضًا معلقًا، ومالك موصولًا، عن ابن عمر مرفوعًا "أنه قال: هو عبد إن عاش، وإن مات، وإن جنى، ما بقي عليه شيء" وقد روي ذلك مرفوعًا. أخرجه أبو داود والنسائيّ عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده. وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو. وروي عن علي "إذا أدّى الشطر فهو غريم" وعنه: يعتق منه بقدر ما أدى، وعن ابن مسعود: لو كاتبه على مئتين وقيمته مئة ثم أدّى المئة عتق. وعن عطاء إذا أدّى ثلاثة أرباع كتابته عتق.
وروى النَّسائيّ عن ابن عباس مرفوعًا "المكاتب يعتق منه بقدر ما أدّى". ورجال إسناده ثقات، لكن اختلف في إرساله ووصله، وروي عن ابن عباس: أنه يعتق بمجرد العقد، ويكون غريم المولى بما عليه من دَيْن الكتابة. وفيه جواز كتابة الأمة كالعبد، وجواز كتابة المتزوجة ولو لم يأذن الزوج، وأنه ليس له منعها من كتابتها، ولو كانت تؤدي إلى فراقها منه، كما أنه ليس للعبد المتزوج منع السيد في عتق أمته، وإن أدى ذلك إلى بطلان نكاحها، وششنبط من تمكينها من السعي في مال الكتابة أنه ليس عليها خدمته.
وفيه جواز سعي المكاتبة، وسؤالها واكتسابها، وتمكين السيد لها من ذلك، ولا يخفى أن محل الجواز إذا عرفت جهة حل كسبها، وفيه البيان بأن النهي الوارد من كسب الأمة محمول على من لا يعرف وجه كسبها، أو محمول على
غير المكاتبة. وفيه أن للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة، ولا يشترط في ذلك عجزه، خلافًا لمن شرطه. وفيه جواز السؤال لمن احتاج إليه من دَين أو غُرم ونحو ذلك. وفيه أنه لا بأس بتعجيل مال الكتابة. وفيه جواز المساومة في البيع، وتشديد صاحب السلعة فيها، وأن المرأة الرشيدة تتصرف لنفسها في البيع وغيره، ولو كانت متزوجة، خلافًا لمن أبى ذلك، وأن مَنْ لا يتصرف بنفسه له أن يقيم غيره مقامه في ذلك، وأن العبد إذا إذن سيده له في التجارة جاز تصرفه.
وفيه جواز رفع الصوت عند إنكار المنكر، وأنه لا بأس لمن أراد أن يشتري للعتق أن يظهر ذلك لأصحاب الرقبة، ليتساهلوا في الثمن، ولا يعد ذلك من الرياء، وفيه إنكار القول الذي لا يوافق الشرع، وانتهار الرسول فيه. وفيه أن الشيء إذا بيع بالنقد كانت الرغبة فيه أكثر مما لو بيع بالنَّسيئة. وأن للمرء أن يقضى عنه دينه برضاه، وفيه الشراء بالنسيئة، وأن المكاتب لو عجل بعض كتابته قبل الحل، على أن يضع عن سيده الباقي، لم يجبر السيد على ذلك. وجواز الكتابة على قدر قيمة العبد، وأقل منها وأكثر؛ لأن بين الثمن المنجز والمعجل فرقًا، ومع ذلك فقد بذلت عائشة المؤخل ناجزًا، فدل ذلك على أن قيمتها بالتأجيل أكثر مما كوتبت به، وكأنَّ أهلها باعوها بذلك.
وفيه جواز كتابة من لا حرفة له، وفاقًا للجمهور، واختلف عن مالك وأحمد، وذلك أن بَريرة جاءت تستعين على كتابتها، ولم تكن قضت منها شيئًا، فلو كان لها مال أو حرفة أما احتاجت إلى الاستعانة؛ لأن كتابتها لم تكن حالَّة. وعند الطبري عن عُروة أن عائشة ابتاعت بَريرة مكاتبةً، وهي لم تقض من كتابتها شيئًا. قلت: قد مرَّ ما يدل على أنها قضت البعض، ومرَّ تحرير الجمع بينهما. وفيه جواز أخذ الكتابة من مسألة الناس، والرد على من كره ذلك، وزعم أنه من أوساخ الناس، وفيه مشروعية معونة المكاتبة من الصدقة. وعند أمالكية رواية أنه لا يجزىء عن الفرض. قلت: هذا الأخذ لم أطَّلع على ما أخذ منه، إذ ليس في الحديث أن الذي أدته عائشة رضي الله تعالى عنها، كان من الصدقة، اللهم إلا أن يكون ذلك في رواية لم أطّلع عليها. ومشهور مذهب مالك عدم الإجزاء فيما كانت فيه شائبة حرية.
وفيه جواز الكتابة بقليل المال وكثيره. وجواز التأقيت في الديون، في كل شهر مثلًا من غير بيان أوله أو وسطه، ولا يكون ذلك مجهولًا؛ لأنه يتبين بانقضاء الشهر الحلولُ، وفي هذا نظر، لاحتمال أن يكون قول بَريرة في كل عام أوقيةً، أي في غرته مثلًا، وعلى تقدير التسليم، فيمكن الفرق بين الكتابة والديون، فإن المكاتب لو عجز حل لسيده ما أخذ منه بخلاف الأجنبىّ. وقال ابن بطال: لا فرق بين الديون وغيرها. وقصة بَريرة محمولة على أن الراوي قصّر في بيان تعيين الوقت، وإلا يصير الأجل مجهولًا وقد نهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن السَّلَف إلى أجل معلوم. وفيه أن العد في الدراهم الصحاح المعلومة الوزن يكفي عن الوزن، وأن المعاملة في ذلك الوقت كانت بالأواقي. والأوقية أربعون درهمًا، وزعم المحب الطبريّ أن أهل المدينة كانوا يتعاملون بالعد، إلى مَقْدَم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم أُمروا بالوزن، وفيه نظر؛ لأن قصة بَريرة متأخرة عن مقدمه بنحو ثمان سنين، لكن يحتمل قول عائشة "أعُدَّها لهم عدة واحدة" أي أدفعها لهم، وليس مرادها حقيقة العَدّ، ويؤيده قولها في طريق عمرة في العتق "أن أصُبَّ لهم ثمنك صَبَّة واحدة".
وفيه جواز مناجاة المرأة دون زوجها سرًا، إذا كان المناجي ممن يؤمن، وأن الرجل إذا رأى شاهد الحال يقتضي السؤال عن ذلك، سأل وأعان، وأنه لا بأس للحاكم أن يحكم لزوجته ويشهد. وفيه قبول خبر المرأة ولو كانت امة، ويؤخذ منه حكم العبد بطريق الأَولى، وفيه أن بيع الأَمَة ذات الزوج ليس بطلاق، وفيه البداءة في الخطبة بالحمد والثناء، وقول "أما بعد" فيها، والقيام فيها، وجواز تعدد الشروط، لقوله "مئة شرط" وأن الإيتاء الذي أمر به السيد ساقط عنه إذا باع مكاتبه للعتق، وفيه أن لا كراهة في السجع في الكلام إذا لم يكن عن قصد، ولا متكلفًا.
وفيه أن للمكاتب حالة فارق فيها الأحرار والعبيد، وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يظهر الأمور المهمة من أمور الدين، ويعلنها ويخطب بها على المنبر، لإشاعتها، ويراعى مع ذلك قلوب أصحابه؛ لأنه لم يعين أصحاب
بَريرة، بل قال: ما بال رجال. ولأنه يؤخذ من ذلك تقرير شرع عام للمذكورين وغيرهم في الصورة المذكورة وغيرها، وهذا بخلاف قصة عليّ في خطبته بنت أبي جهل، فإنها كانت خاصة بفاطمة، فلذلك عينها. وفيه حكاية الوقائع لتعريف الأحكام، وأن اكتساب المكاتب له لا لسيده، وجواز تصرف المرأة الرشيدة في مالها بغير إذن زوجها، ومراسلتها الأجانب في أمر البيع والشراء كذلك، وجواز شراء السلعة للراغب في شرائها بأكثر من ثمن مثلها، لأن عائشة بذلت ما قرر نسيئة على جهة النقد، مع اختلاف القيمة بين النقد والنسيئة وفيه جواز استدانة من لا مال له عند حاجته إليه.
وفيه جواز نكاح العبد الحرة، لأنها إذا خيرت فاختارته بقيت معه، وهي حرة وهو عبد، وما ذكرناه في الحديث من الفوائد لا يخالف ما أخرجه البخاريّ عن عائشة قالت:"كان في بَريرة ثلاث سنن: إحداها أنها عتقت فخيرت في زوجها، وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الولاء لمن أعتق، ودخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والبُرمة تفور بلحم، فَقُرب إليه خبزٌ وأدم من أدم البيت، فقال: ألم أر البرمة فيها لحم؟ قالوا: بلى، ولكن ذلك لحم تُصدِّق به على بَريرة وأنت لا تأكل الصدقة، قال: عليها صدقة ولنا هدية" وزاد أحمد وأبو داود رابعةً وهي "وأمرها أن تعقد عدة الحُرة" وبيان عدم المخالفة، هو أن مراد عائشة بيان ما وقع من الأحكام مقصودًا خاصة، لكن لما كان كل منها يشتمل على تعقيب قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمة، وقع التكثر من هذه الحيثية، وانضم إلى ذلك ما وقع في سياق القصة غير مقصود، فإن في ذلك أيضًا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص أو الاستنباط، أو اقتصر على الثلاث أو الأربع لكونها أظهر ما فيها، وما عداها انما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنها أهم، والحاجة إليها أمس.
وقال القاضي عياض: معنى ثلاث أو أربع، أنها شرعت في قصتها، وما يظهر فيها مما سوى ذلك، فكان قد علم من كثير قصتها، وهذا أولى من قول من قال ليس في كلام عائشة حصر، ومفهوم العدد ليس بحجة، وما أشبه ذلك من