الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ الأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ رضى الله عنه، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أَنَا، كَمَا قَالَهُ. قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ. قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ. قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، وَلَكِنِ الْفِتْنَةُ الَّتِى تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ. قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا. قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ. قَالَ: إِذًا لَا يُغْلَقَ أَبَدًا. قُلْنَا: كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ. قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ. فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ.
قوله: "كنا جلوسًا"، أي: جالسين. وقوله: "فقال: أيكم يحفظ"، المخاطب بذلك الصحابة، ففي رواية ربعي عن حذيفة عند مسلم وأحمد أنه قدم من عند عمر، فقال: سأل عمر أمس أصحابَ محمدٍ: أيكم سمع قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الفتنة؟. وقوله: "في الفتنة" فيه دليل على جواز إطلاق اللفظ العام، وإرادة الخامس، إذ تبين أنه لم يسأل إلا عن فتنة مخصوصة، ومعنى الفتنة في الأصل الاختبار والامتحان، ثم استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء، وتطلق على الكُفْر، والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال، والتحول من الحسن إلى القبيح، والميل إلى الشيء، والإعجاب به. وتكون في الخير والشر، كقوله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} .
وقوله: "قلت أنا كما قاله"، أي: أنا أحفظ ما قاله، والكاف زائدة للتأكيد، أو هي بمعنى "على"، ويحتمل أن يراد بها المثلية، أي: أقول مثل ما قاله. وفي رواية رِبعي المارَّة، قال: أنا أحفظُ كما قال. وفي رواية المصنف في الزكاة: "أنا أحفظه كما قاله". وقوله: "إنك عليه أو عليها لجريء"، أي: على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو على المقالة، والشك من أحد الرواة فاللام في: لَجَريء، لام التأكيد، وهو على وزن فعيل من الجَراءة، وهي الإقدام على الشيء.
وقوله: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره"، المراد بالفتنة: ما يعرض للإنسان مع من ذكر من البشر أو الالتهاء بهم، أو أن يأتي لأجلهم بما لا يحل له، أو يخلّ بما يجب عليه، وقال الزين بن المنير: فتنة الرجل في أهله تقع بالميل اليهن، أو عليهن في القسمة، والإيثار حتى في أولادهن، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهن، أو يريد ما يعرض له معهن من شرٍّ أو حزن أو شبهه. وفتنة الرجل في المال أن يأخذه من غير مأخذه، ويصرفه في غير مصرفه، أو التفريط بما يلزمه من حقوق المال، فتكثر عليه المحاسبة، أو يقع الاشتغال به عن العبادة، وبالأولاد تقع بفرط محبتهم، وشغله بهم عن كثير من الخير، أو التوغل في الاكتساب من أجلهم من غير اكتراث من أن يكون من حلال أو حرام، والفتنة بالجار تقع بالحسد والمفاخرة، والمزاحمة في الحقوق، وإهمال التعاهد، قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ} ، وليست أسباب الفتن بمن ذكر منحصرة فيما ذكر من الأمثلة.
وقوله: "تكفرها الصلاة والصوم والصدقة
…
إلخ"، أي: تكفر فتنة الرجل في أهله، وما ذكر معه أداء الصلاة وما ذكر معها، قال بعض الشراح: يحتمل أن تكون كل واحدة من الصلاة وما معها مكفرة للمذكورات كلها، وأن يكون من باب اللف والنشر، بأن الصلاة مثلًا مكفرة
للفتنة في الأهل، والصوم في الولد، وتخصيص الصلاة وما ذكر معها بالتكفير دون سائر العبادات، فيه إشارة إلى تعظيم قدرها، لا نفي أن غيرها من الحسنات ليس فيها صلاحية التكفير، ثم إن التكفير المذكور يحتمل أن يقع بنفس الحسنات المذكورة، ويحتمل أن يقع بالموازنة، والأول أظهر.
وقال ابن أبي جمرة: خص الرجل بالذكر، لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم، ثم أشار إلى أن التكفير لا يختص بالأربع المذكورات، بل نبه بها على ما عداها، والضابط أن كل ما يشغل صاحبه عن الله فهو فتنة له، وكذلك المكفرات لا تختص بما ذكر، وإنما حصل التعيين لهذه الخمس، لأن الحقوق في الأبدان والأموال والأقوال، فنبه بالمذكورات على ما عداها، فذكر من أفعال الأبدان أعلاها وهو الصلاة والصوم. قال الله تعالى:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وذكر من حقوق المال أعلاها، وهي الصدقة، ومن الأقوال أعلاها، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستشكل ابن أبي جمرة وقوع التكفير بالمذكورات للوقوع في الحرمات، والإخلال بالواجب؛ لأن الطاعات لا تسقط ذلك، فإن حمل على الوقوع في المكروه والإخلال بالمستحب لم يناسب إطلاق التكفير، والجواب التزام الأول، وأن الممتنع من تكفير الحرام والواجب ما كان كبيرة، فهي التي فيها النزاع، وأما الصغائر، فلا نزاع أنها تكفِّر، لقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} .
وقوله: "الأمر والنهي"، أي: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما صرح به في الزكاة. وقوله:"ولكن الفتنة"، بالنصب بتقدير أريد، وبالرفع بتقدير مرادي الفتنة. وقوله:"تموج كموج البحر"، أي: تضطرب اضطراب البحر عند هيجانه، وكنى بذلك عن شدة المخاصمة، وكثرة المنازعة، وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة.
وقوله: "ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين"، زاد في رواية ربعي:"تعرض الفتن على القلوب فأيّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير أبيض مثل الصفاة، لا تضره فتنة، وأي قلب أُشرِبَها نكتت فيه نكتة سوداءَ، حتى يصير أسود كالكُوز منكوسًا لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا". وقوله: "إن بينك وبينها بابًا مغلقًا"، أي: لا يخرج منها شيء في حياتك. قال ابن المنير: آثر حذيفة الحرص على حفظ السر، ولم يصرح لعمر بما سأل عنه، وإنما كنى عنه كناية، وكأنَّه كان مأذونًا له في مثل ذلك.
وقال النووي: يحتمل أن يكون حذيفة علم أن عمر يقتل، لكنه كره أن يخاطبه بالقتل؛ لأن عمر كان يعلم أنه الباب، فأتى بعبارة يحصل بها المقصود بغير تصريح بالقتل، ولكن في لفظ رواية ربعيّ ما يعكر على ذلك، ففيها:"وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت"، فكأنه مثَّل الفتن بدار، ومثَّل حياة عمر بباب لها مغلق، ومثَّل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودة فهي الباب المغلق، لا يخرج مما هو داخل تلك الدار شيء، فإذا مات فقد انفتح ذلك الباب، فخرج ما في تلك الدار.
وقوله: "مغلقًا"، من أغلق الرباعيّ، ويقال: غلّق، بتشديد اللام، وفي لغة رديئة: غَلَقَ بالتخفيف. وقوله: "قال: إذًا لا يُغلق أبدًا"، وفي رواية علامات النبوة، قال:"ذلك أحرى أن لا يغلق"، وفي الصيام:"ذلك أجدر أن لا يغلق إلى يوم القيامة"، وإذًا حرف ناصب، ولا يغلق منصوب به، لوجود ما اشترط في عملها، وهو التصدير، وكون الفعل مستقبلًا واتصاله بها. وانفصاله عنها بالقسم أو بلا النافية، لا يبطل عملها. وفي كتابتها بالنون خلاف، وللكشميهنيّ: لا يغلق بالرفع، بتقدير الباب لا يغلق، أو: هو لا يغلق. قال ابن بطال: إنما قال ذلك لأن العادة أن الغلق إنما يقع في الصحيح، فاما إذا انكسر فلا يتصور غلقه حتى يجبر، ويحتمل أن يكون كنى عن الموت بالفتح، وعن القتل بالكسر، ولهذا قال في رواية رِبعيّ: قال عمر: كسرًا لا أبا لك، وإنما قال عمر ذلك اعتمادًا على ما عنده من النصوص الصريحة في وقوع الفتن في هذه الأمة،
ووقوع البأس بينهم إلى يوم القيامة، ويأتي في الاعتصام حديث جابر في قوله تعالى:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الآية.
وقد وافق حذيفة على روايته هذه أبو ذَرٍّ، فروى الطبرانيّ بإسنادٍ رجاله ثقات أنه لقي عمر، فأخذ بيده فغمزها، فقال له أبو ذرٍّ: أرسل يدي يا قُفْل الفتنة
…
الحديث، وفيه أن أبا ذَرٍّ، قال: لا تصيبنَّكم فتنة ما دام فيكم، وأشار إلى عمر، وروى البزار عن قُدامة بن مظعون، عن أخيه عثمان أنه قال لعمر: يا غَلَق الفتنة. فسأله عن ذلك، فقال: مررت ونحن جلوس عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: "هذا غَلَق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغَلَق ما عاش". وقوله: "قلنا: أكان عمر يعلم الباب؟ " هذا مقول شقيق. وقوله: "كما أن دون الغد الليلة"، أي: أن علمه به كعلمه بان ليلة غد أقرب إلى اليوم من الغد.
وقوله: إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، هذا بقية كلام حذيفة، والأغاليط جمع أُغلوطة بضم الهمزة، وهو ما يغالط به، أي: حدثته حديثًا صدقه محققًا من حديث النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، لا عن اجتهاد ولا رأي. وقال ابن بطال: إنما علم عمر أنه الباب، لأنه كان مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على حراء وأحد، هو وأبو بكر وعثمان، فرجف الجبل، فقال: أثبت فإنما عليك نبي وصدِّيق وشهيدان. أو فهم ذلك من قول حُذيفة: "بل يكسر" والذي يظهر أن عمر علم الباب بالنص، كما مرَّ عن عثمان بن مظعون وأبي ذَرٍّ، فلعل حذيفة حضر ذلك، ويأتي إن شاء الله تعالى في بدء الخلق حديث "أنه سمع خطبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحدث عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم"، ويأتي في علامات النبوة عن حذيفة "أنه قال: أنا أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة"، وفيه أنه سمع ذلك معه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جماعة ماتوا قبله، فإن قيل: إذا كان عمر عارفًا بذلك فَلِمَ شكَّ فيه حتى سأل عنه؟ فالجواب أن ذلك يقع مثله من شدة الخوف، أو لعله خشي أن يكون قد نسي، فسأل من يذكِّره، وهذا هو المعتمد.