الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العاشر
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
قوله: وافقت ربي في ثلاث، أي ثلاث قضايا أو ثلائة أمور، ولم يؤنث ثلاثًا بالتاء مع أن الأمر مذكر، لأن التمييز إذا لم يذكر يجوز في لفظ العدد التذكير والتأنيث، والمعنى: وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار به إلى حدث رأيه وقدم الحكم. وقال صاحب "اللامع" لا يحتاج إلى ذلك، لأن من وافقك فقد وافقته.
قلت: الأمر كذلك، ولكن الطارىء العلم، والكلام هو الذي حصلت منه الموافقة، وليس في تخصيصه العدد ما ينفي الزيادة عليها، لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه، وقف على خمسة عشر منها بالتعيين، من مشهورها قصة أُسارى بدر، حيث كان رأيه أن لا يُفدون، فنزل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] ومنها في منع الصلاة على المنافقين، فنزل {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] وهما في الصحيح ومنها ما رواه أبو داود في قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:
12] إلى قوله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] قال: وافقت ربي، فقلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت كذلك. ومنها في تحريم الخمر، ومنها في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها لما قال أهل الإفك ما قالوا، فقلت: يا رسول الله، من زوجكها؟ فقال: الله تعالى، فقلت: أفتنظر أنّ ربك دلّس عليك فيها {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] فأنزل الله ذلك.
وصحح الترمذي من حديث ابن عمر ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه وقال فيه عمر رضي الله تعالى عنه، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر. وقوله: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، يجوز أن يكون لو للتمني، فلا يحتاج إلى جواب، ويحتمل أن يكون للشرط محذوف الجواب، أي لكان صوابًا، أو نحو ذلك، وقيل هي لو المصدرية، أغنت عن فعل التمني. قال ابن الجوزي: إنما طلب عمر الاستنان بإبراهيم عليه السلام مع النهي عن النظر في كتاب التورية، لأنه سمع قول الله تعالى في حق إبراهيم {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] وقوله تعالى {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فعلم أن الائتمام بإبراهيم من هذه الشريعة، ولكون البيت مضافًا إليه، وأن أثر قدميه في المقام كرقم الباني في البناء، ليذكر به بعد موته، فرأى الصلاة عند المقام كقراءة الطائف بالبيت اسم من بناه، وهي مناسبة لطيفة. وقد استوفي الكلام على مقام إبراهيم في باب قوله {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
وقوله: وآية الحجاب، برفع آية على الابتداء والخبر محذوف، أي كذلك، أو على العطف على مقدر، أي هو اتخاذ مصلى، وآية الحجاب، أو بالنصب على الاختصاص، أو بالجر عطفًا على مقدر بدل قوله "ثلاث" أي اتخاذ مصلى من مقام إبراهيم. وقوله: لو أمرت نساءك أنْ يحتجبن فإنه يكلمهن البَرّ والفاجر، بفتح الباء، أي الطائع والعاصي. وقوله: فنزلت آية الحجاب، وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] وفي البخاري في سورة الأحزاب، فأنزل الله آية الحجاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] إلى قوله {مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وهذا هو الأَوْلى، وذكر هنا أن سبب نزول آية الحجاب كلام عمر، وأخرج في الأحزاب عن أنس أن سبب نزولها الذين جلسوا يتحدثون يوم وليمة زينب بعد خروج الناس، وتكرر خروج النبي صلى الله عليه وسلم ودخوله، ولم يخرجوا إلا بعد بطء، وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأطال الجلوس، فخرج عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات ليخرج، فلم يفعل، فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد قمت ثلاثًا لكي يتبعني فلم يفعل. فقال له عمر: يا رسول الله، لو اتخذت حجابًا، فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب.
وهذا الحديث يجمع بين السببين المذكورين، فيكون هذا الرجل الذي أطال الجلوس في وليمة زينب ودخل عليه عمر، وقال ما قال. ولم يذكر أنس في حديثه دخول عمر على الرجل المطيل للجلوس، وإذا لم يحصل هذا الجمع فحديث أنس المباشر أرجح من الذي رواه عن عمر. قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهنّ بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك لا في شهادة ولا في غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز.
واستدل بما في الموطأ أن حفصة، لما توفي عمر، سترها النساء عن أن يُرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القُبة فوق نَعشها. قال في الفتح: وليس فيما ذكره دليلٌ على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كنّ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة، ومن بعدهم، يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. وقد أخرج في الحج قول ابن جُريج لعطاء، لما ذكر له طواف عائشة "أَقَبْل الحجاب أو بعده؟ " قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب.
وقد ورد لنزول الحجاب سبب أخرجه النَّسائيّ عن عائشة بلفظ "كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حَيْسًا في قَعْب، فمر عمر فدعاه، فأكل، فأصاب أصبعه أصبعي
فقال: حَسّ أو أَوْهِ، لو أطاعَ فيكنَّ ما رأتكنَّ عين، فنزلت آية الحجاب. ولا مانع من تعدد الأسباب، وهو الظاهر من الأحاديث المذكورة. وقوله: واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغَيْرة عليه، وهي بفتح الغين المعجمة وسكون التحتانية. قال عياض: هي مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين. وقيل المغيرة في الأصل الحميَّة والأنفة، وهو تصير بلازم التغير، فيرجع إلى الغضب.
وقوله: أزواجًا خيرًا منكن، ليس فيه دليل على أن في النساء من هو خير منهن؛ لأن المعَلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، فالآية واردة في الإخبار عن القدرة لا عن الكون في الوقت، لأن الله تعالى قال {إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5]، وقد علم أنه لا يطلقهن، واختلف في سبب اجتماعهن في المغيرة، فقيل: قصة شرابه عند حفصة أو زينب بنت جحش، كما أخرجه البخاريّ في كل واحدة منهما، وقيل: السبب مواقعته لماريّة كما أخرجه ابن إسحاق.
وأخرج ابن مردويه ما يجمع القولين. ففيه أن حفصة أهديت لها عُكّة فيها عَسَل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها حبسته حتى تُلْعِقه أو تسقيه منها، فقالت عائشة لجارية عندها حبشية، يقال لها خضراء: إذا دخل على حفصة فانظري ما يصنع، فأخبرتها الجارية بشأن العسل، فأرسلت إلى صواحبها فقالت: إذا دخل عليكن فقلن: انا نجد منك ريح مغافير. فقال: هو عسل، فوالله لا أطعمه أبدًا، فلما كان يوم حفصة، استأذنته أن تأتي أباها، فأذن لها فذهبت، فأرسل إلى جاريته مارية فأدخلها بيت حفصة، قالت حفصة: فرجعت فوجدت الباب مغلقًا، فخرج ووجهه يقطر وحفصة تبكي، فعاتبته، فقال: أشهدك أنها عليّ حرام. انظري، لا تخبري بهذا امرأة، وهي عندك أمانة، فلما خرج قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة، فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم أَمته، فنزلت.
وعند ابن سعد عن ابن عباس "خرجت حفصة من بيتها يوم عائشة، فدخل رسول الله بجاريته القبطية بيت حفصة، فجاءت فرقبته حتى خرجت الجارية،
فقالت له: أما إني قد رأيت ما صنعت. قال: فكتمي عليّ، وهي عليّ حرام، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأخبرتها، فقالت له عائشة: أما يومي فتُعرس فيه بالقِبطية ويسلم لنسائك سائر أيامهن؟ فنزلت الآية.
وجاء في ذلك قول ثالث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: دخلت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم بيتها، فوجدت معه مارية، فقال: لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة أن أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ، فذهبت إلى عائشة فأخبرتها، فقالت له عائشة ذلك، والتمست منه أن يحرم مارية، وحرمها، ثم جاء إلى حفصة فقال: أمرتك أن لا تخبري عائشة، فأخبرتها فعاتبها، ولم يعاتبها على أمر الخلافة، ولهذا قال الله تعالى {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3].
وجاء في سبب غضبه منهن وحلفه أن لا يدخل عليهن شهرًا، ما أخرجه ابن سعد عن عمرة عن عائشة قالت: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هَدية، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه نصيبها، فلم ترض زينب بنت جحش بنصيبها، فزادها مرة أخرى فلم ترض، فقالت عائشة: لقد أقمات وجهك؛ ترد عليك الهدية؟ فقال: "لأنتنَّ أهون على الله من أن تقمئنني، لا أدخل عليكن شهرًا". وفي رواية عُروة عنها "ذبحٍ ذبحًا فقسمه بين نسائه، فأرسل إلى زينب نصيبها، فردته، فقال: زيدوها ثلاثًا، كل ذلك ترده"، فذكر نحوه.
وفيه قول آخر أخرجه مسلم عن جابر قال: "جاء أبو بكر والناس جلوس بباب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر، فدخل ثم جاء عمر، فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا وحوله نساؤه .... " فذكر الحديث، وفيه "هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة" فقام أبو بكر إلى عائشة، وقام عمر إلى حفصة، ثم اعتزلهن شهرًا، فنزلت آية التخيير.
والراجح من الأقوال كلها قصة مارية لاختصاص عائشة وحفصة بها، بخلاف العسل، فإنه اجتمع فيه جماعة منهن كما سيأتي إن شاء الله تعالى،