الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والخمسون
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْخَوْلَانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا قَالَ بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ.
قوله: عند قول الناس فيه، وبيان ذلك القول أخرجه مسلم عن محمود بن لبيد قال: لما أراد عثمان بناء المسجد، كره الناس ذلك، وأحبوا أن يَدَعوه على هيئته في عهده عليه الصلاة والسلام. قال البغويّ: لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناءه بالحجارة المنقوشة، لا مجرد توسيعه. وقوله: حين بني، أي أراد أن يبني، ولم يبن عثمان المسجد إنشاء، وإنما وسّعه وشيّده، كما مرَّ في باب بنيان المسجد، فيؤخذ منه إطلاق البناء في حق من جدد، كما يطلق في حق من أنشا، والمراد بالمسجد هنا بعض المسجد، من إطلاق الكل على البعض.
وقوله: مسجد الرسول، كذا للأكثر، وللكشميهنيّ والحمويّ، "مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكان ذلك سنة ثلاثين على المشهور. وقيل: في آخر سنة من خلافته، وهي سنة خمس وثلاثين. ففي كتاب السير للحارث بن مسكين عن ابن وهب عن مالك أن كعب الأحبار كان يقول: عند بنيان عثمان المسجد: لوددِتُ أنَّ هذا المسجد لا ينجز، فإنه إذا فرغ من بنيانه، قتل عثمان. قال مالك: فكان الأمر كذلك، ويمكن الجمع بأن الأول كان تأريخ ابتدائه، والثاني كان تأريخ انتهائه.
وقوله: إنكم أكثرتم، أي الكلام في الإنكار على ما فعلته، فحذف المفعول للعلم به. وقوله: بني مسجدًا، حقيقة أو مجازاً، بأن كان آمرًا بذلك، والتنوين في "مسجدًا" للشيوع، فيدخل فيه الكبير والصغير، وعند التِّرمذيّ عن أنس "صغيرًا أو كبيرًا" وزاد ابن أبي شيبة من وجه آخر، عن عثمان "ولو كمَفْحَص قطاة" وهذه الزيادة عند ابن حبّان والبزار عن أبي ذرٍّ، وعند أبي مسلم الكجي عن ابن عباس، وعند الطبرانيّ في الأوسط عن أنس وابن عمر، وعند أبي نعيم في الحلية عن أبي بكر الصديق. ورواه ابن خُزيمة عن جابر بلفظ "كمَفْحَص قطاة أو أصغر" ومفحصها بفتح الميم والحاء، بوزن مَقْعَد، مجثمها لتضع فيه بيضها، وترقد عليها، كأنها تَفْحَص عنه أي تكشفه، والفحص البحث والكشف. وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة، لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه، لا يكفي مقداره للصلاة فيه.
ويؤيده رواية جابر هذه، لأن الشارع يضرب المثل في الشيء الذي لا يكاد يقع، كقوله:"اسمعوا وأطيعوا ولو عبدًا حبشيًا" وقد ثبت أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "الأئمة من قريش" قلت: هذا لا يخالف الحديث الأخير، لحمل الأول ما إذا حصلت إمامته بالتغلب، وقيل: هو على ظاهره، والمعنى أن يزيد في المسجد قدرًا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة، هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر. وهذا بناء على أن المراد بالمسجد المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود، وهو ما يسع الجبهة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر، لكن قوله "بني" يشعر بوجود بناء على الحقيقة، ويؤيده قوله في رواية أم حبيبة "مَنْ بَنى لله بيتًا" أخرجه سمويه في فوائده بإسناد حسن.
وقوله في رواية عمر "من بني مسجدًا يذكر فيه اسم الله" أخرجه ابن حبّان، وأخرج نحوه النَّسائيّ من حديث عمرو بن عَنْبَسَة، فكل ذلك مشعر بأن المراد بالمسجد المكان المتخذ، لا موضع السجود فقط، لكن لا يمنع إرادة الآخر مجازًا إذ بناء كل شيء بحسبه، وقد شوهد كثير من المساجد في طرق
المسافرين، يحوطونها إلى جهة القبلة، وهي في غاية الصغر، ويعضها لا يكون أكثر من قدر موضع السجود، وروى البيهقي في الشُّعَب عن عائشة نحو حديث عثمان، وزاد فيه "قلت: وهذه المساجد التي في الطرق؟ قال: نعم" وللطبرانيّ نحوه من حديث أبي قِرْصافة، وإسنادهما حسن.
وإنما خص القطاة بهذا لأنها لا تبيض على شجرة، ولا على رأس جبل، بل إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطير، فلذلك شبه به المسجد، ولأنها توصف بالصدق، فكأنه أشار بذلك إلى الإخلاص في بنائه، كما قال الشيخ أبو الحسن الشاذليّ: خالص العبودية الاندماج في طي الأحكام من غير شهرة ولا إرادة، وهذا شأن هذا الطائر. وقيل لأن أفحوصها يشبه محراب المسجد في استدارته وتكوينه. وقوله: قال بكير: حسبت أنَّه، أي شيخه عاصمًا بالإسناد المذكور، وقوله: يبتغي به وجه الله، أي ذاته عز وجل، طلبًا لمرضاته تعالى، لا رياء أو سمعة. والمعنى ذلك الإخلاص، وهذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث، وكل من روى حديث عثمان لفظه "من بني لله مسجدًا" فكأنَّ بكيرًا نسيها، فذكرها بالمعنى مترددًا في اللفظ الذي ظنه، فإن قوله "لله" بمعنى قوله "يبتغي به وجه الله" لاشتراكهما في المعنى المراد، وهو الإخلاص.
قال ابن الجوزيّ: من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا من الإخلاص. ومن بناه بالأجرة لم يحصل له هذا الوعد المخصوص، لعدم الإخلاص، وإن كان يؤجر في الجملة. وروى أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم عن عقبة بن عامر مرفوعًا "أن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنة: صانِعَه المحتَسِبَ في صنعته، والرامي به، والمُمِدَّ بِهِ" فقوله: المحتسب في صنعته، أي من يقصد بذلك إعانة المجاهد، وهو أعم من أن يكون متطوعًا بذلك، أو بأجرة، لكن الإخلاص لا يحصل إلا من المتطوع، وهل يحصل الثواب المذكور لمن جعل بقعة من الأرض مسجدًا، بأن يكتفي بتحويطها من غير بناء؟ وكذا من عمد إلى بناء كان يملكه فوقفه مسجدًا؟ إن وقفنا مع ظاهر اللفظ فلا، وإن نظرنا إلى المعنى فنعم، وهو المتجه. وكذا قوله "بنى" حقيقة
في المباشرة بشرطها، لكن المعنى يقتضي دخول الأمر بذلك كما في تقدير "بنى" وهو المنطبق على استدلال عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأنه استدل بهذا الحديث على ما وقع منه، ومن المعلوم أنه لم يباشر ذلك بنفسه.
وقوله: بني اللهُ له، جواب الشرط الذي هو "مَن بَنى" وجملة قال بكير، اعتراضٌ بينهما، وإسناد البناء إلى الله مجاز، وابراز الفاعل لتعظيم ذكره جل اسمه، أو لئلا تتنافر الضمائر أو يتوهم عوده على باني المسجد. وقوله: مثله، صفة لمصدر محذوف، أي بني بناء مثله. ولفظ المثل له استعمالان: أحدهما الإفراد مطلقًا، كقوله تعالى:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} والثاني المطابقة، كقوله تعالى:{أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فعلى الأول لا يمتنع أن يكون الجزاء أبنية متعددة، فيحصل جواب من استشكل التقييد بقوله "مثله"، مع أن الحسنة بعشر أمثالها، الاحتمال أن يكون المراد "بني الله له عشرة أبنية مثله" والأصل أن ثواب الحسنة الواحدة واحد بحكم العدل، والزيادة عليه بحكم الفضل.
وأما من أجاب باحتمال أن يكون عليه الصلاة والسلام قال ذلك، قبل نزول قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ففيه بُعد. وكذا من أجاب بأن التقييد بالواحد لا ينفي الزيادة، ومن الأجوبة المرضية أن المثلية هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية، فكم من بيت خير من عشرة، بل من مئة، وأن المقصود من المثلية أن جزاء هذه الحسنة من جنس البناء، لا من غيره، مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعًا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسعة الجنة، إذ موضعُ شبر فيها خير من الدنيا وما فيها، كما في الصحيح، فإنه أفضل بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقد روى أحمد من حديث واثلة بلفظ "بني الله له في الجنة أفضل منه" وللطبرانيّ عن أبي أمامة بلفظ "أوسع منه" وهذا يشعر بأن المثلية لم تقصد بها المساواة من كل وجه. وقال النوويّ: إن يكون المراد أن فضله على بيوت الجنة، كفضل المسجد على بيوت الدنيا. قلت: البيت يكفي من عظمه إسناد