الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والستون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا. قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِى صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَاّ سُدَّ إِلَاّ بَابُ أَبِي بَكْرٍ.
قوله: عن عبيد بن حُنين عن بُسر بن سعيد، هو في أكثر الروايات، وسقط في رواية الأصيليّ ذكرُ بسر بين عبيد وأبي سعيد، فصار عن عبيد عن أبي سعيد، وهو صحيح في نفس الأمر، لكن محمد بن سنان إنما حدث به كما في بقية الروايات، وقد قال البخاريّ: إنه خطأ، وإنما هو عن عبيد، وعن بسر بواو العطف، فعلى هذا يكون أبو النضر سمعه من شيخين حدثه كل منهما به، عن أبي سعيد، فتحذف الواو خطأ من محمد بن سنان أو من فُليح.
ويؤيد هذا رواية مسلم له عن سعيد بن منصور عن فليح عن أبي النضر عن عبيد وبُسر، جميعًا عن أبي سعيد، ورواه المصنِّف في مناقب أبي بكر عن أبي عامر العَقْديّ، عن فُليح عن أبي النضر عن بُسر وحده، فكأنَ فليحًا كان يجمعهما مرة، ويقتصر مرة على أحدهما. ورواه مالك عن أبي النضر عن عبيد وحده، عن أبي سعيد، أخرجه المصنف في الهجرة، فانتقاد الدارقطنيّ على
المؤلف هذا الحديث مع إفصاحه بما ذكر، لا وجه له، وليست هذه بعلة قادحة.
وقوله: بين الدنيا وبين ما عنده، في رواية مالك الآتية في الهجرة إلى المدينة "بين أن يدنيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده". وقوله: فقلت في نفسي: ما يُبكي هذا الشيخ؟ وفي رواية المناقب: فعجبنا لبكائه، وفي رواية مالك، "فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن عبد، وهو يقول: فديناك" ويجمع بان أبا سعيد حدّث نفسه بذلك، فوافق تحديث غيره بذلك، فنقل جميع ذلك.
وفي حديث ابن عباس الآتي بعد هذا، كان في مرضه الذي مات فيه، ولمسلم عن جُنْدُب: سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول. قبل أن يموت بخمس ليال. وفي حديث أبيّ بن كعب الآتي قريبًا "إن أحدث عهدي بنبيكم قبل وفاته بخمس
…
" الخ وكأن أبا بكر رضي الله عنه، فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى.
وقوله: إن يكن الله خير عبدًا، كذا للأكثر، وللكشميهنىّ: إن يكن لله عبد خير، وهمزة إنْ مكسورة على أنها شرطية، وجوّز ابن التين فتحها على أنها تعليلية، وفيه. نظر. وقوله: وكان أبو بكر أعلمنا، وفي رواية مالك. وكان أبو بكر هو أعلمنا به، أي بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور، حيث فهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفارق الدنيا، فبكى حزنًا على فراقه، وعبر بعبد بالتنكير، ليظهر نباهة أهل العرفان في تفسير هذا المبهم، فلم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، فبكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأولادنا، فسكَّن الرسول جَزَعَه بقوله: يا أبا بكر، لا تبك.
وقوله: إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، وفي رواية مالك: إنّ مِن أمنّ الناس عليّ، بزيادة مِنْ وقال فيها "أبا بكر" بالنصب للأكثر، ولبعضهم "أبو بكر" بالرفع. وقد قيل: إن الرفع خطأ، والصواب النصب؛ لأنه اسم إنّ، ووجه الرفع بتقدير ضمير الشأن، أي إنَّ، والجار والمجرور بعده خبر
مقدم، وأبو بكر مبتدأ مؤخر، وعلى أن مجموع الكنية اسم، فلا يعرب ما وقع فيها من الأداة، أو أنَّ إنّ بمعنى نعم، أو أنّ مِنْ زائدة على رأي الكسائي.
وقال ابن برّي: يجوز الرفع إذا جعلت "مَنْ صفة لشيء محذوف، تقديره إنّ رجلًا أو إنسانًا من أمن الناس، فيكون اسم إن محذوفًا، والجار والمجرور في موضع الصفة، وأبو بكر الخبر. وقوله: أَمَنَّ، أفعل تفضيل من المَنّ، بمعنى العطاء والبذل، أي كثرهم جودًا لنا بنفسه وماله، وليس من المَنّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة المفسد لها، ولأنه لا مِنَّةَ لأحد عليه، عليه الصلاة والسلام، بل المنة الله ولرسوله في قبول ذلك. وقال القرطبيّ: هو من الامتنان، يعني أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه، له من الحقوق ما لو كان لغيره لامتَنَّ بها، وذلك لأنه بادر بالتصديق ونفقة الأموال وبالملازمة والمصاحبة، إلى غير ذلك، بانشراح صدر، ورسوخ علم بأن الله ورسوله لهما المِنّة في ذلك، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام، بجميل أخلاقه، وكرم أعراقه، اعترف بذلك عملًا بشكر المنعم.
ورواية حديث الباب توافقها رواية ابن عباس الآتية بعده "ليس من الناس أحد أَمَنَّ على في نفسه وماله من أبي بكر" وأما الرواية التي فيها "من" فإن قلنا زائدة، فلا تخالف، وإلا فتحمل على أن المراد أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية، إلا أنه مقدم في ذلك، بدليل ما تقدم من السياق وما تأخر، ويؤيده ما رواه الترمذيّ عن أبي هُريرة بلفظ "ما لأحد عندنا يدٌ إلا كافأناه عليها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيمة" فإن ذلك يدل على ثبوت يد لغيره، إلا أنّ لأبي بكر رُجحانًا"، فالحاصل أنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك، وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه في شيء من ذلك. ووقع بيان ذلك في حديث آخر عن ابن عباس، رفعه، نحو حديث الترمذيّ، أخرجه الطبرانيّ" وزاد منه اعتق فيه بلالا ومنه هاجر بنبيه، وعنه في طريق أخرى ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته أخرجه الطبراني.
وفي حديث مالك بن دبنار عن أنس، رفعه "أن أعظم الناس علينا مَنّاً أبو بكر، زوَّجني ابنته، وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالًا أبو بكر، أعتق منه بلالًا، وحملني إلى دار الهجرة" أخرجه ابن عساكر، وأخرج عن عليّ نحَوه. وجاء عن عائشة "مقدار المال الذي أنفقه أبو بكر" فروى ابن حبّان عنها أنها قالت: أنفق أبو بكر على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أربعين ألف درهم. وروى الزبير بن بكّار عنها أنه لما مات، ما ترك ديناراً ولا درهمًا.
وقوله: فلو كنتُ متخذًا خليلًا من أمتي، كذا للأربعة، ولغيرهم: ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، أي لو كنت أختار وأصطفي. وقوله: لاتخذتُ أبا بكر، أي لكونه متأهلًا لأن يتخذه عليه الصلاة والسلام خليلاً، لولا المانع، وهو أنه عليه الصلاة والسلام امتلأ قلبه بما تخلَّله من معرفة الله تعالى ومحبته ومراقبته، حتى كأنه مزجت أجزاء قلبه بذلك، فلم يتسع قلبه لخليل آخر. وعلى هذا لا يكون الخليل إلا واحدًا، وزعم الفراء أن معنى الحديث لو كنت أخص أحدًا بشيء من العلم دون الناس لخصصتُ به أبا بكر؛ لأن الخليل من تَفَرَّد بخلة من الفضل، لا يشاركه فيها أحد. وقيل: معناه لو كنت منقطعًا إلى غير الله لانقطعت إلى أبي بكر، لكن هذا ممتنع لامتناع ذلك.
والخليل هو المُخَالّ، أي الذي يخالُّك، أي يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقتك، من الخَلّ، وهو الطريق في الرمل، أو يَسُدُّ خَلَلَك كما تسد خَلَلَه، أو يداخلك خلاة منازلك، وقيل: أصل الخُلّة الانقطاع، فخليل الله المنقطع إليه، وقيل: الخلة صفاء المودة بتخلل الأسرار. وقيل: الخليل مَنْ لا يتسع قلبه لغير خليله. وقال عياض: أصل الخلة الافتقار والانقطاع، فخليل الله المنقطع إليه، وقيل الخلة صفاء المودة بتخلل الأسرار. وقيل: الخليل من لا يتسع قلبه لغير خليله. وقال عياض: أصل الخلة الافتقار والانقطاع، فخليل الله المنقطِع إليه لقصرِهِ حاجَتَه عليه. وقيل: الخلة الاختصاص بأصل الاصطفاء. وقيل: الخليل من الخَلّة، بالفتح، وهي الحاجة، فعلى هذا، فهو المحتاج إلى من يخاللَه.
وسمى إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلَ الله، لأنه وإلى فيه وعادى فيه. وقيل: سمى بذلك لانقطاعه إلى ربه وقصره حاجته عليه. وقيل: سمي بذلك لأنه تخلل بخلال حسنة، وأخلاق كريمة، وهذا كله بالنسبة إلى الإنسان. وأما خُلة الله للعبد، فبمعنى نصره له، ومعاونته. واختلف في المودة والخلة والهبة والصداقة، هل هي مترادفة أو مختلفة؟ قال أهل اللغة: الخُلة الصداقة والمودة. وقيل: الخُلة أرفع رتبة، وهو الذي يشعر به حديث الباب، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام "لو كنت مُتخذًا خليلًا غير ربي" فإنه يشعر بأنه لم يكن له خليل من بني آدم، وقد ثبتت محبته لجماعة من أصحابه كأبي بكر وعمر وعائشة وفاطمة والحسنين وغيرهم. ولا يعكر على هذا اتصاف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخُلة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بالمحبة، لتكون المحبة أرفع رتبة من الخُلة؛ لأنه يجاب عن ذلك بان محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم قد ثبت له الأمران، فيكون رُجحانة من الجهتين. وذهب ابن فَوْرك إلى أن المحبة أعلى، لأنها صفة نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أفضل من الخليل. وقيل هما سواء، فلا يكون الخليل إلا حبيباً ولا الحبيب إلا خليلًا. وهذا هو الترادف المتقدم.
وقد تواردت الأحاديث على نفي الخلة من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأحد من الناس. قال الداوديّ: لا ينافي ذلك قول أبي هُريرة وأبي ذرٍّ وغيرهما. أخبرني خليلي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لأن ذلك جائز لهم، ولا يجوز للواحد منهم أن يقول: أنا خليل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولهذا يقال: إبراهيم خليل الله، ولا يقال: الله خليل إبراهيم. قال في الفتح: لا يخفى ما فيه، قلت: الجواب عندي هو أن المنفي كونُ النبي صلى الله عليه وسلم متخذًا خليلًا غير ربه، وذلك لا ينافي أن يكون أحد متخذًا له هو، عليه الصلاة والسلام، خليلًا، إذ لم يشترطوا أنَّ الخُلة لابد أن تكون من الطرفين. ورأيت في فتح الباري في صلاة الضحى الإشارةَ إلى ما قلته بعد كَتبي له، فقال: الممتنع أن يتخذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم غيره خليلًا، لا العكس، ولا يقال إن المخالَّة لا تتم حتى تكون من الجانبين، لأنا نقول إنما نظر الصحابي
إلى أحد الجانبين، فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة.
وأما ما روي عن أُبيّ بن كعب قال:"إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمس، دخلت عليه وهو يقول: إنه لم يكن نبيّ إلا وقد اتخذ من أمته خليلاً، وان خليلي أبو بكر، ألا وإنّ الله اتخذني خليلًا، كما اتخذَ إبراهيم خليلًا"، أخرجه أبو الحسن الحربيّ في فوائده، فإنه معارِضٌ حديث جُندب عند مسلم أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول، قبل أن يموت بخمس: إني أبرأ إلى الله تعالى أن يكون لي منكم خليلٌ، وأخرج الواحدي في تفسيره عن أبي أمامة نحو حديث أُبيّ بن كعب، دون التقييد بالخمس، قال المحب الطبريّ: فإنْ ثبت حديث أُبيّ أمكن الجمع بينهما بأنه لمّا برىء من ذلك تواضعًا لربه، وإعظاما له، أذِن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم، أما رأى من تشوقه إليه وإكرامًا لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران، لكن حديث أُبيّ وأبي أمامة واهيان.
وقوله: ولكن أخوّة الإِسلام ومودته، وفي حديث ابن عباس الآتي بعد هذا أفضل. وأخرجه الطبراني عن خالد الحذاء بلفظ "ولكن أخُوة الإيمان والإِسلام أفضل" وأخرجه أبو يعلى عن عكرمة بلفظ "ولكن خُلة الإِسلام أفضل" وفيه إشكال، فإن الخُلة أفضل من أخوة الإِسلام؛ لأنها تستلزم ذلك وزيادة، فقيل: المراد أن مودة الإِسلام مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من مودته مع غيره، وقيل: أفضل بمعنى فاضل، ولا يعكر على ذلك اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق، وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره. وقد مرَّ الخلاف في المودة والخلهّ هل هما مترادفان أم لا؟ وعلى عدم الترادف قيل: إن تغايرهما باعتبار المتعلق، وهو أنه أثبت المودة؛ لأنها بحسب الإِسلام والدين، ونفى الخلة للمعنى الذي ذكرناه، وقيل: إن الخلة أخص وأعلى مرتبة من المودة، فنفى الخاص وأثبت العام، ووقع في بعض الروايات، ولكن خُوَّة الإِسلام، بغير ألف.
قال ابن بطال: لم أجد خُوّة بمعنى خُلة في كلام العرب، وفي بعض الروايات "ولكن خُلة الإِسلام" وهو الصواب. وقال ابن التين: لعل الألف
سقطت من الرواية" فإنها ثابتة في سائر الروايات. ووجَّهه ابن مالك بأنه نقلت حركة الهمزة إلى النون، فتحذف الألف، وجوز مع حذفه ضم نون لكن وسكونه. قال: ولا يجوز مع إثبات الهمزة إلا سكون النون فقط. وقوله: لا يَبْقَينَّ باب، بفتح أوله ونون التوكيد الشديدة، وفي إضافة النهي إلى الباب، يجوز لأن عدم بقائه لازم للنهي عن إبقائه، فكأنه قال: لا تُبقوه حتى لا يبقى. وقد رواه بعضهم بضم أوله على البناء المجهول، وهو واضح.
وقوله: إلَاّ سد، بضم أوله، وقوله إلا باب أبي بكر، استثناء مفرغ، والمعنى لا تبقوا بابًا غير مسدود إلا باب أبي بكر، فاتركوه بغير سد. قال ابن بطال والخطّابيّ وغيرهما في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر، وفيه إشارة قوية إلى استحقاته للخلافة، ولاسيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر. وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخِلافة، والأمر بالسد كناية عن طلبها، فكأنه قال: لا يطلبن أحدٌ الخلافة إلا أبو بكر، فإنه لا حرج عليه في طلبها.
وجنح إلى هذا ابن حبّان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه حسم بقوله "سُدّوا عني كل خوخة في المسجد" أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاءَ بعده. وقوّى بعضهم ذلك بأنَّ منزل أبي بكر كان بالسُّنْح من عوالي المدينة، فلا تكون له خوخة إلى المسجد، وهذا الاستناد ضعيف؛ لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كانت له إذ ذاك زوجة أخرى، وهي أسماء بنت عُميس بالاتفاق، وأم رومان، على القول بأنها كانت باقية يومئذ.
وتعقب المحبّ الطبريّ ما قاله البعض فقال: قد ذكر عمر بن شَبّة في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أُذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها فاشترتها حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، فلم تزل بيدها
إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان، فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد، فامتنعت وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها: نعطيك دارًا أوسع منها، ونجعل لك طريقا مثلها، فسلمتْ ورضيت.
تنبيه: قد جاء في سد الأبواب التي حول إلمسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديثَ الباب، منها حديث سعد بن أبي وقاص، وقال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب عليّ. أخرجه أحمد والنَّسائيّ وإسناده قويّ. وفي رواية للطبرانيّ في الأوسط، رجالها ثقات، من الزيادة، فقالوا:"يا رسول الله، سددتَ أبوابنا، فقال: ما أنا سددتها، ولكن الله سدها" وأخرج أحمد والنَّسائيّ والحاكم، ورجاله ثقات، عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سدوا هذه الأبواب إلا باب عليّ، فتكلم ناس في ذلك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إني والله ما سددت شيئًا ولا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته.
وأخرج أحمد والنسائيّ برجال ثقات عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأبواب المسجد فَسُدَّت إلا باب عليّ. وفي رواية "وأمر بسد الأبواب غير باب عليّ، فكان يدخل المسجد وهو جنب، ليس له طريق غيره" وأخرج الطبرانيّ عن جابر بن سَمُرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسد الأبواب كلها، غير باب عليّ، فربما مرَّ فيه وهو جنب، وأخرج أحمد، وإسناده حسن، عن ابن عمر قال: كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيرُ الناس، ثم أبو بكر، ثم عمر. ولقد أُعطي عليّ بن أبي طالب ثلاثَ خصالٍ، لأَن تكونَ لي واحدةٌ منهن أحب إليّ من حُمر النَّعَم: زوّجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ابنته، وولدت له، وسُدّ الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر.
وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار، بمهملات، قال: فقلتُ لابن
عمر أخبرني عن عليّ وعثمان، فذكر الحديث، وفيه "أما عليّ فلا تسأل عنه أحدًا، وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد سد أبوابنا في المسجد وأقرَّ بابه.
ورجاله رجال الصحيح، إلا العلاء، وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، وكل طريق منها صالح للاحتجاج، فضلًا عن مجموعها، وأورد ابن الجوزيّ هذا الحديث في الموضوعات مقتصرًا على بعض طرقه، وأعله ببعض من تكلم فيه من رجاله، وليس ذلك بقادح لما مر من كثرة الطرق. وأعله أيضًا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في أبي بكر. وزعم أنه من وَضْعِ الزنادقة، قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. وأخطأ في ذلك خطأ شنيعًا، فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهُّم المعارضة، مع أن الجمع بين القضيتين ممكن، وقد أشار إليه البزّار في مسنده، فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حِسَان في قصة عليّ، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر، فإنْ ثبتت روايات أهل الكوفة، فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخُدريّ، الذي أخرجه الترمذيّ "أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جُنُبا غيري وغيرك" والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمر بسده.
ويؤيد ذلك ما رواه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَبَ أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد. ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين، ففي الأولى استثنى عليًا لما ذكره، وفي الأخرى استثنى أبا بكر، ويحمل ما في قصة عليّ على الباب الحقيقي، وما في قصة أبى بكر على الباب المجازي، والمراد الخوخة كما صرح به بعض الطرق، وكأنّهم أما أُمروا بسد الأبواب، سدوها وأحدثوا خوخًا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأُمروا بعد ذلك بسدها، فهذه طريقة