الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني عشر
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بن بلال، قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: حَدَّثَنَا الأَعْرَجُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ".
قوله: "وغيره"، هو أبو سلمة بن عبد الرحمن على ما قاله في الفتح ظنًّا منه. وقوله:"ونافع"، هو بالرفع عطفًا على الأعرج. وقوله:"حدثاه"، أي: أبا هريرة وابن عمر حدثاه، أي: صالحًا، أي: حدثا مَنْ حَدَّث صالح بن كيسان، ويحتمل أن يكون ضمير "أنهما" يعود على الأعرج ونافع، أي: أن الأعرج ونافعًا حدثاه، أي: صالح بن كيسان عن شيخهما بذلك، وفي رواية الإسماعيلي أنهما حدثا بغير ضمير، فلا يحتاج إلى التقدير المذكور.
وقوله: "إذا اشتد الحر"، أصله اشتدّ بوزن افتعل من الشدة، ثم أدغمت إحدى الدالين في الأُخرى، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد، وكذا لا يشرع في البرد من باب أولى.
وقوله: "فأبردوا" بهمزة قطع، أي: أخّروا إلى أن يبرد الوقت. يقال: أبْرَدَ إذا دخل في البرد، كأظهر إذا دخل في الظهيرة. ومثله في المكان، يقال: أنجد إذا دخل نجدًا، وأتهم إذا دخل تهامة، والأمر بالإبراد أمر استحباب، وقيل أمر إرشاد، وقيل للوجوب. حكاه عياض وغيره، وغفل الكرمانيّ فحكى الإجماع على عدم الوجوب. نعم قال جمهور أهل العلم: يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، واختلف العلماء في غاية الإبراد،
فقيل: حتى يصير الظل ذراعًا بعد ظل الزوال، وقيل: ربع قامة، وقيل: نصفها، وقيل: ثلثها. وقال الباجيّ: نحو الذراعين بعد ظل الزوال. ابن حبيب: فوقهما بيسير، ابن عبد الحكم: أن لا يخرجها عن وقتها. ونزَّلها المازريّ على اختلاف الأوقات، والجاري على القواعد أنه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتد إلى آخر الوقت.
وأما ما عند المصنف في الأذان عن شعبة بلفظ: "حتى ساوى الظلُّ التلول"، فظاهره يقتضي أنه أخرها حتى صار ظل كل شيء مثله، ويحتمل أن يراد بهذه المساواة ظهور الظل بجنب التل بعد أن لم يكن ظاهرًا، فساواه في الظهور لا في المقدار، أو يقال: لعل ذلك في السفر، فلعله أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر، وخص بعضهم الإبراد بالجماعة، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا مشهور مذهب المالكية، وبه قال الشافعيّ أيضًا، لكن خصه بالبلد الحار، وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدًا من بُعد، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كِنّ، فالأفضل في حقهم التعجيل وعند أبي حنيفة وأحمد وإسحاق والكوفيين يؤخر حتى يذهب الحر من غير تخصيص، ولا قيد، وكذلك المالكية لم يقيدوا بهذا.
واستدل التِّرمذيّ على عدم التخصيص بحديث أبي ذَرٍّ الآتي بعد هذا، لأن في روايته أنهم كانوا في سفر، وتأتي هذه الرواية قريبًا عند المصنف. قال: فلو كان على ما ذهب إليه الشافعي لم يأمر بالإِبراد، ولاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد. قال الترمذي: والأول أَوْلى للاتباع، وتعقبه الكرمانيّ بأن العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتخفيف، وطلب الرعي، فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة، وأيضًا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير تجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، وليس هناك كِنّ يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعيّ، وغايته أنه استنبط من النص العام، وهو الأمر بالإبراد معنى يخصه، وذلك جائز على الأصح في الأصول، لكنه مبني على أن العلة في ذلك تَأَذِّيهم بالحر في
طريقهم، وللمتمسك بعمومه أن يقول: العلة فيه تأذيهم بحر الرمضاء في جِباههم حالة السجود، ويؤيده حديث أنس:"كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالظهائر، سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر" رواه أبو عَوانة في صحيحه بهذا اللفظ، وأصله في مسلم. وفي حديث أنس أيضًا في الصحيحين نحوه. ويأتي قريبًا.
والجواب عن ذلك أن العلة الأُولى أظهر، فإن الإبراد لا يزيل الحر من الأرض، وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقًا. وقالوا: معنى أبردوا: صلوا في أول الوقت أخذًا من برد النهار، وهو أوله، وهذا تأويل بعيد، ويرده قوله:"فإن شدة الحر من فيح جهنم" إذ التعليل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير. وحديث أبي ذَرٍّ الآتي قريبًا صريح في ذلك، حيث قال: انتظر، والحامل لهم على ذلك حديث خبَّاب:"شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأَكُفِّنا، فلم يَشْكُنا"، أي: بضم الكاف، يعني: فلم يُزِل شكوانا وهو حديث صحيح رواه مسلم.
وتمسكوا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت، وبأن الصلاة حينئذ أكثر مشقة، فتكون أفضل. والجواب عن حديث خبَّاب أنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا عن وقت الإبراد، وهو زوال حر الرمضاء، وذلك يستلزم خروج الوقت، فلذلك لم يجبهم. قال المازريّ، وهذا هو أحسن الأجوية. وقيل: إنه منسوخ بأحاديث الإبراد، فإنها متأخرة عنه، واستدل الطحاويّ لذلك بحديث المغيرة بن شعبة. قال:"كنا نصلي مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا: "أبردوا بالصلاة
…
" الحديث، وهو حديث رجاله ثقات، رواه أحمد وابن ماجه، وصححه ابن حبان، ونقل الخلاّل عن أحمد أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الإبراد رخصة، والتعجيل أفضل. وهو قول من قال إنه أمر إرشاد، وعكسه بعضهم فقال: الإبراد أفضل، وحديث خبَّاب يدل على الجواز، وهو الصارف للامر عن الوجوب، وفيه نظر؛ لأن ظاهره
المنع من التأخير. وقيل: المعنى قول خبَّاب: فلم يُشْكِنا، أي: فلم يحوجنا إلى شكوى، بل أذن لنا في الإِبراد، ويردّه أن في الخبر زيادة رواها ابن المنذر بعد قوله:"فلم يشكنا"، وقال: إذا زالت الشمس فصلوا. قلت: يكفي من رد هذا قول خبّاب: "شكونا" فكيف يقال: لم يحوجهم إلى الشكوى؟
والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة أو مطلقة، والأمر بالإبراد خاص، فهو مقدم، ولا التفات إلى من قال التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل، لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل كما في قصر الصلاة في السفر.
وقوله: "بالصلاة"، كذا للأكثر، والباء للتعدية، وقيل زائدة، وفي رواية الكشميهني:"عن الصلاة"، فقيل: زائدة أيضًا، أو عن بمعنى الباء، كقوله تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ، أو هي للمجاوزة، أي: تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحَر، أو ضَمَّن أبردوا معنى التأخير، فعدى بعن، أي: إذا اشتد الحر فتأخروا عن الصلاة مبردين، أو أبردوا متأخرين عنها. وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه، وقد استشكل هذا بأن الفعل المذكور إن كان في معناه الحقيقي، فلا دلالة على الفعل الآخر، وإن كان في معنى الفعل الآخر فلا دلالة على معناه الحقيقي، وان كان فيهما جميعًا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز.
وأجيب بأنه في معناه الحقيقي مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر، بمعونة القرينة اللفظية. وقد يعكس كما مثلناه، ومنه قوله تعالى:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، أي: لتكبروه حامدين على ما هداكم، أو لتحمدوا الله مكبرين على ما هداكم، وكقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، أي: حال كونهم خارجين عن أمره، فإن قيل: صلة المتروك تدل على زيادة القصد إليه، فجعْله أصلًا، وجعْل المذكور حالًا وتبعًا أَوْلى، فالجواب أن ذكر صلته يدل على اعتباره في الجملة، لا على زيادة القصد إليه، إذ لا دلالة بدونه، فينبغي جعل الأول أصلًا، والتبع حالًا. وقوله: فإن شدة الحر من فيح جهنم،