الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والمئة
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَارِّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَي الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ أَبُو النَّضْرِ لَا أَدْرِي أَقَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً.
قوله: إن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جُهيم، هو كذلك في الموطأ، لم يختلف على مالك فيه أن المرسل هو زيد والمرسل إليه هو أبو جهيم، وتابعه سفيان الثَّوري عن أبي النضر عند مسلم، وابن ماجه وغيرهما، وخالفهما ابن عُيينة عن أبي النضر، فقال ابن بُسر بن سعيد: أرسلني أبو جُهيم إلى زيد بن خالد أسأله. قال ابن عبد البَرّ: رواية ابن عُيينة مقلوبة. وقال يحيى بن مَعين، حين سئل عنها: هي خطأ، إنما هو أرسلني زيد إلى أبي جُهيم، كما قال مالك. وتعقب ذلك ابن القطّان فقال: ليس خطأ ابن عُيينة بمتعيّن، لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بُسرًا إلى زيد بن خالد، وبعثه زيد إلى أبي جُهيم يستثبت كل واحد منهما ما عند الآخر.
قال في الفتح: تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن، فإذا أخطأ فلان في كذا لم يتعين خطؤه في نفس الأمر، بل هو راجح الاحتمال، فيعتمد، ولولا ذلك لما اشترطوا انتفاء الشاذ، وهو ما يخالف الثقة فيه من هو أرجح منه في حد الصحيح. قلت: يجاب عن ابن القطّان بأن ما قاله صاحب الفتح محله
حيث لا يمكن الجمع بين الروايات، وما قاله ابن القطّان إنما هو إظهار لإمكان الجمع بين الروايتين، فليتأمل.
وقوله: بين يدي المصلي، أي أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما، وقد مرَّ ما في تحديد ذلك من الخلاف. وقوله: ماذا عليه، زاد الكشميهنيّ "من الإثم" وهذه الزيادة شاذة ليست في شيء من الروايات عن مالك، ولا في السنن، ولا في المسانيد، ولا في المستخرجات، لكن في مصنف ابن أبي شيبة "يعني من الإثم" فيحتمل أن تكون ذكرت في حاشية على البخاري، فظنها الكشميهنيّ أصلا وقد قال النوويّ في شرح المهذَّب: رويناها في الأربعين لعبد القادر الهرويّ "ماذا عليه من الإثم".
وقوله: لكان أن يقف أربعينَ، يعني أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يَدَي المصلي، لاختار أن يقف المدة المذكورة، حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرمانيّ: جواب ليس هو المذكور، بل التقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيرًا له، وما قاله ليس بمتعين. قال: وأبهم المعدود تفخيمًا للأمر وتعظيمًا له. قال في الفتح: ظاهر السياق أنه عيّن المعدود، ولكن شك الراوي فيه، وفي ابن ماجه وابن حبّان عن أبي هريرة "لكان أن يقف مئة عام خير له من الخطوة التي خطاها" وهذا يُشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين.
وجنح الطحاويُ إلى أن التقييد بالمئة وقع بعد التقييد بالأربعين، زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معًا، إذ المئة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المئة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر. ومميز الأربعين، إن كان هو السنة ثبت المدعى أوما دونها فمن باب الأولى، وفي مسند البزار عن ابن عُيينة "لكان أن يقف أربعين خريفًا" وجعل ابن القطّان الجزم في طريق ابن عُيينة، والشك في غيره، والأعلى على التعدد. ورواه أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، وغيرهم من الحفاظ، عن ابن عيينة عن أبي النضر، على الشك أيضًا، وزاد فيه "أو ساعة" فيبعد أن يكون
الجزم والشك وقعا معًا من راوٍ واحدة، إلا أنْ يقال: لعله تذكر في الحال فجزم، وفيه بُعد.
وأبدى الكرمانيّ لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين: الأولى كون الأربعة أصل جمع الأعداد، فلما أريد التكثير ضربت في عشرة، والثانية كون كمال أطوار الإنسان بأربعين، كالنطفة والعلقة والمضغة، وكذا بلوغ الأَشُد، ويحتمل غير ذلك. درقوله: خيرًا له، بالنصب في رواية عليّ أنه خبر كان، ولبعضهم خير بالرفع، وهي رواية التِّرمذيّ، وأعربها ابن العربيّ على أنها اسم كان، وأشار إلى تسويغ الابتدا بالنكرة، لكونها موصوفة، ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها.
وقوله: من أن يمر بين يديه، أي المصلي، لأن عذاب الدنيا، وإن عَظُم، يسيرٌ. وقوله: قال أبو النضر، وهو كلام مالك، وليس من تعليق البخاريّ، لأنه ثابت في الموطأ في جميع الطرق، وكذا ثبت في رواية الثَّوري وابن عُيينة. قال النوويّ: فيه دليل على تحريم المرور، فإن معنى الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر. وفيه أخذ القرين عن قرينه ما فاته، أو استثباته فيما سمع معه، وفيه الاعتماد على خبر الواحد؛ لأن زيدًا اقتصر على النزول مع القدرة على العلو، واكتفاء رسوله المذكور.
وفيه استعمال لو في باب الوعيد، ولا يدخل في ذلك في النهي، لأن محل النهي أن يُشعر بما يعاند المقدور، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب القدر. واستنبط ابن بطال من قوله "لو يعلم" أن الإثم يختص بمن يعلم بالنهي، وارتكبه، وأخذه من ذلك فيه بعد، ولكنه معروف من أدلة أخرى. وظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مرَّ، لا بمن وقف عامدًا مثلًا بين يدي المصلي، أو قعد أو رقد، لكنْ إن كانت العلة هي التشويش على المصلي فهو في معنى المار. قلت: مذهب مالك تناول المرور لكل مشوّش من تناول شيء بين يديه أو كلام نحو ذلك، وظاهره أيضًا عموم النهي في كل مصلٍ. وخصه بعض المالكية بالإمام والفَذّ، لأن المأموم لا يضره من مرَّ بين يديه، لأن سترة