الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المساجد" وإسناده صحيح إلى عمرو، فمن يصحح نسخته يصححه، وفي المعنى عدة أحاديث، لكن في أسانيدها مقال، فالجمع بينهما وبين حديث الباب أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، والمأذون فيه ما سلم من ذلك. وقيل: المنهيُّ عنه ما إذا كان التناشد غالبًا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه.
وقد قال مالك وأبو حنيفة والشافعى وأحمد والنَّوويِّ والأوزاعيّ والشَّعبيّ وغيرهم: لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا لم يكن فيه هجاء ولا فحش، ولا نكب عرضِ أحدٍ من المسلمين. وقال بكراهة روايته وإنشاده في المسجد مسروق وإبراهيم النخعيّ وسالم بن عبد الله والحسن البصريّ، وأبعد أبو عبد الملك البونيّ فأعمل أحاديث النهيّ، وادعى النسخ في حديث الباب، ولم يوافق على ذلك. حكاه ابن التين عنه وقال: إنه طرد هذه الدعوى فيما يأتي من دخول أصحاب الحراب المسجد، وكذا دخول المشرك المسجد، وفي الحديث جواز الاستنصار من الكفار، قال العلماء: ينبغي أن لا يُبْدأ المشركون بالسب والهجاء، مخافة من سبهم الإِسلام وأهله، قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} ولتنزيه ألسنة المسلمين عن الفحش، إلَاّ أن تدعو إلى ذلك ضرورة، كابتدائهم به، فيكفُّ أذاهم أو نحوه، كما فعله عليه الصلاة والسلام. وفيه استحباب الدعاء لمن قال شعرًا مثل قصة حسان، وفيه فضيلة لحسّان.
رجاله ستة:
الأول: أبو اليمان.
والثاني: شعيب بن أبي حمزة، وقد مرا من السابع من بدء الوحي، ومرَّ ابن شهاب في الثالث منه، ومرَّ أبو سلمة في الرابع منه، ومرَّ أبو هريرة في الثاني من كتاب الإيمان.
السادس: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد بن
عديّ بن عمرو بن مالك بن النجار، الخزرجيّ، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه الفُرَيعة، بالفاء والعين المهملة مصغرًا، بنت خالد بن حُبَيش بن لَوْذان، خزرجية أيضًا، أدركت الإِسلام فاسلمت وبايعت، وقيل هي أخت خالد لا ابنته، والأشهر في كنيته أبو الوليد، وقيل أبو المُضَرَّب، وقيل أبو عبد الرحمن. قال أبو عبيدة: فُضّل حسان بن ثابت على الشعراء بثلاثة، كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم أيام النبوءة، وشاعر اليمن كلها في الإِسلام.
وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب مرَّ بحسان في المسجد وهو ينشد، فلحظ إليه فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أجب عني، اللهم أيده بروح القُدُس؟ " وأخرج أحمد أن عمر قال: أفي مسجد رسول الله تنشد الشعر؟ فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك. وفي الصحيحين عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "اهجهم أو هاجهم وجبريل معك "وروى أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد، يقوم عليه قائمًا يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن روح القدس مع حسّان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ومن حديث سِماك بن حرب وأبي إسحاق "أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش عبد الله بن الزبَعْرى وأبو سفيان بن الحارث وعمرو بن العاص وضرار بن الخطاب، فقال قائل لعلي: اهج عنا القوم، فقال: إن أذن لي النبي صلى الله عليه وسلم فعلت، فقالوا: يا رسول الله: ائذن له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عليًا ليس عنده ما يراد في ذلك منه، أو ليس في ذلك هناك، ثم قال: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها، وأخذ بطرَف لسانه، وقال: والله ما
يسرني به مِقْوَل بين بُصرى وصنعاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ فقال: والله لأَسُلَّنَّكَ منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له: ائت أبا بكر، فإنه أعلم بأنساب القوم منك، فكان يمضي إلى أبي بكر ليفقهه في أنسابهم، وكان يقول له: كُفّ عن فلانة وفلانة، واذكر فلانة وفلانة، فجعل يهجوهم، فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، أو من شعر ابن أبي قحافة، فمن شعر حسان في أبي سفيان بن الحارث:
وإن سنام الجد في آل هاشم
…
بنو بنت مخزوم ووالدك العبدُ
ومن ولدت أبناء زهرة منهم
…
كرام ولم يقرب عجائزك المجد
ولست كعباس ولا كابن أمه
…
ولكن لئيم لا يقوم له زَند
وإن امرأً كانت سمية أمه
…
وسمراء مغمور إذا بلغ الجهد
وأنت هجين نيط في آل هاشم
…
كما نيطَ خلف الراكب القدَح الفردُ
فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان قال: هذا الكلام لم يغب عنه ابن أبي قحافة، ويعنى بقوله بنت مخزوم فاطمة بنت عمرو بن عائذ، وهي أم أبي طالب وعبد الله والزبير بني عبد المطلب، وعنى بقوله "ومن ولدت أبناء زهرة منهم" حمزة وصفية وأمهما هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، والعباس وابن أمه ضرار بن عبد المطلب أمهما نُتَيلة امرأة من النَّمر بن قاسِط، وسمية أم أبي سفيان، وسمراء أم أبيه، ومن قول حسان أيضًا في أبي سفيان:
هجوت محمدًا فأجبتُ عنه
…
وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت مطهرًا برَّاً حنيفًا
…
أمين الله شيمته الوفاء
أتهجوه ولست له بكفء
…
فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالده وعرضي
…
لعرض محمد منكم وقاء
وهذا الشعر أوله:
عفت ذات الأصابع فالجواء
…
إلى عذراء منزلها خلاء
قال مصعب الزبيري: هذه القصيدة قال حسان صدرها في الجاهلية وآخرها في الإِسلام، وهجم حسان على فتية يشربون الخمر فعيرهم في ذلك فقالوا: يا أبا الوليد، ما أخذنا إلا منك، وإنا لنهم بتركها، ثم يثبطنا عن ذلك قولك:
ونشربها فتتركنا ملوكًا
…
وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء
فقال: هذا شيء قلته في الجاهلية، والله ما شربتها منذ أسلمت. قال ابن سيرين: وانتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار: حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، وكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر، ويذكران مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع، فكان قوله يومئذ أهون القول عليهم، وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم فلما أسلموا وفقهوا كان أشد القول عليهم قول عبد الله بن رواحة. وقال صلى الله عليه وسلم في حسان:"إن قوله فيهم أشد عليهم من وقع النبل" وقد مرَّ نهي عمر له عن إنشاد الشعر في المسجد، وما أجابه به.
وروي عن عمر أنه نهى أن ينشد شيئاً من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحيّ والميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإِسلام. قال أبو عبيدة: اجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدن يثرب ثم عيبد القيس ثم ثقيف، وعلى أن أشعر أهل المدن حسان بن ثابت، وعن أبي عُبيدة وأبي عمرو بن العلاء أنهما قالا: حسان أشعر أهل الحضر، وقال أحدهما: أهل المدن. وقال الأصمعي حسان أحد فحول الشعراء. وقال مرّة: شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر. وقيل لحسان: لان شعرك أو هَرِم في الإِسلام يا أبا الحُسام؟ فقال للقائل: يا ابن أخي إن الإِسلام يحجز عن الكذب، أو يمنع من الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب، يعني أنّ شأن التجويد في الشعر الإفراط في الوصف، والتزيين بغير الحق،
وذلك كله كذب، وقال الحطيئة: أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب حيث يقول:
يغشَون حتى ماتَهِرُّ كلابهم
…
لا يسألون عن السَّوادِ المقبل
قال عبد الملك بن مروان: أمدح بيت قالته العرب بيت حسان هذا، ومن جيد شعر حسان ما ارتجله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدوم وقد بني تميم، إذ أتوه بخطيبهم وشاعرهم، ونادوه من وراء الحجرات، فأنزل الله فيهم {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية، فخرج إليهم، وخطب خطيبهم مفتخرًا، فلما سكت، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن شمّاس أن يخطب بمعنى ما خطب به خطيبهم، فخطب ثابت فأحسن، ثم قام شاعرهم وهو الزِّبرقان بن بدر فقال:
نحن الملوك فلا حيٌّ يقاربنا
…
فينا العلاء وفينا تنصب البيَعُ
ونحن نطعمهم في القحط ما أكلوا
…
من العبيط إذا لم يؤنس القَزَع
وننحر الكُوْم عبطًا في أرومتنا
…
للنازلين إذا ما نَزَّلوا شبعوا
تلك المكارم حزناها مقارعة
…
إذا الكرام على أمثالها اقترعوا
ثم جلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: قم، فقال:
إن الذوائب من فهرو إخوتهم
…
قد بينوا سنة للناس تتبعُ
يرضى بها كل من كانت سريرته
…
تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
…
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
لو كان في الناس سباقون بعدهم
…
فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم
…
عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
ولا يضنون عن جار بفضلهم
…
ولا يمسهم في مطمع طَبَعُ
أعفة ذكرت في الناس عفتهم
…
لا يبخلون ولا يرديهم طمعُ
خذ منهم ما أتوا عفواً إذا عطفوا
…
ولا يكن همك الأمر الذي منعوا
فإنّ في حربهم فاترك عداوتهم،
…
شرًا يخاض إليه الصَّابُ والسَّلعُ
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم
…
إذا تفرقت الأهواء والشيعُ
فقال التميميون عند ذلك: وربكم إن خطيب القوم أخطب من خطيبنا، وإن شاعرهم أشعر من شاعرنا، وما انتصفنا، ولا قاربنا. وروي عن عائشة أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان والله كما قال فيه شاعره حسان:
متى يبد في الداجي البهيم جبينه
…
يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أم من قد يكون كأحمد
…
نظام لحقٍ أو نَكال لملحد
وقال أهل السِّير والأخبار: إن حسانًا من أجبن الناس، وإنه لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من مشاهده لجبنه، وفي المغازي لابن إسحاق قال كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسّان بن ثابت، قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل يهوديّ، فجعل يطيف بالحصن، فقالت له صفية: إن هذا اليهودي لا آمنه أن يدل على عوراتنا، فأنزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يابنت عبد المطلب، عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية: فلما قال ذلك أخذتُ عمودًا ونزلت من الحصن حتى قتلت اليهوديّ، فقلت لحسان: أنزل فاسلبه، فقال: ما لي بسَلبهِ من حاجة. قال ابن عبد البر أنكر بعض أهل العلم بالخبر ذلك، وقالوا: لو كَان لَهُجي به، فإنه قد هجا قومًا فلم يهجه أحد منهم بالجبن، ولو كان ذلك لهجي به. وقيل: إنما أصابه ذلك الجبن منذ ضَرَبَه صَفوانُ بن المُعَطَّل بالسيف.
وقال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حسانًا عوضًا من ضربة صفوان الموضعَ الذي بالمدينة، وهو قصر بني جَديلة، وأعطاه سِيْريِنَ، أمةً قبطية، فولدت له عبد الرحمن بن حسان، قال ابن عبد البَرّ: أما إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرين أخت مارية لحسان، فمرويّ من وجوه، وأكثرها أن ذلك ليس لضربة صفوان، بل لذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه في هجاء المشركين له، وقال قوم: إن حسان كان ممن خاض في الإفك على عائشة، وإنه جلد في ذلك. وأنكر قوم أن يكون ذلك وقع منه