الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ:"وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا. فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ:"إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّى الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ".
قوله: لا أدري، زاد أو "نقص" أي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، ولابن عساكر "أزاد" بالهمزة، والمراد أن إبراهيم شك في سبب سجود السهو المذكور، هل كان لأجل الزيادة أو النقصان، لكن في الباب الذي بعده من رواة الحكم عن إبراهيم بإسناده هذا أنه صلى خمسًا، وهو يقتضي الجزم بالزيادة، فلعله شك لما حدّث منصورًا وتيقن لما حدّث الحكم، وقد تابع الحكم على ذلك حماد بن أبي سليمان وطلحة بن مصرف وغيرهما. وعين في رواية الحكم وحماد أيضًا أنها الظهر، ووقع للطبرانيّ من رواية طلحة بن مصرف أنها العصر، وما في الصحيح أصح.
وقوله: أحَدَث بفتحات، ومعناه السؤال عن حدوث شيء من الوحي يوجب تغيير حكم الصلاة عما عهدوه، ودل استفهامهم عن ذلك على جواز النسخ عندهم، وأنهم كانوا يتوقعونه. وقوله: وما ذاك؟، فيه إشعار بأنه لم يكن عنده
شعور بما وقع منه من الزيادة. وقوله: صليت كذا وكذا، كناية عمّا وقع إمّا زائد على المعهود أو ناقص عنه، وقوله: فثنى رجله، بتخفيف النون، أي عطف، وبإفراد رجله بأن جلس كهيئة قعود المتشهد، وللكشميهنيّ والأصيلي "رجليه" بالتثنية. وقوله: واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، ومناسبة الحديث للترجمة من قوله هذا "واستقبل القبلة" فدل على عدم ترك الاستقبال في كل حال من أحوال الصلاة، واستدل به على رجوع الإِمام إلى قول المأمومين، لكن يحتمل أن يكون تذكر إذ ذاك، أو علم بالوحي، أو أن سؤالهم أحدث عنده شكًا، فسجد لوجود الشك الذي طرأ، لا لمجرد قولهم.
وبالرجوع إلى قول المأمومين قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، ولكن عند مالك لابد أن يكون رجوعه لقول مأمومَيْن عدلَين عند إخبارهما له بالزيادة. وأما النقص فيرجع فيه لكل مخبر، وعند الشافعية لا يرجع المصلي في قدر صلاته إلى قول غيره، إمامًا كان أو مأمومًا، ولا يعمل إلا على يقين نفسه. وأجابوا عن الحديث بما مرّ قريبًا من الاحتمالات، وقد قال الشافعي: معنى قوله: فذكِّروني أي لأتذكر، وقيد مالك وغيره رجوع الإِمام إلى قول المأمومين، بما إذا كان الإِمام مجوزًا لوقوع السهو منه، بخلاف ما إذا كان متحققًا لخلاف ذلك، أخذًا من ترك رجوعه عليه الصلاة والسلام لذي اليدين، ورجوعه للصحابة.
وفرق بعض المالكية والشافعية بين ما إذا كان المخبرون ممن يحصل العلم بخبرهم فيقبل، ويقدم على ظن الإِمام، أنه كمل الصلاة بخلاف غيرهم، ودل قوله "وسجد سجدتين" على أن سجود السهو سجدتان، وهو قول عامة الفقهاء، فلا يتكرر بتكرر السهو، ولو اختلف الجنس، خلافًا للأوزاعيّ وابن أبي ليلى، وروى ابن أبي شيبة عن النخعيّ والشعبيّ أن لكل سهو سجدتين، وورد على وفقه حديث ثَوبان عند أحمد، وإسناده منقطع، وحمل على أن معناه أن من سها بأي سهو كان شُرِع له السجود، أي لا يختص بما سجد فيه الشارع. وروى البيهقيّ من حديث عائشة "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان".
واختلف العلماء في حكم السجدتين، وفي محلهما. فقالت الشافعية
والمالكية: انه مسنون كله. وعن الحنابلة
…
التفصيل بين الواجبات غير الأركان، فيجب لتركها سهوًا وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول، يبطلها عمده، وعن الحنفية واجب كله. وقال الكرخيّ منهم: إنه سنة، وحجتهم في الوجوب حديث ابن مسعود عند المؤلف "فليسجد سجدتين" ومثله لمسلم من حديث أبي سعيد، والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولاسيما مع قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي".
ومحله عند مالك إن كان لنقص محض أو لنقص وزيادة، فهو قبل السلام، وإن كان لزيد محض فهو بعد السلام. وقال أحمد يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام. قال: ولولا ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيته كله قبل السلام؛ لأنه من شأن الصلاة، فيفعله قبل السلام. وفي المغني: السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام، وهما: إذا سلّم من نقص في صلاته، أو تحرّى الإِمام فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام، وبقول مالك: قال أبو ثَور وقال سليمان بن داود وابن المنذر وأبو خيثمة بقول أحمد. وعند الشافعية سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية كله قبل السلام. واعتمد الحنفية على حديث الباب، وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلَّا بعد السلام، حين سألوه هل زِيد في الصلاة؟
وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام، لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة في الصلاة، لأنه كان زمان توقع النسخ، وأجاب بعضهم بما وقع في حديث ابن مسعود من الزيادة، وهي "وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين" وأجيب بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم، ولفظه "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك، وليس على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم" وبه تمسك الشافعية.
وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، وهذا الاستدلال والجواب إنما هو بالنسبة لمذهب الشافعية، وأما مذهب المالكية والحنابلة فلا يرد عليهما شيء مما ذكر. وقال النوويّ: أقوى المذاهب في السجود قول مالك ثم أحمد، وقال غيره: بل طريق أحمد أقوى، وأما داود فجرى على ظاهريته فقال: لا يشرع سجو السهو إلا في المواضع التى سجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ورجح البيهقيّ طريقة التخيير في سجو السهو قبل السلام أو بعده، ونقل الماورديّ وغيره الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا أطلق النوويّ. وتعقب بأن إمام الحرمين نقل في "النهاية" الخلاف في الإجزاء عن المذهب، واستبعد القول بالجواز، وكذا نقل القرطبيّ الخلاف في مذهبهم، وهو مخالف لما قاله ابن عبد البر من أنه لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو كله قبل السلام أو بعده، أنه لا شيء عليه، فيجمع بأن الخلاف بين أصحابه، لا عنه هو.
والخلاف عند الحنفية قال القدوريّ: لو سجد للسهو قبل السلام؛ روى عن بعض أصحابنا لا يجوز؛ لأنه أدّاه قبل وقته، وصرح صاحب الهداية بأن الخلاف عندهم في الأولوية، وقال ابن قُدامة في المقنع: من ترك سجود السهو الذي قبل السلام بطلت صلاته إن تعمد، وإلا فيتداركه ما لم يطل الفصل. ويمكن أن يقال الإجماع الذي نقله الماورديّ وغيره قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة. وقال ابن خُزيمة: لا حجة للعراقيين في حديث ابن مسعود، يعني المتقدم استدلالهم به؛ لأنهم خالفوه فقالوا: إن جلس المصلي في الرابعة مقدار التشهد أضاف إلى الخامسة سادسة، ثم سلّم، وسجد للسهو. وإن لم يجلس في الرابعة لم تصح صلاته، ولم ينقل في حديث ابن مسعود إضافة سادسة، ولا اعادة، ولابد عندهم من أحدهما. قال: ويحرم على العالم أن يخالف السنة بعد علمه بها.
ودل الحديث على أن كلام الناسي والعامد لإصلاح الصلاة لا تبطل الصلاة به، قال أبو عمر: ذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الكلام والسلام سهوًا
في الصلاة لا يبطلها، كقول مالك وأصحابه سواء، وإنما الخلاف بينهما إن مالكًا يقول: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها في إصلاحها، وهو قول ربيعة وأحمد بن حنبل، روى الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإِصلاحها لم تفسد صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت عليه. وذكر الخرقيّ عنه أن مذهبه فيمن تكلم عامدًا أو ناسيًا بطلت صلاته، إلا الإِمام خاصة، إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل.
وقيد عند المالكية الكلام لإصلاحها بأن لا يزيد على خمس كلمات، وبأن لا يفهم بالتسبيح وإلا فسدت. وقال الشافعيّ وأصحابه: إن تعمد الكلام وهو يعلم أنه في الصلاة، وأنه لم يتمها، فسدت صلاته، فإن تكلم ناسيًا، أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لا تبطل. وأجمعوا على أن الكلام عمدًا من عالم أنه في الصلاة غير قاصد لإصلاحها مبطلٌ للصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي من أن من تكلم لإحياء نفسٍ أو نحو ذلك من الأمور العظام لم تفسد صلاته.
وأجابت الشافعية عن حديث الباب وحديث ذي اليدين الدالين على أن الكلام لإصلاحها لا يضر، بأنه عليه الصلاة والسلام لم يتكلم إلا ناسيًا، وأما قول ذي اليدين له: بلى نسيت، وقول الصحابة له؟ صدق ذو اليدين، فإنهم تكلموا معتقدين النسخ في وقت يمكن وقوعه، فتكلموا ظنًا أنهم ليسوا في صلاة، وهذا فاسد؛ لأنهم كلموه بعد قوله عليه الصلاة والسلام "لم تقصر" وأجابوا أيضًا بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومؤوا كما عند أبي داود في رواية ساق مسلم إسنادها. وهذا اعتمده الخطابى وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ بخلاف غيره، فينبغي أن ترد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه. قلت: كيف يرد الصريح الذي في الصحيح إلى ما هو أضعف منه؟ وأجابوا أيضًا على ترجيح أنهم نطقوا بأن كلامهم كان جوابًا للنبي عليه الصلاة والسلام، وجوابه لا يقطع الصلاة، ورُدَّ هذا بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة، وأجيب بأنه ثبتت مخاطبته في التشهد وهو حي بقولهم "السلام عليك أيها النبي" ولم تفسد الصلاة، والظاهر أن ذلك من خصائصه.
قلت: هم في حالة التشهد، وإن كان اللفظ بصيغة الخطاب، لم يقصدوا خطابه، إذ لو قصدوه لجهروا له به ليُسمعوه. ويدل على ذلك استمراره بعد موته عليه الصلاة والسلام في البلاد النائية التي لا يمكن قصد الخطاب منها، بل إنما ورد اللفظ بالخطاب ليلة الإِسراء له عليه الصلاة والسلام من رب العزة، واستمر اللفظ على ما ورد عليه.
قالوا: ويحتمل أن يقال: ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يراجع المصلي، فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة، فلا يختص الجواز بالجواب، لقول ذي اليدين: بلى قد نسيت، ولم تبطل صلاته.
قلت: قول ذي اليدين جواب ليس بخارج عنه. وقالت الحنفية: لا يجوز الكلام في الصلاة إلاّ بالتكبير والتسبيح والتهليل وقراءة القرآن. ولا يجوز أن يتكلم فيها لأجل شيء حدث من الإِمام في الصلاة، والكلام يبطل الصلاة، سواءً كان عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، وسواءً كان إمامًا أو منفردًا، وهو مذهب إبراهيم النخعيّ وقتادة وحماد بن أبي سليمان وعبد الله بن وهب وابن نافع من أصحاب مالك. واحتجوا في ذلك بحديث معاوية بن الحكم السلميّ، أخرجه مسلم مطولًا، وأخرجه أبو داود والنَّسائيّ، وفيه "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" قالوا: إن هذا نص صريح في تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدًا أو ناسيًا، لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فإن احتاج إلى تنبيه إمام ونحوه سبّح إن كان رجلًا، وصفقت إن كانت امرأة.
والتصفيق ضرب ظاهر إحدى يديها على باطن الأخرى. وقيل: بأصبعين من إحداهما على صفحة الأخرى للإنذار. وقالوا: إن حديث ذي اليدين الدال على إباحة الكلام لإصلاح الصلاة كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، وهذا مردود لأنه اعتمد قول الزهريّ إنها كانت، أي قصة ذي اليدين، قبل بدر. وهو وهم: أو تعددت القصة لذي الشِّمالين المقتول ببدر، ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبي صلى الله عليه وسلم. فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة وإسلامه متأخر،
وشهدها عمران بن حصين، وإسلامه متأخر أيضًا.
وروى معاوية بن حُديج، بمهملة وجيم مصغر، قصة أخرى في السهو، ووقع فيها الكلام ثم البناء، أخرجها أبو داود وابن خزيمة وغيرهما. وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين. وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم "ونُهينا عن الكلام" أي إذا وقع سهوًا أو محمدًا لمصلحة الصلاة، فلا يعارض قصة ذي اليدين. واستدل بالحديث على أن المقدَّر في حديث "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" أي إثمهما وحكمهما، خلافًا لمن قصره على الإثم. وقوله: لنبأتكم به، أي بالحدوث، واللام في "لنبأتكم" لام الجواب، ومفعوله الأول ضمير المخاطبين، والثاني به، وفيه أنه كان يجب عليه تبليغ الأحكام إلى الأمة، ودل على عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقوله: ولكن إنما أنا بشر مثلكم، يعني بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن المخاطبين، لا بالنسبة إلى كل شيء. وقوله: أنسى كما تنسَون، بهمزة مفتوحة وسين مخففة، ومن قيده بضم أوله وتشديد ثالثه لم ينايسب التشبيه، وفي هذا حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع: وإن كان عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال، لكنهم تعقبوه، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبي السهو، وهذا الحديث يرد عليهم، لقوله صلى الله عليه وسلم فيه "أنسى كما تنسون".
وقوله: فإذا نسيت فذكرِّوني، وقوله فيه: إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون، فأثبت العلة قبل الحكم، وقيد الحكم بقوله: إنما أنا بشر، ولم يكتف بإثبات وصف النسيان حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا، فقال: كما تنسون، ولكن اتفق من جوز ذلك عليه على أنه لا يُقَرّ عليه، بل يقع له بيان ذلك إما متصلًا بالفعل، أو بعده، كما وقع في حديث ذي اليدين من قوله "لم أنس ولم تقصر" ثم تبين أنه نسي. ومعنى قوله في هذا الحديث "لم أنس" أي في اعتقادي، لا في نفسي الأمر. ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين. وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره.
وأجاب من منع السهو مطلقًا عن حديث ذي اليدين بأجوبة، فقيل: قوله "لم أنس" نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو، وهذا قول من فرَّق بينهما، والتفرقة بينهما مردودة، ويكفي من ردها إضافته صلى الله عليه وسلم النسيان لنفسه في قوله "أنسى" وإقراره للصحابيّ في قوله "بلى قد نسيت".
وقيل: قوله "لم أنس" على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك، ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول، وتعقب هذا بحديث ابن مسعود في الباب، ففيه "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون" فأثبت العلة قبل الحكم
…
إلخ ما مرَّ قريبًا. وبهذا الحديث يرد قول من قال: معنى قوله "لم أنس" إنكار اللفظ الذي نفاه عن نفسه، حيث قال "إني لا أنسى ولكن أُنَسَّى" وإنكار اللفظ الذي أنكره على غيره، حيث قال:"بئسما لأحدكم أن يقول نسيتُ آية كذا وكذا" وتعقب هذا بأن حديث "إني لا أنسى ولكن أُنَسَّى" من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد. قاله في الفتح.
قلت: البلاغات التي لم توصل أربعة لم يصلها ابن عبد البر، ووصل جميع ما في الموطأ من البلاغات سواها، ولكن وصلها ابن الصلاح في تأليف مستقل، كما ذكره صالح العمريّ الفِلَاّني في حواشيه على ألفية السيوطي في مصطلح الحديث. ثم قال: وأما الآخر، فلا يلزم من ذم إضافته نسيان الآية ذمَّ إضافة نسيان كل شيء، فإن الفرق بينهما واضح جدًا.
وقيل: إن قوله "لم أنس" راجع إلى السلام، أي سلمت قصدًا بانيًا على ما في اعتقادي أني صليت أربعًا، وهذا جيد، وكأنَّ ذا اليدين فهم العموم فقال: بلى قد نسيت، وكان هذا القول أوقع شكًا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كونُ ذي اليدين عدلًا، ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسؤول مغايرٍ لما في اعتقاده.
وقوله: وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه. ولمسلم "فأيكم شك في صلاته فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب" وفي روايته له "فليتحرَّ
أقرب ذلك إلى الصواب" وفي رواية له "فليتحر الذي يرى أنه الصواب" زاد ابن حبَّان "فليتم عليه" واختلف في المراد بالتحري فعند المالكية والشافعية هو البناء على اليقين لا على الأغلب، لأن الصلاة في الذمة بيقين، فلا تسقط إلاّ بيقين، ويفسر التحري المذكور هنا حديث أبي سعيد عند مسلم بلفظ "وإذا لم يدر أصلّى ثلاثًا أو أربعًا فليطرح الشك، ولْيَبْنِ على ما استيقن" وفي جامع سفيان عن ابن عمر قال "إذا شك أحدكم في صلاته فليتوخَّ حتى يعلم أنه قد أتم".
وقالت الحنفية: التحري هو الأخذ بغالب الظن، ولا يلزمه الاقتصار على الأقل إلا إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يبني حينئذ على الأقل. قال أبو حنيفة: إن طرأ شك أولًا استأنف، وإن كثر بني على غالب ظنه، وإلاّ فعلى اليقين، وما ذهبوا إليه هو ظاهر الروايات التي عند مسلم. وعن أحمد في المشهور: التحري يتعلق بالإمام، فهو الذي يبني على ما غلب على ظنه، وأما المنفرد فيبني على اليقين دائمًا، وعن أحمد رواية أخرى كالشافعية، وأخرى كالحنفية.
وحكى الأثرم عن أحمد في معنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا غرار في صلاة" قال: أن لا يخرج منها إلا على يقين، وهذا يقوّي ما ذهبت إليه المالكية. ونقل النوويّ أن الجمهور معهما، وأنّ التحري هو القصد. قال تعالى {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14]. وقال ابن حبّان في صحيحه: البناء غير التحري، فالبناء أن يشك في الثلاث أو الأربع مثلًا، فعليه أن يلغي الشك، والتحري أن يشك في صلاته فلا يدري ما صلى، فعليه أن يبني على الأغلب عنده. وقال غيره: التحري لمن اعتراه الشك مرة بعد أخرى، فيبنى على غلبة ظنه، وبه قال مالك وأحمد. وأبعد من زعم أن التحري في الخبر مُدْرَج من كلام ابن مسعود، أو ممن دونه، لتفرد منصور بذلك عن إبراهيم دون رفقته، لأن الإدراج لا يثبت بالاحتمال.
وقوله: ثم يسلم ثم يسجد سجدتين، أي لا واحدة. كالتلاوة، وعبر بلفظ الخبر في هذين الفعلين، وبلفظ الأمر في السابقين، وهما فليتحرَّ، وليتمَّ،