المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المحتويات الافتتاحية الإسلام هو الدين الحق وما سواه من الأديان باطل سماحة - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن

- ‌ تعليم الكافر القرآن:

- ‌الفتاوى

- ‌ مات المسلم ولم يقض فريضة الحج وهو مستكمل لشروط وجوبها

- ‌ اضطره عمله أن يغادر منى بعد الوقوف بعرفة ورمي الجمرة بعد فجر يوم النحر

- ‌ هل أحج عن والدي اللذين ماتا ولم يؤديا فريضة الحج لفقرهما

- ‌ حج من قبل وأنزل بعد التحلل الأول

- ‌ أخر رمي الجمار في اليوم الحادي عشر حتى أدركه الليل

- ‌ المسلمة التي حاضت في أيام حجها

- ‌ رمى الجمار في الليلة الثانية من ليالي التشريق

- ‌ ترك المبيت بمزدلفة

- ‌ صلى صلاتي المغرب والعشاء قصرا وجمع تأخير قبل دخول مزدلفة

- ‌ رمي جمرة العقبة ليلا

- ‌ ترك المبيت بمنى أيام التشريق

- ‌ ترك المبيت بمنى ليلة واحدة لعذر المرض

- ‌ رمي جمار أيام التشريق كلها في يوم واحد

- ‌ المراد باليومين اللذين أباح الله جل وعلا للمتعجل الانصراف من منى بعد انقضائهما

- ‌ وقت رمي الجمار جمار أيام التشريق الثلاثة

- ‌ هل يجب الهدي على أهل مكة لمن أحرم منهم بالحج فقط

- ‌ فاته الركوع الثاني في صلاة الكسوف

- ‌ فضل هذه الكلمة:

- ‌ إعرابها وأركانها وشروطها:

- ‌ معنى هذه الكلمة ومقتضاها:

- ‌ متى ينفع الإنسان قول لا إله إلا الله

- ‌النسيان في القرآن

- ‌النسيان ظاهرة بشرية:

- ‌تناول القرآن لهذه الظاهرة الإنسانية:

- ‌النوع الأول: النسيان الحقيقي

- ‌ في صورة النفي:

- ‌ في صورة الدعاء أو الالتماس:

- ‌ أخبار قرآنية تتصل بالنسيان:

- ‌النوع الثاني: النسيان المقصود:

- ‌بواعث النسيان:

- ‌عقوبة النسيان

- ‌الذكر في القرآن

- ‌ صلة حديث الذكر بحديث النسيان

- ‌ألفاظ الذكر في القرآن وأوضاعها اللغوية والنحوية:

- ‌الذكر بمعنى الحديث:

- ‌الذكر بمعنى الشأن والشرف:

- ‌الذكر بمعنى الكتاب المنزل أو النبي المرسل:

- ‌ذكر الله

- ‌الذكر عبادة والعبادة ذكر:

- ‌ذكر اسم الله:

- ‌واذكر ربك:

- ‌الإعراض عن الذكر. . وآثاره وبواعثه

- ‌مصير الغافلين:

- ‌ منزلة الذاكرين:

- ‌التذكر والتذكير في القرآن

- ‌التذكير منهج لرسالات السماء:

- ‌ التذكر منطلق المسئولية:

- ‌بواعث التذكر

- ‌مصادر البحث:

- ‌«أنزل القرآن على سبعة أحرف

- ‌ السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف

- ‌مصادر البحث والتحقيق

- ‌ رواية أنس رضي الله

- ‌الإسناد وأهميته في نقد الحديث النبوي

- ‌ المحاولة للقضاء على الفتنة:

- ‌ أهمية الإسناد:

- ‌ الإسناد ركن من ركني الحديث:

- ‌ دور الرحلة في خدمة الإسناد:

- ‌ أثر الإسناد في نقد الحديث:

- ‌ استعمال الإسناد لرواية الكتب:

- ‌ الإسناد من اختصاص المسلمين:

- ‌ محمد بن عبد الوهابعبقري العصر وأستاذ الجيل

- ‌تمهيد:

- ‌عودة الجاهلية الأولى:

- ‌الجاهلية تعم المسلمين:

- ‌حياة الشيخ:

- ‌وفاة الشيخ:

- ‌آثار الشيخ العلمية:

- ‌الشيخ كان أسوة:

- ‌محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري

- ‌نسبه وأيامه الأولى:

- ‌قائد السرايا:

- ‌ سريته إلى كعب بن الأشرف

- ‌ سريته إلى القرطاء:

- ‌ سريته إلى ذي القصة:

- ‌مع الخلفاء الراشدين

- ‌ مع عثمان:

- ‌ اعتزال الفتنة الكبرى:

- ‌الإنسان:

- ‌القائد:

- ‌محمد بن مسلمة في التاريخ

- ‌لقاء مع الداعية البريطانيالمسلميوسف إسلام

- ‌متى ثبتت رؤية الهلالثبوتا شرعياوجب العمل بها ولم يجزأن تعارض بكسوف ولا غيره

- ‌حكم الحيوان المذبوح بالصعق الكهربائي

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ ‌المحتويات الافتتاحية الإسلام هو الدين الحق وما سواه من الأديان باطل سماحة

‌المحتويات

الافتتاحية

الإسلام هو الدين الحق وما سواه من الأديان باطل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7

موضوع العدد

من أحكام القرآن الكريم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 13

الفتاوى

فتاوى خاصة بالحج اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 65

أسئلة وأجوبة في الحج سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز 83

اللجنة الدائمة تجيب على أسئلة موجهة إلى سماحة الرئيس العام اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 91

فتوى حول من فاته الركوع الثاني من صلاة الكسوف اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 99

بحوث في العقيدة

إقامة البرهان على من أنكر خروج المهدي والدجال للشيخ حمود بن عبد الله التويجري 101

حقيقة لا إله إلا الله للشيخ صالح بن فوزان الفوزان 115

بحوث في علوم القرآن

الذكر والنسيان في القرآن الكريم للدكتور سيد رزق الطويل 129

ص: 4

تحقيق مخطوطة لشيخ الإسلام ابن تيمية- فتوى في علم القراءات للدكتور محمد علي سلطاني 179

بحوث في السنة

بيان كلام أهل العلم في الأحاديث الواردة في فضل من مات بالحرمين للشيخ إسماعيل الأنصاري 211

الإسناد وأهميته في نقد الحديث للدكتور محمد لقمان السلفي 221

بحوث تاريخية

محمد بن عبد الوهاب عبقري العصر وأستاذ الجيل للأستاذ أحمد فهيم مطر 233

فترة مشرقة للجهاد الإسلامي في الحبشة للأستاذ فهيم شلتوت 249

محمد بن مسلمة الأنصاري اللواء محمد شيت خطاب 269

لقاء

لقاء مع الداعية المسلم البريطاني - يوسف إسلام لقاء أجرته المجلة 301

ردود وإيضاحات

عدالة السلف برهان يقظتهم للشيخ سعد الخرعان 321

رد سماحة الشيخ على ما نشر في مجلة المنار سماحة الرئيس العام 325

تنبيه لسماحة الشيخ على ما نشر في جريدة عرب نيوز سماحة الرئيس العام 329

متى تثبت رؤية الهلال ثبوتا شرعيا وجب العمل بها سماحة الرئيس العام 331

حكم الحيوان المذبوح بالصعق الكهربائي سماحة الرئيس العام 335

ص: 5

صفحة فارغة

ص: 6

الافتتاحية

الإسلام هو الدين الحق وما سواه من الأديان باطل

الحمد لله الذي ارتضى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم دين الإسلام، وجعل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الشرائع وأكملها، وأرسل بها أفضل خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم وبعد:

فقد اطلعت على ما نشر في جريدة اليوم العدد 4080 وتاريخ 12/ 8 / 1404 هـ الصفحة الأخيرة تحت عنوان معبد غريب للسيخ في الإمارات، نقلا عن وكالة أنباء الخليج. وقد جاء في ذلك الخبر ما يلي:" ووصف أحد علماء المسلمين في دبي هو الدكتور محمود إبراهيم الديك هذا المعبد بأنه يشكل خطرا كبيرا على المسلمين وينبغي إزالته. وقال: إن الديانات المسموح بها في الإمارات هي التي لها كتاب سماوي فقط أما ما عدا ذلك فهي معتقدات كافرة ينبغي إزالة معابدها ومنعها من ممارسة طقوسها؛ حتى لا تؤثر على المسلمين في هذه الأرض " انتهى كلامه.

ومن يقرأ كلام الدكتور محمود الديك هذا يدرك منه أمرين:

ص: 7

أحدهما: أن اليهودية والنصرانية مسموح بهما في الإمارات سواء الانتماء إليهما أو إقامة معابد لهما أو مزاولة كافة طقوسهما. ومعنى ذلك أن التبشير النصراني علني ومسموح له رسميا هناك وهذا أمر خطير.

والأمر الثاني: وهو أخطر من الأول: الحكم ضمنا من واقع كلام هذا المتحدث بأن الديانات السماوية كاليهودية والنصرانية ليست كافرة وبالتالي فإنه إذا كان الأمر كذلك يجوز الدخول فيهما والانتماء إليهما والدعوة إليهما والتبشير بهما. ولن أتعرض لمعبد السيخ هذا؛ لأن الخبر جاء فيه بأن الشيخ عبد الجبار الماجد مدير أوقاف دبي قال بأن البلدية سوف تزيل هذا المعبد جزاه الله خيرا؛ لأن وجود هذا المعبد يتضمن الدعوة إلى عبادة الأوثان التي يجب إنكارها.

أما كلام الدكتور محمود الديك فمعلوم ما فيه من بطلان وغلط، فإن الدين الإسلامي هو الدين الصحيح المطلوب من أهل الأرض، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1)، وقال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2){فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (3)، هذا وقد وصف الله سبحانه وتعالى اليهود والنصارى بالكفر لما قالوه على الله، وبما حرفوه وغيروه في كتبهم، وتجاوزهم الحد في القول والعمل تبعا لما تصف ألسنتهم، وتستهوي نفوسهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، قال الله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (4).

وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (5){لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (6){أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7)،

(1) سورة آل عمران الآية 85

(2)

سورة آل عمران الآية 19

(3)

سورة آل عمران الآية 20

(4)

سورة المائدة الآية 17

(5)

سورة المائدة الآية 72

(6)

سورة المائدة الآية 73

(7)

سورة المائدة الآية 74

ص: 8

وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1){اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2).

والآيات الكريمات في هذا المعنى كثيرة، مما يعلم معه بأن الديانة اليهودية والديانة النصرانية قد نسختا بديانة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما فيهما من حق أثبته الإسلام، وما فيهما من باطل هو مما حرفه القوم، وبدلوه حسب أهوائهم، ليشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون، فدين الإسلام هو الدين الصحيح المطلوب من أهل الأرض، وهو الدين الذي بشر به جميع الأنبياء.

روى النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيا واتبعتموه وتركتموني ضللتم (3)» . وفي رواية: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي. فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا (4)» .

وكما أن عيسى عليه السلام -جاء مجددا لديانة موسى وليحل لهم بعض ما حرم عليهم كما في قوله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (5){إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (6) فإنه كذلك سينزل في آخر الزمان ليجدد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقاتل اليهود والنصارى، قال صلى الله عليه وسلم:«يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (7)» ، رواه مسلم، قال النووي في شرحه قوله:" يضع الجزية": أي لا يقبل إلا الإسلام أو السيف. اهـ.

(1) سورة التوبة الآية 30

(2)

سورة التوبة الآية 31

(3)

مسند أحمد بن حنبل (3/ 387)، سنن الدارمي المقدمة (435).

(4)

مسند أحمد بن حنبل (3/ 387)، سنن الدارمي المقدمة (435).

(5)

سورة آل عمران الآية 50

(6)

سورة آل عمران الآية 51

(7)

صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3448)، صحيح مسلم الإيمان (155)، سنن الترمذي الفتن (2233)، سنن أبو داود الملاحم (4324)، سنن ابن ماجه الفتن (4078)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 240).

ص: 9

وعندما يرى هذه الآية أهل الأرض فعند ذلك يرجع لدين الإسلام من هدى الله قلبه، ويدخل فيه من أنار الله بصيرته من اليهود والنصارى، فيؤمن بعيسى بعدما ظهرت أمامه الآيات الساطعات التي تتجلى فيها أنوار الحق الواضحة، والإيمان بعيسى عليه السلام -في ذلك الوقت تصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبالدين الذي جاء به من عند ربه وهو الإسلام؛ حيث ينكشف الكذب، ويظهر الزيف الذي أدخله الأحبار والرهبان على الديانة النصرانية واليهودية ليضلوا الناس، ويلبسوا عليهم دينهم، قال الله تعالى في قصة عيسى عليه السلام -مع أهل الكتاب الذين قالوا بأنهم قتلوه موضحا كذبهم، وأن منهم من سوف يؤمن بعيسى عليه السلام -قبل موته؛ لأن الموت حق على جميع البشر في هذه الحياة الدنيا:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1){وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (2).

وهذا الموقف الذي أبانه القرآن الكريم جاء بعد أن وصفهم بالكفر في آية قبلها، وهو قوله تعالى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (3){وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (4).

وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن وضحت شريعة الإسلام لأهل الأرض دخل من أنار الله بصيرته من اليهود والنصارى في الإسلام بعدما عرف الحق، وتبرأ من الاعتقادات التي تناقض شرع الله الذي شرع لعباده، وهي الوحدانية لله جل وعلا، وعدم الإشراك معه في العبادة والاعتقاد، ودين الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه منذ الأزل، قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (5)، وقال تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (6){إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (7){وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (8).

(1) سورة النساء الآية 158

(2)

سورة النساء الآية 159

(3)

سورة النساء الآية 156

(4)

سورة النساء الآية 157

(5)

سورة آل عمران الآية 19

(6)

سورة البقرة الآية 130

(7)

سورة البقرة الآية 131

(8)

سورة البقرة الآية 132

ص: 10

ودين الإسلام هو الطريق المستقيم الموصل إلى الله، كما ورد في تفسير سورة الفاتحة، فإن العبد يدعو ربه بأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يبعده عن طريق المغضوب عليهم وهم اليهود الذين عصوا الله عن علم ومعرفة، وطريق الضالين وهم النصارى الذين يعبدون الله على جهل وضلال.

ومما ذكرناه يتضح أن الطريق إلى الله واحد وهو دين الإسلام، وهو الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم كما بعث به جميع الرسل، وأن جميع ما خالفه من يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو وثنية أو غير ذلك من نحل الكفر كله باطل وليس طريقا إلى الله، ولا يوصل إلى جنته، وإنما يوصل إلى غضبه وعذابه كما قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (2)» ، رواه الإمام مسلم في صحيحه، والله المسئول أن يمنحنا وجميع المسلمين التفقه في الدين، والثبات عليه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا الصراط المستقيم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

الرئيس العام

لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

(1) سورة آل عمران الآية 85

(2)

صحيح مسلم الإيمان (153)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 350).

ص: 11

صفحة فارغة

ص: 12

من أحكام القرآن الكريم

1 -

حكم السفر بالمصحف إلى أرض العدو.

2 -

حكم مس المصحف لغير من كان طاهرا " الطهارة من الحدث ومن الكفر ".

3 -

ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن.

4 -

حكم تعليم الكافر القرآن.

إعداد

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

ص: 13

صفحة فارغة

ص: 14

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد: -

فبناء على ما ورد إلى سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من مدير عام التعليم بمنطقة الرياض برقم 35/ 3 / 2/ 6231 / 4 وتاريخ 1/ 7 / 1398 هـ، من السؤال عما يجب أن يعامل به الطالب المسيحي الملتحق بالمدرسة بالنسبة لمادة القرآن الكريم ومواد التربية الإسلامية، باعتبار أنه لا يجوز مس المصحف لغير المسلمين. . انتهى.

وبناء على ما اقترحه سماحة الرئيس العام من إدراج هذا الموضوع ضمن جدول أعمال الدورة الثالثة عشرة، وجمع ما تيسر من النقول عن أهل العلم في الأمور الآتية:

1 -

ما جاء من النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو.

2 -

ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا "الطهارة من الحدث ومن الكفر".

3 -

ما جاء في النهي عن قراءة الجنب والحائض القرآن.

4 -

حكم تعليم الكافر القرآن.

- بناء على ذلك جمعت اللجنة ما تيسر من النقول عن أهل العلم فيما ذكر. . وبالله التوفيق. .

ص: 15

أولا: اختلف أهل العلم في حكم السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وفيما يلي ذكر أقوالهم وأدلتهم والمناقشة.

قال البخاري:

باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، وكذلك يروى عن محمد بن بشر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، «عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن» ، حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (1)» .

وقال ابن حجر:

قوله: (باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو) سقط لفظ كراهية إلا للمستملي فأثبتها، وبثبوتها يندفع الإشكال الآتي. قوله:(وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله) هو ابن عمر (عن نافع عن ابن عمر)، وتابعه ابن إسحاق عن نافع، أما رواية محمد بن بشر فوصلها إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، ولفظه:«كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن يناله العدو (2)» ، قال الدارقطني والبرقاني لم يروه بلفظ الكراهة إلا محمد بن بشر، وأما متابعة ابن إسحاق فهي بالمعنى؛ لأن أحمد أخرجه من طريقه بلفظ:«نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو (3)» ، والنهي يقتضي الكراهة؛ لأنه لا ينفك عن كراهة التنزيه أو التحريم، قوله:(وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن) أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف خشية أن يناله العدو، لا السفر بالقرآن نفسه، وقد تعقبه الإسماعيلي بأنه لم يقل أحد: إن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في دارهم، وهو اعتراض من لم يفهم مراد البخاري، وادعى المهلب أن مراد البخاري بذلك تقوية القول بالتفرقة بين العسكر الكثير والطائفة القليلة، فيجوز في تلك دون هذه، والله أعلم.

ثم ذكر المصنف حديث مالك في ذلك وهو بلفظ: «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (4)» ، وأورده ابن ماجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك وزاد:«مخافة أن يناله العدو (5)» ، ورواه ابن وهب عن مالك فقال:«خشية أن يناله العدو (6)» ، وأخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك فقال: قال مالك: أراه مخافة. فذكره قال

(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(2)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(3)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(4)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(5)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(6)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

ص: 16

أبو عمر: كذا قال يحيى الأندلسي، ويحيى بن بكير، وأكثر الرواة عن مالك جعلوا التعليل من كلامه ولم يرفعوه، وأشار إلى أن ابن وهب تفرد برفعها وليس كذلك لما قدمته من رواية ابن ماجه، وهذه الزيادة رفعها ابن إسحاق أيضا كما تقدم، وكذلك أخرجها مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق أيوب عن نافع ومسلم من طريق أيوب بلفظ:«فإني لا آمن أن يناله العدو (1)» ، فصح أنه مرفوع وليس بمدرج، ولعل مالكا كان يجزم به، ثم صار يشك في رفعه، فجعله من تفسير نفسه، قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في الكبير المأمون عليه، فمنع مالك أيضا مطلقا، وفصل أبو حنيفة، وأدار الشافعية الكراهة مع الخوف وجودا وعدما، وقال بعضهم كالمالكية واستدل به على منع بيع المصحف من الكافر؛ لوجود المعنى المذكور فيه وهو التمكن من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك، وإنما وقع الاختلاف هل يصح لو وقع الاختلاف (2). ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا " (3).

وقال مسلم:

حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك: عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (4)» . وحدثنا قتيبة، حدثنا ليث ح وحدثنا ابن رمح، أخبرنا الليث، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (5)» ، وحدثنا أبو الربيع العتكي وأبو كامل قالا: حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو (6)» قال أيوب: فقد ناله العدو وخاصموكم به. حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل -يعني ابن علية -ح وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان والثقفي كلهم، عن أيوب ح وحدثنا ابن رافع، حدثنا ابن أبي فديك، أخبرنا الضحاك -يعني ابن عثمان - جميعا، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن علية والثقفي:"فإني أخاف" وفي حديث سفيان وحديث الضحاك بن عثمان: «مخافة أن يناله العدو (7)» .

(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(2)

هكذا في الأصل والصواب: لو وقع العقد.

(3)

فتح الباري (6).

(4)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(5)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(6)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 10)، موطأ مالك الجهاد (979).

(7)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

ص: 17

وقال النووي:

" قوله: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (1)»، وفي الرواية الأخرى: «مخافة أن يناله العدو (2)»، وفي الرواية الأخرى: «فإني لا آمن أن يناله العدو (3)»؛ فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث، وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا مانع منه حينئذ لعدم العلة، هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا، والصحيح عنه ما سبق، وهذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك، واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب إليهم كتاب فيه آية أو آيات، والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، قال القاضي: وكره مالك وغيره معاملة الكفار بالدراهم والدنانير التي فيها اسم الله تعالى وذكره سبحانه وتعالى "(4).

وقال الأبي:

" قوله: "نهى"، قلت: لا يدخل الخلاف المذكور في قول الراوي: نهى لتصريحه بالنهي في الطريق الثاني.

قوله: «أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (5)» (ع) المراد بالقرآن هنا المصحف، وكذا جاء مفسرا في بعض الأحاديث، قلت: لم يكن المصحف مكتوبا حينئذ فلعله من الإخبار عن مغيب، أو لعله كان مكتوبا في رقاع فيصح ويتقرر النهي عن السفر بالقليل والكثير منه، لا سيما على القول أن القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير، وأما على القول بأنه اسم للجمع فيتعلق النهي بالقليل لمشاركته الكل في القلة، فإن حرمة القليل منه كالكثير.

(ع) واختلف في السفر به، فمنعه مالك وقدماء أصحابه وإن كان الجيش كبيرا؛ لأنه قد ينسى أو يسقط، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة جوازه مطلقا، والصحيح عنه جوازه في الجيش الكبير دون السرايا؛ لأن نيل العدو إياه مع الجيش الكبير نادر لا

(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(2)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(3)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(4)

النووي على مسلم 13/ 12 - 14.

(5)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

ص: 18

يلتفت إليه. وأجاز الفقهاء الكتب إليهم بالآية ونحوها للدعاء إلى الإسلام والوعظ " انتهى (1).

قال الأبي: "قوله: «مخافة أن يناله العدو (2)» (ع) ظن بعض الناس وصحح أن هذا التعليل من قول مالك أو ما بعده من قوله: «فإني لا آمن أن يناله العدو (3)»، وفي الآخر: «إني أخاف أن يناله العدو (4)» فلن يرده، فإنه ظاهر أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ومتصل به، واختلف في ذلك رواة الموطأ، فرواه ابن مهدي وابن وهب والأكثر متصلا بكلامه صلى الله عليه وسلم ورواه يحيى بن يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير أنه من كلام مالك، وهذه الرواية تحمل على أن مالكا شك في رفع هذه الزيادة فجعلها -لتحريه- من كلامه وإلا فهي رواية الثقات " انتهى (5).

وجاء في موطأ مالك:

" حدثني يحيى، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (6)»، فقال مالك: وإنما ذلك مخافة أن يناله العدو ". انتهى.

وقال الباجي:

" قوله: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (7)» يريد والله أعلم الصحف لما كان القرآن مكتوبا فيها سماها قرآنا، ولم يرد ما كان منه محفوظا في الصدر؛ لأنه لا خلاف أنه يجوز لحافظ القرآن الغزو، وإنما ذلك لأنه لا إهانة للقرآن في قتل الغازي، وإنما الإهانة للقرآن بالعبث بالمصحف والاستخفاف به، وقد روي مفسرا:«نهى أن يسافر بالمصحف (8)» رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمرو «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (9)» .

فصل: والسفر اسم واقع على الغزو وغيره، قال ابن سحنون: قلت لسحنون: أجاز بعض العراقيين الغزو بالمصحف إلى أرض العدو في الجيش الكبير كالطائفة ونحوها، وأما السرية ونحوها فلا. قال سحنون: لا يجوز ذلك لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك عاما ولم يفصل، وقد يناله العدو من ناحية الغفلة. والدليل على صحة ما ذهب إليه

(1) الأبي على مسلم ج 5 ص 216.

(2)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(3)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(4)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(5)

الأبي على مسلم ج 5 صفحة 217.

(6)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(7)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(8)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(9)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

ص: 19

سحنون أنه لا قوة فيه على العدو، وليس مما يستعان به على حربه، وقد يناله لشغل عنه كما قال سحنون، وقد يناله بالغلبة أيضا.

ص: 20

مسألة: ولو أن أحدا من الكفار رغب أن يرسل إليه بمصحف ليتدبره لم يرسل إليه به؛ لأنه نجس جنب، ولا يجوز له مس المصحف، ولا يجوز لأحد أن يسلمه إليه ذكره ابن الماجشون.

فصل: وقوله: «مخافة أن يناله العدو (1)» يريد أهل الشرك؛ لأنهم ربما تمكنوا من نيله والاستخفاف به فلأجل ذلك منع السفر به إلى بلادهم" انتهى (2).

وقال الإمام أحمد:

حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر بالقرآن فإني أخاف أن يناله العدو (3)» .

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي - حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري، ونهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (4)» .

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تسافروا بالقرآن فإني أخاف أن يناله العدو (5)» .

وجاء في مختصر المنذر لسنن أبي داود:

" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (6)» .

قال مالك: أراد مخافة أن يناله العدو. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، هكذا ذكره هاهنا أن قوله:«مخافة أن يناله العدو (7)» ، من قول مالك.

(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(2)

الموطأ على المنتقى ج 3 ص 165 - 166.

(3)

المسند رقم الحديث 4507.

(4)

المسند رقم الحديث 4525.

(5)

المسند رقم الحديث 4576.

(6)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(7)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

ص: 20

وأخرجه من رواية القعنبي عنه، ووافق القعنبي على ذلك كأبي مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ويحيى بن يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير، ورواه بعضهم من حديث عبد الرحمن بن مهدي والقعنبي عن مالك، فأدرج هذه الزيادة في الحديث.

فقد اختلف على القعنبي في هذه الزيادة، فمرة يبين أنها قول مالك، ومرة يدرجها في الحديث. ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك، فلم يذكر الزيادة البتة، وقد رفع هذه الكلمات أيوب السختياني والليث بن سعد بزيادة (مخافة أن يناله العدو) وأخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني بلفظ «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو (1)» ومن طريق الضحاك بن عثمان الحزامي عن نافع عن ابن عمر.

وقال بعضهم: يحتمل أن مالكا شك هل هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم فجعل (التحرية) هذه الزيادة من كلامه على التفسير، وإلا في صحيحه من قول النبي صلى الله عليه وسلم من رواية الثقات.

والمراد بالقرآن هاهنا المصحف، وكذا جاء مفسرا في بعض الحديث، ونيل العدو له استخفافه به وامتهانه إياه، فإذا أمنت العلة في الجيوش الكثيرة.

وقد قيل: ارتفع النهي، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره من العلماء، وأشار إليه البخاري، وحملوا النهي على الخصوص، ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير في النهي عن ذلك، وحكي عن بعضهم جواز السفر به مطلقا.

وقيل: إن نهيه صلى الله عليه وسلم فيه ليس على وجه التحريم والفرض وإنما هو على معنى الندب والإكرام للقرآن. انتهى (2).

وجاء في طرح التثريب:

وعن نافع، عن ابن عمر قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (3)» فيه فوائد.

1 -

أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من طريق مالك، وزاد في رواية ابن ماجه:«مخافة أن يناله العدو (4)» ، وفي رواية أبي داود: قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو،

(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 10)، موطأ مالك الجهاد (979).

(2)

ج3 ص 414 - 415.

(3)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(4)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

ص: 21

وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من طريق الليث بن سعد بزيادة: «مخافة أن يناله العدو (1)» ، وأخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني بلفظ:«لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو (2)» ، ومن طريق الضحاك بن عثمان بلفظ:«مخافة أن يناله العدو (3)» ، وعلقه البخاري من طريق محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر، ومن طريق ابن إسحاق ستتهم عن نافع عن ابن عمر، وقال أبو بكر البرقاني: لم يقل: "كره" إلا محمد بن بشر، ورواه أبو همام عن محمد بن بشر كذلك، ورواه عن عبيد الله بن عمر جماعة، فاتفقوا على لفظة النهي، وقال ابن عبد البر: هكذا قال يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير، وأكثر الرواة يعني بلفظ:(قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو)، ورواه ابن وهب عن مالك فقال في آخره:«خشية أن يناله العدو (4)» وفي سياقه الحديث لم يجعله من قول مالك. قلت: وتقدم أنه في سنن ابن ماجه من رواية مالك في نفس الحديث وهو عنده من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك قال. وكذلك قال عبيد الله بن عمر وأيوب والليث وإسماعيل بن أمية وليث بن أبي سليم وإن اختلفت ألفاظهم، قال: وهو صحيح مرفوع. وقال القاضي عياض: في الرواية المشهورة عن مالك يحتمل أنه شك هل هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، وقد روي عن مالك متصلا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كرواية غيره من رواية عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن وهب، وقال النووي: هذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك.

2 -

فيه النهي عن السفر بالقرآن، والمراد به المصحف إلى أرض العدو، وهذا محتمل للتحريم والكراهة، وفي لفظ مسلم:«لا تسافروا بالقرآن (5)» ، وظاهر هذا اللفظ التحريم، ولفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله:«كره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (6)» ، وظاهره التنزيه فقط.

وقد بوب عليه البخاري (باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن». انتهى وفي بعض نسخه: (باب السفر) بدون ذكر الكراهة، وقد اعتمد في الكراهة على لفظ رواية محمد بن بشر عن عبيد الله بن عمر، وقد عرفت من كلام البرقاني أن المشهور لفظ النهي، على أن لفظ الكراهة يحتمل التحريم أيضا، وقال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن

(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(2)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 10)، موطأ مالك الجهاد (979).

(3)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(4)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

(5)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 10)، موطأ مالك الجهاد (979).

(6)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 7)، موطأ مالك الجهاد (979).

ص: 22

إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه، واختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه، فلم يفرق مالك بين الصغير والكبير، وقال أبو حنيفة: لا بأس في السفر بالعسكر العظيم. وقال النووي في شرح مسلم: إن أمنت العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهر عليهم فلا كراهة ولا منع حينئذ لعدم العلة، هذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا، والصحيح عنه ما سبق. انتهى.

وقول البخاري رحمه الله: (قد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أرض العدو وهم يعلمون القرآن) إن قصد به معارضة النهي عن ذلك فلا تعارض بينهما؛ لأن النهي عن ذلك في المصحف لئلا يتمكنوا منه فينتهكوا حرمته، وليس آدميا يمكنه الدفع عن نفسه بخلاف ما في صدور المؤمنين من القرآن، فإنهم عند العجز عن المدافعة عن أنفسهم لا يعد المهين لهم مهينا للمصحف؛ لأن الذي في صدورهم أمر معنوي، والذي في المصحف مشاهد محسوس- والله أعلم.

3 -

يستنبط منه منع بيع المصحف إلى الكافر لوجود المعنى فيه، وهو تمكنه من الاستهانة به، ولا خلاف في تحريم ذلك، ولكن هل يصح لو وقع؟ اختلف أصحابنا فيه على طريقين (أصحهما): القطع ببطلانه، (والثاني): إجراء الخلاف الذي في بيع العبد المسلم للكافر فيه، والفرق بينهما على عظم حرمة المصحف، وأنه لا يمكنه دفع الذل عن نفسه بالاستعانة بخلاف العبد (1).

وقال النووي:

" اتفقوا على أنه لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم:«نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (2)» . واتفقوا أنه يجوز أن يكتب إليهم الآية والآيتان وشبههما في أثناء كتاب؛ لحديث أبي سفيان رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم كتابا فيه: (4)» الآية (5).

(1) طرح التثريب 7/ 216، 217

(2)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(3)

صحيح البخاري بدء الوحي (7)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773)، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2717)، سنن أبو داود الأدب (5136)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 263).

(4)

سورة آل عمران الآية 64 (3){يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}

(5)

المجموع شرح المهذب 2/ 78

ص: 23

ثانيا: ما جاء في النهي عن مس المصحف لغير من كان طاهرا "الطهارة من الحدث ومن الكفر"

اختلف أهل العلم في ذلك وفيما يلي نقول عن أهل العلم من المفسرين والمحدثين والفقهاء وتشمل على أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها:

1 -

النقول عن المفسرين:

قال الجصاص:

" قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (1) {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2) {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (3) روي عن سلمان أنه قال: لا يمس القرآن إلا المطهرون، فقرأ القرآن ولم يمس المصحف حين لم يكن على وضوء. وعن أنس بن مالك في حديث إسلام عمر قال: فقال لأخته: أعطوني الكتاب الذي كنتم تقرءون، فقالت: إنك رجس وأنه لا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ، فتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأه. وذكر الحديث، وعن سعد أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف. وعن ابن عمر مثله، وكره الحسن والنخعي مس المصحف على غير وضوء، وروي عن حماد أن المراد الذي في اللوح المحفوظ لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة. وقال أبو العالية في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (4) قال: هو في كتاب مكنون ليس أنتم (5) من أصحاب الذنوب. وقال سعيد بن جبير وابن عباس: المطهرون الملائكة. وقال قتادة: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي والنجس والمنافق. قال أبو بكر: إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر، فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله، والمطهرون الملائكة، وإن حمل على النهي، وإن كان في صورة الخبر، كان عموما فينا، وهذا أولى؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم: «ولا يمس القرآن إلا طاهر (6)» فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية؛ إذ فيها احتمال له"(7).

(1) سورة الواقعة الآية 77

(2)

سورة الواقعة الآية 78

(3)

سورة الواقعة الآية 79

(4)

سورة الواقعة الآية 79

(5)

كذا في الأصل والعلة "أنتم أنتم".

(6)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(7)

أحكام القرآن للجصاص 3/ 511.

ص: 24

وقال القرطبي:

" الخامسة- قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) اختلف في معنى لا يمسه هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلف في المطهرون من هم؟ فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة، والرسل من بني آدم: فجبريل النازل به مطهر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (2) أنها بمنزلة الآية التي في عبس وتولى {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (3){فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} (4){مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} (5){بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} (6){كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (7)، يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة (عبس)، وقال: معنى لا يمسه لا ينزل به، إلا المطهرون أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل: لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل: إن إسرافيل هو الموكل بذلك، حكاه القشيري. ابن العربي: وهذا باطل؛ لأن الملائكة لا تناله في وقت، ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال، وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل، وهو اختيار مالك.

وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته:«من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد (8)» وكان في كتابه: «ألا يمس القرآن إلا طاهر (9)» . وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» . وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (10) فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة (طه)، وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (11) من

(1) سورة الواقعة الآية 79

(2)

سورة الواقعة الآية 79

(3)

سورة عبس الآية 12

(4)

سورة عبس الآية 13

(5)

سورة عبس الآية 14

(6)

سورة عبس الآية 15

(7)

سورة عبس الآية 16

(8)

سنن النسائي القسامة (4853).

(9)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(10)

سورة الواقعة الآية 79

(11)

سورة الواقعة الآية 79

ص: 25

الأحداث والأنجاس. الكلبي: من الشرك. الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا.

وقيل: معنى لا يمسه لا يقرؤه إلا المطهرون إلا الموحدون. قال محمد بن فضيل وعبدة: قال عكرمة: كان ابن عباس ينهى أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن. وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي: وهو اختيار البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا (1)» . وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل: المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع أي: لا يمسه إلا المطهرون شرعا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي، وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر، وقد مضى هذا المعنى في سورة (البقرة). المهدوي: يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب، ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة السين ضمة بناء، والفعل مجزوم.

السادسة- واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء؛ فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، واختلفت الرواية عن أبي حنيفة، فروي عنه أنه يمسه المحدث، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. ابن العربي: وهذا إن سلمه مما يقوى الحجة عليه؛ لأن تحريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه.

وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما: المنع اعتبارا

(1) صحيح مسلم الإيمان (34)، سنن الترمذي الإيمان (2623)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 208).

ص: 26

بالبالغ، والثاني: الجواز؛ لأنه لو منع لم يحفظ القرآن، لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة، لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا " (1).

وقال ابن كثير:

" وقال ابن جرير: حدثني موسى بن إسماعيل، أخبرنا شريك، عن حكيم -هو ابن جبير - عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (2) قال: الكتاب الذي في السماء. وقال العوفي عن ابن عباس: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (3) يعني الملائكة. وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد وأبو نهيك والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، حدثنا معمر، عن قتادة {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (4) قال: لا يمسه عند الله إلا المطهرون، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس، والمنافق الرجس، قال: وهي في قراءة ابن مسعود: (ما يمسه إلا المطهرون). وقال أبو العالية: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (5) ليس أنتم، أنتم أصحاب الذنوب. وقال ابن زيد: زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} (6){وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} (7){إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (8) وهذا القول قول جيد وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله، وقال الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. وقال آخرون: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (9) أي من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر، ومعناها الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف، كما روى مسلم عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (10)» ، واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد عن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:«أن لا يمس القرآن إلا طاهر (11)» .

وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن حزم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولا

(1) تفسير القرطبي 17/ 225 - 227.

(2)

سورة الواقعة الآية 79

(3)

سورة الواقعة الآية 79

(4)

سورة الواقعة الآية 79

(5)

سورة الواقعة الآية 79

(6)

سورة الشعراء الآية 210

(7)

سورة الشعراء الآية 211

(8)

سورة الشعراء الآية 212

(9)

سورة الواقعة الآية 79

(10)

صحيح البخاري الجهاد والسير (2990)، صحيح مسلم الإمارة (1869)، سنن أبو داود الجهاد (2610)، سنن ابن ماجه الجهاد (2879)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 63)، موطأ مالك الجهاد (979).

(11)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ص: 27

يمس القرآن إلا طاهر (1)»، وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا لا ينبغي الأخذ به، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منهما (2) نظر" (3).

وقال القرطبي:

" قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (4) ابتداء وخبر، واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: لأنه جنب؛ إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري: من صافح مشركا فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد، وأسقطه الشافعي. وقال: أحب إلي أن يغتسل، ونحوه لابن القاسم، ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس.

وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال، رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده «وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثمامة يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حسن إسلام صاحبكم (5)» ، وأخرجه مسلم بمعناه. وفيه:«أن ثمامة لما من عليه النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل (6)» ، وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر. فإن كان إسلامه قبل احتلامه فغسله مستحب، ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة، هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب" (7).

وقال ابن كثير على قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (8): " أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين

(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(2)

كذا ولعله: منهم.

(3)

تفسير ابن كثير 4/ 298.

(4)

سورة التوبة الآية 28

(5)

مسند أحمد بن حنبل (2/ 483).

(6)

صحيح البخاري الصلاة (462)، صحيح مسلم الجهاد والسير (1764)، سنن النسائي الطهارة (189)، سنن أبو داود الجهاد (2679)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 452).

(7)

تفسير القرطبي 8/ 103 - 104.

(8)

سورة التوبة الآية 28

ص: 28

هم نجس دينا عن المسجد الحرام، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسع، ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين:«أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (1)» ، فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (2) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة. وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا شريك، عن الأشعث - يعني ابن سوار - عن الحسن، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم (3)» ، تفرد به الإمام أحمد مرفوعا، والموقوف أصح إسنادا.

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (4) وقال عطاء: الحرم كله مسجد؛ لقوله تعالى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (5) ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح: «المؤمن لا ينجس (6)» .

وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ، رواه ابن جرير " (7).

(1) صحيح البخاري الصلاة (369)، صحيح مسلم الحج (1347)، سنن النسائي مناسك الحج (2958)، سنن أبو داود المناسك (1946)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 299)، سنن الدارمي الصلاة (1430).

(2)

سورة التوبة الآية 28

(3)

مسند أحمد بن حنبل (3/ 392).

(4)

سورة التوبة الآية 28

(5)

سورة التوبة الآية 28

(6)

رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.

(7)

تفسير ابن كثير 2/ 346.

ص: 29

2 -

النقول عن المحدثين:

أ- قال الزيلعي:

" الحديث الخامس:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر (1)» ، قلت: روي من حديث عمرو بن حزم، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث حكيم بن حزام، ومن حديث عثمان بن أبي العاص، ومن حديث ثوبان.

(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ص: 29

أما حديث عمرو بن حزم فرواه النسائي في "سننه" في "كتاب الديات"، وأبو داود في "المراسيل" من حديث محمد بن بكار بن بلال، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات:«أن لا يمس القرآن إلا طاهر (1)» انتهى.

وروياه أيضا من حديث الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، ثنا سليمان بن داود الخولاني، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده بنحوه، قال أبو داود: وهم فيه الحكم بن موسى "يعني قوله: سليمان بن داود " وإنما هو سليمان بن أرقم، قال النسائي: الأول أشبه بالصواب، وسليمان بن أرقم متروك. انتهى.

وبالسند الثاني رواه ابن حبان في "صحيحه" في النوع السابع والثلاثين، من القسم الخامس، قال: سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون، انتهى. وكذلك الحاكم في المستدرك (2) وقال: هو من قواعد الإسلام، وإسناده من شرط هذا الكتاب. انتهى. أخرجه بطوله، ورواه الطبراني في "معجمه" والدارقطني (3) ثم البيهقي في سننهما، وأحمد في مسنده، وابن راهويه.

طريق آخر: رواه الدارقطني في "غرائب مالك " من حديث أبي ثور هاشم بن ناجية، عن مبشر بن إسماعيل، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده قال:«كان فيما أخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمس القرآن إلا طاهر (4)» ، قال الدارقطني: تفرد به أبو ثور عن مبشر عن مالك، فأسنده عن جده، ثم رواه من حديث إسحاق الطباع: أخبرني مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال:«كان في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمس القرآن إلا طاهر (5)» قال: وهذا الصواب عن مالك، ليس فيه عن جده. انتهى.

(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(2)

في باب زكاة الذهب ص 397 - ج 1 في حديث طويل.

(3)

ص 45 وص 283، والبيهقي في سننه ص 88، والدارمي في باب لا طلاق قبل النكاح ص 293.

(4)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(5)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ص: 30

قال الشيخ تقي الدين في "الإمام" وقوله فيه: (عن جده) أن يراد به جده الأدنى وهو محمد بن عمرو بن حزم، ويحتمل أن يراد به جده الأعلى، وهو عمرو بن حزم، وإنما يكون متصلا إذا أريد الأعلى، لكن قوله: كان فيما أخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه عمرو بن حزم؛ لأنه الذي كتب له الكتاب.

طريق آخر أخرجه البيهقي في "الخلافيات" من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في عهده: ولا يمس القرآن إلا طاهر (1)» انتهى.

قلت: لم أجده عند عبد الرزاق في "مصنفه" وفي "تفسيره" إلا مرسلا، فرواه في "مصنفه" في "باب الحيض": أخبرنا معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه قال: كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ورواه في "تفسيره" في سورة الواقعة أخبرنا معمر، عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لهم كتابا فيه: ولا يمس القرآن إلا طاهر (2)» انتهى. ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني ثم البيهقي في "سننهما" هكذا مرسلا. قال الدارقطني: هذا مرسل ورواته ثقات. انتهى.

طريق آخر، رواه البيهقي في "الخلافيات" أيضا من حديث إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أبي، عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر يخبرانه، عن أبيهما، عن جدهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، وأبو أويس صدوق، أخرج له مسلم في "المتابعات"، وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى مرسلة، وسيأتي في "الزكاة" وفي "الديات" بعض ذلك إن شاء الله تعالى، قال السهيلي في "الروض الأنف" (3): حديث: «لا يمس القرآن إلا طاهر (4)» مرسل لا يقوم به الحجة، وقد أسنده الدارقطني من طرق أقواها رواية أبي داود الطيالسي، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده. انتهى.

(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(2)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(3)

في "فصل تطهير عمر ليمس القرآن ".

(4)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ص: 31

وأما حديث ابن عمر، فرواه الطبراني في "معجمه" والدارقطني (1) ثم البيهقي من جهته في "سننهما"، من حديث ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، قال: سمعت سالما يحدث عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر (2)» ، انتهى.

وسليمان بن موسى الأشدق مختلف فيه، فوثقه بعضهم، وقال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي، وأما حديث حكيم بن حزام، فرواه الحاكم في "المستدرك" في "كتاب الفضائل" من حديث سويد بن أبي حاتم ثنا: مطر الوراق، عن حسان بن بلال، عن حكيم بن حزام قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، قال:«لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» ، انتهى. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، رواه الطبراني، والدارقطني ثم البيهقي في "سننهما".

وأما حديث عثمان بن أبي العاص، فرواه الطبراني في "معجمه ": حدثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي، ثنا: يعقوب بن حميد، ثنا: هشام بن سليمان، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن سعيد، عن عبد الملك، عن المغيرة بن شعبة، عن عثمان بن أبي العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يمس القرآن إلا طاهر (3)» . انتهى.

وأما حديث ثوبان فلم أجده موصولا، ولكن قال ابن القطان في كتابه "الوهم والإيهام": وروى علي بن عبد العزيز في "منتخبه" حدثنا: إسحاق بن إسماعيل ثنا: مسعدة البصري، عن خصيب بن جحدر، عن النضر بن شفي، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر، والعمرة هي الحج الأصغر (4)» انتهى. قال ابن القطان: وإسناده في غاية الضعف، أما النضر بن شفي فلم أجد له ذكرا في شيء من مظانه، فهو مجهول جدا، وأما الخصيب بن جحدر فقد رماه ابن معين بالكذب، وأما مسعدة البصري فهو" ابن اليسع " تركه أحمد بن حنبل، وخرق حديثه، ووصفه أبو حاتم بالكذب، وأما إسحاق بن إسماعيل فهو " ابن عبد الأعلى " يروي عن ابن عيينة وجرير وغيرهما، وهو شيخ

(1) ص 45، والبيهقي: ص 88.

(2)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(3)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(4)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ص: 32

لأبي داود، وأبو داود إنما يروي عن ثقة عنده، انتهى كلامه.

وفي الباب أثران جيدان: أحدهما: أخرجه الدارقطني (1) عن إسحاق الأزرق، ثنا القاسم بن عثمان البصري، عن أنس بن مالك، قال: خرج عمر متقلدا بالسيف، فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا، فأتاهما عمر، وعندهما رجل من المهاجرين، يقال له: خباب، وكانوا يقرءون (طه) فقال: أعطوني الذي عندكم، فأقرأه -وكان عمر يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ، فقام عمر فتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأ (طه) انتهى. ورواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" مطولا، قال الدارقطني: تفرد به القاسم بن عثمان، وليس بالقوي، وقال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها. الثاني: أخرجه الدارقطني أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: كنا مع سلمان، فخرج فقضى حاجته، ثم جاء فقلت: يا أبا عبد الله لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات، قال: إني لست أمسه، إنه لا يمسه إلا المطهرون، فقرأ علينا ما شئنا، انتهى. وصححه الدارقطني " (2).

(1) في سننه ص 45 وص 46، والبيهقي كلاهما في ص 88، والثاني من طريق الدارقطني أيضا.

(2)

نصب الراية 1/ 196 - 199.

ص: 33

ب- وقال ابن حجر:

" حديث: «لا يمس القرآن إلا طاهر (1)» أبو داود في المراسيل والنسائي من حديث عمرو ابن حزم، في أثناء حديثه الطويل.

(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ص: 33

وأخرجه الدارقطني (1) من طريق أبي ثور عن مبشر بن إسماعيل، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده، قال:«كان فيما أخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمس القرآن إلا طاهر (2)» تفرد به أبو ثور، وقال: الصواب ليس فيه: عن جده. ثم أخرجه من طريق إسحاق بن الصباغ عن مالك كذلك. وأخرجه عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي من طريقه، عن معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، ليس فيه: عن جده. وقد أخرجه الطيالسي من طريق أبي بكر بن محمد، عن أبيه، عن جده نحوه.

وفي الباب: عن ابن عمر أخرجه الطبراني والبيهقي. وعن حكيم بن حزام أخرجه الحاكم والطبراني والدارقطني. وعن عثمان (3) بن أبي العاص، أخرجه الطبراني. وعن ثوبان رفعه:«لا يمس القرآن إلا طاهر، والعمرة هي الحج الأصغر (4)» أخرجه علي بن عبد العزيز في منتخب المسند، وإسناده ضعيف. وعن أخت عمر أنها قالت له عند إسلامه: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون. أخرجه أبو يعلى والطبراني.

وعن عبد الرحمن بن يزيد، عن سلمان، أنه قضى حاجته فخرج ثم جاء، فقلت: لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات؟ قال: إني لست أمسه، لا يمسه إلا المطهرون، فقرأ علينا ما شئنا، أخرجه الدارقطني وصححه (5).

(1) رواه الدارقطني في "غرائب مالك".

(2)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(3)

وفيه إسماعيل بن رافع، ضعفه النسائي وابن معين، وقال البخاري: ثقة مقارب الحديث.

(4)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(5)

الدراية 1/ 86.

ص: 34

ج- وقال ابن حجر أيضا: " حديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام: لا يمس المصحف إلا طاهر، الدارقطني والحاكم في المعرفة من مستدركه، والبيهقي في الخلافيات، والطبراني من حديث حكيم قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: قال: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» ، وفي إسناده سويد أبو حاتم، وهو ضعيف، وذكر الطبراني في الأوسط: أنه تفرد به، وحسن الحازمي إسناده، واعترض النووي على صاحب المهذب في إيراده له عن حكيم بن حزام بما حاصله أنه تبع في ذلك الشيخ أبا حامد، يعني في قوله: عن حكيم بن حزام، قال: والمعروف في كتب الحديث أنه عن عمرو بن حزم، قلت: حديث عمرو بن حزم أشهر، وهو في الكتاب الطويل، كما سيأتي الكلام عليه في الديات إن شاء الله تعالى.

ثم إن الشيخ محي الدين في الخلاصة ضعف حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعا، فهذا يدل على أنه وقف على حديث حكيم بعد ذلك، والله أعلم.

وفي الباب عن ابن عمر رواه الدارقطني وإسناده لا بأس به، ذكر الأثرم أن أحمد احتج به، وعن عثمان بن أبي العاص، رواه الطبراني وابن أبي داود في المصاحف، وفي إسناده انقطاع، وفي رواية الطبراني من لا يعرف. وعن ثوبان، أورده علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده، وفي إسناده خصيب بن جحدر، وهو متروك، وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون. وفي إسناده مقال. وفيه عن سلمان موقوفا، أخرجه الدارقطني والحاكم.

قوله: ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهر (1)» هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا يوجد ذكر حمل المصحف في شيء من الروايات، وأما المس ففيه الأحاديث الماضية.

(1) سنن الدارمي الطلاق (2266).

ص: 35

حديث: أنه صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى هرقل، وكان فيه:{تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (1) الآية، متفق عليه من حديث ابن عباس عن أبي سفيان صخر بن حرب في حديث طويل (2).

(1) سورة آل عمران الآية 64

(2)

التلخيص الحبير 1/ 131 - 132.

ص: 36

د- وجاء في بلوغ المرام:

وعن عبد الله بن أبي بكر، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:«أن لا يمس القرآن إلا طاهر (1)» رواه مالك مرسلا، ووصله النسائي وابن حبان وهو معلول.

هـ- وقال الصفافي:

" وإنما قال في المصنف: إن هذا الحديث معلول؛ لأنه من رواية سليمان بن داود وهو متفق على تركه، كما قال ابن حزم ووهم في ذلك، فإنه ظن أنه سليمان بن داود اليماني، وليس كذلك بل هو سليمان بن داود الخولاني، وهو ثقة، أثنى عليه أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، واليماني هو المتفق على ضعفه، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر: إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب. وفي الباب من حديث حكيم بن حزام: «لا يمس القرآن إلا طاهر (2)» ، وإن كان في إسناده مقال إلا أنه ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر (3)» قال الهيثمي: رجاله موثقون. وذكر له شاهدين، ولكنه يبقى النظر في المراد من الطاهر فإنه لفظ مشترك يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن وعلى من ليس على بدنه

(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(2)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(3)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ص: 36

نجاسة، ولا بد لحمله على معين من قرينة، وأما قوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) فالأوضح أن الضمير للكتاب المكنون الذي سبق ذكره في صدر الآية، وأن المطهرون هم الملائكة " (2).

ووجاء في المنتقى للمجد:

" وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان فيه:«لا يمس القرآن إلا طاهر (3)» ، رواه الأثرم والدارقطني، وهو لمالك في الموطأ مرسلا عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم:«إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر (4)» ، وقال الأثرم: واحتج أبو عبد الله -يعني أحمد - بحديث ابن عمر: «ولا يمس المصحف إلا على طهارة» .

ز- وقال الشوكاني:

"والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الخلافيات، والطبراني، وفي إسناده سويد بن أبي حاتم وهو ضعيف. وذكر الطبراني في الأوسط أنه تفرد به وحسن الحازمي إسناده، وقد ضعف النووي وابن كثير في إرشاده وابن حزم حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعا. وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني والطبراني، قال الحافظ: وإسناده لا بأس به، لكن فيه سليمان الأشدق وهو مختلف فيه، رواه عن سالم، عن أبيه ابن عمر قال الحافظ: ذكر الأثرم أن أحمد احتج به. وفي الباب أيضا عن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني وابن أبي داود في المصاحف وفي إسناده انقطاع، وفي رواية الطبراني من لا يعرف. وعن ثوبان أورده علي بن عبد العزيز في منتخب مسنده، وفي إسناده حصيب بن جحدر وهو متروك. وروى الدارقطني في قصة إسلام عمر أن أخته قالت له قبل أن يسلم: إنه رجس ولا يمسه إلا المطهرون. قال الحافظ: وفي إسناده مقال. وفيه عن سلمان موقوفا أخرجه

(1) سورة الواقعة الآية 79

(2)

سبل السلام (1/ 70).

(3)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(4)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

ص: 37

الدارقطني والحاكم، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. قال ابن عبد البر إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول.

وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز والزهري لهذا الكتاب بالصحة. . والحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرا، ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة، ويدل لإطلاقه على الأول قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة:«المؤمن لا ينجس (2)» ، وعلى الثاني {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (3)، وعلى الثالث قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المسح على الخفين:«دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين (4)» وعلى الرابع الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا، وقد ورد إطلاق ذلك في كثير، فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه حمله عليها هنا.

والمسألة مدونة في الأصول، وفيها مذاهب، والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها فلا يعمل به حتى يبين، وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف وخالف في ذلك داود.

استدل المانعون للجنب بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (5) وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعا إلى القرآن، والظاهر رجوعه إلى الكتاب وهو اللوح المحفوظ؛ لأنه الأقرب، والمطهرون الملائكة، ولو سلم عدم الظهور فلا أقل من الاحتمال، فيمتنع العمل بأحد الأمرين، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية، ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين لكانت دلالته على المطلوب وهو منع الجنب من مسه غير مسلمة؛ لأن المطهر من ليس بنجس، والمؤمن ليس بنجس دائما لحديث:«المؤمن لا ينجس (6)» ، وهو متفق عليه، فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو

(1) سورة التوبة الآية 28

(2)

رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.

(3)

سورة المائدة الآية 6

(4)

رواه البخاري في باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان في المسح على الخفين، ورواه مسلم في المسح على الرأس والخفين، ورواه غيرهما.

(5)

سورة الواقعة الآية 79

(6)

صحيح البخاري الغسل (285)، صحيح مسلم الحيض (371)، سنن الترمذي الطهارة (121)، سنن النسائي الطهارة (269)، سنن أبو داود الطهارة (231)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 235).

ص: 38

حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية، بل يتعين حمله على من ليس بمشرك كما هو في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) لهذا الحديث ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ولو سلم صدق اسم الطاهر على من ليس بمحدث حدثا أكبر أو أصغر فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملا في معانيه، فلا يعين حتى يبين.

وقد دل الدليل هاهنا أن المراد به غيره لحديث: «المؤمن لا ينجس (2)» ، ولو سلم عدم وجود دليل يمنع مكان إرادته لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحا بلا مرجح، وتعيينه لجميعها استعمالا للمشترك في جميع معانيه، وفيه الخلاف، ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه لما صح لوجود المانع وهو حديث:«المؤمن لا ينجس (3)» ، واستدلوا أيضا بحديث الباب، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج؛ لأنه من صحيفة غير مسموعة، وفي رجال إسناده خلاف شديد، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج لعاد البحث السابق في لفظ طاهر، وقد عرفته.

قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير: إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر لا يصح لا حقيقة ولا مجازا ولا لغة. صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائما، فلا يتناوله الحديث سواء كان جنبا أو حائضا أو محدثا أو على بدنه نجاسة، فإن قلت: إذا تم ما تريد من حمل الطاهر على من ليس بمشرك، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} (4) إلى قوله:{مُسْلِمُونَ} (5) مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم؟ قلت: أجعله خاصا بمثل الآية والآيتين فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار، كدعائه إلى الإسلام، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ككتب التفسير، فلا تخصص به الآية والحديث.

إذا تقرر لك هذا عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك، وقد عرفت الخلاف في الجنب: وأما المحدث حدثا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله

(1) سورة التوبة الآية 28

(2)

صحيح البخاري الغسل (285)، صحيح مسلم الحيض (371)، سنن الترمذي الطهارة (121)، سنن النسائي الطهارة (269)، سنن أبو داود الطهارة (231)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 235).

(3)

صحيح البخاري الغسل (285)، صحيح مسلم الحيض (371)، سنن الترمذي الطهارة (121)، سنن النسائي الطهارة (269)، سنن أبو داود الطهارة (231)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (534)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 235).

(4)

سورة آل عمران الآية 64

(5)

سورة آل عمران الآية 64

ص: 39

والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف، وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى: لا يجوز، واستدلوا بما سلف، وقد سلف ما فيه " (1).

(1) نيل الأوطار 1/ 259 - 261.

ص: 40

3 -

النقول عن الفقهاء

1 -

قال النووي:

" يحرم على المحدث مس المصحف وحمله سواء إن حمله بعلاقته أو في كمه أو على رأسه، وحكى القاضي حسين والمتولي وجها أنه يجوز حمله بعلاقته، وهو شاذ في المذهب وضعيف.

قال أصحابنا: وسواء مس نفس الأسطر أو ما بينهما أو الحواشي أو الجلد فكل ذلك حرام، وفي مس الجلد وجه ضعيف أنه يجوز، وحكى الدارمي وجها شاذا بعيدا أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي، ولا ما بين الأسطر ولا يحرم إلا نفس المكتوب، والصحيح الذي قطع به الجمهور تحريم الجميع.

وفي مس العلاقة والخريطة والصندوق إذا كان المصحف فيها وجهان مشهوران أصحهما: يحرم، وبه قطع المتولي والبغوي؛ لأنه متخذ للمصحف منسوب إليه كالجلد، والثاني: يجوز، واختاره الروياني في مس الصندوق. وأما حمل الصندوق وفيه المصحف فاتفقوا على تحريمه.

قال أبو محمد الجويني في الفروق: وكذا يحرم تحريكه من مكان إلى مكان، وأما إذا تصفح أوراقه بعود ففيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين أصحهما وبه قطع المصنف وسائر العراقيين: يجوز، لأنه غير مباشر له ولا حامل. والثاني: لا يجوز ورجحه الخراسانيون؛ لأنه حمل الورقة وهي بعض المصحف.

ولو لف كمه على يده وقلب الأوراق بها فهو حرام، هكذا صرح به الجمهور منهم الماوردي المحاملي في المجموع، وإمام الحرمين والغزالي والروياني وغيرهم،

ص: 40

وفرقوا بينه وبين العود بأن الكم متصل به وله حكم أجزائه في منع السجود عليه وغيره بخلاف العود، قال إمام الحرمين: ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم، قال ومن ذكر فيه خلافا فهو غالط، وشذ الدارمي عن الأصحاب فقال: إن مسه بخرقة أو بكمه فوجهان، وإن مسه بعود جاز.

وأما إذا حمل المصحف في متاع فوجهان حكاهما الماوردي والخراسانيون أصحهما وبه قطع المصنف والجمهور، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي: يجوز لأنه غير مقصود.

والثاني: يحرم؛ لأنه حامله حقيقة ولا أثر لكون غيره معه، كما لو حمل المصلي متاعا فيه نجاسة فإن صلاته تبطل.

قال الماوردي: وصورة المسألة أن يكون المتاع مقصودا بالحمل، فإن كان بخلافه لم يجز، وإنما قاس المصنف على ما إذا كتب كتابا إلى دار الشرك فيه آيات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى دار الشرك كتابا فيه شيء من القرآن مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن المسافرة بالقرآن إلى دار الكفر، فدل على أن الآيات في ضمن كتاب لا يكون لها حكم المصحف، والله سبحانه أعلم " (1).

ب- وقال النووي أيضا:

"الثانية: كتاب تفسير القرآن: إن كان القرآن فيه أكثر، كبعض كتب غريب القرآن حرم مسه وحمله وجها واحدا، كذا ذكره الماوردي وغيره، ونقله الروياني عن الأصحاب، وإن كان التفسير أكثر كما هو الغالب ففيه أوجه أصحها: لا يحرم؛ لأنه ليس بمصحف، وبهذا قطع الدارمي وغيره.

والثاني: يحرم لتضمينه قرآنا كثيرا.

والثالث: إن كان القرآن متميزا عن التفسير بخط غليظ حمرة أو صفرة ونحو ذلك حرم وإلا فلا، وبه قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي، وضعفه غيرهم، قال المتولي: وإذا لم يحرم كره.

وأما كتب القراءات فجعلها الشيخ نصر المقدسي ككتب الفقه وقطع هو بجوازها.

(1) المجموع شرح المهذب 2/ 73.

ص: 41

وأما كتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق الماوردي والقاضي حسين والبغوي وغيرهم جواز مسها وحملها مع الحديث، وقال المتولي والروياني يكره، والمختار ما قاله آخرون: إنه إن لم يكن فيها شيء من القرآن جاز، والأولى أن لا يفعل إلا بطهارة، وإن كان فيها قرآن فعلى وجهين في كتب الفقه" (1).

وقال أيضا: " الخامسة:

إذا كتب القرآن في لوح فله حكم المصحف فيحرم مسه وحمله على البالغ المحدث، هذا هو المذهب الصحيح، وبه قطع الأكثرون، وفيه وجه مشهور أنه لا يحرم؛ لأنه لا يراد الدوام بخلاف المصحف فعلى هذا يكره، قاله في التتمة، ولا فرق بين أن يكون المكتوب قليلا أو كثيرا فيحرم على الصحيح، قال إمام الحرمين: لو كان على اللوح آية أو بعض آية كتب للدراسة حرم مسه وحمله" (2).

وقال أيضا: " الثامنة: لو خاف المحدث على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه بيد كافر جاز أخذه مع الحدث، صرح به الدارمي وغيره، بل يجب ذلك صيانة للمصحف، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث.

قال القاضي أبو الطيب: ولا يلزمه التيمم له؛ لأنه لا يرفع الحدث، وفيما قاله نظر. وينبغي أن يجب التيمم؛ لأنه وإن لم يرفع الحدث فيبيح الصلاة ومس المصحف وحمله" (3).

جـ - وقال أيضا:

" (فرع) في مذاهب العلماء في مس المصحف وحمله، ومذهبنا تحريمهما، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء، وعن الحكم وحماد وداود: يجوز مسه

(1) المجموع شرح المهذب 2/ 76.

(2)

المجموع شرح المهذب 2/ 77.

(3)

المجموع شرح المهذب 2/ 77.

ص: 42

وحمله، وروي عن الحكم وحماد جواز مسه بظهر الكف دون بطنه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتابا فيه قرآن، وهرقل محدث يمسه وأصحابه؛ ولأن الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، ولأنه إذا لم تحرم القراءة فالمس أولى، وقاسوا حمله على حمله في متاع، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (1){فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2){لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (3){تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4)، فوصفه بالتنزيل وهذا ظاهر في المصحف الذي عندنا، فإن قالوا: المراد اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة المطهرون؛ ولهذا قال: "يمسه" بضم السين على الخبر، ولو كان المصحف لقال: يمسه بفتح السين على النهي، - فالجواب أن قوله تعالى ما له تنزيل ظاهر في إرادة المصحف فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح، وأما رفع السين فهو نهي بلفظ الخبر، كقوله:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (5) على قراءة من رفع، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يبيع بعضكم على بيع أخيه (6)» بإثبات الياء، ونظائره كثيرة مشهورة، وهو معروف في العربية، فإن قالوا: لو أريد ما قلتم لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، فالجواب أنه يقال في المتوضئ مطهر ومتطهر، واستدل أصحابنا بالحديث المذكور، وبأنه قول علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهم، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة.

والجواب عن قصة هرقل أن ذلك الكتاب فيه آية ولا يسمى مصحفا، وأبيح حمل الصبيان الألواح للضرورة، وأبيحت القراءة للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت، وحمله في المتاع؛ لأنه غير مقصود، وبالله التوفيق" (7).

د- وجاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية:

" وسئل. . عن رجل يقرأ القرآن وليس له على الوضوء قدرة في كل وقت، فهل له أن يكتب في اللوح ويقرؤه إن كان على وضوء وغير وضوء أم لا؟ وقد ذكر بعض المالكية أن

(1) سورة الواقعة الآية 77

(2)

سورة الواقعة الآية 78

(3)

سورة الواقعة الآية 79

(4)

سورة الواقعة الآية 80

(5)

سورة البقرة الآية 233

(6)

رواه البخاري في كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه.

(7)

المجموع شرح المهذب 2/ 79.

ص: 43

معنى قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) تطهير القلب، وأن المسلم لا ينجس، وقال بعض الشافعية: لا يجوز له أن يمس اللوح، أو المصحف على غير وضوء أبدا، فهل بين الأئمة خلاف في هذا أم لا؟

فأجاب: الحمد لله، إذا قرأ في المصحف أو اللوح، ولم يمسه جاز ذلك، وإن كان على غير طهور، ويجوز له أن يكتب في اللوح وهو على غير وضوء والله أعلم.

وسئل. . هل يجوز مس المصحف بغير وضوء أم لا؟

فأجاب: مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، كما قال في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:«أن لا يمس القرآن إلا طاهر (2)» ، قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه له، وهو أيضا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف.

وسئل. . عن الإنسان إذا كان على غير طهر، وحمل المصحف بأكمامه ليقرأ به، ويرفعه من مكان إلى مكان، هل يكره ذلك؟

فأجاب: وأما إذا حمل الإنسان المصحف بكمه فلا بأس، ولكن لا يمسه بيديه.

وسئل. . عمن معه مصحف، وهو على غير طهارة، كيف يحمله؟

فأجاب: ومن كان معه مصحف فله أن يحمله بين قماشه، وفي خرجه وحمله، سواء كان ذلك القماش لرجل أو امرأة أو صبي، وإن كان القماش فوقه أو تحته" (3).

(1) سورة الواقعة الآية 79

(2)

موطأ مالك النداء للصلاة (468).

(3)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 21/ 265 - 267.

ص: 44