الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد بذل محمد بن مسلمة قصارى جهده ليحول دون الفتنة، ووقف مواقف شجاعة مخلصة ليقول كلمة الحق أما الحشود الغاضبة، وبخاصة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، حين صدق عثمان في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الحشود ملعونة، فاعتدت تلك الحشود على عثمان وهو على المنبر حتى فقد وعيه وحمل إلى داره، فما سكت ابن مسلمة عن الحق ولا خشي غضبة الحشود عليه، وما قصر في نصح عثمان ولا في نصح تلك الحشود، ولكن الفتنة كانت أقوى من محاولاته ومحاولة غيره من المؤمنين الصادقين، ويبدو أن الأيدي الخفية التي لا تريد خير المسلمين هي التي كانت تحرك بمهارة تلك الحشود، فانهارت محاولات ابن مسلمة المخلصة الداعية الدائبة، وحققت الأيدي الخفية من أعداء الإسلام أهدافها في تفرقة كلمة المسلمين وإشاعة الفتنة بينهم، وأنهت حياة عثمان رضي الله عنه فمضى مظلوما شهيدا، وتفرقت تلك الحشود إلى أمصارها لتزرع بذور الفتنة شرقا وغربا، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وتوقف الفتح الإسلامي، وأصبحت سيوف المسلمين عليهم لا على أعدائهم.
- 3 -
اعتزال الفتنة الكبرى:
هز مقتل عثمان بن عفان في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة المسلمين الشرعي، كثيرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم محمد بن مسلمة - هزا عنيفا، واعتبروا ما حدث فتنة من الفتن لا تبقي ولا تذر، ومن واجبهم وواجب كل مسلم ألا يشارك فيها بسيفه ولا يده ولا لسانه، وألا يدخر وسعا في إخماد أوارها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ومن الخطأ أن نعتبر اعتزال محمد بن مسلمة الفتنة لأنه كان (عثمانيا) وأن نعتبر اعتزال أمثاله من كبار الصحابة، لأنهم كانوا عثمانيين، فما كان محمد بن مسلمة منتفعا من عثمان ولا من عهده ماديا ولا معنويا، ولا كان متهما بهذا الانتفاع من قريب أو بعيد، وما كان عثمان بالنسبة لمحمد بن مسلمة إلا رمزا للشرعية بالإضافة إلى مزاياه الأخرى التي لا يستطيع أن ينكرها عليه عدو ولا صديق، فإذا وقف محمد بن مسلمة إلى جانب عثمان سرا وعلنا، فقد وقف إلى جانب الشرعية دفاعا
عن المثل الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف، وخوفا من الفتنة التي تمزق صفوف المسلمين ومنعا لانتشارها المدمر، وقد حدث ما توقعه محمد بن مسلمة وتوقعه أمثاله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتسمين ببعد النظر والإيمان العميق.
ومن المؤكد أن موقف محمد بن مسلمة المسئول تجاه عثمان موقف ثابت مسئول لو كان الخليفة المعتدى عليه غير عثمان، فهو موقف مبدئي لا شك فيه وليس موقفا مصلحيا يتبدل بتبدل الظروف والأحوال.
وأخذت الفتنة تستشري، فكانت وقعة " الجمل " بين الإمام علي بن أبي طالب وبين المعارضين لخلافته، فقتل يومئذ من المسلمين عشرة آلاف، وكان ذلك سنة ست وثلاثين للهجرة (1)(656) م.
ثم كانت معركة " صفين " بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قتل فيها من الفريقين ستون ألفا من المسلمين (2).
وهكذا تساقط المسلمون بسيوفهم، وتوقف الفتح الإسلامي نهائيا، وطمع الروم باستعادة ما فتحه المسلمون من بلادهم، فأصبح الطالب مطلوبا والمنتصر مهزوما.
وما كان أمام محمد بن مسلمة إلا اعتزال الفتنة، فلم يكن مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكنه لم يكن عليه، واعتزل معه جماعة من كبار الصحابة منهم سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم، (3) فكانوا ممن اعتزل الحروب بالجمل وصفين ونحو ذلك (4).
واعتزل محمد بن مسلمة بالربذة (5) في البادية عن المدينة وأهلها الذين فرقتهم الفتنة أيضا قال ضبيعة بن حصين الثعلبي: " كنا جلوسا مع حذيفة بن اليمان فقال: " إني لأعلم رجلا لا تنقصه الفتنة شيئا، فقلنا: من هو؟ فقال: محمد بن مسلمة
(1) العبر (1/ 37).
(2)
العبر (1/ 28).
(3)
أسد الغاية (4/ 331) والاستيعاب (3/ 1377).
(4)
البداية والنهاية (8/ 27).
(5)
البداية والنهاية (8/ 27).
الأنصاري. فلما مات حذيفة وكانت الفتنة، خرجت فيمن خرج من الناس، فأتيت أهل ماء، فإذا أنا بفسطاط مضروب متنحى تضربه الرياح، فقلت: لمن هذا الفسطاط؟ قالوا لمحمد بن مسلمة. فأتيته، فإذا هو شيخ. فقلت له: يرحمك الله! أراك رجلا من خيار المسلمين، تركت بلدك ودارك وأهلك وجيرتك، قال:" تركته كراهية الشر، ما في نفسي أن تشتمل على مصر من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت "(1).
وقد روى محمد بن مسلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفا وقال له:" قاتل به المشركين ما قوتلوا، فإذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضا، فائت به " أحدا " فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية "(2).
وروى محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفا فقال: «يا محمد بن مسلمة! جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت من المسلمين فئتين تقتتلان، فاضرب به الحجر حتى تكسره، ثم كف لسانك ويدك، حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة (3)» ، فلما قتل عثمان، وكان من أمر الناس ما كان، خرج إلى صخرة في فنائه، فضرب الصخرة بسيفه حتى كسره (4).
وذكر محمد بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره باعتزال الفتنة، (5) فاتخذ سيفا من خشب (6) قد نحته وصبره في الجفن معلقا بالبيت، وقال:" إنما علقته أهيب به ذاعرا "(7).
وهكذا تقاعد محمد بن مسلمة، فكسر سيفه الذي يقاتل به. حين أصبحت سيوف أكثر المسلمين تقاتل المسلمين ولا تقاتل أعداءهم، وأصبح سيفه من
(1) طبقات ابن سعد (3/ 444 - 445).
(2)
طبقات ابن سعد (3/ 444) والإصابة (6/ 63).
(3)
سنن ابن ماجه الفتن (3962)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 225).
(4)
طبقات ابن سعد (3/ 445) وانظر الإصابة (6/ 63).
(5)
الاستيعاب (3/ 1377) والبداية والنهاية (8/ 27).
(6)
البداية والنهاية (8/ 27).
(7)
طبقات ابن سعد (3/ 445)، غمد السيف.