الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5)
التذكر منطلق المسئولية:
فعند الذكرى أو التذكر تتحدد المسئولية وتتأكد، وتنتفي الأعذار والتعللات، يبدو ذلك من خطاب الله لرسوله في هاتين الآيتين:{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1){وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (2)، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} (3)، {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} (4).
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2)
سورة الأنعام الآية 69
(3)
سورة السجدة الآية 22
(4)
سورة الكهف الآية 57
بواعث التذكر
من هذه الموضوعات التي أثرتها والنتائج التي استخلصتها نستطيع أن نقف على مدى أهمية التذكر في سلوك كل ذي دين، وبخاصة دين الإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه.
وبالدراسة الواعية القائمة على استقراء دقيق لاستعمالات هذه الألفاظ في القرآن الكريم (التذكر والتذكير والذكرى) نرى أن الكتاب العزيز وضع تحت أيدينا وسائل التذكر وبواعثه، وهي متعددة ومتنوعة حتى تغطي ميول البشر، وتصيب نوازعهم وهي مختلفة ومتنوعة.
وهذه هي البواعث التي تدفع إلى التذكر، معززة بآيات القرآن الكريم التي تناولتها.
(1)
الكتاب السماوي بعامة باعث على التذكر، والقرآن بخاصة يعد من أول الوسائل وأقوى البواعث والحوافز، فهو من حيث الإطار يثير التذكر بلسانه العربي، ومن حيث المضمون هو مليء بالمواعظ والعبر، حافل بالدروس والقصص، وهو - كما قلنا أول البحث - والذكر صنوان، فالقرآن ذو الذكر، وسماه الله ذكرا في أكثر من موضع، وفي خمس عشرة آية منه يبين الله لنا أن كتاب السماء
يحرك النفوس إلى التذكر، فلا يضيع إيمانها في سحب الغفلة وركامها، في ثلاثة مواضع منها حديث عن كتاب موسى، وفي باقيها حديث من القرآن.
وهذه هي السور والآيات التي وصفت كتاب الله بأنه دافع إلى التذكر ووسيلة إلى التذكير: [41 / الإسراء، 48 / الأنبياء، 43 / القصص، 51 / العنكبوت، 29 / ص، 53، 54 / غافر، 58 / الدخان]، وفي سورة ق {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (1)، وفي سورة القمر جاءت هذه الآية:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) أربع مرات، وفي الحاقة:{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (3).
(1) سورة ق الآية 45
(2)
سورة القمر الآية 17
(3)
سورة الحاقة الآية 48
(2)
وجاء لفظ الآيات باعثا على التذكر في نحو سبع آيات، والآيات إما كونية وإما قرآنية، والتذكير بالقرآن تحدثنا عنه، والتذكير بآيات الكون سنتحدث عنه، أما في هذه المواطن فقد جاءت الآيات عامة بدون تحديد، لكن في بعض المواطن يغلب على الظن أنها القرآنية، وفي بعضها الآخر يترجح أنها الكونية.
فمن الأولى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} (1) الكهف والسجدة، {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (2) وراجع 15 / السجدة و 221 البقرة.
ومن الثانية قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (3)، والمشار إليه نعم الله على بني آدم باللباس والرياش، ثم إرشادهم إلى أن لباس التقوى أجمل وأكمل.
(1) سورة الكهف الآية 57
(2)
سورة الفرقان الآية 73
(3)
سورة الأعراف الآية 26
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} (1): أي أن الحديث في إنشاء السحاب وإنزال المطر تنوع القول فيه بين الناس في القرآن وفي الكتب السماوية الأخرى ليتذكروا ويعتبروا.
(1) سورة الفرقان الآية 50
(3)
التأمل في مخلوقات الله وفي سننه الكونية، وهذا من أقوى البواعث على التذكر، ومن أنجح وسائل التذكير، ولا عجب فهو المنهج الذي ارتضاه القرآن لهداية النفوس الضالة إلى الله، وفي غرس جذور العقيدة ودعم سلطانها على قلوب البشر.
وقد أشرت في الفقرة السابقة إلى آيتين فيهما حديث عن آيات الله حافز على التذكير.
وتأمل معي هذه الآيات التي تعرض جوانب من الكون العظيم، لتنتهي بالناس إلى ضرورة الإيمان والتوحيد:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (1){أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2)، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3)، وراجع [57 / الأعراف- 17 / النحل- 62 / الواقعة- 8 / ق- 31 / المدثر- 62 / النمل].
(1) سورة يونس الآية 3
(2)
سورة الزمر الآية 21
(3)
سورة الذاريات الآية 49
(4)
التذكير بعبر التاريخ وأحداثه:
والتاريخ ذاكرة البشر وملهم المواعظ، وكلما عرفت الأمم ماضيها أقامت على أصح التجارب مستقبلها، ولذلك عني القرآن الكريم بدعوة الأمم إلى السير في
الأرض والنظر في أخبار السابقين، وكان القصص القرآني على كثرته وتنوعه بمثابة جذب لذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم نحو عبر الماضي؛ لينتفع بها في الحاضر، فالتجربة البشرية واحدة، والتاريخ يعيد نفسه، يقول تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (1){أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (2) قد مرت آيات فيها دعوة للرسل إلى تذكر التاريخ، وتذكير أممهم به، مثل قوله تعالى لنبيه موسى:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (3)، كما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (4)، وفي تذكير البشر بالقرون السابقة يقول تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (5) بعد قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} (6).
وللقصص القرآني هدف آخر، وهو تذكير المعاندين والضالين {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (7).
(1) سورة الذاريات الآية 52
(2)
سورة الذاريات الآية 53
(3)
سورة إبراهيم الآية 5
(4)
سورة هود الآية 120
(5)
سورة ق الآية 37
(6)
سورة ق الآية 36
(7)
سورة القصص الآية 51
(5)
يوم القيامة:
اليوم الحق، ويوم الهول ويوم الزلزلة، ويوم القارعة، سيعيد للغافلين ذاكرتهم، ويطلبون دنيا أخرى يستدركون فيها ما فات، ويكون الجواب:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} (1)، ووصف القرآن الكريم يوم القيامة بأنه يوم التذكر {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (2){يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} (3)، واقرأ الآيات [18 / محمد، 54، 55 / المدثر، 19 / المزمل].
(1) سورة فاطر الآية 37
(2)
سورة الفجر الآية 23
(3)
سورة النازعات الآية 35
(6)
التذكير بالمحن والنعم:
قد يسلط الله على البغاة المحن- رحمة منه- رجاء أن يتذكروا، يقول تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (1)، ومنهم الغارقون في الغفلة، فلا تؤثر فيهم ضراوة المحنة، وهم المنافقون {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (2).
والنعم باعث آخر على التذكر، وتبلغ من بعض النفوس أكثر مما تبلغ منها المحنة، يقول تعالى:{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3)، {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (4).
وفي نعم الله على الصالحين موعظة وتذكرة، يقول عن نبيه أيوب:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (5).
وفي سور ص، يقول الله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (6).
وفي إنقاذ المؤمنين بنوح من الطوفان تذكرة بالغة، إذ يقول تعالى مشيرا إلى السفينة:{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} (7).
وفي معرفة الإنسان للنار تذكرة ومتعة، وتذكرة بنار الآخرة وبلائها وأهوالها، ومتعة في الدار العاجلة؛ إذ يستخدمها الإنسان في تحصيل الكثير من منافعه، يقول تعالى:{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} (8).
(1) سورة الأعراف الآية 130
(2)
سورة التوبة الآية 126
(3)
سورة الأعراف الآية 69
(4)
سورة الأعراف الآية 74
(5)
سورة الأنبياء الآية 84
(6)
سورة ص الآية 43
(7)
سورة الحاقة الآية 12
(8)
سورة الواقعة الآية 73
والمقوون: المسافرون.
(7)
القول اللين، والموعظة الحسنة، وضرب الأمثال:
لين القول وحسن الموعظة، والاستعانة على هذا وذاك بضرب المثل من أبلغ وسائل التذكير التي اعتمد عليها القرآن في نصح البشر.
فبالقول اللين وصى الله نبيه موسى وأخاه هارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1).
وهذان نموذجان للقول اللين الذي يحفز إلى التذكر، من واقع أسلوب القرآن:
الأول: في مجادلة من زعموا الملائكة بنات الله مع بغضهم للبنات: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} (2){مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (3){أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (4) والثاني: في محاورة من اتبعوا هواهم فضلوا السبيل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (5) وقد استعان القرآن الكريم على ذلك بضرب الأمثال، وقد عرفنا مثل الفريقين: المؤمنين والكافرين، وتشبيه الأولين بالبصير والسميع، والآخرين بالأعمى والأصم، وتعقيب الآية على ذلك بهذا التساؤل:{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (6).
وفي القيمة التوجيهية والتأثيرية لضرب الأمثال، وفي دفعها القوي إلى التذكر يقول تعالى:{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (7)، كما يقول تعالى:
(1) سورة طه الآية 44
(2)
سورة الصافات الآية 153
(3)
سورة الصافات الآية 154
(4)
سورة الصافات الآية 155
(5)
سورة الجاثية الآية 23
(6)
سورة هود الآية 24
(7)
سورة إبراهيم الآية 25
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1)، ويقول تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2){وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (3).
والآية الأخيرة تكشف عن المقدرة الفكرية والعلمية الواسعة التي يتصف بها كل إنسان يستفيد من أمثال القرآن الكريم.
رب أعني على ذكرك، وذكرني بآياتك حتى تذكرني يوم العرض عليك، واجعل لكل مسلم يقرأ بوعي كفلا مما دعوت، إنك سميع الدعاء.
(1) سورة الزمر الآية 27
(2)
سورة الحشر الآية 21
(3)
سورة العنكبوت الآية 43