الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآن الكريم ذكر الله صفة للمتقين الذين تتجه هممهم إلى خشية الله ومراقبته يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (1)، كما يقول تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (2)، ومن هنا كان نسيان الذكر مباءة للفساد، ويزيد من فرص الانحراف في أمور الدنيا، وعن أوامر الدين.
وهذا هو شأن من نسوا ذكر الله، توضحه عدة آيات، وفي كل آية منها إشارة إلى باعث لهذا النسيان، وهو إما استهواء الشيطان أو استعلاء الإنسان أو غرور لا يسمح بفهم واقعه البشري، فيذكر ماديته وينسى ذكر ربه.
ولكون الآيات التي تتناول نسيان الذكر تعنى بتحليل أسباب هذه الظاهرة سأتناول هذه الآيات عند تناولي لأسباب هذه الظاهرة بعد قليل.
واقتران نسيان الذكر بتحليل بواعثه وبيان أسبابه دلالة على خطورة هذا النوع الذي يصرف الفكر عن ربه ويدفع الإنسان إلى مهاوي الضلال.
(1) سورة الأعراف الآية 201
(2)
سورة آل عمران الآية 135
بواعث النسيان:
عندما يكون النسيان مجرد ظاهرة بشرية فبواعثه حينذاك نفسية بحتة، تنبع من داخل الإنسان، وتتمشى مع فطرته الإنسانية في استواء، ليس فيه شذوذ أو نشاز أو التواء، وهذه البواعث خارجة عن دائرة هذا البحث، ومجال دراستها بحوث علماء النفس، ولا يعنى القرآن الكريم في هذه الناحية الإنسانية إلا بتسجيل ظواهرها، أما تحليل الأسباب فرب العالمين خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، ويفرض عليه من السلوك ما ينسجم مع بشريته، وتعليل الظواهر البشرية الثابتة لا يفيد الإنسان في تدينه، أي في علاقته بخالقه ومولاه.
أما النسيان المنحرف فهو الذي تعرضت له الآيات لما وراءه من بواعث؛ لأنها تنبع من خارج الإنسان، أو من داخله الذي خالف عن نداء الفطرة القويم، وذكر البواعث حينذاك علامات هادية للإنسان على الطريق.
وهذه هي الأسباب:
في مقدمتها الشيطان، وقد نسب إليه القرآن الكريم شغل الإنسان عن ربه، وصرفه عن ذكره، وذلك في عدة مواطن:
فيوسف في سجنه وقد طال به الأمد، وفي نفسه شعور صارخ بالظلم، وسجنه هو البديل الوحيد للرذيلة التي تطارده، طلب إلى أحد رفيقيه- وقد يسرت له النجاة- أن يذكره عند الملك، ونسي يوسف رب الملك، إذا لا نجاة له إلا بتقديره، ولكن الشيطان قد ينال من الإنسان وهو يعانى من ضراوة الامتحان، قال تعالى:{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} (1).
وكان مكثه في السجن لمسة عقاب على غفوة يسيرة تولى أمرها الشيطان.
وفي حديث القرآن الكريم عن المنحرفين عن سمت الإسلام إما بفساد في العقيدة، أو انحراف في السلوك نجد تعليلا لذلك يتمثل في تسلط الشيطان عليهم، وسيطرته على نفوسهم، فأنساهم خالقهم، وبذلك تم لهم الانغماس في ضلالهم، يقول تعالى:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (2).
والشيطان وهو يؤدي رسالة الشر في البشرية لا يقصر جهده على الأشرار فهم جنوده وقد فرغ منهم، ولكنه يبحث عن ضالته في السائرين على طريق الرشاد يحاول جذبهم إليه، وقد تبلغ به الوقاحة مبلغا كبيرا، فيطمع في أن ينال فرصة من رواد البشرية، وأنى له ذلك؟ ولذا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام
(1) سورة يوسف الآية 42
(2)
سورة المجادلة الآية 19
مذكرا ومحذرا، يذكره بمحاولات الشيطان جذبه إليه في مجالس هؤلاء الضالين، ويحذره من الجلوس معهم أكثر من فترة التذكير والتوجيه:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1).
والغرور هو ثاني الأسباب:
وهو أن يسيء الإنسان فهم نفسه، بأن ينسى الأصل الذي منه نشأ، أو ينسى أن الأيام تدول، وأن النعم تزول، وأن النعمة قد تصير شقاء، والجاه قد يتحول إلى بلاء.
وسوء الفهم الذي يوجد الغرور هو الذي ينسي الإنسان هذه الحقائق الثابتة من سنن الله في الحياة.
فأبي بن خلف عندما وقف موقف التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم منكرا في تهكم عقيدة البعث ويأتي بعظام بالية ويفتنها بيده ويقول: أترى يا محمد أن الله يحيي العظام بعدما رمت؟!! من غير شك أن أبيا في موقفه الذي تبدو منه حماقة البغي وشراسة الجحود لم يدر بخلده الماء المهين الذي خلق منه!! ولو تذكره لراجع نفسه مرات قبل أن يقول ما قال، وهذه هي الحقيقة التي يسجلها القرآن الكريم:{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (2){قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (3).
فالغرور أنسى أمية إحدى بديهيات الوجود حتى تورط فيما تورط فيه من كفران وجحود، والنعمة تأتي للإنسان بما وراءها من بهجة ومتاع، فيعيش عيشة الرغد، ويرفل في أفخر الثياب، وينعم في سلطان المال والجاه، وينسى أسس شقائه وبلائه، وفقره وبأسائه.
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2)
سورة يس الآية 78
(3)
سورة يس الآية 79
إن الإنسان المغرور، يفزع إلى ربه في الضراء، وينسى ضراعته في السراء:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (1).
فغرور الإنسان أنساه صاحب الحق، فضل السبيل إليه وأشرك.
وكم يؤدي غرور الإنعام بالإنسان إلى مهاوي الكفران عندما ينسى ما كان فيه من عسر وما صار إليه من يسر.
ويوم القيامة سيبرأ المعبودون من العبيد أمام رب الأرض والسماء معللين انحراف من عبدوهم بأن متاع النعمة أنساهم فضل المعبود الواحد، يقول تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} (2){قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (3).
ومن عجب أن تكون نعمته سببا لجحود فضله، والغفلة عن ذكره، ثم ضلالهم طريق الوصول إليه.
وثالث الأسباب: شهوة التسلط عندما يشعلها إمعان الأتباع في الخضوع.
قد يجد المغرور من يستخزي لكبريائه، وينصاع لغلوائه، ويستذل لبغيه، فيغريه ذلك بمزيد من الطغيان، ويسمع كلمات الثناء وعبارات التمجيد من أفواه العبيد، فيتصور أنه كبير، وينسى أن فوقه الكبير المتعال.
وعندما وجد فرعون من يستذلهم أنساه ذل العبيد أنه عبد مثلهم، وصدق رب العالمين إذ يقول:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} (4).
(1) سورة الزمر الآية 8
(2)
سورة الفرقان الآية 17
(3)
سورة الفرقان الآية 18
(4)
سورة الفرقان الآية 20