الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري
.
فارس نبي الله (1)
اللواء الركن محمود شيت خطاب (2)
نسبه وأيامه الأولى:
هو محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، وهو النبيت بن مالك من الأوس (3)، حليف بني عبد الأشهل (4) من الأوس (5) أيضا.
وأمه: أم سهم، واسمها خليدة بنت أبي عبيد بن وهب بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب، من الخزرج (6).
يكنى: أبا عبد الرحمن، وقيل: بل يكنى: أبا عبد الله، (7) ويبدو أنه كان يكنى أبا عبد الرحمن وهو ولده الأكبر، فمات عبد الرحمن فأصبح يكنى أبا عبد الله، وهذه هي عادة العرب قديما وحديثا، يكنون باسم ولدهم الأكبر، فإذا مات يكنون باسم الذي يليه في الكبر.
(1) طبقات ابن سعد (3/ 445).
(2)
(*) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر صفحة 233.
(3)
طبقات ابن سعد (3/ 443) والاستيعاب (3/ 1377) وأسد الغابة (4/ 330).
(4)
الإصابة (6/ 63) وأسد الغابة (4/ 330).
(5)
الاستبصار (205) وجمهرة أنساب العرب (339).
(6)
طبقات ابن سعد (3/ 443).
(7)
الاستيعاب (3/ 1377) وأسد الغابة (4/ 330) وتهذيب التهذيب [9/ 454].
أسلم محمد بالمدينة على يد مصعب بن عمير قبل إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، (1) وهو ممن سمي في الجاهلية محمدا، (2) لما كان يبلغهم أنه يبعث في العرب نبي يقال له: محمد، (3) وكان أهل الأديان السابقة ومنها من كان في المدينة يتحدثون بقرب ظهور نبي من العرب، مما يدل على استعداده واستعداد أهله لاعتناق الدين الجديد.
وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بين محمد بن مسلمة، وأبي عبيدة بن الجراح (4).
ولما بدأ الجهاد العملي بين المسلمين من جهة والمشركين ويهود من جهة أخرى، شهد محمد بدرا والمشاهد كلها (5) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا غزوة تبوك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة حين خرج إلى تبوك، (6) ولكنه شارك بماله في هذه الغزوة إذ حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالا، (7) وهو ما تيسر لديه يومئذ مشاركا في جيش العسرة.
وسنلمس بوضوح مبلغ جهاده وجهوده في الغزوات والسرايا وشيكا.
(1) طبقات ابن سعد (3/ 443) والبداية والنهاية (8/ 28).
(2)
الإصابة (6/ 63) وأنساب الأشراف (1/ 538).
(3)
المحبر (130).
(4)
المحبر (75) وطبقات ابن سعد (3/ 443) وأنساب الأشراف (1/ 224) و (1/ 271).
(5)
الاستبصار (241) وأسد الغابة (4/ 330) والاستيعاب (3/ 1377).
(6)
طبقات ابن سعد (3/ 443) وأنساب الأشراف (1/ 368). ومغازي الواقدي [3/ 995].
(7)
مغازي الواقدي (3/ 991).
في الغزوات
1 -
وشهد محمد بن مسلمة غزوة بني قينقاع من يهود، ويبدو أنه أبلى فيها بلاء حسنا فكرمه النبي صلى الله عليه وسلم ووهب له درعا من دروعهم، (1) كما أنه تولى إجلاءهم وقبض أموالهم (2).
2 -
وكان له مواقف مشرفة في غزوة " أحد "، فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الحرس، فكان يطوف حول العسكر وفي العسكر، في خمسين رجلا، (3) وكان فيمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حين ولى الناس، (4) فقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر صبروا معه، أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، منهم محمد بن مسلمة (5) قال محمد بن مسلمة:" سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: إلي يا فلان! إلي يا فلان! أنا رسول الله! فما عرج منهما واحد عليه ومضيا "، (6) فقد كان الموقف عصيبا إلى أبعد الحدود.
وبعد أن عاد المسلمون إلى المدينة ليلا بعد يوم أحد، خرج محمد بن مسلمة يطلب من النساء ماء، وكن قد جئن أربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملن الطعام والشراب على ظهورهن ويستقين الجرحى ويداوينهم، (7) وهكذا لم يقتصر نشاط محمد بن مسلمة على القتال، بل امتد نشاطه إلى القضايا الإدارية أيضا، فقد أشرف على العملية الإدارية التي نهض بها نساء المسلمين، فلما لم يجد عندهم ماء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عطش يومئذ عطشا شديدا، ذهب ابن مسلمة
(1) مغازي الواقدي (1/ 179) وأنساب الأشراف (1/ 309).
(2)
مغازي الواقدي (1/ 178).
(3)
أنساب الأشراف (1/ 315).
(4)
طبقات ابن سعد (3/ 443).
(5)
مغازي الواقدي (1/ 240).
(6)
مغازي الواقدي (1/ 237).
(7)
مغازي الواقدي (1/ 249).
إلى قناة وأخذ سقاءه حتى استقى من حسي، فأتى بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير (1).
3 -
وفي غزوة بني النضير من يهود، التي كان سببها المباشر محاولة يهود الغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يومئذ في زيارتهم لمعاونته في تحمل ديتين لرجلين قتلهما أحد المسلمين (2) ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من بني النضير إلى المدينة، وتبعه أصحابه، فأرسل إلى محمد بن مسلمة يدعوه، فقال أبو بكر الصديق:" يا رسول الله! قمت ولم نشعر "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«همت يهود بالغدر بي» .
وجاء محمد بن مسلمة، فقال:«اذهب إلى يهود بني النضير، فقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلده» .
ولما جاءهم ابن مسلمة قال لهم: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم ليقول لكم:
قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي. . ويقول: اخرجوا من بلدي، فقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه "، قالوا: "يا محمد! ما كنا نرى أن يأتي بذلك رجل من الأوس!! (3)» وكان الأوس حلفاء بني النضير.
وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوما، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي إخراجهم محمد بن مسلمة (4) كما ولي قبض أموالهم وسلاحهم (5).
ولم يكن تكليف محمد بن مسلمة بتبليغ بني النضير بالجلاء، وتوليته إجلاءهم وإخراجهم من ديارهم وقبض أموالهم وسلاحهم، إلا لأنه من الأوس حلفاء بني
(1) مغازي الواقدي (1/ 250).
(2)
انظر مغازي الواقدي (1/ 363 - 366).
(3)
مغازي الواقدي (1/ 366 - 367).
(4)
مغازي الواقدي (1/ 374).
(5)
مغازي الواقدي (1/ 377).
النضير، فأثبت محمد بن مسلمة أن ولاءه للإسلام وحده لا لأعداء الإسلام حتى ولو كانوا من حلفائه المقربين إلى قومه، وبذلك حلت مثل الإسلام مكان تقاليد الجاهلية، وكان ما فعله محمد بن مسلمة اختبارا عمليا لإيمانه العميق بالمثل الإسلامية الجديدة وتخليه نهائيا عن تقاليد الجاهلية البالية.
4 -
وفي غزوة " دومة الجندل "، تفرق المشركون، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجد بها أحدا، فأقام بها أياما وبث السرايا وفرقها حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه، ولم يصادفوا منهم أحدا، إلا أن محمد بن مسلمة أخذ رجلا منهم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أصحابه فقال:" هربوا أمس حيث سمعوا بأنك قد أخذت نعمهم " فعرض عليه رسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أياما، فأسلم الرجل، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (1).
5 -
وشهد محمد بن مسلمة الخندق، (2) فأقبل خالد بن الوليد في ليلة من ليالي تلك الغزوة في مائة فارس، أقبلوا حتى وقفوا وجاه قبة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنذر محمد بن مسلمة قائد حرس النبي صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر، وأقبل خالد في ثلاثة نفر هو رابعهم، فقال:" هذه قبة محمد! ارموا. . ارموا. " فقاومهم محمد بن مسلمة، حتى وقف ومن معه من المسلمين على شفير الخندق، وخالد ومن معه بشفير الخندق من الجانب الآخر، حتى ردهم المسلمون ولم ينالوا خيرا (3) وذكر محمد بن مسلمة أنه كان مع قسم من المسلمين حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسونه، إذ وافت أفراس على (سلع)، فبصر بهم عباد بن بشر، فأخبرهم بهم، فمضى إلى الخيل، وعباد قائم على باب قبة النبي صلى الله عليه وسلم، آخذا بقائم السيف ينتظر عودة محمد بن مسلمة إلى موضعه
(1) مغازي الواقدي (1/ 403 - 404)
(2)
طبقات ابن سعد (3/ 443).
(3)
مغازي الواقدي [2/ 467 - 468].
في حراسة قبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول ابن مسلمة:" كان ليلنا بالخندق نهارا، حتى فرجه الله "، (1) يريد أنهم يسهرون الليل كله خوفا من مباغتة قريش لهم، وحرصا على سلامة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
(1) مغازي الواقدي (2/ 498).
6 -
بني قريظة - وفي غزوة بني قريظة من يهود، كان محمد بن مسلمة أحد فرسان المسلمين، (1) وقد ذكر أن المسلمين حاصروهم قبل الفجر، وجعلوا يدنون من الحصن ويرمونهم عن كثب، ولزموا حصونهم لا يفارقونها حتى حل المساء، والنبي صلى الله عليه وسلم يحضهم على الجهاد والصبر. وبات المسلمون حول حصون يهود حتى تركوا قتال المسلمين وطلبوا أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم، فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على المفاوضة، فأنزلوا نباش بن قبس أحدهم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، وقال:" يا محمد انزل على ما نزلت عليه بنو النضير: لك الأموال والسلاح، وتحقق دماءنا ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري، ولنا ما حملت الإبل إلا السلاح "، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:" ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل " فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إلا أن تنزلوا على حكمي (2).
(1) انظر أسماء الفرسان المسلمين في مغازي الواقدي (2/ 498)
(2)
انظر تفاصيل المفاوضات في مغازي الواقدي (2/ 501 - 503).
(3)
مغازي الواقدي (2/ 504) والدرر (191).
ولما جهدهم الحصار، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسراهم، فكتفوا رباطا، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة (1).
ووصف محمد بن مسلمة الموقف الراهن فقال: «وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودنت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! حلفاؤنا دون الخزرج، وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس، حلفاء ابن أبي: ونصبت له ثلاثمائة حاسر وأربعمائة ذراع، وقد ندم حلفاؤنا على ما كان من نقضهم العهد، فهبهم لنا! ورسول الله ساكت لا يتكلم، حتى أكثروا عليه وألحوا ونطقت الأوس كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم؟ قالوا: بلى! قال: فذلك إلى سعد بن معاذ، وسعد يومئذ في المسجد في خيمة يداوي جرحه.
وجاء سعد، فأكثر عليه الأوس. فقال:" قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم "، وأقبل إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال:" أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الأموال "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله عز وجل من فوق سبعة أرقعة»، (2). فنفذ فيهم الحكم العادل (3).
وابتاع محمد بن مسلمة من السبي ثلاثة: امرأة معها أبناها، بخمسة وأربعين دينارا، وكان ذلك حقه وحق فرسه من السبي والأرض والرثة، (4)، وكان أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للفارس ثلاثة أسهم: له سهم ولفرسه سهمان (5).
7 -
وشهد محمد بن مسلمة غزوة " الحديبية "، (6)، فكان أحد فرسان الطليعة التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمرة عباد بن بشر والمؤلفة من عشرين فارسا (7).
(1) مغازي الواقدي (2/ 510).
(2)
الأرقعة: السموات. الواحدة رقيع، شرح أبي ذر [306]. .
(3)
انظر التفاصيل في مغازي الواقدي (2/ 510 - 525).
(4)
الرثة: رديء المتاع، وسقط المتاع (ج): رثت ورثاث.
(5)
مغازي الواقدي (2/ 524).
(6)
قرية صغيرة على تسعة أميال من مكة، انظر شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (2/ 216).
(7)
مغازي الواقدي (2/ 574).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل، فكان ثلاثة من أصحابه يتناوبون الحراسة أحدهم محمد بن مسلمة، وكان ابن مسلمة على فرس النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من تلك الليالي، وعثمان بن عفان بمكة بعد، وقد كانت قريش بعثت ليلا خمسين رجلا، وأمروهم أن يطوفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يصيبوا منهم أحدا أو يصيبوا منهم غرة، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان بمكة قد أقام بها ثلاثا يدعو قريشا، وكأن رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهليهم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان وأصحابه قد قتلوا، فذلك حين دعا إلى البيعة تحت الشجرة على الموت، وبلغ قريش حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة، وأسروا حينئذ من المشركين أسرى (1).
وعندما عقد صلح الحديبية بين المسلمين وقريش، كان محمد بن مسلمة أحد الشهود المسلمين على عقد صلح مع جماعة من المسلمين منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم رضي الله عنهم جميعا (2).
8 -
وشهد محمد بن مسلمة غزوة " خيبر "، (3) «فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم بريئا من الوباء، نأمن فيه بياتهم، فطاف ابن مسلمة حتى انتهى إلى " الرجيع "،، " ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلا فقال:" وجدت لك منزلا "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع (5)».
(1) مغازي الواقدي (2/ 602).
(2)
مغازي الواقدي (2/ 612) وأنساب الأشراف (2/ 350).
(3)
خيبر: على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، انظر معجم البلدان (3/ 495).
(4)
مغازي الواقدي (2/ 644).
(5)
الرجيع: واد قرب خيبر، انظر وفاء الوفاء (2/ 315). (4)
وقد شارك محمد بن مسلمة في قطع النخل الذي يحيط بحصن " النطاة " أحد حصون خيبر، فكان ينظر إلى صور (1) من كبيس (2) ويقول:" أنا قطعت هذا الصور بيدي حتى سمعت بلالا ينادي عزمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع النخل! فأمسكنا "(3).
وكان محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة يقاتل مع المسلمين يومئذ، وكان يوما صائفا شديد الحر، وهو أول يوم قاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حصن النطاة وبها بدأ، فلما اشتد الحر على محمود وعليه أداته كاملة، جلس تحت حصن ناعم يبتغي فيئه، ولا يظن محمود أن فيه أحدا من المقاتلة، إنما ظن أن فيه أثاثا ومتاعا، وناعم يهودي وله حصون ذوات عدد، فكان هذا منها - فدلى عليه مرحب اليهودي رحى، فأصاب رأسه، فاستشهد في المعركة (4).
وخرج مرحب اليهودي من حصنهم، قد جمع سلاه يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب
…
شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب
…
يحجم عن صولتي المجرب
وهو يقول: من يبارز؟ «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: " أنا له يا رسول الله! أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس، فقال: فقم إليه! اللهم أعنه عليه (5)» . فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عمرية (6) من شجر العشر، (7) فجعل أحدهما يلوذ بها (8) من صاحبه، كلما لاذ بها منه أقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم، ما فيها فنن (9) ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فضربه
(1) الصور: النخل الصغار أو المجتمع.
(2)
الكبيس: ضرب من التمر.
(3)
مغازي الواقدي [2/ 645].
(4)
مغازي الواقدي (2/ 645).
(5)
مسند أحمد بن حنبل (3/ 385).
(6)
عمرية: أي قديمة طويلة العمر.
(7)
العشر: بضم العين وفتح الشين، شجر له صمغ.
(8)
يلوذ بها: يلجأ إليها ويستتر بها من عدوه.
(9)
فنن: بفتح الفاء والنون: غصن.
فاتقاه بدرقة (1) فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله (2).
والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير وأهل الحديث أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه هو الذي قتل مرحبا اليهودي بخيبر (3).
وبرز أسير اليهودي، وكان رجلا أيدا، وكان إلى القصر، فجعل يصيح:" من يبارز؟ "، فبرز له محمد بن مسلمة، فاختلفا ضربات، ثم قتله محمد بن مسلمة (4).
وكان يهود خيبر في حصونهم يرمون المسلمين بالسهام، ويحاولون قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان محمد بن مسلمة، فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال محمد بن مسلمة:" كنت فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت أصيح بأصحابه: تراموا بالحجف! (5)، ففعلوا فرمونا حتى ظننت ألا يقلعوا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسهم، فما أخطأ رجلا منهم، وتبسم إلي رسول الله، صلى الله عليه وسلم وانفرجوا ودخلوا الحصن "(6).
وحين استسلم أحد الحصون عنوة للمسلمين، دفع النبي صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبي الحقيق، إلى محمد بن مسلمة، فقتله بأخيه الشهيد محمود بن مسلمة (7) الذي استشهد في تلك الغزوة، وأخذ سهمه من الأرض واشترى من غيره أيضا (8) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر سأله يهود فقالوا:"يا محمد! نحن أرباب النخل وأهل المعرفة بها "، فساقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على شطر من التمر والزرع، وكان
(1) الدرقة: الترس من جلد ليس فيه خشب ولا عقب.
(2)
سيرة ابن هشام (3/ 383 - 385) وانظر مغازي الواقدي (2/ 654 - 657) والدرر (211 - 212).
(3)
الاستيعاب (3/ 1377) وأسد الغابة (4/ 533).
(4)
مغازي الواقدي (2/ 567).
(5)
الحجف: جمع الحجفة، وهي الترس من جلود بلا خشب ولا رباط من عصب.
(6)
مغازي الواقدي (2/ 622).
(7)
مغازي الواقدي (3/ 672 - 673) وابن الأثير (2/ 221).
(8)
مغازي الواقدي (2/ 960).
يزرع تحت النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقركم على ما أقركم الله، فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، وأبي بكر، وصدر من خلافة عمر بن الخطاب، (1) ثم أجلي عنها يهود، وبقي محمد محافظا على ما يملك من أرض خيبر (2).
9 -
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمرة القضية " غزوة القضية " فانتهى إلى (ذي الحليفة)،. قدم الخيل أمامه وهي مائة فرس، واستعمل عليها محمد بن مسلمة (3)، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي والمسلمون يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى " مر الظهران "، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوا محمد بن مسلمة فقال:" هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله ". فرأوا سلاحا مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فقالوا: در والله ما أحدثنا حدثا، ونحن على كتابنا ومدننا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟! " ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن " يأجج " (4). حيث ينظر إلى أنصاب الحرم «وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الأحنف في نفر من قريش، حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحقوا، فقالوا: " يا محمد! والله ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر. السيوف في القرب "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخلها إلا كذلك (5)».
10 -
وهكذا بذل محمد بن مسلمة قصارى جهوده وغاية جهاده في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم جنديا من جنود المسلمين، وقائدا مرءوسا من قادتهم الذين عملوا تحت راية الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
(1) مغازي الواقدي (2/ 690 / 691).
(2)
مغازي الواقدي (721).
(3)
طبقات ابن سعد (3/ 444) ومغازي الواقدي (2/ 733).
(4)
يأجج: مكان من مكة على ثمانية أميال، انظر معجم البلدان (8/ 490).
(5)
مغازي الواقدي (2/ 734).