الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بهذه الصور الثلاث المتقدمة كان تناول القرآن الكريم للنسيان الذي هو ظاهرة إنسانية لها صفة العموم والانتشار، ولها صفة القهر والإلزام، ومن هنا رفع الشارع الحكيم مسئولية البشر عما يحدث في ظلال هذا النوع من النسيان.
و
النوع الثاني: النسيان المقصود:
وهو نسيان الغفلة عن الواجب، وإهمال المسئوليات، وهو أكثر النوعين ورودا في القرآن الكريم، تناول أنواعه، وحلل أسبابه، وحذر من مغبته، وبين عقوبته.
وتناول القرآن الكريم له بهذه الكثرة؛ لأنه ظاهرة بشرية منحرفة تحتاج إلى تحليل وعلاج، وللشارع الحكيم منها موقف يحتاج إلى بيان وتفصيل. ولهذا أولاها الكتاب العزيز اهتماما بالغا، لما لها من خطورة بالغة تهدد الدين السماوي، وتنحرف بالبشرية عن هديه وهداه.
ومن هنا ورد الحديث عن هذا النوع في أربعة وثلاثين موضعا من كتاب الله، وكل ما ورد في هذه المواضع من نسيان يحمل طابع الغفلة عن واجب أو التنصل من تبعة أو الإهمال لمسئولية لا ينبغي أن تهمل بحكم ما تلزم به عقيدة الإيمان.
ويمكن أن يصنف هذا النوع تصنيفا يجعل من الآيات التي وردت فيه موضوعا كاملا.
(1)
- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته
(2)
- تحليل أسبابه
(3)
- عقوبته
(4)
- العلاج الذي وضعه القرآن له
(1)
- مظاهر النسيان المنحرف واتجاهاته:
يتخذ هذا اللون من النسيان عدة مظاهر تؤكد انحرافه عن سنن النسيان البشري الذي رفعت المسئولية عن صاحبه، وذلك لأن هذه الظواهر تؤكد أن للإنسان قصدا وإرادة على نحو من الأنحاء وأن ما يتورط فيه الإنسان من أعمال نتيجة له إنما هو شيء مراد.
وهذه هي مظاهره:
(أ) - نسيان الذنوب والخطايا:
إذا وقع الإنسان في الذنب أو هوى إلى الخطيئة لأول مرة فله عذره، والخطأ من حقه؛ لأن وراءه نوازع بشرية عميقة التأثير في توجيه السلوك، ولذا شأنه إذا تاب قبل الله توبته، وفرح بأوبته على أن يظل هذا الذنب الذي اقترفه درسا يضيفه إلى تجاربه التي تحدد في الحياة فاعليته ومسلكه.
أما إذا نسي تجربة الذنب فستنتكس حياته، ويتعثر سلوكه، ويظل يهوي مع هواه حتى يكون من الغاوين، وهذه هي صفته كما عرضها القرآن الكريم.
يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (1)، فأسلوب الآية يشير إلى أن أشد الناس ظلما ذاك الباغية المنحرف، الذي يذكر بآيات الله في كتابه وفي الحياة فيعرض عن الذكرى، وينسى ما تورط فيه من ذنوب وآثام، ومن هنا استحق ما وصف به في آخر الآية {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (2)، وإذا كان في طبع الآثم نسيان ذنبه، فهذا النسيان دعامة انحرافه، ومن هنا يكشف القرآن الكريم هذه الظاهرة في سلوك طائفة أخرى من الآثمين الذين هووا في وادي الشرك السحيق، إذ ذكروا ربهم في الضراء، ونسوا أنهم أشركوا به في السراء، فيقول تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3){بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (4) فالفطرة السليمة التي شوهها الإنسان بانحرافه في السراء تعود نقية صافية، تشد الإنسان المنحرف إلى ربه في الضراء؛ ولهذا ترشد الآية إليها؛ لتؤكد للإنسان أن نداء الفطرة السليمة أهدى وأقوم.
(1) سورة الكهف الآية 57
(2)
سورة الكهف الآية 57
(3)
سورة الأنعام الآية 40
(4)
سورة الأنعام الآية 41
على أن الحقيقة التي ينبغي أن يذكرها الآثم أنه إن نسي فاستمرأ بالنسيان إثمه، فإن وراءه الرقيب الذي يحصي عليه ما قد نسيه، يقول تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1).
(ب) - نسيان يوم القيامة:
يوم القيامة الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، حيث يجد كل إنسان طائره في عنقه، ويقرأ بنفسه صحائف أعماله، ويرى بعينه مصيره، وهو اليوم الحق، حيت يفصل فيه بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون، وينتهي أمر الباطل إلى جحيم، وينعم المتقون في دار النعيم.
وقد عني القرآن الكريم بعرض مشاهد شتى من ذلك اليوم، وطالما كان المؤمن على ذكر لذلك اليوم سيتخذ منه حافزا يدفعه إلى الخير، وينأى به عن الضلال، ويثبته على طريق الهداية.
ولذا نجد في أكثر من آية في كتاب الله دعوة إلى اتقاء ذلك اليوم، وما فيه من أهوال وبلاء، وإذا نسي الإنسان ذلك اليوم فلم يعمل له حسابه فنسيانه بادرة إلى الانحراف الذي ينتهي بالإنسان إلى ضلال.
وها هو موقف الناس ليوم القيامة يعرضه القرآن الكريم في عدة صور.
يقول تعالى عن الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وغرهم ما في دنياهم من زخرف ومتاع:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (2) فجزاؤهم عند الله إذن إهمال ووبال؛ لأنهم نسوا يوم القيامة فلم يقدموا في دنياهم عملا ينفعهم، والهوى يهوي بصاحبه ويضله فينسيه يوم الجزاء بما يقدم له من شواغل صارفة، يقول تعالى في نصح نبيه داود عليه
(1) سورة المجادلة الآية 6
(2)
سورة الأعراف الآية 51
فالضالون عن سبيل الله سر ضلالهم نسيانهم يوم الجزاء، وهذا النسيان سر آفة الإنسان وضلاله، ولذا عندما يقف المجرمون ناكسي رءوسهم عند ربهم، وقد رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما نسوه من حقائق ذكروا بها دنياهم فلم يتذكروا، عند ذاك يدعون إلى العذاب الذي عرفوا يومئذ سبب وقوعهم فيه، {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2).
وفي الآية الأخرى يقال لهؤلاء الذين نسوا ما لا ينبغي أن ينسى: لقد نسيتم يوم الجزاء فكان أعدل جزاء لكم تلقونه في هذا اليوم من إهمال وازدراء {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (3).
(جـ) - نسيانهم لله
هذان النوعان السابقان من النسيان: نسيان الذنوب، أو نسيان يوم المصير، آفتهما أن أولهما يحمل معنى عدم الاستفادة من التجربة، وثانيهما يحمل معنى عدم الاعتداد بالدافع، أما هذا النوع الثالث وهو الذي يتعلق بالله فهو شر بذاته؛ لأنه يعني تقلص ظل الإيمان من نفوس البشر، إذ لا يمكن أبدا أن يصح إيمان أو يستقيم على أساسه سلوك ما لم يكن القلب مشغولا بذكر الله منصرفا إلى ما يهيئه له الذكر من مراقبة دقيقة لخالقه ومولاه.
وهذا النسيان قد يتعلق بأمر الله، وقد يكون تعلقه بذات الله، وهذا النسيان لذكر الله الذي يجب أن يكون سلاحا للمؤمن يشهره في وجه الشيطان إذا أراد أن يهوي مزالق الخسران.
(1) سورة ص الآية 26
(2)
سورة السجدة الآية 14
(3)
سورة الجاثية الآية 34
أما الأول منها: فقد عهد الله لآدم ألا يأكل من شجرة بعينها، وحذره من وسوسة الشيطان وإغراءاته، ونسي آدم عهده مع ربه، وذهب عنه العزم الذي يثبت اليقين في أحلك الظروف، يقول الله تعالى، يعرض لنا هذا الموقف:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (1).
ثم نجد الآيات التالية تسجل أن هذا النسيان كان لونا من الانحراف {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (2) وأن الله تاب على آدم وغفر له {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (3)
وأما الثاني: فقد أشار إليه القرآن الكريم، وهو بصدد الحديث عن المنافقين إذ وصفهم بأنهم نسوا الله فيقول:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4).
ووقوع ظاهرة النسيان منهم على الله دلالة بليغة على خفوت حرارة العقيدة، وتبلد عاطفة الإيمان وصيرورتها مجرد دعوى بلا واقع؛ إذ أن كل ما في الإنسان من جوارحه، وما حوله من آيات في السماوات والأرض تذكره بالله، فكيف ينساه؟ إنه شأن المنافقين، ظاهرهم الذكر، وباطنهم الغفلة، ومن طبعهم الكذب، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك اللون من النسيان في موضع آخر يحذر فيه المسلمين من سلوك المنافقين؛ إذ يقول الله تعالى لهم:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5).
وكأن هذا النسيان من شأن المنافقين وحدهم، إذ أن سلوكهم يقوم على نسيان بارئهم والحرص على شهواتهم، وتضليل الناس من حولهم.
وثالث الأنواع من هذا النسيان الذي يتصل بالله: نسيان ذكر الله.
ومعنى هذا النسيان افتقاد سلاح لا يستقيم أمر المؤمن في الحياة بدونه؛ إذ يقيه من الإغواء، ويثبته في مواقف الإغراء، ويحفظه من همزات الشياطين ولذا جعل
(1) سورة طه الآية 115
(2)
سورة طه الآية 121
(3)
سورة طه الآية 122
(4)
سورة التوبة الآية 67
(5)
سورة الحشر الآية 19