الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أوجب الواجبات على كل حاج حتى يتحلل التحلل الأول فكيف ببقية أيام التشريق الثلاثة التي تقل وجوبا عن يوم النحر؟ فهذا دليل على أن الرمي أيام التشريق الثلاثة جائز ليلا، فما حكم من رمى الجمار ليلا هل عليه شيء أم لا؟ نرجو من سماحتكم توضيح هذه النقطة مع ذكر الدليل.
الجواب: وقت رمي الجمار أيام التشريق من زوال الشمس إلى غروبها؛ لما روى مسلم في صحيحه أن جابر رضي الله عنه قال: «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال (1)» ، وما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. وعليه جمهور العلماء، لكن إذا اضطر إلى الرمي ليلا فلا بأس بذلك ولكن الأحوط الرمي قبل الغروب لمن قدر على ذلك أخذا بالسنة وخروجا من الخلاف.
وأما حديث ابن عباس المذكور فليس دليلا على الرمي بالليل؛ لأن السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقوله: بعدما أمسيت أي بعد الزوال، ولكن يستدل على الرمي بالليل بأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صريح يدل على عدم جواز الرمي بالليل، والأصل جوازه، لكنه في النهار أفضل وأحوط، ومتى دعت الحاجة إليه ليلا فلا بأس به في رمي اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل، أما اليوم المستقبل فلا يرمي عنه في الليلة السابقة له ما عدا ليلة النحر في حق الضعفة في النصف الأخير، أما الأقوياء فالسنة لهم أن يكون رميهم جمرة العقبة بعد طلوع الشمس كما تقدم جمعا بين الأحاديث الواردة في ذلك والله أعلم.
(1) صحيح مسلم الحج (1299)، سنن الترمذي الحج (894)، سنن النسائي مناسك الحج (3063)، سنن أبو داود المناسك (1971)، سنن ابن ماجه المناسك (3053)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 313)، سنن الدارمي المناسك (1896).
السؤال العاشر:
هل يجب الهدي على أهل مكة لمن أحرم منهم بالحج فقط
؟ وهل يصح في حقهم التمتع أم القران في الحج نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل؟
الجواب: يصح التمتع والقران من أهل مكة وغيرهم لكن ليس على أهل مكة هدي، وإنما الهدي على غيرهم من أهل الآفاق القادمين إلى مكة محرمين بالتمتع أو القران؛ لقول الله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1).
(1) سورة البقرة الآية 196
السؤال الحادي عشر: ما حكم الأضحية؟ وعلى من تجب الأضحية؟ وهل هناك فرق بين الأضحية والهدي؟ وهل الأضحية تجب على الحاج أم لا؟ وكيف ومتى وأين ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كما نرجو من سماحتكم التعليق على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان عنده سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا (1)» أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فنرجو توضيح هذا الحديث، وتوضيح الأحكام الخاصة والمتعلقة بالأضحية ومشروعيتها مع ذكر الدليل.
الجواب: الأضحية سنة مؤكدة في أصح قولي أهل العلم، وتتأكد على من عنده سعة من المال؛ لأنها من آكد أنواع العبادات المشروعة يوم عيد الأضحى وأيام التشريق.
وقد داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فكان يضحي كل سنة بكبشين أملحين أقرنين كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، والفرق بينها وبين الهدي أن هدي التمتع والقران واجب من واجبات الحج؛ لقول الله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2)، أما الأضحية فلا تجب على الصحيح لعدم ورود نص صحيح صريح يفيد الوجوب كما تقدم، ومن الفرق أيضا أن الهدي مشروع ذبحه في منى وبقية الحرم أما الأضحية فتشرع في كل مكان.
وما عدا ذلك فأحكامهما واحدة من حيث وقت الذبح، والشروط المطلوبة للإجزاء، والأكل منها والتصدق، إلى غير ذلك.
أما حديث «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا (3)» فقال عنه الحافظ في البلوغ: رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم، ورجح الأئمة غيره وقفه.
* * *
(1) رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما.
(2)
سورة البقرة الآية 196
(3)
رواه أحمد وغيره.
ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب لو صح رفعه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أكل ثوما أو بصلا فلا يقربن مصلانا (1)» ، ولم ير أهل العلم أن ذلك يوجب تحريم الثوم والبصل إنما احتجوا به على كراهة حضوره الصلاة مع المسلمين؛ لما في ذلك من الأذية لهم بسبب الرائحة الكريهة. . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
(1) رواه البخاري 9/ 498، ومسلم 546.
اللجنة تجيب على أسئلة موجهة إلى سماحة الرئيس العام
فتوى برقم 6249 وتاريخ 27/ 10 / 1453 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله واله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم من ص. ش إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها برقم 993 في 8/ 5 / 1403هـ ونصه: (في الحقيقة عندي مسألة محيرة منذ زمن طويل وأود لو تأخذ بيدي لجادة الحق والصواب بها وهي مفصلة كالأتي:
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الشريفة:
أ- «إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر (1)» . ب- «إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير (2)» .
جـ- «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (3)» .
د- «إن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى النملة في جحرها (4)» .
هـ- العالم والمتعلم شريكان في الخير، وسائر الناس لا خير فيه. رواه الطبراني عن أبي الدرداء موقوفا.
(1) سنن الترمذي العلم (2682)، سنن أبو داود العلم (3641)، سنن ابن ماجه المقدمة (223)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 196).
(2)
سنن الترمذي العلم (2685)، سنن الدارمي المقدمة (289).
(3)
صحيح مسلم الوصية (1631)، سنن الترمذي الأحكام (1376)، سنن النسائي الوصايا (3651)، سنن أبو داود الوصايا (2880)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 372)، سنن الدارمي المقدمة (559).
(4)
سنن الترمذي العلم (2685)، سنن الدارمي المقدمة (289).
(5)
سنن الترمذي العلم (2658)، سنن ابن ماجه المقدمة (232).
ويقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
فالسؤال هو:
يفهم من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آيات الله المحكمات بأن العلم والعالم المقصود هو علم الدين الإسلامي وعالم الشريعة الإسلامية، فهم الربانيون وهم الصديقون وهم الراسخون في العلم وهم الشهداء على الناس، ولكن يقول الله تعالى في كتابه الكريم أيضا:
أ- {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (3).
ب- {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (4).
جـ - {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} (5).
د- {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (6).
هـ- {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (7){خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (8){يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (9).
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
أ- «يا عباد الله تداووا، فإن لكل داء دواء، إلا داء واحد وهو الهرم (10)» .
(1) سورة الحديد الآية 19
(2)
سورة النساء الآية 69
(3)
سورة المجادلة الآية 11
(4)
سورة العنكبوت الآية 20
(5)
سورة فصلت الآية 53
(6)
سورة الأعراف الآية 185
(7)
سورة الطارق الآية 5
(8)
سورة الطارق الآية 6
(9)
سورة الطارق الآية 7
(10)
سنن الترمذي الطب (2038)، سنن أبو داود الطب (3855)، سنن ابن ماجه الطب (3436).
وهنا من خلال القسم الثاني من الآيات والأحاديث نرى بأن الله يدعونا لعلوم أخرى غير علم الشريعة، فالله يدعونا في كثير من الآيات أن نسعى لدراسة جسم الإنسان (أي الطب البشري) حتى نتبين آيات الله وإعجازه في خلقه حتى نبين ذلك للناس، ونثبت لهم عظمة الله ووجوده وصحة الشرع الإسلامي لمن يبطل الحق، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرنا بذلك - أي بدراسة الطب وتطبيب الناس بها - وفي أحاديث كثيرة يقول الرسول العديد من الوسائل الطبية للعلاج من تلك التي لا يمكننا استخدامها الآن، إلا بوساطة طبيب متخصص عنده علم شرعي، فالسؤال (الجزء الأول):
هل أن العلم الذي يثيب الله عليه الإنسان ويرفعه الدرجات العلا به، ويجعله في المرتبة الرابعة في الجنة بعد الأنبياء والرسل هو العلم الشرعي - أي الديني - فقط، وبالتالي دارس الطب الذي يعمل في سبيل الله، لا حظ له ولا نصيب، أم أن العلم المقصود في الآيات وفي الأحاديث هو كل علم درسه الإنسان وفقا للشروط الآتية: أ- فائدة الإسلام والمسلمين.
ب- نية الإثابة من الله عز وجل.
جـ - الوصول لحقائق إيمانية جديدة وبيانها للناس حتى تزيد قوة إيمانهم.
د- زيادة الإيمان من رؤية آيات إعجاز الله في خلقه وفي الكون.
مع الأخذ بعين الاعتبار بأن أي دارس لأي علم يكون عنده الحد الأدنى من العلم الشرعي المفروض عليه، وبالتالي الجزء الثاني من السؤال:
إذا كان الإنسان درس وما زال يدرس الحد الأدنى المفروض عليه من العلم الشرعي، وأراد بعدها أن يدرس الطب البشري في سبيل الله لعلاج المسلمين والوصول لحقائق إيمانية جديدة بربطه مع العلم الشرعي، فهل يدخله الله في الإثابة كطالب العلم الشرعي، أي هل يثيبه الله حسب جهده ومقدار علمه، مهما كان، طالما هو في سبيل الله، أم أن العلم الشرعي يحتل المكانة الأولى في الإثابة وتليه العلوم الأخرى كالطب وغيره.
الجزء الثالث:
إذا كان دارس الشريعة له الفضل الأكبر من دارس الطب، مع العلم بأن كلا منهما يريد وجه الله في علمه وعمله، فما ذنب دارس الطب أن يضيع عليه هذا
الفضل وهو يدرس لعلاج الناس، وللبحث في إعجاز الله في خلقه تبعا لأوامر الله وتوجيهاته في كتابه؟ وهل معنى أن دارس الشريعة لأنه يفيد عددا أكبر من الناس عن الطبيب المتخصص الذي يفيد عددا أقل بحكم أن المرضى هم جزء من الناس، أنه أكثر إثابة من الطبيب أم أن الله سيحاسب الاثنين كلا على قدر جهده وعلمه وعمله المتعلق بظروفه الخاصة؟
وأجابت اللجنة الدائمة بما يلي:
أولا: أنزل الله تعالى كتابه وأرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم في عقائدهم وعبادتهم ربهم سبحانه؛ وليبين لهم أحكام ما يدور بينهم من معاملات تنتظم بها أمور دينهم ودنياهم بيانا شافيا، وقد أتم الله نعمته بذلك على عباده وأكمل لهم دينهم الذي ارتضاه لهم، قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1).
ثانيا: أمر الله تعالى عباده أن يتدبروا آياته الكونية، وأن يتبصروا في عجائب مخلوقاته ليقفوا على أسرارها، وليتعرفوا من خلال ذلك على بارئها، فيؤمنوا به، وتخبت له قلوبهم، ويقدروه حق قدره {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (2) فيعبدوه وحده لا شريك له، مخلصين له الدين، رجاء ثوابه وخوف عقابه، وليستيقنوا أنه لم يخلقهم عبثا، ولن يتركهم سدى، فإن مقتضى حكمته أن يعيدهم ليوم الجزاء، ليوفي كل نفس ما كسبت {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (3){وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4)، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (5){ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6){يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} (7)، فهذه الآيات سيقت للاستدلال بما ذكر فيها من توحيد الربوبية على إثبات ما سبقها من الخبر عن توحيد الإلهية الذي دعا إليه كل من نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام قومه، وللاستدلال بما ذكر فيها
(1) سورة المائدة الآية 3
(2)
سورة إبراهيم الآية 52
(3)
سورة الزلزلة الآية 7
(4)
سورة الزلزلة الآية 8
(5)
سورة العنكبوت الآية 19
(6)
سورة العنكبوت الآية 20
(7)
سورة العنكبوت الآية 21
من كمال قدرة الله على بدء الخلق، على أن يعيدهم للحساب والجزاء، فأمرهم أن ينظروا في الخلق نظر تدبر واعتبار، وأن يسيروا في الأرض ليعرفوا الدلائل الكونية على توحيد الله في ألوهيته وكمال أسمائه وصفاته، وقدرته على البعث يوم القيامة، ولينظروا كيف كان عاقبة من آمن ومن كفر، من نصر ونجاة للمؤمنين، ودمار وهلاك للكافرين، فيسلكوا سبيل الحق الذي دعا إليه المرسلون، ويهتدوا بهداهم، ويجتنبوا طريق من كذب رسله، فأنزل بهم بأسه، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، فبالتبصر في هذا الآيات والاعتبار بها والإيمان بما دلت عليه من عقائد وأحكام، وما يتبع ذلك من عواقب يرفع الله بها الذين آمنوا والذين أوتوا هذا العلم عنده درجات نصرا وعزة في الدنيا، وفوزا وسعادة يوم القيامة.
ومن هذا يتبين أن القصد من هذه الآيات إثبات أصول دينية، هي توحيد الإلهية، وبعث العباد يوم القيامة للجزاء، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه الرسالة، وفي دعوته الناس إلى التوحيد والبعث للجزاء، وقد دل على ذلك ما سبقها وما لحقها من الآيات، ولم يقصد بها وضع قواعد للصناعة والزراعة، يتعرف الناس منها شئون دنياهم، أو نظريات هندسية، أو شرح لسننه الكونية ليتعرف الناس منها علوم الهندسة والفيزياء وطبقات الأرض ويصلوا بذلك إلى ما ينهض بهم في دنياهم من مخترعات، إنما وصل إلى ذلك من وصل بتوفيق الله، ثم بما وهب الله له من فكر ثاقب ودراسة محكمة لما سخر الله لهم من ملكوت السماوات والأرض وما بينهما، وما أودع الله في ذلك من سنن كونية، فالأصل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التشريع الديني، تقعيدا وتفصيلا، لا التقعيد والتفصيل للعلوم الكونية، وما جاء فيهما من ذلك فهو قليل وغير مقصود بالمقصد الأول، بل بالتبع، كالأخبار التي وردت في مسائل من الطب ونحوه، وهي جزئيات محدودة لا قواعد كلية، يرجع إليها في تشخيص الأمراض، أو يعتمد عليها في جميع أنواع العلاج، أو يتعرف منها خواص جميع الخامات، وما يكون منها علاجا للأنواع المختلفة من الأمراض. كذا القول في آية:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (1) فإنها حث
(1) سورة الأعراف الآية 185
للمكذبين على النظر في ملكوت السماوات والأرض وفي عجائب جميع ما خلق الله؛ ليستدلوا بذلك على ما سبق التصريح به من توحيد العبادة، وإفراده تعالى بالدعاء، وتسميته تعالى بما سمى ووصف به نفسه، من كمال الأسماء والصفات، ولا يلحدوا فيها كما ألحد غيرهم، بإنكارها وجحدها أو تحريفها عن مواضعها، أو بتسميته تعالى ووصفه بغير ما سمى ووصف به نفسه، أو تسمية غيره ووصفه بما سمى ووصف به سبحانه نفسه، خشية أن يصيبهم بأس الله وعقابه، بما كانوا يفترون من الإلحاد في أسمائه وصفاته، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وليحذروا أن يغتروا بإملائه، فإنه سبحانه يملي إعذارا واستدراجا، ولكنه لا يهمل، قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1){وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (2){وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (3){وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (4) ثم نوه بشأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورجاحة عقله، وصدقه في رسالته ونذارته، فقال سبحانه:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (5)، ثم أمرهم بالنظر في ملكوت السماوات والأرض. . فالآية مع ما قبلها سيقت لإثبات التوحيد بأنواعه، وإثبات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما جاء به من الله، وإثبات الجزاء عاجلا أو آجلا يوم القيامة، كالآيات الأولى التي من سورة العنكبوت، ولم تنزل لوضع تقعيد أو نظريات للعلوم الكونية يرجع إليها من يريد أن يتعلم تفاصيل هذه العلوم إلى آخر ما تقدم إيضاحه في الآيات السابقة.
ولا يبعد مغزى آية: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (6) عن مغزى ما تقدم من آيات سورة الأعراف وسورة العنكبوت من إثبات التوحيد وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة، وإثبات البعث يوم القيامة، بل سورة فصلت نزلت كلها لإثبات ذلك وبيانه.
وأما قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (7){خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (8){يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (9) فإنه سيق للاستدلال ببدء خلق الإنسان على قدرة الله على
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2)
سورة الأعراف الآية 181
(3)
سورة الأعراف الآية 182
(4)
سورة الأعراف الآية 183
(5)
سورة الأعراف الآية 184
(6)
سورة فصلت الآية 53
(7)
سورة الطارق الآية 5
(8)
سورة الطارق الآية 6
(9)
سورة الطارق الآية 7
إعادته، فإن من قدر على البدء فهو على الإعادة أقدر على ما هو الحال في النظر، وإن كان الكل بالنسبة لقدرة الله سواء، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) بل سورة الطارق كلها في إثبات البعث وتهديد المكذبين.
وأما حديث التداوي فالقصد منه الأمر بالتداوي، والتنبيه على الأخذ بالأسباب وعدم الإعراض عنها، وبيان أن ذلك لا ينافي التوحيد، إذا كان المتداوي لا يعتمد على الأسباب ويجعلها الأصل في الشفاء، بل يوقن بأن الشفاء من الله، وأنه هو الذي جعل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، كما ثبت ذلك في الحديث، ولم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الأدوية والأدواء، ولم يبين لكل داء ما يخصه من الأدوية إلا في جزئيات قليلة، ولم يضع للطب قاعدة يتعرف منها من يريد تعلم الطب وخواص الأدوية وأعراض الأمراض، ولكن حثهم على النظر وتعلم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وسخر الله لهم الكون، وأعطاهم العقل ليتبصروا في ذلك، ووفق منهم من شاء لما شاء من إدراك أسرار الكون وعجائبه، وما فيه من الخواص والمنافع والمضار.
فعلى المسلمين أن يتبصروا في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعلموا كليات الشريعة ومقاصدها وتفاصيلها، كل بقدر ما آتاه الله من عقل واستعداد وما هيأ الله له من صحة وفراغ، كما أن عليهم أن يدرسوا أيضا سنن الله الكونية في السماوات والأرض ليعلموا ما أودع الله فيها من أسرار، وليستنبطوا منها ما شاء الله مما هم في حاجة إليه من علوم الطب والزراعة والصناعة والفيزياء وطبقات الأرض وغيرها من العلوم الكونية؛ ليستفيدوا منها في دنياهم، ويستعينوا بها في شئون دينهم، ويستغنوا بها عمن سواهم من الكافرين، وبذلك يجمعون بين القوة والعزة في الدنيا، والنجاة والسعادة في الآخرة، ويصلحون للخلافة في الأرض وعمارتها دينا ودنيا.
وعلى ولاة أمور المسلمين من علماء وحكام أن ينهضوا بالأمة الإسلامية، وأن يرعوها حق الرعاية، ويأخذوا بأيديها إلى ما فيه الخير والصلاح علما وعملا، ويوزعوا جهودها على جميع جوانب الحياة، دراسة وإنتاجا لشتى العلوم والأعمال، دينية ودنيوية، ليوجدوا الأكفاء الذين يقومون بمصالحها ويتضلعون بأعبائها، ويتحملون
(1) سورة الروم الآية 27