الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووقع محمد بن مسلمة جريحا، فضرب كعبه فلا يتحرك، وجرد المشركون المسلمين من الثياب، فمر بمحمد بن مسلمة، رجل من المسلمين، فحمله على بعيره ورد به المدينة المنورة.
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلا إلى مصارع القوم، فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء فساقه ورجع إلى المدينة (1).
وقد نجا محمد بن مسلمة من الموت، لأن المشركين بعد إصابته بجروح بليغة، ظنوا أنه قد قضى نحبه كسائر أفراد سريته، ولكنه لم يكن قد مات، فنجا من الموت ليواصل خدمة الإسلام والمسلمين، من جديد.
(1) طبقات ابن سعد (2/ 85) ومغازي الواقدي (2/ 551 - 552) وأنساب الأشراف (1/ 377).
مع الخلفاء الراشدين
ا - مع عمر:
أ - كان محمد بن مسلمة صاحب العمال أيام عمر بن الخطاب، فكان عمر إذا شكي إليه عامل أرسل محمدا يكشف الحال، (1)، فكان يشغل منصب المفتش العام للولاة حسب المصطلحات الإدارية الحديثة.
وقد أنشأ سعد بن أبي وقاص لسكناه دارا في الكوفة من نقض (2) آجر قصر كان للأكاسرة في ضواحي مدينة " الحيرة ". وكانت الأسواق قريبة من داره، وكانت الأصوات المرتفعة تمنع سعدا الحديث، فلما أنجز بناء الدار، ادعى الناس عليه ما لم يقل، فقالوا: قال سعد: " سكن عنى الصويت "(3).
(1) أسد الغابة (4/ 330).
(2)
نقض: اسم البناء المنقوض إذا هدم.
(3)
الطبري (4/ 46 - 47).
وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأن الناس يسمون داره قصر سعد! فدعا محمد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة وقال له: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك " (1).
وخرج محمد بن مسلمة من المدينة إلى الكوفة، فلما قدم الكوفة اشترى حطبا، ثم أتى دار سعد، فأحرق الباب (2).
وأتي سعد، فأخبر الخبر، فقال:" هذا رسول أرسل لهذا الشأن "، وبعث لينظر من هو الذي حرق باب داره، فإذا هو محمد بن مسلمة، فأراده على النزول والدخول، فأبى فعرض عليه نفقة، فلم يأخذ شيئا.
وخرج سعد إلى محمد بن مسلمة، فدفع ابن مسلمة كتاب عمر إلى سعد:" بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا، يسمى: قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا، فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا تمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت "، فحلف سعد ما قال الذي قالوا!!
ورجع محمد بن مسلمة من الكوفة إلى المدينة، حتى إذا دنا من المدينة نفذ زاده، فجعل يأكل قشر الشجر، فأقبل على عمر وقد مرض لسبب ذلك، فأخبره خبره كله، فقال عمر:" هلا قبلت من سعد!؟ " فقال محمد بن مسلمة: " لو أردت ذلك، كتبت لي به، أو أذنت لي فيه " فقال عمر: " إن أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه، عمل بالحزم أو قال به ".
وأخبر ابن مسلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بيمين سعد، وقوله، فقال عمر:" هو أصدق ممن روى عليه وممن أبلغني "، وقد حدث ذلك سنة سبع عشرة الهجرية (638) م.
(1) الطبري (4/ 47).
(2)
ابن الأثير (2/ 529).
ب - اتهم نفر من بني " أسد " سعدا في دينه وصلاته وعدله!! فشكوه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أحرج أوقات الفتح الإسلامي، فقد اجتمعت قوى الفرس كلها في " نهاوند " وأخذ المسلمون والفرس يستعدون لخوض معركة حاسمة، خاصة وأن سعدا هو القائد العام، وهو المسئول الأول عن الفتح في الشرق.
وقال عمر لأولئك النفر: " إن الدليل على ما عندكم من الشر، نهوضكم في هذا الأمر وقد استعد لكم من استعد! وايم الله، لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم، وإن نزلوا بكم " ثم بعث محمد بن مسلمة للتحقيق.
وقدم ابن مسلمة الكوفة، فأجرى التحقيق مع سعد بن أبي وقاص علنا، ذلك أنه كان يأخذ سعدا من مسجد إلى مسجد من مساجد الكوفة، ويسأل الناس عنه وعن سيرته فيهم علنا، فيقولون: لا نعلم إلا خيرا، ولا نشتهي به بديلا.
ووصل ابن مسلمة بسعد إلى الجماعة التي كانت تمالئ أصحاب الشكوى على سعد، فلم تجرؤ أن تطعن عليه أو تقول فيه سوءا.
وانتهى ابن مسلمة بسعد إلى مسجد بني عبس، فقال محمد بن مسلمة:" أنشد الله رجلا يعلم حقا إلا قال "، فقال أسامة بن قتادة:" اللهم إن نشدتنا، فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية "، فقال سعد:" اللهم إن كان قالها كاذبا ورئاء وسمعة، فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن " فعمي، واجتمع عنده عشرة بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها، فإذا عثر عليه قال:" دعوة سعد الرجل المبارك "(1).
(1) الطبري (4/ 121).
وقال سعد: " إني لأول رجل أهرق دما من المشركين. ولقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي، وقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي، وأن الصيد يلهيني "(1).
وخرج محمد بن مسلمة بسعد وبخصومه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال:" يا سعد! ويحك كيف تصلي؟ "، قال سعد:" أطيل الأوليين وأحذف الأخريين "، فقال عمر:" هكذا الظن بك "، ثم قال:" لولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا "(2).
وعزل عمر سعدا سنة إحدى وعشرين للهجرة (3)(641م) وولى عمار بن ياسر مكانه، ولم يعزل سعدا عن عجز أو خيانة، كما قال عمر، (4) فاتهم أهل الكوفة عمار بن ياسر بالضعف وأنه لا علم له بالسياسة، فعزله عمر وهو يقول:" من عذيري من أهل الكوفة! إن استعملت عليهم القوي فجروه، وإن دليت عليهم الضعيف حقروه! "(5).
جـ - وكان عمر بن الخطاب يرسل محمد بن مسلمة إلى عماله ليأخذ شطر أموالهم لثقته به، (6) وقد بعثه عمر إلى عمرو بن العاص عامله على مصر، فقاسمه ماله (7).
لقد كان عمر يكتب أموال عماله إذا ولاهم، ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه منهم، فكتب إلى عمرو بن العاص:" أنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن حين وليت مصر "، فكتب إليه عمرو: " إن أرضنا أرض
(1) الطبري (4/ 121 - 122) وانظر المعارف لابن قتيبة (242).
(2)
الطبري (4/ 122) وابن الأثير (3/ 6).
(3)
العبر (1/ 25).
(4)
فتح الباري بشرح البخاري (7/ 55).
(5)
البلاذري (393) وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي (88).
(6)
أسد الغابة (4/ 330).
(7)
الإصابة (6/ 64).
مزدرع ومتجر، فنحن نصيب فضلا عما نحتاج إليه لنفقتنا "، فكتب إليه: " إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى، وكتابك إلي كتاب من أقلقه الأخذ بالحق، وقد سؤت بك ظنا، وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك، فأطلعه طلعه وأخرج إليه ما يطالبك، وأعفه من الغلظة عليك، فإنه برح الخفاء "، فقاسمه ماله.
وقال عمرو: " إن زمانا عاملنا فيه ابن حنتمة (1) هذه المعاملة لزمان سوء. لقد كان العاص يلبس الخز بكفاف الديباج "، فقال محمد بن مسلمة:" مه! لولا زمان ابن حنتمة، هذا الذي تكرهه، ألفيت معتقلا عنزا بفناء بيتك، يسرك غزرها، ويسوءك بكووها "، قال:" أنشدك الله أن تخبر عمر بقولي، فإن المجالس بالأمانات "، فقال:" لا أذكر شيئا مما جرى بيننا، وعمر حي "(2).
لقد كان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد، بعث محمد بن مسلمة، وكان معدا لكشف الأمور المعضلة في البلاد (3).
ويمكن أن نتصور مبلغ عفة محمد بن مسلمة ونزاهته وذكائه وقوة شخصيته وثقته بنفسه والتزامه المطلق بقول الحق وإقراره، بحيث إن عمر بن الخطاب، وهو من هو أمانة وحرصا على مصلحة المسلمين يعتمد عليه اعتمادا بلا حدود في قضايا الولاة ومحاسبة المنحرفين منهم محاسبة لا هوادة فيها، كما استعمله على صدقات بني جهينة، (4) مما يدل على أنه كان مثاليا في عفته ونزاهته، متفوقا في ذكائه وقوة شخصيته، واثقا بنفسه أعظم الثقة، ملتزما بقول الحق أشد الالتزام، وتلك ثمرة من ثمرات إيمانه العميق بعقيدته وعمله بهذه العقيدة وإخلاصه في عمله.
(1) حنتمة: هي أم عمر بن الخطاب وهي حنتمة بنت هاشم بن المغيرة المخزومي.
(2)
البلاذري (307 - 308).
(3)
الإصابة (6/ 64).
(4)
الإصابة (6/ 63 - 64) وأسد الغابة (4/ 330) والبداية والنهاية (8/ 27).