المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: في شروط الإنكار - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٤٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌باب ما يجري فيه الربا:

- ‌باب في أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل:

- ‌باب من باع ذهبا وغيره بذهب

- ‌باب مرد الكيل والوزن:

- ‌ باب النهي عن بيع الدين بالدين وجوازه بالعين ممن هو عليه

- ‌باب نهي المشتري عن بيع ما اشتراه قبل قبضه:

- ‌باب النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان

- ‌ ابن رشد في بداية المجتهد:

- ‌الفصل الأولفي معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء وتبيين علة ذلك

- ‌الفصل الثانيفي معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء

- ‌الفصل الثالثفي معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا

- ‌الباب الثانيفيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليهالسلم

- ‌ ابن قدامة في المغني

- ‌باب الربا والصرف

- ‌إعجاز القرآن

- ‌جمع القرآن وترتيبه

- ‌تعدد القراءات للقرآن

- ‌تلاوة القرآن وتحزيبه

- ‌تحسين الصوت في القراءة

- ‌رفع الصوت في القراءة

- ‌ كتابة الآيات وتعليقها على الحائط

- ‌ كتابة الآيات على ساعات الدليل

- ‌ كتابة الآيات على معلقات

- ‌ دخول الخلاء وهو يحمل المصحف

- ‌ قراءة القرآن لغير المسلم

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ على من يجب صيام رمضان

- ‌ هل يؤمر الصبي المميز بالصيام

- ‌ كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع

- ‌ الفطر للمرأة الحامل والمرضع

- ‌ من عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه

- ‌ حكم صيام التطوع:

- ‌ كان مريضا ودخل عليه رمضان ولم يصم ثم مات بعد رمضان

- ‌ استعمال معجون الأسنان، وقطرة الأذن، وقطرة الأنف، وقطرة العين للصائم

- ‌ خلع أحد أسنانه، فهل يؤثر ذلك على صيامه

- ‌ أكل أو شرب في نهار الصيام ناسيا

- ‌ حكم من يصوم وهو تارك للصلاة

- ‌ أفطر في رمضان غير منكر لوجوبه

- ‌ أكل الصائم أو شرب أو جامع ظانا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر

- ‌ جامع في نهار رمضان وهو صائم

- ‌ استعمال البخاخ في الفم للصائم نهارا لمريض الربو

- ‌ أخذ الحقنة الشرجية عند الصائم للحاجة

- ‌ من ذرعه القيء وهو صائم

- ‌ تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم

- ‌ حكم الاعتكاف للرجل والمرأة

- ‌تكييف العربون:

- ‌حكم بيع العربون في بيوع الصرف:

- ‌حكم كون العربون مبلغا مستقلا عن ثمن السلعة:

- ‌حكم العربون في الخدمات:

- ‌حكم العربون في شراء الأسهم:

- ‌حكم العربون في بيع المرابحة:

- ‌حكم المواعدة على الشراء وأخذ العربون لذلك:

- ‌الإنكارمعناه، أصل مشروعيته، شروطه، طرائقه

- ‌الفصل الأول: في معنى الإنكار

- ‌الفصل الثاني: في أصل مشروعيته

- ‌الفصل الثالث: في شروط الإنكار

- ‌الفصل الرابع: في طرائق الإنكار

- ‌ثانيا: التأديب

- ‌أولا: النصوص الإجمالية من القرآن الكريم:

- ‌ثانيا: النصوص التفصيلية من القرآن الكريم عن دعوة بعض الأنبياء:

- ‌جمعية الموظفين وأحكامها في الفقه الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأولصور جمعية الموظفين

- ‌المبحث الثانيحكم الصورة الأولى من صور جمعية الموظفين

- ‌المبحث الثالثحكم الصورة الثانية من صور جمعية الموظفين

- ‌المبحث الرابعحكم الصورة الثالثة من صور جمعية الموظفين

- ‌الخاتمة

- ‌جمال الدين القاسمي علامة الشام

- ‌عصر القاسمي:

- ‌سيرة القاسمي الشخصية والعلمية:

- ‌مآثره وشمائله:

- ‌القاسمي ومنهجه في الدعوة بين التأثر والتأثير:

- ‌تأثر القاسمي بابن تيمية:

- ‌مؤلفات القاسمي:

- ‌آراؤه وأفكاره:

- ‌مفكراته:

- ‌مشهد الكائنات الكونية

- ‌أولا مشهد الكائنات السفلية

- ‌ مشهد الجبال:

- ‌ مشهد الأرض:

- ‌ مشهد البحار:

- ‌ثانيا مشهد الكائنات العلوية

- ‌ مشهد السماء:

- ‌ مشهد الشمس والقمر:

- ‌ مشهد النجوم:

- ‌مشاهد الناس يوم القيامة

- ‌أولا: خروج الناس من الأجداث

- ‌ثانيا: ذهول الناس عن أنفسهم وما يملكون

- ‌ثالثا: تغير أحوال الناس

- ‌رابعا: صفة مجيئهم لأرض المحشر

- ‌خامسا: جثو الأمم للحساب

- ‌سادسا: تسلم نتائج الأعمال

- ‌مشاهد المؤمنين يوم القيامة

- ‌أولا: القول الحق من الرسل عند سؤال المولى لهم

- ‌ثانيا: وجوه المؤمنين يوم القيامة

- ‌ثالثا: من يغبطون في موقف الحساب

- ‌رابعا: نور المؤمنين يسعى بين أيديهم وبأيمانهم

- ‌خامسا: صفات الكافرين

- ‌ سواد الوجوه:

- ‌ تنكيس الرؤس:

- ‌ حشره على وجهه إلى النار:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌الفصل الثالث: في شروط الإنكار

منها أعناق، بل سترضى من الأمر بالدون، ومن المتع بالرديء حتى تكون لينة رخوة لا يحمى لها جانب، ولا تصد يد ضارب، تستنجد من الغريب فك الأسر، وحماية الأهل، وأمن الديار، وطرد الأغراب، بل محتاجة منه إلى لقمة هانئة، أو شربة سائغة، لكنها إن أنكرت فقوتها مانعة، وحالها متعافية.

ص: 195

‌الفصل الثالث: في شروط الإنكار

لا ينبغي لمن يريد الإنكار أن ينكر على مخالفة إلا إذا تحققت به الشروط الآتية:

الشرط الأول: أن يكون فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه (1).

فما اختص بعلمه العلماء من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء (2).

؛ لأن الجاهل قد يأمر بما ليس. بمعروف وينهى عما ليس بمنكر.

قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) ففي هذه الآية دلالة على أن الداعي إلى الله لا بد من أن يكون على بصيرة: وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه (4).

(1) انظر الحسبة لابن تيمية، ص 135.

(2)

انظر الموافقات للشاطبي، ج4 ص214، وجامع العلوم والحكم، ص281، وأضواء البيان، ج 2 ص 173.

(3)

سورة يوسف الآية 108

(4)

انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج2 ص173.

ص: 195

والعالم بما يأمر به أو ينهى عنه: هو المتمكن من التفريق بين أنواع المخالفات ودرجة الإنكار اللازم لحال المخالفة؛ لأن من الأفعال ما هو خفي في الحكم. يقول الشوكاني: (على أن طرف الفخذ قد يتسامح بكشفه في مواطن الحرب ومواقف الخصام)(1) وعند الحنفية حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، فلو رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق، ولا ينازعه إن لج، وفي الفخذ بعنف ولا يضربه إن لج، وفي السوءة يؤدبه على ذلك إن لج (2).

وعند المالكية: إن الفخذ عورة مخففة يجوز كشفها مع الخواص ولا يجوز مع غيرهم (3).

قلت: ومثل هذه الأمور لا يدركها إلا فقيه بما يأمر به، أو ينهى عنه.

الشرط الثاني: التحقق من وجود المنكر ومعرفة مكانه.

ويتحقق ذلك عن طريق الرؤية أو العلم به بتحقق وجوده، فمن سمع صوت غناء محرم أو آلات الملاهي وعلم المكان الذي هي فيه فإنه ينكره؛ لأنه قد تحقق وجود المنكر، وعلم موضعه، فهو كمن رآه.

نص على ذلك الإمام أحمد وقال: (أما إذا لم يعلم مكانه فلا شيء. أما التفتيش عما استراب به فلا يحل)، وكذا تسور الجدران على من علم

(1) انظر نيل الأوطار، ح 2 ص، 70.

(2)

انظر المبسوط، ح 10 ص 147، وحاشية ابن عابدين، ج1 ص 409.

(3)

انظر حاشية العدوي، ج 2 ص 420.

ص: 196

اجتماعهم على منكر، روي ذلك عن بعض الأئمة مثل سفيان الثوري، وهو داخل في التجسس المنهي عنه (1) واستثنى أبو يعلى المنكر الذي به انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل، فله التجسس، والإقدام، والكشف، والبحث إن أخبره ثقة، حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه (2).

قال إمام الحرمين: (وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده)(3).

ويجب التثبت من المخالفة المقتضية للإنكار؛ لأن الأصل حسن الظن بالناس. قال عمر رضي الله عنه (4): (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأن تجد لها في الخير محملا)(5). وذلك باعتبار أن المخالفة خارجة عن أصل الفطرة الصحيحة، ولأن الأصل حسن الظن بهم لا اتهامهم ما لم يقم دليل على الاتهام.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} (6) ففي هذه الآية نهي عن الظن السيئ الذي لا يرتقي

(1) انظر جامع العلوم والحكم، ص 284، والأحكام السلطانية للماوردي، ص253.

(2)

انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 26.

(3)

انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 26.

(4)

ذكره ابن كثير في تفسيره، ج 4 ص 212.

(5)

انظر الفرق بين النصيحة والتعيير.

(6)

سورة الحجرات الآية 12

ص: 197

إلى درجة الصدق إنما هو أوهام وشكوك.

يقول ابن كثير: (يقول الله تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل، والأقارب، والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا فليجتنب منه احتياطا)(1).

روى الطبراني بإسناده عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظننتم فلا تحققوا (2)» أي: لا تجعلوا ما قام عندكم من الظن محققا في نفوسكم، محكمين للظن.

ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم وحرياتهم واعتبارهم محفوظة كراماتهم حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه.

وجاء النهي عن التجسس؛ لأنه جزء من الظن، وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات والاطلاع على السوءات والناس لا يؤاخذون إلا. مما يظهر منهم من مخالفات وجرائم (3).

والحق تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (4) ففي هذه الآية تأكيد على وضوح مصدر التلقي والابتعاد عن مصادر

(1) انظر تفسير القرآن العظيم، ج 4 ص 212.

(2)

أخرجه الديلمي، وهو ضعيف لكن له شواهد، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج 1 ص 400، وانظر الفتح الكبير للسيوطي، ح 1 ص 131.

(3)

انظر تفسير القرآن العظيم، ج 4 ص 212، وفي ظلال القرآن، ج 7 ص 533، 534.

(4)

سورة الحجرات الآية 6

ص: 198

الأنباء التي تحدث تشويشا في صفاء المعلومات وخللا في وسائل نقلها وفي النتائج المترتبة عليها (1).

الشرط الثالث: أن يحصل بالإنكار المعروف الذي يحبه الله ورسوله.

فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإن لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله. وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد «استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا، ما أقاموا الصلاة (2)».

يقول ابن القيم: (ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك- مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار

(1) في ظلال القرآن، ج7 ص526، 527.

(2)

الحديث أخرجه مسلم عن عوف بن مالك، صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 244.

ص: 199

على الأمراء باليد لما يترتب عليه وقوع ما هو أعظم منه) (1).

قال الشنقيطي: (ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب، كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم عن أبي ثعلبة الخشني: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أياما الصابر فيها كالقابض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم (3)» وفي لفظ: قيل «يا رسول الله أجر خمسين رجل منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين منكم (4)» . فهذه الصفات في الحديث: الشح المطاع، والهوى المتبع. . . إلخ، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف، فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه (5).

وعلى المنكر أن ينظر للمصالح المترتبة على إنكاره، فإذا كان المنكر الذي يريد إنكاره سيخلفه شر منه فيحرم عليه الإنكار.

فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك

(1) انظر كتاب الإمارة باب: وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، صحيح مسلم شرح النووي، ج 12 ص243.

(2)

سورة الأعلى الآية 9

(3)

سنن الترمذي تفسير القرآن (3058)، سنن ابن ماجه الفتن (4014).

(4)

أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود ج11 ص494، وابن ماجه في كتاب الفتن باب قوله تعالى: أيها الذين آمنوا عيكم أنفسكم .. ، سنن ابن ماجه، ج2 ص 1330، والترمذي في كتاب تفسير القرآن سورة المائدة، وقال:(حديث حس غريب)، الجامع الصحيح، ج 5 ص 257.

(5)

أضواء البيان، ج 2 ص 175.

ص: 200

عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كالرمي والسباق المشروع، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك؛ لأن ما هم فيه شاغل لهم عن ذلك. روي عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر مع بعض أصحابه في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معه، فأنكر عليه وقال له:(إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم)(1).

قال في مراقي السعود:

وارتكب الأخف من ضرين

وخيرن لدى استوى هذين

والعلماء أجمعوا على ارتكاب أخف الضررين (2).

لهذا يجب على المنكر أن يراعي ارتكاب أخف الضررين عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها؛ لأن الأمر والنهي، وإن كان متضمنا تحصيل مصلحة، ودفع مفسدة إلا أنه ينبغي أن ينظر إلى المعارض له.

فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن

(1) إعلام الموقعين، ج3 ص5.

(2)

أضواء البيان، ج 2 ص 175

ص: 201

مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.

والمعتبر في تقدير مقادير المصالح والمفاسد هو ميزان الشريعة. فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم وجود ما هو دونه من المنكر، ومن ثم فلا ينه عن هذا المنكر حتى لا يفوت المعروف الأعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، أما إن كان المعروف أقل والمنكر أغلب، نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، وإن خالف وأمر بهذا المعروف المستلزم لوجود ما هو زائد عليه من المنكر كان آمرا بمنكر وساعيا في معصية الله ورسوله (1).

حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه، وصح القبول بوجه وهذا قول أكثر العلماء (2).

وهو من المعذرة التي أخبر الله تعالى فيها عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنها قالوا لمن قال لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (3)(4). لكن ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، فعن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية:

(1) انظر الحسبة لابن تيمية، ص 122، 123.

(2)

انظر جامع العلوم والحكم، ص 283.

(3)

سورة الأعراف الآية 164

(4)

وانظر جامع العلوم والحكم، ص 283

ص: 202

{عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1)؟ قال: سألت عنها خبيرا، أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام (2)» . والمذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، وإذا كان كذلك فمما كلف به المرء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعل المرء ذلك ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول، وهذا يدل على الوجوب فإن الذكرى تنفع المؤمنين (3) قال ابن رجب:(وهذا كله يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف أو خاف الضرر سقط عنه)(4).

الشرط الرابع: الرفق في الإنكار.

مما ينبغي للمنكر أن يتصف به الرفق في إنكاره، حيث يتحقق بالرفق ما لا يتحقق بالعنف، والرفق أقرب إلى حصول المطلوب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء

(1) سورة المائدة الآية 105

(2)

انظر جامع العلوم والحكم، ص 283

(3)

انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص22، 23.

(4)

انظر جامع العلوم والحكم، ص 283.

ص: 203

إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (1)»، وفي رواية عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه (3)» .

ففي هذا ثناء على من اتصف بالرفق والثناء لا يكون إلا على فعل أمر مطلوب، وفيه تصريح بذم العنف، والذم لا يكون إلا على فعل منهي عنه مما يدل على اشتراط الرفق أثناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون:(مهلا رحمكم الله).

قال سفيان الثوري: (لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى).

قال أحمد: (الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلا مباينا معلنا بالفسق والردى، فيجب عليه نهيه وإعلانه، لأنه يقال ليس لفاسق حرمة فهذا لا حرمة له)، وقال:(يأمر بالرفق والخضوع فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر لنفسه)(4).

قال الهيثم بن جميل: (قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت وإلا

(1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب فضل الرفق، صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 146.

(2)

انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 24، 133.

(3)

لمسلم، المرجع السابق. (2)

(4)

انظر جامع العلوم والحكم، ص 285، وانظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال، ص 46، 47.

ص: 204

سكت) (1) قال الشنقيطي: (فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف فإنها تضر أكثر مما تنفع فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (2)(3).

يقول الحق تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4).

فهذه الآية تضمنت النهي عن الفظاظة وهي الشراسة، والخشونة في المعاشرة، وهي القسوة والغلظة، وهما من الأفعال المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبها وإن كثرت فضائله، ورجيت فواضله، بل يتفرقون ويذهبون من حوله ومن ثم تفوت هدايتهم ولا تبلغ قلوبهم الدعوة.

واللين في المخاطبة والصبر والتجلد وعدم التشدد في العتب والتوبيخ يوصل إلى الاهتداء في كتاب الله (5).

وإن شعر المنكر عليه بغلظة في القول أو زجر في الحديث فقد يتأثر

(1) انظر جامع بيان العلم وفضله، ص 363.

(2)

سورة لقمان الآية 17

(3)

انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج 2 ص 174.

(4)

سورة آل عمران الآية 159

(5)

تفسير المنار، ج4 ص 198، 199.

ص: 205

وينفعل؛ لأن النفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها وقد لا تنقاد إلا بالرفق حتى لا تشعر بالهزيمة، وهذا الأسلوب يجعل لرأي القائم بالإنكار قوته وعلوه فتلين له الكبرياء هيبة واحتراما وثقة، فالجدل بالحسنى يطامن هذه الكبرياء الحساسة ويشعر المنكر عليه أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة وأن لا قصد من الإنكار إلا كشف الحقيقة والاهتداء إليها، وليس القصد إثبات الذات، أو نصرة الرأي، وهزيمة الرأي الآخر (1).

قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقول الدعاة في الدعوة إلى الله من أحسن الأقوال، يقول سبحانه:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) والرفق حبب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (4)» .

ففي هذا دلالة على ترك التشديد على المخالف والبدء معه بالملاطفة والتدرج في بيان المخالفة، وما ينبغي له عمله إزاء ذلك (5).

الشرط الخامس: معرفة البيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد المتوارثة.

(1) انظر في ظلال القرآن، ج5 ص292.

(2)

سورة النحل الآية 125

(3)

سورة فصلت الآية 33

(4)

أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، فتح الباري، ج1 ص163.

(5)

انظر فتح الباري، ج1 ص163.

ص: 206

ولكي يحقق الإنكار ثمرته ينبغي للقائم بالإنكار أن يراعي البيئة والعادات سواء من حيث معرفة مقدار الالتزام بأحكام الإسلام، أو معرفة نوع المخاطب وما يناسبه من أنواع الخطاب، وهل المخالفة شائعة بين الناس، أو بين فئة أو فئات معينة، وهل لمجاهر بها أو لا يجاهر، وهل فعل المنكر باستمرار أو في أوقات معينة، وهكذا؟

إن من مقتضى معرفة ذلك حسن التصرف في التعامل مع المنكر عليه حيث يجب إنزال الناس منازلهم، فنصيحة الأمي غير نصيحة المتعلم، والحاكم غير نصيحة المحكوم، والمعاند غير خالي الذهن، وما يلزم ذكره للمجاهر يختلف عن غير المجاهر، ومن يتكرر منه الفعل غير من فعل المنكر مرة واحدة أو مرات محدودة.

والتعامل مع المرتكبين للمنكرات الشائعة بين الناس يختلف عن التعامل مع مخالف ارتكب مخالفة غير شائعة. يقول ابن تيمية: (ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي)(1) فإن العلم بحاله يجعلك تستكشف كافة أفعاله والخبير بالشيء يسهل عليه فهمه، ويتمكن من كشف أمره، وإصلاح حاله فهو إذن بها خبير، وبإدراك شأنها بصير، وهو فيما يقدره من إنكار يكون به حكيما.

(1) انظر الحسبة لابن تيمية، ص 133.

ص: 207