المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع: في طرائق الإنكار - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٤٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌باب ما يجري فيه الربا:

- ‌باب في أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل:

- ‌باب من باع ذهبا وغيره بذهب

- ‌باب مرد الكيل والوزن:

- ‌ باب النهي عن بيع الدين بالدين وجوازه بالعين ممن هو عليه

- ‌باب نهي المشتري عن بيع ما اشتراه قبل قبضه:

- ‌باب النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان

- ‌ ابن رشد في بداية المجتهد:

- ‌الفصل الأولفي معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء وتبيين علة ذلك

- ‌الفصل الثانيفي معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء

- ‌الفصل الثالثفي معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا

- ‌الباب الثانيفيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليهالسلم

- ‌ ابن قدامة في المغني

- ‌باب الربا والصرف

- ‌إعجاز القرآن

- ‌جمع القرآن وترتيبه

- ‌تعدد القراءات للقرآن

- ‌تلاوة القرآن وتحزيبه

- ‌تحسين الصوت في القراءة

- ‌رفع الصوت في القراءة

- ‌ كتابة الآيات وتعليقها على الحائط

- ‌ كتابة الآيات على ساعات الدليل

- ‌ كتابة الآيات على معلقات

- ‌ دخول الخلاء وهو يحمل المصحف

- ‌ قراءة القرآن لغير المسلم

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ على من يجب صيام رمضان

- ‌ هل يؤمر الصبي المميز بالصيام

- ‌ كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع

- ‌ الفطر للمرأة الحامل والمرضع

- ‌ من عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه

- ‌ حكم صيام التطوع:

- ‌ كان مريضا ودخل عليه رمضان ولم يصم ثم مات بعد رمضان

- ‌ استعمال معجون الأسنان، وقطرة الأذن، وقطرة الأنف، وقطرة العين للصائم

- ‌ خلع أحد أسنانه، فهل يؤثر ذلك على صيامه

- ‌ أكل أو شرب في نهار الصيام ناسيا

- ‌ حكم من يصوم وهو تارك للصلاة

- ‌ أفطر في رمضان غير منكر لوجوبه

- ‌ أكل الصائم أو شرب أو جامع ظانا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر

- ‌ جامع في نهار رمضان وهو صائم

- ‌ استعمال البخاخ في الفم للصائم نهارا لمريض الربو

- ‌ أخذ الحقنة الشرجية عند الصائم للحاجة

- ‌ من ذرعه القيء وهو صائم

- ‌ تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم

- ‌ حكم الاعتكاف للرجل والمرأة

- ‌تكييف العربون:

- ‌حكم بيع العربون في بيوع الصرف:

- ‌حكم كون العربون مبلغا مستقلا عن ثمن السلعة:

- ‌حكم العربون في الخدمات:

- ‌حكم العربون في شراء الأسهم:

- ‌حكم العربون في بيع المرابحة:

- ‌حكم المواعدة على الشراء وأخذ العربون لذلك:

- ‌الإنكارمعناه، أصل مشروعيته، شروطه، طرائقه

- ‌الفصل الأول: في معنى الإنكار

- ‌الفصل الثاني: في أصل مشروعيته

- ‌الفصل الثالث: في شروط الإنكار

- ‌الفصل الرابع: في طرائق الإنكار

- ‌ثانيا: التأديب

- ‌أولا: النصوص الإجمالية من القرآن الكريم:

- ‌ثانيا: النصوص التفصيلية من القرآن الكريم عن دعوة بعض الأنبياء:

- ‌جمعية الموظفين وأحكامها في الفقه الإسلامي

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأولصور جمعية الموظفين

- ‌المبحث الثانيحكم الصورة الأولى من صور جمعية الموظفين

- ‌المبحث الثالثحكم الصورة الثانية من صور جمعية الموظفين

- ‌المبحث الرابعحكم الصورة الثالثة من صور جمعية الموظفين

- ‌الخاتمة

- ‌جمال الدين القاسمي علامة الشام

- ‌عصر القاسمي:

- ‌سيرة القاسمي الشخصية والعلمية:

- ‌مآثره وشمائله:

- ‌القاسمي ومنهجه في الدعوة بين التأثر والتأثير:

- ‌تأثر القاسمي بابن تيمية:

- ‌مؤلفات القاسمي:

- ‌آراؤه وأفكاره:

- ‌مفكراته:

- ‌مشهد الكائنات الكونية

- ‌أولا مشهد الكائنات السفلية

- ‌ مشهد الجبال:

- ‌ مشهد الأرض:

- ‌ مشهد البحار:

- ‌ثانيا مشهد الكائنات العلوية

- ‌ مشهد السماء:

- ‌ مشهد الشمس والقمر:

- ‌ مشهد النجوم:

- ‌مشاهد الناس يوم القيامة

- ‌أولا: خروج الناس من الأجداث

- ‌ثانيا: ذهول الناس عن أنفسهم وما يملكون

- ‌ثالثا: تغير أحوال الناس

- ‌رابعا: صفة مجيئهم لأرض المحشر

- ‌خامسا: جثو الأمم للحساب

- ‌سادسا: تسلم نتائج الأعمال

- ‌مشاهد المؤمنين يوم القيامة

- ‌أولا: القول الحق من الرسل عند سؤال المولى لهم

- ‌ثانيا: وجوه المؤمنين يوم القيامة

- ‌ثالثا: من يغبطون في موقف الحساب

- ‌رابعا: نور المؤمنين يسعى بين أيديهم وبأيمانهم

- ‌خامسا: صفات الكافرين

- ‌ سواد الوجوه:

- ‌ تنكيس الرؤس:

- ‌ حشره على وجهه إلى النار:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌الفصل الرابع: في طرائق الإنكار

‌الفصل الرابع: في طرائق الإنكار

القائم بالإنكار أشبه ما يكون بالطبيب يختار من العلاج ما يناسب حال المريض فيصف من الدواء ما كان أقل ضررا وأكثر نفعا. وكما لا ينبغي للطبيب أن يختار من الأدوية ما يضر الجسم وإن كانت تساعد على الشفاء مع وجود دواء يحصل به الشفاء وهو لا يضر، فكذا الذي يقوم بإنكار المنكر لا يحل له أن يستعمل يده إن كان ما دونه في الرتبة يحقق ذلك، ولا ينهر إذا كان اللين أجدى وهكذا.

ولهذا فإن طرائق الإنكار هي؟

ص: 208

أولا النصيحة أولا: النصيحة.

الإنكار بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق هو ما تقتضيه أصول الدعوة إلى سبيل الله، قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1).

وذكر النووي: أن المختلف فيه لا إنكار فيه. . . لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر). (2).

قال الشافعي: (من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه

(1) سورة النحل الآية 125

(2)

انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج 1 ص 191.

ص: 208

علانية فقد فضحه وشانه) (1).

والقائم بالإنكار ينبغي أن يراعي حال المنصوحين وظروفهم، وتوقع الأوقات المناسبة لقبولهم النصيحة؛ لتسري إلى القلوب برفق، وتتعمق إلى المشاعر بلطف لتجد مكانا تستقر فيه. ومن دواعي القبول ألا يسعى القائم بالإنكار إلى إظهار أخطاء المنصوح؟ لأنها قد تقع منه عن جهل، أو حسن نية وهذا يقتضي عدم التحامل على المخالف، أو ترذيله، أو تقبيحه.

والقائم بالإنكار يستحسن له أن يعرف بنفسه ويظهر منزلته التي تؤهله للنصح، فيوسف عليه السلام قبل أن ينصح صاحبيه في السجن أخبر عن نفسه؛ لأنهما يجهلان حاله، قال سبحانه حكاية عنه: قال {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (2){وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (3).

بعد هذا التعريف قام بنصحهما قبل أن يقضي حاجتهما، وهكذا يكون القائم بالإنكار مدركا لواجبه أثناء أداء حياته اليومية حتى وإن كان داخل السجن.

(1) انظر المجموع، ج 1 ص 31، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 24.

(2)

سورة يوسف الآية 37

(3)

سورة يوسف الآية 38

ص: 209

ومما يستحسن فعله قبل البدء بالنصح إشعار المنكر عليه بأن ما فعله من منكر لا يخرجه عن المسلمين، وأن هذا نوع تقصير وكلنا مقصرون، لكن منا المكثر، ومنا المقل، ومنا المتوسط، وأن الجميع جند للإسلام يدافعون عن حماه، ويذودون عن حوزته، سواء من كان منهم يسبل لثيابه، أو يقصر لها، أو يرسل لحيته، أو يحلقها أو يخفف منها، وأن الكل أمة واحدة، غير أن هذا الإخلال بالواجب عند المخالف يحتاج لمراجعة ليتحقق الكمال الواجب في هذه الأمة، وأننا كأمة يجب أن نلتقي في دوحة واحدة لا يختلف عليها فالكل يحب الخير وأهله، سواء من كان منكرا للمخالفات أو مرتكبا لها.

وعند البدء في الحديث معه يستحسن تكنيته ليصغي إليه؛ لأن لهذا أثره في الاستجابة.

روى البيهقي بسنده (1) «في قصة ذهاب عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان سيدا حليما في قومه وفيه: فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت. . . حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال " فقال له رسول الله:"يا أبا الوليد أسمع ". . . حتى إذا فرغ عتبة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أفرغت يا أبا الوليد " قال: نعم، قال:"اسمع مني "، قال: أفعل، فتلا عليه من أول سورة فصلت إلى السجدة فسجدها ثم قال:"سمعت يا أبا الوليد "، قال: سمعت، قال:

(1) انظر دلائل النبوة للبيهقي، ج 2 ص 204، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.

ص: 210

"فأنت وذاك"، ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به». (1).

والنبي صلى الله عليه وسلم لقي أسقف نجران فقال: «يا أبا الحارث أسلم» . وعن يحيى بن أبي كثير، قال الفرافصة - وهو نصراني- لعمر:(يا أمير المؤمنين إنكم تأكلون ذبيحة لا نأكلها، قال: وما ذاك يا أبا حسان، فذكر الحديث). (2).

قال ابن هانئ: (رأوا أبا عبد الله كنى نصرانيا طبيبا فقال: يا أبا إسحاق). (3) وإذا كان هذا مع غير المسلمين فإن المخالف من المسلمين أولى بهذا الاحترام وأحظى بالتقدير.

ومن مظاهر الاحترام البشاشة والطلاقة في الوجه أثناء الإنكار؛ لأن مثل هذا يهدئ المنكر عليه ويريح نفسه، فيحس بمحبة القائم بالإنكار له، وأنه بمنزلة المحبوب من أخ وصديق.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق (4)» .

ففي هذا دلالة على أن طلاقة الوجه من المعروف الذي يثاب عليه

(1) البداية والنهاية، ح 3 ص 61.

(2)

انظر مسائل الإمام أحمد، ج 2 ص 180.

(3)

انظر مسائل الإمام أحمد، ج 2 ص 180.

(4)

أخرجه مسلم في كتاب البر والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص 177.

ص: 211

الإنسان لأخيه الإنسان، والأجر سيضاعف إن حقق هذا الفعل تجنيب إنسان فعل مخالفة ارتكبها.

والنصح كان هو نهج الأئمة الكبار فيما بينهم، وفيما يلي أورد رسالة الإمام مالك إلى الليث بن سعد، وجواب الليث له لنعرف أدب العلماء عند المناصحة:

من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد: (سلام الله عليك. فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد:

عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه، اعلم، رحمك الله، أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك، حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} (2){الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3).

فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن،

(1) سورة التوبة الآية 100

(2)

سورة الزمر الآية 17

(3)

سورة الزمر الآية 18

ص: 212

وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم، وحداثة عهدهم، وإن خالفهم، مخالف أو قال امرؤ: غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله وعمل بغيره.

ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل، ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه؛ للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم. فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك، واعلم أني أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده، والنظر لك، والظن بك، فأنزل كتابي منك منزلته، فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحا، وفقنا الله وإياك لطاعته، وطاعة رسوله في كل أمر، وعلى كل حال، والسلام عليكم ورحمة الله).

وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر (1).

(1) انظر ترتيب المدارك، ج 1 ص 64.

ص: 213

وأجاب الليث بما يلي:

(سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:

عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة. قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيرا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.

وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلا إلا لأني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي، لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن.

وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.

وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن بها

ص: 214

عليه بين ظهري أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعا لهم فيه فكما ذكرت.

وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) فإن كثيرا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئا علموه، وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه، فلم يتركوا أمرا فرضه القرآن أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا علموهموه، فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره.

فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمرا لم يعمل به

(1) سورة التوبة الآية 100

ص: 215

سلفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم، مع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعد في الفتيا في أشياء كثيرة، ولولا أني قد عرفت أن قد علمتها كتبت بها إليك.

ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن المسيب ونظراؤه، أشد الاختلاف.

ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، فحضرتهم بالمدينة وغيرها، ورأسهم يومئذ ابن شهاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت، وحمدت قولك فيه، وقول ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير ممن هو أسن منه حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.

وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله.

وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد- على فضل رأيه وعلمه- بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضا، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا

ص: 216

الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.

وقد عرفت أيضا عيب إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل (1)» ، وقال:«يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة (2)» وشرحبيل بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح.

وكان أبو ذر بمصر، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة- سنين، وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط.

ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يقضى بالمدينة به، ولم يقض به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.

ثم ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن،

(1) سنن الترمذي المناقب (3790)، سنن ابن ماجه المقدمة (155)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 281).

(2)

الرتوة: الخطوة

ص: 217

والجد في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم. مما مضى من أمر الناس، فكتب إليه رزيق بن الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد، ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك؛ فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتين، ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر، والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكنا.

ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر، ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا من بعدهم- لامرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما موت، أو طلاق فتقوم على حقها.

ومن ذلك قولهم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاب حتى يوقفه، وإن مرت أربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله بن عمر - وهو الذي كان يروى عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر- أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمولي إذا بلغ الأجل إلا أن يفيء كما أمر الله، أو يعزم الطلاق، وأنتم تقولون: إن لبث بعد أربعة الأشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف، لم يكن عليه طلاق.

وقد بلغنا أن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قالوا في الإيلاء: إذا مضت أربعة

ص: 218

الأشهر فهي تطليقة بائنة. وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابن شهاب: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة.

ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملك الرجل امرأته فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثا فهي تطليقة، وقضى بذلك عبد الملك بن مروان، وكان ربيعة بن عبد الرحمن يقوله، وقد كاد الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين كانت له عليها الرجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثا بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره فيدخل بها ثم يموت أو يطلقها، إلا أن يرد عليها في مجلسه فيقول: إنما ملكتك واحدة، فيستحلف ويخلى بينه وبين امرأته.

ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: أيما رجل تزوج أمة، ثم اشتراها زوجها، فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت المرأة الحرة عبدا فاشترته فمثل ذلك.

وقد بلغنا عنكم شيئا في الفتيا مستكرها، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني في كتابي، فتخوفت أن تكون استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكره، وفيما أوردت فيه على رأيك، وذلك أنه بلغني أنك أمرت زفر بن عاصم الهلالي - حين أراد أن يستسقي- أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمت ذلك؛ لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة

ص: 219

يوم الجمعة إلا أن الإمام إذا دنا من فراغه من الخطبة فدعا حول رداءه ثم نزل فصلى. وقد استسقى عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما، فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة، فاستهتر الناس كلهم فعل زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه. ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال أنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويترادان بالسوية، وقد كان ذلك يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم وغيره، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله، وغفر له، وجعل الجنة مصيره.

ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها، أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئا، أو أنفق المشتري منها شيئا فليست بعينها.

ومن ذلك أنك تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام، وأهل مصر، وأهل العراق، وأهل إفريقية، لا يختلف فيه اثنان؛ فلم يكن ينبغي لك- وإن كنت

ص: 220

سمعته من رجل مرضي- أن تخالف الأمة أجمعين.

وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار؛ فهذه منزلتك عندي ورأي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به علينا. والسلام عليكم ورحمة الله (1).

ففي هاتين الرسالتين الأدب الجم في حسن التخاطب، وفيهما دراية ورعاية لفقه التعامل مع المخالف. وهاتان الرسالتان تمثلان بحق لونا رفيعا من أدب التخاطب والتحاور بالحجج العلمية دون تعريض أو تجريح بعضهما ببعض أو بالآخرين. انظر إلى قول الليث بن سعد في ربيعة شيخ الإمام مالك:(وذاكرت أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، (2) فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه

(1) إعلام الموقعين، ج3 ص 83 - 88.

(2)

لأنه صار يأخذ بمنهج مدرسة أهل الرأي في بعض المسائل.

ص: 221