الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهم عند ما يخرجون من قبورهم وتسري فيهم أرواحهم ويرون الأهوال العظيمة في أنفسهم وهم حفاة عراة، وفي الكائنات الأخرى، فلا يدرون أين يذهبون أو يتجهون يموج بعضهم في بعض مثل الفراش في تداخل بعضه في بعض، فهم يتطلعون إلى ما سيكون من خالقهم حيث الانقطاع من الدنيا - دار الغرور - والرجوع إليه سبحانه وتعالى حفاة عراة لا طعام ولا شراب، ولا ظهير ولا نصير، انقطعت عنهم الأسباب، وتفرقت بهم السبل لا ينفع حبيب حبيبا، الجميع مستسلمون لأمر رب الأرباب، منتظرون ما سيكون في الحساب وما بعد الحساب.
ثانيا: ذهول الناس عن أنفسهم وما يملكون
إذا بعدت الحوادث المفجعة عن الإنسان في الحياة الدنيا فهو في أمن واستقرار وطمأنينة وأمان، فإذا حل به حادث مروع فهو على قدر ذلك تكون مخاوفه وقلقه وحزنه وأسفه ثم سرعان ما تنتهي.
ولكن حوادث اليوم الآخر كسرها لا يجبر، وجرحها لا يلتئم، وحزنها لا ينسى وفراقها لا يعود، إلا أن يشاء الله تعالى.
والقرآن الكريم يصور لنا مشهد الناس عند زلزلة الساعة حيث انتهاء عمر الدنيا وبداية اليوم الآخر فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1){يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (2)
(1) سورة الحج الآية 1
(2)
سورة الحج الآية 2
يخاطب الله تعالى عباده بأن يتقوه وذلك بإخلاص العبادة له دون سواه ويذكرهم بأهوال ما هم قادمون عليه في نهاية الأمر وأنه لا يخلصهم وينجيهم من أهوال وعذاب ذلك إلا هو سبحانه وتعالى إذا كانوا على مرضاته، فبين عز وجل عظم ذلك اليوم وما يحصل فيه من الأهوال العظيمة، التي بسببها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ليكون لها شأن غير ما هو أعظم الشأن عندها وهو ابنها - حيث حنان الأم على الابن وعطفها عليه - فيحصل لها ما يشغلها عن ذلك عندما ترجف الأرض وتتحرك وتزحزح عن موضعها، وتغير ما كان معتادا عند الإنسان بتغيرات ما يحصل في يوم القيامة من الأهوال، وتضع الحوامل حملها من شدة الخوف والرعب والفزع من جراء ذلك، وكذا الناس جميعا يصبحون في حال من شرب السكر وذهب عقله وإن لم يكونوا كذلك، ولكن من شدة الهول والفزع والخوف الذي أصابهم وحتى أصبحوا بتلك الحال. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (ذلك بأنها إذا وقعت الساعة رجفت الأرض وزلزلت زلزالها وتصدعت الجبال واندكت وكانت كثيبا مهيلا ثم كانت هباء منثورا، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج. فهناك تنفطر السماء، وتكور الشمس والقمر وتنتثر النجوم ويكون من القلاقل والبلابل ما
تنصدع له القلوب وتوجل منه الأفئدة، وتشيب منه الولدان، وتذوب له الصم الصلاب) (1). وقال سيد قطب وهو يعطي صورة لهذا المشهد العظيم:(مطلع عنيف رعيب، لي مشهد ترتجف لهوله القلوب، يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (2){يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (3) يدعوهم إلى الخوف من الله {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} (4) ويخوفهم ذلك اليوم العصيب {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (5) وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير فيقال: إنه زلزلة، وإن الزلزلة {شَيْءٌ عَظِيمٌ} (6) من غير تحديد ولا تعريف. ثم يأخذ في التفصيل فإذا هو أشد رهبة من التهويل. . إذ هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى وتتحرك ولا تعي. وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها. . وبالناس سكارى وما هم بسكارى يبتدي السكر في نظراتهم الذاهلة وفي خطواتهم المترنحة. مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج تكاد العين تبصره لحظة التلاوة، بينما الخيال يتملاه، والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية في المرضعات الذاهلات عما أرضعن - وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي - والحوامل الملقيات حملهن، وبالناس سكارى وما هم بسكارى،
(1) تفسير كلام المنان 5/ 270.
(2)
سورة الحج الآية 1
(3)
سورة الحج الآية 2
(4)
سورة الحج الآية 1
(5)
سورة الحج الآية 1
(6)
سورة الحج الآية 1
{وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (1) إنه مطلع عنيف مرهوب تتزلزل له القلوب) (2).
وقد اختلف في وقت هذه الزلزلة على قولين:
القول الأول: أنها في الدنيا قبل يوم القيامة، قاله علقمة والشعبي وابن جريج. وروى أبو العالية عن أبي بن كعب قال:(ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزع الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والوحش، فماج بعضهم في بعض، فقالت الجن للإنس: "نحن نأتيكم بالخبر"، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة، والسماء إلى السماء السابعة، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فماتوا). ومدار هذا القول على حديث الصور الطويل وحديث الصور الطويل ضعفه العلماء (3). قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: (وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل، بل الثابت من النقل يؤيد خلافه،
(1) سورة الحج الآية 2
(2)
في ظلا ل القرآن 4/ 2408.
(3)
انظر الكلام على حديث الصور في فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/ 368، 369.
وهو القول الآخر) (1).
القول الثاني: أنها تكون يوم القيامة بعد قيام الناس من القبور، والأدلة على هذا كثيرة سنذكر منها ما يؤيد رجاحة هذا القول وأن أهوال القيامة تحصل جميعها يوم القيامة عندما يقوم الناس جميعا من قبورهم.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «"يقول
الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد"، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبرنا ثم قال: - ثلث أهل الجنة - فكبرنا ثم قال: - شطر أهل الجنة" فكبرنا (2)». وعن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت:
(1) أضواء البيان 5/ 9.
(2)
رواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير سورة الحج باب 1 حديث 4741، ورواه أحمد في المسند 3/ 32 و 33، ومسلم في صحيحه كتاب الأيمان حديث 222 وجاء في بعض الطرق للحديث عند البخاري:"أو كالرقمة في ذراع الحمار" كتاب الرقاق باب 46 حديث 6530.
(3)
رواه الترمذي في كتاب التفسير سورة الحج باب 23 حديث 3168 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الإمام أحمد في المسند 4/ 435.
إلى قوله: قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفر، فقال:"أتدرون أي يوم ذلك؟ "، فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. فقال: يا رب وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة"، قال: فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية"، قال:"فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة (4) في جنب البعير - ثم قال: - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا ثم قال: - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا ثم قال: - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا قال: لا أدري قال الثلثين أم لا؟». وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وعنده أصحابه: إلى آخر الآية، فقال: "هل تدرون أي
(1) سورة الحج الآية 1 (3){يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
(2)
سورة الحج الآية 2 (1){وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
(3)
كان ذلك في منى، انظر فتح الباري 11/ 392. (2)
(4)
(3) في ذراع الدابة أو كالشامة الشامة: الخال والعلامة في الجسد، نفس المرجع.
(5)
رواه الحاكم في المستدرك 4/ 568، وقال: هذا حديث صحيح بهذه الزيادة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
يوم ذاك؟ " قالوا الله ورسوله أعلم، قال: "ذاك يوم يقول الله لآدم قم فابعث بعث النار - أو قال - بعثا إلى النار. فيقول: يا رب من كم؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة"، فشق ذلك على القوم ووقعت عليهم الكآبة والحزن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" ففرحوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعملوا وأبشروا فإنكم بين خليقتين لم يكونا مع أحد إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج وإنما أنتم في الناس أو في الأمم كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الناقة وإنما أمتي جزء من ألف جزء (1)»
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين "، فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون فماذا يبقى منا؟ قال: "إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود (2)» .
من هذه الأحاديث الصحيحة يتضح أن زلزلة الساعة المذكورة هي في يوم القيامة عند قيام الناس من قبورهم، وإن كان هناك تساؤلات ترد على الحامل والمرضع كيف يكون ذلك يوم القيامة حيث لا رضاع ولا
(1) سورة الحج الآية 1 (5){يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
(2)
رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق باب 45 حديث 6529.
حمل؟ فأجيب عن هذا باحتمالين:
الاحتمال الأول: أن ذلك كناية من شدة الهول، فلو كان هناك مرضعة لذهلت عن رضيعها، ولو كان هناك حامل لأسقطت حملها. كقوله تعالى:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (1){السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} (2) الاحتمال الثاني: أن من مات على شيء بعث عليه فالمرضع تبعث وهي ترضع ولدها والحامل تبعث وهي بحملها فمن أهوال ذلك اليوم تذهل المرضع عن رضيعها وتضع الحامل حملها. والله أعلم بالصواب. ويرد أيضا سؤال على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أخرج من كل مائة تسعة وتسعين (3)» مع أن بقية الأحاديث: «من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (4)» ، قال الكرماني ردا على هذا:(أن مفهوم العدد لا اعتبار له فالتخصيص بعدد لا يدل على نفي الزائد، والمقصود من العددين واحد وهو تقليل عدد المؤمنين وتكثير عدد الكافرين)(5).
(1) سورة المزمل الآية 17
(2)
سورة المزمل الآية 18
(3)
صحيح البخاري الرقاق (6529)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 378).
(4)
صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3348)، صحيح مسلم الإيمان (222)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 33).
(5)
فتح الباري 11/ 390.