الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذا فقد مضى في دعوته، دون أن يلقي إلى هذه التهمة بالا، مع ما كان يمكن أن يتعرض المتهم بها من الأذى، والنكال في عصره، بل كان كلما ناله أذى من أعداء الإصلاح يزداد قوة وإصرارا.
القاسمي ومنهجه في الدعوة بين التأثر والتأثير:
ارتكزت دعوة القاسمي الإصلاحية على المنهج السلفي، إذ كان يدعو المسلمين إلى العودة إلى الكتاب والسنة، وكان يعمل على محاربة الخرافات والبدع التي التصقت بعقائد المسلمين وبسلوكهم.
وكان يدعو علماء عصره إلى عدم قبول آراء الفقهاء المتقدمين عن اتباع وتقليد، بل بالدليل من الكتاب والسنة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، كيف توصل القاسمي إلى معرفة هذا المنهج السلفي في منطقة غالبية علمائها يدور بين الجمود في الدين والبدعة في الاعتقاد؟ إذا فلا بد أن القاسمي قد تأثر ممن سبقه من الأئمة الأعلام، ويمكن إيضاح ذلك فيما يأتي:
تأثر القاسمي بابن تيمية:
جاء القاسمي بعد قرون عديدة من وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكانت دعوة ابن تيمية قد ضعفت في بلاد الشام، إلا أن كتبه ومؤلفاته وفتاويه موجودة في بعض المكتبات.
وهكذا شرع القاسمي بقراءة هذه المؤلفات المتوافرة (بل قام في أول عهده بنشر آثار ابن تيمية، فنشر مجموعة من رسائله في مجلدين، وكان
دائما ينوه بفضله في دروسه ويستشهد بتفسيره بالنقل عنه) (1).
وفي رسالة منه إلى الشيخ محمد نصيف في جدة يؤكد فيها القاسمي تأثره بابن تيمية فيقول: (. . . ولقد أدخل السيد شكري أفندي علي السرور الزائد مما نوه لي عن فضلكم وصلاحكم وكمالكم، وغيرتكم على نشر آثار السلف، لا سيما آثار شيخ الإسلام رحمه الله، فإن هذه غاية أمنيتنا، ونهاية رغبتنا، وقد حمدت الله تعالى وشكرته على أن قيض لهذا الشأن أمثالكم، ومن مدة كنت كاتبت السيد شكري أفندي، وعرفته بأن محبي السلف من الواجب عليهم الآن أن ينهضوا لإحياء آثارهم ونشرها. . .)(2).
ثم يشير القاسمي إلى أن وفاة شيخ الإسلام كانت بدمشق، وأن رسائله وكتبه موجودة في المكتبة الظاهرية بدمشق، ويعدد القاسمي بعض كتبه ورسائله.
ويتابع القاسمي كلامه فيقول: (وقد أمر السيد شكري أفندي أن أعرض ذلك عليكم، وهو يعلم أنني ممن يتعشقون آثار شيخ الإسلام، ويسعى لها جهده، حتى إني كنت جمعت ثمانية وعشرين رسالة بخطي، استكتبت منها من بلاد شاسعة، ثم طبعت في مصر من نحو عامين. . . والآن عندي من رسائله وفتاويه الصغرى ما أعده أعظم كنز. . .)(3).
ثم يقول في موضع آخر من هذه الرسالة: (ولا يخفى عليكم
(1) جمال الدين القاسمي، بقلم ظافر القاسمي، ص:49.
(2)
جمال الدين القاسمي، بقلم ظافر القاسمي، ص 585/ 586.
(3)
المرجع السابق، ص 587.
أن أعظم واسطة لنشر المذهب السلفي هو طبع كتبه، وأن كتابا واحدا تتناوله الأيدي على طبقاتها خير من مائة داع وخطيب؛ لأن الكتاب يبقى أثره، ويأخذه الموافق والمخالف.
وأعرف أن كثيرا من الجامدين اهتدوا بواسطة ما طبعناه ونشرناه، اهتداء ما كان يظن، والحمد لله على ذلك).
وينهي رسالته بقوله:
(وما أظن ترون في الشام من له غيرة على آثار الشيخ رضي الله عنه أمثالنا، فالآن آن الأوان، وما بقي إلا الاهتمام. . .)(1). وهي رسالة طويلة، كلها تدور في رغبة القاسمي واهتمامه بنشر المذهب السلفي عن طريق نشر كتب ابن تيمية رحمه الله.
ويؤكد القاسمي هذا في رسائل أخرى إذ يقول:
(إني ولله الحمد، نشأت على حب مؤلفات شيخ الإسلام، والحرص عليها، والدعوة إليها، وأعتقد أن كل من لم يطالع فيها لم يشم رائحة العلم الصحيح، ولا ذاق لذة فهم العقل، وهم يعلمون ما ندعو إليه، وما نسعى لإشهاره: فطورا يرموننا بالاجتهاد، وطورا بما قدمنا، وسيأخذ الحق بناصيتهم إن شاء الله)(2).
ويتكرر هذا الحرص على مؤلفات ابن تيمية في مواضع أخرى كثيرة، يجدها المتتبع لتلك الرسائل في هذا الكتاب الذي أشرت إليه.
(1) جمال الدين القاسمى، بقلم ظافر القاسمي، ص 588.
(2)
المرجع السابق، ص 596.
ويغلب على ظني أن ما عرضته لا يحتاج قارئه إلى كبير عناء، لاستخلاص تأثر القاسمي بابن تيمية، بل هو يؤكد أن المرء لا يشم رائحة العلم الصحيح، ولا يذوق لذة فهم العقل ما لم يطالع تلك المؤلفات والكتب التي خلفها ابن تيمية للأجيال من ورائه.
بعد هذا أقول: إنه من نافلة القول أن أشير إلى تأثر القاسمي بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تلك الدعوة التي انتشرت في مناطق متعددة من العالم العربي والإسلامي، وهي الدعوة التي حرصت على نشر الإسلام بشكله الصحيح، والعودة بالمسلمين إلى الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من أمثال ابن تيمية وابن القيم.
لذلك سوف تلقى هذه الدعوة صدى في نفس القاسمي.
بل إن كاتبا باحثا بدارة الملك عبد العزيز وهو: محمد كمال جمعة، يؤكد هذا فيقول:(انتهت المشيخة العليا في بلاد الشام في أوائل هذا القرن إلى الشيوخ الأجلاء: الشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ طاهر الجزائري، والشيخ محمد كامل قصاب، فدرسوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأعجبوا بها، وقدروها حق قدرها، ورأوا أنها على حق وصواب، فنشروها في المجتمع الشامي، وبذروا بذورها، فأثمرت أطيب الثمار وانتهت أبرك النتائج. . .)(1).
ويشير الإستانبولي إلى منهج القاسمي في الدعوة فيقول:
(1) انتشار دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية، ص129 وما بعدها.
(وكان القاسمي يدعو إلى التوحيد الصحيح، الذي كان يدعو إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد ناظر كبار العلماء في التوحيد، وأوضح لهم ما داخله من الشرك الذي هو أعظم من شرك المشركين، فقد كان الكفار يدعون الله وحده في الشدائد، بعكس المبتدعين في زماننا، الذين ينسون الله عند الشدائد ويدعون غيره)(1).
وهكذا يتبين لنا كيف تكون لدى القاسمي النهج السلفي بعد توفيق الله ورعايته حيث تظافرت مؤثرات عديدة، فقد تأثر ابتداء بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وبدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إضافة إلى تأثره ببعض معاصريه، وبمؤلفاتهم، وكتاباتهم، من أمثال محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وبغير هؤلاء ممن التقى بهم في مكة المكرمة والمدينة في رحلاته إليهما.
ولكن ما هو تأثير دعوة القاسمي الإصلاحية؟ وماذا عن نشاطه في إحياء المنهج السلفي في بلاد الشام؟ لقد أكد لنا طائفة من معاصريه، ممن عرفوا القاسمي، وعرفوا صدقه في دعوته، وقواعد المنهج الذي يدعو إليه، أكد هؤلاء أن القاسمي قد تمكن من إحياء السلفية في بلاد الشام، وأنه نجح نجاحا موفقا في عمله الإصلاحي، وفي دعوته إلى الله تعالى، بالرغم من المعوقات الكبيرة التي
(1) جمال الدين القاسمى، بقلم الإستانبولي، ص 28.
أقامها أمامه الجامدون والخرافيون، والمتعصبون للباطل والجاهلون.
فقد قال الإمام محمد رشيد رضا: (كان -رحمه الله تعالى- يقرأ الدروس العربية والشرعية للطلبة والعامة، ويخطب في المسجد خطبة الجمعة، ويصنف الرسائل والأسفار الممتعة، ويصحح ما يرى نشره نافعا من كتب المتقدمين ويشرح المختصر، ويختصر المطول منها، ويسعى في طبعها ونشرها، ويبث روح الاستقلال والاستدلال في ذلك كله، مع الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فكم سعى فيه، وكاد له، أولئك المعممون الجامدون، فأنجاه الله منهم.
وإن أكبر الكبائر التي يتهمون بها كل من يدعو مثله إلى العلم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي محاولة هدم الدين، بفتح باب الاجتهاد والاستدلال، وما يستلزمه ذلك بزعمهم من تحقير الأئمة ومن اتبعهم من علماء الأمة.
كان له -رحمه الله تعالى- دروع سابغات من أخلاقه وسيرته، تقيه بغي أعداء العلم والإصلاح من حساده، إذ كان نزيه اللسان بعيدا عن المراء والجدل، متجنبا للازدراء بغيره، أو مدح نفسه. . . إلى ما كان عليه من العبادة والعفة والاستقامة (1).
ويقدم لنا العلامة محمد كرد علي صورة أخرى للعصر الذي عاش فيه القاسمي وما لاقى من صعوبات، وما واجه من معوقين، حتى تمكن بفضل الله من نشر الدعوة السلفية فيقول: لقد أصبحت العلوم رسمية، والمدارس
(1) المنار، ج / 7 م / 17، ص 560.
صورية، والأوقاف المحبوسة على الشيوخ مأكولة مهضومة. . . ولكن إرادة المولى سبحانه قضت بأن لا تحرم هذه الأمة من أعلام يصدعون بالحق، فيجددون لها أمر دينها، ويستطيبون الأذى في إنارة العقول والرجوع بالشرع إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح.
من هؤلاء المجددين نابغة دمشق، فقيدنا - جمال الدين القاسمي - الذي يعرفه قراء هذه المجلة مما نشر في سنيها الماضية من آثار علمه وآدابه ولم يعمه عن الاشتغال ما لقيه من تثبيط المثبطين في أول أمره أو تنقيص الحاسدين في أواسط عمره ممن لا يخلو منهم مصر ولا عصر).
لقد عمل القاسمي على إعادة المسلمين إلى النهج الصحيح، فاتهموه بأنه صاحب مذهب جديد، فمرة قالوا عن مذهبه:(المذهب الجمالي)، ومرة أخرى قالوا:(المذهب الوهابي)، فيرد القاسمي عليهم بقوله:(1).
زعم الناس بأن
…
مذهبي يدعى الجمالي
مذهبي ما في كتا
…
بـ الله ربي المتعالي
ثم ما صح من الـ
…
أخبار لا قيل وقال
أقتفي الحق ولا أر
…
ضى بآراء الرجال
وأرى التقليد جهلا
…
وعمى في كل حال
وهكذا يمضي القاسمي في دعوته هذه إلى نهاية حياته، وقد تحقق له
(1) المنار ج / 8 م / 17، ص 633.
بعض ما أراد، بل يقول الإستانبولي:(إن السلفية اليوم في بلاد " الشام مدينة للقاسمي -إلى حد ما- الذي أحيا بذرتها، بعد ما كادت تموت بعد ابن تيمية وابن القيم)(1).
ولقد خلف القاسمي تلامذة نهضوا بدعوته، وساروا في طريقه منهم: الشيخ محمد جميل الشطي مفتي المذهب الحنبلي بالشام رحمه الله الذي رثاه بقصيدة منها:
مهلا عداة المصلحين عدمتكم
…
إني لكم والله غير مسالم
ها نحن بالمرصاد أنصار الهدى
…
ندعو إلى الجولان كل مزاحم
إن كان مات القاسمي فإنكم
…
سترون منا كل يوم قاسي
نحمي طريقته ونرعى عهده
…
في الحق لا نخشى ملامة لائم
وهذا أحد الدارسين على القاسمي وهو الشيخ بهجة البيطار يقول: (إننا جاوزنا عمر شيخنا بعشرات السنين، ولم نعمل ربع عمله. . .)
وقد رثاه حين وفاته بقصيدة قال فيها:
ألا في سبيل الله ما نال شيخنا
…
بدعوته وانتابه من متاعب
وأعجب من كل العجيب خصومه
…
أفاعيلهم تقضي بكل العجائب
يسبون من للدين قد جاء ناصرا
…
ويرمونه حمقا بكل المثالب
سندفع عن أستاذنا طعن طاعن
…
وندرأ عن أستاذنا إفك كاتب
هذه أمثلة يسيرة لمواقف بعض تلامذته تشير إلى المدرسة التي أسسها
(1) جمال الدين القاسمي للإستانبولي، ص44.