الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استثمار موارد الأوقاف
(الأحباس)
إعداد
أ. د. خليفة بابكر الحسن
رئيس قسم الشريعة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فهذا بحث عن: استثمار موارد الأوقاف (الأحباس) أعددته للدورة الثانية عشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي، وقد جعلت بحثي في:
تمهيد عن تعريف الوقف ولزومه وأقسامه ومشروعيته وتاريخه وآثاره.
مبحث أول عن العلاقة بين الوقف والاستثمار.
مبحث ثان عن: طرق استثمار الوقف في الفقه الإسلامي.
مبحث ثالث: عن حكم استخدام النظم المعاصرة في إدارة الوقف واستثماره.
أسأل الله التوفيق والسداد فيما أنا بصدده، كما أسأله أن يجعل جهدي في بحثي هذا في حسناتي يوم الدين {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] .
تمهيد
في تعريف الوقف
ولزومه، ومشروعيته، وأقسامه، وتاريخه وآثاره
ينطلق الإسلام صوب أحكامه وتشريعاته من عقيدته التي تنهض على التوحيد إيماناً بالله الواحد الأحد، وبالرسل والأنبياء، وبالبعث والثواب والعقاب، والقدر خيره وشره، وهي في مجملها عقيدة سهلة ومباشرة وبعيدة عن التعقيد والتشاكس:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، كما ينطلق من الخلق الفاضل الذي تقوم ركائزه على الفضيلة، والخير، والحب، والتسامح والرحمة، والمروءة، والمؤاساة، والعدالة، والمساواة، والإنصاف، والوفاء
…
وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي كانت –منذ أن شرعت – مرعية وغير قابلة للنسخ حتى في عصر الوحي نفسه.
ومن مقتضيات الإيمان بالله الرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، والإقبال على طاعته، والاهتمام بدور عبادته، ومن مقتضيات مكارم الأخلاق البر بالأرامل، واليتامى، والمساكين، والعجزة، وكبار السن وسواهم من ذوي الظروف الخاصة الذين قعدت بهم ظروفهم تلك – طبيعة كانت أو طارئة – عن الكسب وتحقيق مستوى الكفاية في المعيشة لأنفسهم بجهدهم وحده.
من هذه المعاني انبثق (الوقف) في الإسلام كما انبثقت غيره من وجوه البر والإنفاق، والصدقات.
والوقف في اللغة العربية – وهي الأصل الذي استمد منه المصطلح – مصدر وقف بمعنى حبس ومنع، تقول: وقف الدابة والسيارة بمعنى حبستها ومنعتها من السير، وتقول: وقفت عن السير بمعنى منعت نفسي عنه، وتستعمل مجازاً بمعنى الإطلاع أو الإحاطة، تقول: وقفت على معنى كذا بمعنى اطلعت عليه، ووقفته على ذنبه بمعنى أطلعته عليه، وكما تستخدم في الحسيات تستخدم في المعنويات، تقول: وقف جهوده على فعل الخير بمعنى حصرها فيه وهكذا.
والفعل يستعمل في العربية لازماً ومتعدياً، أما أوقف فاستعمال غير فصيح (1)، وقد جاء استعمال المادة في القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، وقوله:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] ، كما اشتهر استعمال المصدر (الوقف) في اسم المفعول، تقول: هذا وقف –أي موقوف- مثلما أطلق الرأي وهو مصدر على المرئي وهو اسم مفعول، تقول: هذا رأي فلان بمعنى ما يراه.
أما في الاصطلاح فقد اختلف الفقهاء في تعريف الوقف (2) ، اختلافاً بيناً تبعاً لاختلاف نظرتهم وتكييفهم له من جهة اللزوم وعدمه.
فالإمام أبو حنيفة –الذي يرى أن الوقف غير لازم - يعرفه بأنه: حبس العين عن ملك الواقف والتبرع بمنفعتها بمنزلة الإعارة (3) .
ومقتضى تعريفه هذا أن الوقف هو التبرع بالمنفعة فقط، أما العين فمحبوسة على ملك الواقف وغير خارجة عنه، وهذا الوضع يتيح له التصرف فيها بأي تصرف ناقل للملكية، فله بيعها وهبتها والوصية بها، كما أنه إذا مات تكون جزءاً من تركته كسائر أملاكه إلا في صور ثلاث نص الإمام أبو حنيفة على منع الواقف من الرجوع فيها لاعتبارات خاصة بها (4) .
وتنزيل الوقف منزلة الإعارة عند الإمام أبي حنيفة لا من كل الوجوه وإنما من حيث أن كلاً منهما غير لازم، وأنه تبرع بالمنفعة لأن طبيعة العارية تختلف عن طبيعة الوقف.
أما الصاحبان – أبو يوسف ومحمد اللذان يريان أن الوقف لازم- فيعرفانه بأنه: (حبس العين على حكم الله والتصدق بمنفعتها في الحال أو في المال)(5) .
(1) أساس البلاغة للزمخشري: 2/523؛ والقاموس المحيط.
(2)
كان يطلق عليه في صدر الإسلام الحبس والصدقة أخذاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرتها)) وقد لزم بعض المالكية لفظ الحبس فتراهم يستخدمونه في كتبهم –راجع المدونة والرسالة لابن أبي زيد القيرواني.
(3)
فتح القدير: 6/190-191؛ الدر المختار: 6/519 –522؛ الإسعاف للطرابلسي، ص3.
(4)
الصور الثلاث هي: 1- أن يحكم به حاكم يقول بلزوم الوقف إذا تنوزع فيه. 2- أن يخرج الواقف وقفه مخرج الوصية كأن يقول: إذا مت فأرضي هذه صدقة فيأخذ حكم الوصية ويلزم الورثة. 3- أن يقف أرضه مسجداً بأن يبنيه ويأذن للناس بالصلاة فيه. راجع بدائع الصنائع للكاساني: 6/218.
(5)
فتح القدير: 6/191؛ الدر المختار: 6/521-522.
ومقتضى تعريف الصاحبين هذا لزوم الوقف وعدم جواز الرجوع فيه للواقف، وعدم جواز التصرف فيه بأي تصرف ناقل للملكية، وعدم أيلولته ميراثاً لورثته إذا مات، لأن الوقف قد خرج عن ملكه وغدا على حكم ملك الله تعالى، ولهذا لا يتأتى له التصرف فيه أو الرجوع عنه، أما المنفعة فهي محل التصدق سواء كان التصدق بها في الحال لجهة من جهات البر الدائمة كالفقراء مثلاً، أو في المال بأن يتصدق بها ابتداءً على ذريته ومن بعدها على جهة البر الدائمة (1) .
ويوافق الصاحبين في هذا التعريف-من حيث لزوم الوقف وكونه على حكم ملك الله تعالى- الإمامان الشافعي وأحمد في أحد قولين لهما وهو الأصح (2) حيث يعرفه صاحب (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج) بأنه: (حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود)(3) .
ويؤكد ذلك في موضع آخر فيقول: (الأظهر أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى)(4) كما يعرفه صاحب (الإقناع) في فقه الإمام أحمد بن حنبل بأنه: (تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته يصرف ريعه إلى جهة بر تقرباً إلى الله تعالى)(5) .
يقول ابن قدامة في (المغنى) : (إن الوقف إذا صح زال به ملك الواقف عنه في الصحيح من المذهب)(6) ، والقول الثاني للإمامين الشافعي وأحمد أن العين تدخل في ملك الموقوف عليهم إلا أن هذا الملك لا يبيح لهم التصرف فيها بأي تصرف ناقل للملكية، كما أنها لا تورث عنهم إذا ماتوا، فملكهم لها ملك غير تام أو ملك صوري (7)، وفي هذا يقول صاحب المغني:(وينتقل الملك في الموقوف إلى الموقوف عليهم في ظاهر المذهب)(8) .
أما المالكية فيعرفون الوقف بأنه: (جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس)(9) .
ومن تعريفهم هذا يتضح أن الوقف عندهم لازم كما أنه يكون في العقار الذي له غلة، وفي المنافع كالأجرة، وأنه يمكن أن يكون مؤقتاً، وأن ملكية العين تكون للواقف ولكنه يمنع من التصرف فيها بأي تصرف ناقل للملكية، ولا يجوز الرجوع في وقفه؛ لأنه ملزم بالتصدق بالمنفعة كل مدة الوقف مؤبدة أو مؤقتة (10) .
(1) المرجعان السابقان؛ وخلاصة أحكام الوقف للشيخ حسب الله، ص5.
(2)
المغني لابن قدامة: 8/186، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو-هجر للطباعة والنشر.
(3)
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، تأليف شمس الدين محمد بن أبي العباس بن شهاب الدين الرملي، طبعة دار الفكر: 5/358.
(4)
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 5/358.
(5)
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل لشيخ الإسلام شرف الدين الحجاوي المقدسي طبعة دار المعرفة بلبنان: 3/2.
(6)
المغني لابن قدامة: 8/186.
(7)
أحكام الوصايا والأوقاف للدكتور الشيخ محمد مصطفى شلبي، ص307، الدار الجامعية للطباعة والنشر.
(8)
المغني: 8/188.
(9)
الشرح الصغير على أقرب المسالك: 4/97-98، طبعة وزارة العدل بدولة الإمارات العربية المتحدة.
(10)
الخرشي على مختصر خليل: 7/78، طبعة دار صادر بيروت.
وللشافعية والحنابلة قول يوافق المالكية في أن الموقوف يكون على ملك الواقف، قال ابن قدامة في المغني:(عن أحمد: لا يزول ملكه، وهو قول مالك، وحكي قولاً للشافعي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حبس الأصل وسبل الثمرة)) (1) .
محصلة ما سبق أن الاتجاهات في شأن الوقف أربعة:
اتجاه الإمام أبي حنيفة الذي يرى أن الوقف غير لازم.
اتجاه الصاحبين وهو المفتى به في المذهب الحنفي، والإمام الشافعي وأحمد في الأصح أن الوقف لازم، وأن ملكيته تكون على حكم الله تعالى.
جـ- اتجاه المالكية أن الوقف لازم لكنه يكون في ملك الواقف مع تقييد حريته في التصرف فيه وعدم إرثه إذا مات، وقد حكي اتجاههم هذا عن الإمام الشافعي والإمام أحمد.
د- اتجاه الإمام الشافعي والإمام أحمد في ظاهر مذهبه أن العين الموقوفة تدخل في ملك الموقوف عليهم.
ولكل أصحاب اتجاه أدلتهم التي استدلوا بها على مذهبهم (2) .
، والراجح: القول بلزوم الوقف وهو اتجاه الصاحبين المفتي به في المذهب الحنفي، وهو أيضاً اتجاه المذاهب الثلاثة، كما أن الراجح –فيما أراه- في ملكية العين الموقوفة أنها تكون على حكم ملك الله تعالى وهو رأي الصاحبين، والإمام الشافعي وأحمد في القول الأصح، لأن بقاءها على ملك الواقف، وهو رأي المالكية والمحكي أيضاً عن الإمامين الشافعي وأحمد، يحوج إلى قيد، وهو عدم جواز التصرف للمالك في العين، ومثله القول بأنها تكون على ملك الموقوف عليهم؛ لأنه هو الآخر يحوج إلى قيد وهو عدم جواز التصرف للمالكين في ملكهم، أما الاتجاه الأول فعلى الأصل، فلا يحوج إلى قيد، ولاشك أن ما لا يحتاج إلى قيد أولى مما يحتاج إليه والله أعلم (3)
(1) المغني: 8/186
(2)
راجع عرض لهذه الأدلة في فتح القدير: 6/191؛ وأحكام الوصايا والأوقاف للدكتور الشيخ محمد مصطفى شلبي، ص309-312.
(3)
المرجع السابق: ص316
مشروعية الوقف:
الوقف مشروع بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة، أما مشروعيته بالقرآن فتأتي من جهة دخوله في عموم الصدقات والتبرعات التي ندب إليها القرآن وحث عليها في آيات كثيرة مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107]، وقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، يروى أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: إن ربنا ليسألنا عن أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اجعلها في قرابتك؛ حسان بن ثابت وأبي بن كعب)) (1) .
ومثله فعل زيد بن حارثة فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرس كانت أحب أمواله إليه، فقال: هذا في سبيل الله، فقال صلوات الله وسلامه عليه لأسامة:((اقبضه)) . فكأنه وجد من ذلك في نفسه، فقال رسول الله:((إن الله قد قبلها منك)) (2) .
وفي هذا يقول القرطبي وهو يتناول تفسير هذه الآية: "ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، فإن الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين- لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك، ألا ترى أن أبا طلحة حين سمع الآية لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك"(3) .
(1) الحديث في صحيح البخاري كتاب الوصايا (باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه) ، حديث رقم (2752) ؛ فتح الباري لشرح صحيح البخاري، طبعة على نفقة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: 7/289، مطبعة أبي حيان.
(2)
تفسير القرطبي: 4/132.
(3)
المرجع السابق نفسه.
وأما دليل الوقف من السنة فأحاديث صحاح كثيرة منها ما رواه عبد الله بن عمر، قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب قط مالاً أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها؟ فقال:((إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث)) ، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقاً بالمعروف غير متأثل فيه أو غير متمول فيه (1)، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (2) .
ومن السنة الفعلية وقف الرسول صلى الله عليه وسلم لأراضي (مخيريق) الذي كان يهودياً ثم أسلم، وقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، وقال لقومه عند خروجه للغزوة (إن أصبت مالاً فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء) . ثم خرج فقاتل حتى قتل، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:((مخيريق خير يهود)) وجعل أملاكه وقفاً، وهي عبارة عن سبعة بساتين بالمدينة (3) .
يأتي –بعد ذلك- إجماع الصحابة على العمل بالوقف حيث وقف سيدنا أبو بكر رباعاً له بمكة، ووقف عمر أرضه بخيبر التي سلفت الإشارة إليها، ووقف عثمان أموالاً له بخيبر، وعلي أراضيه (بينبع) التي بلغ ناتجها في ذلك الزمن ألف وسق، كما وقف الزبير بن العوام ومعاذ بن جبل، وبعض زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وجابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن الزبير، وهكذا تتابع الصحابة في الوقف حتى قال جابر:(لم أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس من ماله صدقة مؤبدة لا تشترى أبداً ولا توهب ولا تورث)(4) .
(1) الإسعاف، ص6، والحديث في صحيح البخاري، كتاب الوصايا، رقم (2764) : 7/308، الطبعة المشار إليها سابقاً.
(2)
الحديث في صحيح مسلم كتاب الوصية، طبعة الشيخ محمد بن راشد (صحيح مسلم بشرح النووي) رقم الحديث (1631) .
(3)
الإسعاف، ص9؛ وسيرة ابن هشام مع الروض الأنف: 3/168، دار المعرفة للنشر.
(4)
الإسعاف، ص7؛ وانظر ص5-10.
أقسام الوقف:
الوقف قسمان خيري وأهلي، وأضافت التشريعات قسماً ثالثاً هو الوقف المشترك، وبيانها على النحو التالي:
1-
الوقف الخيري:
هو ما جعل في الوقف ابتداء على جهة بر دائمة كالفقراء والمساكين، وبناء المساجد والجامعات، والمعاهد الدينية، والمدارس، والمستشفيات
…
إلخ.
2 -
الوقف الأهلي:
وهو ما جعل فيه الوقف ابتداءً على النفس، والأولاد، وأولاد الأولاد، ثم على جهة البر الدائمة.
3-
الوقف المشترك:
وهو ما خصصت منافعه إلى الذرية وجهة البر معاً في وقت واحد، كأن يقف الواقف ماله على ذريته ويجعل في نفس الوقت –سهماً معيناً لجهة بر، أو يقف ماله على جهة بر ويشترط في نفس الوقت أن يكون لذريته أو لشخص معين حصة معينة منه وهكذا.
وفي كل الأحوال فإن الوقف كله خيري لأن مآل الوقف الأهلي أن يكون على جهة بر دائمة، وفي هذا روي عن زيد بن ثابت قوله:(لم نر خيراً للميت ولا للحي من هذه الحبس الموقوفة، أما الميت فيجري أجرها عليه، أما الحي فتحبس عليه، ولا توهب، ولا تورث، ولا يقدر على استهلاكها)(1) .
وحكم الوقف الندب عند جمهور الفقهاء، وعند الحنفية مباح إلا في حال النذر فيكون واجباً (2) .
(1) الإسعاف، ص9.
(2)
الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ وهبة الزحيلي: 8/157.
تاريخ الوقف:
استمر الوقف في نمائه وازدهاره –بعد نشوئه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم– حتى أنشئ له ديوان مستقل في العصر الأموي لتسجيله، حماية لمصالح المستحقين، وللإشراف عليه، وأول من تولى ذلك في مصر: القاضي (توبة بن نمير الحضرمي) كما عين له ديوان في البصرة (1) ، وكان من بين مهام أولئك المتولين تفقد الأوقاف لإصلاحها، ومرمتها وكنس ترابها بواسطة عمالهم، والنظار المباشرين لتلك الأوقاف (2) .
وفي العصر العباسي وكلت مهمة الإشراف على الأوقاف إلى رئيس يسمى (صدر الوقوف) وظل ذلك المنصب قائماً في الدويلات التي تلت الدولة العباسية.
وخلاصة القول: إن الوقف أخذ يزداد ازدهاراً زمناً بعد آخر حتى كثرت الأحباس في عهد الدولة الأيوبية والمماليك فصارت له ثلاثة دواوين: ديوان لأحباس المساجد، وديوان لأحباس الحرمين الشريفين وجهات البر المختلفة، وديوان للأوقاف الأهلية (3) .
وفي عهد الدولة العثمانية بدأ صدور القوانين والأنظمة الإدارية الحديثة الخاصة بإدارة الأوقاف، وأولها نظام إدارة الأوقاف الصادر سنة 1280هـ، ونظام معاملات المسقفات والمستغلات الوقفية في سنة 1287هـ، واستمر التطور حتى أنشئت وزارات وفي بعض الأحوال إدارات مستقلة للأوقاف في البلاد الإسلامية تعنى بالإشراف عليها، وتدير شؤونها كما صدرت بشأنها قوانين تنطوي على اجتهادات أحيانا بترجيح رأي مذهب على آخر، وأحيانا بترجيح رأي هو غير المفتى به في المذهب المعتمد ابتغاء تحقيق المصلحة، ومجاراة التطور الاقتصادي والعمراني (4) .
وقد قامت الأوقاف عبر تاريخها الطويل بإنشاء ورعاية المساجد الكثيرة التي تزدهي بها حواضر العالم الإسلامي في القاهرة، ودمشق، وإستانبول، وبغداد، والمغرب، وتونس، هذا فضلاً عن الحرمين الشريفين، والمساجد في نجد، والحجاز، وغيرها من حواضر العالم الإسلامي، ومدنه بل وقراه (5) .
(1) محاضرات في الوقف لفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة، ص9؛ ومؤسسة الأوقاف في العراق 8 ودورها التاريخي المتعدد الأبعاد، بحث للدكتور محمد شريف أحمد، ص71 (ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي) .
(2)
تاريخ القضاة للكندي، ص283؛ ومحاضرات في الوقف للشيخ محمد أبو زهرة، ص12.
(3)
محاضرات في الوقف للشيخ محمد أبو زهرة، ص12.
(4)
الوقف في الشريعة والقانون، للأستاذ زهدي يكن، ص185-186.
(5)
راجع أعمال ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي ففيها بحوث جيدة مختلفة حول تاريخ الوقف في العالم الإسلامي.
كما كانت هي الأساس في إنشاء الجامعات الإسلامية الأولى كالأزهر في مصر، والقرويين في فاس، والزيتونة في تونس، والمدرسة المستنصرية والنظامية ومدرسة الإمام الأعظم في بغداد، والمدارس الدينية الكثيرة حول بيت المقدس في فلسطين، هذا بالإضافة إلى دورها في وقف الكتب، وظهور المكتبات العامة في البصرة وساوة ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وسلا، وفاس، وتونس، وغير ذلك كثير يصعب حصره (1) .
ولم يقف دور الوقف على الجوانب العلمية والثقافية وحدها، بل شمل إلى ذلك الوقف على المارستانات –أي المستشفيات- كمارستان أحمد بن طولون والمنصوري في القاهرة، والمارستان العضدي في بغداد، ومارستان نور الدين زنكي في دمشق (2) .
والوقف على (الخانقاهات) والرباطات وهي مآوي الفقراء والغرباء وعابري السبيل كالرباط الطاهري ورباط المأمونية والزوزني وابن النيار ببغداد، ورباط ربيع والشرابي والسدرة والأبرقوهي والخوزي والموفق والصفا وقايتباي بمكة، ورباط قراء باشي، وعثمان بن عفان والجبرت، ومظهر الفاروقي بالمدينة المنورة وغير هذا كثير.
وخلاصة القول: إن تتبع تاريخ الوقف وتطوره عبر العصور الإسلامية المختلفة يدل على تطور هذه المؤسسة، بل يكشف أيضاً عن رقي المسلمين وتحضرهم، ومدى شفافيتهم، إذ شملت الأوقاف –فوق ما تقدم ذكره- الأوقاف على الحيوانات والطيور كوقف المرج الأخضر بدمشق الذي كان وقفاً على الحيوانات المريضة تظل ترعى فيه حتى تموت، ووقف نقطة الحليب الذي وقفه في قلعة دمشق الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي لإمداد الأمهات بالحليب والسكر لتغذية أطفالهن (3) ، ووقف الحدائق المثمرة ليأكل منها كل عابر سبيل، ووقف الأواني، الذي كان مخصصاً لضمان الأواني التي تنكسر بسقوطها من أيادي الخدم.
ذكر ابن بطوطة في رحلته أنه مر يوماً ببعض أزقة دمشق فرأى مملوكاً صغيراً قد سقط من يده صحن فخار فتكسر، واجتمع عليه الناس، وقال له أحدهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها الصبي، وذهب بها إليه، فدفع له ثمن ذلك الصحن، وقد عقب ابن بطوطة على هذا بقوله:"هذا من أحسن الأعمال فإن سيد هذا الغلام لابد أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره فينكسر قلبه، ومن أجل ذلك كان هذا الوقف جبراً للقلوب"(4) .
(1) راجع كتاب الوقف وبنية المكتبة العربية للدكتور يحيى محمود ساعاتي في مواطن متفرقة.
(2)
المرجع السابق، ص106-107.
(3)
ندوة مؤسسة الأوقاف الإسلامية في العالم العربي الإسلامي، ص182، بحث الدكتور صلاح الدين العبيدي عن مؤسسة الأوقاف ودورها في الحفاظ على الآثار الإسلامية والمخطوطات.
(4)
المرجع السابق نفسه.
المبحث الأول
العلاقة بين الوقف والاستثمار
الاستثمار في اللغة مصدر استثمر أي طلب الثمرة، والثمرة ناتج الشجر، قال تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، ومنه استثمر المال إذا استخدمه صاحبه في الإنتاج ليحصل منه على ربح أو عائد (1)، وفي الاصطلاح للاستثمار تعريفان:
أحدهما للاقتصاديين الذين يصفونه بأنه: عبارة عن النشاط الذي يتم بموجبه التنازل عن الاستهلاك الوقتي في سبيل ما هو مؤمل من زيادة في المردود (2) .
والثاني للماليين الذين يعرفونه بأنه: توظيف المال في الأسهم المالية، أو السندات، بهدف الحصول على دخل، سواء كان ذلك الدخل ثابتاً ومحدداً، أو كان غير ذلك (3) .
وقد جمع بين هذين التعريفين مجمع اللغة العربية حين عرفه بأنه: استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة كشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات (4) .
وفي ضوء التعريف الاقتصادي يمكن القول بأن الوقف –في حد ذاته- يعتبر استثماراً لأنه تنازل من جهة الواقف عن استهلاك ما يملك في سبيل منافع عامة للمجتمع كالتعليم والصحة وإنشاء دور العبادة، وتنمية المجتمع.
(1) الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية، بحث للدكتور عبد الفتاح أبو غدة في الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي الجزء الثاني من مجلة المجمع لذات الدورة، ص92.
(2)
الاستثمار في الأسهم بحث للدكتور منذر قحف في الدورة التاسعة لمجلس المجمع مجلة المجتمع: 2/14؛ والتوجيه الاستثماري للزكاة، د. عبد الفتاح محمد فرح، ص16 وما بعدها.
(3)
المرجع السابق نفسه.
(4)
المرجع السابق نفسه.
وهذه الأوجه كلها ذات مردود استثماري فإنشاء دور العبادة ورعايتها يمثل استثماراً يسهم في تنمية المجتمع، وسلامته من الوجهة الروحية، والتعليم استثمار، لأن ناتجه كوادر بشرية سوف تسهم بعد تأهيلها في تنمية المجتمع وتدفع بحركة التقدم فيه، ومثل ذلك وقف المستشفيات؛ لأن المرض يمثل عائقاً من العوائق التي تحول بين المجتمع والتقدم، وأن الصحة لها دور مباشر في تقدم المجتمعات، لأن أفراد المجتمع حينما يكونون أصحاء أقوياء تكون لديهم المقدرة على العمل وإتقانه ومن ثم الإبداع فيه، فينتج عن ذلك التحضر والتقدم، وكل ذلك استثمار، هذا فضلاً عما في الوقف من استثمار معنوي أخروي يهفو إليه المسلم وتتطلع إليه نفسه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] .
وفي هذا يقول الإمام علي كرم الله وجهه حينما تصدق بأرضه بينبع: أبتغي بها مرضاة الله ليدخلني الجنة، ويصرفني عن النار ويصرف النار عني (1) .
وفي ضوء التعريف المالي يعتبر الوقف استثماراً أيضاً لأنه: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهذه المنفعة لا تكون إلا عن طريق الاستثمار والجهد فيه، فأصول الوقف غالباً ما توظف في مشروعات، بهدف الحصول على عائد منها لتوزيعه على الموقوف عليهم الذين تظل حاجاتهم متجددة طبقة بعد طبقة.
وفي هذا المعنى يقول الدهلوي، وهو يتحدث عن حكمة الوقف: فاستنبطه النبي صلى الله عليه وسلم لحكمة لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً، ثم يفنى فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، وتجيء أقوام أخرى من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء، والمساكين، وابن السبيل، تصرف عليهم منافعه ويبقى أصله (2) .
وللفقهاء إشارات كثيرة تخدم هذا المعنى، ومن ذلك ما جاء في (نهاية المحتاج) :(شرط الموقوف أن يكون عيناً معينة مملوكة ملكاً يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو منفعة تصلح إجارتها)(3) .
وجاء في (المغني) لابن قدامة مسألة: قال: (وما لا ينتفع به إلا بإتلاف، مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب فوقفه غير جائز)(4) .
(1) الإسعاف، ص8.
(2)
حجة الله البالغة للدهلوي: 2/310.
(3)
نهاية المحتاج: 5/360.
(4)
المغني: 8/229.
ولعل ذلك وأكثر منه يتضح عند تركيزنا للعلاقة بين طبيعة الوقف والاستثمار في النقاط التالية:
يشترط في المال الموقوف أن يكون مالاً متقوماً، والمال هو كل ما له قيمة مادية وجاز الانتفاع به في حال السعة والاختيار (1) . واشتراط هذا الشرط الموقوف يدل على العلاقة بين الوقف والاستثمار من جهة أن الاستثمار لا يتم أصلاً إلا من خلال المال، ولهذا لم يجز الفقهاء وقف ما يتسارع إليه الفساد كالطعام والشراب (2) ، ولا وقف الشجرة الجافة، أو الدابة الزمنة لعدم الفائدة (3) .
وإذا أضحى الموقوف عديم الفائدة –بعد أن كان ذا فائدة- يباع، ويشترى بثمنه ما ينتفع به (4) ، أما المتقوم فيعني ما له قيمة في نظر الشارع، ومعيار التقوم أن يبيح الشارع الانتفاع به في حال السعة والاختيار لا في حال الضرورة فقط، فيخرج وقف المسلم الخمر فلا يجوز، لأنه لا قيمة له في نظر الشارع بالنسبة للمسلم، ومقتضى هذا الشرط حماية الاستثمار الذي ينبغي أن يدور في أموال يقرها الشارع، ولا يخالف التعامل بها النظام العام الذي جاءت به الشريعة الإسلامية.
ب- المال الموقوف إما أن يكون عقاراً، والعقار يمثل رأسمالاً ثابتاً، أو منقولاً يتأتى الانتفاع به مع بقاء عينه، وكل ذلك ينسجم مع طبيعة الاستثمار، وفي هذا يقول ابن قدامة في المغني:(وجملة ذلك أن الذي يجوز وقفه هو كل ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه، وكان أصلاً يبقي بقاءً متصلاً كالعقارات والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك)(5) .
(1) المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور، ص474.
(2)
المغني: 8/230-231.
(3)
نهاية المحتاج: 5/394.
(4)
الخرشي: 7/95.
(5)
المغني: 8/231.
جـ- الوقف يشترط فيه التأبيد في رأي جمهور الفقهاء، وخالفهم في ذلك المالكية الذين يرون جواز تأقيته كما سلفت الإشارة، والتأبيد يناسب الاستثمار لأنه يمثل استقراراً للعين يمكن من استغلالها إلى أقصى الحدود المتاحة، وحتى على رأي من أجاز تأقيته فإن تأقيته غالباً ما يكون إلى مدة طويلة سنة فأكثر، والسنة تمثل دورة استثمارية كاملة، وقد يقال من وجه آخر: إن تأقيت الوقف ربما يكون مدعاة لإقبال الناس عليه، فيكون هذا سبباً، في كثرة الأوقاف، وهذا بالطبع في غير المساجد (1) .
د- يشترط في الموقوف أن يكون معلوماً وقت وقفه علماً تاماً بحيث لا تشوبه جهالة تفضي إلى النزاع، فلو قال الواقف: وقفت جزءاً من أرضي على علماء بلدي، أو بعض كتبي على العلماء، لا يصح مثل هذا الوقف؛ لما فيه من جهالة تفضي إلى النزاع بين الموقوف عليهم (2) .
وهذا الشرط يدل هو الآخر على العلاقة بين الوقف والاستثمار لأنه يمثل ضمانة للوقف تحول دون حدوث نزاع حوله يكون سبباً في تعطيل استثماره، والمشاع فيما لا يحتمل القسمة لا يجوز وقفه عند المالكية، ومنطقهم في منعه أن الشركة في الوقف كثيراً ما تضر به، وتعطل مصالحه.
(1) أحكام الوقف الخيري في الشريعة الإسلامية، بحث للأستاذ الدكتور عجيل النشمي بندوة الوقف الخيري بأبو ظبي، ص28.
(2)
أحكام الوصايا والوقف للشيخ الدكتور محمد مصطفى شلبي، ص358-360.
هـ- لا يجوز على الصحيح من مذهب الحنفية أن يقسم الموقوف بين الموقوف عليهم قسمة اختصاص بأن يختص كل واحد منهم بنصيب معين يستغله (1) وهذا الشرط أيضاً يساعد على الاستثمار، لأنه يعني تجميع المال ليتم استغلاله مرة واحدة بسعة.
و يوجب الشارع الحكيم استثمار مال اليتيم قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]، قال القرطبي: أي بما فيه صلاحه وتثميره وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه، وهذا أحسن الأقوال في هذا فإنه جامع، وقال مجاهد: بالتجارة فيه (2) .
والموقوف عليهم من الفقراء والمساكين وطلبة العلم يلتقون مع اليتامى في مثل هذا الحكم، لأن مقصده حماية الفئات الضعيفة.
وفوق ما تقدم ذكره من الأوجه التي تدل على العلاقة بين الوقف والاستثمار، أو بتعبير آخر تدل على طبيعة الوقف، وأنه مهيؤ أصلاً للاستثمار، هنالك أبواب جاءت إما للقيام بمهمة الاستثمار وتنظيمه كالولاية على الوقف، أو لضمان سلامة الوقف ليكون دائماً صالحاً للاستثمار كعمارة الوقف والإبدال والاستبدال، أو لحماية الوقف وضمانه إذا اعتدي عليه بغصب أو جناية، وسوف أتناول كل مسألة من هذه المسائل بالحديث لأهميتها ونحن نتحدث عن استثمار الوقف.
(1) فقه الوقف في الإسلام، بحث لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور الصديق الضرير، ص19.
(2)
تفسير القرطبي: 3/29؛ والتوجيه الاستثماري للزكاة، للدكتور عبد الفتاح فرح، ص72.
أولاً – الولاية على الوقف:
تعتبر الولاية على الوقف من الحقوق المقررة له شرعاً، وتأسيساً على ذلك لا يجوز وقف من غير ولاية، وقد درج الفقهاء والموثقون على تسمية هذه الولاية بالنظر على الوقف، وهي عبارة عن سلطة تتيح لمتوليها وضع يده على الوقف، وإدارة شؤونه من استغلال وعمارة، وتنظيم صرف ريعه على المستحقين مع القيام بمهمة الخصومة عنه (1) .
والولاية على الوقف حق للواقف بحكم الشرع – على الراجح من مذهب الحنفية- تثبت له في حياته سواء شرطها لنفسه أو لغيره أو سكت عنها، وله بموجب هذا الحق إدارة الوقف بنفسه أو تعيين ناظر له يكون وكيلاً عنه حال حياته ويأخذ حكم الوصي بعد وفاته، ويظل الواقف على ذلك، أي متمتعاً بالولاية ما دامت أهليته متوفرة، فإذا زالت عنه الأهلية بسبب مفيت لها كالجنون أو الحجر أو العته أو العجز انتقلت الولاية إلى القاضي بحكم ولايته العامة، وللقاضي حينئذٍ أن يولي من يراه مستوفياً لشروط الولاية أو يتولاها بنفسه.
والولاية على الوقف بمفهومها الفقهي هذا هي المدخل للاستثمار، لأن الاستثمار لا يكون إلا من خلال أجهزة تنظيمية تنهض بالإدارة، وتتولى مهمة الإشراف والتنظيم وما يتبع ذلك كله من إجراءات تنفيذية للاستثمار.
وملاحظة لهذا الجانب في الولاية اشترط الفقهاء فيمن يتولاها أن يكون عدلاً وكفؤاً، يقول صاحب (المنهاج) :(وشرط الناظر العدالة والكفاية ثم يشرح الكفاية بأنها الاهتداء إلى التصرف)(2) .
(1) نهاية المحتاج: 5/400؛ وخلاصة أحكام الوقف في الفقه الإسلامي للشيخ علي حسب الله، ص46.
(2)
نهاية المحتاج: 5/399.
ويقول ابن قدامة في (المغني) : (ولا يجوز لمن يتولى الوقف إلا أن يكون أميناً، فإن لم يكن أميناً وكانت توليته من الحاكم لم تصح وأزيلت يده، وإن ولاه الواقف وهو فاسق، أو كان أميناً ثم فسق ضم إليه أمين يحفظ به الوقف)(1)(ولتعلقهم بعنصري الكفاية والأمانة لم يشترطوا في الناظر الذكورة وقد سبقهم في ذلك سيدنا عمر حيث عهد لحفصة بنته النظر على وقفه)(2) .
هذا فضلاً على أن الفقهاء –بمختلف مذاهبهم جعلوا المعيار العام لتصرف الناظر هو تحري مصلحة الوقف بحيث إن تصرفه إذا كان في حدود مصلحة الوقف كان جائزاً، وإذا خالف تلك المصلحة لم يجز (3) .
وفي كل الأحوال فإن ناظر الوقف حاكماً أو قاضياً أو واقفاً أو متولياً من قبل الواقف أو القاضي، كل هؤلاء نظرهم مقيد بالمصلحة عملاً بالقاعدة الفقهية الحاكمة:(تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة)، وقد عبر عن هذه القاعدة الإمام جلال الدين السيوطي بقوله:(كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف بالمصلحة)(4) ، كما أن من الفروع التي جاءت تحتها عند الكاتبين في القواعد "أن ناظر الوقف والقاضي إذا أجرا عقار الوقف بغبن فاحش فإن تصرفهما هذا لا يصح"(5)، ومن الأحكام المتعلقة بالنظر ولها صلة بالاستثمار:
أ-أن الناظر يعطى أجرة المثل إن لم يعين له الواقف أجراً فإن عين له أجراً فهو المتبع وإن كان أزيد من أجرة المثل (6) .
(1) المغني: 8/238.
(2)
الإسعاف، ص6.
(3)
فقه الوقف في الإسلام لفضيلة الأستاذ الدكتور الصديق الضرير، ص21.
(4)
الأشباه والنظائر للسيوطي، ص121.
(5)
شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا، ص309.
(6)
خلاصة أحكام الوقف للشيخ علي حسب الله، ص52.
ب-لابد أن يقدم الناظر الحسابات المتعلقة بالوقف إلى الجهة المختصة بذلك وهي ما يشترطه الواقف، فإن لم يشرط الواقف شيئاً حاسبه القاضي.
وفي كلا الحالين إما أن يكن الناظر معروفاً بالأمانة أو متهماً، فإن كان معروفاً بالأمانة اكتفي منه بالبيان الإجمالي، وإن كان متهماً ألزم بالبيان التفصيلي (1) .
جـ-الناظر أمين لا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر في حفظ الوقف، وبناء عليه إذا هلكت عنده الغلة بآفة سماوية أو قبضها ولكنها ضاعت منه بلا تقصير، أو كان مشروطاً له الاستبدال فباع العين الموقوفة لاستبدالها فضاع منه الثمن من غير تقصير فلا ضمان عليه، أما إذا استهلك الغلة أو طلبها منه المستحقون فمنعها عنهم من غير مسوغ، أو وضعها في غير حرز مثلها فضاعت فإنه يضمن (2) .
د-يعزل الناظر إذا عجز أو إذا تصرف تصرفاً لا حق له فيه كالاستدانة على الوقف من غير شرط الواقف أو إذن القاضي، أو رهن عينه، أو أهمل تعميره، أو بدد عائده، أو قصر في تحصيل ذلك العائد، أو ارتكب من المحرمات ما يضعف فيه الثقة (3) .
وكل أسباب العزل هذه مرتبطة بمهمته في الإشراف على الوقف وإحسان إدارته، واستثماره.
(1) المرجع السباق، ص53.
(2)
خلاصة أحكام الوقف للشيخ علي حسب الله، ص54-55.
(3)
المرجع السابق، ص56.
ثانياً-عمارة الوقف:
من الأحكام الفقهية ذات العلاقة الوثيقة باستثمار الوقف والتي يتولاها ناظره: عمارته، وتعني بناء ما يتخرب منه أو ترميمه وتجصيصه بغرض بقائه، ولحرص الفقهاء على العمارة نصوا على وجوب البدء بها من ريع الوقف قبل تقسيم ذلك الريع على المستحقين، ويكون ذلك سواء شرطه الواقف أو سكت عنه، أو حتى اشترط خلافه. ومرد حرص الفقهاء على العمارة أن الغرض من الوقف هو صرف الغلة على المستحقين بشكل دائم، ومن المستحقين من هو موجود ومن هو منظور، ولا يمكن الحفاظ على الوقف ليكون مصدراً للغلة الدائمة إلا إذا توبع بالعمارة والصيانة باستمرار.
وفوق ذلك فإن الفقهاء وهم يتناولون موضوع عمارة الوقف هذا، كانت نظرتهم الاستثمارية والإدارية جد دقيقة، فقرروا أن ما ينهدم من بناء الوقف، وآلاته يعيده الناظر في عمارة الوقف إن دعته الحاجة إلى ذلك، وإن لم تدعه حاجة إلى ذلك لا يضيعه وإنما يمسكه حتى يحتاج إليه في العمارة مرة أخرى فيستخدمه فيها، إلا إذا تعذر إعادة عينه بأن لم يعد صالحا ًللاستخدام في الموقوف، وحتى في هذه الحالة فإنه يباع ويصرف عائده في الإصلاح والعمارة (1) .
وقد امتد أثر العمارة عندهم إلى باب الشروط فجعلوا من الشروط الفاسدة اشتراط الواقف أن يصرف الريع إلى الموقوف عليهم ولو احتاج الوقف إلى التعمير (2) .
(1) فتح القدير: 6/208؛ والدر المختار: 6/559 وما بعدها.
(2)
فقه الوقف في الإسلام لفضيلة الأستاذ الدكتور الصديق الضرير، ص13.
ثالثاً- الإبدال والاستبدال:
يدخل الإبدال والاستبدال في عداد الشروط العشرة التي يشترطها الواقفون في وثائق وقوفهم، وإطلاق هذه التسمية (الشروط العشرة) اصطلاح طارئ جرى عليه الموثقون بغرض ضبط شروط الواقفين، ولا أثر لهذه التسمية في كتب المتقدمين وإن كان مضمونها موجوداً عندهم. وهذه الشروط هي: الإعطاء والحرمان، والإدخال والإخراج، والزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، والإبدال والاستبدال.
وهي شروط ترجع إلى مصارف غلة الوقف، وكيفية توزيع تلك الغلة على الموقوف عليهم ما عدا شرطي الإبدال والاستبدال اللذين يرجعان إلى العين الموقوفة، وهما على كل حال من أهم الشروط؛ لهذا خصهما الفقهاء بمزيد من البحث (1) .
وبما أن غرض البحث التركيز على الاستثمار وما يتصل به فسوف نقف عند هذين الشرطين وحدهما لعلاقتهما بالاستثمار.
يراد بالإبدال عند الفقهاء: بيع عين الوقف ببدل، سواء كان ذلك البدل عيناً أخرى أو نقوداً، أما الاستبدال فهو شراء عين لتكون وقفاً بدل العين التي بيعت، ويفسر بعض الفقهاء الإبدال بالمقايضة، والاستبدال ببيع العين الموقوفة بنقود وشراء عين أخرى بتلك النقود (2) .
والفقهاء مختلفون اختلافاً بيناً في شأن الاستبدال، والمالكية والشافعية أشدهم في ذلك، فالمالكية يمنعون بيع العقار حتى لو تخرب، إلا أن يشترى منه بقدر الحاجة لتوسعة مسجد أو طريق، أما العروض والحيوانات التي يجوز وقفها عندهم، فيجوز بيعها وصرف ثمنها في مقابلها إذا لم تعد ذات فائدة على رأي ابن الماجشون، أما على رأي ابن القاسم فلا يحق بيعها (3) .
على أن بعض المالكية عالجوا خراب العقار الذي منعوا بيعه بما يسمى بالخلو وهو أن يؤذن لمن يعمره بتعميره على أن تكون العمارة له، ويجعل عليه حكراً يؤديه لمستحقي الوقف.
والشافعية مثلهم لا يجيزون التصرف في المساجد، وإن تخرب المسجد وخيف عليه السقوط نقض وبنى الحاكم بأنقاضه مسجداً آخر إن رأى ذلك وإلا حفظه (4) .
(1) خلاصة أحكام الوقف، ص28-29.
(2)
فقه الوقف في الإسلام، ص16.
(3)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 5/479؛ والقوانين الفقهية، ص244؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 8/223.
(4)
مغني المحتاج: 2/392؛ تكملة المجموع: 15/347.
وفي غير المسجد أيضاً لا يجيزون بيع العقار، أما المنقول فيجيزون –على الأصح - بيع حصر المسجد إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت ولم تصلح إلا للإحراق فتباع ويصرف ثمنها لمصالح المسجد، ومقابل الأصح عدم جواز ذلك (1) .
وبالجملة فإن الشافعية لا يميلون للبيع تمسكاً بحديث سيدنا عمر: ((لا تباع ولا توهب ولا تورث)) .
أما الحنابلة فيجوز البيع عندهم مطلقاً في أي وقت تخرب وتعطلت منافعه، ويبدؤون في البيع بالبعض إذا كان ثمنه يوفي بعمارة الجزء الآخر وإلا يباع الكل، وعند شراء بدل الوقف لا يشترطون أن يكون من جنس الموقوف الأول لأن المقصود المنفعة، إلا أنهم لا يجيزون البيع لقلة النفع إلا أن ينعدم النفع كلية (2) ، والحنفية يمنعون من بيع المسجد ويبقى مسجداً مع خرابه في المفتى به عندهم، ويرى الإمام محمد منهم رجوعه إلى الواقف أو ورثته.
أما الموقوف غير المسجد فيجيزون بيعه ويكون الحق في ذلك للواقف وحده إذا شرطه لنفسه، وله ولغيره إذا كان الشرط على ذلك، ويكون للقاضي إذا سكت الواقف عن الشرط أو نهى عن البيع، ولكنه يتقيد بحالتين هما: حالة الضرورة الملحة كأن يعرض للأرض ما يجعلها غير صالحة للزراعة، أو تتهدم الدار الموقوفة، أو تشرف على السقوط مع عدم وجود مال مدخل للوقف يمكن إنفاقه في الإصلاح.
وحالة المصلحة الراجحة وهي ما إذا كان الموقوف منتفعاً به لكي يمكن أن يستبدل به ما هو أكثر نفعاً، وهذا رأي أبي يوسف.
وهناك حالتان أخريان –يحق فيهما الاستبدال للقاضي ولناظر الوقف، هما: إذا غصبت الأرض الموقوفة وعجز المتولي عن استردادها لعدم وجود المستندات الكافية عنده مع قبول الغاصب لدفع القيمة، أو الصلح على شيء من المال، وعند أخذ القاضي أو المتولي القيمة يشتري بها عقاراً يجعله بدل العقار الأول.
والحالة الثانية إذا غصبت الأرض الموقوفة وأفسدها الغاصب بأن أجرى عليها الماء حتى بطل الانتفاع بها فعلى القاضي أو المتولي أخذ القيمة على أن يشتري بها أرضاً يجعلها وقفاً بدل الأرض الأولى.
وفي كل الأحوال فإن الاستبدال يشترط فيه:
أ-ألا يكون في المبادلة غبن فاحش لجهة الوقف لا في بيع العين الأولى، ولا في شراء العين الثانية.
ب-ألا يكون في المبادلة تهمة، وتكون التهمة إذا باع المستبدل أو اشترى ممن لا تقبل شهادته له من الأصول أو الفروع أو الزوجة.
جـ-اتحاد البدل والمبدل في الجنس إذا كان ذلك شرط الواقف.
د-ألا يكون الاستبدال بثمن هو دين للمشتري على المستبدل، لاحتمال عجز المستبدل عن الوفاء بالدين وذلك يترتب عليه ضياع الوقف (3) .
(1) المراجع السابقة.
(2)
المغني: 8/222.
(3)
خلاصة أحكام الوقف، ص32-33.
المبحث الثاني
طرق استثمار موارد الوقف في الفقه
مدخل:
الحديث عن طرق استثمار موارد الوقف في الفقه يستلزم - ابتداء- الحديث عن كيفية الانتفاع بالموقوف عموماً مع بيان أن تلك الكيفية قد تكون محكومة بنص من الواقف، وقد لا تكون، وفي كل قد يختلف الحكم.
ونبدأ بكيفية الانتفاع بالمال الموقف فنقرر أنه يختلف بحسب طبيعة ذلك المال فالمصاحف ينتفع بها بالتلاوة فيها، والكتب بالقراءة والمطالعة، والأسلحة يجهز بها الجند للجهاد، وفي الأرض الزراعية الانتفاع بها يكون بزراعتها، وبالدور بالسكنى فيها أو بإجارتها وهكذا (1) .
وفي كل الأحوال فإن الواقف إذا نص على كيفية الانتفاع يؤخذ بنصه إلا إذا خالف الشرع والعرف، فإذا نص على كيفية الانتفاع وكان للانتفاع وجه واحد هو الذي نص عليه أخذ بنصه، وإن كان له أكثر من وجه ونص عليها جميعاً كان للموقوف عليهم الحرية في اختيار طريقة الانتفاع التي يفضلونها، وإذا قيدهم بوجه من وجوه الانتفاع المتعددة كأن يقف داره لطلبة العلم على أن يسكنوها فهل يجوز لهم إجارتها؟ وإذا وقفها عليهم ليؤجرها فهل لهم سكناها؟
في مثل هذه الصورة يرى المالكية ضرورة التزام شرط الواقف (2) ، بينما يرى الحنفية أن الشرط إذا كان السكنى فلا يجوز الاستغلال بالأجرة، وإن كان الشرط الاستغلال بالأجرة جاز الأمران الاستغلال أو السكنى (3) أما الحنابلة فيرون جواز التصرفين مطلقاً، لأن المقصود من الوقف الانتفاع فيثبت بكافة وجوهه من غير تقييد الموقوف عليهم بشيء فيه، ورأي الحنابلة هو الذي أخذت به كثير من تشريعات الوقف في العالم العربي، إلا إذا كانت المصلحة في التقييد، فللقاضي أن يمنع من استعمال الحق على الصفة المضرة بالوقف ويقر ما يكفل مصلحته (4) .
(1) أحكام الوصايا والأوقاف للأستاذ الدكتور محمد مصطفى شلبي، صلى الله عليه وسلم: 393 وما بعدها.
(2)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 5/475؛ وانظر أحكام الوصية والميراث والوقف للأستاذين زكي الدين شعبان وأحمد الغندور، ص 544.
(3)
محاضرات في الوقف للشيخ محمد أبو زهرة، ص 141.
(4)
أحكام الوصايا والأوقاف للأستاذ الدكتور محمد مصطفى شلبي، ص 395.
طرق استثمار الوقف عند الفقهاء:
بالنظر في طرق استثمار الوقف عند الفقهاء نجد أنها جميعاً تلتقي عند قدر مشترك وهو الإجارة، على انها قد تأخذ أشكالاً مختلفة عند بعضهم.
وعلى كل حال فإن غلبة الإجارة على غيرها من العقود يرجع إلى أن الوقف هو تحبيس العين وتسبيل المنفعة والعقد الذي يرد على المنفعة هو الإجارة التي يعرفها الفقهاء بأنها: عقد على المنافع بعوض (1) ، كما أن العرف الذي ساد في زمنهم هو استثمار الوقف عن طريق الإجارة، لأن الوقوف التي كانت تقصد للمنفعة كان غالبها عقاراً أو منقولاً متصلاً بالعقار، أما المنقولات الموقوفة الأخرى فقد كان ينتفع بها بشكل مباشر: الفأس والقدوم لاستعمالهما في حفر المقابر، والجنائز لنقل الموتى، والخيل والأدرع للجهاد.. وهكذا.
ولأن الغالب في زمنهم كان الاستثمار عن طريق الإجارة، فقد استغربوا لما أفتاهم محمد بن عبد الله الأنصاري من أصحاب زفر بجواز وقف الدراهم والدنانير، والمكيل الموزون، وكان مصدر استغرابهم أن هذه الأشياء لا يمكن إجارتها، ولهذا أسرعوا فسألوه، وكيف نصنع بالدراهم؟ فأجابهم: تدفعونها مضاربة وتتصدقون بربحها، وتبيعون المكيل والموزون بالدراهم وتتاجرون فيه بالمضاربة ثم تتصدقون بالربح (2)
من إجابة هذا الفقيه الفطن ندرك أن استثمار المال الموقوف والانتفاع به أوسع من الإجارة، وأنه يتنوع بحسب طبيعة المال الموقوف، وبحسب أعراف الناس وطرقهم في استثمار أموالهم، وهو موضوع محل بحثه المبحث الثالث –إن شاء الله- بعد الفراغ من الحديث عن طرق الفقهاء في استثمار الوقف بحسب الصفة التي جاءت عليها في الفقه، والتي نتناولها على التفصيل الآتي:
1-
الإجارة:
الإجارة كطريق من طرق استثمار الوقف تناولها الفقهاء في المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب كما سلفت الإشارة – والناظر في أحكامها عندهم يجد أنها متقاربة، حيث يلتقون جميعاً في التركيز على مراعاة مصلحة الوقف، وإن اختلف تقدير تلك المصلحة من مذهب إلى آخر، فالحنفية يرون أن تكون مدة الإجارة سنة في الدار وثلاث سنين في الأرض الزراعية كما يفتون بإبطال الإجارة لمدة طويلة، إلا إذا حملت عليها حاجة لعمارة الوقف بحيث لم يتأت تعميره إلا عن طريقها، وفي حالة الإجارة الطويلة هذه اختار بعضهم أن تكون العقود مترادفة كل عقد على سنة (3) .
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 5/261.
(2)
الإسعاف في أحكام الأوقاف للطرابلسي، ص 22؛ وانظر الدراية لأحكام الوقوف والعطايا للشيخ يوسف إسحاق حمد النيل، ص 29 – 30.
(3)
الإسعاف ص63 والفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي 8/233-234
وينبغي في الأجرة أن تكون أجرة المثل فإن انخفضت عن ذلك كثيراً فلا تجوز، وإن كان انخفاضها يسيراً فلا يؤثر، على أن بعضهم يعتبر مثل هذا الانخفاض تابعا لحالة المستأجر فيجيز للمتولي أن يؤجر مع النقصان اليسير إذا كان المستأجر قادراً على دفع الأجرة، وأميناً في تعامله، مفضلاً ذلك على تأجيرها بأجر المثل إلى شخص مماطل أو غير مقتدر (1) .
وإذا انخفضت أجرة الموقوف –بعد الإجارة - عن الأجر الذي أجرت به أي صار أجر مثلها أقل مما كان عليه حين أجرت فلا تفسخ الإجارة إلا إذا طلب ذلك المستأجر.
وإذا زادت الأجرة أيضاً بعد الإجارة عن المثل أو بتعبير أدق زاد أجر مثلها لكثرة الحاجة إلى العقارات لا يفسخ العقد المبرم ويعمل بأجر المثل الجديد عند تجديد عقد الإجارة مع إعطاء أولوية للمستأجر الأول على غيره إذا تزاحم المستأجرون، على أن بعضهم يرى العمل بما هو أنفع وأصلح للوقف، وأن المستأجر لا ضرر عليه في ذلك، لأنه لا يطالب إلا بأجر المثل (2) .
وبالجملة فإن آراء فقهاء الحنفية دائرة في هذا الصدد على مصلحة الوقف، مع مراعاة المستأجر، أو بتعبير آخر الموازنة بين المصلحتين، وهذا حسن على كل حال.
والمالكية يوافقون الحنفية في إجارة الوقف سنة أو سنتين، ولكنهم يقصرون ذلك على ما إذا كان الوقف على معينين، أما إذا كان على جهة عامة كالفقراء ونحوهم فيجيزون إجارته إلى أربع سنوات كما أنهم يجيزون أن تمتد مدة الإجارة إلى عشر سنوات إذا كانت للموقوف عليه المعين الذي يكون مرجع الوقف له.
(1) البحر الرائق، ص 258؛ والوقف في الشريعة الإسلامية للأستاذ زهدي يكن، ص 98.
(2)
المرجعان السابقان.
ويوافقون الحنفية في إطالة مدة الإجارة إذا حملت على ذلك حاجة الوقف إلى تعمير وإصلاح، ويصلون بالمدة في هذه الحال إلى أربعين أو خمسين سنة، والمعيار عندهم أيضاً في الأجرة (أجرة المثل) ولا تفسخ الإجارة عندهم إذا زادت أجرة المثل بعد أن تم العقد بأجرة المثل التي كانت سائدة في وقته، أما إذا كان العقد قد تم أصلاً بأقل من أجر المثل فتقبل الزيادة ويفسخ لها العقد الأول (1) .
والشافعية يشترطون في الأجرة أن تكون أجرة المثل، وإذا تم العقد عندهم لا يفسخ بزيادة الأجرة أو بعرض زيادة في الأصح، لوقوعه في وقته وفق المصلحة المقررة فكان شبيهاً بارتفاع قيمة المبيع بعد تمام البيع، ومقابل الأصح جواز الفسخ لتبين وقوع الأول على خلاف المصلحة (2) .
والحنابلة يرون أن الناظر لو أجر العين الموقوفة من أجرة المثل فإنه يضمن الفرق بين القيمتين: أجر المثل والأجر الواقعي الذي أجر به مع تصحيح الإجارة وعدم فسخها (3) .
2-
عقد الإجارتين:
هو إيجار الوقف بإجارتين إحداهما معجلة والأخرى مؤجلة، وقد بدت الحاجة إلى هذا النمط من العقود المتفرع عن عقد الإجارة السابق عندما تخربت عقارات الوقف مع عدم وجود من يرغب في إجارتها إجارة واحدة كما هو المعهود، كما أنه لا يوجد من غلة الوقف السابقة ما يفي بعمارتها.
ومقتضى هذا العقد أن يؤخذ من المستأجر إجارة معجلة تقرب من قيمة عقار الوقف مع ترتيب مبلغ آخر عليه يؤخذ منه آخر كل سنة باسم إجارة مؤجلة، وتصرف الإجارة المعجلة على تعمير الوقف، أما الإجارة المؤجلة فالغرض منها الإعلام بأن الموقوف مؤجر، ولسد الطريق أمام المستأجر بادعاء ملكيته له مع مرور الزمن (4) .
(1) الشرح الصغير: 4/134 – 135.
(2)
نهاية المحتاج: 5/403؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 8/236.
(3)
كشاف القناع: 4/297 وما بعدها؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 8/236.
(4)
الوقف في الشريعة والقانون للأستاذ زهدي يكن، ص 106.
3 -
الحكر:
هو عقد يتم بموجبه إجارة أرض الوقف للمستأجر لمدة طويلة، وإعطائه حق القرار فيها يبني أو يغرس مع إعطائه حق الاستمرار بعد انتهاء عقد الإجارة مادام أنه يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض خالية من البناء والغراس الذي أحدثه فيها، ويسمى المستأجر وفق هذه الطريقة محتكراً.
وهذه الطريقة هي الأخرى تدبير قصد منه حماية الأوقاف من الضياع لما خربت ولم تكن ثمة غلة يمكن تعميرها منها (1) .
والمالكية يسمونه بالخلو، جاء في (الشرح الصغير) :(وإذا منع بيع الوقف وأنقاضه وإن خرب – فهل يجوز للناظر إذا تعذر عوده من غلة وأجرة أن يأذن لمن يعمره عنده على أن البناء يكون للباني ملكاً وخلواً، ويجعل في نظير الأرض حكراً يدفع للمستحقين أو لخدمة المسجد، أفتى بعضهم بالجواز، وهذا هو الذي يسمى خلواً)(2) .
4-
المرصد:
هو ما ينفقه المستأجر على عمارة الوقف حينما يتخرب ويحتاج للإصلاح، ولا يتمكن متوليه من إجارته إجارة طويلة يأخذ منها معجلاً ينفقه على تعميره، والحال أنه ليس ثمة غلة سابقة له يمكن إصلاحه بها، وتقدم من يستأجره ويصلحه بحيث تكون نفقات الإصلاح ديناً مرصداً على الوقف (3) .
(1) رد المحتار: 5/27 و4/21؛ والوقف في الشريعة والقانون للأستاذ زهدي يكن، ص 101 – 102.
(2)
الشرح الصغير: 4/127، وقد أبطل الشيخ الدردير للخلو الذي يملك فيه المستأجرون ما بنوه وعمروا به بحيث يقفونه على غيرهم، أو يبيعونه، أو يورثونه لغيرهم، وقال: إن الفتوى به باطلة وحاشى للمالكية أن يقولوا به؛ الشرح الصغير: 4/99 وما بعدها.
(3)
حاشية ابن عابدين: 6/560؛ وانظر أيضاً، ص 608؛ صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية للأستاذ محمود أحمد مهدي، ص 8.
المبحث الثالث
حكم استخدام النظم المعاصرة
في إدارة الوقف واستثماره
مدخل:
يعتمد الوقف في أصل مشروعيته على القرآن والسنة وإجماع الصحابة كما سلف بسطه، أما الأحكام الأخرى الكثيرة التي يوردها الفقهاء في مذاهبهم المختلفة حينما يتناولونه فتعتمد على الاجتهاد سواء كان ذلك الاجتهاد عن طريق القياس أو الاستحسان، أو المصالح المرسلة والعرف، تبعاً لطبيعة المسألة التي تكون محلاً للبحث والنظر (1) .
وقبول الوقف للاجتهاد بهذه السعة أتاح ويتيح أيضاً أمرين هامين:
أولهما: إمكانية الاختيار من آراء المذاهب المختلفة في أي شأن من شؤون الوقف إذا اقتضت المصلحة ذلك.
ثانيهما: اللجوء إلى أي اجتهادات جديدة فيما لم يرد فيه عن الفقهاء حكم سواء كان ذلك الاجتهاد بالتخريج على آراء الفقهاء أنفسهم، أو باستخدام المصادر الاجتهادية المقررة أصولاً الاستنباط في الشريعة الإسلامية.
والأمر الثاني يفيد في زماننا هذا الذي جدت في نظم إدارية وتنظيمية عددية، وأنماط وطرق للاستثمار الاقتصادي والمالي كثيرة، حتى غدت الإدارة علماً مستقلاً له فروعه وتخصصاته، وأضحى الاقتصاد الذي ينطوي على طرق الاستثمار مادة ثرية تقوم على ركائز فلسفية، وقواعد رياضية، ومحاسبات ومقايسات ومعايير ذات أبعاد واتساع.
وقد نتج ذلك كله عن تقدم الإنسان، وكثرة اكتشافاته، ودخول الصناعة مع الزراعة كعنصر فاعل ومؤثر في الاستثمار، بالإضافة إلى زيادة الاستهلاك، الناتج هو الآخر – عن ازدياد عدد السكان، وتنوع حاجاتهم الاستهلاكية وتعددها تبعاً لاختلاف ثقافاتهم وأذواقهم.
وسوف نشير للأثر الذي أحدثه الأمر الأول في الوقف ثم نستصحب الأمر الثاني لنرود به آفاق استخدام النظم المعاصرة في إدارة الوقف واستثماره.
(1) الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ وهبة الزحيلي: 8/157.
الوقف والاختيارات من آراء المذاهب:
لا شك أن كثرة الآراء الفقهية، وثراء الاجتهاد في فقه الوقف، أفاد كثيراً في حركة التشريع الخاصة به وبتقنين أحكامه، يتضح ذلك من أن الدول الإسلامية التي عملت على تقنين الوقف لم تعتمد في تقنينها على مذهب فقهي واحد وهو المذهب المتبع عندها، وإن جعلت ذلك المذهب هو الأساس الذي تنطلق فيه لارتباطها به لدواعي ثقافية وتاريخية وتعليمية نابعة من اعتمادها تقليد ذلك المذهب سواء كان ذلك التقليد في كل شؤونها الدينية في العبادات والمعاملات كما هو الشأن في دول شمال إفريقية وبعض دول الخليج العربي التي تعتمد المذهب المالكي في العبادات والمعاملات، أو كان اعتمادها على ذلك المذهب في الأحوال الشخصية وما يتبعها من أحكام الوقف والوصية كما هو شأن الدول المتأثرة بالدولة العثمانية كمصر والسودان اللتين تعتمدان المذهب الحنفي في الوقف ولا تعتمدانه في العبادات، فأهل السودان مالكية في عباداتهم، وأهل مصر فيهم الحنفية والمالكية والشافعية، وما رجحته تلك التقنينات وأخذت به من آراء المذاهب غير مذهبها أو من مذهبها لكنه غير الراجح المفتي به كثير يصعب حصره في هذه الدراسة (1) ، على أن الذي يمكن أن نخلص إليه من ذلك هو ضرورة الاستفادة من مرونة المذاهب الفقهية في تنشيط الوقف أولاً، وفي تنشيط حركة الاستثمار فيه ثانياً وذلك هو موضوعنا، ولعل من القضايا المهمة في تنشيط الوقف وقف النقود والمنافع، ولهذا أوثر الحديث عنه قبل الدخول في دراسة الصيغ المعاصرة للاستثمار.
(1) راجع قانون الوقف المصري رقم (48) لسنة 1949م، رقم (180) لسنة 1952، وقانون (247) لسنة 1953م، والقانون السوري لسنة 1949م، ومشروع القانون الكويتي لسنة 1984م.
وقف النقود والمنافع:
لا شك أن النقود وما يتبعها من معبرات عنها كالأسهم والسندات قد غدت في زماننا هذا من أوجه الاستثمار ذات الأهمية البينية التي تضاهي الأصول الرأسمالية الثابتة كالأراضي والمنشآت الضخمة إن لم تفقها، ويرجع ذلك إلى يسر نقلها من يد إلى يد من جهة، وصلاحيتها لتكون معياراً لقيم كبيرة لا تحدها حدود سوى ملاءة أو ضعف ملاءة من يحملها من جهة أخرى.
وفضلاً عن ذلك فإن النقود بخاصة يمكن توظيفها في الوقف في مجالين:
1-
مجال القرض الحسن الذي يساعد في تخفيف المعاناة عمن يحتاجون مثلاً لتكاليف الزواج أو السكن أو العلاج أو التعليم أو غير ذلك من متطلبات الحياة التي تدهم الناس في بعض الأحوال من غير أن يكون لهم استعداد مسبق ومحسوب لتحمل تبعاتها.
2-
مجال الاستثمار عن طريق المضاربة أو المشاركة أو غير ذلك من طرق الاستثمار المشروعة – التي سوف يأتي تفصيلها بعد قليل- وتشارك النقود في هذا المجال الأسهم والسندات التي تكون بحسب طبيعتها موظفة في مشروعات استثمارية على أن يؤول الربح في كل الأحوال لجهة الموقوف عليها (1) .
وما سرى على النقود وملحقاتها من أسهم وسندات، يسري على المنافع التي غدت هي الأخرى ذات حضور في حياة الناس كأن يقف مؤلف مشهور حق نشر كتابه على جهة بر، أو لدعم مشروع علمي أو مركز بحوث أو نحو ذلك (2) .
والقول بجواز وقف النقود والمنافع هو رأي المالكية، أما قولهم بجواز وقف المنافع فيدل عليه قول الشيخ خليل في مختصره (وصح وقف مملوك وإن بأجرة) والمنفعة التي يجوز وقفها عندهم ما عدا منفعة الحبس نفسه، أما منفعة الحبس فلا يصح وقفها لتعلق الحبس بها، وما تعلق الحبس به لا يحبس كالخلوات (3) .
(1) أثر الاجتهاد في تطور أحكام الوقف، بحث للزميل الأستاذ الدكتور محمود أحمد أبو ليل في ندوة (الوقف الإسلامي) التي نظمتها كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات بالعين في ديسمبر 1997م، ص 17.
(2)
أثر الاجتهاد في تطور أحكام الوقف، ص17.
(3)
الخرشي: 7/79؛ والشرح الصغير: 4/102.
وفي غير المنافع ترددوا في وقف الطعام، فأجازته المدونة كوقف الحنطة للسلف، لأن إقامتها تطول كما يمكن رد بدلها فيكون هذا بمثابة دوام العين، وقال ابن الحاجب وابن شاس بعدم الجواز، لأن منفعة الطعام في استهلاكه والوقف إنما ينتفع به مع بقاء عينه، وكره وقفها ابن رشد.
وفي كل الأحوال فإن القول بعدم الجواز ضعيف عند المالكية، ولهذا اعترضوا على خليل في ذكره لعبارة التردد في قوله:(وفي وقف كطعام تردد)(1) ،
وفي وقف النقود تشير أيضاً بعض مصادر الفقه المالكي إلى التردد الذي حدث في وقف الطعام مع تضعيفها للقول بالمنع، وتعضيدها للقول بالصحة بأن خليل نفسه قال في باب الزكاة:(وزكيت عين وقفت للسلف)(2) ، بل إن بعضها نبه إلى أن وقف النقود لا تردد فيه، وإنما التردد في الطعام، أما الدنانير والدراهم فيجوز وقفهما للسلف قطعاً (3) ، وهذا ما صرح به أيضاً ابن تيمية حيث قرر أن مذهب مالك وقف الأثمان للقرض (4) .
وفي المذهب الحنفي ما يشير إلى جواز وقف النقود إذا جرى العرف بذلك حيث يقول ابن عابدين: (وقف الدراهم والدنانير متعارف في الديار الرومية فيصبح فيها دون سواها)(5) .
وأصرح من ذلك فتوى محمد بن عبد الله الأنصاري من أصحاب زفر رحمه الله الذي قال بجواز وقف النقود، وقد تقدم ذكر الفتوى، وعند الحنابلة رواية بجواز وقف النقود، ذكر ذلك ابن تيمية في فتاويه (6)، وأشار إليها أيضاً ابن قدامة في المغني حيث قال:(وقيل في الدراهم والدنانير يصح وقفها على قول من أجاز إجارتها، ولا يصح لأن تلك المنفعة ليست المقصود الذي خلقت له الأثمان، ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجر الوقف له)(7) ، وعند الشافعية أيضاً قول بجواز وقف النقود، جاء في (المجموع شرح المهذب) :(وقد اختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير فمن قال بجواز أن تكون لها ثمرة دائمة كالإجارة أجاز وقفها، ومن قال بعدم جوز الإجارة قال بعدم جواز وقفها)(8) .
(1) الخرشي: 7/80؛ والشرح الصغير: 4/102.
(2)
الخرشي: 7/80.
(3)
حاشية العدوي بهامش الخرشي: 7/80.
(4)
فتاوى ابن تيمية: 31/234.
(5)
حاشية ابن عابدين: 6/555؛ وأحكام الأوقاف للشيخ مصطفى الزرقا، ص 61.
(6)
فتاوى ابن تيمية: 31/234 – 235.
(7)
المغنى: 8/229 – 230.
(8)
تكملة المجموع: 15/325.
ومهما يكن من أمر فإن ما استدل به المانعون لوقف النقود يمكن حصره في دليلين:
الأول: أن النقود مستهلكة، والوقف إنما ينتفع به مع بقاء عينه، وهذا الدليل يمكن دفعه بأن النقود مثلية فيرد بدلها، ورد البدل جائز كما هو معلوم في الوقف في حالة الاستبدال، وفي حالة التعدي على العين الموقوفة بالغصب والإتلاف، هذا إذا لم نقل أن النقود لا تستهلك استهلاك الشمع والمطعوم والمشروب وغيرها مما يقرنه الفقهاء بها في هذا المقام، وإنما تنتقل –بحسب وظيفتها- من يد إلى يد، ومن مكان إلى آخر مع ثبات وضمان قيمتها في كل الأحوال –بحسب ما هو متعارف عليه اقتصادياً اليوم.
الثاني: أن النقود خلقت لتكون أثماناً ولم تخلق لتقصد منافعها لذاتها، وهذا ما ذكره ابن قدامة في المغنى، وهو قول صحيح في جملته غير أنه يمكن مناقشته بأن وقف النقود لا يعني إخراجها عن وظيفتها المقررة وهي الثمنية، وإنما هو إعمال لتلك الثمنية إذ لولا تلك الثمنية لما وقفت، لأن ثمنيتها هي التي تتيح لها الدخول في المضاربة فتشتري بها أشياء ثم تباع تلك الأشياء بنقود أخرى، والربح الذي ينتج عن ذلك يكون للموقوف عليهم، فكأنما وقفها أساساً كان لثمنيتها، أما الربح والمنفعة فهو عائد العمل والجهد الذي يرتكز على تلك الثمنية، أما إذا أقرضت فالأمر واضح، لأن الذي يقترضها سوف يستخدمها كثمن يدفع به عن نفسه غائلة الحاجة ثم يعيدها مرة أخرى، وعليه فإن وقف النقود ليس كوقف الشجر على نشر الثياب، والغنم على دوس الطين، والشمع للتجميل به كما يعبر ابن قدامة (1) .
ومما يتصل بالمسألة وقف الحلي وهو جائز لتعار في المناسبات كالزواج وغيره، ودليل ذلك:
أولاً: ما روى نافع قال: ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته.
ثانياً: إن الانتفاع بها عارية لا يتنافى مع دوامها وبقاء عينها.
ثالثاً: إن تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة –وهو مفهوم الوقف- ظاهر فيها بشكل صريح ومباشر.
والقول بجواز وقفها هو مذهب الإمام الشافعي، ومقتضى مذهب المالكية، ورواية عن الحنابلة، وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد عدم صحة وقفها (2) .
(1) راجع قول ابن قدامة في المغنى: 8/230.
(2)
المغنى لابن قدامة 8/230.
الصيغ المعاصرة لاستثمار الوقف وإدارته
سبق أن ذكرنا أن اعتماد الوقف على الاجتهاد في غالب أحكامه يفسح المجال للاجتهادات الجديدة في استثماره إما بالتخريج على آراء الفقهاء السابقين أو باشتقاق أحكام جديدة اعتماداً على المصادر الاجتهادية الشرعية المقررة.
واستناداً إلى ذلك يمكن القول بأن الاستفادة من النظم المعاصرة وطرق التخطيط المالي والنقدي، واستخدام القوائم والتقارير المالية التي تسهم في إيضاح المركز المالي للمؤسسات الوقفية، إلى غير ذلك من طرق ووسائل إدارة الأعمال الحديثة، الأخذ بها في الوقف جائز بل ومطلوب لنمائه وحسن استثماره وذلك لاعتبارين:
الاعتبار الأول: أن هذه الوسائل إجرائية، ولا تمس موضوع الوقف في ذاته بشيء وهذا ييسر قبولها والعمل بها إلا إذا كان فيها ما يخالف الشرع، كما أن الأخذ بها يدخل في باب المصالح المرسلة، ومع ذلك لابد من ملاحظة المواءمة بينها وبين طبيعة الوقف، وتطويعها في بعض الأحوال لخدمة أغراض تنميته واستثماره، وهي طبيعة لا تعتمد على الجانب المادي الدنيوي وحده، وإنما يمتد أفقها إلى الجانب الروحي الذي شرع الوقف أساساً لخدمته وإشباعه.
الاعتبار الثاني: أن هذه الوسائل تعتبر من أعراف زماننا، والعرف الصحيح الذي لا يصادم الشرع يؤخذ به وبخاصة في الوقف الذي كثيراً ما اعتمدت أحكامه في السابق عليه، وبناء عليه أجاز الحنفية وقف بعض المنقولات مع أن الأصل عندهم عدم جواز وقف المنقول، كما هو معلوم، فأجازوا وقف القدوم، والفأس، والدور، والجنائز وثيابها، والأكسية الشتائية للفقراء، والدراهم والدنانير وبعض الأموال الوزنية أو الكيلية كالقمح (1) .
(1) أحكام الأوقاف للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا، ص 61، طبعة دار عمان - الأردن، 1997.
أما فيما يتصل بوسائل وطرق الاستثمار المالي وهي وسائل وطرف موضوعية فلا يحص أن يستخدم منها في استثمار الوقف إلا ما تقره الشريعة الإسلامية أو بتعبير أدق ما هو مشتق من أحكامها وقواعدها في المعاملات.
ومن الطرق المقترحة في هذا الشأن الطرق الآتي تفصيلها:
1-
سندات المقارضة:
(سندات المقارضة) من الصيغ الحديثة المقترحة للاستثمار المالي في عمومه ارتكازاً إلى سلامتها من الناحية الشرعية نظراً لأنها مضاربة وهي تسمية العراقيين، أو قراض وهي تسمية الحجازيين.
والقراض الذي اشتقت منه سندات المقارضة هو "أن يدفع رب المال ماله لمن يتجر فيه نظير أخذ جزء من الربح بحسب ما يتم الاتفاق عليه ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً (1) .
وحداثة الصيغة تأتي من جهة أن رأس المال يوزع إلى وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة، ويتم هذا –بالضرورة- بعد دراسة التكلفة المتوقعة لأي مشروع من المشروعات وحسابها لتمثل رأس مال القراض أو المضاربة، وعلى أن يأخذ أصحاب الصكوك من عائد الربح بحسب ما يتم الاتفاق عليه في نشرات الإصدار الخاصة بذلك.
وبناء على هذه الصيغة فإن حملة الصكوك هم رب المال، وإدارة الوقف هي المضارب، وهذا في حالة الوقف التي هي محل الدراسة. وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي بقراره رقم 30 (5/4) صيغة المضاربة في عمومها مع ضبطها بالشروط اللازمة التي تضمن سلامتها من الناحية الشرعية.
وبتطبيق هذه الصيغة على الوقف لتكون واحدة من طرق استثماره قد يبدو محذوران هما:
1-
ضمان السندات عند انتهاء أجلها إذا عجزت إدارة الوقف عن إتمام المشروع، لأن إدارة الوقف مضارب، والمضارب أمين –كما هو مقرر فقهاً- لا يضمن إلا في حال التعدي أو التقصير، وقد عالج المجمع هذا المحذور بعدم منعه من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة من عائد المشروع سواء كان من الربح في حالة التنضيض الدوري، أو من الإيراد والغلة الموزعة تحت الحساب، ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال، أو النصل على طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في المشروع على أن يكون هذا الالتزام مستقلاً عن عقد المضاربة وبحيث لا يترتب عليه أثر قضائي إذا لم يقم هذا الطرف الثالث بالوفاء بما تبرع به.
(1) بداية المجتهد لابن رشد: 2/236؛ والشرح الصغير: 3/681.
2-
أن هذه الصيغة قد تؤدي إلى ملكية الممولين (حملة السندات) لحصة مشاعة في المشروع مما يؤدي ضمناً إلى تملكهم الجزئي لأرض الوقف (1) .
وهذا المحذور لا يأتي وروده –في نظري- في سندات المقارضة، لكنه قد يرد في المشاركة المتناقصة، لسبب يسير وواضح هو أن صاحب صك المقارضة يملك فعلاً حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته، وتترتب على ذلك جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها، وهذا ما نص عليه العنصر الأول من العناصر التي سماها المجمع ولابد من توافرها في سندات المقارضة.
وعليه فإن سندات المقارضة –إذا استخدمت في الوقف - فإن أرباب المال حملة الصكوك يكونون هم الواقفين لأنه ليس هناك أرض أو غيرها، وإنما رأس المال المتحصل من الصكوك هو الموقوف، وهذا الموقوف إما أن نقول إنه على حكم ملك الله تعالى كما يرى جمهور الفقهاء، وهنا لابد من النص على منع المالك من التصرف فيه، أو يكون على ملك الواقف كما يرى الإمام أبو حنيفة مع عدم لزومه وهنا يجوز للمالكين التصرف، وأرى تخريج المسألة على رأي الإمام أبي حنيفة للتوفيق بين المضاربة والوقف.
2-
الاستصناع:
الاستصناع هو التعاقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة، وتكون العين فيه والعمل من الصانع، وهو جائز استحساناً لتعامل الناس به وتعارفهم عليه، والقياس عدم جوازه لأنه بيع معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع الإنسان ما ليس عنده (2) ، وصيغة الاستصناع من الصيغ الاستثمارية التي يمكن استخدامها في الوقف، بأن تعلن إدارة الوقف مثلاً عن استعدادها للسماح لجهة تمويلية بأن تقوم ببناء على صفة معينة على أرض الوقف، مع تحديد أجل يتم فيه تسليم البناء المنشأ، وتحديد الثمن الذي تشتريه به إدارة الوقف (المستصنع) ويمكن أن يكون ذلك الثمن مؤجلاً كله أو موزعاً على أقساط معلومة الآجال محددة (3) .
(1) نبه لهذا المحذور الدكتور محمود أحمد مهدي في بحثه عن صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية، ص16.
(2)
بدائع الصنائع: 5/2؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 4/631.
(3)
أساليب استثمار الأوقاف وأسس إدارتها للدكتور نزيه حماد، ص 184، نقلاً عن بحث الدكتور مهدي.
ولإدارة الوقف أن تقوم بدفع الثمن، سواء كان مؤجلاً أو على أقساط، في أي عوائد أخرى للوقف كريع قديم مثلاً، فإن لم يكن للوقف ريع سابق ليدفع منه الثمن يؤجر البناء ويسدد منه الثمن على أقساط بنهايتها يؤول البناء والأرض إلى الوقف، وذلك كله مع مراعاة الضوابط التي أقرها المجمع للاستصناع.
وقد يقال عن الحالة الأخيرة إنها تدخل في البيع بالتقسيط فكأنما الجهة المصنعة قد صنعت البناء وقامت ببيعه لإدارة الوقف (1) .
وهذا مناقش بأن البناء تم بناء على اتفاق مسبق وبمواصفات معينة، فهو استصناع، هذا فضلاً عن أن الأصح في الاستصناع عند الحنفية أنه بيع، والمعقود عليه فيه هو العين الموصى بصنعها لا عمل الصانع، وبناء على هذا فإن الصانع لو أتى بما لم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد وكان مطابقاً للأوصاف المشروطة جاز ذلك (2) .
3-
المشاركة المتناقصة:
صيغة المشاركة المتناقصة صيغة حديثة مشتقة من عقد الشركة، الذي هو عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح (3) وهذا العقد مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وصورة المشاركة المتناقصة في الوقف تكون باشتراك جهة الوقف بأعيانه بعد تقييمها –لمعرفة مركز الوقف المالي في الشركة- مع ممولين يتولون تكلفة الإنشاءات التي تبنى على أرض الوقف مثلاً، وبعد تتمة الإنشاءات تؤجر ويأخذ كل من جهة الوقف والممولين نصيبه من تلك الأجرة بحسب نسبته في رأس المال، فجهة الوقف تأخذ نسبة تقابل الأرض أو الموجودات الأصلية التي دخلت بها في الشركة، والممولون يأخذون نسبة تقابل المبالغ التي أنفقوها في التعمير، على أن يتم الاتفاق فيها أيضاً بأن تقوم جهة الوقف بشراء المنشآت من الممولين بأقساط تدريجياً، مستخدمة في ذلك النصيب الذي يؤول لها من أجرة المنشآت، ويستمر ذلك الوضع إلى أن تتم لجهة الوقف ملكية المنشآت، وبذلك تكون الأرض والمنشآت ملكاً للوقف ويمكن في إطار هذه الصيغة أيضاً أن تكون شراكة جهة الوقف بأرض الوقف، بالإضافة إلى أموال تشارك بها الممولين في المنشآت، على أن يفصل بين أرض الوقف، بحيث يكون نصيبها من الأجرة عائداً لها تستخدمه لسد حاجات الموقوف عليهم، وأن يكون نصيب الوقف المقابل للأموال التي اشترك بها مع الممولين في الإنشاءات راجع له أيضاً، على أن يشتري بهذا النصيب خاصة حصة الممول في الشركة إلى أن تؤول ملكية المشروع كاملة للوقف (4) .
(1) صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية للأستاذ محمود أحمد مهدي ص 17.
(2)
الفقه الإسلامي وأدلته: 4/632.
(3)
رد المحتار: 6/ 466.
(4)
صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية للأستاذ محمود أحمد مهدي، ص17-18؛ ومقتطفات من أحكام الوقف بحث للشيخ الصديق أبو الحسن القاضي بالمحكمة الشرعية العليا بأبو ظبي، ص 76، كتاب ندوة الوقف الخيري التي نظمتها اللجنة الشرعية بهيئة أبو ظبي الخيرية في مارس 1995م بأبو ظبي.
4-
الإجارة التمويلية مع البيع بالتقسيط:
تنشأ هذه الصيغة حينما يكون الوقف في حاجة إلى تعمير أو معدات لاستخدامها في مشروع استثماري يزيد من عائده وغلاّته مع عدم وجود المال الكافي الذي تقابل به تلك المتطلبات، فتبرم إدارته اتفاقاً مع جهة ممولة لتتولى التعمير أو لتشتري للوقف المعدات المطلوبة، على أن تستوفي تلك الجهة ما أنفقته على التعمير أو شراء المعدات من أجرة لمدة طويلة تعطيها إدارة الوقف لتلك الجهة، وبحيث تغطي تلك الأجرة في أمدها الطويل قيمة التعمير أو المعدات، ومتى ما تم ذلك غدت المنشآت أو المعدات في ملكية الوقف وهذه الصيغة عقد إيجار طويل ينتهي بالتمليك وتمثل الأجرة فيه أقساطا تشترى بها المنشآت أو المعدات، فكأنما هو بيع بالتقسيط.
ويشبه هذا العقد من حيث مبدئه ودواعيه في الوقف (الحكر) الذي تقدم الحديث عنه.
ولكنه يزيد عليه شراء تلك المنشآت من مالكها الذي أحدثها لصالح الوقف، وهذا جائز إذا ما تم البيع بالتقسيط مع الحصول على الضمانات الكافية، أما جواز الصيغة بحسب صورتها المركبة التي جاءت بها، فهي محل دراسة ولم يقطع فيها المجمع برأي إلى الآن والله أعلم بالصواب.
الخاتمة
تناول البحث موضوع استثمار موارد الأوقاف من خلال تمهيد تضمن التعريف بالوقف، ولزومه ومشروعيته، وحكمه، مع إيجاز لتاريخه وعرض لمزاياه وإيجابياته على كافة الأصعدة: الروحية، والعلمية، والثقافية، والصحية، والاجتماعية من حياة المسلمين.
أعقبه مبحث أول عني ببيان العلاقة بين الوقف والاستثمار؛ لتأسيس كيفية الاستثمار عليها، وخلاصة هذا المبحث يمكن إيجازها في:
أ-أن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، والمنفعة التي تسبل لا تكون إلا عن طريق الاستثمار، وهذا يعني أن الاستثمار ضروري للوقف.
ب-يوفر الوقف المادة الأولية للاستثمار وهي المال؛ لأن من شروط الموقوف أن يكون مالاً له قيمة وحرمة في نظر الشارع.
جـ-من شأن شروط الموقوف الأخرى؛ وهي تأبيد الوقف في نظر جمهور الفقهاء، وضرورة العلم به علماً نافعاً للجهالة حين وقفه، وعدم جواز قسمته بين الموقوف عليهم قسمه اختصاص، من شأن هذه الشروط تعزيز مركز الاستثمار والتمكين له.
د- يتيح نظام الوقف في الفقه الإطار اللازم للاستثمار من خلال نظرية (الولاية على الوقف) بكل ما فيها من شروط وأحكام وتفاصيل، وبما تفسح من مجال لأي ضوابط مستجدة تصب في النهاية في مصلحة الوقف.
هـ- يحرص الفقه أن يكون الموقوف دائماً صالحاً للاستثمار، وذلك بفضل ما يوفره من ضمانات التعمير، أو البدل في حال تخربه وأيلولته إلى حال لا يستفاد منه فيها..
ثم جاء المبحث الثاني (طرق استثمار موارد الوقف في الفقه) الذي توفر على دراسة الطرق الفعلية للاستثمار المتمثلة في الإجارة بكل أنواعها، ما كان منها في الأحوال الطبيعية، وهي عقد الإجارة المعروف، وما كان منها في الأحوال الاستثنائية كعقد الإجارتين والحكر.
أما المبحث الثالث الذي كان عن (حكم استخدام النظم المعاصرة في إدارة الوقف واستثماره) فقد تناول تلك النظم، بعد مدخل عن قابلية الوقف لقبول تلك النظم –من حيث المبدأ- في إطار الاجتهاد المقر في الشريعة، والذي كانت أحكام الوقف نفسها –في غالبها- مؤسسة عليه، ثم عدد تلك النظم ودرسها وهي:
1-
سندات المقارضة.
2-
الاستصناع.
3-
المشاركة المتناقصة.
4-
الإجارة التمويلية مع البيع بالتقسيط.
ويمكن –في ضوء الدراسة السابقة بكل ما جاء فيها- الاهتداء إلى الموجهات الآتية:
أولاً: إن الوقف لديه القابلية المطلقة للاستثمار بحكم أنه يمثل وعاءً مالياً متسعاً، وأن تلك القابلية تظاهرها وتؤازرها مرونة الفقه الإسلامي، وقدرة مصادرة على استيعاب كل جديد إذا جاء وفق الضوابط المقررة شرعاً.
ولاشك أن ذلك يكفل وباستمرار التجديد في وسائل الاستثمار التي يفرضها العرف الصحيح، كما أنه يضمن للوقف أداء دوره المرتقب في زمن تزايدت حاجاته بقدر ما تزايدت واتسعت وسائله.
ثانياً: أن ما حدث في تاريخ الوقف الإسلامي من عثرات تمثلت في الاستيلاء عليه أحيانا من السلطان، أو في الضعف المريع في استثماره أحياناً، أو في إهماله وعدم الأمانة في صرف عوائده من قبل متوليه، أو التحايل عليه باستخدام أحكامه نفسها كالبدل والاستبدال للاستيلاء عليه أحيانا أخرى (1) .
كل ذلك لا يعدو أن يكون إفرازاً من إفرازات الضعف والتقهقر الذي أصيب به المسلمون في القرن السابع الهجري وما تبعه من قرون، على أن ذلك الضعف لم يقف تأثيره على الوقف وحده، وإنما انسحب على كل جوانب حياة المسلمين حتى الجوانب العلمية المجردة كما هو معلوم.
(1) راجع طمع الولاة في الأوقاف في كتاب (محاضرات في الوقف) للشيخ محمد أبو زهرة، ص 13، وما بعدها. ومن الجدير بالتنبيه إليه أن العلماء كان لهم دور كبير في الوقوف في وجه تلك المحاولات، ولكنهم كثيراً ما غُلبوا على أمرهم..
وفي كل الأحوال فإن تلك المرحلة يمكن تجاوز آثارها التي انتهت إلى إلغاء الأوقاف الأهلية، وجعل الوقف نافذاً في حدود الثلث كالوصية، ليعود الوقف إلى صورته التي قررتها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليها عمل السلف، ويتأتى ذلك بالانضباط والتربية الأخلاقية، وغرس الأمانة في النفوس.
ثالثاً: إن وسائل الاستثمار الحديثة التي ورد ذكرها لا تستوعب كل طرق الاستثمار المتصورة، ولهذا لابد من عرض الأمر على الخبراء من الاقتصاديين ورجال المال الثقات ليعرضوا ما عندهم من النظم التي تكون ناجعة وناجحة من النواحي الاقتصادية والمالية والاستثمارية ثم يعرضوها على المجمع ليعدل فيها مستخلصاً من ذلك المعاملات التي تستجيب لواقع العصر وضروراته، وتتفق في ذات الوقت مع أصول الشرع ومقرراته.
رابعاً: قد أدعو إلى إنشاء جهاز مركزي للوقف الإسلامي، يكون تابعاً للبنك الإسلامي للتنمية بجدة، أو مستقلاً عنه، لمتابعة الدراسات الخاصة بالوقف في جوانبها الفقهية، والقانونية، والاقتصادية، والتاريخية، والجغرافية مع تصوير صكوك وثائقه من كل البلاد الإسلامية وعلى مدى تاريخها الطويل وتخزينها في الوسائل العلمية الحديثة، ليفاد منها الدارسون لحركة الوقف وتطور أنظمته في العالم الإسلامي، وأن يتولى أو يكمل عقد الندوات والدورات عن الوقف في البلاد الإسلامية التي تتناول تاريخه، وواقعه، وتشريعاته، ثم يجمع تلك الدراسات في دائرة معارف موسوعية عن الوقف الإسلامي.
خامساً: لابد من الحفز والدعوة لتنشيط الأوقاف على الأقليات الإسلامية في البلاد غير المسلمة درءاً لغائلة الفاقة والحاجة عنهم، ولإنشاء وتعمير مساجدهم وتنظيم مقابرهم والسعي لإنشاء مقابر لهم في البلاد التي لا توجد لهم فيها مقابر مع وجود عدد مقدر منهم فيها نتيجة التداخل البشري الذي ساد العالم في هذا العصر.
سادساً: لابد من إصدار التوصية المناسبة بشأن الأوقاف الإسلامية بالقدس ومدارسه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
(1)
1-
أثر الاجتهاد في تطور أحكام الوقف –أبو ليل- (الأستاذ الدكتور محمود أحمد أبو ليل) ، بحث مطبوع على الآلة الكاتبة قدم لندوة الوقف الإسلامي التي نظمتها كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر 1997م.
2-
أحكام الأوقاف –الزرقا- (الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا) ، دار عمان بالأردن، الطبعة الأولى، 1418هـ-1997م.
3-
أحكام الوصايا والأوقاف –شلبي- (الأستاذ الدكتور الشيخ محمد مصطفى شلبي) ، الدار الجامعية للنشر-بيروت، الطبعة الرابعة، 1402هـ-1982م.
4-
أحكام الوصية والميراث والوقف في الشريعة الإسلامية (الأستاذان: زكي الدين شعبان وأحمد الغندور) ، مكتبة الفلاح، الطبعة الثانية، 1410هـ-1989م.
5-
أحكام الوقف الخيري في الشريعة الإسلامية –النشمي- (الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي) ، أبحاث ندوة الوقف الخيري التي عقدت بأبو ظبي، 1995م.
6-
الإسعاف في أحكام الأوقاف –الطرابلسي- (العلامة برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أبي بكر بن الشيخ علي الطرابلسي) ، مطبوع بالمطبعة الهندية بالأزبكية بمصر، 1320هـ-1902م.
7-
الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية –السيوطي- (الإمام جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي) ، طبعة الحلبي، وطبعة دار الكتب العلمية ببيروت.
8-
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل –المقدسي- (أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي) تصحيح وتعليق عبد اللطيف السبكي، دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
9-
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – الكاساني - (الإمام علاء الدين أبو بكر ابن مسعود الكاساني الحنفي) ، الطبعة الثانية، 1406هـ-1986م، دار الكتب العلمية ببيروت.
10-
بداية المجتهد ونهاية المقتصد –ابن رشد- (الإمام محمد بن رشد القرطبي) ، طبعة دار المعرفة ببيروت.
11-
التوجيه الاستثماري للزكاة –فرح- (الدكتور عبد الفتاح محمد فرح) ، الطبعة الأولى بمطبعة بنك دبي الإسلامي، 1997م.
12-
الجامع لأحكام القرآن –القرطبي- (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي) ، طبعة دار الكتب العربي للطباعة والنشر، 1387هـ-1967م.
13-
حاشية العدوى على شرح الخرشي لمختصر خليل –العدوي- (أبو الحسن علي بن أحمد الصعيدي العدوي) ، طبعة دار صادر ببيروت.
14-
حاشية قليوبي وعميرة –قليوبي وعميرة- (شهاب الدين القليوبي والشيخ عميرة) طبعة عيسى البابي الحلبي.
15-
حجة الله البالغة –الدهلوي- (الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي) ، طبعة دار إحياء العلوم بتعليق الشيخ محمد شريف سكر.
16-
الخرشي على مختصر سيدي خليل –الخرشي- (أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي) ، طبعة دار صادر ببيروت.
17-
خلاصة أحكام الوقف في الفقه الإسلامي –حسب الله- (الأستاذ الشيخ علي حسب الله) ، الطبعة الأولى، 1375هـ-1956م، مطبعة دار البيان العربي.
18-
رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار –ابن عابدين- (محمد أمين الشهير بابن عابدين) ، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ-1994م.
19-
شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل –الزرقاني- (أبو محمد عبد الباقي بن يوسف بن أحمد الزرقاني) ، طبعة دار الفكر ببيروت.
20-
الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك –الدردير- (أحمد بن محمد بن أحمد الدردير) ، طبعة وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة، بتعليق د. مصطفى كمال وصفي، طبعة أولى، 1410هـ-1989م.
21-
شرح فتح القدير –ابن الهمام- (الإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي السكندري) ، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ-1995) .
(1) راعيت في ترتيب المراجع الترتيب الهجائي.
22-
شرح القواعد الفقهية –الزرقا- (العلامة الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا) ، طبعة دار القلم بدمشق.
23-
الشرح الكبير –الدردير- (أحمد بن محمد العدوي الشهير بالدردير) ، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ-1996م.
24-
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري –البخاري- (أبو عبد الله محمد ابن إسماعيل البخاري) ، طبعة على نفقة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 1416هـ-1996م، دار أبي حيان.
25-
صحيح مسلم بشرح النووي –مسلم- (الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري) ، طبعة على نفقة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 1415هـ-1995م، دار أبي حيان.
26-
صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية –مهدي- (الأستاذ محمود أحمد مهدي) ، المعهد الإسلامي للبحوث التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة، مطبوع على الآلة الكاتبة.
27-
الفقه الإسلامي وأدلته –الزحيلي- (الأستاذ الدكتور الشيخ وهبة الزحيلي) ، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م.
28-
فقه الوقف في الإسلام –الضرير- (الأستاذ الدكتور الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير) ، بحث مطبوع على الآلة الكاتبة.
29-
القوانين الفقهية –ابن جزي- (أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي) ، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت.
30-
كشاف القناع عن متن الإقناع –البهوتي- (منصور بن يونس بن إدريس البهوتي) ، طبعة دار الفكر، 1402هـ-1982م.
31-
مجلة مجمع الفقه الإسلامي/ الدورة التاسعة/ العدد التاسع/ طبعة 1417هـ-1996م.
32-
المجموع شرح المهذب –النووي- (الإمام أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي) ، طبعة دار الفكر.
33-
مجموعة فتاوى ابن تيمية –ابن تيمية- (شيخ الإسلام أحمد بن تيمية) ، عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع بالرياض، 1412هـ-1991م.
34-
محاضرات في الوقف –أبو زهرة- (الشيخ محمد أبو زهرة) ، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي.
35-
المدخل للفقه الإسلامي – مدكور- (الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور) ، دار النهضة العربية، الطبعة الثالثة، 1386هـ 1966م.
36-
المغني –ابن قدامه - (موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الدمشقي الصالحي الحنبلي) ، طبعة هجر تحقيق الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي، والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو.
37-
مغنى المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج –الشربيني- (الشيخ محمد الخطيب الشربيني) ، طبعة دار الفكر.
38-
مفتاح الدراية لأحكام الوقف والعطايا –حمد النيل- (الشيخ يوسف إسحاق حمد النيل) ، طبعة على نفقة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 1398هـ –1978م.
39-
مقتطفات من أحكام الوقف –أبو الحسن- (الشيخ الصديق أبو الحسن القاضي بالمحكمة العليا بأبو ظبي) ، مطبوع ضمن أبحاث ندوة الوقف الخيري بأبو ظبي.
40-
ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامين طبعة معهد البحوث والدراسات العربية، 1403 هـ- 1983م.
41-
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج – الرملي - (شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي) ، طبعة دار الفكر، 1404هـ – 1984م.
42-
الوقف في الشريعة والقانون –يكن- (الأستاذ زهدي يكن) ، دار النهضة العربية ببيروت، 1388هـ.
43-
الوقف وبنية المكتبة العربية –ساعاتي- (الأستاذ الدكتور يحيى محمود ساعاتي) ، الطبعة الأولى 1408هـ- 1988م، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات.