الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بطاقات الائتمان غير المغطاة
إعداد
الدكتور محمد العلي القري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز- جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين:
لا ريب أن بطاقة الائتمان هي اليوم في معاملات الناس أهم منها في وقت مضى، ولا شك في أن معدلات نمو التعامل بها في السنوات القليلة الماضية تدل بوضوح على أهمية أكبر في السنوات القادمة، ولا حاجة بنا للاستدلال بالأرقام والإحصاءات، إذ إن الأمر أضحى مشتهرا معلوما لكل أحد. يكفي أن نعلم أن النمو العظيم في ما يسمى (التجارة الالكترونية) يحمل في طياته تعاظما لأهمية البطاقة، فالخبراء يتوقعون أن نسبة ما سيجري من التجارة المحلية والدولية من خلال شبكة الحاسوب العالمية المسماة (إنترنت) سيصل في أقل من عقد من الزمان إلى نحو (25 %) من مجمل التجارة في العالم (1) ، ومعلوم أن التجارة الإلكترونية إنما تقوم على بطاقات الائتمان.
أضف إلى ذلك ما نراه اليوم من اعتماد قطاع السياحة المتنامي على بطاقات الائتمان، وان (الميكنة) التي اتجهت إليها البنوك قوامها البطاقات البلاستيكية ومنها بطاقة الائتمان.
وقد بلغ عدد بطاقات الائتمان التي يتعامل بها في المملكة العربية السعودية (3.6) مليون بطاقة، ويشهد هذا التعامل نموا مقداره (160 %) سنويا، كما بلغ حجم المعاملات التي جرت ببطاقات الائتمان في المملكة في سنة (1988م) نحو (22.5) مليار ريال (6مليار دولار)(2) .
وعناية مجمع الفقه الإسلامي الدولي بهذه المسألة ليس جديدا، بل إن هذا الاهتمام قد امتد فيما بعد إلى هيئات فقهية وندوات علمية متعددة، وبقي للمجمع الموقر قصب السبق وفضل الريادة، مع ذلك كله فإن التوصل إلى رأي حاسم في مسألة بطاقات الائتمان لما يقع بعد.
ومرد ذلك في نظري هو أن التصور الصحيح الذي يمكن أن يتفرع عنه الحكم على مسألة البطاقة لم يتحقق بعد.. أرجو أن يكون لطول معايشة كاتب هذه السطور لقضايا بطاقات الائتمان أثر في المساهمة النافعة في الوصول إلى ما يمكن أن يكون التوطئة للحسم في هذه المسألة.
(1) مجلة Bussiness Week وغيرها.
(2)
نقلا عن تقرير مؤسسة النقد العربي السعودي جريدة الرياض، (6/6،1420هـ) الموافق (17/8/1999م) .
معنى الائتمان:
(الائتمان) كلمة عربية صحيحة، يستخدمها الاقتصاديون ترجمة للكلمة الأجنبية (Credit) . وهي ترجمة سديدة تحمل المعنى الدقيق للكلمة. وقد وجدت في بعض المعاجم اللغوية تحت كلمة (Credit) ما يلي:
(هو الثقة التي تشعر الناس أن فلانا مليء) .
ثم أضاف صاحب المعجم:
(وهو التزام يقطعه مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معين نظرا للثقة التي يشعر بها نحوه)(1) .
وهذا معنى في غاية الدقة لكلمة ائتمان، إذ ليس صحيحا أن الائتمان معناه القرض، فالقرض نتيجة تابعة للائتمان، لأن الائتمان معناه الثقة التي يمنحها المصرف لعميله حتى يكون مستعدا لإقراضه أو كفالته. ولذلك كان القرض تابعا لتلك الثقة ونتيجة لها وليس هو الائتمان، وكانت الكفالة جزءا مما يسمى الائتمان في المفهوم المصرفي لاعتمادها على تلك الثقة.
والائتمان مصطلح، قد يستهجنه من يقف باللغة عند حد النقل ويأبى إلا أن يتمسك بالقديم، لهؤلاء أقدم مقطعا من مقدمة المترجمين لكتاب (الموجز في علم الاقتصاد) لمؤلفه الفرنسي بول لروابوليو، وقد ترجمه اثنان من صناديد الأدب في هذا العصر هما: حافظ إبراهيم وخليل مطران، ومحلهما من العربية ما قد علم، وقد جاء هذا المقطع في مقدمة الطبعة الصادرة سنة (1913م) وعنوانه قوة الاصطلاح:
(ليس الاصطلاح بأوهى قوة من النقل، ولا هو بدونه في مراتب الهيمنة على اللغات، فلا يهولنك قول أولئك المتزمتين الذين وقفوا باللغة عند حد النقل؛ فتمشت لغات العالم مع المدنية والعمران ووقفت لغتنا وحدها عند ذلك الحد، تنظر إلى أخواتها، وقد سبقنها وقصرت، نظر الشرقي إلى الغربي.
(1) المعجم القانوني لخليل شيبوب ن طبعة سنة 1949م.
لكل عصر من العصور التي تقلبت فيها الأمم أثر خالد في لغاتها، فما من كلمة تنبت ولا من لفظة تدوي إلا وللاصطلاح يد في حظها من الموت أو الحياة.
هذه لغة الفرنسيس ساكنتها مدنية العلم وكاثرتها بآلاتها ومخترعاتها فلم ترهقها تلك المكاثرة، ولم تضق ذرعا بضيوفها، فقد وجدت من مرونتها ووقوف أبنائها على أسرار الحياة ما مهد لها السبيل، واستلها من بين يدي ذلك الجمود الذي وقعت فيه أم اللغات.
ولقد بلغ من قوة الاصطلاح أن أصبح ينسخ معاني الكلمات، وإن أبقى كرما منه على أشباحها، فكم أخرج من لفظة عن معناها وساقها في طريق الاستعمال سوقا لم يقو النقل على الوقوف في سبيله.
أفلا يعز علينا بعد ذلك أن يمر هذا العصر العباسي الزاهر باللغة مرا، لا يترك فيها أثرا، ولا يحدث معها ذكرا؛ حتى إذا طوانا الدهر ونزل في منازلنا خلق جديد، جهلوا، أننا سبقناهم إلى هذه الدنيا لأنهم لم يجدوا لنا رسما يترسم، ولا رأيا يتوسم.
لهذا كنا كلما عرض لنا في طريق التعريب شيء من الأشياء التي لم تجد لها عندنا نصيب من الأسماء، رحبنا به واستعرضنا له الكلمات ما يأنس له ويسكن إليه. فإذا ضاق اللفظ القديم بما عسى أن يتعدد من معاني الشيء الجديد، احتلنا له احتيال أسلافنا؛ وقد رأوا أن يضعوا للغة قواعد تعصم النطق وتقيم اللسان فسموا ذلك العلم نحوا؛ وقلنا ما بالنا نتابعهم متابعة الأرقاء في النقل، ولا نجاريهم مجاراة الأكفاء في الاصطلاح، وإنا إليه في عهدنا لأحوج، وإنا لأولى) .اهـ.
منهج النظر الصحيح في مسألة البطاقة
اعتمد منهج النظر الذي سارت عليه الكتابات الفقهية الاقتصادية في مسألة البطاقة (بما فيها مساهمات الكاتب) على وصف أنواع البطاقات التي يجري التعامل بها وصفا مستمدا من التقسيمات المعتادة في الدراسات الوضعية للبطاقات، ومحاولة الوصول إلى حكم يختص بكل نوع منها، وإدخال هذه التقسيمات في تعريف البطاقة، بيد أن هذه التقسيمات، وإن كانت نافعة ومفيدة في فهم طريقة عمل البطاقات وسبل إصدارها والعلاقات التعاقدية بين أطرافها، فإنها لا تخدم الغرض، بل تحدث بلبلة في الذهن تصرفه عن التصور الصحيح للبطاقة.
إن طريقة النظر المناسبة الموافقة للمنهج العلمي هي، تجريد نموذج البطاقة من التفاصيل الزائدة والاعتماد على الصورة البدائية (الأساسية) التي هي الأصل والتي يجري الاقتصار فيها على الأوصاف التي لو خلت البطاقة من أي منها لم تعد تسمى بطاقة ائتمان. فإذا توصلنا إلى الحكم الملائم على تلك الصورة، بدأنا النظر في الأوصاف الزائدة والتعرف على أثرها على ذلك الحكم ومدى الحاجة إلى إفراد كل صورة من الصور، ذات الأوصاف المختلفة، بحكم خاص.
الوصف الأساس للبطاقة (التعريف) :
العمود الفقري لصيغة بطاقة الائتمان والأساس الذي انبنت عليه (بصرف النظر عن نوعها وعن طريقة إصدارها وعن تفاصيلها الأخرى وما إذا كانت مغطاة أو غير مغطاة
…
إلخ) هو أنها:
اتفاق بين ثلاثة أطراف:
الأول: مصدرها (البنك) .
الثاني: حاملها (الفرد الذي يستفيد من خدماتها) .
الثالث: التاجر الذي يقبلها بدلا عن النقود.
ويرتبط المصدر مع كل من طرفيها الآخرين بعقود مستقلة.
وتتكون العلاقات التعاقدية بين أطرافها الثلاثة من أربع عناصر أساسية:
1-
أن مصدرها ضامن لمن صدرت له البطاقة، تجاه التجار الذين يقبلونها (الكفالة بالمال) بدون أجر على الضمان.
2-
أن مصدرها (الكفيل) لا يدفع للتاجر (المكفول له) كامل مبلغ الدين الذي هو محل الكفالة بل يصالحه على أقل من ذلك المبلغ بنسبة متفق عليها ثم هو (مصدر البطاقة) يرجع على المكفول (حاملها) بما ضمن لا بما أدى.
3-
أن الديون فيها حالة، فالكفيل (مصدر البطاقة) يدفع المبلغ عند أول مطالبة، والمدين (حاملها) يسدد ما عليه للكفيل عند أول مطالبة.
4-
أن لها مدة صلاحية.
هذا هو الوصف الذي تشترك فيها جميع البطاقات الائتمانية بلا استثناء. فإذا خلت من عنصر من العناصر السابقة فإنها لا تسمى عندئذ بطاقة ائتمان، ولو أنها اقتصرت على هذه الصفات لكانت بطاقة ائتمان مكتملة الوصف (1) . وواقع الحال أن آلاف البطاقات تصدر من المؤسسات المالية مقتصرة على هذا الوصف (وليس فيها رسوم إصدار ولا رسوم سنوية) . إلا أن أكثر البطاقات إنما يصدر وقد أضيفت إلى العناصر السابقة وألحقت به ميزات مختلفة، مثل أن تكون مغطاة أو غير مغطاة أو أن يدفع حاملها رسوما سنوية أو أن تكون فضية أو ذهبية، أو أن يكون لها خاصية تأجيل الدين بالفوائد المصرفية أو التأمين على حياة حاملها أو ديونه
…
إلخ مما سيأتي تفصيله لاحقا.
رأينا في البطاقة:
إذا صدرت بطاقة الائتمان بهذه الصفة المذكورة أعلاه واقتصرت على العناصر الأربعة المشار إليها فما الحكم فيها؟.
الجواب عن ذلك معتمد على النظر في كل عنصر من عناصرها الأربعة:
العنصر الأول- الضمان:
الضمان في البطاقة الائتمانية:
أ - كفالة الدين قبل وجوبه.
ب - كفالة معلقة على شرط.
جـ - يصالح فيها الكفيل الدائن على أقل من مبلغ الدين ثم يرجع على المكفول بما ضمن لا بما أدى.
1-
والكفالة بالدين جائزة، جاء في المغني (أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة)(2) .
2-
والكفالة جائزة قبل وجوب الحق فإذا قال الكفيل للمكفول له: بايع فلانا وأنا كفيل بالثمن جاز عند جمهور الفقهاء (3) . وحجتهم في ذلك أن معنى الكفالة يتحقق عند ثبوت الدين وصحة الكفالة معلقة يقتضي صحتها بما سيثبت في الذمة من الدين (4) . قال القاضي عبد الوهاب في المدونة (وإن قال لرجل: داين فلانا وأنا ضامن لما تعطيه جائز ولزمه ضمان ما يداين به مثله)(5)، قال أبو حنيفة:(إذا قال الرجل لرجل: بع فلانا، فما بعته من شيء فهو علي فهو جائز، وإن لم يوقت لذلك وقتا، وإن باعه بألف درهم وأكثر فهو جائز. كذلك لو باعه بالدنانير وكذلك لو باعه بذهب تبرا أو بفضة أو بشيء مما يكال أو يوزن فهو جائز، والكفيل ضامن لذلك)(6) .
(1) ولذلك فإن البطاقات التي تصدرها المحلات التجارية لعملائها تسمى (Store cards) وهي وإن كانت تشبه البطاقات الائتمانية إلا أن لها طرفان فقط.
(2)
كتاب المغني لابن قدامة: (7/72) .
(3)
ولا تجوز الكفالة قبل وجوب الحق عند الشافعي في الجديد لأنها التزام بمجهول فهي غرر.
(4)
علي الخفيف كتاب الضمان في الفقه الإسلامي: (2/68) .
(5)
المصدر السابق: (2/34) .
(6)
ابن جرير الطبري، اختلاف الفقهاء، ص238.
3-
ولا يلزم في الكفالة تحديد مبلغ معين فتجوز الكفالة بالمجهول. جاء في الكافي في فقه الإمام أحمد (ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وحمل البعير يختلف
…
وقد ضمنه قبل وجوبه) (1) ، وجاء في المعونة للقاضي عبد الوهاب (يصح في المعلوم والمجهول خلافا للشافعي)(2) ، ولا يلزم فيها أن يكون الكفيل مدينا للطالب، قال في الإنصاف للمرداوي (ولا يعتبر معرفة الضامن لهما ولا كون الحق معلوما ولا واجبا، فلو قال ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينة به صح)(3) . وقال ابن قدامة في المغني: (وقد دلت مسألة الخرقي على أحكام منها: صحة ضمان المجهول فمتى قال: أنا ضامن لك مالك مع فلان أو ما يقضي به عليه أو ما تقوم به البينة أو يقره لك أو ما يخرج في روزمانجك صح الضمان)(4) .
والضمان في البطاقة فيه جهالة ولكنها يسيرة، فهو محدد بمبلغ معين يفترض أن المدين لا يتخطاه، ومع أن التزام الكفيل (المصدر) تجاه التجار لا يتوقف عند هذا الحد بل يتخطاه إلى كل ما ثبت في ذمة الحامل، فإن لدى المصدر القدرة على إيقاف العمل بالبطاقة بمجرد علمه بتخطي حاملها لذلك الحد فلا يكون ملتزما إلا بما ثبت في الذمة قبل الإلغاء.
(1) الكافي في فقه الإمام أحمد: (2/23) .
(2)
المعونة للقاضي عبد الوهاب: (2/1232) .
(3)
الإنصاف للمرداوي: (5/175) .
(4)
ابن قدامة في المغني: (6/73) .
4-
ويشترط مصدر البطاقة تحقق شروط شكلية في كل معاملة وإلا لم يكون ملزما بالدفع، أهمها التحقق من تاريخ صلاحية البطاقة، ووجود الموافقة من حاملها على الدفع (بالتوقيع على القسيمة أو غير ذلك مما يدل على الرضا) . فإذا لم تتحقق تلك الشروط لم يكن ملتزما بدفع المبلغ إلى التاجر عند المطالبة. والغرض من هذه الإجراءات هو التأكد من ثبوت الدين في ذمة حامل البطاقة.
يمكن القول عندئذ أن كفالة البنك في البطاقة هي كفالة معلقة على شرط ملائم هو ثبوت الدين في الذمة. وقد أجاز جمهور الفقهاء مثل هذا النوع من الضمانات. جاء في مجمع الضمانات: (ويجوز تعليق الكفالة بالشرط مثل أن يقول: ما بايعت فلانا فعلي
…
قال والأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله: إذا استحق المبيع
…
) (1) .
العنصر الثاني:
وللكفيل إذا قضى الدين عن المطلوب أن يصالح الدائن على أقل من مبلغ الدين، فإذا فعل رجع على المكفول بما ضمن لا بما أدى، أي بتمام مبلغ الدين.
ورجوع الكافل على المكفول بما ضمن لا بما أدى، له وجه عند الحنفية في مسألة الصلح على الدين، فقد أجازوا للكفيل أن يؤدي الدين عن المكفول إلى الدائن ويصالحه على أقل من مبلغ الدين، فإذا رضي الدائن كان ما حط عنه من الدين هبة لذلك الكفيل، ثم له أن يرجع على المدين (المكفول) بالمبلغ الأصلي للدين (أي بما كفل) لا بما دفع فعلا إلى الدائن.
(1) مجمع الضمانات على مذهب أبي حنيفة، للبغدادي ص237.
جاء في المبسوط للسرخسي في باب صلح الكفالة:
(ولو صالحه على مائة درهم على أنه إن وهب التسعمائة للكفيل كان للكفيل أن يرجع بالألف كلها على المكفول عنه، لأنه ملك جميع الأصل وهو الألف، بعضها بالأداء وبعضها بالهبة منه، والبعض معتبر بالكل وهذا لأن الهبة تمليك في الأصل فمن ضرورة تصحيحه تحول الدين إلى ذمة الكفيل فلا يبقى للطالب في ذمة الأصيل شيء، ويتحول الكل إلى ذمة الكفيل ثم يتملكها بالهبة والأداء فيرجع بها على الأصيل. ولو صالح الكفيل الطالب على عشرة دنانير أو باعه إياه بعشرة دنانير كان للكفيل أن يرجع على الأصيل بجميع الألف لأنه بهذا الصلح والشراء يتملك جميع الألف ومن ضرورة صحتها تحول الدين إلى ذمة المكفول)(1) .
وجاء في الفتاوى الهندية:
(الفصل الرابع في الرجوع: رجل قال لغيره: اكفل لفلان بألف درهم عني
…
ففعل المأمور فإنه يرجع عليه في هذه المسألة بما دفع في رواية الأصل. كذا في فتاوى قاضيخان: كل موضع صحت الكفالة فيه لو أدى الكفيل ما كفل به من عنده رجع على المكفول عنه ولا يرجع قبل الأداء، وإذا أدى المال من عنده رجع بما كفل ولا يرجع بما أدى حتى ولو أدى الزيوف وقد كفل بالجياد يرجع بالجياد ولو أدى مكان الدنانير الدراهم وقد كفل بالدنانير أو شيئا مما يكال أو يوزن على سبيل الصلاح رجع بما كفل كذا في المحيط) (2) .
وقال في مجمع الضمانات على مذهب أبي حنيفة: (إذا كفل عن رجل بدراهم صحاح جياد فأعطاه مكسرة أو زيوفا تجوز بها رجع على الأصيل بمثل ما ضمن لا بمثل ما أدى)(3) .
(1) المبسوط للسرخسي، باب صلح الكفالة:(3/266) .
(2)
الفتاوى الهندية: (3/266) .
(3)
مجمع الضمانات، للبغدادي، ص282.
وقال: (ولو صالح الكفيل الطالب من الدين الألف على مائة على أن يهب الباقي، يرجع الكفيل على الأصيل بالألف وإن شرط براءة الأصيل خاصة برئا، وإن شرط براءة الكفيل خاصة برئ الكفيل دون الأصيل وكان للطالب أن يرجع على المطلوب بتسعمائة ويرجع الكفيل على المطلوب بمائة وإن لم يشترط براءتهما في الصلح برئا عن تسعمائة)(1) .
العنصر الثالث:
والدين الذي للتاجر حال غير مؤجل، ولذلك جاز للكفيل أن يصالح الدائن على أقل من مبلغه دون أن يكون ذلك من باب ضع وتعجل بالشرط. ولو كان دينا مؤجلا لم يجز، قال في الهداية في باب الصلح بالدين:(ولو كانت له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة لم تجز لأن المعجل من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد فيكون بإزاء ما حطه عنه وذلك اعتياض من الأجل وهو حرام)(2) .
العنصر الرابع:
هذه البطاقة، ومعناها الضمان، لها مدة صلاحية، فهل يكون هذا توقيتا للكفالة؟.
توقيت الكفالة يحتمل معنيين، الأول: أن يكفل الكفيل الدين مدة معلومة محددة حتى إذا قضت تلك المدة برئت ذمته بمضيها وانتهت الكفالة وإن لم يوف الدائن دينه، والثاني أن يكفله خلال مدة معينة، فما تعلق في ذمة المكفول من دين من معاملات تجري خلال هذه المدة، كان الكفيل بها زعيما، وما وقع بعد هذه المدة من معاملات ترتب عليها ديون فلا يكون الكفيل مسؤولا عنها.
أما المعنى الأول فلا يجوز، لأن الذمة إذا اشتغلت بالدين الصحيح لم تبرأ إلا بأدائه أو المعاوضة عليه أو بإسقاط الدائن إياه أو بهبته للمدين (3) . وهذا المعنى غير موجود في البطاقة.
أما المعنى فهو ما يدل عليه مدة الصلاحية، وهو معنى مقبول، فللكفيل أن يوقت ضمانه، وله أن يرجع عنه، فإذا فعل كان ضامنا لما ثبت في ذمة المكفول قبل الرجوع أو قبل انتهاء الوقت. ولذلك أجاز الفقهاء للكفيل أن يرجع عن الضمان قبل المبايعة وأن يعلم المكفول له برجوعه فإن فعل لم يضمن، جاء في المدونة لمالك:(قال شخص لآخر: داين فلانا فما داينته فعلي فلم يداينه حتى أتاه فقال لا تفعل فإنه قد بدا لي، أيكون ذلك له؟ قال نعم حتى إذا داينه لم يلزمه شيء لرجوعه عن كفالته في المداينة)(4)، وجاء في الهندية عن التتارخانية:(ولو رجع الكفيل عن الضمان قبل المبايعة أو نهاه لم يضمن)(5) وتاريخ الصلاحية ما هو إلا إعلام للتجار أنه قد وقت لكفالته وقتا ضمن دين حاملها، وانه بعد هذا التاريخ لا يضمن.
(1) مجمع الضمانات، ص274، وجاء في قواعد ابن رجب، القاعدة السابعة والستون:" ومنها لو قضى الضامن الدين ثم وهبه الغريم ما قضاه بعد قبضه فهل يرجع على المضمون عنه.. ظاهر كلام الأصحاب بأنه لا يرجع.. فأما إن قضى الدين بكماله ثم وهب الغريم منه فلا يبتعد تخريجه على الوجهين ".
(2)
كتاب الهداية، باب الصلح، ص220
(3)
علي الخفيف، الضمان، ص25
(4)
نقله علي الخفيف في كتاب الضمان عن المدونة: (17/110) .
(5)
المصدر السابق: (3/272) .
على ذلك يمكن القول إن البطاقة التي يقوم عملها على ضمان مصدرها لحاملها تجاه التجار الذين يقبلونها بما يثبت في ذمته (أي حاملها) من دين ناتج عن شراء السلع والخدمات ووقت لذلك وقتا، أنها جائزة لا بأس بها وأن الكفيل إذا صالح التاجر (الدائن) على مبلغ يقل عن أصل ذلك الدين ثم رجع على الحامل بمبلغ الدين كاملا، فإن لهذا وجه مقبول.
العلامات التي تدل على أن مبنى البطاقة هو الضمان (الكفالة)، والرد على من قال بأنها حوالة:
لا نجد عند استعراض العقود في البطاقات الائتمانية النص على الكفالة أو الحوالة أو غير ذلك من العقود المسماة في الفقه الإسلامي وما يرد فيها من إشارات فإنها تحتمل معان كثيرة، ذلك أن عقود البطاقات تستمد صيغتها من أصولها الأجنبية المعتمدة بصفة أساسية على القوانين الوضعية الأنجلوسكسونية، وهي بصفة عامة لا تكاد تخرج عن بيان تعهدات كل طرف تجاه الطرف الآخر (مثل أن يوقع على البطاقة، وأن تبقى ملكا للبنك المصدر لها، وأن يخبر البنك عند فقدانها أو سرقتها منه ونحو ذلك (1) وبقراءة مستفيضة لهذه النصوص نجد أن صيغ العقود بحد ذاتها لا تنفي ولا تثبت (بالنص) ولا الحوالة بالتعريف الفقهي. ولكن واقع حال البطاقة وطرق تعامل الناس بها وصفة التعهدات المشار إليها بين أطرافها تدل على أن ما نحن بصدده هو عقد ضمان لا حوالة. من ذلك مثلا:
1-
مبنى البطاقة الائتمانية وأساس عمل الناس بها هي أن حاملها يشتري السلع والخدمات من التجار، وأنه بمجرد استيفاء المتطلبات الشكلية، وأهمها أن تكون بطاقته سارية المفعول (غير منتهية الصلاحية) ، وأن يوقع على القسيمة التي يقدمها له التاجر والمبين فيها ثمن الشراء بمجرد أن يفعل ذلك، يسلمه التاجر ما اشترى دون حاجة إلى دفع الثمن وإنما تنتقل مطالبته إلى البنك المصدر للبطاقة (2) ، وهذا البنك ملتزم التزاما لا رجوع فيه بدفع ذلك المبلغ إلى التاجر إذا توفر الشرطان المذكوران أعلاه. ثم يقوم البنك، بعد دفع المبلغ للتاجر، إلى تحصيله من حامل البطاقة بطرق يجري بيانها فيما بعد.
(1) انظر كتاب credit cards لمؤلفه Ian Lindsey.
(2)
وقد جاء ذلك تعريف المجمع للبطاقة حيث ورد فيه (بطاقة الائتمان: هي سند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الحصول على الخدمات أو تقديمها) مجلة المجمع العدد 8 (2/606) .
لا ريب أن أقرب وصف لما ذكر أعلاه هو الضمان (كفالة الدين) .
فإن قيل: الضمان عند جمهور الفقهاء هو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الدين، فيثبت في ذمتيهما جميعا، فينبني على ذلك انشغال ذمة الكفيل والأصيل بالدين، وللدائن مطالبة أيهما شاء، فإذا كان الأمر كذلك فإن مبنى البطاقة لا يكون الضمان، لأننا لم نعهد في عمل البطاقات أن طالب التاجر (الدائن) حامل البطاقة (المدين) بل هو يقتصر على مطالبة الكفيل (مصدرها) مما يدل على أن انشغال الذمتين بالدين لا يحصل فيها إذ لو كانت ذمتيهما مشغولة بالدين لكان له أن يطالب أيهما شاء، فكيف تعد من الضمان؟ فالجواب عن ذلك أن ما ذكر من ناحية المطالبة هو المعهود فعلا في عمل البطاقات، ولكن ذلك ليس دليلا على عدم انشغال الذمتين.
ذلك أن مصدري البطاقة يلتزمون، ضمن شروط السماح لهم بالإصدار بالوفاء بلا تردد، بمطالبات التجار إذا استوفت المتطلبات الشكلية. ثم إن البنوك التي تصدر البطاقات متضامنة جميعا في كل أنحاء العالم في جمعية واحدة للوفاء بحقوق التجار. ولذلك لا نسمع بحالات عجز فيها البنك عن الدفع فاضطر التاجر إلى مطالبة الأصيل (حامل البطاقة) لكي ينكشف لنا أن ذمته لازالت مشغولة بذلك الدين، ذلك لم يقع، ليس لأن الذمتين ليستا مشغولتين بل لأن البنوك لا تمتنع عن الدفع.
كما أن ذوي الخبرة وأهل الاختصاص في أمور البطاقات لم ينفوا حق التجار في ذلك، وقد ذكرنا آنفا أن نصوص العقود لا يعول عليها في الوصول إلى نتيجة في هذه المسألة.
2-
استند القانون بالحوالة على اعتياد الناس أن التجار لا يطالبون حملة البطاقات بما عليهم بل تكون مطالبتهم للبنوك المصدرة فحسب، فقالوا إن التجار لا يفعلون ذلك لتحول الحق إلى ذمة المصدر وتلك هي الحوالة لأن الحوالة فيها تحول الحق. والتحقيق أن هذا الرأي ليس بسديد للأسباب التالية:
أولا: ما ذكرناه أعلاه بأن عدم انشغال الذمتين لا يسلم لهم، بل هما مشغولتان بالدين، ولم يتحول الدين من ذمة إلى ذمة.
ثانيا: شروط الحوالة التي نص عليها جمهور الفقهاء لا تتحقق فيما نحن بصدده فكيف يقال إنها حوالة؟
قال صاحب المغني: (ومن شرط صحة الحوالة شروط أربعة. أحدها: تماثل الحقين في أمور ثلاثة: الجنس فيحل من عليه ذهب بذهب، ومن عليه فضة بفضة، ولو أحال من عليه ذهب بفضة أو من عليه فضة بذهب لم يصح
…
والصفة، فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح
…
والثالث الحلول والتأجيل ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا
…
لم يصح ولو كان الحقان حالين فشرط على المحتال أن يقبض حقه أو بعضه بعد شهر لم تصح الحوالة، الشرط الثاني: أن تكون على دين مستقر
…
وإن أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة بل هي وكالة
…
وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة أيضا نص عليه أحمد فلا يلزم المحال عليه الأداء ولا المحتال قبول ذلك لأن الحوالة معاوضة ولا معاوضة هاهنا وإنما هو اقتراض.. لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين.. الشرط الثالث: أن تكون بمال معلوم..) (1) .
وقال المرداوي في الإنصاف عن الحوالة: (ولا تصح إلا بثلاثة شروط: أحدها: أن يحيل على دين مستقر.. والثاني اتفاق الدينين في الجنس والصفة والحلول والتأجيل، والثالث: أن يحيل برضاه)(2) .
(1) المغني لابن قدامة: (7/56) .
(2)
الإنصاف للمرداوي: (5/187) .
وجلي أن مسألتنا تختلف عن وصف الحوالة المذكور وشروطها الأربعة المذكورة لا تتحقق في العلاقة بين البنك وطرفي البطاقة الآخرين وهما حاملها والتاجر الذي يقبلها، وبخاصة في البطاقة غير المغطاة التي سيأتي بيانها إذ لا دين لحاملها على مصدرها. جاء في شرح الخرشي علي خليل عن الحوالة:(ومن شروطها ثبوت دين للمحيل في ذمة المحال عليه وإلا كانت حمالة عند الجمهور قاله الباجي ولو وقعت بلفظ الحوالة)(1) ولا تتحقق الحوالة حتى في البطاقة المغطاة ذلك أن التزام مصدرها لايتوقف على مقدار ما في الحساب من أموال حاملها كما أسلفنا.
ثالثا: وحتى لو صح قولهم بانتقال الحق من ذمة حامل البطاقة إلى ذمة مصدرها فلا يسلم أنها لا تكون كفالة، إذ يبقى للقول أنها من الضمان وجه. ذلك أن من الفقهاء من قال بانتقال الحق حتى في الكفالة. نقل صاحب المغني:(وقال أبو ثور: الكفالة والحوالة سواء وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود)(2) وهي رواية عن أحمد، قال في المقنع: وذمة المضمون لا تبرأ قبل القضاء في أصح الروايتين وهو المذهب وعليه الأصحاب، والرواية الثانية يبرأ بمجرد الضمان نص عليه (3) وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب البيوع والأقضية (باب من قال الكفالة والحوالة سواء) ذلك عن الحسن وابن سيرين ونقل ابن جرير الطبري في اختلاف الفقهاء (الكفالة والضمان والحوالة معنى واحد وفي ضمان الضامن للمضمون له ما على غريمه وقبول الضمان منه براءة المضمون عنه من المال ووجوبه على الضامن) (4) وقال ابن المنذر في الإشراف:(وكان أبو ثور يقول: الكفالة والحوالة سواء ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين، وبه قال ابن أبي ليلى)(5) . وحجة من قال بمثل هذا القول ما روى أبو سعيد الخدري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت قال هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان، فقال:((صلوا على صاحبكم)) قال علي: هما علي يا رسول الله وأنا لها ضامن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي فقال:((جزاك الله خيرا عن الإسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك، فقيل يا رسول الله هذا لعلي خاصة أم للناس عامة؟ فقال: للناس عامة)) ..فدل على أن المضمون عنه برئ بالضمان.
(1) شرح الخرشي علي خليل: (6/17) .
(2)
المغني لابن قدامة: (7/84) .
(3)
المقنع: (2/112) ؛ والإنصاف: (5/190) .
(4)
مصنف ابن أبي شيبة؛ ص168.
(5)
الإشراف لابن المنذر: (2/51) .
3-
وقد اعتادت البنوك أن تطلب من التجار أخذ الموافقة هاتفيا أو إلكترونيا إذ زاد مقدار الثمن في البيع الذي تستخدم فيه البطاقة عن مبلغ معين، فقالوا هذا يدل على أنها حوالة إذ يجري من خلال هذا الاتصال قبول الحوالة، وليس الأمر كذلك إذ لا يغير هذا الاتصال من الأمر شيئا. والواقع أن الاتصال ما هو إلا وسيلة للتأكد من أن حامل البطاقة لم تزدد ديونه عن الحد الأعلى المتفق عليه، وليس للبنك حق الرفض عند أخذ التاجر الموافقة مادام أن ديون حامل البطاقة هي دون ذلك الحد أي أن استخدام حاملها لها هو ضمن نطاق المبلغ المسموح به. وفي الحالات التي يمكن التأكد إلكترونيا من ذلك فلا حاجة حتى إلى الاتصال.
وعلى أية حال فالبنك ملتزم بالدفع عندما يجري استخدام البطاقة حيث لا يمكن الاتصال مثل أن تكون على ظهر السفينة أو على متن الطائرة.
4-
وتكشف طريقة استخدام الناس البطاقات، إدراكهم لهذا الجانب من عمل البطاقة إذ أنهم يستعملونها في كثير من الأحيان للاستفادة من جانب الضمان فيها، فتراهم عند استئجار السيارات أو السكن في الفنادق يقدمون البطاقة، فإذا تحدد المبلغ في نهاية الاستخدام دفعوا ما عليهم نقدا فكانت البطاقة كفالة ظاهرة وليست وسيلة دفع ولو كانت حوالة لتحول الحق إلى البنك. ولكنها لما كانت كفالة انشغلت ذمة الأصيل والكفيل بالدين وكان لأي منهما أن يسدده. ولعل هذا سبب اتجاه الناس إلى حمل عدد من البطاقات مع عدم استخدامهم لها في الشراء، إذ يكتفون بالاستفادة من جانب الضمان فيها فحسب، ولو كانت حوالة لم ينتفع بها حاملها إلا بعد المداينة.
البطاقة المغطاة
واختلاف البطاقة المغطاة عن الوصف المذكور سابقا هو في اشتراط مصدر البطاقة على حاملها أن يودع لديه في حساب مصرفي مبلغا من النقود. فالغطاء معناه هذا المبلغ المودع لدى المصرف، ويتضمن اتفاق البنك مع عميله ألا يستخدم الأخير البطاقة في مشتريات تزيد عن ذلك المبلغ. لكن التزام البنك بالدفع للتجار مستقل عن هذا الترتيب ولا أثر له فيه. فإذا تلقى المصدر فواتير التجار اقتطع من ذلك المبلغ لتسديدها.
إلا أن ما يجب الانتباه إليه هو أن ضمان البنك في حالة هذه البطاقة المغطاة لا يقتصر على ذلك المبلغ المودع لديه بحيث يمتنع البنك عن الدفع إلى التجار لو تجاوز حامل البطاقة ذلك المبلغ بل يبقى حاملها مضمونا من قبل المصدر بمقدار استخدامه للبطاقة (وليس بمقدار ذلك المبلغ المودع في الحساب) . ذلك أن التزام المصدر تجاه التجار هو بضمان كل مبلغ يتعلق بذمة حاملها بصرف النظر عما إذا كانت مغطاة أم غير مغطاة، وليس بوسع التاجر أن يحتاط في تعامله مع حملة البطاقات بالتفريق بين المغطاة وغير المغطاة ولا حاجة له إلى ذلك، إذ لا سبيل إلى معرفة التاجر نوع البطاقة بمجرد النظر إليها بل إن اتفاقه مع البنك المصدر يقوم على أن كل بطاقة استوفت الشروط تحقق من خلالها ضمان البنك.
فإن قيل: كيف يمكن لحامل مثل هذه البطاقات أن يتجاوز حد المبلغ المتفق عليه مع البنك مع أن استخدام البطاقة يتطلب الموافقة الإلكترونية المسبقة. فالرد: أن هذه الموافقة ليست متطلبا للمشتريات ذات المبالغ القليلة، إذ أن البنوك إنما تشترط الحصول على الموافقة إذا زاد المبلغ عن مستوى معين (100 دولار مثلا) أما ما قل عن ذلك فهو مضمون بلا موافقة. ولذلك يعمد بعض حملة البطاقات عند تجاوزهم الحد الأعلى للبطاقة إلى الشراء من محلات كثيرة بمبالغ ضئيلة لا تحتاج إلى موافقة، ثم تتراكم فتزيد عن المبلغ المودع في الحساب في البطاقة المغطاة. ولكن البنك ملتزم بدفع كل المطالبات، لأنه قد ضمن حاملها تجاه التاجر. فدل هذا على أن الضمان هو عماد عمل البطاقات حتى المغطاة منها.
أما الصفات الأصلية التي أشرنا إليها آنفا فهي باقية في هذه البطاقة، إذ تبقى العلاقة التعاقدية بين أطرافها وهي ضمان المصدر لحاملها تجاه التجار بما يثبت في ذمته من دين وأن المصدر يؤدي أقل من مبلغ الدين ثم يرجع على المكفول بما كفل لا بما أدى.
البطاقة غير المغطاة
ووصفها مطابق لما ذكرناه من صيغة أصلية للبطاقة (العناصر الأربعة) وتختلف عن البطاقة السابقة في أن المستفيد منها (أي حاملها) ليس مطلوبا منه أن يودع لدى المصدر (الكفيل) أي مبلغ من المال بل يكون ضمانا محضا، وتنقسم البطاقة غير المغطاة إلى قسمين:
1-
البطاقة غير المغطاة مع (فترة سماح) :
وتختلف عن الصورة الأصلية (العناصر الأربعة) من ناحيتين:
الأولى: أن المصدر يعطي حاملها (أي أن الكفيل يعطي المكفول) بعد أن يكون قد سدد الدين إلى التاجر فترة سماح تترواح بين شهر إلى (40) يوما تبدأ من تاريخ المطالبة (وأحيانا من تاريخ ثبوت الدين في ذمة حامل البطاقة وهو تاريخ عملية الشراء بالبطاقة) . وهو يقدم له فترة السماح المذكورة دون مقابل فلا تحسب عليه الفوائد، فإذا لم يدفع ما عليه خلال هذه المدة، ألغيت عضويته وسحبت منه البطاقة.
والثانية: أن هذه البطاقات لا تصدر إلا برسوم إصدار فاختلفت عن النموذج الأساس الذي افترض فيه عدم وجود هذه الرسوم، وسيأتي الحديث فيما بعد عن رسوم الإصدار. ولا يمثل هذا النوع من البطاقات أكثر من (20 %) من مجمل بطاقات الائتمان في العالم. ولعل سبب ذلك يعود إلى أنها لا تصلح إلا لفئات الأثرياء وذوي الغنى، إذ أن مقصود حاملها هو بصفة أساسية الضمان (كفالة البنك له) ، وتسهيل الإجراءات في البيوع والخلوص من حمل النقود، ولذلك تسمى هذه البطاقات أحيانا (Convenience Card) أي بطاقة الراحة، ولأنها لا تولد الفوائد الربوية لمصدرها، يعتمد المصدرون لهذا النوع من البطاقات في دخولهم على رسوم الإصدار وعلى نسبة من التجار.
شرط الفائدة في هذا النوع من البطاقات:
ليست الفوائد جزءا من عمل هذا النوع من البطاقات، ولا تعد مصدر دخل لمصدرها. بيد أن علينا أن ندرك أن حامل البطاقة إذا لم يسدد المبالغ الثابتة عليه في الأجل المحدود، وترتب على ذلك إلغاء عضويته كما سبق ذكره، فإن المصدر سوف يلاحقه قضائيا لدفع تلك المبالغ. عندئذ ستفرض عليه الفوائد التأخيرية إذا كان النظام العام في البلد الذي صدرت فيه البطاقة يسمح بمثل ذلك ولكن مثل هذه الفوائد هي في واقع الأمر خارج نطاق العلاقة الأصلية بين مصدر البطاقة وحاملها إذ أنها عندما تفرض تكون العلاقة بينهما قد تبدلت.
2-
البطاقة غير المغطاة مع تقسيط الدين:
وتختلف البطاقة المغطاة مع تقسيط الدين عن الصورة الأصلية (العناصر الأربعة) في أن حاملها لا يطلب منه أن يسدد لمصدرها ما عليه من دين دفعة واحدة بل له أن يسدده مقسطا بحسب طاقته، فلسان حال مصدرها يقول لحاملها عند المطالبة: إن شئت سدد ما عليك خلال فترة كذا (أسبوعان..إلخ) ، وإن شئت زدت لك في الأجل وتزيد لي في الدين بنسبة فائدة متفق عليها تحسب على أساس يومي للمبالغ التي لم تسدد. ويستمر حساب الفوائد حتى يجري تسديد المبلغ كاملا، فإن سدد ما عليه دفعة واحدة عند أول مطالبة لم تفرض عليه الفوائد، وإن قسط الدين حسبت عليه الفوائد بمقدار المبلغ والأجل.
وأكثر بطاقات الائتمان على هذه الشاكلة، بل أنه إذا قيل (بطاقة الائتمان) لم ينصرف الذهن إلا إلى هذا النوع من البطاقات.
ويقتصر أكثر البنوك على إصدار هذا النوع من البطاقات، وتمثل إيرادات الفوائد من هذه البطاقات المورد الأول للدخل للمصدرين، وكثيرا ما يصدر هذا النوع من البطاقات بلا رسوم ويعفى حملتها من بدل العضوية فيكتفي المصدر (بالإضافة إلى ما يحصل عليه من التجار) ما يحصل عليه من الفوائد، وبخاصة أن الفوائد على بطاقات الائتمان عالية جدا (مقارنة بالفوائد على القروض) .
لا ريب أن مثل هذه البطاقة لا يجوز إصدارها ولا يجوز التعامل بها لما تتضمنه من الربا الصريح في صيغة (أتقضي أم ترابي) وذلك ربا الجاهلية المقطوع بحرمته.
الرسوم في البطاقات
تصدر أكثر البنوك بطاقات الائتمان مقابل رسوم، في حين أن جزءا لا يستهان به من هذه البنوك يصدر مجانا (بلا رسوم) .
ولا تختلف الرسوم بحسب نوع البطاقة أنها مغطاة أو غير مغطاة
…
إلخ (وهذه نقطة هامة) بل تختلف الرسوم باختلاف البنوك والأسواق ومستوى المنافسة بين المصدرين لها، فتتنوع وتتعدد، وربما فرض المصدر واحدا أو أكثر من هذه الرسوم (مجتمعة أو متفرقة) . ويمكن القول إجمالا إن هذه الرسوم هي كما يلي:
1-
الرسوم التي يدفعها حملة البطاقات:
أ - رسم الاشتراك: وهو مبلغ مقطوع يفرض مرة واحدة عند إصدار البطاقة.
ب - رسم التجديد: يفرضه المصدر على حامل البطاقة مقابل استمرار سريان مفعولها، مرة في كل سنة، وهو مبلغ مقطوع أيضا.
جـ- رسم يفرض على كل معاملة: لما كان كثير من الناس يحب أن يحمل بطاقات متعددة مع أنه لا يستخدم أكثرها إلا نادرا لا يمنعه من ذلك إلا الرسوم، ورغبة من البنوك في تشجيع الأفراد على ذلك فقد اتجه بعضها إلى جعلها مجانية (أو برسوم متدنية) من حيث رسوم الإصدار والتجديد، وفرض عليها رسوما مرتبطة بالاستخدام بحيث إنه لو حملها بدون أن يستعملها لم يدفع رسوما (أو دفع رسوما قليلة) ، وتكون على صفة مبلغ مقطوع (دولار مثلا) على كل مرة تستخدم فيها البطاقة بصرف النظر عن المبالغ التي ترتبت على الاستخدام.
هل يمكن اعتبار شرط الفائدة في البطاقة غير المغطاة من الشروط الباطلة التي تسقط ويصح العقد:
سبق الإشارة إلى أن بطاقة الائتمان غير المغطاة بصيغتها الأصلية المكونة من العناصر الأربعة المشار إليها في (ص533) لا بأس بها من ناحية المشروعية، أما البطاقة المغطاة مع تقسيط الدين ففيها اشتراط الفائدة على المبالغ التي تترتب في ذمة حامل البطاقة في حال رغبته في زيادة الأجل وذلك من ربا الجاهلية المقطوع بحرمته. وقد اتجه بعض الأفاضل إلى القول بجواز التعامل بهذه البطاقة مع وجود الشرط إذا قرر الحامل عدم العمل بالفوائد لأن مثل هذا الشرط من الشروط التي تسقط ويبقى العقد صحيحا، فإذا قرر حامل البطاقة ألا يقع تحت طائلة دفع الفوائد وذلك بتسديد ما عليه في الأجل المتاح دون زيادة يمكننا اعتبار ذلك إسقاطا للشرط قياسا على مسألة بريرة المشهورة. والذي نراه أن مثل هذا لا يصلح من الناحية الشرعية ولا يفيد من الناحية العملية للأسباب التالية:
1-
فقد أجمع الفقهاء على أن الشرط الذي يؤدي إلى أمر غير مشروع (في عقد مشروع) يكون باطلا، واختلفوا في حكمه. فمنهم من قال بفساد العقد ومنهم من قال يبطل الشرط ويصح العقد قياسا على ما جاء في خبر بريرة. فإن قلنا بالرأي الأول أبطلنا العمل بالبطاقة التي يتضمن عقدها هذا الشرط، أما إذا قلنا بالرأي الثاني صح العقد وبطل الشرط إلا أن هذا الإبطال للشرط يجب أن يكون إبطالا حقيقيا، وإبطال الشرط في العقد (بحيث يصح العقد) إنما يكون كما يلي:
أن يكون إسقاط الشرط من من قبل المشروط له (وليس المشروط عليه) ، فإن كان العقد في أصله جائزا وإنما دخله الفساد من هذا الشرط، رجع العقد بإسقاط المشترط للشرط إلى أصله في الجواز، أما إسقاط المشروط عليه للشرط بغير رضا المشترط فلا يترتب عليه صحة العقد. والزيادة الربوية مقصودة بذاتها في عقد البطاقة ومشروطة للمصدر فلا يسقطها (في البطاقة غير المغطاة ذات الدين المقسط) . فامتناع حامل البطاقة عن دفعها بغير رضا المصدر ليس إسقاطا للشرط، إلا أن يكون المسقط في بلد تمنع التعامل بالفائدة. عندئذ يكون امتناع المشروط عليه من تنفيذ الشرط وإسقاطه له بغير رضى المشترط (وإنما يحكم الشرع الذي يبطل مثل هذه الشروط) وهي مسألة بريرة المشهورة.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة في الحديث المشهور: ((اشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق)) .
فكأن لسان حال حامل البطاقة في مسألتنا يقول لمصدرها (اشترط ما شئت، فليس للدائن على المدين إلا ما يثبت في ذمته) . لكن هذا الامتناع لا أثر له إذا لم يكن في البلد محاكم تقضي بحكم الشرع، فيكون قبول حامل البطاقة بصيغة القرض التي تضمن شرط الزيادة مبني على ثقته إلى أن هذا الشرط ساقط لا أثر له ضمن النظام العام الذي يحكم بفساده.
فإذا لم توجد مثل هذه المحاكم وكان النظام العام في البلد يقبل الفوائد المصرفية وكانت المحاكم تحكم بها، كان إسقاط المشروط عليه (وهو حامل البطاقة) هذا الشرط بإرادته المنفردة وقد دخل في العقد راضيا به قابلا بالشرط فيه، طريقا إلى المنازعة بينهما، فدخل الفساد إلى هذا العقد من باب آخر وهو:
أن كل عقد يفضي إلى المنازعة فهو مظنة الفساد.
2-
أن المسقط لهذا الشرط من حملة البطاقات، لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا بالحرص على دفع ما عليه من دين إلى المصدر (الكفيل) بمجرد المطالبة حتى لا تترتب عليه الفوائد، فهو في واقع الأمر لا يسقط الشرط وإنما يتفادى الوقوع تحت طائلة الفوائد التي تفرض عليه إذا لم يبادر بدفع ما عليه حال المطالبة، فإذا فعل ذلك انقلبت البطاقة إلى النوع الأول وهو (البطاقة غير المغطاة مع فترة سماح) ، فكان الأولى به أن يحصل على تلك البطاقة فيخرج من الإشكال. ولذلك قلنا إن مثل هذا الإسقاط لا معنى له من الناحية العملية.
أما إن كان ينوي بإسقاطه الشرط من جانب واحد أن لا يلتزم بتسديد ما عليه عند المطالبة بل يتمتع بالتأجيل المشترط فيه دفع الفوائد ثم يمتنع عن دفعها، فمثل هذا لا يصلح من ناحيتين؛ الأولى: أنه نوع من المطل الذي نهى عنه. فقد ورد في الحديث ((مطل الغني ظلم)) وعنه صلى الله عليه وسلم: ((ليُّ الواجد يبيح عرضه وعقوبته)) .
فليس له أن يفعل ذلك، والثانية: أنه يعلم أن مصدرها لا يقبل مثل ذلك، ولو علم بنية حاملها لم يصدرها له. من هذا يتضح أن إسقاط هذا الشرط من جانب حامل البطاقة منفردا لا فائدة منه من الناحية العملية.
الرسوم التي يدفعها التجار:
قد ذكرنا سابقا مصدر البطاقة لا يدفع للتاجر (المكفول له) كامل مبلغ الدين الذي هو محل الكفالة، بل يقتطع منه نسبة متفقا عليها، وتختلف هذه النسبة من مصدر إلى آخر بحسب أحوال السوق والمنافسة، ويتأثر تحديد هذه النسبة بعدة اعتبارات، منها نوع الفئة من العملاء التي تحل البطاقة، فإذا كانت في الغالب فئة الأغنياء وذوي الثراء مثل بطاقة (داينرز كلوب أو أمريكان إكسبريس) ، عرف المصدر حصر التجار على البيع لحملتها فزاد عليهم النسبة. وربما رغب المصدر في عدم تشجيع العملاء على استخدام البطاقة.
هل تكون الرسوم في البطاقة أجرا على الضمان؟:
قد سبق بيان أن البطاقة – في رأينا – مبناها على الكفالة. فهل تكون الرسوم التي يحصل عليها البنك من حملة البطاقات أو من التجار أجرا على الضمان فخالف في ذلك إجماع العلماء بعدم جواز الأجر على الضمان؟
الأصل في الكفالة أنها من عقود التبرعات. قال في المبسوط: (قال أبو حنيفة ومحمد: الكفالة تبرع)(1) ، وقد أجمع الفقهاء على أن الأجر على الضمان لا يجوز.
قال ابن المنذر في الإشراف: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحمالة بجعل يأخذه الجميل لا تحل ولا تجوز)(2) . وقال الكمال بن الهمام: (إذا كفل شخص دينا لآخر على أن يجعل له الدائن جعلا على كفالته فالكفالة باطلة)(3) .
وقال في منح الجليل: (إذا أخذ الكفيل جعلا على كفالته سواء أكان ذلك من الدائن أم من المدين أم من غيرهما فالكفالة باطلة، وقيل: لا تبطل الكفالة إلا إذا كان الجعل من الدائن أو كان من غيره بعلم الدائن، أما إذا كان من المدين فإنها تصح ويلزم الكفيل برد الجعل إليه لأخذه باطلا)(4) .
(1) المبسوط للسرخسي: (19/170) .
(2)
الإشراف لابن المنذر: (2/52) .
(3)
فتح المجيد: (5/406) .
(4)
نقله علي الخفيف عن فتح الجليل: 3/265.
وليس في القول بعدم جواز الأجر على الضمان نص من كتاب أو سنة.
وإجماع الفقهاء على القول فيه بالحرمة معلل بعلة نص عليها بعضهم وهي: أن الكفيل إذا سدد عن المكفول انقلبت العلاقة بينهما إلى المداينة، فإذا رجع الكفيل على المدين بما ضمن وكان أخذ أجرا يكون قد رجع عليه بأكثر من مبلغ الدين، فقالوا هذا من القرض الذي جر نفعا وهو ممنوع.
قال ابن عابدين: (لأن الكفيل مقرض في حق المطلوب وإذا شرط له الجعل مع المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه فهو باطل لأنه ربا)(1) . وقال ابن قدامة في المغني: (لأن الكفيل يلزمه الدين فإذا أداه وجب له على المكفول عنه فصار كالقرض فإذا أخذ عوضا صار القرض جارا للمنفعة فلم يجز)(2) .
ويمكن القول عندئذ أنه حينما وجدت هذه العلة فثم المنع المجمع عليه وحيثما انتفت كان في الأمر سعة، فإذا كان الضمان غير مفض إلى ما ذكر، فهو على أصل الإباحة. وبناء عليه يمكن القول:
(1) نقله د. نزيه حماد عن منحة الخالق على البحر الرائق: (6/242) ؛ انظر الضمان (بحث غير منشور) .
(2)
المغني لابن قدامة: (6/441) .
1-
إن الرسوم التي تستقطع من التجار ليست من الأجر على الضمان، ولو كانت فليس هذا هو الأجر الممنوع، ذلك لأن الأجر الممنوع إنما يدفعه المكفول، وليس المكفول له. ولا يعد إذا دفعه المكفول له من الأجر الممنوع، لأن العلة التي أشرنا إليها آنفا (وهي انقلاب الكفالة إلى مداينة فتصبح من القروض التي تجر نفعا) هذه العلة لا توجد في حال كون الأجر مدفوعا من قبل المكفول له، فالكفيل إذا سدد الدين عن المكفول فإنه يكون أمام التاجر مدينا فما أخذ منه زيادة على الدين (الأجر على الكفالة) لا يدخل في باب الربا، لأن الربا يدفعه المدين إلى الدائن وهنا دفعه الدائن إلى المدين. وعلاقة الكفيل بالمكفول قد انقلبت عند التسديد إلى مداينة، لكن الكفيل لا يأخذ من المكفول إلا مبلغ الكفالة بلا زيادة، فلم تقع الكفالة في محظور القرض الذي جر نفعا.
2-
أما الرسوم التي يدفعها حامل البطاقة إلى مصدرها، فلا شك أنها من الأجر على الضمان. فإذا قلنا لا يجوز الأجر على الضمان، كان علينا أن تقصر الصيغة الجائزة للبطاقة على تلك التي لا رسوم فيها على حاملها إلا ما كان من تلك الرسوم مقابلا بتكاليف إصدار أو مراسلات أو نحو ذلك.
وقد اتجه بعض الفقهاء المعاصرين إلى القول بما تقرر عنه جمهور الفقهاء من جواز انقلاب عقود التبرعات إلى معاوضات بالتراضي، ومن ثم لا يمتنع شرعا أن ينقلب محض الالتزام في الكفالة بالمال وإن كان الأصل فيه التبرع إلى معاوضة إذا اشترط ذلك لأن في الالتزام مصلحة مشروعة كسائر المنافع والمصالح المعتبرة المتقومة فجاز أخذ الأجر عليه، كما أجاز الفقهاء قديما الأجر للإمام والخطيب والمؤذن والشاهد ومعلم القرآن والفقيه إذا احترفوا وأعرض الناس عن التطوع والتبرع (1) . ولهذا الرأي من الوجاهة في يوم الناس هذا ما لا يخفى.
(1) انظر د. نزيه حماد: مدى جواز أخذ الأجر على الكفالة في الفقه الإسلامي.
استخدام البطاقة خارج منطقة المصدر:
بطاقات الائتمان المنتشرة في العالم من حيث سمتها التجارية قليلة لا تصل في مجموعها إلى عشرة، بعض هذه البطاقات قليل الانتشار وتلك هي البطاقات المملوكة لشركات تنفرد بتسويقها وإدارتها. وأخرى منظمة على صفة جمعيات تعاونية، يصبح عضوا في الجمعية كل مصرف يرغب في إصدار البطاقات وتكون حقوق الأعضاء فيها متساوية. ومن أهم أمثلة النوع الأخير بطاقتي فيزا وماستر كارد اللتين تسيطران على أكثر من (80 %) من المبيعات بالبطاقة في العالم، ولقد جاء تأسيس هذه الجمعيات رغبة في جعل البطاقة عالمية، وإتاحة الفرصة لكل مصرف يرغب في إصدارها أن يفعل بمجرد أن يشترك في هذه الجمعية، لكن الأهم من ذلك هو أن تكون البنوك المصدر للبطاقة متضامنة جميعا في كفالة مستخدمي البطاقة.
ولكل مصدر للبطاقة منطقة (سوق) يرتبط فيه بعلاقة مباشرة مع التجار العاملين فيها والأفراد الذين يحملون البطاقة، ولكنه في نفس الوقت يصبح وسيطا لعملائه التجار في تحصيل المبالغ المترتبة في ذمم حملة البطاقات الصادرة من جهات أخرى خارج أو داخل منطقته.
على ذلك فإن الترتيب الذي أشرنا إليه آنفا، كثيرا ما يتوسع ليشترك فيه أكثر من بنك. فإذا استخدم حامل البطاقة الصادرة من بنك في المملكة العربية السعودية بطاقة لشراء سلع في مدينة نيويورك الأمريكية، فإن التاجر سوف يقدم قسائم المطالبة إلى مصرفه في تلك المدينة، ثم يقوم هذا المصرف بتقديم قسائم المطالبة إلى مصرف معين من قبل الجمعية في نيويورك، ثم يقوم الأخير بمطالبة البنك مصدر البطاقة بذلك المبلغ، ويتم جميع ذلك بالاتصالات الإلكترونية.
ولكن كل مصرف مشترك في هذه العملية يحصل على جزء من المبلغ المقتطع من فاتورة التاجر. وكل بنك يشترك في هذه العملية فهو مشترك في الكفالة، ذلك لأن التاجر الذي يقدم قسائم المطالبة إلى مصرفه في نيويورك، يحصل مباشرة على المبلغ (بعد حسم الجزء الخاص بالمصدر) ، لأن ذلك المصرف ضامن للمصارف الأخرى المشتركة في النظام.. وهكذا.
يمكن القول عندئذ إن استخدام البطاقة خارج منطقة مصدرها لا يغير من طبيعته شيئا فهي تبقى بطاقة مبناها الكفالة، إلا أنه يدخل فيما تضامن عدد من الكفلاء من جهة، وكفالة الكفيل من جهة أخرى.
هل من بديل مشروع لبطاقات الائتمان غير المغطاة
(ذات الدين المقسط) ؟
قد ذكرنا آنفا أن بطاقة الائتمان التي عليها المعول في معاملات الناس المعاصرة هي البطاقة غير المغطاة التي تسمح لحاملها بتقسيط الدين. وأن هذا النوع من البطاقات يمثل أكثر من (80 %) من بطاقات الائتمان في العالم، كما أن معدلات النمو العالية إنما هي في هذا النوع من البطاقات. وقد بينا أن إصدار هذه البطاقة والتعامل بها غير جائز لوجود شرط الربا الجاهلي فيها على صفة (أتقضي أم ترابي) . فهل من بديل مشروع لهذه البطاقة؟.
من المسلم أن نشاط البنوك التقليدية هو الديون، ومصدر إيراداتها هو الربا. والبطاقة الائتمانية من هذا النوع ليست إلا امتدادا لصنف النشاطات التي تمارسها البنوك وهو الديون والمراباة. فلما جاءت البنوك الإسلامية أدركت أهمية الوساطة المالية في حياة المجتمعات المعاصرة وهي الوظيفة الأساسية التي تقوم بها المصارف، وأن المسلمين يحتاجون إلى عمل البنوك فاستبدلت البيع بالربا، فجاءت مؤسسات للوساطة المالية تعمل ضمن المباح، وبينما تقرض البنوك عملاءها لأغراض الاستهلاك والإنتاج قروضا ربوية، تقوم البنوك الإسلامية بممارسة البيوع من مرابحة وسلم واستصناع. فهل يمكن لنا تطوير صيغ البيع لكي تنهض بحاجة المسلمين إلى بطاقة الائتمان ضمن نطاق المباح؟
بطاقة المرابحة:
المرابحة من بيوع الأمانة التي يتحدد فيها ربح البائع اعتمادا على علم المشتري ثمن شرائه السلعة، وبيع الأجل من البيوع الجائزة التي عمل بها المسلمون قديما، والوكالة من العقود المشروعة. فإذا جمعنا هذه الثلاثة، توصلنا إلى صيغة قابلة للتطبيق في بطاقات الائتمان بحيث تخرج لنا بطاقة ذات دين مؤجل مقسط. كما يلي:
يصدر البنك بطاقة (نسميها بطاقة المرابحة) لعميله ويترتب على ذلك توكيل البنك عملية الشراء نيابة عنه، ثم البيع لنفسه وكالة عن البنك بيعا مؤجلا بأجل محدد متفق عليه أن يدفع الثمن مقسطا، ويكون البيع الثاني بزيادة متفق عليها (5 % مثلا) هي ربح بيع المرابحة.
هذه الصيغة بديل تام لبطاقة الائتمان ذات الدين المقسط، وهي تعتمد في مشروعيتها على العقود الثلاثة المشار إليها أعلاه. والعمل بالمرابحة وبيع الأجل مقسط الدين قد أصبح فاشيا مستفيضا في حياة الناس المعاصرة، وضمن الصيغة المقترحة يتولى حامل البطاقة طرفي العقد فهو يشتري نيابة عن البنك ثم يبيع على نفسه وكالة عنه أيضا فيكون بائعا ومشتريا. ومن الفقهاء من منع مثل هذه الوكالة، وعلة المنع عندهم هي استرخاص الوكيل لنفسه والاستقصاء لموكله لأن الإنسان مجبول على تغليب حظ نفسه على حظ غيره فاجتمع فيها غرضان متضادان، إلا أن الصيغة المقترحة ليس فيها ذلك إذ تعتمد على المرابحة وذلك لا يقع إلا في المساومة، ومن ثم كان كل شراء يجريه حامل البطاقة بثمن يتبعه بيع بنفس الثمن وزيادة ربح، فانتفت علة القول بعدم جواز هذه الوكالة.
وقد أجاز الحنابلة على الصحيح من المذهب توكيل الشخص غيره بالبيع أو الشراء من نفسه لنفسه. جاء في شرح منتهى الإرادات: (ولا يصح بيع وكيل لنفسه.. (ولا) يصح (شراؤه منها) .. (إلا أن أذن) موكل لوكيله في بيعه لنفسه أو شرائه منها (فيصح) للوكيل إذا (تولى طرفي العقد فيها كأب صغير) ونحوه إذا باع من ماله لولده أو اشترى منه له) (1) .
وقال في المقنع: (ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع لنفسه وعنه يجوز إذا زاد على مبلغ ثمنه في النداء)(2) . وجاء في المغني (وإذا أذن للوكيل أن يشتري من نفسه جاز له ذلك وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين: لا يجوز، لأنه يجتمع له في عقده غرضان الاسترخاص لنفسه والاستقصاء للموكل هما متضادان فتمانعا، ولنا أنه وكل في التصرف لنفسه فجاز كما لو وكل المرأة في طلاق نفسها ولأن علة المنع هي من المشتري لنفسه في محل لاتفاق التهمة لدلالتها على عدم رضى الموكل بهذا التصرف
…
وقد صرح هاهنا بالإذن، فلا تبقى دلالة الحال مع نصه بلفظه على خلافه وقولهم إنه يتضاد مقصودة في البيع والشراء، قلنا: إن عين الموكل له الثمن فاشترى به فقد زال مقصود الاستقصاء وأنه لا يراد أكثر مما حصل وإن لم يبين فثمن المثل..) (3)
فالوكالة التي يتولى الوكيل فيها طرفي العقد في الصيغة المقترحة ليس فيها استرخاص، ولا استقصاء، وفيها إذن الموكل للوكيل بالتصرف ورضا طرفيها بما يقع من بيوع وديون بناء عليها.
فإذا وقع البيع وثبت الدين كان لحامل البطاقة أن يدفعه مقسطا على عشر دفعات مثلا أو بما اتفق عليه، فحصل لهذا العميل ما يريد من الائتمان وهذا بديل مشروع عن بطاقة الائتمان غير المغطاة ذات الدين المقسط.
والله سبحانه وتعالى أعلم
(1) شرح منتهى الإرادات: (2/309) .
(2)
المقنع: (2/152) .
(3)
المغني لابن قدامة: (5/239- 240) .
الخاتمة
بطاقة الائتمان صيغة حديثة من صيغ الكفالة، وهي في صورتها المجردة ترتيب يربط ثلاثة أطراف في عقود منفصلة، مصدر الطاقة وهو الكفيل، وحامل البطاقة وهو المكفول، والتاجر الذي يقبلها وهو المكفول له، فإذا اشترى حاملها شيئا كان المصدر له كفيلا ثم يصالح الكفيل الدائن على أقل من مبلغ الدين ثم يعود على حاملها بما كفل لا بما أدى. ولكل بطاقة مدة محددة إذا انتهت لم يكن الكفيل ملتزما بالديون التي تحدث بعد ذلك التاريخ. وهذا هو أصل كل البطاقات إذ لا تعدو أن تكون كما ذكر سواء كانت مغطاة أو غير مغطاة.
وحكم هذه البطاقة فيما نراه الجواز لأن الكفالة جائزة والمصالحة على الدين بالطريقة المذكورة يجيزه الحنفية (وإن كان يمنعه الجمهور) ، والبطاقة في صورتها المجردة ليس فيها رسم من أي نوع كان. فإذا أدخلت في البطاقة أوصاف زائدة عن ذلك مثل أن تكون مغطاة أو غير مغطاة، وعندئذ هل هي بفترة سماح
أم بخاصية تقسيط الدين مع الزيادة عليه (الفائدة)
…
إلخ. أو أن تفرض عليها الرسوم التي ربما كان بعضها أجرا على الضمان، اختلف الحكم عليها بحسب الحال.
والبطاقة غير المغطاة مع تقسيط الدين هي أهم بطاقات الائتمان جميعا، وهي البطاقة التي تتضمن شرط الفائدة ومن ثم كانت غير جائزة. وقد ذكرنا طرحا يتضمن بديلا لهذه البطاقة معتمد على فكرة المرابحة مع وكالة يتولى فيها الوكيل طرفي العرض، يشتري نيابة عن البنك ، ثم يبيع لنفسه بالوكالة عنه أيضا، بيع مرابحة مقسط الثمن.