الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقوق الأطفال والمسنين
إعداد
الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
جامعة دمشق – كلية الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله صحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث طريف وجديد ومهم حول " حقوق الأطفال والمسنين " في نطاق أحكام الشريعة الإسلامية وتوجيهاتها الرشيدة والقويمة، القائمة على الحق والعدل والإنصاف، وأخلاق الإسلام التربوية التي يراد بها وضع الضوابط للمجتمع الفاضل، وإبقاء همزة الوصل بين بدء حياة الإنسان ونهايتها.
وتنبع أهميته العلمية من ضرورة العناية بجيلين: جيل الأطفال الذين يعدون للمستقبل، ويحتفي الناس بهم عادة لإنشائهم وتربيتهم والأخذ بيدهم إلى تسلم زمام الحياة بعد رحيل من قبلهم، وجيل الكبار المسنين الذين ينبغي توديعهم بغاية الحفاوة والإكرام، والإقرار بما لهم في أعناق أولادهم وغيرهم، من حقوق الرعاية والإكبار، أو الاحترام والتقدير؛ لما قدموه لمجتمعهم من جلائل الأعمال، التي ضحوا فيها بأعز وأغلى ما لديهم من إمكانات وطاقات أو قدرات، فذابت حياتهم كالشموع لإضاءة الدرب لمن يخلفهم، ويسير في منهجهم وخطتهم، بل ويضيف لإعمالهم الجديدَ النافع، ويمنعون عنهم كل شر وضرر، ويتلافون الأخطاء ويتجاوزان المحن والمشكلات من أجل بقاء النوع الإنساني والحفاظ على مبدأ استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها وتقدمها وتمدنها.
وعالم الطفولة أو مرحلة الطفولة تشمل كل من في عيال الشخص من الذرية الصغار بالولاية أو النيابة الشرعية كالأولاد، أو بالكفالة كاليتامى.
وعالم الشيخوخة يشمل الوالدين أو أحدهما ببلوغ الكبر أو المسنين من غيرهم.
وتزداد أهمية بحث حقوق المرحلتين من اعتبار رعاية هذين الجيلين (حقوقا) إنسانية مقررة في الأعراف الدولية، حرصا على ضرورتها، وتأكيدا لأهميتها، وضمانا لتحصيل نتائجها الإيجابية في توثيق عرى الأسرة أو العائلة، والعشيرة، والمجتمع.
وبحث هذه الحقوق في مجال أحكام الشريعة الإلهية له مدلول عالمي خاص، يستند إلى توجيه الإلهي بالأطفال والشيوخ والضعفاء، وورود طائفة من النصوص الشرعية التي تأمر أو تنصح، أو تحذر أو تلوم المقصر، أو توجه إلى رعاية الفئات الضعيفة في المجتمع، سواء كان الضعف دائمًا أو مرحليًا أو طارئًا، ويدخل هذا التوجيه تحت مبدأ " التكافل الاجتماعي في الإسلام".
وينبغي الالتفات إلى أن هناك شريانًا دمويًا قويًا يجمع بين مرحلتي الطفولة والشيخوخة، ويحقق ارتباطًا جذريًا وتلازمًا عضويًا حيويًا بينهما، ويثير الانتباه إلى أن ما يفعله الولد أو الشاب أو الكهل بأبويه أو بكل من هو أكبر سنًا منه، يجد ثمرته بنفسه في الحياة، فليس هناك ما تلمس آثاره، ويتأتى فيه القصاص والتشابه في المعاملة، وتعجيل العقاب، وجعل الجزاء من جنس العمل؛ مثل عقوق الوالدين، وترك رعاية أو احترام أو رحمة الكبار والضعفاء، كما جاء في الحديث النبوي الثابت:(( ((البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان)) )) (1) . أي فكما يعامل الإنسان غيره وقت الكبر يعامله أولاده كذلك.
وحديث (( ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) )) (2) .
وفي حديث آخر: (( ((البر حسن الخلق)) )) (3) . وكذلك حديث (( ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم)) )) (4) .
وجسور التواصل بين المرحلتين قائمة وقوية ومحكمة، لا يمكن فصل إحداهما عن الآخرى؛ لأن الغالب في الإنسان إكماله مرحلة الشيخوخة بعد اجتياز مرحلة الطفولة وما يليها، كما أن الغالب في المرحلة الثانية التعرض للضعف، كما كان عليه الحال في عهد الطفولة، وبروز الحاجة إلى مساعدة الآخرين، وتشتد الحاجة إلى الرعاية في مرحلة الشيخوخة؛ لأنها في دور التصفية والغروب أو الوداع، فهي إما أن تحيا في ذاكرة المجتمع الصغير أو تنسى عادة أعمال من تقدمهم، أما في مرحلة الطفولة فيعتني الناس بها عادة بنحو أكثر؛ لأنها مرحلة بناء وتأهيل وإعداد، وغرس آمال، وتطلع إلى مزيد من التنمية والعطاء والنتاج. قال النبي صلى الله عليه وسلم:(( ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) )) (5) . أي أعينوني على طلب الضعفاء.
وما أروع وأحكم الربط في آي القرآن المجيد بين المرحلتين بمناسبات عديدة؛ لشحن ذاكرة الأجيال والنشء المتلاحق، بعلاقة التلازم والتكميل وترتيب إحدى المرحلتين على الأخرى، فقال الله تعالى في بيان مراحل عمر الإنسان:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .
ثم يبين الله تعالى أن الكبير قد يعود في عقله وفكره إلى مرحلة الطفولة، ليتعظ ويعتبر، ويحذر التفريط في الأعمال، والقيام بالواجب، في عهد القوة والشباب، فقال سبحانه:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70] . وأرذل العمر: أردؤه وأخسه، بسبب الهرم والخرف.
(1) أخرجه عبد الرزاق في الجامع، عن أبي قلابة مرسلًا، وهو حديث حسن.
(2)
أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وهو حسن.
(3)
أخرجه البخاري في الأدب، ومسلم، والترمذي، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(4)
أخرجه الطبراني والحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(5)
أخرجه أبو داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
هدف البحث:
لابد من إدراك الصلة والتلازم بين العناية بالصغار، واحترام الكبار، حتى يتحقق التكامل والتلاحم والتواصل بين الجيلين، وتقديم كل جيل لمن يأتي بعده أو يتبعه، كل أنواع البر والخير والرحمة الإحسان. وحينئذ تكون الغاية من بحث أحكام الصغار ما يلي:
1-
تنشئة جيل قوي مؤمن بالله وبرسالاته وبواجبات الحياة الخاصة والعامة.
2-
رفد الأمة أو الوطن بعناصر خيرة وقوية وجريئة ومنتجة.
3-
تثقيف الجيل الصاعد وتسليحه بكل وسائل المعرفة أو الخبرة التي توفر له دخلًا طيبًا أو مكسبًا معيشيًا لائقًا، ورجالًا أقوياء يبنون مجد أمتهم.
4-
إيجاد جيل قوي متوازن معتدل، مسلح بالأخلاق الكريمة والدين الصحيح والتربية الفاضلة.
5-
الإعانة أو المساعدة على توفير مستقبل باسم زاه مشرق للأولاد.
6-
العناية الخاصة بتربية البنات تربية إسلامية صالحة.
7-
إن بناء الأطفال جسديًا وعقليًا وصحيًا وتربويًا يأتي في مقدمة كل أولوية إنسانية؛ لأنهم يمثلون مستقبل البشرية.
وأما بيان أحكام الكبار فله مسوغاته الكثيرة:
1-
الوفاء لمن قدموا العون والفضل والتربية ومزيد العطاء لغيرهم ومن أجل صالح أمتهم.
2-
التعاون بين أبناء المجتمع الواحد على أساس من الرحمة والإحسان.
3-
تقدير إحسان المحسن، وتجنب إساءة المسيئ.
4-
الإفادة من خبرات ومعارف المتقدمين التي لا تكاد توجد في كتاب، وإنما يتناقلها الناس جيلًا عن جيل.
5-
إنصاف الحقائق، عملًا بقول الله تعالى:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85] ، فالحقيقة جوهر براق لا يطمس لمعانه، ونور لا يخبو بريقه.
6 – من الخير العظيم إجلال الخلف للسلف، والأبناء للآباء، والبنات للأمهات، ومن سوء الطالع والشؤم والشر أن يلعن الخلف أسلافهم، أو أن يظلموهم ويسيئوا إليهم ولا ينصفوهم، فإن الحياة قصاص وأمانة، كما تقدم.
وتظهر أهمية بحث حقوق الأطفال من الناحية الدولية: أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرت الإجماع في جلستها المنعقدة في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 (اتفاقية حقوق الطفل) ، وهي ثمرة جهود عشر سنوات من المشاورات بين الحكومات ووكالات الأمم المتحدة، وأكثر من خمسين جمعية تطوعية، وأما أهمية بحث حقوق المسنين فقد اعتبرت هذه السنة " السنة الدولية لكبار السن 1999"، ودعت الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بها تحت شعار " نحو مجتمع لكل الأعمار".
خطة البحث:
أولًا – حقوق الأطفال:
أ- اعتناء الفقهاء بأحكام الصغار في شتى الأبواب الفقهية، وفي كتب الأشباه والنظائر.
ب- عناية الإسلامي بالطفل منذ كونه جنينًا، بل قبله بحسن اختيار الزوجة، وأهم أحكام الجنين.
ج- التنويه بأحكام الولاية الشرعية على الصغار وترتيبها، وضوابطها، وصلاحيات الأولياء.
د – نبذة عن أحكام الوصاية على الصغار.
هـ – تشريع الحضانة للصغار، وتوفير المناخ العائلي لهم، حتى في حالات الفرقة بين الأب والأم.
و أحكام الإنفاق على الصغار.
ز – عناية الإسلام بتربية الأطفال منذ بداية الوعي، والتشريعات والتوجيهات في كل مرحلة.
ثانيًا – حقوق المسنين:
أ- العناية بمعالجة أمراض الشيخوخة، وتوفير مستلزمات التطبيب لها بصورة تتاح لجميع المسنين حسب ظروفهم.
ب- توفير دور الرعاية للمنقطعين من المسنين، وعدم اتخاذها بديلًا لرعاية من لهم أهل من أولاد أو إخوة، إلا في حالات الاستثنائية التي تتطلب رعاية خاصة لا تتوافر في الأشخاص العاديين.
ج- الإنفاق عليهم إذا فقدوا القدرة على التكسب، ولم تكن لهم مدخرات أو موارد مالية، سواء تم ذلك من خلال نظام النفقات في الشريعة أو الضمان الاجتماعي المنظم حكوميا.
هـ – إيجاد الأنشطة والقنوات التي تحقق للمسنين استمرار الحيوية والأمل، وتتيح دوام الاستفادة من خبراتهم.
د – عدم حجب المهام أو الوظائف التي تظل الطاقة لأدائها متوافرة في المسنين، ولاسيما ما لا يحتاج إلى قوة بدنية.
و وضع مشروع لوثيقة عن حقوق المسنين تشتمل على التوجيهات والمقررات الشرعية في هذا الشأن.
أولًا – حقوق الأطفال
الطفولة قاعدة بناء الشخصية الإنسانية، وانطلاقتها الأولى، ومرتكز تكوين الإنسان تكوينًا قويًا وسليمًا من النواحي المختلفة: الجسدية المادية، والصحية، والنفسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية. ويتأثر الكبار عادة بما تعودوا عليه في مرحلة الصغر، ولا يمكن لإنسان أن ينسى تلك المرحلة بما لها من حسنات أو إيجابيات، وما عليه من هنات وعثرات أو سلبيات، وتظل ذاكرته لأحداث الطفولة راسخة، وتنطبع أو ترتسم في مخليته منذ عهد المهد صور الحياة التي يمر بها، قال ابن سينا في الطفل أو الإنسان عامة:
أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
أ- اعتناء الفقهاء بأحكام الصغار في شتى الأبواب الفقهية وفي كتب الأشباه والنظائر:
وعلى الرغم من كون بدء التكليف الشرعي من تاريخ البلوغ الطبيعي أو من سن الخامسة عشرة، وأن مرحلة الطفولة معفاة من التكاليف الشرعية غالبًا أو في الجملة، عملًا بالحديث الثابت:(( ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر)) )) (1) . إلا في الجنايات، فإن فقهاء الإسلام في مختلف الأبواب الفقهية يذكرون أحكامًا فقهية متناثرة كثيرة متعلقة بالصغار، دون إفراد أو تمييز مستقل لها عن بيان أحكام الكبار.
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها. وفي رواية: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم)) . أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر، وهو صحيح.
ومع ذلك فقد أفرد الإمام الجليل الفقيه محمد بن محمود بن الحسين الأستروشني (1) الحنفي المتوفى بعد عام (652هـ)(2) كتابًا سماه (جامع أحكام الصغار) شمل أحكام الطهارات والعبادات والأحوال الشخصية وتوابعها، والحدود الشرعية والجنايات، والعقود، والسير، واللقيط، والغصب والضمان، والدعوى والشهادات والإقرار، والمحاضر وأدب القاضي، والنسب والإكراه، والجنين، والذبائح والأضحية، والوقف، والوصايا، والفرائض (المواريث) .
وذلك من أجل معرفة أحكام شرع الله المتعلقة بأفعال غير المكلين، من قبيل الحكم الوضعي، الضابطة لتصرفاتهم المنظمة لسلوكهم، المبينة للأحكام التي تترتب على أقوالهم وأفعالهم، والشارحة لعقوبات الجنايات التي قد تترتب على بعض تصرفاتهم، هذا بالإضافة إلى بيان علاقة الصغار بالأولياء والأوصياء والقضاة، وذلك لتنشئة الأبناء والبنات تنشئة إسلامية رشيدة، قائمة على محبة طاعة الله، وكراهية معاصيه.
كما أن علماء أصول الفقه بحثوا في "الحكم الشرعي" موضوع الأهلية وأقسامها، وأحكام مراحل الإنسان أو أدوار الأهلية وعوارضها، وفيها تبيان أحكام الجنين (مرحلة الاجتنان) ، ثم أحكام مرحلة الطفولة والبلوغ والرشد، وأحكام الصغر باعتباره أحد عوارض الأهلية الطبيعية أو السماوية، وتصرفات الصغير المدنية والجنائية.
ويخصص الفقهاء عادة أيضًا بابًا خاصًا في كتب الأشباه والنظائر لأحكام الصبيان المختلفة، وفيها بيان شاف لتلك الأحكام، ويذكر العلامة القرافي في كتابه (الفروق) في الفرق السادس والعشرين بين قاعدة خطاب التكليف وقاعدة خطاب الوضع، مسألة تتعلق بالصبي في غاية الأهمية: وهي أن الصبي إذا أفسد مالًا لغيره، وجب على وليه إخراج الجابر من مال الصبي، فالإتلاف سبب للضمان، ومن خطاب الوضع (3) ، فإذا بلغ الصبي ولم تكن القيمة أخذت من ماله، وجب عليه إخراجها من ماله بعد بلوغه، فقد تقدم السبب في زمن الصغر، وتأخر أثره إلى ما بعد البلوغ (4) .
(1) نسبة إلى قرية أستروشنه شرق سمرقند، وولادته سنة 622هـ.
(2)
وهو العام الذي انتهى فيه من تأليف هذا الكتاب.
(3)
الحكم الوضعي: هو خطاب الله تعالى الوارد بجعل الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا أو عزيمة أو رخصة.
(4)
الفروق: 1 / 161، وما بعدها، ص 164.
ب- عناية الأسرة بالطفل منذ كونه جنينًا بل قبله، بحسن اختيار الزوجة، وأهم أحكام الجنين:
الأولاد هم ثمرة أو نتاج الحياة الزوجية، وهم الأثر الملموس للإنسان في الحياة وبعد الممات، ويعدون من كسب الإنسان وحصاد أعماله، فإن كانوا صلحاء سعد الأبوان حتى في قبورهما، وإن كانوا أشقياء تحسر الأبوان وتضايقا لسوء السمعة والأثر، وقد يكون سوء الأبوين أو أحدهما سببًا في سوء الأولاد، كما قد يكون الإعداد للإنجاب وإيجاد الذرية الصالحة متوقفًا على صلاح الآباء والأجداد، وحسن اختيار الزوجة الصالحة، وصلاح الزوجة بصلاح دينها وأخلاقها وآدابها، لذا رغب الشرع الشريف بأن يحسن الزوج اختيار زوجته، واصطفاءها من خير المعادن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(( ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)) )) (1) .
وسبيل الاصطفاء أو الاختيار هو ما أبانه النبي صلى الله عليه وسلم، خلافًا لما يؤثره أغلب الشبان، وهو قوله:(( ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) )) (2) . ومعناه كما قال النووي في رياض الصالحين: أن الناس يقصدون في العادة من المرأة هذه الخصال الأربعة، فاحرص أنت على ذات الدين، واظفر بها، واحرص على صحبتها، فمن عارض ذلك وقع في الفقر أو البؤس وتعس في حياته؛ لأنه لم ينشد تحصيل مقوم السعادة الدائمة والاستقرار والهناءة.
(1) أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وتأكيدًا لهذا نوه الحديث النبوي لمستقبل المرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(( ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) )) (1) . وعلى الزوجين الحرص على أن يكون بدء تكون الجنين واستمراره إلى الولادة قائمًا على طيب المكسب وحل روافد المعيشة، فإذا تغذى الطفل من أمه وهو في رحمها بالحلال الطيب، نشأ نشأة حسنة، وإن تغذى بالحرام والمكسب الخبيث، نشأ نشأة سيئة، ومن أخص هذه الحالات: حالة الوحام، فلا تتناول المرأة ما تشتهيه إلا إذا كان طيبًا خالصًا من الشبهات والمحرمات، وطيب المنبت والمأكل والمشرب سبب واضح لطيب النشأة وسلامة البنية والتكوين.
ولم ينس فقهاؤنا الصالحون مرحلة الاجتنان، ودونوا لها الأحكام وأوضحوا الحقوق المقررة للطفل؛ حفاظًا على حياته ومستقبله ومنع تعرضه للمخاطر أو الصيرورة عالة على الآخرين، أو إصابته بالعقد النفسية وإضماره الغيظ والحقد على المجتمع برمته، إذا لم يحسن الأبوان له ولم يحفظوا حقوقه المادية المعنوية.
(1) أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وأما أحكام الجنين أو أحكام الاجتنان (1) : فتعرف من خلال إثبات أهليته، والأهلية نوعان: أهلية وجوب، وأهلية أداء، وكل من النوعين إما ناقصة وإما كاملة، بحسب أدوار أهلية الإنسان من مبدأ الحياة إلى وقت البلوغ (2) .
طور الاجتنان: إن أهلية الوجوب الناقصة تثبت للجنين في بطن أمه، فيكون أهلًا لأن تثبت له حقوق فقط، دون أن تترتب عليه واجبات، بشرط ولادته حيًا، فإن الجنين تثبت له حقوق أربعة لا تحتاج إلى قبول، وهي:
1-
حقه في النسب من أبويه وأسرته.
2-
حقه في الميراث من مورثه لتفرعه عن النسب.
3-
استحقاق الوصية، أي ما يوصى له به حال كونه جنينًا.
4-
استحقاق الوقف، أي ما يوقف عليه من قريب أو بعيد.
ولا تجب عليه لغيره واجبات أو التزامات.
ويترتب عليه أن الحقوق التي تحتاج إلى قبول كالشراء والهبة لا تثبت له؛ لأن الجنين ليست له عبارة، وكذلك لا تصح الهبة منه والصدقة والشراء له، فمن وهب له شيئًا أو اشتراه له من أب أو غيره، فلا يملكه، ولا يجب في ماله شيء من نفقة أقاربه المحتاجين.
والسبب في نقص أهلية الجنين اعتباران: اعتبار بأنه جزء من أمه، واعتبار بأنه نفس مستقلة، فبحسب الاعتبار الأول لم يجعل له ذمة كاملة صالحة لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات، وبالاعتبار الثاني جعل له ذمة ناقصة تؤهله لاكتساب الحقوق فقط.
ونظرًا لأن وجود الجنين محتمل، فربما يولد حيًا أو ميتًا، فقد اشترط الفقهاء لاستحقاقه الحقوق المالية أن ينفصل حيًا، فلو انفصل ميتًا لم يكن الموصى به لورثته، والميراث الموقوف له من تركة مورثه يبقى على ذمة المورث الأصلي ويوزع لبقية الورثة.
(1) أي مدة كون الإنسان جنينًا، أي حملًا في رحم أمه، منذ العلوق إلى الولادة، ومن المعلوم أن أدوار الأهلية تنقسم إلى خمسة أطوار أساسية: طور الاجتنان، وطور الطفولة، وطور التمييز، وطور البلوغ، وطور الرشد.
(2)
التقرير والتحبير: 2 / 166 وما بعدها؛ مرآة الأصول: 2 / 425 وما بعدها؛ فواتح الرحموت: 1 / 156 وما بعدها؛ حاشية نسمات الأسحار، ص 273.
وفي مرحلة الطفولة (من الولادة حتى سن السابعة عند الحنفية والمالكية، وتمام السابعة عند الفقهاء الآخرين) : تثبت للطفل أهلية وجوب (1) كاملة، لاتفارقه في جميع أدوار حياته، فيصلح لتلقي الحقوق والالتزام بالواجبات.
غير أن الصبي قبل سن السابعة ليس له إلا أهلية وجوب كاملة، فيصلح لاكتساب الحقوق وتحمل الواجبات التي يجوز للولي أداؤها بالنيابة عنه، كالنفقات والزكاة وصدقة الفطر. وليس له أهلية أداء مطلقًا لضعفه وقصور عقله، وإذا كلف ببعض الواجبات المالية، فيكون الخطاب الشرعي موجهًا لوليه أو لوصيه، وليس هو المخاطب، مثل الزكاة في ماله في رأي الجمهور غير الحنفية، وضمان المتلفات والجنايات.
وفي مرحلة التمييز (من سن السابعة حتى البلوغ) : تثبت للطفل أهلية أداء ناقصة، ولكن يميز بين حقوق الله تعالى وحقوق العبادة.
أما حقوق الله تعالى: فتصح من الصبي المميز كالإيمان والكفر والصلاة والصيام والحج. ولكن لا يكون ملزمًا بأداء العبادات إلا جهة التأديب والتهذيب، ولا يستتبع فعله عهدة في ذمته، فلو شرع في صلاة لا يلزمه المضي فيها، ولو أفسدها لا يجب عليه قضاؤها عند الحنفية القائلين بوجوب إتمام النافلة بعد الشروع فيها.
لكن اختلف الفقهاء في صحة الكفر من الصبي (الردة) بالنسبة لأحكام الدنيا، مع اتفاقهم على اعتبار الكفر منه في أحكام الآخرة، فيرى أبو حنيفة ومحمد: أنه تعتبر منه ردته فيحرم من الميراث وتبين امرأته.
ويرى أبو يوسف والشافعي: أنه لا يحكم بصحة ردته في أحكام الدنيا؛ لأن الارتداد ضرر محض لا يشوبه منفعة، وهو لا يصح من الصبي، فلا يحرم من الإرث ولا تبين امرأته.
(1) أهلية الوجوب: صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وأساس ثبوتها وجود الحياة.
وأما حقوق العباد: فيذهب الشافعي وأحمد إلى أنه تعتبر عقود الصبي وتصرفاته باطلة، ويرى الحنفية والمالكية أن تصرفاته تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-
تصرفات نافعة نفعًا محضًا: وهي التي يترتب عليها دخول شيء في ملكه من غير مقابل، كقبول الهبة والصدقة، وتجب له الأجرة إذا أجّر نفسه، وتصح وكالته عن غيره بلا التزام عليه؛ لأن فيها تدريبًا له على التصرفات، لقوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] ، أي اختبروهم ودربوهم على شؤون التجارة والمعاملة، فهذه التصرفات تصح من الصبي وتنفذ، دون حاجة إلى إذن وليه أو إجازته.
2-
تصرفات ضارة ضررا محضا: وهى التي يترتب عليها خروج شيء من ملكه دون مقابل، كالطلاق والعتق والهبة والصدقة والوقف والكفالة بالدين أو بالنفس، وهذه لا تصح من الصبى المميز، ولو بإجازة الولي؛ لأن الولي لا يملك هذه التصرفات.
3 – تصرفات دائرة بين النفع والضرر: وهى التي تحتمل الربح والخسارة، كالبيع والشراء والإجازة والنكاح ونحوها، وتصح من الصبى المميز وتنعقد صحيحة بإذن الولى، بناء على ثبوت أصل أهلية الأداء له فإن لم يأذن الولي تكون موقوفة على إجازته بسبب نقص هذه الأهلية، فإذا أجاز نفذت، وإلا بطلت، فالإجازة تجبر النقص، فيصير العقد أو التصرف صادرا من ذى أهلية كاملة.
وفي مرحلة البلوغ: إن بلغ الصبى عاقلا، تثبت له أهلية الأداء (1) الكاملة، ما لم يعترضه عارض من عوارض الأهلية، ويصبح الولد أهلا للتكاليف الشرعية، ويجب عليه أداؤها، ويأثم بتركها، وتصح منه جميع العقود والتصرفات، وتترتب عليها مختلف آثارها، ويؤاخذ على جميع الأعمال الصادرة منه.
فيطالب باتفاق الفقهاء بالإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وعليه أداء العبادات المفروضة، وتعلم العلم الضرورى لإقامة الدين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس واللسان. ويصبح مسؤولا عن احترام النظام الشرعي في المعاملات المدنية وارتكاب الجرائم، ويخضع لنظام العقوبات الشرعي.
والبلوغ: وإما بأماراته الطبيعية من احتلام الفتى أو الإحبال، وأدنى المدة اثنتا عشرة سنة، وحيض أو حمل الفتاة، وأدنى المدة تسع سنين أو بتمام سن الخامسة عشرة عند جمهور الفقهاء، وعند الحنفية: بدخول الغلام في التاسعة عشرة، وفي الفتاة إذا دخلت في السابعة عشرة.
والأصل أن أهلية الأداء تتحقق بتوافر العقل، ولما كان العقل من الأمور الخفية ارتبط بالبلوغ؛ لأنه مظنة العقل، والأحكام ترتبط بعلل ظاهرة منضبطة، فيعتبر الشخص عاقلًا بمجرد البلوغ، وتثبت له حينئذ أهلية أداء كاملة، ما لم يطرأ عليه أحد عوارض الأهلية.
أما مرحل الرشد: فيتوقف عليها تسليم أموال القاصر له.
والرشد يراد به عند الجمهور صلاح المال، أي البصيرة في الشؤون المالية التي يتوقف عليها حسن التصرف بالمال، ولو كان فاسقًا من الوجهة الدينية. وعند الشافعي: الرشد صلاح الدين والمال.
والرشد: قد يرافق البلوغ وقد يتأخر عنه، ويقابله السفه، وهو تبذير المال وإتلافه في غير وجوه الحكمة، سواء في شر أو خير.
فمن بلغ رشيدًا اكتملت أهليته، وتحرر من الولاية أو الوصاية، ونفذت تصرفاته وإقراراته، وتُسلم إليه أمواله، لقوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] .
وإذا لم يثبت رشده مع بلوغه تستمر الولاية المالية عليه، حتى يثبت رشده، ولا تنفذ تصرفاته وعقوده وإقرارته.
وتحديد سن الرشد شرعًا متروك لولاة الأمر، بحسب ظروف الزمان ومقتضى المصالح المرسلة.
(1) وهى صلاحية الإنسان لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتمد به شرعا، وأساس ثبوتها التمييز.
ضمان الصغير اعتداءاته:
الصغر أحد عوارض الأهلية السماوية، والصغير قبل التمييز كالمجنون، فيؤاخذ بضمان الأفعال في إتلاف الأموال، كما إذا أتلف مال إنسان، فإنه يضمنه وإذا قتل إنسانًا، وجبت الدية في ماله إن كان عمدًا، وعلى عاقلته (عصبته) إن كان خطأ.
أما أقواله: فلا يعتد بها شرعًا لانتفاء تعقّل المعاني، فلا تصح إقراراته وعقوده، وإن أجازها الولي. أما بعد التمييز فيصبح له – كما تقدم – أهلية أداء ناقصة لقصر عقله، فيسقط عنه ما يحتمل السقوط عن البالغ، من حقوق الله تعالى كالصلاة والصيام وسائر العبادات، فإنها تحتمل السقوط بأعذار، ولكن لا يسقط عنه ما لا يحتمل السقوط، كفريضة الإيمان، فإنه فرض دائم.
وتصح منه مباشرة التصرفات النافعة نفعًا محضًا، أو التي لا ضرر فيها كقبول الهبة والصدقة كما تقدم، أما ما يحتمل الضرر والنفع فيحتاج إلى إجازة الولي، كما تقدم (1) .
(1) مرآة الأصول: 2 / 440؛ كشف الأسرار على أصول البزدوي، ص 1383؛ التقرير والتحبير: 2 / 172؛ التلويح على التوضيح: 2 / 168؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 364 وما بعدها، طبع دار الفكر بدمشق، جامع أحكام الصغار للأستروشني: 1 / 112، ص 203، ص 264، ص 286.
التنويه بأحكام الولاية الشرعية على الصغر وترتيبها وضوابطها، وصلاحيات الأولياء:
رعى الشرع الحنيف شؤون الصغير الشخصية والمالية، ضمانًا لتنشئة صالحة للأولاد في حياتهم، وحفاظًا على أموالهم، وقيامًا باستثمارها وتنميتها، كما يفعل الكبير الراشد في أحواله كلها، كما راعى الشرع ضعف الصغار، فلم يكلفهم بشيء من التكاليف الدينية كالصلاة والصيام وسائر العبادات، وفوض أمر إدارة استثمار أموالهم - مثل المجانين - إلى الوالي (الأب أو الجد أو الوصي أو القاضي) ، وجعل شأن التربية والحضانة إلى النساء رحمة بالصغار.
وأما الولاية: فهي لغة إما بمعنى المحبة والنصرة، كما في قوله الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] . وقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . وإما بمعنى السلطة والقدرة، يقال: الوالي، أي صاحب السلطة.
واصطلاحًا: الولاية: هي القدرة على مباشرة التصرف من غير توقف على إجازة أحد. ويسمى متولي العقد: الولي، ومنه قوله تعالى:{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] . والأولياء جمع ولي: وهو المتولي للأمر (1) . وعرفها الحنفية بأنها: تنفيذ القول على الغير، شاء أم أبى (2) .
وهي بعبارة أخرى: تدبير الكبير الراشد شؤون القاصر الشخصية والمالية.
والقاصر: من لم يستكمل أهلية الأداء، سواء أكان فاقدًا لها كغير المميز، أم ناقصها كالمميز.
وسبب مشروعية الولاية على القاصرين والمجانين هو رعاية مصالحهم وحفظ حقوقهم الشخصية والمالية، بسبب عجزهم وضعفهم حتى لا تضيع وتهدر.
والولاية – كما قسمها الحنفية (3) - ثلاثة أنواع: ولاية على النفس، وولاية على المال، وولاية على النفس والمال معًا.
1-
الولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية، كالتزويج والتعليم والتأديب والتطبيب والتشغيل، وهي تثبت للأب والجد وسائر الأولياء.
2-
والولاية على المال: هي تدبير شؤون القاصر المالية، من استثمار وتصرف وحفظ وإنفاق، وتثبت للأب والجد ووصيهما ووصي القاضي.
3-
والولاية على النفس والمال معًا: تشمل الشؤون الشخصية والمالية، ولا تكون إلا للأب والجد فقط.
(1) أنيس الفقهاء، ص 263.
(2)
الدر المختار: 2 / 406.
(3)
البدائع: 2 / 241 – 274؛ الدر المختار: 2 / 406 وما بعدها.
ترتيب الأولياء أو ترتيب الولاية:
لكل من الولاية على النفس والولاية على المال ترتيب معين لدى الفقهاء:
فالولي على النفس عند فقهاء الحنفية (1) : هو الابن، ثم الأب، ثم الجد أبو الأب، ثم الأخ، ثم العم، أي تثبت الولاية على النفس (نفس القاصر) بحسب ترتيب الإرث: البنوة، فالأبوة، فالأخوة، فالعمومة.
ويقدم الشقيق على من كان لأب فقط، فإن لم يوجد أحد من العصبات انتقلت ولاية النفس إلى الأم، ثم بقية الأرحام.
ويرتب المالكية (2) هذه الولاية على نحو آخر: البنوة، ثم الأبوة، ثم الوصاية، ثم الأخوة، ثم الجدودة، ثم العمومة.
فالولي على النفس عندهم: هو الابن وابنه، ثم الأب ثم وصيه، ثم الأخ الشقيق وابنه، ثم الأخ لأب وابنه، ثم الجد أبو الأب، ثم العم وابنه، ويقدم الشقيق منهما على غير الشقيق، ثم القاضي في عصرنا.
ولكن الولاية الإجبارية في عقد الزاج يقدم فيها الأب على الابن، أما الولاية الاختيارية فيقدم فيها الابن على الأب.
ويجبر الولي على أخذ القاصر بعد انتهاء الحضانة؛ لأن الولاية على النفس حق من حقوق المولى عليه.
وإذا كان للصغيرة وليان، أحدهما أقرب والآخر أبعد، فزوّجها الأبعد حال قيام الأقرب، توقف نفاذ الزواج على إجازة الأقرب بعد تحول الولاية إليه (3) .
وتنتهي الولاية على النفس عند الحنفية في حق الغلام ببلوغه خمس عشرة سنة، أو بظهور علامة من علامات البلوغ الطبيعية، وكان عاقلًا مأمونًا على نفسه، وإلا بقي في ولاية الولي.
وأما في حق الأنثى فتنتهي هذه المرحلة بزواجها، فإن تزوجت صار حق إمساكها لزوجها، وإن لم تتزوج، بقيت في ولاية غيرها إلى أن تصير مسنة مأمونة على نفسها، فحينئذ يجوز لها أن تنفرد بالسكنى أو تقيم مع أمها، ولم يحدد الحنفية هذه السن، والظاهر من كلامهم: أن تصير عجوزًا، لا يرغب فيها الرجال.
وأما لدى المالكية: فتنتهي الولاية على النفس بزوال سببها، وسببها الصغر وما في معناه، وهو الجنون والعته والمرض. وأما الأنثى فلا تنتهي الولاية النفسية عليها إلا بدخول الزوج بها.
(1) الدر المختار ورد المحتار: 2 / 427 وما بعدها.
(2)
شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 2 / 31 – 32؛ القوانين الفقهية لابن جزي، ص 198.
(3)
جامع أحكام الصغار للأستروشني: 1 / 73.
أما الولي على المال:
فتثبت له الولاية المالية لدى الحنفية للأب، ثم لوصيه، ثم للجد أبي الأب، ثم لوصيه، ثم للقاضي فوصيه.
ويرى المالكية والحنابلة: أن هذه الولاية تثبت للأب، ثم للجد، ثم لوصي الباقي منهما، ثم للقاضي أو من يقيمه، ثم لجماعة المسلمين إن لم يوجد قاض.
وأثبت الشافعية هذه الولاية للأب، ثم للجد، ثم لوصي الباقي منهما، ثم للقاضي أو من يقيمه. وبه يتبين أنهم خالفوا المذاهب الأخرى في تقديم الجد على وصي الأب؛ لأن الجد كالأب عند عدمه، لوفور شفقته مثل الأب، ولذا تثبت له ولاية التزويج، ولا تثبت ولاية المال لغير هؤلاء، كالأخ والعم والأم إلا بوصاية من قبل الأب أو القاضي.
وتستمر هذه الولاية حتى يبلغ القاصر سن الرشد، فإذا بلغ رشيدًا ثم طرأ عليه الجنون أو العته مثلًا، فهل تعود الولاية عليه؟
فيه اتجاهان: يرى المالكية والحنابلة أن الولاية لا تعود لمن كانت له، وإنما تكون للقاضي؛ لأن الولاية سقطت بالبلوغ عاقلًا، والساقط لا يعود.
ويرى الحنفية والشافعية على الراجح: أن الولاية تعود لمن كانت له قبل البلوغ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فإذا وجدت علة الولاية وجدت الولاية.
فإن كان الطارئ هو السفه (التبذير) ، فإن الولاية على السفيه تكون في رأي جمهور الفقهاء للقاضي أو من يعينه؛ لأن المقصود هو المحافظة على ماله، والنظر في مصالح الناس من صلاحيات القاضي.
ضوابط الولاية أو شروطها:
الولاية مسؤولية وأمانة وخبرة، وغايتها تحقيق مصلحة المولى عليه، كما لو كان كبيرًا راشدًا، ومارس الولاية على نفسه، وحينئذ تتطلب الولاية توافر ضوابط أو شروط معينة لتحقيق هدفها أو غايتها.
ولكل من نوعي الولاية ضوابط.
أما الولي على النفس: فيشترط فيه توافر البلوغ والعقل (حد التكليف) والقدرة على تربية الولد، والأمانة على أخلاقه، والإسلام في حق المولى عليه المسلم أو المسلمة (1) .
فلا ولاية لغير بالغ ولا لغير عاقل ولا لسفيه مبذر؛ لأن هؤلاء في حاجة إلى من يتولى شؤونهم، ولا ولاية لفاسق ماجن لا يبالي بما يفعل؛ لأنه يضر بأخلاق القاصر وبما له. ولا ولاية لمهمل الولد، كأن يتركه مريضًا، دون أن يحاول علاجه، مع قدرته عليه، أو كأن يحرمه التعليم مع صلاحية الولد؛ لأن ذلك ضار بمصلحة القاصر. وتنتقل الولاية حينئذ إلى الأصلح، على الترتيب المتقدم.
وأما الولي على المال: فيشترط فيه ما يشترط في الولي على النفس مع الأمانة والخبرة المالية، وهو ما يلي:
1-
أن يكون الولي كامل الأهلية: وذلك بالبلوغ والعقل والحرية؛ لأن فاقد الأهلية أو ناقصها، ليس أهلًا للولاية على مال نفسه، فلا يكون أهلًا للولاية على مال غيره.
2-
ألا يكون سفيهًا مبذرًا محجورًا عليه؛ لأنه لا يلي أمور نفسه، فلا يلي أمور غيره.
3-
أن يكون متحد الدين مع القاصر، فلو كان الأب غير مسلم فلا يلي أمور ابنه المسلم.
الخلاصة: أن ضوابط الولاية أربعة: العدالة، ومراعاة المصلحة، والكفاءة، والإسلام إذا كان المولى عليه مسلمًا، وعلى هذا فسق الولي يثبت الولاية للقاضي (2) ، وكذا الإضرار به، أو عدم مراعاة الكفاءة في تزويج الصغيرة، إذ لا يصح النكاح، وكذلك كفر الولي والمولى عليه مسلم.
(1) الدر المختار: 2 / 406 – 428 وما بعدها.
(2)
جامع أحكام الصغار؛ للأستروشني: 1 / 75.
صلاحيات الأولياء:
لكل من ولي النفس وولي المال صلاحيات تتفق مع مهمته ومصلحة المولى عليه.
أما ولي النفس فصلاحياته هي: التأديب والتهذيب، ورعاية الصحة، والنمو الجسمي، والتعليم والتثقيف في المدارس، والإشراف على الزواج. وإذا كان القاصر أنثى وجبت حمايتها وصيانتها، ولا يجوز للولي تسليمها إلى من يعلمها صناعة أو حرفة تختلط فيها بالرجال.
وأما ولي المال فصلاحياته تشمل: التنمية المالية والحفظ وإبرام التصرفات، فإن كان للقاصر مال كان للأب الولاية على ماله حفظًا واستثمارًا باتفاق المذاهب الأربعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(( ((اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الزكاة)) )) (1) . أي إن ترك الاستثمار لأموال اليتامى يؤدي إلى أن تستأصلها الزكوات المتكررة في كل عام.
وأما تصرفات الولي في مال القاصر فهي مقيدة بمراعاة مصلحة المولى عليه، فلا يجوز له مباشرة التصرفات الضارة ضررًا محضًا، كهبة شيء من مال المولى عليه أو التصدق به أو البيع أو الشراء بغبن فاحش،، ويكون تصرفه باطلًا.
وله مباشرة التصرفات النافعة نفعًا محضًا، كقبول الهبة والصدقة والوصية، وكذا التصرفات المترددة بين الضرر والنفع، كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والشركة والقسمة، ودليل ذلك قول الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] .
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو صحيح.
حكم تصرفات الأب: ركز الفقهاء على بيان أحكام وتصرفات الأب؛ لأنه أول الأولياء المشرفين على رعاية أموال الصغار، وهذه الأحكام هي:
- إذا كان الأب مبذرًا فليس له ولاية على مال القاصر، وعليه تسليم المال إلى وصي يختاره.
- وأما إذا كان غير مبذر – وهو الشأن فيه – فله الولاية على مال القاصر، وله في رأي الحنفية والمالكية بيع مال القاصر والشراء له، سواء أكان المال منقولًا أم عقارًا، ما دام العقد بمثل الثمن، أو بغبن يسير، وهو ما يتغابن الناس فيه عادة؛ لأن للأب شفقة كاملة (1) . ولا ينفذ على القاصر البيع أو الشراء بغبن فاحش، وهو مالا يتغابن الناس فيه عادة، لكن المفتى به عند الحنفية أن الشراء ينفذ على الولي ذاته لإمكان نفاذه عليه، على عكس البيع فلا ينفذ؛ لأن فيه ضررًا ظاهرًا على المولى عليه.
وللأب أن يبيع مال نفسه لولده الصغير ونحوه، وأن يشتري مال ولده لنفسه بمثل الثمن أو بغبن يسير، ويتولى الأب شطري العقد (الإيجاب والقبول) وتكون عبارته قائمة مقام الإيجاب والقبول، استثناء من قاعدة: لزوم تعدد العاقد في العقود المالية؛ نظرًا لوفور شفقة الأب على ولده. قال الأستروشني: ولا يشترط الإيجاب والقبول في الصحيح، حتى لو قال: بعت هذا من ولدي، يتم العقد، ولا يحتاج إلى أن يقول: اشتريت، وكذلك على العكس. ويجوز هذا البيع من الأب بمثل القيمة، وبما يتغابن الناس فيه. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز هذا العقد، إلا بمثل القيمة، ولا يتحمل فيه الغبن اليسير، لكن الرواية الأولى أصح (2) .
وليس له أيضًا أن يقرض مال الصغير للغير، ولا أن يقترض لنفسه؛ لما في إقراضه من تعطيل استثمار المال (3) . وله أن يستقرض لابنه الصغير، ويقره على الاستقراض.
(1) جامع أحكام الصغار: 1 / 268 – 269.
(2)
جامع أحكام الصغار: 1 / 146، 2 / 196، 208، 272، 278.
(3)
المرجع السابق: 1 / 240، 277، 278، 2 / 200.
ويجوز للأب في رأي أبي حنيفة ومحمد أن يرهن شيئًا من مال ولده في دَين نفسه، قياسًا على ماله من إيداع مال ولده، ولأنه لوفور شفقته أنزل منزلة شخصين، ولا يجوز هذا الرهن في رأي أبي يوسف وزفر؛ لأن في هذا الرهن تعطيلًا لمنفعة المال، إذ يبقى محبوسًا إلى سداد الدين (1) .
وذكر السرخسي: أنه لا يكون الأب غاصبًا فيما يأخذ من مال ولده الصغير، ولكنه إن كان محتاجًا إليه فله أن يأخذ بغير شيء ليصرفه إلى حاجته، وإن لم يكن محتاجًا إليه فله أن يأخذه ليحفظه، ولا يكون خائنًا في حقه حتى يستهلكه من غير حاجة، فحينئذ يضمن (2) .
وللأب أن يسافر بمال الصغير والصغيرة، وله أن يدفعه مضاربة إلى غيره، وله أن يدفع بضاعة (3) ، وله أن يوكله بالبيع والشراء والاستئجار، وله أن يودع، وله أن يأذن للصغير في التجارة وأن يوكله بالتعاقد فيها إن كان يعقل البيع والشراء، وله أن يجعل مال الصغير مضاربة عند نفسه، وينبغى أن يشهد على ذلك في الابتداء، ولو لم يشهد يحل له الربح فيما بينه وبين ربه، ولكن القاضي لا يصدقه. وكذا إذا شاركه ورأس ماله أقل من مال الصغير، فإن أشهد يكون الربح على ما شرط، وإن لم يشهد يحل له فيما بينه وبين الله تعالى، ولكن القاضي لا يصدقه، ويجعل الربح على قدر رأس مالهما. وكذلك هذا كله في الوصي، ولا تجوز كفالة الصبي سواء أذن له أبوه في الكفالة أو لم يأذن له؛ لأن هذا الإذن باطل؛ لأنه إذن بما هو تبرع، والتبرع غير داخل تحت ولاية الأب، فلا يملك الإذن (4) .
(1) المرجع السابق: 1 / 292، 2 / 57 وما بعدها.
(2)
جامع أحكام الصغير: 1 / 147.
(3)
الإبضاع: بأن يعطى إنسانا مالا ليشترى له بضاعة من بلد كذا من دون عوض.
(4)
المرجع السابق: 1 / 70، 71، 77، 291.
أما قبض مستحقات الصغير أو الصغيرة فليس لسائر الأولياء سوى الأب والجد ولاية قبض مهر الصغيرة؛ لأن هذا تصرف في مال الصغير، وليس لغيرهما ولاية التصرف في مال الصغير.
وإذا اشترى الأب لابنه الصغير شيئا، فما دام الابن صغيرا فحق القبض للأب، وإن بلغ الابن، فإن اشتراه الأب من الأجنبي فحق القبض للأب، وأما إن اشتراه شخص من الابن نفسه، فحق القبض للابن، ولا يجوز قبض الأب عليه، وإذا كان للصغير حق الشفعة في عقار، فللولي أن يأخذها حالا ولا ينتظر بلوغه. وإن كان احتمال الرضا ثابتا بعد البلوغ (1) .
وإذا أقر الأب أو الوصي بغصب مال الصغير لا يلزمه شيء؛ لأنه لا يتصور غصبه؛ لما أنه له ولاية الأخذ (أي سلطة الأخذ)(2) .
وللولي - وكذا للقاضي عند أكثر المشايخ المتأخرين - أن يستوفي القصاص حالًا للصغير، إذا كان له قصاص (3) .
والصبي كالبالغ في مقدار دية النفس وأطرافها إذا كان لها منفعة مقصودة تفوت بقطعها، كاللسان واليد والرجل وأشباه ذلك. ودية المرأة نصف دية الرجل.
وعمد الصبي والمجنون في الجنايات خطأ (أي في حكم الخطأ) ، وفيه الدية على العاقلة (العصبات) والمعتوه كالمجنون، وبعبارة أخرى: عمد الصبي وخطؤه سواء عند الحنفية، وتجب الدية في الحالين، وتكون في ماله في فصل العمد؛ لأن العاقلة لا تعقل العمد، ولا كفارة على الصبي في الخطأ عند الحنفية، ولا يحرم الصغير الميراث عندهم بالقتل (4) .
وإذا احتاج الأب إلى مال ولده فإن كان في المصر واحتاج لفقره، أكمل بغير بشيء، وإن كان في المفازة واحتاج لانعدام الطعام معه، وله مال؛ أكله بالقيمة (5) .
(1) المرجع السابق: 1 / 93، 109، 2 / 201.
(2)
جامع أحكام الصغير: 2 / 59.
(3)
المرجع السابق: 10 / 109.
(4)
المرجع السابق: 2: 143، 171، 179.
(5)
المرجع السابق: 1 / 261.
نبذة عن أحكام الوصاية على الصغار:
الوصايا: هي الإشراف على تدبير شؤون القاصر المالية، بتفويض من الولي أو القاضي، وهو يدل على أن الوصي نوعان: وصي القاضي، والوصي المختار. أما وصي القاضي: فهو الذي يعينه القاضي للإشراف على شؤون القُصَّر المالية، عملًا بالحديث النبوي:(( ((السلطان ولي من لا ولي له)) )) (1) .
وأما الوصي المختار: فهو الذي يختاره الشخص في حياته قبل موته للنظر في تدبير شؤون القاصر المالية؛ لأن له حق اختيار من يجد فيه الصلاحية للإشراف على شؤون الصغير.
وقبول الوصاية من الكفء أو القوي عليها قربة لله تعالى فيها الثواب؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، لقول الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] . ويرى الحنفية والحنابلة أن ترك ذلك أولى؛ لما فيه من الخطر.
وأركان الوصاية أربعة هي: موص، ووصي، وموصى فيه، وصيغة. وضوابط الوصي أو شروطه: ستة وهي تكليف (بلوغ وعقل) وحرية، وعدالة ولو ظاهرة، وخبرة بشؤون التصرف في الموصى به (وهو الرشد المالي) وأمانة، وإسلام. فلا يصح الإيصاء إلى صبي ومجنون، ولا إلى عبد، ولا إلى فاسق أو خائن، ولا إلى غير رشيد لا يهتدي إلى التصرف الحسن في الموصى به لسفه أو مرض أو هرم أو تغفل؛ إذ لا مصلحة في تولية أمثال هؤلاء، ولا يصح إلى غير أمين، فلو ثبتت خيانته وجب عزله عن الوصية، ولا إلى كافر من مسلم؛ إذ لا ولاية لكافر على مسلم ولأنه متهم، قال الله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] . وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] .
(1) أخرجه الدارقطني عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
نوعا الوصي بالنظر إلى ترتيب الأوصياء:
الوصي عند الحنفية نوعان: قوي وضعيف (1) .
فالقوي: وصي الأب، ووصي وصيه، ووصي الجد في حال وفاة الأب، ووصي القاضي.
والضعيف: وصي الأم، ووصي الأخ، ووصي العم، ونحوهم.
فأما الوصي القوي فيتصرف في مال الصغير، في المنقول والعقار جميعًا، وله ولاية التصرف بمثل القيمة، وغبن يسير (وهو ما يتغابن فيه الناس عادة) فيما ورث عن أبيه وغيره؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه، ولأنه يقوم مقام الأب، وللأب ولاية التصرف في جميع ذلك، فكذا من يقوم مقامه. وليس له التصرف بما لا يتغابن الناس فيه عادة، وهو الغبن الفاحش؛ لأن ولايته مقيدة بالمصلحة.
وحكم الوصي الضعيف على الصغير كحكم الوصي القوي على الكبير الغائب، ببيع منقول الصغير ما ورث من أمه أو عمه؛ لأنه قائم مقام الأم والأخ والعم، ولهم الحفظ دون التصرفات. وإنما يملك الوصي الضعيف هذا القدر من التصرف عند عدم الوصي القوي، أما حال وجود الوصي القوي، فلا يملك التصرف في مال الصغير أصلًا.
وليس للوصي أن يتجر في مال اليتيم لنفسه، فإن فعل تصدق بالربح في رأي أبي حنيفة ومحمد، ويجوز له أن يتجر في مال اليتيم لليتيم، ولا يجبر على تنمية مال اليتيم.
وأجاز غير الحنفية (2) للوصي التصرف في مال الصغير بحسب المصلحة للصغير أو للحاجة.
وأباح الحنفية والمالكية (3) إيصاء الوصي لغيره، ولم يبح ذلك فقهاء الشافعية والحنابلة (4) إلا بإذن الموصي؛ لأن الوصي يتصرف بالإذن، فلم يملك الوصية، كالوكيل.
(1) الدر المختار: 5 / 500 – 503، 512 – 513؛ جامع أحكام الصغار: 1 / 201، 276، 278، 280، 286، 2 / 14، 25، 34، 44، 48، 116، 140، 142، 176، 194، 201، 208، 210، 214.
(2)
الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 4 / 453؛ كشاف القناع: 4 / 444.
(3)
الدر المختار ورد المحتار: 5 / 499؛ الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي: 4 / 611.
(4)
المهذب: 1 / 464؛ كشاف القناع: 4 / 440.
وذكر الحنفية (1) : أنه لا يملك الوصي ومثله الأب إقراض مال اليتيم، فإن أقرض ضمن، ويملك القاضي ذلك. ولو أخذ الوصي المال قرضًا لنفسه لا يجوز، ويكون دينًا عليه. ولا يجوز للوصي الإقرار بدين على الميت ولا بشيء من تركته أنه لفلان؛ لأنه إقرار على الغير، إلا أن يكون المقرر وارثًا فيصح في حصته. وتصح قسمة الوصي حال كونه نائبًا عن ورثة كبار غائبين أو صغار، مع الموصى له بالثلث، ولا رجوع للورثة على الموصى له إن ضاع قسطهم مع الوصي؛ لصحة قسمته حينئذ، وهو قول الحنابلة، وذهب المالكية إلى أنه لا يقسم الوصي على غائب من الورثة بلا حاكم، فإن قسم بدون حاكم، نقضت القسمة (2) .
ولو دفع الوصي المال إلى اليتيم قبل ظهور رشده بعد البلوغ والإدراك، فضاع المال، ضمن الوصي عند أبي يوسف ومحمد والمالكية؛ لأنه دفعه إلى من ليس له أن يدفع إليه.
ولا يضمن في رأي أبي حنيفة، إذا دفعه إليه بعد خمس وعشرين سنة (تاريخ نهاية الحجر) ؛ لأن له حينئذ ولاية الدفع إليه (3) .
وينعزل الوصي عند الفقهاء بإرادة الموصي أو الوصي أو القاضي، أو بالعجز التام أو الخيانة أو بالموت أو الجنون أو الفسق، أو بانتهاء الغاية من الوصاية، أو بانتهاء مدتها (4) .
(1) الدر المختار ورد المحتار: 5 / 503 – 504.
(2)
كشاف القناع: 4 / 441؛ الشرح الكبير للدردير: 4 / 453.
(3)
الدر المختار: 5 / 504؛ الشرح الصغير للدردير: 4 / 612.
(4)
الدر المختار: 5 / 495 وما بعدها؛ الشرح الصغير: 4 / 606، 609؛ مغني المحتاج: 3 / 75؛ كشاف القناع: 4 / 440، 442.
تشريع الحضانة للصغار، وتوفير المناخ العائلي لهم، حتى في حالات الفرقة بين الأب والأم:
الحضانة: تربية وحفظ من لا يستقل بأمور نفسه عما يؤذيه لعدم تمييزه، كطفل وكبير مجنون، وذلك برعاية شؤونه، وتدبير طعامه وملبسه ونومه، وتنظيفه وغسله وغسل ثيابه في سن معينة ونحوها. وهي من أصول أحكام فقهنا التي تحقق الرعاية للصغار، بسبب ضعفهم وحاجتهم إلى عناية غيرهم بهم، فهي واجبة لأن المحضون يهلك بتركها، وهي بالنساء أليق؛ للحاجة إلى شفقتهن وخبرتهن. وتُجبر الحاضنة على الحضانة إذا تعينت عليها، بأن لم يوجد غيرها، وتظل الحضانة للأم ثم للجدة، حتى وإن فارقها زوجها، فالأم أحق بحضانة الولد بعد الفرقة بطلاق أو وفاة بالإجماع لوفور شفقتها، إلا أن تكون مرتدة أو فاجرة فجورًا يضيع الولد به، كزنا وغناء، وسرقة ونياحة، أو غير مأمونة بأن تخرج كل وقت، وتترك الولد ضائعًا، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم لأم:(( ((أنت أحق به ما لم تنكحي)) )) (1) . ويتعلق بالحضانة ثلاثة حقوق: حق الحاضنة، وحق المحضون، وحق الأب أو من يقوم مقامه، فإن تعارضت هذه الحقوق، قُدم حق المحضون على غيره.
فإن لم يكن للمحضون أحد من النساء (الأم أو الجدة أو الأخت أو الخالة أو العمة) انتقلت الحضانة إلى الرجال، على ترتيب العصبات الوارثين المحارم: الآباء، والأجداد، ثم الإخوة وأبناؤهم، فالأعمام ثم بنوهم، وتنتقل الحضانة في رأي الحنفية لذوي الأرحام كالأخ أو الأخت لأم، أو العم لأم، أو الخال، إذا لم يكن للصغير عصبة من الرجال.
(1) أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم وصحح إسناده.
ويشترط في الحواضن: الحرية، والعقل والبلوغ، والقدرة، والأمانة، وعدم تزوج الأنثى بأجنبي عن الصغير، وكون الحاضن ذات رحم من الصغير، والرشد والإسلام في رأي بعض الفقهاء.
وتسقط الحضانة بأربعة أسباب: سفر الحاضن إلى مكان بعيد، وظهور ضرر في بدنه كالجنون والجذام والبرص، والفسق أو قلة الدين والصون، وتزوج الحاضنة ودخولها بزوجها، وبالكفر في رأي الشافعية والحنابلة.
وتستحق الحاضن نفقات الحضانة من أجرة ومسكن، وكذا خادم في رأي الحنفية، ومكان الحضانة: هو مكان الزوجين إذا كانت الزوجية قائمة.
ومما يتعلق بالحضانة باتفاق الفقهاء حق أحد الأبوين غير الحاضن في زيارة المحضون، مرة في أيام؛ إبقاء لصلة الولد بأبويه، ولأن الاعتبارات المعنوية أو العاطفية لها تأثير بالغ في تكوين مشاعر الطفل وإحساسه بكرامته وانتمائه للأبوين.
وتستمر الحضانة في رأي المالكية – وهو أولى الآراء – في الغلام إلى البلوغ، وفي الأنثى إلى الزواج ودخول الزوج بها، وإذا انتهت مرحلة الحضانة، ضُم الولد إلى الولي على النفس من أب أو جد لا غيرهما (1) .
(1) راجع البدائع: 4 / 40 – 44؛ الدر المختار ورد المحتار: 2 / 871 – 882؛ القوانين الفقهية، ص 224 وما بعدها؛ مغني المحتاج: 3 / 452 – 459؛ المغني: 7 / 613 – 624؛ كشاف القناع: 5 / 576 - 582.
و – أحكام الإنفاق على الصغار:
تجب نفقة الأولاد، لقول الله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، أي على الأب المولود له نفقة أولاده بسبب الولادة.
والأولاد الواجب نفقتهم في اتجاه جمهور العلماء (1) : هم الأولاد الصغار مباشرة، وأولاد الأولاد، أي الفروع وإن نزلوا، فعلى الجد نفقة أحفاده، من أي جهة كانوا؛ لأن الولد يشمل الولد المباشر وما تفرع منه، فهذه النفقة تجب بالجزئية دون الإرث.
واتجه الإمام مالك رحمه الله (2) إلى أنه تجب نفقة الأولاد المباشرين فقط، دون أولاد الأولاد؛ لظاهر النص القرآني المذكور:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، فالنفقة عنده تجب بسبب الإرث لا بمطلق الجزئية.
وإيجاب النفقة بشرطين: أن يكون الأصل قادرًا على الإنفاق بيسار أو قدرة على الكسب. وأن يكون الولد فقيرًا معسرًا لا مال له، ولا قدرة له على الاكتساب. وأضاف الحنابلة: ألا يختلف الدين، فلا تجب النفقة في عمودي النسب مع اختلاف الدين، في المعتمد لديهم (3) .
وهل تجب النفقة على غير الأب من الورثة؟ في المسألة أربعة آراء (4) :
يرى الحنفية أنه إذا لم يكن الأب موجودًا، أو كان فقيرًا عاجزًا عن الكسب لمرض أو كبر سن ونحو ذلك؛ كانت نفقة الأولاد الصغر على الموجود في الأصول، ذكرًا كان أو أنثى إذا كان موسرًا.
وذهب المالكية إلى أنه تجب النفقة على الأب وحده دون غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله: عندي دينار؟ قال: (( ((أنفقه على نفسك)) )) . قال: عندي آخر. قال: (( ((أنفقه على أهلك)) )) . قال: عندي آخر. قال: (( ((أنفقه على خادمك)) )) . قال: عندي آخر. قال: (( ((أنت أعلم به)) )) (5) . ولم يأمره بإنفاق على غير هؤلاء، ولأن الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين، ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها، فلا يصح قياسه عليهم.
(1) فتح القدير: 3 / 346؛ المهذب: 2 / 165 وما بعدها؛ المغني: 7 / 586 وما بعدها.
(2)
الشرح الصغير: 2 / 753.
(3)
الدر المختار: 2 / 923 – 925؛ الشرح الصغير: 2 / 753؛ مغني المحتاج: 3 / 446 وما بعدها؛ كشاف القناع: 5 / 559.
(4)
فتح القدير: 3 / 346؛ الشرح الصغير، المكان السابق، مغني المحتاج: 3 / 450 وما بعدها؛ المغني: 7 / 589 – 592.
(5)
أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.
ورأى الشافعية: أنه إذا لم يوجد الأب أو كان عاجزًا، وجبت النفقة على الأم، لقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] ، ولأنه إذا وجبت النفقة على الأب وولادته من جهة الظاهر، فلأن تجب على الأم وولادتها مقطوع بها؛ أولى. وتجب عليها نفقة ولد الولد لأن الجدة كالأم في أحكام الولادة.
وقرر الحنابلة في ظاهر المذهب: أنه إذا لم يكن للولد الصغير أب، وجبت نفقته على كل وارث على قدر ميراثه، لقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد. وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من أبر؟ قال: (( ((أمك وأباك وأختك وأخاك)) )) وفي لفظ: (( ((ومولاك الذي هو أدناك حقًا واجبًا، ورحمًا موصولًا)) )) (1) ، وهذا نص في المطلوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه الصلة والبر، وكون النفقة من الصلة جعلها حقًا واجبًا.
واتفق الفقهاء (2) على أن نفقة القريب من ولد وولد ولد مقدرة بقدر الكفاية، من الخبز والأدم والمشرب والكسوة والسكنى والرضاع، إن كان رضيعًا على قدر حال المنفق وعوائد البلاد؛ لأنها وجبت للحاجة، فتقدر بقدر الحاجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان:(( ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) )) (3) . فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية.
(1) أخرجه ابو داود.
(2)
البدائع: 4 / 38؛ القوانين الفقهية، ص 223؛ الشرح الصغير: 2 / 703 وما بعدها؛ المهذب: 2 / 167؛ مغني المحتاج: 3 / 449؛ المغني: 7 / 595.
(3)
رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) إلا الترمذي عن عائشة رضي الله عنه.
عناية الإسلام بتربية الأطفال منذ بداية الوعي، والتشريعات والتوجيهات في كل مرحلة:
عني الإسلام عناية واضحة بتربية الأطفال منذ الصغر وبدء الوعي؛ لأنهم عدة المستقبل وبناة الحياة القادمة، وبهم ترتقي الأوطان والبلاد، ويتأثر الإنسان عادة ببواكير التربية المنزلية وتظل ماثلة في ذهنه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فالطفل جوهر صاف يتأثر بكل ما نقش فيه.
لذا كانت التربية الهادفة والناجحة مسؤولية وأمانة، فالأبوان مسؤولان عن تربية الأولاد مسؤولية دنيوية وأخروية، والصبي أمانة عند والديه، وهذا ما نبه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:(( ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته)) )) (1) .
ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم من انحراف المربي في تربية ولده، فيقول:(( ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)) )) . ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (2)[الروم: 30] .
وأسلوب التربية في الأسرة الإسلامية يعتمد اعتمادًا أساسيًا على منهج القرآن والسنة، وغرس محبة القرآن والنبي والدين في القلب، والالتزام بالفضائل، والبعد عن الرذائل.
(1) حديث متفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. والجمعاء: السليمة التي لا عيب فيها. والجدعاء: مقطوعة الأنف والأذن.
ويحرص المربي المسلم على تسليح ولده ببناء عقيدته الصحيحة على أساس من أصول الإيمان المعروفة، وتعويده على عبادة ربه وإلهه الواحد الأحد، وتقويمه وإعداده لحياة سديدة وقوية، تعتمد على أسس متكاملة متوازنة، اجتماعيًا بحب الناس والتعاون معهم على البر والتقوى، وأخلاقيًا بترويضه على الخلق الرصين القائم على الصدق والصراحة والجرأة والأدب الجم مع الآخرين، ونفسيًا بإشعاره بذاتيته ووجوده وكرامته وعزة نفسه، وضرورة الحفاظ على حياته واعتداله وانسجام نفسه، من غير تعقيدات ولا اهتزازات، وجسميًا بتقوية بدنه وتعليمه أنواع الرياضة المفيدة كالسباحة والرماية وركوب الخيل، وصحيًا بحب النظافة والترتيب وحسن الهندام، وعلميًا وفكريًا بتوسعة دائرة معارفه ومعلوماته عن الإنسان والكون والحياة، وبناء فكره بناء جذريًا قويًا ومتماسكًا، وكل ذلك من التوجيه والتربية لينشأ الولد نشأة صالحة مرضية. والأنموذج الرائع للتربية هو ما نجده في القرآن الكريم من وصية لقمان الحكيم لابنه في سورة لقمان (13 – 19) وكذلك الوصايا النبوية.
ففي جانب العقيدة علم الرسول صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنه وهو غلام حدث أصولَ الاعتقاد في قوله: (( ((ياغلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) )) (1) .
وفي مجال العبادة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) )) (2) .
(1) أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في حلية الأولياء.
(2)
أخرجه الترمذي وأبو داود، والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وفي زاوية الأخلاق والآداب نعلم الولد الأخلاق الفاضلة كالجود والسخاء والحياء والجرأة والصدق، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعهد الأطفال والناشئة، فقال:(( ((أكرموا أولادكم، وأحسنوا أدبهم)) )) (1) . وقال أيضًا: (( ((ما نحل والد ولده بأفضل من أدب حسن)) )) (2) . وقال كذلك: (( ((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الله، يوم لا ظل إلا ظله)) )) (3) .
وفي نطاق الشريعة نعلم الولد بنحو موجز أصول الشريعة وضرورتها وجدواها في إرساء معالم النظام والحقوق والحريات والمساواة والعدل والإنصاف، كما دلت على ذلك الوصايا العشر في أواخر سورة الأنعام قال تعالى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 – 153] .
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي في سننه والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير عن عمرو بن سعيد بن العاص.
(3)
أخرجه الديلمي في الفردوس، وابن النجار، وأبو نصر عبد الكريم الشيرازي في فوائده، عن علي رضي الله عنه، وهو ضعيف.
وفي قضايا الصحة نعلم الولد آداب النظافة أو الطهارة ورعاية الصحة، عملًا بالآيات القرآنية والتوجيهات النبوية في هذا الجانب، مثل قوله عليه الصلاة والسلام (( ((الطهور شطر الإيمان. . .)) )) (1) ، أي التطهر من الأنجاس والأدناس شطر الإيمان. (( ((الوضوء قبل الطعام حسنة، وبعد الطعام حسنتان)) )) (2)، (( ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل)) )) (3) .
وفي ناحية البناء الجسدي نعلمه ضرورة العناية به وبتقويته بأنواع الرياضة البريئة المباحة شرعًا، والبعد عن الرياضة الخطرة أو التي لا فائدة منها، كاتخاذ الحيوان هدفًا، والتحريض بين أنواع الحيوان كمصارعة الثيران وتقاتل الديكة وتناطح الخرفان، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(( ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) )) (4) . وقال عمر رضي الله عنه: علموا أولادكم السباحة والرماية وأن يثبوا على الخيل وثبًا.
وفي الناحية الاجتماعية نعود الطفل على محبة الناس واحترامهم، وضرورة التعاون معهم على الخير والصلاح، لقول الله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . وقوله صلى الله عليه وسلم: (( ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) )) (5) .
وقوله أيضًا: (( ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)) )) (6) . (( ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) )) (7)(( ((المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس)) )) (8) .
وفي الناحية الثقافية والعلمية والفكرية نحبب للولد العلم والمعرفة والتزود بنصيب وافر من الثقافة العامة والخاصة، وبناء الفكر بناء خصبًا وصحيحًا ومتنورًا وقائمًا على الخبرة والمهارة في كل شيء؛ لأن الإسلام دين العلم والمدنية والحضارة والرفعة، قال الله تعالى معلمًا كل إنسان:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] . وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] .
(1) أخرجه مسلم عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الحاكم في تاريخه عن عائشة رضي الله عنها، وهو ضعيف.
(3)
أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن معاذ رضي الله عنه.
(4)
أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه.
(6)
أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
أخرجه البخاري ومسلم (الشيخان) والترمذي والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه.
(8)
أخرجه الدارقطني والضياء عن جابر رضي الله عنه.
ثانيًا: حقوق المسنين
الكبر حلقة من حلقات التاريخ، وجزء لا يتجزأ من وجود كل مجتمع أو جيل أو إنسان في الغالب. وتقدُّم السن امتداد لتاريخ طويل، أمضى فيه الإنسان حياة ربما يكون ملؤها المخاطر والتضحيات، والتعرض لمختلف ألوان الفاقة والحاجة أو المحنة، أو فتنة الغنى والثراء، أو الوقوع فريسة المرض أو العجز، أو التعرض لحادث من الحوادث.
والتضحية وإن كانت أحيانًا لبناء الذات والمستقبل الشخصي، فإنها تكون غالبًا من أجل تربية الأولاد وإعالتهم، والحفاظ على وجودهم، أو تمكينهم من التعلم والاحتراف أو الاتجار، أو التزوج أو غير ذلك من الأسباب.
فليس من الوفاء لهذا الجيل المتقدم أو كبار السن أن يهملوا، أو يتركوا فريسة الضعف أو العجز أو المرض أو الحاجة، ويجب رعايتهم والعناية بهم، عملًا بمبادئ ديننا الحنيف، ورسالته الغراء التي تجعل الأسرة متضامنة متآزرة على السراء والضراء، ويعد وجود الكبار في المنزل امتيازًا وبركة ووقارًا، والشيخوخة مصدر استقرار وجمع الشمل ولمّ الأولاد، وتحقيق الوئام والمحبة والود بين أفراد الأسرة كلها، رجالًا ونساء، كبارًا وصغارًا.
ويحظى الكبار في مجتمعنا الإسلامي غالبًا بمزيد التقدير والرعاية والاحترام، بل إنهم في موضع الصدارة والقيادة، يأتمر الكل بأمرهم، ويحذر الجميع مخالفتهم، ويدرك هذا كل من قارن وسط الأسرة الإسلامية مع غيرها من الأوساط الغربية والشرقية، حيث تجد كبار السن المسلمين سعداء، وغير المسلمين أشقياء يعيشون في وحدة وغربة ووحشة، وفعلًا لاحظ بعض الصحفيين هذا الفارق في البلاد التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات 1990م. لكن مع ظهور حركة المتغيرات الاجتماعية التي تشهدها الحياة المعاصرة في مختلف المجالات، توجد بعض مظاهر الجوانب السلبية في محيط الأسرة وبيئة المجتمع، التي تمس بعض المفاهيم والقيم المتعارف عليها، وتؤثر على السلوك والعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة حتى وقت قريب. وأدى وجود هذه المظاهر السلبية إلى نشوء حالات مؤسفة مع عدم المبالاة والاكتراث، وإهمال بعض كبار السن، والزج بهم في مأوى مستشفيات العَجَزَة تهربًا من خدمتهم، والاعتذار بأن زوجة الولد تأبى خدمة والد الزوج أو والدته، فيضطر الولد الكبير أو الأولاد الكبار إلى التخلي عن واجب العناية بآبائهم وأمهاتهم أو أقاربهم الآخرين.
ويقضي توظيف الاحتفال بالسنة الدولية (عام 1999م) لكبار السن والتي دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بها، تحت شعار (نحو مجتمع لكل الأعمار) إبراز مبادئ الشريعة السمحاء في التكافل الاجتماعي، والانطلاق من آدابها ومنطلقاتها في البر والوفاء والتبجيل، للحفاظ على البناء المتماسك للأسرة الإسلامية، واحتضان خصال الرحمة والود والاعتراف بالجميل، والعمل على إسهام المكتب التنفيذي لمجلس الجامعة، واللجنة الوطنية للمسنين، والجامعات، مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في كل دولة على فتح مراكز لرعاية المسنين صحيًا واجتماعيًا، وإيجاد ورشات عمل تدريبية في مجال التخطيط الاجتماعي لكبار السن، ولرصد وتلبية احتياجات كبار السن النفسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والترويحية، وتنمية قدراتهم وخبراتهم ومهاراتهم الإنتاجية في مجالات أعمال مناسبة، وتصميم البرامج والمشروعات التي توفر لهم أوضاعًا حياتية وحقوقية وإنسانية أفضل، تضاعف من قدراتهم على المشاركة والإسهام بخبراتهم ومؤهلاتهم في مسيرة البناء، بما يساعد على شغل فراغهم وتسليتهم، بدلًا من قضاء الوقت في النوم والراحة الطويلة المدة، وكأنهم ينتظرون الموت كل ساعة، ويتفرج من حولهم عليهم، للوصول إلى هذه الغاية.
كما أن في إيجاد مثل هذه المشاريع ضمانًا لاستقلالهم وتجسيدًا لتطلعاتهم، وصونًا لكرامتهم وعدم إهدار إنسانيتهم.
ولا يقتصر الأمر على أنشطة الدول، وإنما ينبغي العمل على إحياء وإيجاد مؤسسات تنموية متعددة، تبادر إلى إحداثها هيئات اجتماعية أهلية، بجانب الهيئات الرسمية، تعتمد على إيجاد وسائل نقل أو مواصلات مناسبة، ومكاتب متعددة في المدن الكبرى وغيرها.
وأبدأ ببيان خطة بحث هذا الموضوع:
أ- العناية بمعالجة أمراض الشيخوخة وتوفير مستلزمات التطبيب لها بصورة تتاح لجميع المسنين حسب ظروفهم.
ينبغي في الساحة العربية والإسلامية كما هو موجود في البلاد الغربية العناية في كليات الطب البشري بدراسة اختصاص أمراض الشيخوخة، وإحداث عيادات المتخصصين فيها، وعناية الدولة والهيئات الاجتماعية فيها بمعالجة هذه الأمراض الكثيرة الظهور، من طريق تخصيص مراكز صحية خاصة بها، ومنتشرة في أماكن متعددة، ورفد هذه المراكز بالأطباء ودوامهم في ساعات معينة، ومنحهم الأدوية أو العلاجات المناسبة، أو التوجيه لرياضات معينة، ومعالجات فيزيائية متطورة، تسهم في تخفيف المرض أو استئصاله أو منع مضاعفاته، وفي ذلك خير كبير للأمة والمجتمع.
وتوجه شريعتنا السمحاء إلى هذه العناية بما يكفل الحياة الكريمة، لكل إنسان، شاب أو كهل أو شيخ هرم، من غير تمييز، لقول الله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] . وقوله سبحانه في الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] . ومن المعلوم أن المعاملة الكريمة والإحسان يقضيان وجوب العمل السريع للإنقاذ، سواء فيما يتعلق بالطعام والشراب، أو العلاج والدواء، أو الإيواء والسكن، أو اللباس الساتر الملائم.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة)) )) (1) . أي بالمعاملة الحسنة، وفي رواية أخرى:(( ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه: من أدرك أبويه عنده الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة)) )) (2) .
وما ينطبق على الوالدين ينطبق على غيرهما من الأقارب والأباعد الضعفاء، قال الله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] .
وقال عليه الصلاة والسلام: (( ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)) )) (3) . وقال أيضًا: (( ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا)) )) (4) .
وقال أيضًا في حديث متقدم: (( ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه، إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) )) (5) .
وقال كذلك: (( ((أنزلوا الناس منازلهم)) )) (6) . ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بتقديم الأكبر سنًا بقوله: (( ((كبر كبر)) )) (7) . أو (( ((الكُبْرَ الكُبْرَ)) )) وذلك سواء في الحديث أو المشاورة أو دفن الأموات، أو إمامة الصلاة وغيرها، ويقول صلى الله عليه وسلم في ترتيب صفوف الجماعة:(( ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) )) (8) .
والتزم الصحابة الكرام هذا الأدب في منهاج التربية النبوية، فكانوا يقدمون الأكبر سنًا في القول أو الكلام، أو الإطعام أو الشرب، وفي غير ذلك.
كل ذلك يدل على التزام هذا الأدب الإسلامي الرفيع باحترام كبار السن وأهل الفضل والمعروف، في مختلف الأحوال والمواقف، ولاسيما وقت اشتداد الحاجة إلى المعونة الطبية التي تساعد على حفظ الجسد والصحة والحياة، وتحمي من الوقوع في الضرر وتفاقم المرض واشتداد البؤس والحاجة.
فجدير بالمسلمين والمسلمات في عصرنا وفي كل عصر رعاية هذا الأدب، حتى يكون المسنّون – بحسب ظروفهم وأوضاعهم – مثل غيرهم في الرعاية والعناية والاحترام، وتوفير الحاجات الغذائية والدوائية، بل والترفيهية؛ لأن كبار السن أحوج إلى هذا كله من غيرهم الذين ينهمكون في مشاغل الحياة، وتساعدهم صحتهم وقوة بنيتهم على تخطي الأزمات والمحن وظروف الحياة القاسية.
(1) أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو صحيح.
(2)
أخرجه أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو حديث حسن.
(4)
أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(5)
أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(6)
أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها.
(7)
حديث متفق عليه، عن عبد الرحمن بن سهل رضي الله عنه.
(8)
أخرجه مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
ب- توفير دور الرعاية للمنقطعين من المسنين، وعدم اتخاذها بديلًا لرعاية من لهم أهل من أولاد أو إخوة، إلا في الحالات الاستثنائية التي تتطلب رعاية خاصة لا تتوافر في الأشخاص العاديين:
الأصل في رعاية المسنين أن تكون في نطاق الأسرة وفي المنزل الذي نشأ فيه الشخص وتربى وبنى حياة معينة، فعلى الأقارب من أولاد أو إخوة أو غيرهم توفير الرعاية الكريمة المستطاعة لهؤلاء؛ لأن الإنسان يشعر بعزة نفسه وكرامته إذا كان في بيته، وعلى العكس تكون نظرة المجتمع إليه مع الأسف نظرة مهانة وعطف من نوع خاص إذا كان في دور رعاية عامة للدولة أو لهيئة خاصة. ويمكن أن يوصف فعل المقصرين من القرابة بأنهم جناة آثمون من الناحية الأدبية إذا أخلوا بهذا الواجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(( ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت)) )) (1) .
فإن وُجِد عذر قاهر أو تطلبت حالات معينة استثنائية تقتضي رعاية خاصة، كمرض مؤلم يتطلب تمريضًا معينًا أو علاجات مستمرة خاصة، أو يحتاج إلى خدمة معينة من حمل وقيام وتجليس ونقل، أو لوجود حالة صرع مثلًا أو خرف مفند لا يتحمله شخص عادي، أولا يوجد قريب للمسن أصلًا، فيوضع هذا المسن في بعض دور الرعاية الخاصة بأمثاله، ويعامل معاملة رحيمة ومناسبة، للضرورة أو الحاجة الشديدة لهذا التصرف، وأخذًا بمبدأ الضمان الصحي المقرر في الإسلام.
وعلى من يرعى هذا المسن أن يكون صبورًا، يغتفر زلات المسن وتجاوزاته، ولا يوجه له أي نوع من أنواع الأذى أو الاحتقار أو التعيير أو الامتنان، فذلك كله يمس كرامة الشخص، وربما يؤدي به إلى مزيد من الهموم والانفعالات، والوقوع فريسة أمراض أخرى، وقد نبه القرآن الكريم إلى إعفاء ذوي الأعذار من الجهاد ونحوه؛ بسبب عذرهم أو حاجتهم، فقال الله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] .
ويخصص للمسن خادم أو خادمة إذا تعذر على القريب خدمته، لاسيما في حال الشلل أو فقد السمع والبصر، وقضاء الحاجة في الفراش.
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ج – الإنفاق عليهم إذا فقدوا القدرة على التكسب، ولم تكن لهم مدخرات أو موارد مالية، سواء تم ذلك من خلال نظام النفقات في الشريعة، أو الضمان الاجتماعي المنظم حكوميًا؛ إذا عجز كبير السن عن نفقته حيث لا يملك مالًا ولا يقدر على التكسب، فيجب على قرابته الإنفاق عليه، وبخاصة إذا كان الكبير من الأصول (الآباء والأجداد والأمهات والجدات) .
وقد أوجب جمهور العلماء (غير المالكية)(1) نفقة الوالدين وإن علوا؛ لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] ، ومن الإحسان أن ينفق الأولاد على أصولهم عند الحاجة، ولقوله عز وجل:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] ، ومن المعروف الإنفاق على الوالدين ولو كانا مخالفين في الدين، فإن هذه الآية الأخيرة نزلت في الأبوين الكافرين، وليس من المعروف أن يعيش إنسان في نعم الله تعالى، ويترك أبويه أو غيرهما يموتان جوعًا.
ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (( ((إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئًا مريئًا)) )) (2) . وقوله أيضًا لرجل سأله: من أبر؟ قال: (( ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب)) )) (3) .
(1) فتح القدير: 3 / 347؛ البدائع: 4 / 30؛ الشرح الصغير: 2 / 752؛ المهذب: 2 / 65 وما بعدها؛ المغني: 7 / 583.
(2)
أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه أبو داود، وقد سبق تخريجه.
وأصول الإنسان الذين تجب نفقتهم هم: الآباء والأجداد والأمهات والجدات وإن علوا؛ لأن الأب يطلق على الجد، وكل من كان سببًا في الولادة، وكذلك الأم تطلق على الجدة مهما علت.
وقصر المالكية الأصول الذين تجب نفقتهم على الآباء والأمهات المباشرين، لا الأجداد والجدات مطلقًا، سواء من جهة الأب أو الأم، فلا تجب نفقة على جد أو جدة، كما لا تجب على ولد ابن.
فإن عدم الأولاد، ولم تكن لكبار السن مدخرات أو موارد مالية، انتقل إلى الدولة واجب الإنفاق، وتحمل عبئه على الأمة، ممثلة في النظام الحكومي، أو تضامن وتكافل الجماعة ومبدأ كفاية المحتاجين، عملًا بمقتضى الضمان الاجتماعي المقرر في الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم:(( ((إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذبهم عذابًا أليمًا)) )) (1)، وفي حديث آخر:(( ((أيما أهل عرصة (أي بقعة) أصبح فيهم أمرؤ جائعًا، فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى) )) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته:(( ((من خلف مالًا أو حقًا لورثته، ومن خلف كلًا أو دينًا، فكله إليّ)) )) .
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير، وقال: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد، وقال ابن حجر: وروي موقوفًا على علي رضي الله عنه، وهو أشبه.
(2)
أخرجه الحاكم وأحمد، وفي إسناده أصبغ بن زيد، وهو مختلف فيه.
د- إيجاد الأنشطة والقنوات التي تحقق للمسنين استمرار الحيوية والأمل، وتتيح دوام الاستفادة من خبراتهم:
من المعلوم أن كل إنسان في حياته له اختصاص بشيء أو خبرة ومهارة بأشياء، وهذه المهارة أو الخبرة وذلك الاختصاص لها قيمتها وأهميتها في التنمية وتوارث الكفاءات، حتى مع وجود التطور.
لذا ينبغي أن تتعاون وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في كل دولة مع الجامعات، ومع لجنة وطنية للمسنين، ومع الجهات الدولية أو الإقليمية؛ لإيجاد أنشطة وورشات عمل ومراكز تدريب مهني في مختلف الاختصاصات، وحشد جماعة المسنين القادرين على الحركة والعمل فيها؛ لتدريبهم وتشغيلهم وتوظيفهم، ولو بمقدار أربع ساعات في اليوم، فتفتح أمامهم أبواب الأمل والطموح، وتمكنهم من تجديد حيويتهم واستمرار نشاطهم، والإفادة من خبراتهم وعطاءاتهم، ولو كانت قليلة أو محدودة، وهذا لون من إشراكهم في مسيرة البناء والتعمير والتنمية، التي هي ضرورية في كل دولة.
ويؤدي هذا بالتأكيد إلى التخفيف من أعباء الإنفاق الصحي والاجتماعي الذي تقوم به الدول، ويسهم في تقليل عبء الموازنة العامة للنفقات العامة، ويساعد في رفع مستوى الدخل العام.
ويخطئ من يرى أن العمل مهانة وتركه شرف وعز، وإنما على العكس العمل رياضة وشرف وعزة نفس، وهو في صالح الإنسان، كيلا تضعف قواه وعزيمته وجسده، بل هو مساعد على نمو الملكات العقلية وإذكاء الأفكار، وعلى نشاط الجسد وحيويته.
هـ – عدم حجب المهام أو الوظائف التي تظل الطاقة لأدائها متوافرة في المسنين، ولاسيما ما لا تحتاج إلى قوة بدنية.
إن تشجيع روح المبادرة الفردية والشجاعة الأدبية مما يقتضيه الأدب والخلق الإسلامي، سواء لدى الصغار أو الكبار، وذلك يساعد على تكوين الشخصية بالنسبة للصغار، وضرورة احترام الكبار،
فلا يستهان بأي عمل قدمه الكبير، إذا كان يصلح نواة للتعديل والإكمال، والتحسين والإنهاء، ولا يصح حجب المهمة عن الكبير أو منعه من ممارسة الوظيفة المناسبة لإمكاناته وطاقاته الفكرية وإسهامه في الإنجازات المختلفة بحسب الميول والخبرات، دون إرهاق جسده أو توريث الوهن والضعف في قواه البدنية، فحينئذ لا نحمله ما لا يطيق، فإن جميع التكاليف الشرعية والدنيوية تعتمد على الطاقة أو الاستطاعة، قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وقال صلى الله عليه وسلم: (( ((فإذا كلفتموهم فأعينوهم)) )) (1) .
والتكليف أيًا كان نوعه يعتمد على وجود المشقة المعتادة، دون المشقة غير المعتادة. أما المعتادة فهي المشقة التي يستطيع الإنسان تحملها دون إلحاق الضرر به، وهذه لم يرفعها الشارع من التكاليف وهي أمر واقع، فإن كل عمل في الحياة لا يخلو عن مشقة. وأما غير المعتادة أو الزائدة فهي التي لا يتحملها الإنسان عادة، وتفسد على النفوس تصرفاتها، وتخل بنظام حياتها، وتعطل عن القيام بالأعمال النافعة غالبًا، وهذه لم يقع التكاليف بها شرعًا؛ منعًا من الوقوع في الحرج والعنت والأذى (2) .
إذا عاملنا كبار السن بهذه الروح الطيبة والمشاركة الفاعلة، فإننا نكسب منهم المزيد مع تنامي الخبرات، ونحميهم من الاسترخاء والكسل الذي يؤدي عادة إلى كثرة الهموم والقلاقل والأمراض وضعف الجسم، ونسهم بهذه المشاركة في ملء الفراغ لديهم، وإشعارهم بكرامتهم وذاتيتهم وأهميتهم في الحياة، دون أن يحسوا بأنهم أصبحوا ثقلاء أو أعباء على غيرهم.
(1) أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(2)
تاريخ الفقه الإسلامي للسايس، ص 25.
و – وضع مشروع لوثيقة عن حقوق المسنين تشتمل على التوجيهات والمقررات الشرعية في هذا الشأن:
يمكننى من خلال توجيهات شرعنا الحنيف وآدابه وأخلاقه الشخصية والاجتماعية وضع مشروع وثيقة حقوق المسنين كما يأتي:
م 1 – للمسنين حق أصيل من حقوق الإنسان؛ لأن استصحاب الحياة وبقاءها ألزم وأولى من بدئها وحال نشوئها لتيقنها.
م 2 – لكبار السن الحق في الوفاء والبر والرعاية والتقدير والاحترام، باعتبار ذلك صفة ملازمة للكرامة الإنسانية.
م 3 – الحفاظ على وجود المسنين وصحتهم ورعايتهم الكريمة السخية ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني.
م 4 – تتميز معاملتهم بالرحمة والعاطفة الإنسانية القوية والحرص على توفير الراحة والسعادة والطمأنينة لهم.
م 5 – تلبية احتياجات كبار السن النفسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والترويحية من أصول الرعاية الكريمة المطلوبة لهم.
م 6 – وضع برامج ومشروعات توفر لهم أوضاعًا حياتية وحقوقية وإنسانية أفضل، وسن قوانين خاصة تحمي الشيخوخة، يسمى الواحد منها قانون الشيوخ.
م 7 – إنشاء مراكز صحية واجتماعية وتدريبية مهنية في مختلف المدن والقرى.
م 8 – الواجب احترام كبار السن وإكرامهم ومساعدتهم في شؤونهم، وإشعارهم بأنهم خير وبركة، لا ثقلاء أو مصدر متاعب ومشكلات.
م 9 – ضرورة مجاملتهم بلطيف الكلام والمؤانسة، والإكثار من الدعاء لهم بطول العمر والصحة والقوة؛ لأن في ذلك تطييبًا لخواطرهم وإراحتهم نفسيًا واجتماعيًا.
م 10 – زيادة المخصصات التقاعدية والتأمينات الاجتماعية لكبار السن وجميع العاطلين عن العمل، والعاجزين، والذين لا قدرة لهم على الاكتساب؛ لأن ذلك يخفف من ألوان معاناتهم، ويساعد على قضاء حوائجهم وكثرة متطلباتهم في سن الشيخوخة.
م 11 – الإنفاق عليهم وسد حاجاتهم وإعفاف من يحتاج للزوجة الجديدة بسبب وفاة زوجته من واجبات الشريعة الإسلامية الغراء.
م 12 – محاولة الاستفادة من تجاربهم الحياتية، وتنمية قدراتهم ومواهبهم، وتعويدهم على الإنجاز والعطاء وحب العمل وثمرته.
م 13 – إن بر الأبوين وأمثالهم من الكبار يقتضي مؤانستهم والاستماع لنصائحهم وتوجيهاتهم ووصاياهم، وتنفيذ متطلباتهم ومآربهم المعقولة بقدر الإمكان، وتحاشي المساس بمشاعرهم من ضحك أو سخرية أو هزء من قول أو فعل صادر عنهم، والبعد عن توجيه اللوم والانتقاد والاتهام لهم، وترك كل ألوان الاستخفاف بهم من تأفيف وشتم وتوبيخ ونحو ذلك من صنوف الأذى المادي أو المعنوي.
م 14 – محاولة تخليد ذكرياتهم، والتنويه بعطاءاتهم العلمية والعملية أو المشاركة في بطولة أو جهاد أو موقف مشرف يعتز به الخلف والأهل، والإشادة بما قد أسهموا في تربية أو علم أو عمل، أو إبداع في حرفة، أو تقديم خبرة ذات أثر بعيد في التاريخ.
م 15 – إن التنكر من الأولاد أو القرابة للمسنين في أواخر حياتهم يعد جناية إنسانية كبيرة وانسلاخًا عن قيم الإسلام ومبادئه السامية وأخلاقه العالية.
م 16 – الإساءة للوالدين أو الكبار جرم يستحق التعزير بما يراه القاضي مناسبًا.
م 17 – على الأولاد تذكر ما كان يقوم به أهلهم من أم وأب أو غيرهم من تنظيف ورعاية وسهر مضن وتحمل مشاق الحمل والولادة والإنفاق السخي عليهم في حال صغرهم وتعليمهم؛ فعليهم مبادلة ذلك بالوفاء والاعتراف بالجميل.
خاتمة
الكلام عن حقوق الأطفال والمسنين يشمل جيلين أو عالمين أو مرحلتين: عالم الطفولة (مرحلة الطفولة) وعالم الشيخوخة (مرحلة الشيخوخة) . أما الطفولة: فتمثل كل من في عيال الشخص من الذرية الصغار بالولاية كالأولاد، أو بالكفالة كاليتامى. وأما الشيخوخة: فتشمل الوالدين أو أحدهما ببلوغ الكبر أو المسنين.
وتظهر أهمية بحث حقوق الأطفال من الناحية الدولية أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرت بالإجماع في جلستها المنعقدة في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989م " اتفاقية حقوق الطفل " وهي ثمرة جهود عشر سنوات من المشاورات بين الحكومات ووكالات الأمم المتحدة، وأكثر من خمسين جمعية تطوعية. وأما أهمية بحث حقوق المسنين فقد اعتبرت هذه السنة " السنة الدولية لكبار السن 1999م" ودعت الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بها تحت شعار " نحو مجتمع لكل الأعمار".
وأما من الناحية الإسلامية: فقد سبقت الشريعة الإسلامية إلى توجيه الأنظار والعناية الشديدة بكل من الأطفال والمسنين، وذلك في وصايا القرآن الكريم والسنة النبوية بتربية الأولاد، مثل المذكور في وصية لقمان الحكيم لابنه في سورة لقمان، وقوله صلى الله عليه وسلم:(( ((أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم)) )) . وقوله: (( ((ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن)) )) ومثل تكرار الأمر القرآني ببر الوالدين والإحسان لهما، أي ولأمثالهما من الكبار والعجزة والضعفاء وقوله صلى الله عليه وسلم:(( ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه إلا قيض الله من يكرمه عند سنه)) )) ، وحديث:(( ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) )) ، أي أعينوني على مطالب ضعفائكم.
وقد اعتنى الفقهاء بأحكام الصغار في شتى الأبواب الفقهية من عبادات ومعاملات وغيرها وفي كتب أصول الفقه في بحث الأهلية وعوارضها، وفي كتب الأشباه والنظائر تحت عنوان الصغر أو أحكام الصبيان، بل إن الإمام الجليل محمد بن محمود بن الحسين الأستروشني الحنفي من فقهاء القرن السابع الهجري صنف كتابًا سماه "جامع أحكام الصغار".
وعني الفقهاء المسلمون أيضًا بالطفل منذ كونه جنينًا، فقرروا له حقوقًا أربعة هي: حقه في النسب، والميراث، والوصية، والوقف. بل امتدت العناية إلى ما قبل مرحلة الاجتنان (تكوين الجنين) وذلك في فترة الخطبة واختيار الزوجة أو المرأة الصالحة ذات الخلق والدين، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو:(( ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)) )) .
وحفاظًا على حقوق الآخرين أوضح الفقهاء أن اعتداءات الصغير وجناياته وإتلافاته على غيره، توجب عليه الضمان من قبيل الحكم الوضعي لا الحكم التكليفي؛ لأنه لا يكلف بالتكاليف الشرعية إلا بعد البلوغ.
وتصح عبادات الصغير ترغيبًا له في أدائها إذا بلغ سن التمييز، وفي سن التمييز يجوز لوليه الإذن له بالتجارة لتدريبه على شؤون الحياة الاقتصادية والمعاملات المدنية، ويجوز توكيله في بعض التصرفات، كالإذن له بإدخال الضيف إلى المنزل، وله مباشرة التصرفات النافعة أو التي لا ضرر فيها كقبوله الهبة والصدقة. كما أن ممارسته أنواع الشراء لحاجياته المدرسية أو المطعومات والمشروبات ونحوها تكون نافذة إذا أجازها وليه، في مذهبي الحنفية والمالكية.
وحرصًا من الشرع على رعاية مصالح الصغار الشخصية من تزويج وتعليم وتطبيب وتشغيل ونحو ذلك، والمالية من تنمية أموالهم واستثمارها والمحافظة عليها؛ شرع الشرع حكم الولاية بنوعيها: الولاية على النفس، والولاية على المال، ولكل نوع أحكام وضوابط مقررة معروفة في الفقه الإسلامي، كما أن لكل ولي صلاحيات معينة لا يجوز له تجاوزها.
وكذلك من أجل تلك الغاية نفسها شرع الشرع أيضًا أحكام الوصاية على الصغار، سواء الوصي المختار من الأب أو الجد ووصي القاضي؛ لأن للقاضي ولاية عملًا بالحديث النبوي:(( ((السلطان ولي من ولا ولي له)) )) . وجعل الإسلام قبول الوصاية من القوي عليها قُربة لله تعالى فيها الثواب؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، ولقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] . وصلاحيات الوصي مقصورة على الشؤون المالية، بشروط ستة: هي التكليف، والحرية، والعدالة، والخبرة بشؤون التصرف في الأموال، والأمانة، والإسلام بالنسبة للموصى عليه المسلم.
وتمتد الرعاية والعناية بالصغار في مرحلة الطفولة حتى البلوغ، من طريق تشريع الحضانة (أو كفالة الطفل) وهي نوع من الولاية والسلطة، وحكمها أنها واجبة، وأن الإناث أليق بها، حفاظًا على الطفل من التعرض لمخاطر الهلاك والضياع وحفظ الحياة، وتوفير المناخ العائلي الكريم له، حتى في حال الفرقة بين الأب والأم، وأن الأم أحق بالحضانة عملًا بحديث:(( ((أنتِ أحق به ما لم تنكحي)) )) فإذا بلغ الطفل سنًا معينة، أو كانت الأم غير مؤتمنة على أخلاق المحضون؛ صار الحق في تربية الطفل للرجل؛ لأنه أقدر على حمايته وصيانته وتربيته من النساء، بل يلزم بممارسة هذا الحق إذا كان محرمًا للمحضون الأنثى المشتهاة إذا بلغت سبع سنين؛ حذرًا من الخلوة بها.
وتسقط الحضانة بالسفر إلى مكان بعيد، وبالفسق أو قلة الدين والصون، وبوجود الأذى أو الضرر في بدن الحاضن بسبب الجنون أو الجذام أو البرص، وبتزوج الحاضنة الأنثى ودخولها بالزوج الجديد، وتكون مؤونة أو نفقة الحضانة في مال المحضون إن كان له مال، وإلا فعلى الأب أو من تلزمه نفقته، وتستحق الحاضن نفقة الحضانة من أجرة لها ومسكن، وكذا خادم في رأي الحنفية (1) . وإذا انتهت مرحلة الحضانة ضُم الولد إلى الأب أو الجد لا لغيرهما.
(1) رد المحتار (حاشية ابن عابدين) : 2 / 931.
ويجب على الآباء الإنفاق على الأولاد الصغار، إذا كانوا قادرين على النفقة بمال أو كسب، وكان الولد فقيرًا معسرًا لا مال له ولا قدرة له على الاكتساب؛ صونًا لحق الطفل في الحياة.
وقد عني الإسلام عناية واضحة بتربية الأطفال منذ كونهم أجنة، وفي حال الصغر وبدء الوعي، بل قبله بحسن اختيار الزوجة، بحسب توجيه السنة النبوية؛ لأنهم عدة المستقبل، وبناة الحياة المنتظرة، وبهم ترتقي البلاد، ويتأثر الإنسان عادة بأصول التربية التي ربي عليها في مرحلة الطفولة، وتلك في الدرجة الأولى هي مسؤولية الوالدين. وينبغي أن تكون التربية على أساس قويم من العقيدة الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والتعويد على ممارسة العبادة، ورعاية الصحة والاهتمام بشؤون النظافة، وتعليم الطفل شيئًا من واجباته الاجتماعية والثقافية، والتنبيه إلى خطورة الأعداء أو المحتلين الغاصبين؛ حفاظًا على العزة والكرامة والحقوق التي يتحلى بها المسلم الشريف القوي.
وأما حقوق المسنين
فهي كثيرة ومتنوعة، وذات أبعاد إنسانية واجتماعية ووطنية، ولابد من الاعتراف بهذه الحقوق؛ لأن الكبر حلقة من حلقات التاريخ، وجزء لا يتجزأ من وجود كل إنسان أو مجتمع في الغالب، وتقتضي نصوص شريعتنا ومبادئ وأحكام ديننا توفير الكرامة والاحترام والتقدير والحياة الطيبة الرغيدة والهانئة لكبار السن، وتلبية احتياجاتهم، وتحسين أوضاعها المعيشية، وتوفير الخدمات الأساسية لهم، من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والترويحية، وتصميم البرامج والمشروعات التي توفر لهم أوضاعًا حياتية وحقوقية وإنسانية أفضل.
ولا بد من التركيز على معالجة أمراض الشيخوخة وتقديم العلاج المناسب لهم، وإنشاء مراكز صحية في كل بلد أو حي كبير؛ تسهيلًا عليهم وتيسيرًا لتمكينهم من وجود الرعاية الكريمة بحسب ظروفهم، وذلك من مقتضيات البر والإحسان والوفاء والإنصاف لهم؛ لأن الشيخوخة امتياز وبركة ووقار، وإكرام المسنين مما يدعو إليه الإسلام والأخلاق الكريمة في مجتمعنا العربي والإسلامي، ولقوله عليه الصلاة والسلام:(( ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا)) )) . وقوله أيضًا: (( ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)) )) .
وإذا لم يكن للمسنين أهل أقرباء من أولاد أو إخوة، وجب توفير دور الرعاية ومأوى العجزة لهم، إما مجانًا وهو الأفضل والأكرم، وإما بأسعار مخفضة ومعقولة، لاسيما إذا تعذر على الأقرباء أحيانًا تقديم الخدمة اللازمة بسبب الحاجة إلى رعاية خاصة لا تتوافر في الشخص العادي.
ومن ألزم ما يجب وهو الغالب فعلًا: الإنفاق على المسنين لكثرة حاجاتهم، إذا فقدوا القدرة على الكسب، ولم تكن لديهم أموال أو موارد كافية، وهذا يوجبه نظام النفقات في الإسلام على كل قريب، وقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] .
ومن مقتضيات التكافل الاجتماعي في الإسلام إيجاد أنشطة وأماكن مخصصة للمسنين تحقق لهم استمرار الحيوية وعذوبة الأمل، وتكفل لهم تمكينهم من إثبات الذات ودوام الاستفادة من خبراتهم في مشاغل فكرية أو يدوية، أو ورشات عمل ذات مهارات متخصصة تتناسب مع إمكاناتهم.
ولا يصح بحال حجب المهام أو الوظائف التي يتمكنون من أدائها، بحسب القدرة والطاقة، لاسيما ما لا يحتاج إلى قوة بدنية؛ لملء فراغهم والتخلص من مرض التقاعد ومآسيه والقسوة في فرضه عليهم بحسب النظام السائد.
وفي آخر الحديث وضعت مشروعًا يصلح وثيقة عامة تبرز حقوق المسنين، انطلاقًا من مبادئ الإسلام الاجتماعية والأخلاقية، مفادها أن إكرام المسنين والحفاظ عليهم وضرورة رعايتهم حقٌ أصيل من حقوق الإنسان، وأنه ينبغي تخصيصهم بمعاملة كريمة رحيمة ملؤها الحب والحنان والعطف ومراعاة ظروفهم، وأنه يلزم إمدادهم بما يحتاجون من المال، بتعاون المؤسسات الاجتماعية والدولية، والمبادرة إلى إصدار قانون خاص بالشيوخ لتدريبهم والإفادة منهم ورعايتهم صحيًا.