الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر المصلحة في الوقف
إعداد
الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه.
أثر المصلحة في الوقف
مقدمة:
هذا بحث حول (أثر المصلحة في الوقف) يرمي إلى إتاحة الفرصة للأوقاف لتلج أبواباً من الخير وتنمية المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تلجها إلا عن طريق الدخول في غمرة الاستثمارات الحديثة من صناعات ومضاربات وزراعة وهو أمر يبدو أن العقبة الأولى التي تواجهه من بين عقبات أخرى هي النظرة الفقهية الموروثة في بعض المذاهب والتي تجعل الوقف ساكناً لا يتحرك وواقفاً لا يسير، في وقت تنوعت فيه المؤسسات الخيرية غير الإسلامية في العالم وتنافست في توفير الخدمات الإنسانية متخذة من الاستثمارات الضخمة وسيلة لجني الأرباح الطائلة التي أصبحت ريعاً فائضاً يغطي احتياجات العمل الخيري دون أن تمس رأس المال بسوء، وللحقيقة فنحن أحق بذلك إذا فهمنا الحديث النبوي الصحيح:((حبس أصلها وسبل ثمرتها)) ، فالثمرة ليست حبيسة ولكنها حرة في سبيل الخير، وهذه العقبة الفقهية جعلت كثيراً من العقارات الموقوفة منذ مئات السنين تفقد قيمتها ولا تدر ريعاً على جهاتها لأنها خربت ولم تستبدل وضاعت ولم تستصلح وضاق النظار بها ذرعاً فلم يصرفوها في بعض أوجه البر التي لم يذكرها الواقف في ذلك الزمان، فبرزت مسائل الواقفين وأسئلة الباحثين عن جوز استثمار الغلات الفائضة.
وعن جواز الاستبدال والمعاوضة للأوقاف الخربة أو العديمة أو القلية الريع، وعن جواز صرف ريع وقف في مصرف غير الذي حدده الواقف، فلو كانت وقفية مرصودة للتعليم هل يجوز صرف ريعها لإغاثة أهل كوسوفا مثلاً؟ تلك بعض الأسئلة العلمية التي تدور، وسيحاول هذا البحث أن يرد عليها من خلال قاعدة المصالح وأثرها الذي لا ينكر.
ويقصد منه إبراز تأثير المصلحة في الوقف سواء فيما يتعلق بطبيعة المال الموقوف أو التصرف في عينه وتغيير معالمه أو فيما يتعلق بتحريك غلته للاستثمار أو التصرف بالغلة بتوجيهها إلى مصرف غير الذي حدده الواقف وتجاوز ألفاظ الواقف لفائدة قصده الذي تعرفه المصلحة.
وستكون خطة البحث كالتالي:
1-
تعريف الوقف ومشروعيته باختصار.
2-
تعريف المصلحة وما تدخله من الأمور الشرعية للوصول إلى أن الوقف معقول المعنى مصلحي الغرض.
3-
مظاهر تأثير المصلحة في الوقف، مع الإشارة إلى ثلاث مدارس هي عبارة عن طرفين وواسطة.
أ-طبيعة المال الموقوف.
ب-الإبقاء على الموقوف وتغيير معالمه هدماً وبناء.
جـ-التصرف في الوقف بالمعاوضة والاستبدال والمناقلة.
د-التصرف في الغلة باعتبارها مسبلة وليست حبسية.
هـ- استثمار الغلة في جنس الموقوف أو غير جنسه لتصبح نقوداً سائلة تدخل في المضاربات وأنواع الاستثمارات للمصلحة.
وتقديم ذوي الحاجة والفاقة من الموقوف عليهم المعنيين للمصلحة التي تقصد إليها الأوقاف –قاعدة اعتبار قصد الواقف -.
4-
كيف تتحقق المصلحة في واقع الأمر ليجوز التصرف.
وخاتمة: تشتمل على أهم نتائج البحث.
أثر المصلحة في الوقف
تعريف الوقف:
الوقف هو: الحبس، وهما لفظان مترادفان يعبر بهما الفقهاء عن مدلول واحد، وإن كان الرصاع يرى أن الوقف أقوى في التحبيس. (1)
ويطلق على ما وقف فيقال: هذا وقف فلان، أي الذوات الموقوفة فيكون فعلاً بمعنى مفعول كنسج بمعنى منسوج، ويطلق على المصدر وهو الإعطاء. وحده ابن عرفة بأنه:"إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً"(2) .
وحده ابن عبد السلام بأنه إعطاء منافع على سبيل التأبيد وهو: "جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس"(3)
وعند أبي حنيفة: " حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة"(4) .
وقال ابن قدامة: "ومعناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة"(5) .
إن هذه التعريفات تتفق في الجنس الذي هو الحبس، وبعبارة أخرى تتفق في الموضوع لكنها تختلف في المحمول وهو المحكوم به الذي هو (الفصل) أو (الخاصة) فالحد عند المناطقة يكون بالجنس والفصل، فإذا قلت في حد الإنسان: إنه حيوان ناطق، فحيوان جنس، وناطق فصل، ولتوضيح الفكرة نقول: إن التعريفات المختلفة تتفق على أن الوقف حبس للعين، وتختلف بعد ذلك في كيفيته فمنهم من يرى العين محبوسة على ملك الواقف كمالك وأبي حنيفة خلافاً لغيرهما، ومنهم من يرى جواز التوقيت كمالك، وهذا ما يشير إليه تعريف ابن عبد السلام المالكي بقوله:"مدة ما يراه المحبس" أن اتفاقهم في التحبيس ناشئ عن الحديث الصحيح ((حبس أصلها وسبل ثمرتها)) .
أما الاختلافات الأخرى فناشئة عن اجتهاداتهم في طبيعة هذا التحبيس هل هو إخراج عن ملك الواقف أو إبقاء لها على ذمته؟ قد لا نتوقف مع هذه المسألة إلا بقدر ما تخدم علاقة تأثير المصلحة في التعامل مع الوقف لاحقاً.
أصل مشروعية الوقف:
ما رواه الجماعة عن ابن عمر ان عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر فقال: يا رسول الله أصبت أرضا ً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب.
وما رواه الشيخان عن أنس أن أبا طلحة قال: يا رسول الله، إن الله يقول:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال:((بخ، بخ، ذلك مال رابح مرتين، وقد سمعت، أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن أوقافه عليه الصلاة والسلام وأوقاف أصحابه، لذلك قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافاً في جواز وقف الأرضين، وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس، وقال أبو حنيفة لا يلزم، وخالف أصحابه إلا زفر. وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال: لو بلغ أبا حنيفة لقال به (6) .
بيان علاقة الوقف بالمصالح:
نقول أولاً: ما هي المصالح باختصار؟
المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها. هذا ما يقوله العز بن عبد السلام، وقال غيره (المصلحة) : جلب نفع أو دفع ضر، لأن قوام الإنسان في دينه ودنياه وفي معاشه ومعاده بحصول الخير واندفاع الشر. وإن شئت قلت: بحصول الملائم واندفاع المنافي (7) .
(1) شرح الرصاع: 2/539.
(2)
المرجع السابق نفسه.
(3)
الشرح الصغير للدردير: 4/97.
(4)
حاشية ابن عابدين: 3/357.
(5)
المغني: 8/184.
(6)
الشوكاني، نيل الأوطار: 6/20، 22، 26.
(7)
شرح مختصر الروضة للطوفي: 3/204.
ويقول العز بن عبد السلام: "الطاعات ضربان: أحدهما: ما هو مصلحة في الآخرة كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف. والضرب الثاني ما هو مصلحة في الآخرة لباذله وفي الدنيا لآخذيه: كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف والصلات"(1)، ويوازي هذا التقسيم للطاعات تقسيم ثنائي آخر لكل ما شرعه الشارع الحكيم من معقول المعنى أو غير معقول المعنى (التعبدي) وعبر العز عن ذلك بقوله: "المشروعات ضربان:
أحدهما: ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، وتعبر عنه بالتعبد، وفي التعبد من الطواعية والإذعان فيما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته ما ليس فيما ظهرت علته وفهمت حكمته فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته وفائدته والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالاً للرب وانقياداً إلى طاعته، ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب" (2)
أما ابن رشد فسمى التعبد بالعبادي في مقابل المصلحي حيث قال: "والمصالح المعقولة لا يمنع أن تكون أساساً للعبادات المفروضة حيث يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحياً ومعنى عبادياً، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس"(3)
ولكن هذا لا يعني كون التعبد يأتي عرية عن المصالح، فإن الشريعة كلها مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، لكن منها ما ظهرت حكمته للعقول فسمي بمعقول المعنى، ومنها ما خفيت مع الجزم بوجود حكمة ومصلحة وهو التعبدي، هذا ما ذكره خليل في توضيحه دون تجويز تجردها عن المصالح الذي أشار له ابن عبد السلام، فقال خليل عند قول ابن الحاجب في كتاب الطهارة:"ويغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً للحديث"فائدة: كثيراً ما يذكر العلماء التعبد، ومعنى ذلك: الحكم الذي لم تظهر له حكمة بالنسبة إلينا، مع أنا نجزم أنه لابد له من حكمة وذلك لأنا استقرينا عادة الله تعالى فوجدناه جالباً للمصالح دارئاً للمفاسد، ولهذا قال ابن عابس: إذا سمعت نداء الله فهو إما يدعوك لخير أو يصرفك عن شر، كإيجاب الزكاة، والنفقات لسد الخلات، وأروش الجنايات لجبر المتلفات، وتحريم القتل والزنا والسكر والسرقة والقذف صوناً للنفوس والأنساب والعقول والأموال والأعراض من المفسدات. ويقرب لك ما أشرنا إليه مثال في الخارج: إذا رأينا ملكاً عادته يكرم العلماء ويهين الجهال ثم أكرم شخصاً غلب على ظنك أنه عالم، والله تعالى إذا شرع حكماً علمنا أنه شرعه لحكمة، ثم إن ظهرت لنا فنقول هو معقول المعنى، وإن لم تظهر فنقول هو تعبد.
(1) قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ص 18.
(2)
قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ص 19.
(3)
بداية المجتهد بحاشيتها الهداية للغماري: 1/162.
ونظم ذلك ميارة في تكميل المنهج حيث قال:
الله جل شرع الأحكام لحكمة جليلة على ما
يشاء فاحذر أن تظن حكمه أو فعل ربك خلا عن حكمه
هذا وقد علم باستقراء أفعال رب الأرض والسماء
جلب المصالح ودرء المفسدة وذا الذي لخلقه قد عوده
ولابن عباس كلام أرشدا لذا فقد قال كبير الرشدا
إذا سمعت الله يدعوك فما إلا إلى خير تراد فاعلما
أو دفع شر فأفاد أنا الحكم مشروع لسر عنا
لكنه تفضلاً ليس يجب دع قول من ضل وزل وحجب
ثم الذي حكمته قد ظهرت وبرزت أسراره وبهرت
مثل زكاة فرضت ونفقات لسد خلات وجبر المتلفات
بأرش ما يجنى عليه فادر تحريم قتل وزنا وسكر
سرقة قذف لصون أنفس ونسب عقل ومال أنفس
فذا المعلل وما لم تبد حكمته تعبدا يعد
مع اعتقاد أنه لدفع الضر يشرع وجلب النفع
والعلماء قد ضربوا المثالا بملك قد عود الإجلالا
للفقهاء فرأينا شخصاً يوماً بإكرام له قد خصا
فالاعتقاد أنه فقيه لقدم العهد الذي يقفوه
(1)
وقال الشاطبي وهو يتحدث عما سماه بقصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء: "إن وضع الشريعة إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً، وهذه دعوى لابد من إقامة البرهان عليها صحة أو فساداً، وليس هذا موضع ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، ولما اضطر (الرازي) في علم الأصول إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة، ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة.
(1) لكل ما تقدم يراجع: شرح تكميل المنهج لميارة مخطوط، ص11-12، شرح الفقيه ابن أحمد زيدان ص9-10.
والمعتمد إنا استقرينا في الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثه للرسل وهو الأصل:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، وقال في أصل الخلقة:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] .
وأما التعليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، كقوله تعالى في آية الوضوء:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]، وقال في الصيام:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وفي الصلاة:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وقال في القبلة:{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]، وفي الجهاد:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وفي القصاص:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وفي التقدير على التوحيد:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة (1) .
وتوسع الشاطبي في ذلك في كتاب (الاجتهاد) في المسألة العاشرة المتعلقة بالنظر في مآلات الأفعال (2) .
وإذا كانت الشريعة مبنية على المصالح جلباً، فهل تبنى الأحكام على لائحات المصالح دون اعتبار لدلالة النصوص؟ ذلك موضوع آخر لوزن المصالح توقف عنده العلماء فقسموا المصالح على ضوئه إلى ثلاثة أقسام: إلى مصالح معتبرة بشهادة النص وهي التي يعبر عنها (بالمناسب المعتبر) ، وإلى مصالح ملغاة وهي التي شهد الشرع ببطلانها، والنوع الثالث من المصالح ما لم يشهد له الشرع ببطلان ولا اعتبار معين (3) .
(1) الموافقات: 2/5-7.
(2)
4/194 وما بعدها.
(3)
الطوفي: 3/205 وما بعدها.
وعلى ضوء هذه التوطئة عن المصالح يمكن أن نبحث عن مكان الوقف في سلم المصلحة، ونحاول استجلاء حكمته لنصل إلى تصنيفه ولنقدم الأسئلة العملية التي تترتب عليها نتائج في مجال الوقف.
إن السؤال المهم: هل الوقفية تتضمن معنى تعبدياً يمنع استغلال الحبس الاستغلال الأمثل والانتفاع به الانتفاع الأشمل والأفضل، أم أن الوقفية تتجاوز الألفاظ والمباني إلى المقاصد والمعاني وتبعاً لذلك لا تكون الوقفية حبساً على الاستغلال الكامل والانتفاع الشامل بل حبساً عليه؟
وبعبارة أخرى: هل الوقفية تعني المنع من التبذير والتبديد عن طريق المنع من تفويت الأصل مع تثميره لصالح الموقوف عليهم واعتبار الاستمرار في الوقفية لا في الذات الموقوفة؟
فينبغي أن نؤكد بادئ ذي بداءة أن الوقف ليس من التعبديات التي لا يعقل معناها، بل هو من معقول المعنى ومما أسماه ابن رشد بالمصلحي، وقد مر في كلام العز بن عبد السلام تصنيفه في معقولات المعنى فهو من نوع الصدقات والصلات والهبات، ففيه ما فيها من سد الخلات، وقد أكد القرافي ذلك المعنى حيث قال:" ولا يصحح الشرع من الصدقات إلا المشتمل على المصالح الخالصة والراجحة"(1) .
وقد قال القرافي أيضاً في الفرق الرابع والمئتين (بين قاعدة ما للمستأجر أخذه من ماله بعد انقضاء الأجرة وبين قاعدة ما ليس له) :
الفرق بين هاتين القاعدتين مبني على قاعدة وهي أن الشرع لا يعتبر من المقاصد إلا ما تعلق به غرض صحيح محصل لمصلحة أو دارئ لمفسدة، لذلك لا يسمع الحاكم الدعوى في الأشياء التفاهة الحقيرة التي لا يتشاح العقلاء فيها عادة (2) .
(1) الذخيرة: 6/302.
(2)
4/7.
الوقف معقول المعنى مصلحي الغرض:
فهو يجمع بين الهبة والصدقة، إنه قد يكون هبة وصلة رحم بحسب نية الواقف والعلاقة بالموقوف عليهم، وقد يكون صدقة لوجهه تعالى مجردة عن كل غرض، وهو في حالتيه يخدم المستقبل ويدخر للأجيال المقبلة، وقد ترتبت عليه مصالح واضحة للعيان، لا بالنسبة للأفراد الذين قد تسطو عليهم عادية الزمان وتقسو عليهم صروف الدهر، فيعجزون عن العمل أو تنضب عليهم الموارد فيجدون في الوقف عيناً مدراراً ومعيناً فياضاً يحيي مواتهم وينعش ذماءهم وينقع غلبتهم ويبرئ علتهم فحسب، وإنما أيضاً بالنسبة للأمة التي تجد في الوقف مرفقاً اجتماعياً واقتصادياً لمساعدة الفقراء والمعوزين ومعالجة المرضى في المستشفيات الخيرية وتسهيل التنقل بالقناطر وحفر الآبار واتخاذ الصهاريج والجراميز والمصانع على الطرقات ذات المسافات البعيدة، ومؤسسة دينية وثقافية تشيد بيوت الله للمصلين وترفع صروح المدارس والجامعات للعملاء والطلاب والدارسين يأتيهم رزقهم بكرة وعشية بلا من ولا أذى، ليتفرغوا للعلم والبحث ونشر المعرفة. والوقف خير معين على الجهاد وحماية الثغور ببناء الربط والمركز في مناطق التماس مع العدو، وتقديم الدعم للمجاهدين فيما وقف في سبيل الله فيصرف منه أرزاقهم ويشتري به الكراع والسلاح.
قد ولج الوقف طيلة التاريخ الإسلامي في شرق العالم الإسلامي وغربه كل هذه الميادين بنسب متفاوتة وفي فترات من مسيرة هذه الأمة متباينة.
أمثلة التاريخ كثيرة ولعل من طريفها تلك الدعوى التي يقوم بها أشخاص ليسوا من مواطني قرطبة ينزلون بها فيرون أوقاف المرضى التي توفر ما يسمى بـ (الضمان الاجتماعى) في لغة العصر فيطالب هؤلاء الأشخاص بالإفادة من هذا الوقف (الضمان) فيفتي الفقهاء أن إقامة أربعة أيام في قرطبة تجعل الضيف مواطناً قرطبياً ليفيد من الأوقاف (1) .
ووقف الأموال لفداء أسارى المسلمين كما كان في الأندلس فقد كان عند أحدهم ستمائة دينار ذهباً وقفاً لفداء الأسارى (2) .
لهذا نقول دون أدنى تردد: إن الوقف ليس من باب التعبد الذي لا يعقل معناه، بل معقول المعنى مصلحي الهدف.
(1) المعيار للونشريسي: 7/481.
(2)
يراجع حاشية الرهوني: 7/152.
لكن ما الذي يمكن للمصلحة أن تتدخل به للتعامل مع طبيعة الوقف التي تقتضي سكون اليد وبقاء العين ولو كان ذلك على حساب مصلحة المنتفع الآنية أو المستقبلية وهي مصلحة قد تكون محققة أو مظنونة.
هنا تختلف أنظار العلماء وتتباين آراؤهم من محافظ على عين الموقوف إلى ما يشبه التوقيف والتعبد، ومن متصرف في عين الوقف في إطار المحافظة على ديمومة الانتفاع وليس على دوام العين، ومن متوسط مترجح بين الطرفين مائس مع رياح المصالح الراجحة في مرونة صلبة، إذا جاز الجمع بين الضدين.
الفريق الأول: يمكن أن نصنف فيه المالكية والشافعية فلا يجيز الإبدال والمعاوضة إلا في أضيق الحدود في مواضع سنذكرها فيما بعد.
الفريق الثاني المتوسط: يمثله الحنابلة وبعض فقهاء الحنفية وبعض فقهاء المالكية وبخاصة الأندلسيين.
الفريق الثالث: الذي يدور مع المصالح الراجحة حيثما دارت وأينما سارت فيتشكل من بعض الحنفية كأبي يوسف ومتأخري الحنابلة كالشيخ تقي الدين ابن تيمية وبعض متأخري المالكية.
فلنقرر محل الاتفاق: وهو أن الأصل في الوقف أن يكون عقاراً: أرضاً وما اتصل بها بناء أو غرساً لا يجوز تفويت عينه ولا التجاوز به عن محله، واحترام ألفاظ الواقف وشروطه، بهذه الصفة يتفق الجمهور على صحته، بإضافة شرط ليضم إليهم أبو حنيفة وهو حكم حاكم به.
إلا أن هذا الأصل قد يقع التجاوز عنه لقيام مصلحة تقتضي ذلك من مذهب أو أكثر، ومن فقيه أو أكثر.
ولهذا نلاحظ اعتبار المصلحة وتأثيرها في المظاهر التالية:
1-
وقف أموال منقولة غير ثابتة لا يمكن الانتفاع بها دون استهلاك عينها كوقف النقود والطعام للسلف أو النقود للمضاربة.
2-
أثر المصلحة في تغيير عين الموقوف بالمعاوضة والتعويض والإبدال والاستبدال والمناقلة.
3-
مراعاة المصلحة في تقديم بعض الموقوف عليهم على بعض نظراً للحاجة أو غيرها وتقديم بعض المصاريف.
4-
مراعاة المصلحة في منح جهات غير موقوف عليها من غلة ووفر وقف آخر على سبيل البت أو على سبيل السلف.
5-
تغيير معالم الوقف للمصلحة.
6-
مراعاة المصلحة في استثمار غلة الوقف لفائدة تنمية الوقف.
7-
التصرف في الوقف بالمصلحة مراعاة لقصد الواقف المقدر بعد موته.
قبل الخوض في هذه المظاهر بشيء من التفصيل لنقل: إن أصل جواز التصرف في الوقف للمصلحة حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه وهو في صحيح البخاري وغيره في شأن صدقة أبي طلحة لما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وفي هذا الحديث "فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه قال وكان منهم أبي وحسان قال وباع حسان حصته منه من معاوية فقيل له: تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعاً من تمر بصاع من دراهم!
فهذا الحديث وإن كان الحافظ ابن حجر تأوله على أن الحديقة ما كانت وقفاً أو أن الواقف أذن في بيعها عند الحاجة فهي تأويلات غير ظاهرة، وابن حجر فرع في مواضع من كتابه على أن حديقة أبي طلحة كانت وقفاً والبخاري كرر ذلك في باب الوقف (1)
ومما يدل على أنها كانت وقفاً استشهاد العلماء بهذا الحديث في مسائل الوقف وجواب حسان حين قيل له: أتبيع صدقة أبي طلحة قال: ألا أبيع صاعاً من تمر.. ظاهر في أنه وقف وأن بيعه كان من قبيل الاجتهاد للمصلحة، وإنما كان قول أبي طلحة دالاً على الوقف (لأن الحوائط والدور والأرضين إذا جعلت في سبيل الله كانت ظاهرة في الوقف) كما ذكر الإمام ابن عرفة.
واستشهاد الحنفية لمذهب أبي حنيفة به كالطحاوي وغيره دليل على ذلك (2) .
1-
مسألة جواز وقف العين للسلف أو للمضاربة ووقف غير العين مما يحول ويزول كالطعام والنبات والبذور، وأما مسألة العين فقد ذكرها البخاري في صحيحه عن الزهري حيث قال: وقال الزهري فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله ودفعها إلى غلام له تاجر فيتجر وجعل ربحه صدقة للمسكين والأقربين هل للرجل أن يأكل ربح تلك الألف؟ وأن يكون جعل ربحها صدقة للمسكين؟ قال: ليس له أن يأكل منها (3) . ويقول ابن تيمية: وقد نص أحمد على منع ما هو أبلغ من ذلك (الإبدال) وهو وقف ما لا ينتفع به إلا مع إبدال عينه فقال أبو بكر عبد العزيز في (الشافي) نقل الميموني عن أحمد أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته ففيها الصدقة وإذا كانت على المساكين فليس فيها صدقة، قلت: رجل وقف ألف درهم في السبيل؟ قال: إن كانت للمساكين فليس فيها شيء. قلت: فإن وقها في الكراع والسلاح؟ قال هذه مسألة لبس واشتباه. قال أبو البركات: وظاهراً هذا جواز وقف الأثمان لغرض القرض أو التنمية والتصدق بالربح. كما حكينا عن مالك والانصاري قال: ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض، ذكره صاحب التهذيب وغيره في الزكاة وأوجبوا فيها الزكاة كقولهم في الماشية الموقوفة على الفقراء، وقال محمد بن عبد الله الأنصاري بجواز وقف الدنانير، ولأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك، تدفع مضاربة ويصرف ربحها في مصرف الوقف.
(1) يراجع فتح الباري: 5/387 – 396 وما بعدها.
(2)
يراجع لذلك مهج اليقين للشيخ محمد حسنين مخلوف، ص 29 – 31.
(3)
فتح الباري.
ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عينه ويقوم بدله مقامه وجعل المبدل به قائماً مقامه لمصلحة الواقف.
وهذه المسألة فيها نزاع في مذهبه فكثير من أصحابه (أحمد) منعوا وقف الدراهم والدنانير كما ذكره الخرقي ومن اتبعه، ولم يذكروا عن أحمد نصاً بذلك ولم ينقله القاضي وغيره إلا عن الخرقي، وأطال ابن تيمية النفس في الرد على من منع من أهل مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (1) .
وقصر الملكية وقف العين على القرض، ولكن ذلك من حيث المعنى لا يمنع تعميمه على غير القرض من الاستثمار، كما قاسوا على العين وقف الطعام للبذور ووقف النبات دون الأرض ليفرق على المساكين.
وذكر خليل ويغره مسألة العين الموقوفة في باب الزكاة، ومن الموافقة إنها في مسائل الإمام أحمد ذكرت في باب الزكاة، إلا أن أصحاب أحمد تأولوا ذلك. قال خليل في مختصره:"وزكيت عين وقفت للسلف كنبات ليزرع ويفرق ما يخرج منه للفقراء ولمسجد"(2) .
وفي المذهب الحنفي كان العلامة أبو السعود الذي عاش في القرن العاشر الهجري من أشد المدافعين عن جواز وقف النقود والمنقولات التي تزول وتحول في رسالته في جواز وقف النقود، حيث نقل ذلك عن زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة وخرجه على قول محمد بن الحسن في المنقول إذا تعارف الناس على وقفه وقاسها على مسائل أفتى فيها مشايخ الحنفية بجواز وقف المنقول في موضع التعارف ناقلاً عن (الخانية) و (البزازية) و (المحيط) و (الذخيرة) وغيرها من كتب الأحناف، وهي رسالة مفيدة حققها أبو الأشبال صغير أحمد (3) .
وذكر ابن عابدين عن فتاوي الشلبي أن وقف الدراهم لم يرو إلا عن زفر وذلك في كتابه (العقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية)(4) .
(1) الفتاوى: 31/234 وما بعدها.
(2)
نص خليل بشرح الزرقاني: 2/167.
(3)
طبعة دار ابن حزم، بيروت، 1417هـ.
(4)
1/109، دار المعرفة، بيروت.
وتردد خليل في باب الوقف في الطعام حيث قال: "وفي وقف كطعام تردد" وقد بين الشارح أن وقف الطعام إذا كان للسلف كوقف العين ليس محل تردد حسب مصطلح المؤلف "لأن مذهب المدونة وغيرها الجواز، والقول لابن رشد بالكراهة ضعيف، وأضعف منه قول ابن شاس إن حمل على ظاهره يعني المنع والله أعلم"(1) .
وهذا واضح في جواز وقف ما يحول ويزول كالطعام والعين وما في حكمها مما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، وبهذا ندرك أن المصلحة أثرت في الانتقال عن الأصل المعروف في أن الوقف إنما يكون عقاراً منقولاً لا يتضمن الانتفاع به استهلاك عينه عند الجمهور إلا إن أصبح الوقف أموالاً سائلة تتناولها الأيدي وتتداولها الذمم.
الاستبدال في المذهب الحنفي:
نقل ابن عابدين في ما لفظه: في فتاوى قاري الهداية: سئل عن استبدال الوقف ما صورته هل هو قول أبي حنيفة وأصحابه؟
أجاب: الاستبدال إذا تعين بأن كان الموقوف عليه لا ينتفع فيه وثمة من يرغب فيه ويعطي بدله أرضاً أو داراً لها ريع يعود نفعه على جهة الوقف فالاستبدال في هذه الصورة قول أبي يسوف ومحمد رحمهما الله، وإن كان للوقف ريع ولكن يرغب شخص في استبداله إن أعطى بدله أكثر ريعاً منه في صقع أحسن من صقع الوقف جاز عند القاضي أبي يوسف والعمل عليه وإلا فلا يجوز. اهـ.
قال العلامة صاحب النهر في ذيل الفتوى المذكورة ما نصه: ورأيت بعض الموالي يميل إلى هذه ويعتمدها وأن تخسر بأن المستبدل إذا كان قاضي الجهة فالنفس به مطمئنة فلا يخشى الضياع معه ولو بالدراهم والدنانير والله الموفق. اهـ. وقد أفتى بجواز الاستبدال بالنقود إذا كان فيه مصلحة للوقف جماعة من العلماء والأعلام منهم العلامة الخير الرملي وتلميذه الفهامة السيد عبد الرحيم اللطفي والمحقق الشيخ إسماعيل الحائك وغيرهم من العلماء روح الله تعالى أرواحهم بدار السلام والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1) ما بين القوسين من حاشية البناني على الزرقاني: 7/76.
وفي جواب آخر عن الدراهم البدل نقلاً عن فتاوى اللطفي "الجواب: تلك الدراهم بدل الموقوف المستبدل يشتري بها ما يكون وقفاً مكانه وقد تصرف في عمارة الوقف الضرورية بإذن قاض يملك ذلك ويستوفي من غلة الوقف بعد العمارة ليشتري بها ما يكون وقفاً كالأول، لا تكون ملكاً للموقوف عليهم ولا إرثاً، ومسألة الاستبدال بالدراهم معلومة وتحتاج إلى ديانة.. إلى آخره.. علق عليه ابن عابدين بقوله: فمقتضاه جواز صرف البدل في عمارة الوقف فتأمل، والاستبدال والبيع واحد من حيث المآل، والله أعلم (1) .
من هذه النصوص التي تختصر مذهب أبي حنيفة في مسألة الاستبدال ندرك أهمية المصلحة التي لم تقتصر على الاستبدال في حالة خراب الوقف بل تجاوزت ذلك إلى الاستبدال القائم على المصلحة الراجحة والجدوى ثم وصلت إلى الاستبدال بالدراهم الذي هو بيع يحول الموقوف إلى أموال سائلة تصرف في مصالح الوقف إلا أن الأمر يحتاج إلى ديانة حتى لا يكون ذريعة لشطار النظار.
الاستبدال في مذهب مالك:
ويسمى بالمعاوضة، وأصل مذهب مالك أن العقار الموقوف لا تجوز فيه المعاوضة ولو كان خرباً، وإنما يجوز ذلك في المنقولات التي لم يعد فيها كبير منفعة، فقد قال مالك في (الموازية) وغيرها عن حائط فيه نخل قد حبست بمائها فغلبت عليها الرمال حتى أبطلت، وفي مائها فضل: لا يشاع شيء من ذلك وليدعه بحاله ولو غلبت عليها الرمال، وروى ابن القاسم عن مالك: لا تباع الدار المحبسة وإن خربت وكانت عرصة (2) .
وإنما أجاز المعاوضة في ثلاثة مواضع يباع فيها الحبس: لتوسعة الطريق العام أو لتوسعة المسجد الجامع الذي ضاق بأهله أو لتوسعة المقبرة – يمكن أن نطلق عليها المعاوضة (للمصالح العامة) كما سماها أبو زهرة في كتابه (3) .
إلا أن علماء المذهب عملوا بقول شيخ مالك ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث روى عنه ابن وهب أن العقار الخرب يباع ليشترى به عقار غير خرب، قاله ابن يونس. وتوسع المتأخرون في ذلك وجرى عملهم ببيع ما لا ينتفع به ولو كان عقاراً. قال الفلالي في نظمه للعمل المطلق.
وما من الحبس لا ينتفع به ففيه البيع ليس يمنع
وبالمعاوضة فيه عملوا على شروط عرفت لا تجهل
كون العقار خرباً وليس في غلته ما بصلاحه يفي
وفقد من يصلحه تطوعاً واليأس من حالته أن ترجعا
وعزى ذلك في شرحه إلى القاضي المكناسي في مجالسه عازياً ذلك إلى الفقيه سيدي عيسى بن علال وقال في جوابه: "يباع ويعوض بثمنه ما هو أغبط للمحبس، قلت وبفتياه جرى العمل".
وذكر هذه المسألة صاحب (المعيار) وذكر جريان العمل بالبيع عن سيدي عيسى بن علال إلى أن قال: والمسألة منصوصة في (طرر) ابن عات وحكي عن (الواضحة) والذي في الطرر نقله من كتاب (الاستغناء) وذكر بعد ذلك عن المعيار نقله عن سيدي عبد الله العبدوسي جريان العمل بالمعاوضة في الحبس بالشروط المذكورة في النظم (4) .
(1) العقود الدرية، ص 115.
(2)
الباجي، المنتقى: 6/131.
(3)
الوقف، ص 154 – 155.
(4)
شرح السجلماسي للعمل المطلق: 2/80 – 81.
وإذا كان الوقف غير عقار فلا بأس بالمعاوضة فيه فقد نقل سحنون عن ابن وهب عن مالك"في الفرس المحبس في سبيل الله إذا أكلب وخبث أنه لا بأس أن يباع ويشترى فرس مكانه" قال خليل: "وفضل الذكور وما كثر من الإناث في إناث".
أما الاستبدال للمصلحة الراجحة في العقار فلا تجده في المذهب إلا فيما أشار إليه شارح (العمل المطلق) من قوله: "إن العقار إذا خرب وصار لا ينتفع به الانتفاع التام أنه يباع"، كما ذكروا جواز بيعه لصالح المحبس عليه إذا خيف عليه الهلاك بالجوع، أفتى به القاضي أبو الحسن علي بن محسود، ونقله ابن رحال عن اللخمي وعبد الحميد (1) .
وأصل منع بيع الوقف عند المالكية يرجع إلى ثلاثة أسباب:
الأول: اعتبار النهي الوارد في الحديث عن بيعه مع حمل بعض الرواة له على أنه من كلام عمر رضي الله عنه "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره"حسب رواية البخاري في المزارعة، فهذا صريح أن الشرط من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا منافاة، لأنه يمكن الجمع بأن عمر شرط ذلك الشرط بعد أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم به فمن الرواة من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من وقفه على عمر (2) .
الثاني: اعتمادهم على عمل أهل المدينة فقد قال: وبقاء أحباس السلف داثرة دليل على منع ذلك – البيع - (3) .
وقد قال سحنون في المدونة: "وهذه جل الأحباس قد خربت فلا شيء أدل على سنتها منها، ألا ترى أنه لو كان البيع يجوز فيها لما أغفله من مضى، ولكن بقاءه خراباً دليل على أن بيعه غير مستقيم وبحسبك حجة في أمر قد كان متقادماً أن تأخذ منه ما جرى منه"(4) .
الثالث: تمسكهم بألفاظ الواقف كألفاظ الشارع فالقاسم بن محمد شيخ مالك يقول: (ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا)(5) .
فلهذا لا يجوز بيعه لأن الواقف اشترط عدمه، ولا صرفه في غير مصرفه.
(1) يراجع التسولي.
(2)
نيل الأوطار للشوكاني: 6/22.
(3)
المنتقى: 6/130.
(4)
المدونة: 4/342.
(5)
الاستذكار: 22/317.
الاستبدال في المذهب الشافعي:
أما الشافعية فإنهم كالمالكية في أصل مذهبهم في منع الاستبدال كما قال ابن قدامة (وقال مالك والشافعي: لا يجوز بيع شيء من ذلك)(1) .
وقد قال الشافعية في العقار: إن كان مسجداً لا يباع ولو خرب وإن كان داراً للسكنى فالراجح منع بيعها سواء وقفت على المسجد أم على غيره، قال السبكي وغيره: إن منع بيعها هو الحق لأن جوازه يؤدي إلى موافقة القائلين بالاستبدال (2) .
ومرد موقف الشافعية إلى الأسباب التي ذكرناها في توجيه مذهب المالكية.
الاستبدال في مذهب أحمد:
قال الخرقي: وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئاً، بيع واشترى به ما يرد على أهل الوقف وجعل وقفاً كالأول".
مثل له ابن قدامة بدار انهدمت وأرض عادت مواتاً ولم تمكن عمارتها أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه" (3) .
واستدل الحنابلة بما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه نقب بيت المال الذي بالكوفة أن انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد (4) .
قال ابن قدامة: "وظاهر كلام الخرقي أن الوقف إذا بيع فأي شيء اشتري بثمنه مما يرد على أهل الوقف جاز، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، لأن المقصود المنفعة لا الجنس، لكن تكون تلك المنفعة مصروفة إلى المصلحة التي كانت الأولى تصرف إليها"(5) .
وفي رواية بكر بن محمد عن أبيه في مسجد ليس بحصين من الكلاب وله منارة فرخص أحمد في نقضها وبناء حائط المسجد بها للمصلحة.
أما الاستبدال والمناقلة للمصلحة فقد نقل عن صالح جواز نقل المسجد لمصلحة الناس، وصنف صاحب الفائق مصنفاً في جواز المناقلة سماه (المناقلة في الأوقاف وما في ذلك من النزاع والخلاف) ، ووافقه على جوازه الشيخ برهان الدين ابن القيم والشيخ بحر الدين حمزة (6) .
وقد نبه المرداوي على أن هؤلاء تبع للعلامة تقي الدين ابن تيمية وهذا نص ابن تيمية في فتاواه عن الإبدال للمصلحة الراجحة حيث قال: وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه مثل أن يقف داراً أو حانوتاً أو بستاناً أو قرية يكون مغلها قليلاً فيبدلها بما هو أنفع للوقف فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء، مثل أبي عبيد ابن حرموية قاضي مصر وحكم بذلك، وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة.
وبعد أن ذكر منع الإبدال عن الشافعي وغيره قال: لكن النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة والله سبحانه وتعالى أعلم. وهو كلام واضح وصريح في اعتبار المصلحة في الإبدال والمناقلة.
(1) المغني: 8/221.
(2)
الرملي، نهاية المحتاج إلى شرح المهاج: 5/395.
(3)
المغني: 8/120، طبعة هجر.
(4)
المرجع السابق: 8/220.
(5)
المرجع السابق 8/222.
(6)
يراجع الإنصاف للمرداوي: 7/94 – 95.
2-
صرف فائض الوقف في أوجه المصالح الأخرى:
في هذه المسألة يرى أكثر العلماء رصد الوفر والغلة لمصلحة ذلك الوقف دون غيرها، خلافاً لبعضهم. قال ابن تيمية: إن الواقف لو لم يشترط فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه وما يشبههما مثل صرفه في مساجد أخرى وفي فقراء الجيران ونحو ذلك، واستدل بما روي عن علي رضي الله عنه "أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له ففضلت فضلة فأمر بصرفها في المكاتبين، والسبب فيه أنه إذا تعذر المعين صار الصرف إلى نوعه، ولهذا كان الصحيح في الوقف هذا القول، وأن يتصدق بما فضل من كسوته كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج"(1) .
وقال في موضع آخر: بل إذا صار مسجداً وكان بحيث لا يصلي فيه أحد جاز أن ينقل إلى مسجد ينتفع به، بل إذا جاز أن يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر فيجوز أن يعمر عمارة ينتفع بها لمسجد آخر (2) .
وممن قال باستعمال وفر الوقف في غيره من أوجه البر وبصرف الأموال المرصودة لوجه من أوجه البر في غيره من الوجوه إذا لاحت مصلحة في ذلك: أبو عبد الله القوري حين سئل عن مسألة مفادها أن إمام الجامع الأعظم كان يأخذ راتبه من جزية اليهود شأنه شأن من قبله من الأئمة، ثم اتفق في اليهود ما اتفق فانقطع المرتب بسبب ذلك، فهل يجري المرتب من وفر الأحباس الذي يفضل عن جميع مصالحها وقومتها ومن تعلق بها أم لا؟
فأجاب بما مؤداه: إن المسألة ذات خلاف في القديم والحديث وإن الذي به الفتيا إباحة ذلك وجوازه وتسويغه وحليته لآخذه، وهذا مروي عن ابن القاسم، رواه عنه ابن حبيب عن أصبغ وبه قال عبد الملك بن الماجشون وأصبغ وأن ما قصد به وجه الله يجوز أن ينتفع ببعضه في بعض إن كانت لذلك الحبس غلة واسعة ووفر بين كثير يؤمن من احتياج الحبس إليه حالاً ومآلاً، وبالجواز أفتى ابن رشد رضي الله عنه برم مسجد من وفر مسجد غيره، ولهذا ذهب الأندلسيون خلاف مذهب القرويين وبه قال ابن القاسم والأصح الجواز وهو الأظهر في النظر والقياس، وذلك إن منعنا الحبس وحرمنا المحبس من الانتفاع الذي حبس من أجله وعرضنا تلك الفضلات للضياع لأن إنفاق الأوفار في سبيل كمسألتنا أنفع للمحبس وأنمى لأجره وأكثر لثوابه (3) .
(1) 31/18.
(2)
31/6.
(3)
المعيار: 7/187؛ وقد نقل الرهوني في حاشيته هذا الكلام: 7/150 – 151.
وفي نوازل ابن سهل "ما هو لله لا بأس أن ينتفع به فيما هو لله" ويقول ابن لب: فقد كان فقهاء قرطبة وقضاتها يبيحون صرف فوائد الأحباس بعضها في بعض (1) وخفف ابن السليم في تصريف الأحباس بعضها في بعض وهو قول ابن حبيب في كتاب الحبس من الواضحة. وفي ذلك اختلاف، وكلام ابن السليم هو قوله:"وما كان لله لا بأس أن يستعان ببعضه في بعض وبنقل بعضه إلى بعض"(2) ومن ذلك جواب ابن القطان في غابة زيتون موقوفة على مسجد قشتال أن تصرف على بناء سور الموضع "ومنفعة السور للمسجد صاحب الزيت أعود نفعاً من صرفه في غير ذلك فلتطب النية في صرف ذلك فيما هو أهم وأعود نفعاً، وإن كان النص أن يصرف في مسجد آخر"(3) .
وفي المعيار جواز اشتراء دار للإمام الذي كان يسكن في دار مستأجرة من وفر الوقف (4)، وبما ذكر جرى العمل قال صاحب (العمل المطلق) :
ونقلوا غلة حبس ما خرب من المساجد إلى غير الحرب
ومن هذا القبيل ما اختاره سيدي عبد الله العبدوسي من أن يكون صرف غلة الأحباس بعضها على بعض على وجه المسالفة بشرط أن يكون المسلف منه غنياً لا يحتاج إلى ما أسلف منه لا حالاً ولا استقبالاً أو يحتاج في المستقبل بعد رد السلف" (5) .
وقد أجاز البرزلي صرف الأحباس بعضها في بعض وقال: إنه به العمل ممثلاً، (بصرف أحباس جامع الزيتونة لجامع الموحدين وأخذ حصره السنة بعد السنة وزيته كذلك) . وقد أفتى الشيخ أبو عثمان سعيد الحقباني أن استنفاد الوفر في سبيل الخير غير ما سمى المحبس، أرجح وأظهر في النظر وهو أنفع وأنمى لأجره.
وقد ذكر ذلك الفلالي في شرحه لنظمه (العمل المطلق) قبل وبعد قوله في النظم:
وقد أجيز صرف فائد الحبس في غير مصرف له في الأندلس
ومقابل ما نقلناه عن المازوني والمعيار ما ذهب إليه أكثر العلماء وهو معروف من إبقاء الغلة مرصودة لمصالح الوقف المعين "لأن ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع"كما هي عبارة الزرقاني وعلق عليه البناني: إن هذا هو مذهب القرويين وهو أظهر من قول الأندلسيين أن النظر إلى القصد" (6) .
(1) المرجع السابق: ص 112.
(2)
المرجع السابق:ص219-220
(3)
المعيار 7/132.
(4)
المرجع السابق: 7/140.
(5)
المرجع السابق: 7/45.
(6)
الزرقاني والبناني على حاشيته: 7/85.
وفي جواب للعبدوسي "بوقف غلات الأحباس حتى تدفع للمصرف المعين، ولا يصرف بعضها إلى بعض إلا على سبيل السلف"(1) .
وفي جواب للسرقسطي أنه لا يجوز إشراك مسجد حديث في غلة مسجد قديم إذا لم يكن ذلك التشريك من المحبس ومن فعل ذلك ارتكب منهياً عنه بكتاب الله تعالى إلى قوله: وإن اتسعت الغلة وكثرت لم يجز له (الناظر) استنفادها ويجب عليه ادخارها ليوم الحاجة إليه إذ قد تقل الغلة يوماً فلا يكون فيها محمل الحاجة، وهذا المعنى قرره ابن رشد في نوازله وأفتى به (2) .
الغلة تستثمر في اشتراء أصول تكون محبسة.
وما ذكره ابن رشد في صرف الغلة في أصول أخرى تكون محبسة جرى به العمل، قال صاحب العمل المطلق:
وقد جرى عمل من تأخرا أن من الوفر لأصول تشترى
وإن يكن صاحب وقف ما أمر بالاشترا إذ ذاك من حسن النظر
قال في شرحه: "قال القاضي أبو محمد المجاصي رحمه الله: جرى عمل المتأخرين بإحداث أصول من وفر الحبس واستكثار الرباع من غلتها، وإن أنكره الشيخ القوري لما فيه من مخالفة المحبس في المصرف والمصير إلى التجارة. اهـ. من نوازله. وبمثل هذا القول المعمول به أفتى ابن رشد رحمه الله تعالى"(3) .
وفتوى ابن رشد التي أشار إليها الفلالي ذكرها في المعيار في نوازل الأحباس عازياً إليه قوله: "وإن كان في الفاضل منها [الغلة] ما يبتاع به أصل يكون بسبيل سائر أحباسه فذلك صواب ووجه من وجوه النظر"(4) .
فتحصل مما ذكروه أن بعضهم يرى إبقاءها مرصودة للمصالح الموقوفة عليها، ومن يرى اشتراء أعيان تكون وقفاً على الجهة الموقوف عليها وذلك استثمار في العقارات. أما الاتجاه الثالث فيرى أن تصرف إلى جهات خيرية أخرى، لأن إبقاءها مرصودة يجعلها عرضة لاعتداء النظار والحكام، وهذه العلة إذا أمنت فإن الباب يفتح أمام إبقائها مرصودة لمصالح الوقف.
والسؤال المهم: هل بالإمكان شرعاً تحريك الأموال المرصودة لاستثمارها ليزداد ريع الوقف ويكون أكثر استجابة للمصالح التي وقف من أجلها؟
(1) المعيار: 7/45.
(2)
المرجع السابق: 7/122.
(3)
شرح العمل المطلق للمؤلف محمد بن أبي القاسم الفلالي: 2/81-82.
(4)
المعيار: 7/465.
هذا الأمر لا يستبعد، وذلك للاعتبارات التالية:
1-
باعتبار المصلحة التي من أجلها كان القول بجعل الوفر في أعيان من جنس الوقف تكون وقفاً، أليس ذلك نوعاً من الاستثمار؟ لم يبق بعد ذلك إلا إشكالية المضاربة في ثمن المعاوضة دون صرفه إلى أعيان من جنس الوقف.
2-
إذا اعتبرنا القول بجواز وقف العين ابتداء للاستثمار والمضاربة فنقول: إن ما جاز ابتداء يجوز في الأثناء، بناء على المصلحة الراجحة كما سماها ابن تيمية، ليرتب عليها استبدال الوقف للجدوى الاقتصادية التي ليست ناشئة عن حاجة أو ضرورة وإنما عن الحاجة الاستثمارية.
3-
قياساً على جواز المضاربة في مال اليتيم، بل هو أولى من تركه تأكله الصدقة قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] .
4-
يقاس على التصرف في مال الغير بالمصلحة الراجحة الذي قد يثاب عليه فاعله، ففي الحديث الصحيح: حديث ثلاثة الغار، ومنهم الرجل الذي كان مستأجراً أجيراً بفرق من أرز فلما قضى عمله، قال: أعطني حقي فعرضت عليه، فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً برعاتها فجاءني فقال: اتق الله وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر ورعاتها فخذ.. إلى آخر الحديث. ونعلم أن الله فرج عنه بفضل هذا العمل، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله:"باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم وكان في ذلك صلاح لهم"(1) .
قال الأبي في شرحه على صحيح مسلم في هذا المحل ما نصه: "احتج به الحنفية على أن بيع الرجل مال غيره والتصرف فيه بغير إذنه جائز إذا ما أمضاه المالك، وأجاب أصحابنا وغيرهم بأنه شرع من قبلنا فيحتمل أنه استأجره بأجر في الذمة ولم يسلمه له بل عرضه عليه فلم يقبله لردائته فلم ينتقل من غير قبض فيبقى على ملك ربه فلم يتصرف إلا في ملكه، ثم تطوع بما اجتمع منه"(2) .
فهذا يدل على أن التصرف بالإصلاح وبما هو أصلح أمر مقبول شرعاً، وهذه شهادة الجنس، وبيان ذلك أن نقول: إن مال الغير يشمل مالاً مملوكاً لشخص لم يخرج عن ملكه، ويشمل مالاً موهوباً لشخص آخر، ثم إن أمر الغلة والوفر أخف من أمر أصل الوقف، فالثمرة ليست حبيسة بل هي مسبلة، كما هو صريح النص، ولهذا أجازوا استبدالها بالدرهم قبل وصولها إلى يد المستحق، لأن الغلة ليست حبيسة، ويشهد لذلك ما في كتاب الأقضية الثالث من سماع أشهب عن مالك من كتاب الحبس في (البيان والتحصيل) لابن رشد:"وسئل عن الرجل يحبس الحائط صدقة على المساكين أيقسم بينهم تمراً أم يباع ثم يقسم الثمن بينهم؟ فقال: ذلك يختلف، وذلك إلى ما قال فيه المتصدق أو إلى رأي الذي يلي ذلك واجتهاده إن كان المتصدق لم يقل في ذلك شيئاً، إن رأى خيراً أن يبيع ويقسم ثمنه، وإن رأى خيراً أن يقسم ثمره قسمه ثمراً، فذلك يختلف، فربما كان الحائط بالمدينة، فإن حمل أضر ذلك بالمساكين حمله، وربما كان في الناس الحاجة إلى الطعام فيكون خيراً لهم من الثمن فيقسم إذا كان هكذا فهو أفضل وخير، وهذه صدقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها ما يباع فيقسم ثمنه، ومنها ما يقسم تمراً. قال محمد بن رشد: "هذا بين على ما قاله إن ذلك إلى اجتهاد الناظر في ذلك إن لم يقل المتصدق في ذلك شيئاً" (3) .
(1) فتح الباري: 5/16.
(2)
إكمال الإكمال شرح الأبي على صحيح مسلم.
(3)
البيان والتحصيل: 12/247.
ومحل الشاهد أنه لم يوجب أن يدفع إلى المساكين تمراً كما هو مقتضى الوقف، بل أجاز بيعه وذلك بحسب المصلحة التي يقدرها الناظر.
لهذا فإن تثمير الغلة ليس مخالفاً للنص ولا لمقصد صاحب الوقف إذا أخذنا بقاعدة متأخري المالكية بأن كل عمل لمصلحة الوقف يفترض أنه لو عرض على الواقف لرضيه واستحسنه فإنه يجوز أن يعمل وذلك أمر تقديري مداره على المصلحة الراجحة.
فمن الواضح أن تثمير الوقف أغبط للمنتفع وأنمى لأجر الواقف لهذه الاعتبارات متضامنة والتي تدور على محور المصلحة، نرى أنه لا حرج –إن شاء الله- في استثمار غلات الأوقاف التي نص الواقف على صرفها على جهة بعد تغطية حاجة الجهة المذكورة وحتى قبل ذلك، إن لم توجد ضرورة شديدة تدعو إلى الإنفاق.
ومع ذلك ينبغي أن تكون الأفضلية للاستثمار في عقارات من جنس الوقف بالإضافة إلى التوثيق الأكيد ووضوح الجدوى وعدم المضاربة في حرام ولا في شبهة لأن ذلك مخالف لقصد الواقف.
تغيير المعالم للمصلحة:
من أمثلته ما ذكره الحطاب في نقله لكلام البرزلي في مسألة مراعاة قصد المحبس لا لفظه "ومثله ما فعلته أنا في مدرسة الشيخ التي بالقنطرة، غيرت بعض أماكنها مثل الميضأة ورددتها بيتاً ونقلتها إلى محل البير لانقطاع الساقية التي كانت تأتيها ورددت العلو المحبس على عقبه المذكور بيوتاً لسكنى الطلبة بعد إعطاء علو من الحبس يقوم مقامه في المنفعة"(1) .
ومن أوجه مراعاة المصلحة تقديم ذوي الحاجة والفاقة على غيرهم، والأصل أن يتبع شرط الواقف الذي وقف على ذوي القربى دون تفضيل، لكن نقل في (الموازية) عن ابن القاسم إيثار ذوي الحاجة والفقراء على غيرهم، ولو أن الحبس على ذوي القربى (2) .
(1) الحطاب على مواهب الجليل: 6/36.
(2)
المنتقى: 6/126، مطبعة السعادة بمصر.
ونقله القرافي في (الذخيرة) قائلاً: "قال ابن يونس: قال ابن القاسم: لا يعتبر في الغلة والسكنى كثرة العدد، بل أهل الحاجة وفي السكنى كثرة العائلة لأنهم يحتاجون إلى سعة المسكن، والمحتاج الغائب أولى من الغني الحاضر بالاجتهاد، ولأن مبنى الأوقاف لسد الخلات"(1) .
وأخيراً فهناك قاعدة مهمة تصب في جدول المصلحة هي اعتبار بعض المتأخرين من علماء المذهب المالكي لقصد الواقف المقدر بعد موته لإحداث تصرف في الوقف للمصلحة يخالف ألفاظه.
وهذه القاعدة ذكرها الونشريسي في المعيار وأصلها من جواب للشيخ أبي الحسن القابسي فيمن حبس كتباً وشرط في تحبيسه أنه لا يعطي إلا كتاب بعد كتاب فإذا احتاج الطالب إلى كتب وتكون الكتب من أنواع شتى، فهل لا يعطي كتابين معاً ولا يأخذ إلا كتاباً بعد كتاب؟ فأجاب ما معناه: أن الطالب إن كان مأموناً مكن من عدة كتب، مراعاة لقصد الحبس لا لفظه، وظاهر كلام أبي عمران أنه لا يتعدى شرط الواقف.
ومنه ما جرى به العرف في بعض الكتب المحبسة على المدارس، ويشترط عدم خروجها من المدرسة، وجرت العادة في هذا الوقت بخروجها بحضرة المدرسين ورضاهم، وربما فعلوا ذلك أنفسهم ولغيرهم (2) .
(1) القرافي، الذخيرة: 6/334.
(2)
المعيار: 7/340.
وهذا الكلام الأخير للبرزلي، كما يفيده ميارة في شرحه على تكميل المنهج وفي جواب للسيد عبد الله العبدوسي عن إحداث مطمورتين للزرع في دار خربة محبسة على مسجد يحفرهما شخص ويعطي إدارة الحفر ويكنزهما، فأجاب بأن ذلك جائز قائلاً:"ولا يقال في هذا زيادة في الحبس بغير إذن محبسه ولا فيه أيضاً مخالفة للفطنة ولا مناقضة لقصده، بل الذي يغلب على الظن حتى كاد يقطع به أنه لو كان حياً وعرض عليه ذلك لرضيه واستحسنه"(1) .
وقد نظم محمد ميارة في تكميله للمنهج في القواعد، قاعدة اعتبار قصد الواقف المقدر بعد موته للتصرف في الحبس بما فيها مصلحة حيث قال:
قلت كذلك الحبس قالوا إن شرط لا تخرج الكتب فحلف قد فرط
يجري بها كذاك أن لا يدفعا إلا كتاب بعد آخر اسمعا
للقصد جاز فعل ما لو حضرا وافقه رداه أيضاً نظراً
وهذه قاعدة اللفظ إذا خالفه القصد فقيل ذا وذا
وذكر المؤلف في شرحه لهذه الأبيات ما نقلناه عن القابسي بواسطة الحطاب في شرحه لخليل عند قول المصنف: "واتبع شرطه إن جاز"وهو نقله بواسطة البرزلي.
وذكر في آخر شرحه كلاماً للعبدوسي قائلاً: "وأشار بقوله للقصد جاز –البيت- إلى ما وقع في جواب الإمام عبد الله العبدوسي ونقله صاحب المعيار بعد ثمانية عشر ورقة من نوازل الأحباس مما حاصله: "انه يجوز أن يفعل في الحبس ما فيه مصلحة له مما يغلب على الظن حتى كاد أن يقطع به أن لو كان المحبس حياً وعرض عليه ذلك لرضيه واستحسنه" (2) .
(1) ص 78-79.
(2)
ميارة شرح التكميل ونظمه للمؤلف، مخطوط، ص58-59؛ ويراجع شرح الفقيه ابن أحمد زيدان للتكميل، ص 37.
وذكر هذه القاعدة الحطاب في تنبيهه الثالث عند قول الخليل: "واتبع شرطه إن جاز " نقلاً عن البرزلي بعد نقله لكلام القابسي المتقدم في مسألة الكتب الموقوفة فقال: "ومثله ما فعلته أنا في مدرسة الشيخ التي بالقنطرة غيرت بعض أماكنها مثل الميضأة ورددتها بيتا ونقلتها إلى محل البير لانقطاع الساقية التي كانت تأتيها ورددت العلو المحبس على عقبه المذكور بيوتاً للسكنى للطلبة بعد إعطاء علو من الحبس يقوم مقامه في المنفعة بموجب مذكور في محله وكزيادة في رواتب الطلبة لما أن كثروا ويدخل شيء من خراجها بحيث لو كان المحبس حاضراً لارتضاه وكان ذلك كله برضا الناظر في الحبس النظر التام كيف ظهر له الصواب يعطي حسبما ذلك مذكور في كتاب التحبيس"(1) .
وفي هذه القاعدة التي أخذت من كلام بعض المتأخرين كالقابسي والبرزلي والعبدوسي وأخذ بها الأندلسيون أيضاً ما يدل على اعتبار المصلحة لتفسير أقوال الواقف ولصرف الأوقاف لأن تحكيم القصد بعد بت الوقف وموت الواقف إنما هو في الحقيقة تحقيق لمناط المصلحة كما أخذه ميارة من كلام العبدوسي فيما نقلناه آنفاً.
ونقل الحطاب وميارة والرهوني في حاشيته على الزرقاني وبعد نقله لنص نظم تكميل المنهج قال: "ولم يذكر في الشرح ترجيحاً ولا عملاً وذكر عصريه أبو محمد سيدي عبد القادر الفاسي في أجوبته أن العمل جرى بمراعاة القصد، ونظم ذلك ولده أبو زيد في عملياته فقال:
وروعي المقصود في الأحباس لا اللفظ في عمل لأهل فاس
ومنه كتب حبست تقرأ في خزانة فأخرجت من موقف (2)
(1) مواهب الجليل: 5/36.
(2)
الرهوني: 7/151.
كيف تتحقق المصلحة؟
إذا كان استقراء النصوص عامة والنصوص المتعلقة بالوقف خاصة أظهرت بما لا يدع مجالاً للمراء أن معيار المصلحة هو المعيار الصحيح الذي لا يحيف، وأن ميزانها هو الميزان العدل الذي لا يجور، يصبح السؤال: كيف تتحقق قيام المصلحة؟ وهل هي مصلحة خالصة خالية من معارض المفاسد التي قد تعطل تأثير المصلحة وتبطل مفعولها؟ لا جرم أنه لا توجد –في الغالب- مصلحة محضة عرية عن مفسدة أو ضرر من وجه، وقد أوضح ذلك أبو إسحاق الشاطبي خير إيضاح وبينه خير بيان حيث قال:
المسألة الخامسة: المصالح المبثوثة في هذه الدار ينظر إليها من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها، فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية –من حيث هي موجودة هنا -لا يتخلص كونها مصالح محضة"وبعد تعريف المصلحة أضاف:"كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود، إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير"وبعد أن برهن على "أن هذه الدار على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين"، ثم قال رحمه الله تعالى:"وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب شرعاً، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل".
ثم يردف: "وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد فرفعها هو المقصود شرعاً ولأجله وقع النهي"(1) .
وكلام الشاطبي يرجع إلى قاعدة أخرى هي: أن الغالب كالمحقق. قال أبو عبد الله المقري: قاعدة: المشهور من مذهب مالك أن الغالب كالمحقق في الحكم. (2) .
(1) يراجع لما تقدم الموافقات: 2/25-27، تحقيق دراز.
(2)
المنجور شرح المنهج، ص112.
المراد من هذه المقدمة تحرير المصلحة المعتبرة التي يمكن أن تؤثر في الوقف أنها مصلحة غالبة عادة يطلب جلبها شرعاً أو مفسدة غالبة عادة يطلب درؤها شرعاً، فإذا لم يقع تحقق غلبة المصلحة على المفسدة فإن الإبقاء على أصل الثبات في الموقف مسلم الثبوت، فليست كل مصلحة عارضة يمكن أن تزعزع أركان الوقف وتصرف بألفاظ الواقف عن مواضعها وتحرك الغلات عن مواقعها ويبقى الكلام نظرياً إذا لم نتحدث عن كيفية تحقيق المناط ومن يحققه على أرض الواقع.
إنه الناظر والإمام والقاضي وجماعة المسلمين، كل هؤلاء بحسب الأحوال وشروط الواقفين والظروف الزمانية والمكانية ونوع المصالح التي يتعاملون معها إذا كانت تقع في مرتبة الضرورات، كغابة الزيتون الموقوفة على مسجد يحتاج إلى ريعها لصرفه في المساعدة على بناء سور يحمي المدينة من هجمات العدو –كما تقدم- فعلى أولئك المذكورين أعلاه أن يقدروا رجحانية المصلحة وغلبتها على المفاسد التي قد تنشأ عن التصرف في الوقف، ولهذا اشترط الحنفية أن يتولى القاضي دون الناظر التحقق من المصلحة ليحكم بالاستبدال الذي لم يشترطه الواقف، قال في الإسعاف: "وأما إذا لم يشترطه فقد أشار في السير إلى أنه لا يملكه إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك ويجب أن يخصص برأي أول القضاة الثلاثة المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: ((قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار)) ، المفسر بذي العلم والعمل لئلا يحصل التطرق إلى إبطال الأوقاف كما هو الغالب في زماننا (1) .
ولا يكتفي الطرسوسي بالقاضي بل لابد أن يكلف القاضي اثنين من الخبراء العدول الأمناء بعد أن يفحص القاضي بنفسه –إن أمكن- الوقف.
والاستبدال في هذه الحالة كالحال التي قبلها لا يصح إلا بإذن القاضي لأن القاضي هو الذي يقدر الحاجة (2) .
من ذلك نرى أن القاضي هو قطب الرحى "فقد أشار في السير إلى أنه –الاستبدال- لا يملكه إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك (3) .
أما المالكية فإنهم لم يضعوا شروطاً معينة للاستبدال إلا تلك التي نص عليها المتأخرون من كون العقار خرباً ولا غلة له تمكن من إصلاحه ولا متطوع بإصلاحه.
أما من يحقق هذه الشروط في واقع الأمر فإنهم لم يدققوا فيه تدقيق الحنفية، ولكنهم اهتموا بتعيين من يقوم بشؤون الوقف التي تعنى بكل ما يتعلق بتحقيق مصالحه، فقد جعلوا النظر للمحبس كأول جهة مسؤولة ثم الحاكم.
(1) الإسعاف، ص32.
(2)
أبو زهرة، ص165.
(3)
أبو زهرة، ص168-169.
قال ابن عرفة: "والنظر في الحبس لمن جعله له محبسه، المتيطي: يجعله لمن يثق في دينه فإن غفل المحبس عن ذلك كان النظر فيه للحاكم يقدم له من يرتضيه ويجعل للقائم به من كرائه ما يراه سداداً على حسب اجتهاده، ثم نصوا على أن الناظر على الحبس إذا كان سيئ النظر غير مأمون بأن القاضي يعزله".
ولو غاب الناظر غيبة بعيدة، كما وقع في وقف بمكة في القرن الثامن الهجري به مدرس وطلبة، وغاب الناظر بالقاهرة فولى القاضي على الدرس شخصاً بعد موت من كان يتولاه، فهل تصرف القاضي صحيح؟ فأجاب علي بن الجلال المالكي وأفتى السراج البلقيني الشافعي بصحة تصرفه، وكل من الشيخ محمد بن أحمد السعودي الحنفي والشيخ عبد المنعم البغدادي الحنبلي بمثل ما تقدم" (1) .
فتحصل من ذلك اتفاق فقهاء المذاهب الأربعة على أن القاضي يقوم مقام الناظر " وقال ابن عرفة عن أبي فتوح: للقاضي تقديم من ينظر في أحباس المسلمين"(2) .
"ولكنه لا يجوز للقاضي ولا للناظر التصرف إلا على وجه النظر ولا يجوز على غير ذلك، ولا يجوز للقاضي أن يجعل بيد الناظر التصرف كيف شاء"(3) .
وأشاروا أيضاً إلى الموقوف عليهم المالكين لأمر أنفسهم "فإن كان المحبس عليهم كباراً أهل رضا تولوا حبسهم بأنفسهم وإلا قدم السلطان بنظره"(4) .
وفي هذه الأزمنة جرت أعراف وأنظمة مختلفة في كثير من الأقطار الإسلامية تتعلق بالأوقاف، ومن أهم هذه الأنظمة: إنشاء وزارات الأوقاف التي أصبحت الجهة التي تمثل الإمام في رعاية شؤون الأوقاف العامة أو الأوقاف المجهولة المصرف تتمتع بصلاحيات واسعة إلى جانب القضاء في تقديم النظار وعزلهم إلا أنها لا يمكن أن تحكم في الخصومات التي تنشأ في الأوقاف سواء فيما يتعلق بإثبات وقفيتها أم في تعيين المصرف.
(1) يراجع الحطاب، مواهب الجليل: 6/38-39.
(2)
الحطاب: 6/40.
(3)
الحطاب: 6/40.
(4)
مواهب الجليل: 6/37.
ولهذا فإن التعاون بين وزارة الأوقاف والقضاء والجهات الخيرية الواقفة والجهات المنتفعة يمكن أن تعد برامج الاستثمار المراعية للناحيتين الشرعية والمصلحية يحافظ على الموازنة الدقيقة بين انفتاح الوقف لمقتضيات (المصالح الراجحة) المحققة أو المظنونة، وبين الإبقاء على الوقفية التي تتمثل في بقاء العين أو ما يقوم مقامها في المحافظة على طبيعة الانتفاع للمستفيد من الوقف، بحيث لا تكون مراعاة المصلحة بالإبطال على أصل الديمومة والجريان المستمر اللذين يمثلان أساس الحكمة التي تميز الوقف عن غيره من الصدقات والهبات.
هذه المعادلة بين ديمومة الوقف وتحقيق أفضل ريع وعائد وفائدة للوقف يجب أن توضع نصب أعين الأطراف المسؤولة عن شؤون الأوقاف، وكل الآراء الاجتهادية للمذاهب الفقهية تدور حول هذين المحورين، فبعضها أغرق في التمسك بديمومة عين الوقف إلى حد الاحتفاظ بالذات بلا نفع وكأن الوقف تعبدي محض سداً لذريعة اعتداء شطار النظار وعدوان حكام الجور، وقد سجل التاريخ الكثير من ذلك.
بينما نحت اجتهادات أخرى إلى تحرير الوقف تذرعاً بالمصلحة التي من أجلها أنشئت الأوقاف بحثاً عن الاستثمار الأمثل، مع ما يسببه ذلك من تعريض الوقف للتغيير والتبديل من جراء نهم النظار الذين خربت ذممهم وخفت أمانتهم.
وانطلاقاً مما تقدم ينبغي صياغة سياسة للمحافظة على الأوقاف ولاسيما في ديار الغرب حيث يتعين تسجيل المساجد والأوقاف الأخرى باسم هيئات موثوق بها وإيجاد صيغة لاعتراف السلطان في هذه الديار.
الخاتمة
في هذا البحث عالجنا مسألة تأثير المصلحة في الوقف فعرفنا الوقف، وأثبتنا مشروعيته باختصار، وتعرفنا على المصلحة وأنواعها معتبرة أو ملغاة، وتعرضنا لثلاثة اتجاهات فقهية بارزة.
أحدها: يلتزم حرفية الوقفية بما يقربها من التعبدية وهو الذي يمثله الشافعية والمالكية في أصل مذهبيهما.
والثاني: يسير مع المصلحة ويتمسك بأصل الثبوت في العين والمصرف، إلا أنه يجيز المعاوضة والمناقلة لضرورة الانتفاع، وهذا أصل مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك.
والاتجاه الثالث: يبالغ في اعتبار (المصلحة الراجحة) التي لا تدعو إليها ضرورة فيتصرف في العين (بالمعاوضة) و (الاستبدال) و (الإبدال) ، ويتصرف في المصرف بصرفه في أوجه البر التي قد لا تكون من جنس المصرف، وفي الغلة والوفر بالسلف والاستثمار، وفي هذا الاتجاه على اختلاف في العبارة وتباين في الإشارة يصنف أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة والأندلسيون من أتباع المذهب المالكي وابن تيمية وتلاميذه، فللمصلحة الراجحة وقع عند هؤلاء.
وهكذا كانت نتيجة البحث ترجيح ما ذهب إليه هؤلاء باعتبار الوقف من معقول المعنى وباعتبار مقصود الواقف الذي يرمي إلى الاستكثار من الأجر عن طريق زيادة النفع.
ولذلك فإن العناوين السبعة التي اعتبرناها مظاهر لتأثير المصلحة كانت أساساً لنظرتنا إلى التعامل مع الأوقاف في ضوء المصلحة:
-فيجوز وقف العين وغيرها للمضاربة والاستثمار.
-تجوز المعارضة في الوقف، أي بيعه وإبداله بما يكون وقفاً من جنسه أو غيره للمصلحة الراجحة.
-يجوز صرف غلة وقف إلى غير مصرفه الأصلي للضرورة أو الحاجة إذا لم يكن المصرف الأصلي في حاجة، كما يجوز التسالف بين الأوقاف.
-يجوز استثمار الغلة (الوفر) في غير جنس الوقف بالمضاربة فيها والمتاجرة لتحصيل مردود أكبر للوقف إذا كان استثماراً أقرب إلى الأمان واستغنى الوقف عنه.
-يجوز تغيير معالم الوقف لإصلاحه.
-يجوز تقديم ذوي الحاجة على غيرهم في حال الوقف.
وقد اعتمدنا في ترجيح التصرف في الوقف على أصل اعتبار المصلحة في غياب النص الجازم، وعلى حديث حسان وعلى حديث أصحاب الغار في التصرف في مال الغير بالأصلح، وعلى ما رواه أشهب في صرف غلة وقف عمر تارة تمراً وتارة تباع بدراهم، وكذلك أمر عمر لسعد بنقل المسجد وجعل السوق مكانه.
ثم أضفنا فصلاً عمن يحقق المصلحة وهو الواقف والناظر والقاضي والإمام وجماعة المسلمين والموقوف عليهم المالكون لأمرهم.
وبذلك نختم هذا البحث الذي نرجو أن يكون إسهاماً في تأصيل إعمال المصلحة في الأوقاف، وتوضيح جوانب من أقوال العلماء كانت غامضة وتقديم بعض الأدلة التي لعلها كانت عن بعض الأذهان غائبة.
ونستغفر الله العظيم مما كتبت أيدينا.
عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه