الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقوق الشيوخ والمسنين وواجباتهم
في الإسلام
إعداد
الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد رسول الله وخاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر المحجلين، ومن رزق محبتهم واتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الإسلام بفقهه الحضاري العظيم لم يغادر قضية من القضايا الحيوية للفرد وللجماعة إلا عالجها وشخص بها الداء ووصف لها الدواء، ولاسيما قضايا التكافل الاجتماعي بما يقتضيه من التعاون والتراحم والتناصر والتضامن بين كافة هيئات الجماعة الإنسانية.
ولقد كان لقضية حقوق المسنين دور بارز في التشريع الإسلامي بل وفي الفكر الإسلامي كذلك، ولكن ذلك لم يفرد فيما أحسب بتصنيف خاص في كتاب، بل ظل منثورًا بين طيات الكتب الأمهات والمراجع القديمة والحديثة، وفي ثنايا الدوريات والمجلات العلمية.
على أن قضية حقوق المسنين أضحت اليوم قضية عالمية تَنَادَى لها العلماء والباحثون والكُتّاب، وانعقدت لها المؤتمرات والندوات، وألقيت فيها المحاضرات وعقدت لها المناظرات.
واقترنت قضية حقوق المسنين بقضية حقوق الأطفال لدى الباحثين، ولكنهما في نظري قضيتان منفصلتان كل منهما عن الأخرى، وإن كانتا متكاملتين.
هذا ولقد كلفتني الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة مشكورة بالكتابة في (حقوق المسنين في الإسلام) ، وذهبت في البحث عن المراجع والمصادر كلَّ مذهب، وهي قليلة جدًا بل أقل من القليل، وبذلت قصارى جهدي في التعرف على مصادر البحث ومراجعه وما كتب فيه من قبل، لأفيد من جهود الكتاب السابقين، ولأطلع على مناهجهم في البحث، ولأصوغ من ذلك كله ورقة عمل لحقوق المسنين في الإسلام، علها تفي بالغرض، وإن كان ذلك أمرًا لا يزال بعيدًا، ومسلكًا لا يزال وعرًا وعسيرًا، ولا أبعد النجعة إذا قلت: إن هذا البحث يحتاج إلى مصنف قائم برأسه، ووقت طويل، وجهد كبير من مجموعة من الباحثين مجتمعين.
وبعد؛ فهذه ورقتي، ورقة عمل أقدمها لمجمعنا الموقر في مجلسه الثاني عشر لعام 1420 هـ – 1999م في المملكة السعودية الشقيقة.
على أني لا أدعي الاستيفاء ولا الاستقصاء، وأَنَّى لي ذلك، بل هو جهد مبذول، وهو بعد جُهْدُ المقل، فما كان منه صوابًا فمن الله وله الفضل والمنة، وما كان غير ذلك فمني وأستغفر الله وأستقيله،
وكذلك فإني لا أدعي أبدًا ولن أدعي لشيء كتبته أو سطرته في قرطاس أنه حكم الله في الواقعة، بل هو محض اجتهاد مني، فما كان صوابًا فلي منه أجران، وما كان خطأ فحسبي منه ذلك الأجر الواحد، اللهم إلا ما ثبت بدليل قطعي أنه حكم الله في الواقعة من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع.
أما بعد:
فهذه ورقات جعلتها مدخلًا لدراسة متأنية في حقوق المسنين والأطفال معًا ستأتي على وجهها إن شاء الله، وإن مع اليوم غدًا، وإن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسر يسرين.
أسأل الله أن ينفع بهذه الكلمات، وأن يجعل لها القبول في النفوس، وأن يوفقني لإتمام ما بدأت، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
مدخل بين يدي البحث
حدود وتعريفات
أولًا – تعريف المسن والشيخ لغة:
1-
تعريف المسن:
جاء في لسان العرب لابن منظور: " أَسَنَّ الرجل: كبر، وفي المحكم: كبرت سنه يُسن إسنانًا، فهو يُسن، وهذا أَسنُّ من هذا أي أكبر سنًّا منه. . "(1) .
وجاء في شرح القاموس المحيط للزبيدي ما نصه: " ويقال: (هو أسن منه) أي (أكبر سنًّا) منه عريبة صحيحة.
(وهو سِنه) بالكسر (وسَنِينُه) كأمير (وسَنَينَتُهُ) كسفينة أي (لدته وتربه) إذا قرنه في السن.. " (2) .
(1) راجع مادة (سنن) معجم لسان العرب لابن منظور.
(2)
راجع مادة (سنن) معجم القاموس المحيط شرح الزبيدي.
2-
تعريف الشيخ:
أ- جاء في لسان العرب: " الشيخ الذي استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب، وقيل: هو شيخ من خمسين إلى آخره، وقيل: هو من إحدى وخمسين إلى آخر عمره، وقيل: هو من الخمسين إلى الثمانين، والجمع أشياخ وشيخان وشيوخ. . . والأنثى شيخة. . وقد شاخ يشيخ. . فهو شيخ. . "(1) .
ب- وجاء في شرح القاموس للزبيدي (2) : " (الشيخ والشيخون) هو مبالغة في الشيخ (3) (مَن استبانت فيه السن) وظهر عليه الشيب (أو) هو شيخ (من خمسين) إلى آخره (أو) هو من (إحدى وخمسين إلى آخر عمره) وقد ذكرهما شراح الفصيح (أو) هو من الخمسين (إلى الثمانين) حكاه ابن سيده في المخصص والقزاز في الجامع وغير واحد (ج شيوخ) . . . (وهي شيخة) . .. ".
إذًا فالعرب استعملت كلمتي الشيخ والمسن للدلالة على من كبرت سنه وعُمِّرَ في الحياة الدنيا، وعلى الرجل الكبير والمعمر الطاعن في السن وصاحب الشيبة (4)، وقديمًا قالت العرب:
فزعمتني شيخًا ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبًا
(5)
وقد تترتب مراحل العمر للإنسان عند الكبر إلى: كهل ثم شيخ ثم عجوز ثم هرم ثم كُنْتِيٍّ ثم الْهِمِّ وهو من في أرذل العمر، قال الله تعالى:{وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] .
والذي يظهر أن الهرم والكنتي والهرم في مرحلة واحدة وهي أرذل العمر وآخره والله تعالى أعلم.
هذا ومراحل الإنسان هي: المراهق وهو الطفل الذي قارب البلوغ، جاء في القاموس:"راهق الغلام: قارب الحلم " ويراد بالطفل: من لم يميز، والصبي والغلام واليافع: من لم يبلغ وكذا اليتيم، والشاب والفتى: من البلوغ إلى الثلاثين، والكهل: من الثلاثين إلى الخمسين، والشيخ: من الخمسين إلى السبعين، ثم الهرم إلى آخر العمر (6) .
(1) راجع مادة (شيخ) معجم لسان العرب لابن منظور.
(2)
راجع مادة (شيخ) معجم القاموس المحيط شرح الزبيدي.
(3)
وقال: هو غريب غير معروف في الأمهات المشهورة.
(4)
انظر ما كتبته الباحثة جهير عبد العزيز البِرغِش ببحثها حيث قالت: " المسن في اللغة: استعمل العرب كلمة المسن للدلالة على الرجل الكبير فتقول: " أسن الرجل: كبر، وكبرت سنه، ويسن إسنانًا فهو مسن ". كما تستخدم العرب ألفاظًا مرادفة للمسن فتقول: شيخ، وهو من استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب، وبعضهم يطلقها على من جاوز الخمسين وقد تقول: هرم وهو أقصى الكبر وتقول كذلك: كهل، وجميع هذه الألفاظ تدل على كبر السن، إلا أنه يمكن ترتيب مراحل العمر بعد مرحلة المراهقة كالتالي: شباب ثم كهل ثم شيخ ثم هرم، فكل من يجاوز مرحلة الشباب - وهي إلى الأربعين - فهو مسن في اللغة، ونلحظ أن آخر هذه المراحل هي مرحلة الهرم، والهرم كما ذكر ابن حجر رحمه الله هو الزيادة في كبر السن، وهو أرذل العمر كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله، وهذا الذي تعوّذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ". إلى هنا انتهى ما قالته الباحثة في بحثها حول تعريف المسن في اللغة. بحث " نحو رعاية أفضل للمسنين " المقدم لمركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(5)
من شعر أبي أمية أوس الحنفي، ذكره ابن هشام في شرح القطر وفي شذور الذهب وفي الأوضح، وذكره الأشموني في شرحه على الألفية قال محققه المرحوم الشيخ محيي الدين عبد الحميد: الشيخ: هو من ظهرت عليه السنُّ واستبان فيه الشيب ويقال للإنسان: شيخ، إذا بلغ الخمسين إلى الثمانين. اهـ.
(6)
انظر كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور الزحيلي: 8 / 79 – 80.
ثانيًا – تعريف المسن في الاصطلاح:
كثيرًا ما يرتبط هذا اللفظ لدى بعض الباحثين في علم الاجتماع بسن معين، وهو سن الستين، فيقال: المسن هو من تجاوز عمره الستين، ومن المعلوم أن هذه المرحلة نسبية وتتفاوت من فرد لآخر، فبعض من دخل في هذه المرحلة دخل في الشيخوخة والبعض الآخر لمّا يدخل فيها، فإننا قد نجد من هو دون العمر وقد ضعف واشتعل رأسه شيبًا، كذلك تستطيع القول: إن العمر التاريخي للإنسان يعد معيارًا غير دقيق لتحديد مرحلة وصفه بالمسن.
ومن هنا نجد بعضهم يتخذ أكثر من مقياس لتحديد هذه المرحلة، فيتخذ العمر الزمني مقياسًا يتعامل به مع عدد السنين، والعمر البيولوجي وهو مقياس يتناول الجوانب العضوية للإنسان، والعمر الاجتماعي ويتناول فيه الأدوار الاجتماعية التي يمارسها الفرد وعلاقته بالآخرين، واختبار العمر النفسي ويحدد بالخصائص النفسية والتغييرات في سلوك الفرد وحاجته ودوافعه، وعلى ذلك (يُمْتِد إِنْمَام) يعرف المسن بأنه:"من دخل دور الكبر"، ثم يحدد الكبر بأنه "حقيقة بيولوجية التطور الختامي في دورة حياة البشر" كما تجد من يعرف المرحلة التي يصل إليها المسن تعريفًا وظيفيًا، حيث يرى إسماعيل أنها:" حالة يصبح فيها الانحدار في القدرات الوظيفية البدنية والفعلية واضحًا يمكن قياسه، وله آثار على العمليات التوافقية".
وإن كان اختلاف، فمن المؤكد أنه ليس هناك حد فاصل واحد نستطيع القول عنده: إن الإنسان أصبح مسنًا، خاصة إذا تعاملنا وفق المقاييس السابقة مجتمعة، وهي: العمر الزمني، والعمر البيولوجي، والعمر الاجتماعي، والعمر النفسي، ولكننا نستطيع القول بأن المسن هو:"كل فرد أصبح عاجزًا عن رعاية وخدمة نفسه؛ إثر تقدمه في العمر وليس بسبب إعاقة أو شبهها"، وبهذا نخرج من إشكالية تحديد السن الزمني الذي يتفاوت الناس فيه.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية قد عرفتا المسن تعريفًا جزئيًا؛ تسهيلًا للتعامل مع هذا المصطلح، وذلك بمن يتجاوز عمره الستين سنة.
وإذا كان الأمر كذلك، فما هي إذا أعراض الشيخوخة الثابتة والواضحة فعلًا، والتي منها يستدل على بدء الشيخوخة بدون لبس أو إبهام؟
لقد حددت الكتب العلمية هذه الأعراض على النحو التالي:
أ- أعراض الجلد: يجف الجلد في الشيخوخة ويفقد نضارته، خاصة جلد الوجه والرقبة والأطراف.
ب- أعراض الشعر: حيث يتغير لون الشعر الطبيعي ثم يشيب.
ج – أعراض القامة والحركات المعبرة: يقل انتصاب القامة لانحناء العمود الفقري التدريجي وتتبدل الحركات المعبرة في الوجه واليدين وتصبح ثقيلة.
د – أعراض البصر والسمع: تقصر قوة البصر ومداه، وتتضائل قوة السمع.
هـ – أعراض البطانة الدهنية تحت الجلد: هذه البطانة تكون عادة بالأنسجة التي تحتها فتكسب الجسم منظره الخارجي المتناسق، ولكن في الشيخوخة تنفصل عن هذه الأنسجة وتنزلق إلى أسفل، وأكثر ما يظهر ذلك واضحًا في الوجه والأطراف.
و– أعراض الرئة: تضعف قدرة الرئة وتنقص قدرة استيعابها للشهيق.
ح- أعراض القلب والأوعية الدموية: تتفاوت مطاطيتها فتتصلب الأوعية وتتراكم على جدرانها الداخلية رواسب، وهو ما يسمى بتصلب الشرايين.
ط – أعراض الجهاز الهضمي: يضطرب فتضعف حركة الأمعاء.
ي – الأعراض الجنسية: تنعدم القدرة على مزاولة العمل الجنسي والرغبة فيه.
ك – الأعراض النفسية: تسود الكآبة والانقباض النفسي والضيق من الحياة والاستجابة للإثارات النفسية (العناد) وتضعف الذاكرة والقدرة على التفكير والاستنتاج.
ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه الأعراض نسبية لما مضي، وأن أيًّا منها لا يقتصر في ظهوره على سنوات الشيخوخة وحدها، إذ يمكن أن تظهر كأعراض مرضية دون سن الشيخوخة بكثير، إلا أن التجارب والدراسات التي طُبقت في مجال الشيخوخة أثبتت توافر هذه الأعراض في الغالب لدى هذه الفئة (1) .
(1) انظر بحث (نحو رعاية أفضل للمسنين) المقدم لمركز الأمير سلمان الاجتماعي.
الباب الأول
الحقوق العامة للشيوخ والمسنين
في الإسلام
* الحقوق الخلقية والأدبية والمعنوية.
* الحقوق المادية.
* الحقوق القانونية والقضائية.
الفصل الأول
الحقوق الخلقية والأدبية
والمعنوية
للشيوخ والمسنين في الإسلام
* الحقوق الخلقية.
* الحقوق الأدبية والمعنوية.
المبحث الأول
الحقوق الخلقية
* نبذة عن بر الوالدين في الإسلام.
* صلة الكبار من الأقارب والأرحام والرحمة بهم ومساعدتهم احتسابًا لوجه الله
المطلب الأول
نبذة عن بر الوالدين في الإسلام
1-
الفرع الأول – برهما في حياتهما وبعد وفاتهما:
أ) بر الوالدين في الكتاب العزيز:
1-
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] .
2-
وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] .
3-
4-
ب) بر الوالدين في السنة المشرفة:
1-
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) )) قالها ثلاثًا، فقالوا: بلى يا رسول الله. قال: (( ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) )) ، وجلس وكان متكئًا، وقال:(( ((ألا وقول الزور)) )) ، ما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه البخاري في الأدب المفرد.
2-
عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((من بر والديه طوبى له زاد الله عز وجل في عمره)) )) .
3-
عن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ((لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) )) .
4-
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم)) )) رواه الطبراني بإسناد حسن.
5-
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه)) . قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)) )) رواه مسلم.
6-
جاء في حديث طويل عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ((انطلق ثلاثة نفر ممكن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق (لا أسقي في الماء) قبلهما أهلًا ولا ولدًا، فنأى بي طلب شجر يومًا فلم أرح (فلم أرجع) عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو ولدًا، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر – زاد بعض الرواة – (والصبية يتضاغون عند قدمي) فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك بابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من الصخرة. فانفرجت شيئًا. . . إلخ)) )) . أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة باختصار، وذكره الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب.
هذا، وفي حكم الوالدين العم والعمة والخل والخالة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:((أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبة؟ فقال: ((هل لك من أم؟)) . قال: لا. قال: ((فهل لك من خالة؟)) قال: نعم. قال: ((فبرها)) )) . أخرجه الترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه.
وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد جاء موقوفًا له حكم المرفوع عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ما من مسلم له والدان مسلمان، يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله له بابين – يعني من الجنة – وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه. قيل: وإن ظلماه. قال: وإن ظلماه)) .
وعن سعيد بن أبي برة قال: سمعت أبي يحدث " أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة " رواه البخاري في الأدب المفرد.
فالبر كالدين، فإن من يبر والديه فإن الله جل شأنه يقيض له من يبره من أبنائه، وكذلك العقوق وبالعكس كما مر.
والبر لا ينتهي بانتهاء حياة الوالدين، بل يستمر بعد موتهما بالدعاء لهما وإنفاذ وصاياهما وإكرام أقاربهما وأصدقائهما.
فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما (طلب الرحمة لهما) والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما (كالوصية وغيرها) ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)) )) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
ومن حديث ابن عمر مرفوعًا ((_ ((إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب)) )) أخرجه مسلم.
وبعد؛ فإذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام وأمها الوِلَاد، فيتضاعف تأكد الحق فيها، فقد روى أبو هريرة مرفوعًا (( ((لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)) )) أخرجه مسلم.
فهذه نبذة من الأخبار الدالة على تأكد حق الوالدين، فهذه الرابطة أكبر من رابطة الأخوة، بل يزيد ههنا العلماء أن طاعة الأبوين واجبة في المباحات، وأن أكثر العلماء على إجماع أن طاعتهما واجبة في الشبهات (1) ، وإن لم تجب في الحرام المحض، حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما؛ لأن ترك الشبهة ورع، ورضي الوالدين حتم، وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة إلا بإذنهما (2)، فعن أبي سعيد الخدري: هاجر رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن وأراد الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم:(( ((باليمن أبواك؟)) .)) قال: نعم. قال: (( ((هل أذنا لك؟)) .)) قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: (( ((فارجع إلى أبويك فاستأذنهما، فإن فعلا فجاهد، وإلا فبرهما ما استطعت، فإن ذلك خير ما تلقى الله به بعد التوحيد)) )) ، أخرجه أحمد وابن حبان.
وجاء آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره في الغزو. فقال: (( ((ألك والدة؟)) .)) فقال: نعم. قال: (( ((فالزمها، فإن الجنة تحت قدمها)) )) أخرجه النسائي وابن ماجه والحاكم من حديث معاوية بن جاهمة.
وجاء آخر إليه صلى الله عليه وسلم يطلب البيعة على الهجرة وقال: ما جئتك حتى أبكيت والدي، فقال صلى الله عليه وسلم:(( ((ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)) )) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في حديث عبد الله بن عمرو وقال: صحيح الإسناد.
جاء في كتاب الدرر المباحة ما يلي تحت عنوان الكبائر: "وإن الكفر لا يحل العقوق، حتى يجب على المسلم نفقة الوالدين الكافرين إذا عجزا عن الكسب، وخدمتهما وبرهما وزياراتهما إلا أن يخاف أن يجلباه إلى الكفر، فيجوز ألا يزورهما حينئذ، وينفق عليهما من ماله، فإنه لا يحاسب على نفقة أبويه، ولا يتكرهما لغزو أو حج أو طلب علم، فإن خدمتهما أفضل من كل ذلك "(3) قلت: وجمهور العلماء على أن نفقة الوالدين واجبة على الولد، ولو كانا قادرين على الكسب (4) .
(1) الإحياء: 2 / 238.
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
الدرر المباحة، ص 170 وما بعدها.
(4)
الفقه الإسلامي وأدلته: 7 / 829 وما بعدها.
2-
الفرع الثاني – تقبيل يدهما والقيام لهما:
يجوز تقبيل يد الوالدين باتفاق المذاهب الفقهية لرجحان أدلته (1) ، ويسن القيام لهما على وجه الاستحباب (2)، يدل عليه ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت:" ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا ودلًا وهديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها وقبلته وأجلسته في مجلسها". اهـ.
والخلاصة:
أنه يستحب القيام للوالدين والإمام العادل وفضلاء الناس، وكما يجوز تقبيل يد الوالدين بل ويستحب ذلك إذا كان في ذلك برهما وإدخال السرور على قلبيهما ونيل رضاهما.
(1) انظر كتاب الترخيص بالقيام لذوي الفضل والمزية من أهل الإسلام للإمام النووي كله، والدرر المباحة في الحظر والإباحة للشيباني النحلاوي، ص 42 بتحقيق الشيخ محمد سعيد البرهاني.
(2)
انظر حاشية رد المختار، باب الاستبراء، ص 244 – 246.
3-
الفرع الثالث – الانتساب إليهما دون غيرهما:
حرم الإسلام الانتساب لغير الوالدين تحريمًا قاطعًا في الكتاب والسنة، وانعقد على ذلك الإجماع؛
- فمن الكتاب العزيز: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب 5] .
- ومن السنة المشرفة: ((من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفًا ولا عدلًا)) (1) .
- وانعقد على ذلك الإجماع.
فقد حرم الإسلام التبني بنص القرآن الكريم، وأن ينتسب الإنسان لأحد غير أبيه، اللهم إلا أن يكون انتسابًا مقيدًا بعلم أو بسلوك.
جاء في كتاب الدرر المباحة في الحظر والإباحة للنحلاوي ما نصه: "ومن حقهما – أي الوالدين – أن يتملق لهما، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يجهر لهما بالكلام، ويطيعهما فيما أباح الدين، فإن رضاء الله في رضاهما، وسخطه في سخطهما، ولا ينتمي إلى غير والديه استنكافًا منهما، فإنه يوجب اللعنة"(2) .. . إلخ.
(1) رواه ابن ماجه في الحدود.
(2)
الدرر المباحة، ص 141.
المطلب الثاني
صلة الكبار من الأقارب والأرحام
والرحمة بهم ومساعدتهم احتسابًا لوجه الله
وصل الرحم بعامة واجب، وقطعها حرام، ومعنى الوصل ألا ينساها وأن يتفقدها بالزيارة والإهداء والإعانة باليد أو بالقول، وأقله التسليم وإرسال السلام أو الكتاب، ولا توقيت فيه، وتجب لكل ذي رحم محرم، واختلف في غير المحرم منه، والراجح أن هذا عام في كل قريب محرمًا كان أو غيره، وتتفاوت درجاتها، ففي الوالدين أشد من بقية الأرحام، وينزل العم والأخ الأكبر والخال منزلة الوالد، وتنزل الأخت الكبيرة والعمة والخالة منزلة الأم وذلك في التوقير والاحترام والخدمة والطاعة (1) ، ويتأكد ذلك في حالة كبر السن والشيخوخة فيكون الحق آكد.
وردت في ذلك آثار كثيرة، فقد ورد في الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( ((يقول الله تعالى: أنا الرحمن وهذه الرحم شققت لها اسمًا من اسمى، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)) )) (2)، وقال صلوات الله عليه:(( ((من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع له في رزقه؛ فليتق الله وليصل رحمه)) )) (3)، ولما أراد أبو طلحة أن يتصدق بحائط كان له يعجبه عملًا بقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [ال عمران: 92]، قال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، وللفقراء والمساكين، فقال عليه السلام:(( ((وجب أجرك على الله، قَسِّمْه في أقاربك)) )) (4) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( ((حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده)) )) أخرجه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثواب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(1) الدرر المباحة، ص 170 وما بعدها.
(2)
متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري والآية 92 من سورة آل عمران.
المبحث الثاني
الحقوق الأدبية والمعنوية
* التكريم والاحترام للشيوخ والمسنين.
* حسن التأدب معهم ومراعاة شيبتهم.
* تحريم قتل الشيوخ الكبار المسنين من غير المسلمين.
المطلب الأول
الشيوخ والمسنون
التكريم والاحترام لهم
أ- في الكتاب العزيز:
1-
قال تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:78]
2-
وقال تعالى: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]
3-
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54]
4-
وقال تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر: 67]
ب- في السنة المشرفة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (( ((ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر)) )) أخرجه الإمام أحمد، وفى رواية عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)) )) رواه أبو داود والطبراني والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن.
2-
ومن ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم كبير القوم في الكلام، فكان صلوات الله علته يقدم كبير القوم في الكلام والسؤال، وذلك من باب التكريم وحفظ المراتب وتنزيله الناس منازلهم، فقد روى البخاري ((أن نفرا من الصحابة انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرٍ، وفيهم عبد الرحمن بن سهل فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كبر كبر)) . يريد السن)) . والمعنى قدّم للكلام من هو أكبر منك سنا (1) .
3 – وفي حديث عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم: (( ((أنزلوا الناس منازلهم)) )) وفي رواية عنها: (( ((أمرنا أن ننزل الناس منازلهم)) )) .
4 – وقال صلى الله عليه وسلم: (( ((من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم)) )) أخرجه أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بإسناد حسن.
5 – وفي الخبر (( ((ما وقر شاب شيخا إلا قيض الله له في سنه من يوقره)) )) أخرجه الترمذي من حديث أنس بلفظ (( ((ما أكرم، ومن يكرمه)) )) وقال: حديث غريب، وفي بعض النسخ: حسن، وفيه أبو الرجال وهو ضعيف.
6-
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (( ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير)) )) متفق عليه.
(1) وعن جابر رضي الله عنه قال: قدم وفد جهينة على النبي صلى الله عليه وسلم فقام غلام ليتكلم، فقال صلى الله عليه وسلم:((مه فأين الكبير)) أخرجه الحاكم وصححه.
فتتلخص الحقوق المعنوية والأدبية أخذًا من هذه النصوص بما يلي:
1-
توقير الشيوخ والكبار والمسنين بكل صنوف التوقير والاحترام والإجلال ممن هو أصغر منهم سنًا، ولا سيما إذا كانوا ذوي شيبة أو علم وفضل وفقه أو حفظ لكتاب الله وتلاوة له ومعرفة بأحكامه وحدوده، فيتأكد هذا الاحترام والتوقير، ويظهر بمظاهر مختلفة:
- منها: القيام من الصغير للكبير لدى دخوله ولاسيما إذا كان عالما أو فقيها أو حافظا لكتاب الله.
- ومنها: عدم الكلام في المجلس إلا بإذنه.
- ومنها: ألا يتحدث الصغير في مجلس وفيه من هو أكبر منه إلا بإذنه.
- ومنها: أن يبدأ الصغير الكبير بالسلام.
- ومنها: رحمة الصغير الكبير لشيخوخته فيقدمه في المجلس.
- ومنها: إجلاس الكبير في صدر المجلس ممن هم أصغر منه
- ومنها: مخاطبته بأدب وتلطف واحترام.
- ومنها: إذا أراد أن يعلمه شيئا من أحكام الدين أن يكون ذلك عن طريق التلميح والكناية لا التصريح؛ كما فعل سيدنا الحسن وسيدنا الحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا علّما الرجل المسن الكبير الوضوء بالحكمة تلميحا وكناية، رضي الله عنهما وأرضاهما ورضى عن أبويهما وكرم وجهه.
المطلب الثاني
الشيوخ والمسنون
حسن التأدب معهم واحترام شيبتهم
إنه مما قرره الإسلام وارتضاه ونهجه للناس شرعة ومنهاجا أن الأدب دائما زينة وعقل وكمال لصاحبه، ومن أحسن الأدب وأكرمه إكرام ذوي الشيبة وحسن التأدب معهم واحترام شيبتهم وهم الشيوخ، فعن الإمام جعفر بن محمد (أى الإمام جعفر الصادق عن الإمام محمد الباقر) عن أبيه رضي الله عنهما قال:((جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ وشاب، فتكلم الشاب قبل أن يتكلم الشيخ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((كبر كبر)) )) .
وهذا مر ذكره في الأبحاث السابقة من غير هذه الرواية، وبغير هذا الإسناد. قلت: وهو إسناد مبارك عن آل بيت النبوة وهو سند نفيس: الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام السبط سيدنا الحسين عن أبيه سيدنا أمير المؤمنين الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، عن سيدنا ومولانا محمد رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه. ورضي عنهم وأرضاهم.
وقد جاء في تفسير أبي السعود لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 41 – 42] قال رحمه الله ما نصه: " ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج وأقول سبيل، واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل " وجاء في تفسير الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] .
" قال الزمخشري: ثنى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يَسِم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي، فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه ".
وجاء في تفسير في قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45] .
" قال الزمخشري: ربّع عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال، ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به وأن العذب لاحق به ولكنه قال: {أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَاب} [مريم: 45] ، فذكر الخوف والمسّ ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربعة بقوله: {يَا أَبَتِ} توسلا إليه واستعطافا "(1) . اهـ.
قلت: وكل ذلك نقله العلامة القاسمى عن الإمام الزمخشري في الكشاف، فلينظر. ولعل في هذا البيان الإلهي الكريم وما صحبه من تفسير قيم عن عالمين جليلين من كبار المفسرين رحمهم الله تعالى؛ غنية.
أقول: والذي رجحه بعض المفسرين أن آزر هو عمه وليس أباه، والعم يطلق عليه (أب) لغة، وفي هذا من زيادة التأدب والتلطف ما فيه، والله أعلم.
(1) انظر تفسير محاسن التأويل للعلامة محمد جمال الدين القاسمي: 11 / 4145 وما بعدها.
خاتمة في
تحريم قتل الشيوخ الكبار المسنين من غير المسلمين
أخرج أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ((انطلقوا باسم الله، وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) )) .
وأرسل أبو بكر رضي الله عنه أول خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم أسامةَ بن زيد على رأس جيش إلى الشام، وقد أوصاه بوصية لم تستطع الدول المتمدنة الآن مع حرصها على تخفيف بلاء الحروب، ودعواها العريضة في خدمة الإنسانية والإنسان، ومراعاة حقوق العمران، لم تستطع مع ذلك أن تقيد جيوشها بقاعدة من قواعدها، وإليك الوصية:
" ولا تخونوا ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا أو تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة
…
" إلخ. (1)
(1) انظر كتاب محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل للمؤلف أحمد جاد المولى، تحقيق عبد الرحيم مارديني مكتبة دار المحبة دمشق.
الفصل الثاني
الحقوق المادية
للشيوخ والمسنين في الإسلام
* الحقوق الطبية.
* الحقوق المالية
* الحقوق الإنسانية
المبحث الأول
الحقوق الطبية
- هل تعد أجرة الطبيب وثمن الأدوية من جملة نفقة القريب المريض على قريبه؟
- نص الشافعية على دخولها في النفقة وكذلك الزيدية، كما جاء في مغني المحتاج لدى فقهاء الشافعية وشرح الأزهار في فقه الزيدية.
- وأما الحنفية فلم ينصوا على أجرة الطبيب وثمن الأدوية، لا باعتبارها من جملة النفقة ولا باعتبار عدم شمولها بالنفقة، فقد قرر الحنفية في كتبهم أنه تجب النفقة بأنواعها أي من الطعام والكسوة والسكن، ولم يذكروا أجرة الطبيب وثمن الأدوية، وإنما ذكروا عدم الوجوب للزوجة، نعم صرحوا أن الأب إذا كان مريضًا أو به زمانة يحتاج إلى الخدمة فعلى ابنه خدمته.
وقد رجح بعض الباحثين المعاصرين (1) شمولَ أجرة الطبيب وثمن الأدوية بنفقة القريب، ولكن بالقدر المعروف، وبقدر حال المنفق دون إرهاق له؛ لأن النفقة وجبت لسد حاجة المنفق عليه، والمريض يحتاج إلى مراجعة الطبيب وشراء الأدوية، فكان ذلك من حاجته المشروعة فتشملها النفقة، ولكن بالمعروف وبقدر ما يسعه حال المنفق.
قلت: وهو ترجيح قيم يصار إليه، هذا إذا كان مريضًا فكيف إذا كان مريضًا ومسنًا؟
وهناك بحث ماتع عن التأمين الطبي بأنواعه وأصنافه في مجلة (البحوث الفقهية المعاصرة) الصادرة في المملكة العربية السعودية للدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان (2) ، وبحث آخر كذلك للدكتور حسين مطاوع الترتوري (3) ، وفيهما يترجح لديهما جواز هذا التأمين الطبي في نوعه التعاوني، فلينظر.
(1) هو الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم: 10 / 234.
(2)
(التأمين الصحي في المنظور الإسلامي قضية بحث) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد الحادي والثلاثون.
(3)
(التأمين الصحي في الفقه الإسلامي) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد السادس والثلاثون.
ولا يخفى أن المتابعة الطبية صحة وتغذية، نفسيًا وجسديًا لكبار السن من الضرورات وحقوقٌ للمسنين، جاء في بحث (أثر العادات الغذائية على الحالة الصحية للمسنين) ما خلاصته:
" تهتم الأبحاث العلمية الحديثة بسلامة وصحة الإنسان من نواح مختلفة وهامة، ولا شك أن أسلوب التغذية والعادات الغذائية للأفراد تعكس أسلوب ونمط المعيشة، كما تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الصحة العامة والنشاط والتمتع بالحياة، ولا يغفل أحد أهمية العناية بتغذية كبار السن والمسنين الذين يحتاجون لرعاية صحية وتغذية سليمة "(1) .
وجاء في بحث (دور مراكز الرعاية الصحية الأولية في تقديم خدمات صحية شاملة لكبار السن) ما خلاصته:
" يعتبر تقييم الخدمات المقدمة للمسنين جزءًا ضروريًا وأساسيًا لتقديم الخدمة الصحية (الطبية – النفسية – الاجتماعية. .. إلخ) بصورة سليمة ومتكاملة في مجال رعاية المسنين يساعد صانعي القرار ومخططي البرامج في وضع السياسات الصحية المستقبلية على أسس علمية سليمة.
(1)(أثر العادات الغذائية على الحالة الصحية للمسنين) الدكتورة آمال أحمد محمد بخاري، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
كما يجب تسليط الضوء على أهمية التخطيط السليم والتنسيق بين القطاعات الحكومية المختلفة القائمة على تقديم الخدمات لهذه الفئات (1) .
وجاء في بحث (مشكلات كبار السن) ما خلاصته:
" الحث على العناية الصحية لمن تقدم به السن، والحفاظ على الجسم من خلال الرعاية والاهتمام كالنظر، وكيفية المحافظة على صحة العيون والسمع والأسنان والأقدام والرشاقة
…
إلخ، ومبادئ الصحة العامة أثناء التقدم بالسن وخصوصًا أثناء الشيخوخة والاهتمام بالمظهر الخارجي والأثاث وعدم السهر، ومراعاة الآثار النفسية لكبار السن من ضعف الهمة وتدهورها ورحيل الأحباب والأصدقاء عن الدنيا والفراغ القاتل، والإعجاب بالماضي
…
دور النمو الاجتماعي في رحلة الشيخوخة ومفهوم التكيف والتوافق الاجتماعي عند الكبار (2) .
وجاء في بحث (الشيخوخة ومشكلاتها وتغيراتها) ما خلاصته: " قد يتعرض الفرد لضغوط شديدة ناتجة عن هذه التغيرات، والتي تتجلى في الانحدار والتدهور الجسدي، مما يؤثر على نفسية الكبير وعلى قدراته المعرفية والعقلية
…
ونقترح:
- توعية المجتمع والمسن بتغيرات السن وكيفية التكيف معها.
- تشجيع الباحثين على المزيد على الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع.
- سرعة تبني أساليب حديثة في رعاية المسنين " (3) .
وجاء في بحث (نحو رعاية أفضل للمسنين) تحت عنوان الرعاية الصحية.
"عرفنا أن المشكلات الصحية التي يعاني منها المسنون كثيرة، مما يفرض ضرورة إعداد وترتيب البرامج التي تتناول الاهتمام بصحة المسن، وتضمن تلك البرامج ضرورةَ الكشف الطبي الدوري على المسن للتعرف على ما يتعرض له من مشكلات صحية، ومن المفيد في هذا الجانب التعرف على التاريخ المرضي للعمر، لذلك نرى ضرورة الاهتمام بالتأمين الصحي للمسنين، وما يتضمن ذلك من إجراءات تشمل إثبات الحالة الصحية وتطورها بالنسبة للمسنين؛ ولأن بعض المسنين يجدون مشقة في انتقالهم إلى دور العلاج الحكومية، فيجب التفكير في نظام يسمح بتوفير الخدمات العلاجية المنزلية إلى بعض كبار السن، حيث يزورهم الطبيب بصورة دورية يتابع حالتهم الصحية وتقديم العلاج المناسب "(4) .
(1)(دور مراكز الرعاية الأولية في تقديم خدمات صحية شاملة لكبار السن) الأستاذ محمد سعيد عوض، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(2)
(مشكلات كبار السن) الأستاذة نوال عبيد الله تركستاني، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(3)
(الشيخوخة مشكلاتها وتغيراتها) الأستاذة هيفاء بنت فهد المبيرك، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(4)
انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل لمسنين) الأستاذة جهير عبد العزيز البرغش، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
المبحث الثاني
الحقوق المالية
المطلب الأول – نفقة الوالدين على أولادهم:
وجبت نفقة الوالدين على أولادهم في الكتاب والسنة والإجماع وضرب من المعقول، فمن الكتاب العزيز قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما، وقال تعالى:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] هذا في الوالدين الكافرين، فالمسلمان أولى، والإنفاق عليهما لدى الحاجة من أعرف المعروف، وقال تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] لما في كلمة (أُفٍّ) من الإيذاء لهما، ومن المعلوم أن ترك الإنفاق عليهما عند الحاجة وقدرة الولد على ذلك أكثر إيذاء لهما من كلمة (أُفٍّ) ، فكان النهي عن كلمة (أُفٍّ) نهيًا عما هو أشد منها كعدم الإنفاق عليهما عند حاجتهما، فيكون الإنفاق عليهما واجبا.
- ومن السنة المشرفة: قوله صلى الله عليه وسلم: (( ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)) )) فإذا كان كسب الولد هو كسب والده؛ كانت نفقة الوالد في هذا الكسب لأن نفقة الإنسان في كسبه.
- ومن الإجماع: فقد قال العلامة الفقهي المجتهد ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد ".
- وأما المعقول: فلأن الولد هو بعض والده، فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك يجب عليه أن ينفق على أصله الذي هو بعضه.
والوالدان المشمولان بإبجاب النفقة لهما على ولدهما، هما الوالدن المباشران والأجداد والجدات وإن علو، سواء من جهة الأب أو من جهة الأم، وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والجعفرية وغيرهم. والحجة لهم قوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] ، فسمى الله تعالى إبراهيم أبًّا وهو جد، وهذا خلافًا لمذهب الإمام مالك في نفقة الجد والجدة، والصحيح قول الجمهور، والمالكية مع الجمهور في وجوب نفقة الأم على ولدها.
ويشترط لوجوب النفقة على الوالدين فقرهما فقط عند جمهور الحنفية، ويشترط عجزهما عن الكسب فوق الفقر عند الحنابلة.
وقال الشافعية: تجب النفقة للوالدين وإن علوا على أولادهم وإن سفلوا، ولا تجب لمالك كفايته من كسب حلال يليق به لانتفاء حاجته إلى غيره، وإن اكتسب دون كفايته استحق القدر المعجوز عنه خاصة.
فإن كان الوالدان أو أحدهما فقيرًا غير مكتسب فالأظهر والأصح أنهم تجب لأصل أي للوالدين؛ لأن الفرع مأمور بمعاشرة أصله بالمعروف، وليس من المعروف تكليفه الكسب مع كبر السن.
وإن كان قادرًا على الكسب بالصحة والقوة، فإن كان من الوالدين ففيه قولان: يستحق ولا يستحق، وهما قولان في المذهب كما حكى الشيرازي في المهذب.
والراجح أن المقصود بالوالدين المنفق عليهما هما الوالدان المباشران للولد وأجداده وجداته وإن علوا، وأن الشرط في وجوب النفقة لهم على أولادهم هو فقرهم فقط، ولا يشترط مع فقرهم عجزهم عن الكسب، ولكن من اكتسب منهم فعلًا وكفاه كسبه سقطت نفقته عن ولده.
وهكذا وجبت نفقة الأصول على الولد لا يشاركه في نفقة أبويه أحد؛ لأنه أقرب الناس إليهما فكان أولى باستحقاق نفقتهما عليه، وهي عند الحنفية على الذكور والإناث بالتسوية؛ لأن المعنى يشملهما (1) .
(1) انظر رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 2 / 643 وما بعدها، ص 672 وما بعدها؛ فتح القدير: 3 / 347؛ البدائع: 4 / 30؛ الشرح الصغير: 2 / 752؛ المهذب: 2 / 65؛ مغني المحتاج: 3 / 446 و7 / 583.
المطلب الثاني: نفقة الأقارب وذوي الأرحام:
الخلاصة:
أنه يجب على المسلم أن يكفي أقاربه إذا كانوا محتاجين كالآباء والأجداد والأبناء وفروعهم، وأما الإخوة وفروعهم والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فقد اختلفت المذاهب في أمر الإنفاق عليهم، فأوجب الحنفية الإنفاق على كل ذي رحم محرم على قريبه ذي الرحم المحرم الوارث، وذلك كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والعم والخال بالقضاء أو بالرضا، وألزم الحنابلة النفقة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ والعم وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة (1) .
المطلب الثالث: ضابط في حصر أحكام نفقة الأصول والفروع عند الحنفية:
لا يخلو إما أن يكون الموجود من قرابة الولادة شخصًا واحدًا أو أكثر، والأول ظاهر وهو أنه تجب النفقة عليه عند استيفاء شروط الوجوب، والثاني لا يخلو إما أن يكونوا فروعًا فقط، أو فروعًا وحواشي، أو فروعًا وأصولًا، أو فروعًا وأصولًا وحواشي، أو أصولًا فقط، أو أصولًا وحواشي، فهذه ستة أقسام، وبقي قسم سابع تتمة الأقسام العقلية وهو الحواشي فقط، نذكره تتميمًا للأقسام وإن لم يكن من قرابة الولادة.
(1) انظر فتح القدير: 3 / 350؛ رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 2 / 637؛ المهذب: 2 / 166؛ المغني: 7 / 585.
1-
القسم الأول:
الفروع فقط: والمعتبر فيهم القرب بعد الجزئية دون الميراث كما علمت، ففي ولدين لمسلم فقير ولو أحدهما نصرانيًا أو أنثى؛ تجب نفقته عليهما سويًا (ذخيرة) للتساوي في القرب والجزئية وإن اختلفا في الإرث، وفي ابن وابن ابن، على الابن فقط لقربه (بدائع) ، وكذا تجب في بنت وابن ابن على البنت فقط لقربها (ذخيرة) ، ويؤخذ من هذا أنه لا ترجيح لابن ابن علي بنت بنت وإن كان هو الوارث لاستوائهما في القرب والجزئية، ولتصريحهم بأنه لا اعتبار للإرث في الفروع، وإلا لوجبت أثلاثًا في ابن وبنت، ولما لزم الابن النصراني مع الابن المسلم شيء، وبه ظهر أن قول الرملي في (حاشية البحر) : أنها على ابن الابن لرجحانه، مخالف لكلامهم.
2-
القسم الثاني:
الفروع مع الحواشي: والمعتبر فيه أيضًا القرب والجزئية دون الإرث، ففي بنت وأخت شقيقة، على البنت فقط وإن ورثتا (بدائع وذخيرة) ، وتسقط الأخت لتقديم الجزئية، وفي ابن نصراني وأخ مسلم على الابن فقط وإن كان الوارث هو الأخ (ذخيرة) ، أي لاختصاص الابن بالقرب والجزئية، وفي ولد بنت وأخ شقيق على ولد البنت وإن لم يرث (ذخيرة) ، أي لاختصاصه بالجزئية وإن استويا في القرب لإدلاء كل منهما بواسطة، والمراد بالحواشي هنا من ليس من عمود النسب أي ليس أصلًا ولا فرعًا، فيدخل فيه ما في الذخيرة: لو له بنت ومولى عتاقة فعلى البنت فقط، وإن ورثا أي لاختصاصها بالجزئية.
3-
القسم الثالث:
الفروع مع الأصول: والمعتبر فيه الأقرب جزئية، فإن لم يوجد اعتبر الترجيح، فإن لم يوجد اعتبر الإرث، ففي أب وابن تجب على الابن لترجحه بـ (( ((أنت ومالك لأبيك)) )) ، (ذخيرة وبدائع) ، أي وإن استويا في قرب الجزئية، ومثله أم وابن لقول المتون:" ولا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد "، قال في البحر:" لأن لهما تأويلًا في مال الولد بالنص، ولأنه أقرب الناس إليهما ". اهـ. فليس ذلك خاصًا بالأب كما قد يتوهم بل الأم كذلك، وفي جد وابن وابن على قدر الميراث أسداسًا للتساوي في القرب، وكذا في الإرث وعدم المرجح من وجه آخر (بدائع) ، وظاهره أنه لو له أب وابن ابن أو بنت بنت فعلى الأب لأنه أقرب في الجزئية، فانتفى التساوي ووجد القرب للمرجح، وهو داخل تحت الأصل المار (عن الذخيرة والبدائع)، وكذا تحت قول المتون:" لا يشارك الأب في نفقة ولده أحد ".
4-
القسم الرابع:
الفروع مع الأصول والحواشي: وحكمه كالثالث لما علمتَ من سقوط الحواشي بالفروع لترجحهم بالقرب والجزئية، فكأنه لم يوجد سوى الفروع والأصول، وهو القسم الثالث بعينه.
5 – القسم الخامس:
الأصول فقط: فإن كان معهم أب فالنفقة عليه فقط لقول المتون: " لا يشارك الأبَ في نفقة ولده أحدٌ " وإلا فإما أن يكون بعضهم وارثا وبعضهم غير وارث، أو كلهم وارثين، ففى الأول يعتبر الأقرب جزئية لما في (القنية) :" له أم وجد لأم فعلى الأم أي لقربها "، ويظهر منه أن أم الأب كأب الأم، وفى حاشية الرملي:" إذا اجتمع أجداد وجدات فعلى الأقرب ولو لم يدل به الآخر ". اهـ. فإن تساووا في القرب فالمفهوم من كلامهم ترجح الوارث، بل هو صريح قول البدائع في قرابة الولادة " إذا لم يوجد الترجيح اعتبر الإرث ". اهـ. وعليه ففى جد لأم وجد لأب تجب على الجد لأب فقط اعتبارا للإرث، وفى الثاني أعنى لو كان كل الأصول وارثين فكالإرث، ففي أم وجد لأب تجب عليهما أثلاثا في ظاهر الرواية، (خانية وغيرها) .
6 – القسم السادس:
الأصول مع الحواشي: فإن كان أحد الصنفين غير وارث اعتبر الأصول وحدهم ترجيحا للجزئية، ولا مشاركة في الإرث حتى يعتبر، فيقدم الأصل سواء كان هو الوارث أو كان الوارث الصنف الآخر، مثال الأول ما في الخانية:" لو له جد لأب وأخ شقيق فعلى الجد ". اهـ. ومثال الثاني ما في القنية: " لو له جد لأم وعم فعلى الجد ". اهـ. أي لترجحه في المثالين بالجزئية مع عدم الاشتراك في الإرث لأنه هو الوارث في الأول والوارث هو العم في الثاني، وإن كان كل من الصنفين أعنى الأصول والحواشي وارثا اعتبر الإرث، ففي أم وأخ عصبي أو ابن أخ كذلك أو عم كذلك على الأم الثلث وعلى العصبة الثلثان (بدائع) ، ثم إذا تعدد الأصول في هذا القسم بنوعيه ننظر إليهم ونعتبر فيهم ما اعتبر في القسم الخامس، مثلا: لو وجد في المثال الأول المار (عن الخانية) جد لأم مع الجد لأب نقدم عليه الجد لأب لترجحه بالإرث مع تساويهما في الجزئية، ولو وجد في المثال الثاني المار (عن القنية) أم مع الجد لأم نقدمها عليه لترجحها بالإرث والقرب، وبهذا يسقط الإشكال الذي سنذكره عن القنية كما ستعرفه، وكذلك لو وجد في الأمثلة الأخيرة مع الأم جد لأم نقدمها عليه لما قلنا، ولو وجد معها جد لأب بأن كان للفقير أم وجد لأب وأخ عصبي أو ابن أخ أو عم كانت النفقة على الجد وحده كما صرح به في الخانية، ووجه ذلك أن الجد يحجب الأخ وابنه والعم لتنزيله حينئذ منزلة الأب، وحيث تحقق تنزيله منزلة الأب صار كما لو كان الأب موجودًا حقيقية، وإذا كان الأب موجودًا حقيقة لا تشاركه الأم في وجوب النفقة، فكذا إذا كان موجودًا حكمًا، فتجب على الجد فقط، بخلاف ما لو كان للفقير أم وجد لأب فقط، فإن الجد لم ينزل منزلة الأب. فلذا وجبت النفقة عليهما أثلاثًا في ظاهر الرواية كما مر.
7-
القسم السابع:
الحواشي فقط: والمعتبر فيه الإرث بعد كونه ذا رحم محرم، وتقريره واضح في كلامهم كما سيأتي، ثم هذا كله إذا كان جميع الموجودين موسرين، فلو كان فيهم معسر فتارة ينزل المعسر منزلة الميت وتجب النفقة على غيره، وتارة ينزل منزلة الحي وتجب على من بعده بقدر حصصهم من الإرث (1) .
هذا وقد جاء في بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) تحت عنوان الرعاية الاقتصادية: " تمثل مشكلة انخفاض الدخل بالنسبة للمسن مشكلة جوهرية؛ حيث تؤثر بدورها تأثيرًا كبيرًا على بقية المشكلات التي يتعرض لها المسن، ويزيد من حدة تلك المشكلة ثبات المعاش إلى حد ما، بالإضافة إلى الزيادة المطردة في الأسعار ورغم التطور الكبير في نظم التأمينات والضمان الاجتماعي، إلا أن ما يحصل عليه المسن في هذه النظم لا يكفي لمقابلة ظاهرة التضخم المطرد في الأسعار، ولمواجهة هذه المشكلة لابد من إتاحة الفرصة أمام كبار السن القادرين على العمل والراغبين فيه، وذلك كوسيلة لتنمية دخل كبار السن، ويتطلب ذلك التوسع في برامج التدريب المهني واكتساب المهارات الملائمة الجديدة التي تمكن المسن من مواصلة العمل، حتى ولو كان ذلك في مجالات قريبة لمجال نشاطه الأصلي، والذي قد تحول ظروفه الجسمانية عن مواصلة العمل فيه "(2) .
(1) انظر حاشية (رد المحتار على الدر المختار) للعلامة ابن عادين: 2 / 678 – 680.
(2)
انظر (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) الأستاذة جهير عبد العزيز البرغش، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
المبحث الثالث
الحقوق الإنسانية للمسنين
تكاد تنحصر الحقوق الإنسانية للمسنين في ثلاثة حقوق أساسية، وثلاثة ثانوية للمسن المعمر.
فالأساسية هي:
1-
أولًا: حقه في العيش الكريم بالكفاية دون حاجة للناس، وصون كرامته الإنسانية.
2-
ثانيًا: حقه في التعبير عن رأيه بالطرق المشروعة قانونًا وعرفًا.
3-
ثالثًا: حقه في التصرفات الشخصية والاجتماعية ضمن دائرة الشريعة والقانون.
والثانوية ثلاثة هي:
1-
حقه في الترفيه ولكن بقدر الوسع والطاقة، وضمن دائرة الشرع والنظام العام.
2-
حقه في تربية أولاده، وتأديب خدمه، وحسن معاشرته لزوجته وأهله.
4-
حقه في الاتصال بأقاربه وإخوانه، وزيارتهم وصلة الرحم معهم.
الفصل الثالث
الحقوق القانونية والقضائية
للشيوخ والمسنين في الإسلام
* سقوط الحَجْر المالي على السفيه بالسن.
* وجوب نفقة الأقرباء الكبار من غير الأصول والفروع وشروط وجوبها.
المبحث الأول
سقوط الحجر المالي
على السفيه بالسن
إن بلغ الصغير غير رشيد لا تسلّم إليه أمواله، بل يحجر عليه بسبب السفه عند الجمهور لقوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله ورضي عنه قال: يستمر الحجر على البالغ غير الرشيد إلى بلوغه خمسًا وعشرين سنة، ثم يسلم إليه ماله ولو لم يرشد؛ لأن في الحجر عليه بعد هذه السن إهدارًا لكرامته الإنسانية، ولقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] .
وهذا قد بلغ أشده، ويصلح أن يكون جدًا في هذه السن؛ ولأن المنع عنه للتأديب ولا يتأدب بعدئذ غالبًا، فلا فائدة في المنع، فلزم الدفع إليه (1) .
وقال الصاحبان وباقي الأئمة: إذا بلغ الرجل غير رشيد لا يسلم له ماله ويستمر الحجر عليه حتى يؤنس رشده ولو بلغ الستين من عمره، للآية السابقة:
{فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
ولقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] أي أموالهم (2) .
(1) البدائع: 7 / 171؛ وتكملة الفتح: 7 / 216؛ تبيين الحقائق: 5 / 195؛ واللباب: 2 / 69.
(2)
بداية المجتهد: 2 / 277؛ والشرح الكبير: 2 / 298؛ المهذب: 1 / 231؛ مغني المحتاج: 2/ 166؛ المغني: 4 / 457؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 5 / 422.
المبحث الثاني
وجوب نفقة الأقارب الكبار
من غير الأصول والفروع
وشروطها
تجب نفقة الأقارب من الحواشي وذوي الأرحام كالإخوة والأخوال والأعمام وأبناء الإخوة والعمات والخالات؛ لما ورد من النصوص السابقة الذكر التي تدل على وجوب الإنفاق على القريب العاجز على خلاف بين الفقهاء في ذلك مر ذكره، ولهذه النفقة شروط مر ذكرها كذلك ولا داعي لتكرارها.
وقد نصصت على ذلك هنا لبيان الحقوق القانونية والقضائية لاستكمال البحث، فليرجع إلى الحقوق المالية آنفة الذكر (1) .
(1) يرجع في ذلك إلى الفصل الثاني في الحقوق المادية المالية من هذا البحث، ومن أراد التوسع فليرجع إلى بحث ماتع للعلامة المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم في (النفقات) وكتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي: 7 / 835 وما بعدها.
الفصل الرابع
الواجبات
ومؤيداتها الأدبية
* واجبات الشيوخ والمسنين.
* المؤيدات الأدبية.
المبحث الأول
واجبات الشيوخ والمسنين
تكاد تختصر هذه الواجبات كلها بواجب واحد هو رحمة الكبير بالصغير؛ فقد جاء في الأثر: (( ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)) )) (1) .
فالرحمة هي التي تهيئ باب التوقير، فالكبير حين يرحم الصغير فإن الصغير يوقر الكبير، ومن لا يَرْحم لا يُرحم.
ولقد جعل الإسلام في مقابلة كل حق واجبًا، فواجبات الآباء على الأبناء البر والصلة والأدب، وواجب الأبناء على الآباء أن يرحموهم وأن يصبروا عليهم في التربية، و (( ((رحم الله والدًا أعان ابنه على بره)) )) كما في جاء في بعض الأحاديث.
كما يجب على الشيوخ والمسنين أن يكونوا قدوة حسنة لأولادهم وأحفادهم في كل شيء من مناحي الحياة، ولا سيما في علاقتهم بالله جل شأنه.
نضيف إلى ذلك الازدياد في الخير، حيث قال الله تعالى في معرض المنة على عباده:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، قال ابن عباس والمحققون: معناها: أو لم نعمركم ستين سنة؟ ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)) )) رواه البخاري.
قال العلماء: معناها: لم يترك له عذرًا إذ أمهله هذه المدة، ويقال:"أعذر الرجل " إذا بلغ الغاية من العذر.
وقيل: معناها - أي الآية -: ثماني عشرة سنة. وقيل: أربعين سنة، قاله الحسن والكلبي ومسروق، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، فقالوا:"إن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة"(2) .
ومعلوم أن الرحمة لا تكون إلا في قلب قد وقر بالإيمان والتقوى ومحبة الخير.
(1) رواه الطبراني في الأوسط عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا، وهو عند أبي داود والبخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الله بن عمرو بسند حسن.
(2)
انظر رياض الصالحين للإمام النووي، باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر.
المبحث الثاني
المؤيدات الأدبية
تقصير المؤيدات الأدبية على نوعين:
1-
النوع الأول: المؤيدات الأدبية الدنيوية: وذلك يقتضي أن يسقط المسن من عيون الناس، ويفقد مروءته وكرامته واحترامه ومكانته الاجتماعية إذا لم يقم بواجباته التي نوهتُ بها، ولن يكون قدوة حسنة لغيره، زد على ذلك أن أسرته ومَن حوله لن يروا فيه القدوةَ الحسنة والمثلَ الأعلى لتقصيره في رعاية مَن حوله.
2-
وأما النوع الثاني: فهو المؤيدات الأخروية: وهو إثمُ التقصير في الرعاية / كما جاء في الحديث الشريف: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والأم راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع ومسؤول عن رعيته. ألا كلكم راع ومسؤول عن رعيته)) (1) .
(1) رواه الشيخان وهو متفق عليه.
الباب الثاني
رعاية الشيوخ والمسنين في
الدراسات الحديثة والمعاصرة
الشيوخ والمسنون بين رعاية الإسلام ومقولات العلم الحديث
* مسؤولية رعاية المسنين.
* النظريات الأوروبية والأمريكية لرعاية المسنين.
* نحو رعاية أفضل للشيوخ والمسنين. (اقتراحات وتوصيات)
الفصل الأول
الشيوخ والمسنون بين رعاية الإسلام
ومقولات العلم الحديث
تمهيد:
أبدع للهُ الإنسانَ وجعله يمر في مراحل متعددة في حياته الدنيوية، فيبدأ وليدًا ثم طفلًا، ثم مُراهقًا ثم شابًا قويًا، فرجلًا، فكهلًا، ثم يصبح شيخًا ضعيفًا، قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .
وإن ديننا العظيم نظّم هذه العلاقة وهذّب خلق المسلم فيها، فقال المولى عز وجل:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 – 24] .
ففي هذه الآية أمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين، جاعلًا ذلك مقترنًا بعبادته تعالى، ويتضح من الآية الكريمة التلطف وحسن المعاملة والأدب من الأبناء إلى آبائهم.
فالشيخوخة مرحلة عصيبة من مراحل العمر. وذلك لحاجة صاحبها لرعاية الآخرين له لما أصابه من ضعف بعد قوة قد تصل إلى عدم القدرة على القيام بشؤونه الدنيوية، والرعاية والخوف من تقصير الآخرين، وخاصة منهم الأبناء فالأقرب فالأقرب.
وفي نهايات هذا القرن تَنَادَى العالمُ بالاهتمام بهذه الفئة، وقد بلغ هذا الاهتمام ذروته حينما خصت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1982م سنةً دولية للمسننين، بينما إسلامنا العظيم أعطى هؤلاء المسنين حقوقهم كما أعطى الجميع حقوقهم ، لم يغفل مرحلة دون أخرى، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
المبحث الأول
المسن في الإسلام
1-
المطلب الأول – المجتمع المسلم مجتمع متراحم متماسك ملؤه المودة والرحمة:
قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] .
ويصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد، وذلك فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) )) (1) .
وروى أنس رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) )) (2) وروى جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) )) (3)، كما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( ((الراحمون يرحمهم الرحمن، عبادَ الرحمن ارحموا من في الأرض يَرْحَمُكُمْ من في السماء)) )) ، وفي رواية (( ((يَرْحَمْكُمْ من في السماء)) )) ورواية الضم أرجح (4) .
وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقةً تكفل للمجتمع المسلم أن يكون مجتمعًا متحابًّا متراحمًا فيما بينه، فيروي أبو هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) (5) .
(1) متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه.
(4)
الترمذي وأبو داود.
(5)
رواه مسلم.
2-
المطلب الثاني – جزاء الإحسان في الإسلام الإحسان:
قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] .
أي هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده، إلا أن يحسن إليه بالثواب الجزيل والفوز الكبير. وقال الله تعالى:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] . وقد مر حديث أنس رضي الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) . فهذا الحديث يبين أن إحسان الشاب للشيخ إكرامًا له يكون سببًا لأن يقيض الله له من يكرمه عند كبره، ومن العلماء من قال: إن في هذا الحديث دليلًا على إطالة عمر الشاب الذي يكرم المسنين مصداق قوله الله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] .
(1) انظر ما ورد أيضًا في فصل توقير وإكرام المسنين من هذا البحث.
3-
المطلب الثالث – المجتمع المسلم مجتمع متعاطف متكاتف يعاون بعضه بعضًا:
حض الإسلام على جعل المجتمع المسلم متأزرًا متعاونًا يشد بعضه بعضًا، وذلك من خلال الحث المتواصل لأفراده على خدمة بعضهم لبعض، وتفريج كرب إخوانهم، وإدخال السرور على أنفسهم، وكف ضيعتهم، ورتب على ذلك الأجر الجزيل، ففي الحديث:((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) (1) .
ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حال المؤمن مع أخيه المؤمن في المجتمع الإسلامي بأبلغ عبارة وأدق وصف، وذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه)) (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (( ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) ، وشبك بين أصابعه)) (3)
4 -
المطلب الرابع – المسن المؤمن له مكانته عند الله ولا يزاد في عمره إلا كان له خيرًا:
دلت الآثار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن لا يزاد في عمره إلا يكون خيرًا له، إضافة إلى أن للمسن المؤمن مكانة خاصة تتمثل في تجاوز سيئاته وشفاعته لأهل بيته، فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يتمن أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)) (4) وعن أبي صفوان عبد الله بن يسر الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله)) (5) .
(1) متفق عليه.
(2)
الترمذي وأبو داود.
(3)
متفق عليه.
(4)
متفق عليه.
(5)
رواه الترمذي.
5-
المطلب الخامس: رعاية المسنين وفلسفتها:
وهي مجموعة الحقائق والمسلمات التي يجب أن تكون عليها برامج رعاية المسنين، ويمكن إيجازها بعدة نقاط هي:
1-
حاجة كبار السن أن يفهموا أنفسهم من حيث التغيرات التي تطرأ على طاقتهم العقلية والجسدية، مما يؤثر في شخصياتهم ونفسياتهم ومكانتهم في المجتمع، ويمهد لتقبلهم في سماحة ويسر لمثل هذه التغيرات.
2-
الإعداد لعملية التقاعد بما يتفق مع ما يصل إلى متوسط أعمارهم من استثمار الوقت بعد التقاعد وملء الفراغ والاحتفاظ بالصحة الجيدة، والمحافظة عليها، وتأمين المورد المالي، والحفاظ على حياة أسرية وصلات اجتماعية، والدخول في أنواع من النشاط الاجتماعي والثقافي والفكري. . . إلى ما هنالك.
3-
توعية العامة بأمور الشيخوخة ومشكلات كبار السن.
ضرورة تثقيف المختصين وغيرهم ممن يسند إليه مهمة التعامل مع المسنين.
وأخيرًا دور وأهمية رعاية المسنين في هذا العصر الذي يُحرص فيه على تجميع كل الطاقات واستغلالها في سبيل البناء، وتقف مسألة رعاية المسنين ضمن موضوعات الساعة التي يجب أن تسترعي اهتمام المسؤولين وأشباههم، ويجب أن ينادي بها المشتغلون في هذا المجال، وفي كل المجالات المتعلقة بها.
المبحث الثاني
المسن في العلوم الإنسانية
لم تعد النظرة إلى كبار السن في المجتمعات الحديثة نظرة إهمال ولا نظرة شفقة أو تصدّقٍ، بل أصبحت النظرة إلى هذه الفئة نظرة اهتمام ورعاية مثمرة.
لذلك فقد قامت الحكومات بخدمات اجتماعية ذات أهمية بالغة اعتقادًا منها بأنه إذا كانت هذه الفئة قد أسيئ إليها عن طريق العزلة والإهمال، فيمكن العمل على تغيير الماضي، وتأسيسًا فإنها ظاهرة مميزة لعصرنا الحالي تفرض على مجتمعنا التزامًا يفوق ما تم القيام به حتى الآن.
فكبر السن ورعاية المسنين يمكن أن ينظر إليهما بأكثر من زاوية، فكبر السن هو أول مرحلة من مراحل النمو وهو آخر هذه المرحلة، ولا شك أن المرء عندما يتصور نفسه في آخر مراحل العمر وقد اطمأن لظروف معيشته وسعد واستقر لمستقبل حياته، فإن ذلك سوف ينعكس على حياته ونتاجه في العمر، فليس الشعور بالسعادة والنشاط والبناء أهم من الشعور بالأمن والاستقرار والاطمئنان على مستقبل الأيام.
ومن ناحية أخرى فإن المسنين أنفسهم يعتبرون طاقة بنائهم يمكن استثمارها والاستفادة منها، وإلا فإنهم قد يصبحون عوامل هدم بدلًا من أن يكونوا عوامل بناء، فمن المعروف أن كبار السن إذا لم يشغلهم عمل يصرفون فيه جهدهم أو يقضون فيه بعضًا من أوقات فراغهم قد يصبحون عبئًا شديدًا على من حولهم حتى ولو كانوا أقوياء أشداء من الناحية الصحية، فهم ينهون ويأمرون لمجرد إشباع رغبتهم في الأمر والنهي، وهذا مقرون بشعوره عائل أسرة مثلًا كأن يصحو يوميًا للذهاب إلى العمل في ساعات معينة، ثم يقضي نهاره في محل عمله، ثم يعود إلى المنزل في ساعات معينة، ثم يقضي بقية يومه إما في عمل أو في نشاط آخر وهكذا.
والشعور أن مثل هذا الشخص وجد نفسه فجأة بعد أن أحيل إلى المعاش أو التقاعد قد أصبح يعيش في فراغ هائل ليس لديه من الأعمال ما يشغل فيه وقته، ولا يوجد حوله من الزملاء من كان يتفاعل معه، وهكذا يشعر هذا الشخص بالملل إذ يجد من ساعات نهاره شيئًا رتيبًا لا يتغير فيترتب على ذلك شعور بالتوتر والإحباط، وخاصة إذا كان مثل هذا الشخص قد فقد مع عمله سلطة معينة أو مركزًا كان يجد فيه الشعور بالاهتمام والتقدير، هذا فضلًا عما يشعر به من حاجة للانتماء إلى ما كان يشبعه من روح الجماعة في العمل فتنعكس نتيجة ذلك كله على من حوله من أفراد أسرته في صورة من صور العدوان المباشر أو غير المباشر، وقد تكون هذه الصورة من الصور المعروفة لما قد يحدث بالنسبة إلى كبار السن ممن لا يجدون الرعاية.
والمعروف أن نسبة حالات جنون الشيخوخة تزداد بين أولئك الذين لا يجدون مجالًا يصرفون فيه نشاطهم عندما يبلغون سن الشيخوخة، أما أولئك الذين يجدون ما يملأ عليهم حياتهم ويشغل وقت فراغهم. فإن مثل هذه الآثار تقل لديهم إلى حد كبير، ولعل ذلك كله يوضح لنا أهمية الرعاية الاجتماعية لكبار السن، والواقع أن هذه الرعاية ربما تفرضها ظروف العصر وملابساته، فقديمًا كانت العلاقات الاجتماعية من البساطة بحيث كان الفرد يجد من أسرته ومن أقربائه المباشرين من يعوضه عما فقده من علاقات خاصة، ويجد من يقوم على رعايته، أما الآن بعد التطور الحضاري والصناعي الذي يعيش فيه فقد تغير شكل المجتمع، وأصبحت العلاقات الإنسانية ليست علاقات مباشرة أولية بسيطة كما كانت، بل أصبحت في الواقع بحيث لا يجد كبير السن من أفراد الأسرة من يهتم بخدمته أو يسهر على راحته بحكم العادة أو التقليد، وأصبح لزامًا على ذلك أن توجد المؤسسات الخاصة والبرامج الخاصة التي تقوم بأداء هذه الخدمات.
ويجدر بنا أن نشير في هذا إلى أن المجتمعات قد اتخذت الخطوات المرضية في معالجة مشاكل كبار السن، وقد تطورت نظرة تلك المجتمعات إلى مشكلات كبار السن.
وهكذا تتأكد النظرة الإنسانية إليهم ونوجزها في النقاط التالية:
1-
المسنون بحكم واقعهم وضعفهم وتدهور قواهم لا يستطيعون الاهتمام بأنفسهم، ولا أن يعطوها ما تستحقه من رعاية وعناية.
2-
المسنون يؤدون وظيفة اجتماعية حيوية تشتمل في أبسط صورها على تقديم خدماتهم وخبراتهم وإرشاداتهم لأولادهم.
3-
الشيخوخة قيمة اجتماعية يحافظ عليها المجتمع ويسترشد بخبراتها.
4-
رعاية المسنين فن وعلم لا يقلان دقة وتعقيدًا عن رعاية الطفولة ورعاية المراهقين.
5-
المسنون بحاجة إلى الاعتراف بوجودهم بحيث يظلون في شيخوختهم قوة مؤثرة في المجتمع.
6-
الشيخوخة معطاء إذا وفرنا لها الفرص.
7-
المسنون أفنوا عمرهم في خدمة المجتمع، فهم في حاجة إلى أن نوليهم الرعاية والاهتمام.
من العرض السابق يتضح لنا مدى حاجة المسنين إلى خدمات الرعاية الاجتماعية، وقد بدأت هذه الرعاية في الواقع متأخرة نسبيًا في بعض المجتمعات، وكان ذلك نتيجة لعوامل اجتماعية معينة، ولكنها بالرغم من ذلك فقد قطعت شوطًا كبيرًا في مدة قصيرة، ونحن الآن أحوج ما نكون إلى الأخذ بما يناسبنا من البرامج والخدمات التي قدمت في تلك المجتمعات، أما ما طرأ من تطور في رعاية المسنين فإنه الرغم من الزيادة الكبيرة التي تميز بها هذا القرن في أعداد المسنين وما صاحب ذلك من مشكلات اقتصادية وطبية واجتماعية، حتى عام 1940 م لم يكن هناك اهتمام كبير سواء من جانب المتخصصين أو غيرهم، وقد يرجع ذلك إلى العوامل التالية:
1-
نقص المعلومات والمعرفة الخاصة بمرحلة الشيخوخة وما تتضمنه من احتياجات نفسية واجتماعية (فيزيولوجية) طبيعية.
2-
ارتفاع نسبة المرض والوفاة في مرحلة الشيخوخة مما يجعل منها أمرًا مؤلمًا نفسيًا لعديد من العلماء والمهتمين.
3-
ركز العلماء حتى أوائل هذا القرن على تغيرات سلوك مرحلتي الطفولة والمراهقة، بينما مرحلة الشيخوخة لم تحظ بهذا الاهتمام.
4-
كان ينظر إلى الشيخوخة على أنها عملية اضمحلال تدريجي تنتهي بالوفاة، وقد أدى هذا إلى التشكك في قدرات كبار السن على النمو المستمر والتكيف وإمكانية علاجهم، ونتيجة لذلك فإن أوليات الخدمة وتوزيع الاعتمادات المالية قد أهملت المسنين.
ومما تقدم يتضح لنا أنه حتى وقت قريب لم تكن هذه الفئة من السكان تحظى بالقدر الواجب من الاهتمام والرعاية من جانب المجتمعات، باستثناء المجتمعات الإسلامية على تفاوت فيما بينها.
أ- وكانت أولى محاولات العلماء في هذا المجال قد تمثلت في تكوين نادي بحوث الشيخوخة بإشراف مؤسسة (جوزبامس) في عام 1928، وقد كان بجهود فئة من العلماء المهتمين بالأمور البيولوجية والطبية، وبعد صدور كتاب مشكلات الشيخوخة (لكاودي) عام 1939 بمثابة أول مرجع علمي للتعرف على النواحي البيولوجية والطبية لشيخوخة الإنسان سجل هذا المرجع بدأ التفكير العلمي المنظم في مسائل الشيخوخة، وقد استخدم فيه لأول مرة مصطلح (جيرونشولوجي) GERON Tolagy للدلالة على الدراسات العلمية لظاهرة الشيخوخة.
وقد زاد انتباه علماء الاجتماع وارتفاع نسبتهم بالقياس إلى مجموع السكان، مما كان له أثره في المجتمعات المتخلِّفة التي بدأت تولي اهتمامها لهذه الفئة.
ب) ثم ظهر الاتجاه الحديث في الاهتمام بالمسنين الذي يشير إلى النظر إلى مرحلة الشيخوخة – باعتبارها إحدى المراحل الطبيعية للنمو- واحتياجاتها التي يجب التخطيط لها منذ مراحل الحياة الأولى، وهذا ما يعرف بالاتجاه التنموي، الذي تشير الدلائل إلى أنه سوف يكون له تأثير مهم وحيوي في علم الشيخوخة الاجتماعي والخدمة الاجتماعية التطبيقية.
ويجدر بنا في هذا المجال أن نشير إلى أن كافة المجتمعات قد اتخذت الخطوط العريضة في معالجتها للمشكلة الناجمة عن تزايد فئة المسنين في المجتمع، وعمل كل منها على حل المشكلة بطريقته الخاصة التي تتفق وظروفه الاجتماعية والاقتصادية.
وقد نظرت المجتمعات إلى مشكلات كبار السن في بادئ الأمر على أنها مشكلات اقتصادية، وعلى هذا الأساس وضعت حلولًا علمية متمثلة في صورة معاش يمنح للشخص المسن للتقليل من أعبائه الاقتصادية التي تنجم عن التقاعد وتركه للعمل وانخفاض موارد رزقه.
ثم اتسعت نظرة المجتمعات في فهم مشكلات كبار السن حتى شملت العمل على توفير وبناء المساكن الاقتصادية اللائقة بهذه الفئة، ولقد بدأت هذه المشكلة الجديدة بعد استقلال كبار السن عن أولادهم وأقاربهم. وإذا كانت المجتمعات قد نظرت إلى الإسكان بصفة عامة على أنه مشكلة اجتماعية، وعملت على توفير وبناء مساكن شعبية رخيصة لسكانها؛ فلقد كان من الطبيعي أن تهتم تلك المجتمعات بتوفير مثل هذه المساكن لسكانها من المسنين.
ج) أما المرحلة الثالثة في مواجهة مشكلات السن فتتمثل في نظر البعض إليها على أنها مشكلات نفسية اجتماعية للمسن، الذي يحتاج إلى علاقات اجتماعية وأوجه نشاط تعينه على مواجهة الصعوبات وما يواجهه في هذه السن المتمثلة في فقدان الجاذبية والقوة وانفعالية الفاعلية الذهنية والعقلية وفقدان الإشباع والرضا الناتجين عن فقدان العمل والأقارب والأصدقاء نتيجة للوفاة أو تغيير مكان الإقامة (1) .
(1) انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) .
الفصل الثاني
مسؤولية رعاية المسنين
في ظل نظام التكافل الاجتماعي
لدفع ضرر العجز في الإسلام
تمهيد:
الملكية في الإسلام حق من الحقوق التي أقرها الشارع الإسلامي، ولكنها حق مقيد، وتتعلق به حقوق وواجبات.
وأعظم هذه الحقوق ما يتعلق بتأمين العجزة من شيوخ ويتامى ومرضى، فليس الإسلام دين التكفف كما يزعم الذين يأخذون أحكام الإسلام من حال بعض المسلمين عندما أهملت أحكام الإسلام، بل أحكام الإسلام تؤخذ من نصوصه ومقرراته وتطبيقاته عندما كان يطبق تطبيقًا سليمًا يلاحظ فيه احترام نصوصه وحقائقه، لا إهمالها أو الانحراف عن تطبيقها (1) .
وإنما الإسلام دين التكافل والتضامن الاجتماعي على أكمل وجه، وقد بينا كيف كان التنسيق بين الملكية الفردية وحق المجتمع، مما جعل المجتمع متكافلًا تكافلًا تامًّا، ومتعاونًا تعاونًا سليمًا.
والآن نبين التكافل الاجتماعي في سد حاجة من عجزوا عن العمل، وسنرى في هذا نظامًا لم يسبق ولم يلحق ركبه، فالإسلام لاحظ الضعفاء في الدولة وأوجب رعايتهم.
ولبيان علاج الضعف الإنساني نذكر هنا ما يلي:
ضعفٌ علاجه من داخل الأسرة، وضعفٌ علاجه في المجتمع بتنظيم الدولة وما أوجبه الشارع عليها.
(1) إن تحديد تلك المسئولية يساعد إلى حد كبير في الشعور بالطمأنينة على مستقبل هذه الفئة العمرية، وبقضاء تلك المرحلة العمرية في صحة وسعادة، ومما لاشك فيه أن مسألة رعاية كبار السن تحتاج إلى تضافر مجموعة من الإمكانيات والجهود المختلفة على كافة المستويات حتى يمكن أن تضمن لتلك الرعاية الإيجابية والفعالية المطلوبة في نجاح عملية المساعدة لهذه الفئة العمرية، فعلى سبيل المثال تتطلب عملية المساعدة هذه إلى تضافر جهود كل من الأسرة والهيئات الحكومية والأهلية والجامعات ومراكز البحوث بالإضافة إلى مساعدة الدولة.
المبحث الأول
علاج العجز في الأسرة
الأسرة في الإسلام وحدة متكافلة، وقد عمل الإسلام على دعم الأسرة لتكون قوية متماسكة، وقد عني القرآن ببيان أحكام الأسرة كلها، فبين أحكام الزواج والطلاق والميراث، وأشار في عبارة كلية إلى أحكام النفقات، ولم يبين القرآن أحكامًا في أي موضوع كما بين أحكام الأسرة بالذات؛ لأنها وحدة البناء الإنساني، ولا يوجد مجتمع متماسك قوي إذا انحلت الأسرة، وإنه يكون حينئذ مجتمعًا ماديًا لا معنويات فيه.
ومن أعظم دعائم الأسرة التعاون بين آحادها، وأوضح هذا التعاون أن يعين الغني فيها الفقير العاجز.
وقد اتفق فقهاء المسلمين على وجوب أن ينفق الغني على الفقير العاجز، واختلفوا في مدى هذا الوجوب ضيقا وسعة، ولكن الجدير بالاعتبار هو رأي الإمام أحمد بن حنبل وهو يجعل النفقة تسير مع الميراث، وهو مأخوذ من الكتاب والسنة، وهو أقرب إلى القواعد الفقهية وأوسع المذاهب الفقهية في الوجوب، وقريب منه في التوسعة المذهب الحنفي فهو يجعلها على الأقارب الذين يمتنع التزواج بينهم.
من تجب عليه نفقة القريب:
الأقوال بالنسبة لوجوب النفقة أربعة: أضيقها المذهب المالكي، وهو يوجبها بالنسبة للأبوين على الأولاد وبالنسبة للأولاد على الأبوين، ويفتح الباب المذهب الشافعي قليلًا يجعلها في الأصول على فروعهم والفروع على أصولهم، والمذهب الحنفي يجعل النفقة في القرابة المحرمية، فكل قريب لا يصح الزواج منه إذا كان أحدهما أثنى تجب له النفقة، فلا يوجبها على ابن العم لأن قرابته غير محرمية، ويوجبها على الخال لأن قرابته محرمية، مع أن الأول يرث قبل الخال، والمذهب الحنبلي جعلها تسير مع الميراث سيرًا مطردًا.
تجب النفقة للفقير العاجز على مقتضى ما هو أقرب إلى النصوص والقواعد الفقهية وأوسع تعميمًا للقرابة التي تلزم بالنفقة على الوارث، أن من يرث الفقير العاجز إذا مات عن مال تجب عليه نفقته.
أما قربه للنصوص فلأنه تطبيق للنص القرآني الذي يوجب نفقة الصغير على الوارث له، فقد صرح النص بأن نفقة من ترضع الصغير على أبيه، فإن لم يكن له أب فإنها تكون على الوارث، ونفقة المرضع هي أجرة الرضاعة وهي جزء من النفقة على الصغير، ومثل الصغير كل عاجز من ذوي القرابة.
وأما انطباقه على المقاصد الإسلامية، فلأن من القواعد المقررة في الشريعة أن الحقوق والواجبات متبادلة، فإذا كان الميراث حقًا للوارث إذا مات الشخص غنيًا فعليه واجب الإنفاق إذا عجز.
فتجب النفقة مع اختلاف الدين. .
إذا كانت نفقة الأصول والفروع، فنفقة الأب على ابنه ولو اختلف دينه، ونفقة الابن على أبيه ولو اختلف الدين، فإذا كان لرجل ولدان أحدهما مسلم والآخر مسيحي وهو مسيحي وفقير فالنفقة عليهما على سواء.
وهو الذي يتفق مع النصوص؛ لأن النصوص القرآنية تجعل النفقة على الأب دائمًا، وتوجب على الولد الإحسان إلى الأبوين ولو كانا مشركين، ولأن الولد مطلوب منه أن يصاحب أبويه دائمًا بالمعروف، ولكن لا يطيعهما إن أرادا منه الشرك بالله.
وإن النفقة للعاجز من الأقارب إذا كان فقيرًا، فلا تجب للقادر ولو كان فقيرًا، بل عليه أن يعمل، إلا أنهم قالوا: إن نفقة الآباء والأمهات تجب على الأولاد ولو كان آباؤهم قادرين على العمل ماداموا محتاجين؛ لأن الواجب للآباء على أبناءهم أن يكفوهم مؤونة العمل ويعملوا هم؛ لأن الإحسان إلى الأبوين يوجب على الأولاد أن يعملوا ويغنوهما عن العمل، ولأن من المقررات الشرعية أن كسب الولد كسب لأبيه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أنت ومالك لأبيك)) ولأن الشركة الطبيعية بين الأب والأم وأولادهما تجعل للأبوين شركة في مال الولد، وإن ذلك من شأنه توثيق الرباط في داخل الأسرة ونشر روح التراحم والتعاون فيها.
والعاجز الذي تجب له النفقة هو الذي لا يستطيع العمل لعجزه بمرض أو شيخوخة أو عاهة لا يمكنه التكسب مع وجودها، أو يكون في حال خرق لا تمكنه من أن يتولى أي عمل، وتعتبر الأنثى التي لا تعمل وليست ذات زوج عاجزة عن الكسب بسبب الأنوثة ذاتها.
ومن العجز أيضًا أن يكون طالب النفقة منصرفًا لطلب العلم وله مواهب تمكنه من السير فيه إلى أقصى مراحله؛ لأن المواهب يجب أن تظهر، فيجب من جانب الدولة أن تهيئ الأسباب لإظهارها بتمكينه من التعلم في مراحله ما دامت مواهبه تستجيب لها، ويجب على الأسرة إذا كان فيها القادر أن يهيئ له أسباب المعيشة، وتكفل له الرزق فتمده بالنفقة المستمرة.
وقد ذكر الفقهاء أن من أسباب العجز أن يكون الشخص من طبقة لا يستخدمها الناس ولا يعهدون إليها بعمل، فيعتبر بذلك عاجزًا لأنه لا يسند إليه أي عمل يأكل منه.
ويشبه هذا من لا يستخدمون لأنهم لا يجدون عملًا ويتعطلون، ولم يكن التعطل بسبب فساد خلقي أو إهمال أو تقصير، فإن التعطل الذي لا يقترن بذلك يكون من أسباب العجز، ولكن إذا كان بسبب الفساد لا يكون عجزًا يقتضي المعونة بل يكون جريمة تستوجب العقاب، وأقل عقاب ألا يعان لكي يصلح من نفسه ويعمل على أن يقوم بواجبه، ولا يفسد العمل ومن يعملون معه.
ولا شك أن من تجب عليه النفقة لابد أن يكون ذا يسار بحيث يفضل عن حاجاته الأصلية ما يمكنه أن يمد قريبه العاجز عن الكسب، واليسار على أرجح الأقوال في المذاهب الفقهية أن يكون كسوبًا يفضل من كسبه اليومي أو الأسبوعي أو الشهري ما يمكن أن يقدر فيه مقدار من النفقة يمد به قريبه العاجز عن الكسب ليصل رحمه، وتلك النفقة من صلة الرحم، وإذا لم يؤد القريب الموسر ذلك الواجب الديني فإن لهذا الفقير العاجز أن يطلب من القضاء إلزامه بذلك، وذلك بدعوى يرفعها، وبذلك ينتقل الواجب الديني إلى واجب قضائي يلزمه به القضاء.
والقاضي عليه أن يحكم له بالنفقة إن توافرت أسبابها في المدعي والمدعى عليه، وقضايا هذه النفقات تكون من غير رسوم تدفع كما هو المقرر في الفقه الإسلامي؛ لأن القضاء بكل فروعه في الفقه الإسلامي لا أجرة عليه، فلا رسوم عليه، إنما على الدولة أن تقدم للقضاة ما يحتاجون إليه بالمعروف، وبما يليق بمناصبهم؛ لأن القضاء أقدس وظائف الدولة، ولأنه ميزان بنيانها ومقيم العدالة فيها، ولا استقامة لأمة من غير عدل.
وقد لاحظ الفقهاء الأبوين في هذا المقام أيضًا فقالوا: إنه لا يشترط أن يكون الولد بالنسبة لأبويه ميسورًا لكي يجب عليه أن يعينهم في شيخوختهما، بل الشرط فقط القدرة على العمل، وإن لم يكن في كسبه ما يفضل لهما ضمهما إليه، وأكل معهما مما يكسب، قليلًا كان أو كثيرًا؛ وذلك لأن القرآن الكريم نهى الولد عن أن يتأفف من أبويه إذا بلغا عنده الكبر، وإذا كان لا يسوغ له أن يتأفف منهما فأولى ألا يتركهما جائعين، وقد أمر أن يصاحبهما في الدنيا معروفًا، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتركهما من غير طعام بل يشركهما في طعامه.
وإن النفقة تجب دينيًا على القريب لقريبه العاجز أو المحتاج في الحدود التي رسمناها ونقلنا رسمها من أقوال الفقهاء.
فإن أدى ما يوجبه عليه الدين طائعًا من غير إلزام فله الثواب على ما أداه، ويكون قد وصل رحمه استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((من أراد أن يبارك له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) .
لقد كان المجتمع العربي الإسلامي في الماضي أشد حرصًا وتقديرًا للمسنين وكانت الأسرة تعتبر وجوده بينهما بركة ورحمة، وكانت حياته ورفاهيته هدفًا يعمل له جميع أفراد الأسرة يبذلون قدر طاقاتهم في التخفيف عنه، ولا يبرمون أمرًا دون الرجوع إليه، ولعل بقايا هذه الصور ما زالت قائمة إلى حد واضح في الريف العربي المسلم حيث يملك المسنون أرضهم ومواشيهم، أو على الأقل فإن الأسرة تعتبر المسن مالكًا مجازيًا لوسائل الإنتاج، أو تنظر إلى خدمته الطويلة على أنها مصدر المشورة في الأمور التي تحتاج إلى مشورة، كما أن الأسرة في نطاقها الواسع في الريف لا تضيق بالمسن، هذا إلى جانب العامل الديني حيث يكون له تأثير قوي في مجتمعنا الريفي، ولكن مع تطور العصر تغيرت شبكة العلاقات الاجتماعية في مجتمعنا تبعًا لغيره من المجتمعات، وحلت الأسرة الزوجية الصغيرة بدلًا من الأسرة الممتدة، وأصبح الآباء يضيقون بتحمل مسؤوليات الأبناء بعد استقلالهم واعتمادهم على أنفسهم، وكذلك الأبناء لم يعودوا يستطيعون القيام بكافة المسؤوليات تجاه آبائهم وأجدادهم، هذا؛ وبالرغم من أن الأبناء والبنات يرتبطون ارتباط الدم بآبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم، فإن تلك القطرة أو صلة الدم لا تكفي وحدها لكي تكون أداة نافعة وناجحة في رعاية كبار السن، وإنما يعوزها التدريب واكتساب الخبرة في مرحلة الشيخوخة والوقوف على أهم خصائصها ومشكلاتها.
ولكن بالرغم مما عرضنا له من ظروف وعوامل أدت إلى عدم قدرة الأبناء على تقديم الرعاية المثلي للآباء، نستطيع أن نحدد مسؤولية الأبناء في رعاية آبائهم من المسنين على الوجه التالي:
1-
على الأبناء يقع عبء كبير في توفير الرعاية النفسية والتعاطف لآبائهم وأمهاتهم المسنين؛ ذلك أن الأب والأم من كبار السن لا تتحقق لهم السعادة والإشباع النفسي والطمأنينة إلا إذا شعر أي منهم بأن أبناءه وبناته بارون ومتعلقون بشخصه وحريصون على راحته ومهتمون بمصالحه، فمهما قدم إلى المسن من ألوان الحب والمودة والرعاية والعناية فإنه لا يستطيع أن يستغني عن مودة وتعاطف وحنان أبنائه وبناته.
2-
يجب على الأبناء العمل بكافة السبل على راحة آبائهم وأمهاتهم من المسنين، وذلك بتوفير الجو النفسي والاجتماعي والصحي المناسب لهم سواء في أسرتهم أو في أي دار لرعاية المسنين.
3-
على الأبناء والبنات مسؤولية التطوع لخدمة المسنين في دور الرعاية الخاصة بهم بما يتناسب مع إمكانياتهم وقدراتهم في الوقت المناسب لذلك.
المبحث الثاني
واجب الدولة نحو العاجزين
إذا لم يكن للفقير العاجز مَن ينفق عليه، وقد علمت أن الأقارب الذين تجب عليهم يشملهم معنى القرابة في أوسع معانيه، فيشمل الآباء والأجداد والجدات والأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات، مهما نزلوا، ويشمل الإخوة والأخوات وأولادهم والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم وأعمام الأب وعماته وأولادهم، وأعمام الجد وعماته، وهكذا مهما بعدت درجة القرابة.
ولا شك أن القريب العاجز لا يعدم أن يجد من هؤلاء من يستطيع طلب النفقة منه، ويلزمه القضاء بالإنفاق عليه، وهو من تحقيق التكافل الاجتماعي في الأسرة بأقصى مدى.
ولكن إذا لم يكن في القرابة قاصيها ودانيها من يستطيع الإنفاق على الفقير العاجز؛ فعندئذ ينتقل الوجوب من الأسرة الصغرى إلى الأسرة الكبرى، وهي المجتمع ممثلًا في الدولة التي تحميه وتنسق بين قواه وتقوم بالقسط فيه وتنفذ التكافل الاجتماعي فيه على أكمل الوجوه.
وإذا قامت الدولة بالواجب عليها نفذ القائم عليها حكم الشرع الذي أوجب عليها تنفيذه، كما كان يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كان يمد العاجزين حتى إنه كان يزوجهم، وكما كان يفعل أبو بكر رضي الله عنه، وكما كان يفعل عمر رضي الله عنه الذي كان يبحث عن الفقراء ليعطيهم، والذي أخذ على نفسه عهدًا أنه إذا عاش ليتنقلن بين الأقطار الإسلامية يبحث عن الفقراء ليعطيهم، وإذا قامت بذلك الدولة فقد أدت ما وجب عليها، وكان للقائم عليها الثواب من الله تعالى، ويكون التنفيذ في هذه الحال بالطريق الإداري.
وإذا لم تقم الدولة بواجبها في ذلك، فإن القضاء يحكم عليها ويلزمها كما قرر الفقهاء، وذلك مبدأ لم يُسبَق به الإسلام، ويجب على بيت المال تنفيذ ذلك الحكم.
وقد يرد اعتراضان:
الاعتراض الأول: كيف يقضي القاضي على ولي الأمر وهو الذي ولاه ويعد نائبًا عنه؟ ويرد ذلك الاعتراض بأن ولي الأمر عندما يمكّن ذا الأهلية من رجال القضاء من القيام بالعدالة فولايته لا تعد إنابة عنه ، ولكن تعد تمكينًا لذوي الكفاية من القيام بحق الناس عليهم، ثم القاضي بعد هذا التمكين يعد نائبًا عن المسلمين، وليس نائبًا عن الحاكم، ولذلك كان له الحكم عليه وإلزامه.
والاعتراض الثاني: من أي الموارد ينفق ولي الأمر على الفقير العاجز؟ ونقول: إن للفقير حقًّا في كل موارد الدولة، وقد قسّم الفقهاء بيوتَ المال إلى أربعة أقسام بحسب مواردها، وللفقير حق في كل مورد من هذه الموارد، وها هي ذي الأقسام:
القسم الأول: (بيت مال الغنائم) وهو خاص بما يغتنم في الحروب وينفق منه على مرافق الدولة وفقراء المسلمين.
القسم الثاني: (بيت المال الخاص بالجزية والخراج) وهذا يصرف منه على مرافق الدولة وفقراء الدولة غير المسلمين الذين يستظلون بالراية الإسلامية، ويتمتعون برعاية دولة الإسلام.
القسم الثالث: (بيت مال الزكاة) وهذا يصرف منه على مصارف الزكاة.
القسم الرابع: (بيت المال الخاص بالضوائع) وهي الأموال التي لا يعرف لها مالك والتركات التي لا وارث لها، وقد قال الفقهاء: إنه كله للفقراء، فيعطى منه الفقراء العاجزون نفقتهم وأدويتهم ويكفن موتاهم، ويقول الفقهاء: على الإمام صرف هذه الحقوق إلى أصحابها (1) .
لهذا تتحمل الدولة عبئًا كبيرًا في توفير الرعاية إلى كبار السن باعتبارهم جزءًا من المجتمع تحت رعاية الدولة ومن حقهم أن ينالوا الرعاية والخدمة.
وعلى الدولة تحمل المسؤولية تجاه رعاية المسنين بأمور:
منها إنشاء مؤسسات متخصصة لرعاية المسنين في كافة المدن وتقديم وتطوير الخبرات في هذا المجال لهذه المؤسسات ولمؤسسات الرعاية الأهلية (2) .
(1) انظر ما كتبه الإمام محمد أبو زهرة في كتابه (التكافل الاجتماعي في الإسلام) ، ص 59 وما بعدها.
(2)
انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
وفي رأي بعض الباحثين أن أبرز الاتجاهات الحديثة في رعاية المسنين تكون في:
1-
العمل من خلال بعض المشروعات التطوعية.
2-
مراكز الرعاية النهارية.
3-
مراكز الرعاية الجوارية.
4-
تقديم بيوت الإقامة.
5-
إيجاد مراكز الرعاية الإيوائية.
6-
مراكز التأهيل.
7-
ووضع رعاية موسمية أو طارئة تحت الطلب والحاجة (1) .
هذا ويرى آخرون أنه للأسباب التي لعبت دورًا كبيرًا في زيادة مشكلات المسنين أصبح لزامًا لذلك أن توجد المؤسسات المتخصصة والبرامج الخاصة، ووضع حلول للمشكلات التي يعاني منها المسنون من خلال عدة وسائل.
والوصول إلى تحقيق الأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي، والاستفادة من وقت فراغ المسنين، وملئه بما ينفع المجتمع من جهة، وبما يروح عن نفوس المسنين من جهة أخرى (2) .
(1) انظر بحث (العمل الجماعي ودوره في إشباع الاحتياجات النفسية والاجتماعية للمسنين) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(2)
انظر بحث (تأثير المتغيرات الاجتماعية والحضارية على المسنين) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
المبحث الثالث
مسؤولية الجامعات والمعاهد
ومراكز البحث العلمي والمؤسسات الاجتماعية
يجب على الجامعات والمعاهد العليا أن تخصص حيزًا كبيرًا لبحوث الشيخوخة وتطوير المؤسسات التي تعمل في هذا الحقل بالمستجدات والطرق المثلى بالاهتمام بالمسنين، ويجب أن تهتم كليات الطب بالجامعات بإنشاء أقسام خاصة بطب الشيخوخة، وبتأهيل الأطباء الراغبين في العمل في هذا المجال.
وهناك بعض المؤسسات الأهلية قد أنشئت لتقديم خدماتها إلى كبار السن، ويجب الاهتمام بالتوسع في إنشاء تلك المؤسسات في مختلف المدن، وتوسيع نطاق العمل ليشمل كافة أنحاء الريف والمدينة. (1)
فمن واجبات الجامعات والمعاهد الطبية والصحية التأكيد وجدية الدراسات الصحية في مرحلة الشيخوخة بما فيها الصحة النفسية (2) .
كما أنه من واجبها مع مراكز الأبحاث والدراسات والمؤسسات أن تضع برامج توعية للمتغيرات التي تطرأ على المسن في شيخوخته وكيفية التكيف معها (3) .
ووضع برامج مفيدة للاستفادة من فراغ الوقت عند المسنين وملء فراغهم بها؛ لتجنب الكثير من الإمراض النفسية وحالات الاكتئاب التي يعاني منها هؤلاء (4) ، وهذا ويعتبر التخطيط السليم والتنسيق بين جميع هذه المؤسسات من جهة وبين المؤسسات المعنية الحكومية من جهة أخرى على أهمية كبرى في إطار تقديم الخدمات الهامة والمفيدة والوصول إلى الحلول المناسبة لكل المشكلات التي يعاني منها كبار السن على مختلف الخدمات المقدمة لهم (5)
(1) انظر بحث (الاكتئاب النفسي لدى المسنين – أعراض تشخيصية) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(2)
انظر بحث (الشيخوخة مشكلاتها وتغيراتها) .
(3)
انظر بحث (الشيخوخة وما يصاحبها من تغيرات جسمانية وصحية والوسائل المتبعة في التخفيف من مضاعفاتها) .
(4)
انظر بحث (تقييم الخدمات الشاملة للمسنين بالمملكة) .
(5)
انظر بحث (تأثير المتغيرات الاجتماعية والحضارية على المسنين) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
وبما أن بعض كبار السن لا يجد خدمات أو رعاية إلا في دور الرعاية والمؤسسات المتخصصة بذلك، فإنه يقع على عاتق هذه المؤسسات وضع برامج خاصة ومتخصصة ومتطورة للقيام بأداء هذه الخدمات على أكمل وجه، وبما يتناسب والتطورَ المستمر (1) . وهناك اقتراحات كثيرة ضمن إطار خدمات الرعاية للمسنين نستعرض منها:
1-
في رأي البعض: استخدام طريقة العمل الجماعي باعتبارها من الطرق الرئيسة في مهمة المساعدة الإنسانية، ولأهميتها وقدرة استخدامها خاصة في رعاية المسنين (2) .
2-
في رأي البعض الآخر: تقديم الخدمات، واستثمار الفراغ عند المسنين من خلال بعض المشروعات التطوعية المفيدة (3)
(1) انظر بحث (مشكلات كبار السن) المصدر السابق.
(2)
انظر بحث (العمل الجماعي ودوره في إشباع الاحتياجات النفسية والاجتماعية للمسنين) المصدر السابق.
(3)
انظر بحث (الاتجاهات الحديثة الرعاية المسنين اجتماعيًا وترويحيًا المصدر السابق.
الفصل الثالث
النظريات الأوروبية والأمريكية لرعاية المسنين
النظريات الأوروبية والأمريكية لرعاية المسنين:
تعتبر مشكلات المسنين واحدة من أهم القضايا التي تفرض نفسها في المجتمعات الغربية الصناعية، ويزيد من حدتها النتائج المترتبة على التغير التكنولوجي والمعدلات المتزايدة لفئة كبار السن في غالبية دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتشير الدراسات الإحصائية في الولايات المتحدة إلى أنه في حين كانت فئة المسنين (65) سنة فأكثر تمثل (4 %) من إجمالي السكان في سنة (1900م)(حوالي 3 مليون فردًا) وصلت النسبة إلى (10 %) من إجمالي السكان (إي حوالي 20 مليون فردًا) في سنة 1970م، بل إن الزيادة في هذه الفئة العمرية خلال الفترة الزمنية من 1960 إلى 1970م بلغت نسبتها (1، 21 %) مقابل نسبة زيادة لم تتجاوز (5، 12 %) في الفئات العمرية الأخرى الأقل سنا، ويتوقع طبقًا لهذه الأرقام أن يصل حجم هذه الفئة (المسنين) إلى (28) مليون فردًا في سنة 2000م.
وهذه المعدلات المتزايدة إنما تعني في واقع الأمر زيادة في الطلب على برامج الرعاية الاجتماعية والاقتصادية والخدمات الطبية والعلاجية، مما يقلق صانعي القرارات في المجتمع الأمريكي، وقد سبقت الإشارة إلى أن المسنين هم أكثر الفئات العمرية عرضة الإصابة بالأمراض المزمنة المستعصية، فضلًا عن الانخفاض في الدخول الاقتصادية أو انقطاعها تمامًا في بعض الأحيان، مما يعني ضرورة تنظيم مواجهة للحاجات والمشكلات التي تطرحها هذه الظروف من خلال مداخل طبية واجتماعية علاجية ووقائية
…
إلخ. ومن ناحية أخرى تشير بعض الدراسات الإحضائية في أوروبا إلى وجود هذا الاتجاه وهو زيادة نسبة المسنين مقارنة مع بقية الفئات العمرية في هذه المجتمعات، ففي السويد تشير بعض الدراسات إلى أن نسبة المسنين وصلت إلى درجة مرتفعة بحيث نجد أنه من بين كل (8) مواطنين يوجد مواطن فوق سن التقاعد الذي يصل إلى (67) سنة، كذلك نجد أوضاعًا مشابهة في شمال وغرب أوروبا، حيث يتوقع أن تصل نسبة فئة المسنين إلى أكثر من (14 %) من جملة السكان في الثمانينيات، ويكشف استعراض التراث البحثي والدراسات المتعددة في مجال سياسات رعاية المسنين في المجتعات الغربية على أن هناك محاولات جادة للسيطرة على حاجات المسنين ومشكلاتهم، وأن هناك أكثر من مدخل لتوفير الرعاية المنظمة لهذه الفئة من سكان المجتمع، وسوف نعرض تفصيلًا للمداخل الغربية في رعاية المسنين، ثم نتبع ذلك العرض بوجهة نظر نقدية في مزاياها وعيوبها لاستكشاف نقاط الضعف والقوة فيها والاستفادة من الخبرات المتراكمة في ذلك المجال.
المبحث الأول
نظام الرعاية المفتوحة للمسنين
تُمْكِنُ نسبةُ ذلك النظام غير التقليدي إلى السويد، حيث انتشر استخدامه نظامًا أساسيًا لرعاية المسنين في المجتمع، وقد انتقلت التجربة السويدية إلى عدد آخر من المجتمعات الأوروبية، ولقد قام ذلك النظام أساسًا لتفادي كثير من الأخطاء وأوجه القصور، وكذلك للحد من الاعتماد على نظام الرعاية المؤسسية أو المغلقة (lnstitutionalization closed) وهو النظام الآخر الشائع استخدامه في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية الأخرى ونظام الرعاية المفتوحة، يمكن أن يعتبر بديلًا مناسبًا للرعاية الأسرية غير المنظمة للمسنين، وحيث قد تعجز إمكانيات الأسرة وظروفها عن توفير الرعاية المستمرة أو لحاجة المسن نفسه إلى برامج للرعية المكثفة ذات الطابع العلاجي التي قد لا تتوفر في الأسرة، وتبدو أهمية (الرعاية المفتوحة) عندما نؤكد على تزايد أعداد المسنين وصعوبة استخدام المؤسسات الإيوائية للمسنين؛ لما يتطلبه ذلك من ترتيبات وموارد تعتبر أكثر كلفة على ميزانيات الخدمات في المجتمع.
يستند نموذج الرعاية المفتوحة على أساس توفير ظروف أسرية محلية أو ظروف بيئية مشابهة للحياة الأسرية للشخص المسن الذي يكون بحاجة للرعاية، ويقيم المسنون في فندق سكن أو بيت، إلا أن ظروف المعيشة تكون في البيئة الطبيعية التي يعيش فيها بقية سكان المجتمع.
ويتسم نظام الرعاية الاجتماعية في السويد بصفة عامة بأنه نظام متقدم يستند إلى المدخل التكاملي لمواجهة المشكلات الاجتماعية وهو ما يعرف باسم (الخدمات للجميع) وليس للفقراء فقط social service for all not for poor alone.
وحيث تستند سياسة الرعاية الاجتماعية إلى تحقيق أهداف أربعة أساسية تشمل:
1-
التدرج في الخدمة.
2-
وتحقيق العدالة.
3-
وضمان التأمين الكافي.
4-
وتحقيق الكافل والتماسك الاجتماعي.
ويشتمل نظام الرعاية للمسنين في السويد على التنظيم المتدرج الذي يتكون من توفير بيوت للنقاهة والإقامة المؤقته أو الدائمة، ونظام المساعدة في الخدمات المنزلية وبيوت لإقامة كبار السن من فئة الطاعنين في السن والخدمات السكنية، وأخيرًا الخدمات الطبية طويلة المدى (long term medicate care) ويعتبر المستوى الثاني وهو نظام المساعدة في الخدمات المنزلية هو أكثر البرامج ملاءمة لرعاية المسنين، ولا سيما عندما يربط ببرامج أخرى كتوفير الوجبات الغذائية وتوزيعها على المساكن التي يقيم فيها المسنون، وتوفير بعض الأنشطة والحرف والهوايات وتوفير تسهيلات المواصلات والانتقال وأساليب الاتصال الهاتفية ومراكز الرعاية النهارية.
وطبقًا للإحصائيات السويدية نلاحظ أنه في سنة 1975م بلغت جملة ساعات الخدمات المنزلية (46) مليون ساعة قدمت إلى (328553) مواطن من فئة المسنين والمعوقين، وتتوزع هذه الخدمات في (278) منطقة محلية بين الريف والحضر، وحيث تقدر بعض الدراسات أن هناك اتجاهًا نحو زيادة ذلك النظام بلغ ارتفاعًا من (825) حالة لكل (100،000) من السكان في سنة 1973م، ووصلت الزيادة إلى (923) لكل (100،000) من السكان في عام 1976م.
تنظيم الرعاية المفتوحة:
يشرف قسم الخدمات الاجتماعية التابع للمجلس المحلي في المدينة أو المقاطعة على تنظيم خدمات الرعاية المفتوحة للمسنين في دائرة خدمته، ويلاحظ أن مديريات أو مناطق الشؤون الاجتماعية مقسمة إلى (17) قسمًا بحيث يتبع كل منطقة مركز للخدمات الاجتماعية (social services) تشتمل على واحد أو أكثر من أقسام الرعاية الاجتماعية والخدمات المنزلية، وهو الجهاز المسؤول عن توفير الخدمات المنزلية للمسنين، وتزويدهم بالمساعدات والتوجيهات والإرشادات عند الاحتياج، ويتضمن الجهاز أسلوبًا دقيقًا للمتابعة المنظمة، وتتلقى الإدارة كافة المراجعات المتعلقة بالخدمات المنزلية على مستوى المقاطعة، ويرأس الجهاز مدير كفء مدرب تتوفر لديه الخبرة والدراية على إدارة وتنظيم الخدمات المنزلية، حيث يكون هدف الجهاز هو الاهتمام السريع بكل مراجعة من المسن أو شخص مهتم به، والعمل العاجل على مواجهة الحاجة التي تستدعي التدخل وتوفير الخدمات لكل حالة.
ويلاحظ أن الخدمات المنزلية سواء أكانت في فندق سكني للمسنين أم في أحد البيوت المخصصة لإقامتهم، تكون بمثابة سبيل لتوفير المساعدة لا تقتصر على النزلاء فقط، ولكن لأي شخص مسن يعيش في أي مكان في نطاق المقاطعة في المجتمع المحلي، وتزود أماكن السكن بأثاث مناسب، وتحتوي على أدوات ووسائل للترويح وأساليب العلاج والحصول على الوجبة الغذائية بأقل كلفة، كذلك يزود المسكن ببعض الأدوات التكنولوجية التي تساعد في قضاء كثير من الحاجات والأغراض المنزلية المتكررة كالنظافة الخاصة والعامة، كما أنّ هناك لوحة كهربائية موصلة بطريقة إضاءة لمبات كهربائية تحذيرية عند وقوع بعض الأخطار أو موقف متأزم يواجه المسن أو العاجز، وهذا الجهاز يعمل تلقائيًا لطلب المعونة أو النجدة العاجلة كذلك فإن هذه اللخدمات تتاح لجميع سكان المجتمع، حيث إن من يطلبها هو الذي يكون بحاجة إليها وتتضمن الخدمات المنزلية في المناطق الحضارية والمدن توفير الرعاية الشخصية وشراء مستلزمات السوق (التسوق) للنزيل، وطهي الطعم والعناية بالملابس والالتحاق بجماعات للنشاط والهوايات والأندية الاجتماعية، أو الالتحاق بإحدى المدارس المسائية أو التزود ببعض المعينات السمعية والبصرية.
ويقوم نظام توزيع الوجبات الغذائية الجاهزة بتوفير هذه الواجبات مجمدة محفوظة أو طازجة، وتوفير أقسام الخدمات الاجتماعية الليلية، وفي عطلة نهاية الأسبوع فضلًا عن خدمات الإسعاف والخدمات الطارئة والعاجلة، أما عن إدارة هذه المساكن فإنه يخصص لكل بيت أو فندق سكني مدير مدرب يساعده هيئة عمل من المساعدين بنسبة عامل لكل عشرة من السكان. كذلك يكون هناك احتياطي دائم من العمال للتدخل في حالات الطوارئ. وهذا الفريق ينظم بحيث يعمل طوال الأربع والعشرين ساعة لتأمين استمرارية الخدمة، أما الخدمات الطبية فإنها لا تدخل جزءا أساسيا من هذه الخدمات المتاحة في الفندق أو البيت السكني، ولكنها تكون متاحة عند طلبها في المؤسسات الطبية كالمستشفيات.
أما في المناطق الريفية والنائية فإن نظام الخدمات يتخذ شكلا آخر يتفق وظروف المجتمع الريفي، ولاسيما أن المستفيدين من المسنين قد يكونون موزعين بطريقة واسعة الانتشار، وبعضهم قد يكون في مناطق معزولة نسبيا، ولذلك يشيع استخدام نظام الخدمة السيارة عن طريق (الأتوبيس) المجهز الذي يغطي بخدماته عدة مقاطعات أو مقاطعة واحدة حسب الظروف، وقد استحدثت في السنوات الأخيرة أساليب جديدة تتضمن في أهمها الاستعانة برجال البريد في تقديم بعض الخدمات، ولاسيما في المناطق الريفية وغير المأهولة بالسكن، وحيث بدأت تجربة النظام في سنة 1974م فإنه يقوم رجال البريد بالاتصال بالمسنين في مساكنهم وتوفير الخدمات العاجلة وتزويدهم بالسلع والقيام بالزيارات المنزلية وبعض الأعمال الخاصة، وحيث يحدد لكل رجل بريد منطقة تحدد في خرائط توضع في الأماكن العامة لتوضيح الطرق والشوراع التي تمر بها سيارة الخدمة التي يعمل عليها رجل البريد، وقي مقابل ذلك النوع من العمل يمنح العامل مكافآت شهرية في مقابل أداء الخدمة عن طريق السلطات المحلية.
وتبدو أهمية ذلك النوع من الخدمات البريدية وتعرف قيمتها عندما نتذكر أنها توفر الاتصال للمسنين والعجزة والمرضى وكبار السن، ومن هم في دور النقاهة والذين يعيشون في المناطق النائية، ويقوم الاجتماعي المسؤول عن المنطقة بعقد لقاءات شهرية مع رجل البريد حيث يكلف الأخير بتقديم تقرير وملاحظات شاملة عن العملاء، ويناقش المواقف التي تحتاج إلى خدمات أو مساعدات إضافية، وتشير بعض الدراسات إلى أن نظام الرعاية الاجتماعية السابق يغطي أكثر من ثلث عدد السكان من المسنين الذين هم في حاجة إلى الخدمة.
ومن الملاحظ أن هناك محاولات مماثلة لتطبيق ذلك النموذج من الرعاية المفتوحة لفئات المسنين والعجزة والمرضى والمعوقين في كل من دول النمسا وإنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد طبق في ولاية ماساتشوستس (massachustts) وكذلك ولاية كونيكتكت (connecticut) ويسمى (نموذج الرعاية وحيد المدخل)
المبحث الثاني
نظرية الرعاية طويلة المدى
يعبر مفهوم الرعاية طويلة المدى عن الأنشطة والبرامج التي تقدم لشخص ما تتضمن خدمة أو أكثر من خدمات الرعاية لفترة طويلة، كما أن ذلك النوع من الخدمات يشتهر في المجتمعات الغربية التي تستخدمه على أنه نوع من الرعاية لا ينتظر أن يكون لها مردود استثمارى، بمعنى أنها لا تتضمن إعادة بناء شخصية الفرد أو قدراته من أجل المستقبل، وهى تتضمن بذلك مجموعة من الخدمات لمواجهة حاجات العملاء الذين لا تتوفر لديهم الإمكانيات والقدرات لمواجهتها بأنفسهم، وتجدر الإشارة إلى أن ذلك النظام من نظم الرعاية للمسنين والمعوقين والعجزة والمرضى بأمراض مستعصية أو مزمنة؛ لا يقابل المعنى المقصود بنظام الرعاية المؤسسية، بالرغم من طبيعة الرعاية المؤسسية التي يودع بمقتضاها المحتاجون في مؤسسات مجهزة لتقديم الرعاية طويلة المدى، وقد قصدنا الإشارة إلى أنه قد يوجد أفراد مسنون يحصلون على خدمات الرعاية طويلة المدى وهم في منازلهم أو مع أسرهم أو لدى بعض الأقارب في المجتمع.
وتعرف (sherwood) تلقى الرعاية طويلة المدى بأنه: الشخص (ذكرا أو أنثى) الذي وصل إلى حالة من المرض أو الانهيار المفاجئ أو التدريجى في أداء الوظائف السلوكية والإنسانية، مما يتطلب تزويده بخدمات البرامج طويلة المدى لفترة ممتدة زمنيا. وهذه الخدمات قد تركز على الوقاية أو إعادة التأهيل أو العلاج لكثير من أنواع الخلل الذي قد يصيب الفرد، وتستهدف زيادة الاستمتاع بفرص الحياة المتاحة أمام الفرد.
وهي بذلك تعمل على توفير أنشطة الحياة اليومية وتطوير وتحسين الصحة النفسية ومستوى المعيشة للشخص، وتشمل خدمات الرعاية طويلة المدى على مجموعة مركبة من البرامج، ومنها البرامج الطبية المتكاملة لمواجهة الخلل الصحي (الجسمي والعقلي) ، وتوفير الوجبات الغذائية اليومية والحصول على مسكن مناسب للحالة الصحية، وتوفير الإشراف المهني المناسب لظروف حالة مستحقي الخدمة، وعلى ذلك فالأشخاص المستحقون لهذا النظام من نظم الرعاية قد يكونون بحاجة إلى الرعاية الشاملة من القائمين على هذه الرعاية، أو بحاجة لنوع من المساعدة في مواجهة حاجات ومطالب الحياة اليومية التي لا يستطيعون توفيرها بالاعتماد على أنفسهم، ويستفيد من هذا النظام حوالي (5 %) من المسنين الذين يقعون في الفئة العمرية (65) سنة فأكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا كانت الإحصاءات السكانية في هذا المجتمع تشير إلى أن أكثر من نسبة (10 %) من إجمالي السكان لا تقل عن مليون مستفيد على أقل تقدير، وحيث يتوقع أن يصل الرقم إلى (2،150،000) مستفيد في سنة 2020 م.
وعلى أية حال فإن هذه الأرقام لا تبين بوضوح الصورة الحقيقية للأفراد الذين هم بحاجة للرعاية طويلة المدى، حيث يتوقع أن يكون أكثر منهم ممن يحصلون على هذه الرعاية بعيدا عن المؤسسات الإيوائية التي أجريت عليها التقديرات الإحصائية، فإنه لا تتوفر بيانات دقيقة في هذا المجال.
وفي دراسة أخرى نجد أنه يقدر أن يكون هناك (8 %) من السكان الذين في فئة العمر (65) فأكثر من المقعدين في بيوتهم، أو الذين لا يتحركون من فراشهم، وعند إضافة هذا الرقم إلى التقديرات السابقة يتضح أن هناك أكثر من (3) مليون شخص في هذه الفئة العمرية يحصلون على خدمات الرعاية طويلة المدى، ومع الزيادة المتوقعة في هذه الفئة العمرية نتيجة لزيادة العمر المتوقع للحياة، فإن الأمر يعني في النهاية ضرورة التوسع في توفير هذا النوع من الخدمات.
تنظيم الرعاية طويلة المدى:
تكشف الدراسات التي تناولت هذا النوع من الرعاية بأنه أكثر شيوعا وانتشارا في الولايات الأمريكية، حيث تتجه سياسة الحكومة في هذا المجال نحو ربط الخدمات طويلة المدى بنظام الرعاية الطبية (Medical Care System) الذي يرتبط أصلا بقانون الضمان الاجتماعي الأمريكي، ونتيجة لذلك فإن كل برامج الرعاية طويلة المدى تتأثر بالطابع الطبي حيث تقدم في المستشفيات وفي دور النقاهة، ويركز هنا على الخدمات التي قدمها الطبيب وتنظيمها الإدارة الطبية، وكذلك فإن هذه الخدمات ترتكز على النوع المغلق من الرعاية (Closed Care) ، وهو الرعاية المؤسسية التي تعتبر أكثر تكلفة وذات آثار جانبية طبية غير مرغوبة مقارنة بالرعاية المفتوحة التي عرضنا لها من قبل، وبالرغم من أن نظام الرعاية المؤسسية طويلة المدى لها بعض العيوب، إلا أن هناك اتجاها متزايدا نحو الاعتماد عليها لمواجهة التزايد في أعداد المسنين الذي يتعرضون للإصابة بالأمراض المزمنة المستعصية، وحالات العجز وغيرها من الحالات التي تحتاج إلى رعاية طيبة مؤسسية داخلية أو في مستشفيات متخصصة، وتبدو أهميتها عندما نضع في الاعتبار أن المسنين أو بعضا منهم قد لا يستطيع الحصول على مثل تلك الخدمات لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، مما يستوجب ضرورة إتاحة هذا النوع من الرعاية.
المبحث الثالث
نظرية مهنة الخدمة الاجتماعية
تلعب مهنة الخدمة الاجتماعية أدوارا أساسية في العمل مع المسنين وتنظيم برامج رعايتهم، سواء على مستوى التخطيط أو التنفيذ المباشر، وذلك من خلال نظم الرعاية المتعددة، وسواء تلك التي أشرنا إليها قبلا أو التي سيأتي ذكرها بعد ذلك، فمن خلال قيامها بتوفير المعلومات الأساسية الكافية واكتشاف الحاجات المختلفة لهذه الفئة العمرية والعمل مع الحالات
(case management) أيضا يمكن من خلال توفير الدراسات والبحوث الكمية والكيفية عن مدى كفاءة وفاعلية الخدمات المقدمات؛ العملُ على تطوير هذه الخدمات، وتغيير اتجاهات صانعي القرارات لمواجهة المشكلات المتزايدة لرعاية المسنين، ويتطلب الأمر استحداث أساليب ومناهج جديدة للتدخل فيها مهام التنسيق وتنظيم المجتمع من أجل توجيه الموارد المتاحة وترشيدها لمواجهة حاجات المسنين ومشكلاتهم، وهنالك مهام وأدوار العمل مع المسنين أفرادا أو حالات، ولاسيما في الحالات المصابة بأمراض مستعصية وفى حالة الشيخوخة المتأخرة التي قد تصاحب بأعراض مرضية عقلية كخبل الشيخوخة، ومن أكثر المداخل منهج خدمة الفرد (case work method) وهو ما يعرف في بعض دراسات الخدمة الاجتماعية باسم إدارة الحالة (مع المسنين) .
يعمل الاجتماعي في ممارسة الخدمة الاجتماعية مع المسنين باعتباره مستشارا دائما، فهو شخص مهني يدبر شؤون العميل المسن ويسهل له الحصول على احتياجات الحياة اليومية، وتتعامل خدمة الفرد مع العميل المسن باعتباره فردا له ظروف حياته الخاصة (المتميزة) ، ويتم التعاون مع المسن من خلال نظرة تتسم بالشمولية، وتستهدف تحقيق الحماية للمسن من الصعوبات التي تواجهه بسبب الشيخوخة، وبالرغم من أن الأساس في العمل المهني هو تحمل الفرد لمسؤوليات حياته، إلا أنه في حالة العمل مع المسنين قد يضطر الممارس إلى اتخاذ مواقف مساندة تستلزم توفير الخدمات الوقائية لحمايتهم من أي أخطار تحدق بهم، وعلى أي الأحوال فالحد الفاصل بين اتخاذ موقف أبوي من العميل المسن وبين توفير الخدمات وتأمينها والتدخل للحماية هو خط دقيق، حيث يمكن أن يفسر النوع الثاني (الحماية) بأنه تدخل تدعيمي، وذلك عندما يكون الأمر متعلقًا بتوفير مطالب أساسية، ولاسيما في حالة المسنين العاجزين كليًا، وقد يمثل ذلك تناقضًا مع الاتجاهات المهنية العامة في الخدمة الاجتماعية، نحو مايعرف بالمسؤولية وتأكيد الذات وحق تقرير المصير للعميل دون الممارس حتى لا يصبح التدخل المهني قيدًا على حرية العميل وحقوقه المدنية، وقد تتخذ الممارسة المهنية مع المسنين شكلًا آخر يتطلب التحول نحو مايعرف باسم (الأدوار الدفاعية للخدمة الاجتماعية) ، وذلك عندما يواجه الممارس في بعض الأحيان بفشل نظر الرعاية في مواجهة حاجات مشروعة للمسنين عند عدم توفر الخدمات، أو بسبب القيود والإجراءات الرسمية التي تحدد كيفية الاستفادة من الخدمة وفي حالة عدم كفاية الخدمة. . . إلخ.
وفي هذه الحالة يتحول الممارس نحو أدوار خدمة المجتمع ومحللي السياسات والنظم، الذين يسعون لإحداث ضغوط لإعادة النظر في القوانين والتشريعات القائمة، أو لإعادة توزيع لتوفير خدمات الرعاية للمسنين، ويطلق على النمط الأخير: المهني، حيث يعمل الممارس المهني في هذه الممارسات على تحديد أهداف العملاء من المسنين بحيث تكون تلك الأهداف بسيطة ومتواضعة وفي أصغر الحدود الممكنة، حتى لا تُدخل الكثير من التغييرات في حياة المسن إلى أجزاء أصغر ومستويات متعددة بحيث يسهل التعامل معها، يصبح ذلك مطلبًا ضروريًا لنجاح الممارسة، ويجب أن لا ننسى أن الكثير من الدراسات النفسية تشير إلى أن شعور العملاء من المسنين يغلفه إحساس دائم بأن الوقت أو الزمن يمضي بسرعة، حيث لم يعد هناك متسع من الوقت لتحقيق أهداف مستقبلية يعلمون أنهم قد لا يتاح لهم تحقيقها، وهذه المشاعر قد تمثل مقومًا أساسيًا يجب أن يتغلب عليه الممارس بتجزئة الأهداف وتبسيطها.
أما من حيث العلاقة التي يجب أن تقوم بين الممارس وبين المسن، فإنها تتحدد في ضوء الفهم الجيد للحاجات النفسية للعملاء المسنين، ويتطلب هذا قدرة وخبرة لفهم السلوك المتوقع وأنماط الشخصية والخبرات والتفاعلات السابقات التي مر بها العميل خلال مراحل حياته قبل الدخول في مرحلة الشيخوخة.
، وقد يواجه الممارس بصعوبات متعددة من بينها تلك المقاومة الشديدة التي يحتمل أن يقوم بها بعض العملاء أو العميلات من المسنين أحيانًا إلى حد العناد ورفض المساعدة وفقدان الثقة، وتتطلب معالجة هذه المواقف ضرورة تفهم أسباب المقاومة والتعامل معها، ثم تحديد نوع الخدمات المطلوبة للعميل بعد ذلك، ثم القيام بأدوار الإقناع والتوجيه الملائم للحالة وفقًا لظروفها، وتستند طريقة العمل مع المسنين بمنهج خدمة الفرد بالتأكيد على أنه لا يوجد شخصان متشابهان من كبار السن، وبذلك فإن التفريد يعتبر أساسًا ضروريًا لنجاح الممارسة، وذلك يعني بالضرورة الرجوع إلى تاريخ الحالة وفهم ظروف الحياة التي تعرض لها سابقًا، وطرق تعامله مع المواقف والمشكلات، وأساليب التكيف، وكيفية التعبير عن الذات.
كذلك فإن من الضروري مراعاة أن تكون الأهداف العلاجية (صحيًا) في حالة العمل مع المسنين تتناسب مع القوى المتبقية لدى المسن، وأن تكون متواضعة في ضوء الفهم الكامل للحقيقة القائلة بأنه قد يستحيل على المسن استعادة قدراته، وبذلك إن أية تغييرات سلوكية صغيرة أو بسيطة نتيجة للتدخل تعتبر مؤشرات إيجابية لنتائج العلاج، وتتدخل الممارسة المهنية أيضًا بصفة مستمرة لضمان تأمين الخدمة للمسن، وللتأكد من استمرارها ولاسيما في الحالات المستعصية والمزمنة. وفي ذلك يعمل الممارسون باعتبارهم منظمين للخدمة مسؤولين عن إدارتها لكل حالة (case managers) وهم الذين يعملون لربط الحالات (العملاء) بالخدمات، ومتابعة استمرارية تدفق الخدمة، والعمل من أجل تحديد الحاجة وتقييم الظروف المحيطة التي قد تتغير من وقت لآخر، وللتأكد من الخدمات المقدمة لتواجه الحاجات الفعلية للعملاء، وإذا عمل الممارس وقتًا لذلك المدخل مستشارًا دائمًا للعميل فإن الأمر قد يصل إلى مزيد من التدخل لتوفير الحماية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الاعتماد من جانب المسن، وعلى الممارس التأكد من أن الخدمات تقدم بصورة محددة، وتتناسب مع الحاجات بدلًا من أن تؤدي إلى مزيد من الإفراط في العجز والسلبية والاعتمادية.
خلاصة مبحث مهنة الخدمة الاجتماعية:
إن العمل مع المسنين يتطلب الاعتقاد في أهمية وقيمة العمل مع هذه الفئة العمرية التي لا تقل أهمية عن بقية الفئات العمرية الأخرى، والنظر إلى الشيخوخة باعتبارها مرحلة عمرية في دورة الحياة الإنسانية وليست حالة مرضية، ويستلزم ذلك أن يكون هناك إعداد مسبق مناسب من خلال مناهج تعليم تتعمق في دراسة حاجات المسنين ومشكلاتهم وخصائصهم وسماتهم الشخصية، وذلك بدون تحيز أو أفكار سلبية مسبقة، وعلى كل الأحوال فإن استخدام مدخل مهنة الخدمة الاجتماعية في العمل مع المسنين هو واحد من المداخل المتعددة الشائعة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي نظم الدول الأوروبية (1) .
(1) انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) .
الفصل الرابع
نحو رعاية أفضل للشيوخ والمسنين
(اقتراحات وتوصيات)
نعرض بعض التوصيات من أجل إيجاد الوسائل المناسبة لتوفير الأمن الاجتماعي والاقتصادي لكبار السن أو المسنين دون تمييز بين الرجال والنساء؛ لأن المساواة بين الجنسين في سن الشيخوخة تصبح من الجوانب الإنسانية والموضوعية التي نحن بأمس الحاجة إليها لمواجهة المشكلات والصعوبات في مجال رعاية المسنين على النحو التالي:
1-
قيام الحكومات بالتركيز على المسائل ذات العلاقات بالتشيخ عند وضع برامج السياسات العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
2-
إنشاء مجلس تحت إشراف الدول العربية لدراسة مشاكل كبار السن، وإيجاد الحلول المناسبة لها على المستوى الإقليمي، والاستفادة من خبرات وتجارب الدول الأكثر تقدمًا في هذا المجال.
3-
الزيادة من جدية رعاية كبار السن في تلك السن.
4-
تشجيع مشاركة كبار السن في البرامج الثقافية والاجتماعية.
5-
تدعيم الأنشطة التي تقوم بها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى ذات الاهتمام برعاية المسنين، والمشاركة الفعلية والفعالة بتقديم الإرشادات بشأن البرامج المقترحة من قبل هذه المنظمات في هذا المجال.
6-
اتباع المرونة بقدر الإمكان بالنسبة لسن التقاعد كما جاء في توجيه منظمة العمل الدولية، مع تدريب كبار السن للمهارات اللازمة للاستمرار في ضوء الازدياد المرتقب في نسبة كبار السن في هذه الدول للاستفادة منهم في عملية التنمية الوطنية.
7-
امتداد المعاش التقاعدي لفئة غير الموظفين والعمال لتشمل كبار السن من أصحاب المهن الحرة (1) .
(1) انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية افضل للمسنين) .
خاتمة البحث
نستطيع بعد هذه الجولة العجلى في الفقه الحضاري الإسلامي وروضاته المونقة وحدائقه الغنّاء أن نلخص هذه المطالب كلها ونختصر نتائجها التي توصلنا إليها في النقاط التالية، وهي أبرز النتائج:
1-
أولًا:
في الفصل الأول من الباب الأول الذي عنونته بـ (الحقوق العامة للشيوخ والمسنين في الإسلام) ، وهو الحقوق الخلقية والأدبية المعنوية، توصلنا إلى ضربين من الحقوق؛ ضرب خلقي محض حث عليه الإسلام من باب مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، كبر الوالدين وصلة الكبار من ذوي القرابة والنسب والرحم، وإكرام الكبار والمسنين وذوي الشيبة في الإسلام.
وفي الفصل الثاني توصلنا إلى ضروب من الرعاية الطبية والصحية الضرورية للكبار وللمسنين وكثير من التكافل الصحي في الإسلام.
وتوصلنا كذلك في هذا الفصل إلى ضمان حقوق الكبار والمسنين ماليًا في الفقه الإسلامي، بحيث لا يضيع المسن في خواتيم حياته بين أقاربه وذويه، سواء أكان والدًا أم عمًا أم أخًا أكبر أم قريبًا أم ذا رحم محرم.
وأما في نطاق الحقوق الإنسانية، فلقد شرع التشريع الإسلامي ضروبًا من الرعاية الإنسانية المتميزة ووضع الأحكام الناظمة لها.
وفي الفصل الثالث تحدثنا عن قضية الحجر المالي على السفيه، هل يسقط بالسنن؟ وذكرنا قول الإمام أبي حنيفة في هذا الموضوع، وهو أمر لافت للنظر في عظمة الشريعة الإسلامية ومرونتها منذ فجر التشريع.
وفي الفصل الرابع تحدثت عن واجبات المسنين المترتبة عليهم تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه باعتبارها حقًّا لذلك المجتمع عليهم مع مؤيداتها الأدبية، فما من حق إلا ويقابله في الإسلام واجب.
2-
ثانيًا:
في الفصل الأول من الباب الثاني الذي عنونته بـ (رعاية الشيوخ والمسنين في الدراسات الحديثة والمعاصرة) تحدثت عن الشيوخ والمسنين بين رعاية الإسلام ومقولات العلم الحديث.
وفي الفصل الثاني من الباب ذاته تحدثت عن مسؤولية رعاية المسنين على من تقع؟ فذكرت أولًا مسؤولية الأسرة في رعايتهم، ثم مسؤولية المؤسسات الاجتماعية، ثم مسؤولية الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي، ثم مسؤولية الدولة.
وفي الفصل الثالث من الباب ذاته كذلك تعرضت للنظريات الأوروبية والأمريكية لرعاية المسنين، كنظام الرعاية المفتوحة للمسنين، ونظرية الرعاية طويلة المدى، ونظرية المهنة الاجتماعية، كل ذلك لدى الغرب، وذلك استكمالًا للبحث.
وجعلت الفصل الرابع والأخير من الباب مجموعة من اقتراحات وتوصيات تصبو نحو رعاية أفضل للشيوخ والمسنين.
وعقدت خاتمة للبحث تلخص البحث وتخلص إلى أبرز نتائجه هي هذه، وأرجو أن أكون قد وفقت للإحاطة بأطراف الموضوع بقدر الوسع والطاقة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] صدق الله العظيم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
المراجع والمصادر
مراجع الباب الأول:
* فتح القدير للكمال بن الهمام.
* الهداية للمرغيناني الرشداني البخاري.
* البدائع للكاساني.
* الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي وحاشية الدسوقي.
* القوانين الفقهية لابن جزي المالكي المعرف بـ (قوانين الأحكام الشرعية) .
* المهذب للشيرازي.
* المجموع للنووي مع تكملته للمطيعي.
* مغني المحتاج للخطيب الشربيني.
* المغني لابن قدامة المقدسي (الموفق) .
* حاشية (رد المحتار على الدر) للعلامة ابن عابدين.
* المبسوط للسرخسي.
* المحلى لابن حزم.
* كشاف القناع للبهوتي.
* الشرح الكبير للدردير.
* مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب.
* الفتاوى الهندية مجموعة من علماء الهندس بإشراف عالم كير.
* شرح منتهى الإرادات للشيخ مرعي بن يوسف.
* نيل الأوطار للشوكاني.
* الدرر المباحة في الحظر والإباحة للنحلاوي الشيباني (خليل) .
* لسان العرب لابن منظور.
* القاموس المحيط – المجد الفيروآزبادي.
* تاج العروس – المرتضى الزبيدي.
* الفقه الإسلامي وأدلته – أد. وهبه الزحيلي.
* رياض الصالحين للإمام النووي.
* الترخيص بالقيام لذوي الفضل والمزية من أهل الإسلام للإمام النووي، ت: أحمد راتب حموش.
* دليل الفالحين شرح رياض الصالحين – ابن علان الصديقي الشافعي.
* إحياء علوم الدين وتخريج أحاديثه للإمام الغزالي والحافظ العراقي.
* محمد المثل الكامل – محمد أحمد جاد المولى.
* النفقات – العلامة أحمد إبراهيم.
* المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية – د. عبد الكريم زيدان، ط مؤسسة الرسالة – بيروت.
* الندوة العلمية الأولى للمسنين – مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
* مجلة البحوث الفقهية المعاصرة – الرياض، المملكة العربية السعودية.
مراجع الباب الثاني:
- الندوة العلمية الأولى للمسنين 1419 هـ / 1999م، مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
* الشيخوخة في المجتمع الإنساني المتغير، د. أحمد أبو زيد، مجلة عالم الفكر، المجلد السابع العدد الثالث – الكويت 1976 – 1993 – 1994.
- الخدمة الاجتماعية في مجال رعاية المسنين، عبد الحميد عبد المحسن.
- رعاية المسنين في الإسلام، عبد الله بن ناصر السدحان.
- التكافل الاجتماعي في الإسلام، الأستاذ العلامة محمد أبو زهرة.