المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة(الإجارة المنتهية بالتمليك)دراسة فقهية مقارنةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثاني عشر

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادأ. د. خليفة بابكر الحسن

- ‌استثمار موارد الأوقافإعدادالدكتور إدريس خليفة

- ‌استثمار موارد الأحباسإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌أثر المصلحة في الوقفإعدادالشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌صور استثمار الأراضي الوقفية فقهاً وتطبيقاًوبخاصة في المملكة الأردنية الهاشميةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكوصكوك الأعيان المؤجرةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة(الإجارة المنتهية بالتمليك)دراسة فقهية مقارنةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكدراسة اقتصادية وفقهيةإعداد الدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الشرط الجزائيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌الشرط الجزائيإعدادالأستاذ الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الشرط الجزائي في العقودإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الشرط الجزائي في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور ناجي شفيق عج

- ‌الشرط الجزائيدراسة معمقة حول الشرط الجزائي فقها وقانوناإعدادالقاضي محمود شمام

- ‌عقود التوريد والمناقصةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌عقد التوريددراسة فقهية تحليليةإعدادالدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ مجتبى المحمودوالشيخ محمد على التسخيري

- ‌الإثبات بالقرائن والأماراتإعدادالدكتور عكرمة سعيد صبري

- ‌القرائن في الفقه الإسلاميعلى ضوء الدراسات القانونية المعاصرةإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ محمد الحاج الناصر

- ‌الطرق الحكمية في القرائنكوسيلة إثبات شرعيةإعدادالدكتور حسن بن محمد سفر

- ‌دور القرائن والأمارات في الإثباتإعدادالدكتور عوض عبد الله أبو بكر

- ‌بطاقات الائتمانتصورها، والحكم الشرعي عليهاإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور محمد العلي القري

- ‌بحث خاصبالبطاقات البنكيةإعدادالدكتور محمد بالوالي

- ‌بطاقة الائتمانإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بطاقة الائتمان غير المغطاةإعدادالشيخ علي عندليبوالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التضخم وعلاجهعلى ضوء القواعد العامةمن الكتاب والسنة وأقوال العلماءإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الصلح الواجب لحل قضية التضخمإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويضومسؤولية الحكومة في تطبيقه

- ‌مسألة تغير قيمة العملة الورقيةوأثرها على الأموال المؤجلةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌التأصيل الشرعي للحلول المقترحةلعلاج آثار التضخم

- ‌التضخم وتغير قيمة العملةدراسة فقهية اقتصاديةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌نسبة التضخم المعتبرة في الديونإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

- ‌حقيقة التضخم النقدي: مسبباته – أنواعه – آثاره

- ‌التضخم وآثاره على المجتمعات

- ‌ضبط الحلول المطروحة لمعالجة آثار التضخم على الديون

- ‌حقوق الأطفال والمسنينإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌حقوق الشيوخ والمسنين وواجباتهمفي الإسلامإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌حول حقوق المسنينإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌حقوق الطفلالوضع العالمي اليومإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌الشيخوخةمصير. . . وتحدياتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌البيان الختامي والتوصياتالصادرة عنالندوة الفقهية الطبية الثانية عشرة

- ‌(حقول المسنين من منظور إسلامي)

الفصل: ‌الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة(الإجارة المنتهية بالتمليك)دراسة فقهية مقارنةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

‌الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة

(الإجارة المنتهية بالتمليك)

دراسة فقهية مقارنة

إعداد

أ. د. علي محيي الدين القره داغي

أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة والقانون

جامعة قطر

والخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن التطبيقات العملية لأحكام الفقه الإسلامي هي التي تدفع بالفقه نحو التقدم والتطور والازدهار، وكما قيل:"الحاجة أم الاختراع"، لذلك شهد عصره الذهبي عندما كانت أمور المسلمين (أئمتهم وعامتهم) تدور عليه، وتبحث في إطاره، ولا يسمح بالخروج عليه، فنشطت قرائح الفقهاء وتفكيراتهم لتوضيح الحلول الشرعية ولإيجاد البدائل والمخارج على ضوء القواعد الكلية والمبادئ العامة للشريعة ومقاصدها العامة، ثم رعاية العرف والحاجة، وما يقتضيه رفع الحرج عن المسلمين في تعبدهم وتعاملهم فازدانت تلك العصور بعدد كثير من المؤلفات الضخمة في الفقه وفي فقه النوازل والحوادث، والفتاوى العملية والأقضية والأحكام.

ثم أتى على الفقه الإسلام حين من الدهر أصابه الجمود والتأخر بسبب جمود الأمة وتخلفها وبعدها عن الاجتهاد والتقدم والتحضر، وانشغالها بالبدع والخرافات، فاستغل ذلك الوضع الاستعمار فجاء بغزوه الفكري والتشريعي والسياسي والاقتصادي فاستخر (فاستعمرنا) وطبق علينا قوانينه وتشريعاته، فأبعد فقهنا الإسلامي عن الحياة، وغيبه عن الواقع وهمش دوره على مسرح الأمة، ولأول مرة في تاريخ هذه الأمة تفرض عليها قوانين بشرية أجنبية تأتي بها دول محتلة لأراضيها، ويقبل منها مثقفوها، وحينما صحت الأمة الإسلامية فرأت ما حولها من العوائق والمصائب والمشكلات، وأنها أحيط بها من كل جانب، بدأت تتحرك نحو إصلاح ما أصابه الفساد، وكان نصيب الفساد للجانب الاقتصادي أكبر، حيث كان البديل الوضعي عن الاقتصاد الإسلامي هو المطبق في كل بلاد المسلمين، وبلغ الأمر إلى أن حدا ببعض المنتسبين إلى الدين أن يصدروا فتاوى بحل آثار هذا النظام الرأسمالي اليهودي من الربا ونحوه، كما أن الإحباط من إيجاد البديل الإسلامي كاد أن يعم الجميع، وهذه الظروف الصعبة قامت القائمة على الأمة التي بدأت تحارب هذا الاستعمار وتعيد الأمة إلى كتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم فبذلت المحاولات الجادة في هذا المجال من خلال الكتب والندوات والمؤتمرات الفقهية والفتاوى الجماعية بخطورة النظام الربوي حتى استطاع الفكر الإسلامي في مجال الاقتصاد أن يظهر ويثبت أقدامه، ويخطو خطوة رائعة نحو التطبيق من خلال البنوك الإسلامية، وشركات التأمين الإسلامي.

ص: 288

ومنذ ذلك الحين بدأ الفقه الإسلامي تدب فيه الحياة، ويعود إلى الحياة مرة أخرى، ويعاد إليه دوره المنشود في قيادة الأمة، وبدأ التفكير الجاد لإيجاد الحلول الشرعية لهذا الكم الهائل من النوازل والمستجدات المتراكمة، فانطلق الفقه انطلاقته الجديدة، وكثرت المؤلفات والبحوث الفقهية المعاصرة، وازدهر بالمؤتمرات والندوات والحلقات الفقهية التي أثرى بها كثير من القضايا المعاصرة، وساعد على وضوح الرؤية والاجتهادات الجماعية من خلال المجامع الفقهية بجانب الاجتهادات الفردية.

ومن هذا المنطلق يأتي دور البنك الإسلامي للتنمية ومعاهده المتخصصة في خدمة الفقه الإسلامي وتجديده من خلال فقه العمل، وفقه الحاجة وفقه النوازل وبالأخص في الاقتصاد الإسلامي وفقه المعاملات المالية.

ولذلك حينما طلب مني الأخ الكريم الدكتور عمر زهير حافظ مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية: أن أكتب بحثاً عن: " الإجارة المنتهية بالتمليك "ليلقى في 14 رمضان 1418هـ ضمن الموسم الثقافي للمعهد، لم يسعني إلا الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة، والعمل على تنفيذها بكل ما أستطيع بذله من جهد وفكر.

وسوف يتناول بحثي: الإجارة في الكتاب والسنة، لاستنباط المبادئ الأساسية لها، ثم بحثها في كتبنا الفقهية، ثم ينتهي البحث بالتطبيقات المعاصرة التي تكون الإجارة المنتهية بالتمليك أهم تطبيقاتها، ثم يختم بخاتمة تتضمن تلخيصاً للبحث ونتائج البحث وتوصياته.

والله أسأل أن يوفقنا لما فيه خير ديننا وأمتنا، ويسدد على طريق الحق خطانا، ويجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا عن الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل، إنه حسبنا ومولانا، فنعم المولى ونعم النصير.

ص: 289

القسم الأول

• التعريف بالإجارة لغة واصطلاحاً.

• الإجارة في الكتاب والسنة.

• المبادئ والأحكام المستنبطة للإجارة من الكتاب والسنة.

• مشروعيتها.

التعريف بالإجارة في اللغة والاصطلاح

الإجارة لغة:

الأجرة على العمل، ويستعمل في العقد الذي يرد على المنافع بعوض (1) وقد قال بعض العلماء: إنه قد غلب وضع الفعالة (بالكسر) للصنائع نحو الصناعة والخياطة، والفعالة (بالفتح) لأخلاق النفوس الجبلية نحو السماحة والشجاعة، و (بالضم) للمحتقرات كالكناسة والنخالة (2) .

والإيجار مصدر: آجره يؤاجره مؤاجرة وإيجاراً أي اكتراه منه، وأصله من أجر الشيء، أي أكراه، وأجر فلاناً على كذا، أي أعطاه أجراً، ومضارعه (يأجر) مضموم العين، ومنه قوله تعالى:{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ، أي تكون أجيراً لي، ويقال: أجر الله عبده أي أثابه، واستأجره أي اتخذه أجيراً، وائتجر أي طلب الثواب بصدقة ونحوها (3) .

قال الإمام الرافعي: "الإجارة

وإن اشتهرت في العقد فهي في اللغة اسم للأجرة، وهي كراء الأجير" (4) .

الإكراء:

والإكراء بمعنى الإجارة، ويستعمله الفقهاء بمعناها وهو لغة من: أكريت الدار أي آجرها فهي مكراة، ويقال: اكتريت الدار وغيرها أي استأجرت، وكذا استكريت وتكاريت وأصله من كرى النهر –بفتح الراء- كرياً أي حفر فيه حفرة جديدة، وكري الرجل –بكسر الراء- أي نام فهو كرٍ، وكري (5) .

(1) جاء في المعجم الوسيط، ط. قطر: 1/6 أنها بهذا المعنى (محدثة) أي استعملها المحدثون في العصر الحديث وشاع في لغة الحياة العامة ويراجع القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، ص436.

(2)

الذخيرة للقرافي، ط. دار الغرب الإسلامي ببيروت: 5/371.

(3)

يراجع لمزيد من التفصيل: لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط مادة (أجر) .

(4)

فتح العزيز بهامش المجموع، ط. شركة علماء الأزهر بالقاهرة: 12/176.

(5)

يراجع: لسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط مادة (كرى) .

ص: 290

الإجارة في اصطلاح الفقهاء:

عرفها الحنفية: بأنها عقد على المنافع بعوض (1)، وعرفها بعضهم بأنها: تمليك يقع بعوض (2)، وجاء في الذخيرة:"هي بيع المنافع"(3) وقال الحطاب: "وقال في اللباب: حقيقتها تمليك منفعة معلومة زمناً معلوماً بعوض معلوم

، وقول القاضي: معاوضة على منافع الأعيان؛ لا يخفى بطلان طرده

" (4) .

وقد فرق المالكية بين الإجارة والكراء فخصصوا تمليك منفعة الآدمي باسم الإجارة، ومنافع المتملكات باسم الكراء، لكن بعضهم قد يستعمل الإجارة بمعنى الكراء وبالعكس عن طريق المجاز (5) .

قال الدردير: "وهي والكراء شيء واحد في المعنى: هو تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض، غير أنهم سموا العقد على منافع الآدمي وما ينقل غير السفن والحيوان إجارة، والعقد على منافع ما لا ينقل كالأرض والدور، وما ينقل من سفينة وحيوان كالرواحل كراء"(6) .

وعرفها الشافعية بأنها تمليك المنفعة بعوض (7) .

وعرفها الحنابلة بأنها بيع المنافع (8)، وجاء في منتهى الإرادات: "الإجارة شرعاً عقد على منفعة مباحة معلومة مدة معلومة من عين معينة، أو موصوفة في الذمة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم

" (9) .

ويفهم من كلام ابن حزم الظاهري أن الإجارة عقد وارد على منفعة كل شيء له منفعة ولا يستهلك عينه (10) .

وهذه التعاريف متقاربة من حيث النتيجة، إلا أن التعريف الأخير مفصل أكثر من غيره، ومبين فيه عناصر الإجارة الأساسية.

ولا يختلف معناها في القانون عما ذكرناه، فقد عرفت المادة (558) من القانون المدني المصري الإيجار بأنه:"عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم".

بل استعمل القانون المدني العراقي التعريف الفقهي فنصت مادته (722) على أن: "الإيجار تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم لمدة معلومة، وبه يلتزم المؤجر أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالمأجور".

ويطابق تعريفه في القانون المدني السوري المادة (526) وفي القانون المدني الليبي في مادته (557) ما ذكره القانون المصري السابق (11) .

(1) يراجع: الهداية مع تكملة فتح القدير وشرح العناية، ط. مصطفى الحلبي بالقاهرة: 9/58؛ والفتاوى الهندية، ط. دار إحياء التراث العربي ببيروت، ط. رابعة 1406هـ: 4/409؛ وبدائع الصنائع، ط. الإمام بمصر: 5/2554.

(2)

حاشية ابن عابدين، ط. دار إحياء التراث العربي ببيروت عام 1407هـ: 5/2؛ ويراجع تحفة الفقهاء للسمرقندي، ط. قطر: 2/514.

(3)

هذا وقد وردت على التعريفين بعض الاعتراضات منها: أنهما غير مانعين من دخول النكاح، وقد أجاب صاحب تكملة فتح القدير: 9/58، بأن الإجارة عقد على المنافع بعوض، أو تمليك.. في حين أن النكاح عقد على العين نفسها فقال: "المملوك بالنكاح في حكم العين حتى لا ينعقد إلا مؤبداً

".

(4)

مواهب الجليل، ط. دار الكتب العلمية ببيروت عام 1417هـ: 7/493.

(5)

المرجع السابق نفسه.

(6)

الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، ط. عيسى الحلبي بالقاهرة: 4/2؛ ويراجع لمزيد من التفصيل: المدونة للإمام مالك، ط. السعادة بمصر عام 1323هـ؛ وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ط. دار الغرب الإسلامي: 2/835؛ وشرح الخرشي، ط. بولاق بمصر 1317هـ: 7/2؛ وبلغة السالك، ط. عيسى الحلبي بالقاهرة: 3/117؛ والاستذكار لابن عبد البر، ط. مؤسسة الرسالة: 21/245؛ والتمهيد لابن عبد البر، ط. مجموعة التحف والنفائس الدولية للنشر والتوزيع بالسعودية: 12/345.

(7)

الغاية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي، تحقيق د. علي القره داغي، ط. دار الإصلاح بالدمام: 2/619؛ ويراجع روضة الطالبين، ط. المكتب الإسلامي بدمشق: 5/173؛ والأم، ط. دار المعرفة: 4/14؛ وحاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلى، ط. دار إحياء الكتب العربية بمصر: 3/67؛ وفتح العزيز بهامش المجموع: 12/175؛ والحاوي الكبير، ط. دار الكتب العلمية ببيروت:7/388.

(8)

المغني لابن قدامة، ط. الرياض الحديثة: 5/433؛ ويراجع المبدع في شرح المقنع، ط. المكتب الإسلامي: 5/82.

(9)

منتهى الإرادات، مع شرح البهوتي، ط. عالم الكتب العلمية ببيروت: 2/241.

(10)

المحلي لابن حزم، ط. دار الاتحاد العربي للطباعة بمصر: 9/3.

(11)

الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري، ط. دار النهضة العربية بالقاهرة: 6/3؛ وعقد الإيجار للدكتور سليمان مرقس الطبعة الثانية بالقاهرة، 1954م، ص5.

ص: 291

الإجارة في القرآن الكريم:

ورد لفظ الأجر ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي مائة وثماني مرات، منها الآيات الواردة في سورة القصص بخصوص قصة سيدنا موسى في مدين وأخذ أجرة سقيه، ثم جعله أجرته مهراً لزوجته حيث يقول الله تعالى:{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 24-28] .

فهذه الآيات تضمنت صورة عقد متكاملة للإيجاز كما تضمنت ضوابط وآداباً للإجارة ونحوها، فالعقد قد تم بين العاقدين وهما:

سيدنا موسى عليه السلام والشيخ الكبير على أساس أن المعقود عليه هو العمل في الرعي ونحوه لمدة ثماني سنوات أو عشر سنوات في مقابل إنكاح ابنته ومهرها، والصيغة تتمثل في إيجاب الشيخ الكبير، وقبول موسى عليه السلام.

ويستفاد منها أن الإيجاب (أو القبول) يمكن أن يتحقق بفعل المضارع ما دامت القرائن تدل على الإنشاء دون الوعد، كما أن القبول قد يتم بأي صيغة تدل عليه مثل:"ذلك بيني وبينك"دون الالتزام بلفظ مخصوص، وهذا هو ما يسمى بمبدأ الرضائية في العقود.

ص: 292

كما يستفاد منها أن مدة عقد الإجارة يمكن أن تكون محددة بوقت واحد، ويمكن أن تكون على الخيار بين وقتين، حيث تم العقد في الإيجاب على أساس ثماني سنوات، أو عشر، وكان قبول موسى عليه السلام أيضاً غير محدد حيث قال:{ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي} [القصص: 28] .

ويقاس على ذلك ما إذا كان الخيار بين أكثر من وقتين مادام ذلك لا يؤدي إلى النزاع (1) .

ودلت هذه الآيات الكريمة على جواز الجمع بين عقدين في صفقة واحدة، وهما النكاح والأجرة والربط بينهما قال أبو بكر ابن العربي: "في هذا الاجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: يكره ابتداء، فإن وقع مضى.

الثاني: قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز.

والثالث: قال ابن الماجشون: إن بقي من القيمة ربع دينار جاز، وإلا فلا.

قال أبو بكر: " والصحيح جوازه وعليه تدل الآية"(2) .

وتضمنت الآيات إرشادات في غاية من الأهمية لاختيار الأجير، والوكيل، والموظف، والمدير ونحوهم، حيث قالت:{إن خير من استئجرت القوي الأمين} [القصص: 26]، فهاتان الصفتان: القوة والأمانة إذا تحققتا فيمن يوكل عليه العمل فإن النجاح يكون متحققاً بإذن الله تعالى.

فالقوة تعني القوة البدنية والفكرية والعقدية وتدخل فيها الخبرة والمعرفة والفطنة والكياسة، والمهارة، وأما الأمانة فتعني الإخلاص والغيرة والإحساس بالمسؤولية، ووجود رقابة داخلية تمنع الشخص من الخيانة والاعتداء، ومن التفريط والتقصير، والمقصود أن يتوافر في الشخص الإخلاص والاختصاص وهما جامع الخير كله.

واستعمل القرآن الكريم الأجور بدل المهور في أكثر من آية، فقال تعالى:{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25]، كما استعملها في أجور المرضعات فقال تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، كما استعمل القرآن الكريم الأجر والأجور بمعنى الثواب في الآخرة في آيات كثيرة، وبمعنى الأجر الدنيوي في مقابل العمل كما في قوله تعالى في قصة موسى والخضر:{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] .

(1) قال الرازي في التفسير الكبير، ط. دار إحياء التراث العربي ببيروت 24/242:"إن عقد النكاح وقع على أقل الأجلين فكانت الزيادة كالتبرع"كما ذكر أن ذلك من شرع من قبلنا، وتدل الآيات على أن عقد النكاح لا يفسده الشروط التي لا يوجبها العقد. والراجح: هو أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ كما هو معروف في علم الأصول.

(2)

أحكام القرآن لابن العربي، ط. دار المعرفة ببيروت: 3/1476.

ص: 293

الإيجار في السنة المطهرة:

تكفلت السنة النبوية المشرفة بتفصيل الإجارة وكثير من أحكامها وآدابها، فقد خصص البخاري أحكامها بكتاب خاص سماه: كتاب الإجارة، وذكر فيه اثنين وعشرين باباً، واشتمل على ثلاثين حديثاً، المعلق منها خمسة، والبقية موصولة، ووافقه مسلم على تخريجها سوى أربعة أحاديث، وفيه من الآثار ثمانية عشر أثراً (1) .

وكذلك فعل أبو داود في جامع سننه وقد ذكر باب استئجار الرجل الصالح، ثم باب رعي الغنم على قراريط وذكر فيه حديثاً بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)) ، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) (2) .

ثم ذكر باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام فأورد بسنده عن عائشة رضي الله عنها:"استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً". –الخريت الماهر بالهداية-.

ثم ترجم باب: إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام –أو بعد شهر أو بعد سنة- جاز، وأورد الحديث السابق للدلالة على ذلك "ثم ترجم باب الأجير في الغزو، وباب: إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ولم يبين العمل واستدل في ذلك بقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} حيث مال البخاري إلى جواز ذلك، قال الحافظ ابن حجر: "ووجه الدلالة منه أنه لم يقع في سياق القصة المذكورة بيان العمل، وإنما فيه أن موسى أجر نفسه من والد المرأتين"ثم قال: "قال المهلب: ليس في الآية دليل على جهالة العمل في الإجارة، لأن ذلك كان معلوماً بينهم، وإنما حذف ذكره للعلم به، وتعقبه ابن المنير بأن البخاري لم يرد جوازاً أن يكون العمل مجهولاً، وإنما أراد أن التنصيص على العمل باللفظ ليس مشروطاً، وأن المتبع المقاصد، لا الألفاظ (3) .

(1) فتح الباري: 4/463.

(2)

صحيح البخاري مع فتح الباري، ط. السلفية: 4/439-441.

(3)

فتح الباري شرح صحيح البخاري: 4/444.

ص: 294

ثم أورد أبواباً أخرى منها باب إثم من منع أجر الأجير، فروى فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة

ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) .

ومنها باب من استأجر أجيراً فترك أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد، أو من عمل في مال غيره فاستفضل، فروى فيه قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار (1) .

ومنها باب أجرة السمسرة: ولم ير ابن سيرين وعطاء، وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأساً، وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول بع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك، وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا، فما كان من ربح فلك، أو بيني وبينك فلا بأس به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((المسلمون عند شروطهم)) (2)

ومنها باب: هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب؟ فأورد فيه حديث خباب قال: كنت رجلاً قيناً، فعملت للعاص بن وائل..... ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك وأقره، قال المهلب: (كره أهل العلم ذلك إلا لضرورة بشرطين:

أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله.

والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين) .

وقال ابن المنير: (استقرت المذاهب على أن الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منزله، وبطريق التبعية له)(3) .

ومنها باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:((أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) ، قال الحافظ ابن حجر:"حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصله المؤلف رحمه الله في الطب واستدل به للجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم، وأجازوه في الرقي كالدواء"(4) .

(1) صحيح البخاري مع الفتح: 4/449.

(2)

صحيح البخاري مع الفتح: 4/451.

(3)

فتح الباري: 4/452.

(4)

فتح الباري: 4/453.

ص: 295

ومنها باب كسب البغي والإماء، وكره إبراهيم النخعي أجر النائحة والمغنية، ثم أورد فيه حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن.

ومنها باب عسب الفحل حيث أورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نهى عن عسب الفحل –أي أجرة نزوه-.

وختم البخاري بباب: إذا استأجر أرضاً فمات أحدهما، وقال ابن سيرين: ليس لأهله أن يخرجوه إلى تمام الأجل، وقال الحكم والحسن وإياس بن معاوية: تمضي الإجارة إلى أجلها.

وقال ابن عمر: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر، ولم يذكر أن أبا بكر وعمر جددا الإجارة بعدما قبض النبي صلى الله عليه وسلم ثم أورد أحاديث في الباب (1) .

قال الحافظ ابن حجر: "الجمهور على عدم الفسخ –أي فسخ الإجارة بموت أحد العاقدين- وذهب الكوفيون، والليث بن سعد إلى الفسخ

" (2) .

وأورد أبو داود في كتاب الإجارة في سننه عدة أبواب منها باب كسب المعلم، فأورد حديث عبادة بن الصامت الدال على حرمة الأجرة على تعليم القرآن، حيث قال: علمت أناساً من أهل الصفة القرآن والكتاب، فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها (عنها) في سبيل الله، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال وأرمي عنها (عليها) في سبيل الله؟ قال:((إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها)) (3) .

(1) يراجع صحيح البخاري مع الفتح: 4/439-463.

(2)

فتح الباري: 4/462.

(3)

سنن أبي داود مع عون المعبود، ط. مطابع المجد بالقاهرة: 9/282.

ص: 296

قال الخطابي: "اختلف قوم من العلماء في معنى هذا الحديث وتأويله، فذهب بعضهم إلى ظاهره، فرأوا أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن غير مباح، وإليه ذهب الزهري، وأبو حنيفة، وإسحاق بن راهويه، وقالت طائفة: لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي، وأباح ذلك الآخرون وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهراً: ((زوجتكها على ما معك من القرآن)) وتأولوا حديث عبادة على أنه كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه، ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع فحذره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه، وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من رد ضالة لرجل أو استخرج له متاعاً قد غرق في بحر تبرعاً وحسبة فليس له أن يأخذ عليه عوضاً، ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزاً وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس، فأخذ المال منهم مكروه، ودفعه إليهم مستحب "(1) .

وقد رجح الحافظ البيهقي حديث ابن عباس وهو: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) ، وحديث سهل بن سعد على حديث عبادة لأنهما أصح إسناداً، أما حديث عبادة ففيه الأسود بن ثعلبة، قال البيهقي: "فإنا لا نحفظ عنه إلا هذا الحديث، وهو حديث مختلف فيه على عبادة

" (2) .

ومنها باب في كسب الأطباء، وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري في أخذه الجعل على رقيته (3) .

ومنها باب في كسب الحجام، فأورد فيه حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث....)) ثم أورد حديث ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى أمره ((أن اعلفه ناضحك، ورقيقك)) ، ثم روى حديثاً آخر عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو علمه خبيثاً لم يعطه. (4)

وهذا الحديث الأخير دليل واضح على إباحة كسبه، ويحمل الخبيث في الحديث على الرذيل، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] .

وأورد البيهقي في كتاب الإجارة عدة أبواب منها جواز الإجارة فذكر فيه عدداً كبيراً من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك.

(1) عون المعبود: 9/283.

(2)

السنن الكبرى، ط. العثمانية بحيدر آباد: 6/125.

(3)

سنن أبي داود مع عون المعبود: 9/289.

(4)

المصدر السابق: 9/290.

ص: 297

ومنها باب: لا تجوز الإجارة حتى تكون الأجرة معلومة، فذكر فيه الاستدلال بحديث النهي عن بيع الغرر، من حيث إن الإجارات صنف من البيوع، ثم أورد حديثاً بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يساوم الرجل على سوم أخيه

ومن استأجر أجيراً فليعلمه أجره)) (1) .

ومنها باب إثم من منع الأجير أجره، فأورد فيه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً استوفى منه ولم يوفه)) قال البيهقي: ورواه البخاري في الصحيح عن يوسف بن محمد، ثم أورد حديث أبي هريرة بلفظ:((أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) (2) .

ومنها باب: ما يستحب من تأخير الأحمال ليكون أسهل على الجمال وغيرها، فأورد فيه قول عمر رضي الله عنه: ينادي: أخروا الأحمال؛ فإن الأيدي معلقة، والأرجل موثقة. ثم رواه مرفوعاً بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حملتم فأخروا، فإن اليد معلقة والرجل موثقة)) (3) .

ومنها باب كسب الرجل وعمله بيده، فأورد فيه حديث معدي كرب الذي رواه البخاري أيضاً، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ما أكل أحد من بني آدم طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يديه، إن نبي الله داود كان يأكل من كسب يديه)) ، ثم أورده بسنده قول عائشة رضي الله عنها: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً عمال أنفسهم. وفي رواية: كانوا يعالجون أرضيهم بأيديهم (4) .

(1) السنن الكبرى: 6/116-120.

(2)

المصدر السابق: 6/121.

(3)

المصدر السابق: 6/121-122.

(4)

السنن الكبرى: 6/127.

ص: 298

المبادئ والقيم التي تستفاد من هذه الآيات والأحاديث:

أولاً: مشروعية الإجارة، بل إثبات فضلها حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((ما أكل أحد من بني آدم طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يديه، وإن نبي الله داود كان يأكل من كسب يديه)) كما ورد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤجرون أنفسهم، وأنه ما من نبي إلا رعى الغنم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط.

وهذا المبدأ يؤكد أن العبادة (أو الأجر والثواب) لا تنحصر دائرتها في باب الشعائر والمناسك، بل هي تشمل كل عمل نافع يراد به تعمير الكون على ضوء منهج الله، ولذلك تعتبر الإجارات في مجموعها من فروض الكفايات التي لا ينبغي تركها.

ثانياً: رعاية الحقوق المتبادلة والتركيز على حق الأجير، وذلك من خلال الأحاديث الدالة على أن يبذل الأجير ما يسعه جهده حتى يعرق، وعلى أن يعطى حقه قبل أن يجف عرقه، حيث شدد الإسلام في ذلك حتى إن الله تعالى يكون خصم ذلك الرجل الذي يأخذ حقه من الأجير، ولكن لا يعطيه حقه في الأجرة المتفق عليها.

ثالثاً: استئجار الرجل الصالح القوي القادر الأمين الماهر الخريت.

رابعاً: عدم اشتراط ذكر العمل في إجارة الأشخاص حيث ترجم البخاري باب: إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ولم يبين له العمل حيث إن موسى عليه السلام أجر نفسه دون ذكر العمل.

خامساً: الاستثمار في أجرة الأجير التي تركها، حيث يكون المال كله له، وهذا من قمة الأخلاق الإسلامية.

سادساً: عدم البأس بأجرة السمسار.

سابعاً: عدم البأس من الاستئجار للكافر كقاعدة عامة.

ثامناً: جواز أخذ الأجرة على الرقية والتطبيب.

تاسعاً: عدم جواز الاستئجار في المحرمات والخبائث والشبهات.

عاشراً: الموت لا يؤثر في عقد الإجارة ومدتها ماضية حتى تنتهي.

الحادي عشر: الجمع بين الأحاديث الدالة على جواز الأجرة على تعليم القرآن والأحاديث الدالة على المنع، أو بترجيح أحاديث الجواز على المنع لأنها أصح إسناداً.

ص: 299

الثاني عشر: عدم جواز الغرر والجهالة في الإجارة.

الثالث عشر: آداب إسلامية رائعة في تأجير الدواب تدل على منتهى الرفق بالحيوان، بل تدخل السلطة لأجل عدم وقوع الظلم عليه، وهناك أحكام أخرى لا يسع المجال لذكرها.

الرابع عشر: جواز استئجار الأجير بطعامه وكسوته، ويدل على ذلك حديث عتبة بن المنذر، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم، حتى بلغ قصة موسى عليه السلام، فقال:((إن موسى أجر نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه، وطعام بطنه)) ، رواه أحمد وابن ماجه (1) .

الخامس عشر: ضرورة الحرص على أداء العمل بإخلاص وإتقان وبعلم، بحيث إذا لم يكن عالماً بمهنته فإنه يكون ضامناً للآثار التي تترتب على عمله، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) (2) .

مشروعية الإجارة:

الإجارة مشروعة، بل مطلوبة في الإسلام كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث التي ذكرناها.

وقد أجمعت الأمة على جوازها، ولكن يحكى عن أبي بكر عبد الرحمن بن الأصم أنه لا يجيزها، بناء على أن الإجارة بيع المنافع، وهي معدومة في الحال، والمعدوم لا يجوز بيعه، وأنها غرر (3) ، وكلامه هذا متعارض مع النصوص السابقة ومع الإجماع فلا يعتد به، قال ابن قدامة:"وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار، وسار في الأمصار، والعبرة أيضاً دالة عليها، فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلما جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع"(4)، وقال الكاساني:"إن الأمة أجمعت على ذلك قبل وجود الأصم حيث يعقدون عقد الإجارة من زمن الصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير، فلا يعبأ بخلافه، إذ هو خلاف الإجماع"(5) .

وذكر ابن رشد أن ابن علية مع الأصم في هذا الرأي بناء على شبهة واهية، وهي: أن المعاوضات إنما يستحق فيها تسليم الثمن بتسليم العين كالحال في الأعيان المحسوسة، والمنافع في الإجارات في وقت العقد معدومة فكان ذلك غرراً، ومن بيع ما لم يخلق.

ولكن الرد عليها جلي وهو أن طبيعة عقد الإجارة تختلف عن البيع لأنها قائمة على تحقيق المنفعة التي تستوفى في المستقبل، كما هو الحال في السلم، حيث هو عقد قائم على تسليم شيء في المستقبل (6) .

(1) رواه ابن ماجه في سننه كتاب الرهن: 2/817؛ وجاء في الزوائد: إسناده ضعيف، ورواه أحمد؛ ويراجع نيل الأوطار، ط. الطباعة الفنية بالقاهرة 1398هـ: 7/42.

(2)

سنن أبي داود مع العون، كتاب الديات: 12/329؛ وابن ماجه، كتاب الطب: 2/1148؛ وأخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.

(3)

المغني لابن قدامة: 5/433؛ وبدائع الصنائع: 5/2554.

(4)

المغني لابن قدامة: 5/433؛ ويراجع الروضة للنووي: 5/173.

(5)

بدائع الصنائع: 5/2556.

(6)

بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ط. دار الجيل ببيروت: 2/395-360؛ ويراجع المحلى لابن حزم: 9/3، حيث أسند الخلاف إلى إبراهيم بن علية فقط وقال:"وهذا باطل من قوله".

ص: 300

القسم الثاني

• الإجارة في الفقه الإسلامي.

• طبيعتها وأنواعها، وأركانها، وشروطها، وأحكامها.

• وسائلها واشتراط الشروط فيها.

• آثارها.

• كيفية فسخها.

طبيعة عقد الإجارة وصفته

عقد الإجارة من عقود المعاوضات المسماة، وهو عقد لازم عند جمهور الفقهاء حيث لا يكون لأحد الطرفين فسخها دون رضا الآخر إلا لحق خيار الشرط، أو العيب، أو نحوهما، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (1) .

ونقل عن شريح: أنها غير لازمة، وتفسخ بلا عذر لأنها إباحة المنفعة فأشبهت الإعارة، ورد بأنه القياس مع الفارق، لأن الإعارة بدون عوض، فهي تطوع وإحسان، في حين أن الإجارة معاوضة من الطرفين.

وذهب الحنفية إلى أنها عقد لازم، ولكن تفسخ بعذر طارئ، قال الكاساني:"وأما صفة الإجارة فالإجارة عقد لازم إذا وقعت صحيحة عرية عن خيار الشرط، والعيب والرؤية عند عامة العلماء، فلا تفسخ من غير عذر"(2)، وقال أيضاً: "وأما شرط اللزوم فنوعان: نوع هو شرط انعقاد لازم، ونوع هو شرط بقائه على اللزوم، أما الأول: فأنواع: منها أن يكون العقد صحيحاً، لأن العقد الفاسد غير لازم بل هو مستحق النقض والفسخ رفعاً للفساد حقاً للشرع، فضلاً عن الجواز.

ومنها: أن لا يكون بالمستأجر عيب في وقت العقد، أو وقت القبض يخل بالانتفاع، فإن كان لم يلزم العقد، حتى قالوا في العبد المستأجر للخدمة إذا ظهر أنه سارق له أن يفسخ الإجارة، لأن السلامة مشروطة فتكون كالمشروط نصاً كما في بيع العين.

ومنها: أن يكون المستأجر مرئياً للمستأجر، حتى لو استأجر داراً لم يرها ثم رآها فلم يرض بها أنه يردها، لأن الإجارة بيع المنفعة فيثبت فيها خيار الرؤية كما في بيع العين.

وأما الثاني فنوعان:

أحدهما: سلامة المستأجر عن حدوث عيب به يخل بالانتفاع به (مثل استئجار دابة ثم تعرج، أو بيت فينهدم بعضه، أو شخص فيمرض) فالمستأجر بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ، بخلاف البيع إذا حدث بالمبيع عيب بعد القبض فليس للمشتري أن يرده

فإن لم يفسخ

فعليه كمال الأجرة، لأنه رضي بالمعقود عليه مع العيب فيلزمه جميع البدل.. وإن زال العيب قبل أن يفسخ..، بطل خيار المستأجر، لأن الموجب للخيار قد زال والعقد قائم فيزول الخيار.

(1) يراجع: عقد الجواهر الثمينة: 2/859؛ والذخيرة: 5/531؛ وبداية المجتهد: 2/359-374؛ وروضة الطالبين: 5/239؛ والمغني لابن قدامة: 5/433؛ والكافي، ط. المكتب الإسلامي بدمشق: 2/315.

(2)

بدائع الصنائع: 6/2623.

ص: 301

هذا إذا كان العيب مما يضر بالانتفاع بالمستأجر، فإن كان لا يضر به بقي العقد لازماً ولا خيار للمستأجر كالعبد (الشخص) المستأجر إذا ذهبت إحدى عينيه، وذلك لا يضر بالخدمة، أو سقط شعره، أو سقط من الدار المستأجرة حائط لا ينتفع به في سكناها، لأن العقد ورد على المنفعة لا على العين..

والثاني عدم حدوث عذر بأحد العاقدين، أو بالمستأجر، فإن حدث بأحدهما، أو بالمستأجر عذر لا يبقى العقد لازماً، وله أن يفسخ، وهذا عند أصحابنا، وعند الشافعي: هذا ليس بشرط بقاء العقد لازماً، ولقب المسألة أن الإجارة تفسخ بالأعذار عندنا خلافاً له

لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر، لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد.. فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من التزام الضرر، وله ولاية ذلك.

ثم بين الكاساني تفاصيل الأعذار التي يفسخ بها العقد فقال: إن العذر قد يكون من جانب المستأجِر، وقد يكون في جانب المؤاجر، وقد يكون في جانب المستأجَر:

أما الذي في جانب المستأجر: "فنحو أن يفلس فيقوم من السوق، أو يريد سفراً، أو ينتقل من الحرفة إلى الزراعة، أو من الزراعة إلى التجارة، أو ينتقل من حرفة إلى حرفة، لأن المفلس لا ينتفع بالحانوت فكان في إبقاء العقد من غير استبقاء المنفعة إضرار به ضرراً لم يلتزمه العقد فلا يجبر على عمله".

وأما الذي هو في جانب المؤاجرة فنحو أن يلحقه دين فادح لا يجد قضاءه إلا من ثمن العين المؤجرة، وأما الذي هو في جانب المستأجر فمنه بلوغ الصبي الذي أجره أبوه أو جده، أو وصيهما، ومنها أن لا يأخذ الصبي من ثدي الظئر.

ولكن الحنفية لم يجعلوا الرخص أو التوسع من الأعذار، لأنه زيادة منفعة فلا يؤثر في العقد، فلا يجوز له أن يفسخ العقد لأجل أن أجرة الحانوت الذي أجره أغلى من غيره أو أضيق (1)، غير أنهم قالوا: إذا كانت الأجرة لأموال اليتيم، أو الوقف أقل من أجرة المثل تكون الإجارة فاسدة، وتلزم أجرة المثل (2) .

ويظهر أن الحنفية مع الجمهور في لزوم عقد الإجارة غير أن الأعذار الطارئة عندهم بمثابة العيوب التي تعطي حق الفسخ وسيأتي لذلك مزيد من التفصيل عند الحديث على فسخ الإجارة.

والأدلة من الكتاب والسنة تدل على وجوب الوفاء بالعقود، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، ولأن عقد الإجارة من عقود المعاوضات كالبيع فيجب أن يكون ملزماً، بل إن الإجارة –كما قالوا- هي بيع المنافع.

(1) بدائع الصنائع: 5/2611-2622.

(2)

انظر المادة (441) من مجلة الأحكام العدلية.

ص: 302

علاقة الإجارة بالعقود الأخرى:

1-

مع البيع:

فهي تشبه البيع من حيث إن فيها نقلاً لملكية المنفعة إلى الآخرة، لكنها تختلف عنه كثيراً لأن نقل الملكية في الإجارة خاص بالمنفعة فقط، وأنه نقل مؤقت بزمن محدد في حين أن البيع نقل لملكية المنفعة والرقبة معاً، أو لإحداهما على سبيل التأبيد، ومن جانب آخر فإن البيع لا يجوز إلا أن يكون منجزاً في حين أن الإجارة تقبل الإضافة حتى التعليق –كما سيأتي-.

ومن جانب ثالث فإن البيع يقتضي استيفاء المبيع دفعة واحدة، في حين أن الإجارة تقتضي استيفاء المنفعة خلال الزمن المحدد.

وأيضاً إنه ليس هناك تلازم بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز وبين ما تجوز إجارته وما لا تجوز، فالإنسان لا يباع، ولكنه يؤجر، والطعام لا يؤجر، ولكنه يباع (1) .

قال ابن حزم: "الإجارة ليست بيعاً.. ولو كانت بيعاً لما جازت إجارة الحر.. ولا يختلفون في أن الإجارة إنما هي الانتفاع بمنافع الشيء المؤاجرة التي لم تخلق بعد، ولا يحل بيع ما لم يخلق"(2) .

2-

مع الإعارة:

تتفق الإجارة مع الإعارة في أن كلاً منهما تمليك منفعة ولكنها تختلف معها في أن الإجارة تمليك لها بعوض، وهي بدون عوض، وفرق البعض بينهما فرقاً آخر، وهو أن الإعارة ليست تمليكاً، وإنما هي إباحة، ويترتب على ذلك آثار كثيرة (3) .

3-

مع الجعالة:

تتفق الإجارة معها في أن الجعالة عقد قائم على المنفعة أيضاً، ولكنها تختلف عنها في أنها عقد على منفعة مظنون حصولها وأن الجاعل لا ينتفع بجزء من عمل العامل، وإنما بتمام العمل، إضافة إلى أن الجعالة عقد غير لازم قبل إتمام العمل (4) .

4-

مع الاستصناع:

تتفق الإجارة مع الاستصناع في أنه أيضاً وارد على منفعة ولكنه يختلف معها في أنه عقد قائم على العمل والعين الموصوفة في الذمة (5) إضافة إلى أن دائرة الإجارة أوسع بكثير منه حيث الإجارة تكون للأعيان والأشخاص.

(1) يراجع كتاب البيع في الكتب الفقهية، والموسوعة الفقهية: 1/253، ومصطلح الإعارة منها.

(2)

المحلى لابن حزم: 9/3-4.

(3)

يراجع كتاب الإعارة في كتب الفقه، والموسوعة الفقهية: 1/253.

(4)

يراجع كتاب الجعالة في كتب الفقه، ومصطلح الجعالة في الموسوعة الفقهية.

(5)

يراجع لمزيد من التفصيل: عقد الاستصناع بين اللزوم والجواز، وبين الاستقلال والاتباع، للدكتور علي القره داغي المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته السابعة.

ص: 303

والخلاصة:

إن عقد الإجارة عقد مستقل له خصائصه وآثاره وأحكامه الخاصة، وإن هذا التشابه لا يرقى إلى درجة أن تنصهر الإجارة في بوتقة أي عقد آخر.

أنواع عقد الإجارة:

للإجارة تقسيمات باعتبارات مختلفة حيث تتفرع على كل تقسيم عدة أنواع:

التقسيم الأول- باعتبار المحل (المعقود عليه) :

1-

إجارة على الأعيان (أي غير الإنسان) .

2-

إجارة الأشخاص.

• والإجارة على الأشخاص نوعان:

1-

إجارة خاصة (أي الأجير الخاص) وهو ما كان يحصر عمله لخدمة المؤجر، بحيث لا يجوز له أن يعمل سوى عمله، وهذا قد يحدد له زمن في كل يوم كما هو الحال بالنسبة للموظفين، والعمال المستأجرين للعمل في منشأة خاصة أو لشخص وقد لا يحدد له زمن يومي مثل الخدم الذي يقع عليهم العقد لخدمة مخدوميهم لسنة أو أكثر أو أقل، لكن دون تحديد زمن يومي، فيكون كل أوقاتهم بحسب العرف لهم.

2-

إجارة مشتركة (الأجير المشترك) وهو الذي لا يكون عمله خاصاً بأحد، بل يتقبل الأعمال في ذمته من غير واحد، قال الكاساني:"وهو الذي يعمل لعامة الناس"(1) .

التقسيم الثاني-باعتبار كون العقد صحيحاً أم لا:

فالإجارة بهذا الاعتبار تقسم عند الجمهور إلى قسمين وهما:

1-

إجارة صحيحة وهي التي توافرت فيها: الأركان والشروط وانعدمت فيها الموانع والمفسدات بحيث يترتب عليها أثرها الشرعي من حق الانتفاع ونحو ذلك.

2-

إجارة باطلة وفاسدة وهي التي لم تتوافر فيها الأركان والشروط معاً، أو أحدهما، أو وجدت فيها الموانع والمفسدات.

(1) البدائع: 5/2557.

ص: 304

وعند الحنفية تقسم إلى ثلاثة أقسام:

1-

إجارة صحيحة –مثل تعريف الجمهور.

2-

إجارة باطلة: وهي التي لم تتوافر فيها الأركان والشروط، أو الأركان فقط، فالمعيار في الباطل عند الحنفية هو ما كان الخلل في الركن، وهذا النوع لا يترتب عليه أي أثر شرعي من آثار العقد.

3-

إجارة فاسدة وهي التي لم تتوافر فيها الشروط، أو وجدت فيها الموانع والمفسدات من الشروط، فالمعيار للفاسد عند الحنفية هو ما كان الخلل في الشرط، وهذا قد ترتب عليه بعض الآثار في بعض الأحوال (1) .

وهذا التقسيم له آثاره وأحكامه، نتحدث عنها عند الحديث عن أحكام الإجارة بإذن الله.

التقسيم الثالث-باعتبار كون المحل معيناً، أو موصوفاً في الذمة:

والإجارة بهذا الاعتبار سواء كانت إجارة الأعيان أم الأشخاص نوعان:

1-

إجارة واقعة على منفعة عين معينة، أو شخص معين، مثل أجرتك هذه الدار المعينة بكذا، أو يقول لشخص: أجرتك نفسي بكذا، أو يقول مدير شركة الخدمات مثلاً أجرتك هذا الشخص المشاهد لعمل كذا بكذا.

2-

إجارة واقعة على منفعة عين موصوفة في الذمة مثل أن يقول الرجل: أجرتك سيارة مواصفاتها كذا وكذا بكذا، على منفعة شخص غير معين أي موصوف في الذمة، بأن يقول مدير شركة الخدمات مثلاً: أجرتك لعمل كذا شخصاً مواصفاته ومؤهلاته وخبراته كذا بكذا.

(1) يراجع لمزيد من التفصيل حول هذا الخلاف: مبدأ الرضا في العقود، للدكتور علي القره داغي: 1/151 وما بعدها.

ص: 305

جاء في الروضة: "والإجارة قسمان: واردة على العين كمن استأجر دابة بعينها ليركبها، أو يحمل عليها، أو شخصاً بعينه لخياطة ثوب، وواردة على الذمة كمن استأجر دابة موصوفة للركوب، أو الحمل، أو قال: ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب، أو بناء الحائط فقبل، وفي قوله: استأجرتك لكذا، أو لتفعل كذا وجهان، أصحهما: أن الحاصل به إجارة عين للإضافة إلى المخاطب.. والثاني إجارة الذمة، وعلى هذا إنما تكون إجارة عين إذا زاد فقال: "استأجرت عينك، أو نفسك لكذا، أو لتعمل بنفسك كذا" (1) .

التقسيم الرابع-باعتبار اشتراط الزمن أو عدمه:

فالإجارة بهذا الاعتبار على ضربين:

1-

أن يعقدها على مدة.

2-

أن يعقدها على عمل معلوم كبناء حائط، وخياطة قميص.

وقد وضع ابن قدامة لذلك ضابطاً وهو أنه: "إذا كان المستأجر مما له عمل كالحيوان جاز فيه الوجهان، لأن له عملاً تتقدر منافعه به، وإن لم يكن له عمل كالدار والأرض لم يجز إلا على مدة، ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، لأن الجمع بينهما يزيدها غرراً، لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدة وقد لا يفرغ من العمل في المدة فإن أتمه عمل في غير المدة، وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد، وهذا غرر أمكن التحرز عنه ولم يوجد مثله في محل الوفاق فلم يجز العقد معه"(2) .

وذهب أبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية إلى جواز الجمع بين المدة والعمل، قال ابن قدامة:"وروي عن أحمد فيمن اكترى دابة إلى موضع على أنه يدخله في ثلاث فدخله في ست، فقال: قد أضر به، فقيل: يرجع عليه بالقيمة؟ قال: لا، يصالحه، وهذا يدل على جواز تقديرهما جميعاً، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، لأن الإجارة معقودة على العمل والمدة مذكورة للتعجيل، فلا يمتنع ذلك، فعلى هذا إذا فرغ من العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها، لأنه وفى ما عليه قبل مدته فلم يلزمه شيء آخر كما لو قضى الدين قبل أجله، وإن مضت المدة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة، لأن الأجير لم يف له بشرطه، وإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ، لأن الإخلال بالشرط منه فلا يكون ذلك وسيلة له إلى الفسخ كما لو تعذر أداء المسلم فيه في وقته لم يملك المسلم إليه الفسخ، ويملكه المسلم، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير كالمسلم إذا صبر عند تعذر أداء المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه، وإن فسخ العقد قبل عمل شيء من العمل سقط الأجر والعمل، وإن كان بعد عمل شيء منه فله أجر مثله، لأن العقد قد انفسخ فسقط المسمى ورجع أجر المثل "(3) .

(1) الروضة: 5/173-174؛ وحاشية القليوبي وعميرة: 3/68.

(2)

المغني: 5/438-439.

(3)

المرجع السابق نفسه.

ص: 306

وقسم بعض فقهاء الحنفية الإجارة إلى قسمين:

1-

إجارة على المنافع.

2-

إجارة على الأعمال.

قال الكاساني: "وهي في الحقيقة نوع واحد، لأنها بيع المنفعة، فكان المعقود عليه المنفعة في النوعين جميعاً، إلا أن المنفعة تختلف باختلاف محل المنفعة فيختلف استيفاؤها باستيفاء منافع المنازل بالسكنى والأراضي الزراعية، وعبيد الخدمة بالخدمة والدواب بالركوب والحمل، والأواني والظروف بالاستعمال، والصناع بالعمل من الخياطة والقصارة ونحوهما، وقد يقام فيه تسليم النفس مقام الاستيفاء كما في أجير الواحد حتى لو سلم نفسه في المدة ولم يعمل استحق الأجر"(1) .

أركان عقد الإجارة وشروطها:

للإجارة ثلاثة أركان وهي:

العاقدان (المؤجر والمستأجر) ، الصيغة (الإيجاب والقبول) ، والمعقود عليه (الأجرة والمنفعة) .

والحنفية حصروا أركانها في الإيجاب والقبول (2) .

فبالنسبة للعاقدين يشترط فيهما: العقل بلا خلاف، والبلوغ على خلاف وتفصيل ليس هذا محله، وخلاصته: أن الجمهور أجازوا للصغير المميز إنشاء عقد الإجارة بإذن وليه أو وصيه على تفصيل بينهم خلافاً للشافعية والظاهرية وأن الراجح قول الجمهور (3) ، وكذلك اشترط الجمهور عدم إكراه أحد العاقدين واشترط الحنفية للنفاذ ألا يكون العاقد مرتداً (4) ، لكن من له الولاية على المحجور عليه ينفذ تصرفه عليه بالتأجير، أو على ماله لوجود الإنابة من الشرع، وإذا بلغ الصبي قبل انتهاء المدة ففي لزوم العقد رأيان:

الأول: يبقى لازماً، أنه عقد لازم عقد بحق الولاية فلا يبطل.

والثاني: له الحق في إلغائه (5) .

(1) بدائع الصنائع: 5/2557.

(2)

هذا هو منهج الحنفية مع بقية العقود، ومع أنهم لم ينكروا بقية الأركان، لكنهم عند الذكر ذكروهما فقط، باعتبار أن الإيجاب يلزم منه وجود الموجب، والقبول وجود القابل، وأن الإيجاب والقبول لابد من تعلقهما بشيء وهو المعقود عليه، لكن هذا المنهج كما حققناه في مبدأ الرضا في العقود: 1/129 وما بعدها له دلالة على أهمية العبارة حتى تكاد تكون هي الوحيدة، وترتبت على ذلك آثار معنوية، ولم يكن الخلاف مجرد خلاف لفظي أو اصطلاحي حتى لا يكون فيه مشاحة.

(3)

يراجع للتفصيل: مبدأ الرضا في العقود للدكتور علي القره داغي، ط. دار البشائر ببيروت، ومصادره المعتمدة: 1/274-285. ويراجع في باب الإجارة: بدائع الصنائع: 5/2657؛ وشرح الخرشي: 7/2؛ والروضة: 5/173؛ والمغني لابن قدامة: 5/434؛ وحاشية الدسوقي: 4/2؛ وعقد الجواهر الثمينة: 2/835.

(4)

المغني لابن قدامة: 5/434؛ والروضة: 5/173.

(5)

يراجع: بدائع الصنائع: 5/2564؛ والشرح الصغير: 4/181-182؛ والمهذب: 1/407؛ والمغني لابن قدامة: 5/470-471.

ص: 307

الركن الثاني-الصيغة:

عرف صاحب اللباب صيغة الإجارة فقال: "هي لفظ، أو ما يقوم مقامه، يدل على تمليك المنفعة بعوض"(1) ، وقد أطال الفقهاء النفس فيها ولاسيما في الألفاظ التي تنعقد بها الإجارة مثل لفظ الإجارة والكراء، حيث تنعقد بهما دون خلاف، وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه خلاف (2) .

فجمهور الفقهاء على أن الإجارة تنعقد بأي لفظ دال على المقصود بالإجارة، لأن العبرة في العقود بالمقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني، ولذلك تنعقد بـ (وهبت منافعها لك شهراً بألف درهم) ، و (بعتها لك لمدة شهر بمائة درهم) ، أو نحو ذلك مما يفهم منه بوضوح حسب العرف السائد معنى الإجارة ومقاصدها (3) .

وكذلك تنعقد بالكتابة، وبالإشارة المفهومة بالنسبة للأخرس بالاتفاق، ولغيره على الراجح، وكذلك تنعقد بالبذل، والمعاطاة عند الجمهور، مثل لو دفع ثوبه إلى خياط ليخيطه، ففعل، ولم يتكلم أحدهما بشيء، فالإجارة صحيحة مادام ذلك معروفاً بالعرف، ويكون له أجرة المثل عند البعض، أما لو تكلم أحدهما فذكر الصيغة الدالة على المطلوب وسكت الآخر فإن العقد صحيح، ويكون له المسمى (4) .

ثم إن الصيغة يعبر عنها بالإيجاب والقبول، فالإيجاب عند الجمهور هو التعبير الصادر عن المؤجر، وعند الحنفية هو الصادر عن الأول، والقبول هو التعبير الصادر عن المستأجر، وعند الحنفية هو الصادر عن الثاني (5) .

(1) مواهب الجليل: 7/494.

(2)

يراجع: الفتاوى الهندية: 4/410؛ والموسوعة الفقهية الكويتية: 1/258؛ ويراجع لموضع الإكراه: مبدأ الرضا في العقود: 1/410 وما بعدها.

(3)

يراجع لمزيد من التفصيل في الألفاظ ومبانيها: مبدأ الرضا في العقود: 2/837-916.

(4)

الفتاوى الهندية: 4/409؛ ومواهب الجليل: 5/390؛ والروضة: 5/173؛ والمغني: 5/434؛ ويراجع لتفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود: 2/917-994.

(5)

يراجع: فتح القدير مع شرح العناية: 5/74؛ والفتاوى الهندية: 3 /4؛ ومواهب الجليل: 4/228؛ والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3/ 4؛ والمجموع للنووي: 9/162؛ والغاية القصوى: 1/457؛ والإنصاف: 4/260؛ ومبدأ الرضا في العقود: 1/126.

ص: 308

شروط صيغة الإجارة:

1-

تَنَجُّز الإجارة (عدم التعليق أو الإضافة) :

الأصل في الإجارة أن تكون منجزة وأنه لا خلاف بين الفقهاء في أن الإجارة لا تصح مع التعليق على مستقبل مجهول، مثل أن يقول: إن جاء فلان فقد أجرتك بيتي، أو إن حصلت على كذا فقد أجرتك بيتي، أو نحو ذلك.

أما إذا كان التعليق من قبيل تعليق الحط من الأجر على عمل معين فلا يضر عند الكثير من الفقهاء، مثل أن يقول لخياط: إن خطت هذا الثوب اليوم فأجرتك درهم، أو غداً فنصف درهم فهذا جائز عندهم (1) .

وأما إضافة العقد إلى المستقبل فيختلف من إجارة واردة على العين إلى إجارة واردة على الذمة، فالإجارة الواردة على العين يجوز إضافتها إلى المستقبل بأن يقول: أجرتك هذه الدار في بداية الشهر القادم، فهذا جائز عند جماهير الفقهاء خلافاً للشافعية إلا إذا كانت يسيرة جداً كأن تعقد الإجارة ليلاً لمنفعة النهار التالي فيجوز، أو كانت مستأجرة ممن هي في إجارته، على أحد القولين (2) .

وأما الإجارة الواردة على الذمة فيجوز إضافتها إلى المستقبل حتى عند الشافعية.

جاء في روضة الطالبين: "أما إجارة العين فلا يصح إيرادها على المستقبل كإجارة الدار السنة المستقبلة، والشهر الآتي، وكذا إذا قال: أجرتك سنة أولها من غد، ولو قال: أجرتك سنة، فإذا انقضت أجرتك سنة أخرى فالعقد الثاني باطل على الصحيح كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد أجرتك شهراً.

وأما الواردة على الذمة فيحتمل فيها التأجيل والتأخير كما إذا قال: ألزمت ذمتك حملي إلى موضع كذا على دابة صفتها كذا غداً أو غرة شهر كذا

وإن أطلق كانت حالة" (3) .

وهذه التفرقة من الشافعية ليس لها ما يبررها، لأن إجارة الذمة أيضاً واردة على العين أي على منفعتها، فكلتا الإجارتين واردة على المنفعة.

وجاء في المغني: "ولا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد، بل لو أجره سنة خمس وهما في سنة ثلاث، أو شهر رجب في المحرم صح"(4) .

ومنتهى دليل الشافعية القياس على البيع، وهو منقوض بجواز التأجيل في الإجارة الواردة على الذمة، كما أنه قياس مع الفارق حيث إن البيع نقل للملكية بالكامل في حين أن الإجارة لا تؤدي إلى ذلك بل تبقى الرقبة ملكاً للمؤجر فلا تقاس عليه.

واستدل الجمهور بقوله تعالى في قصة استئجار موسى عليه السلام:

{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولأن هذه مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز العقد عليها مفردة مع عموم الناس، كالتي تلي العقد، وإنما يشترط القدرة على التسليم عند وجوب التسليم كالمسلم فيه (5) .

وذلك لأن طبيعة عقد الإجارة تختلف عن البيع من حيث الآثار –كما ذكرنا- حيث هي مرتبة بزمن محدد، لذلك لا تتعارض مع تأخير بدء الاستيفاء عن إجراء العقد.

(1) الكافي: 2/292؛ ومطالب أولي النهي: 3/77؛ ونهاية المحتاج: 5/259؛ وبدائع الصنائع: 5/2586.

(2)

الروضة: 5/182؛ وحاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلى: 3/71، حيث جاء فيه:"ويجوز تأجيل المنفعة في إجارة الذمة إلى مكة أول شهر كذا، ولا تجوز إجارة عين لمنفعة مستقبلة، فلو أجر الثانية لمستأجر الأولى قبل انقضائها جاز في الأصح".

(3)

الروضة: 5/182.

(4)

المغني لابن قدامة: 5/436؛ والفتاوى الهندية: 4/410؛ والشرح الصغير: 4/30.

(5)

المغني لابن قدامة: 5/436.

ص: 309

2-

موافقة القبول للإيجاب في جميع جزئياته بأن يقبل ما أوجبه الطرف الأول، وإلا فإن غير فيعتبر إيجاباً جديداً يحتاج إلى قبول الآخر، فلو قال: أجرتك شهرياً بألف، فقال المستأجر: قبلته بخمسمائة، لم ينعقد العقد إلا إذا كان داخلاً في قوله وراضياً به بطريق أولى، مثل أن يقول: أجرتك بألف، فقال: قلت بألف وخمسمائة أو نحو ذلك فهذا جائز، لأن الألف داخل في الألف وخمسمائة، ولأنه راض به بطريق أولى (1) .

3-

اتصال القبول بالإيجاب في مجلس العقد، لأنه جامع المتفرعات إذا كانا حاضرين، أو في مجلس العلم إن كانا غائبين، وهناك تفاصيل حول هذه المسألة تذكر في نظرية العقد (2)

والإجارة تنعقد بالكتابة، وبإشارة المعذور كما تنعقد باللفظ الدال على المطلوب، وكذلك تنعقد بالبذل والطاعة كالركوب في باخرة المسافرين، وسيارات الأجرة دون تلفظ من أحد العاقدين، فإن كانت الأجرة معلومة أعطيت وإلا فأجرة المثل (3) .

وكذلك تنعقد بالسكوت كأن يقول المؤجر: أجرتك داري بمائة فسكت المستأجر سكوتاً يفهم منه الموافقة أو قال: لا بل بثمانين ديناراً فسكت المؤجر تم العقد (4) .

وتنعقد كذلك إجارة الفضولي عند من يجيز عقوده موقوفة على إجازة من بيده حق التصرف (5) .

الركن الثالث- المعقود عليه:

ورد عن بعض فقهاء الشافعية أن محل الإجارة: الأعيان المعينة، أو الموصوفة في الذمة أو الأشخاص (6) ، وذلك لبيان مرجع المنفعة وإلا فإن الإجارة لا تقع إلا على المنفعة، فهي هدفها الأساسي ومقصدها الأصلي، ولكن بما أن هذه المنفعة لابد لها من محل يتعلق به من عين معينة، أو موصوفة في الذمة، أو الشخص فقد يعبر عنها بمحلها ومتعلقها، ولذلك فما يقال من أن محل الإجارة على الأشخاص العمل لا يتعارض مع ما ذكرنا، لأن العمل أيضاً هو المنفعة والأثر الناتج عن الشخص، ومن هنا فالمنفعة هي المقصود الأساسي من العقد، وهي مع الأجرة التي هي عوض عن المنفعة طرفا المعقود عليه، جاء في حاشية القليوبي تعليقاً على قول النووي: واردة على عين: أي على منفعة متعلقة بعين، كما ذكره بعده فمورد الإجارة المنفعة مطلقاً، وقيل: موردها في المعين: العين، قال الشيخان: "والخلاف لفظي

" (7) .

(1) يراجع للتفصيل في ذلك: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة: 2/1021، 1075، 1095.

(2)

مبدأ الرضا في العقود: 2/1076.

(3)

انظر المادة (437) من مجلة الأحكام العدلية ط. شعاركو، ص84.

(4)

انظر المادة (438) من المجلة؛ ويراجع: مبدأ الرضا في العقود: 2/965 وما بعدها.

(5)

المادة (461) من المجلة، ويراجع: مبدأ الرضا في العقود: 1/152.

(6)

قال في المغني 5/434: "إن المعقود عليه المنافع، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم: مالك وأبو حنيفة، وأكثر أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن المعقود عليه العين، لأنها الموجودة والعقد يضاف إليها فيقول: أجرتك داري كما يقول بعتكها".

(7)

حاشية القليوبي على شرح المحلى على المنهاج: 3/68.

ص: 310

ونحن هنا نتحدث بإيجاز عما يتعلق بالأجرة والمنفعة من حيث الشروط وغيرها في مبحثين:

المبحث الأول

الأجرة

القاعدة العامة هنا هي: أن كل ما صح أن يكون ثمناً في البيع صح أن يكون أجرة في الإجارات (1) ، سواء كان نقداً (دراهم، ودنانير) أو عيناً، أو منفعة، ولذلك اشترط الجمهور في الأجرة ما اشترط في الثمن (2) .

قال الرافعي والنووي: "يجوز أن تكون الأجرة منفعة سواء اتفق الجنس كما إذا أجر داراً بمنفعة دار، أو اختلف بأن أجرها بمنفعة شخص، ولا ربا في المنافع أصلاً حتى لو أجر داراً بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب جاز، ولا يشترط القبض في المجلس"(3) ، ومنع الحنفية أن تكون الأجرة منافع (4) .

وقد أجاز المالكية أن تكون الأجرة من نفس الشيء الذي يعمل فيه الأجير مثل أن يستأجره لطحن إردب بدرهم وقفيز من دقيقه، ولعصر الزيتون بنصف الناتج، لأنهما لا يختلفان بعد العصر، ولجواز بيع نصفها كذلك، فإن كان يختلف امتنع، قال القرافي:"وتمتنع الإجارة على سلم الشاة بشيء من لحمها لأنه مجهول قبل السلخ.."وعن أبي الحسن: إذا دبغ جلوداً بنصفها قبل الدباغ على أن يدفعها كلها، فإن فاتت بالدباغ فعلى الدباغ نصف قيمتها يوم قبضها، وله أجرة المثل في النصف الآخر لحصول العمل، وإن دبغها بنصفها بعد الدباغ فدبغت فهي كلها لربها، لفساد العقد بسبب الجهالة بحال المدبوغ، وللدباغ أجرة مثله..

ويجوز على قول أشهب الإجارة على الذبح، أو السلخ برطل لحم، لأنه يجوز بيع ذلك اعتماداً على الجنس (5) .

(1) الذخيرة حيث ذكر هذه الكلية وأسندها إلى الأئمة دون خلاف: 5/376؛ والروضة: 5/176؛ والمغني لابن قدامة: 5/441؛ والبدائع: 6/2606.

(2)

التاج والإكليل لمختصر خليل بهامش موهب الجليل، ط. دار الكتب العلمية ببيروت: 7/494؛ والفتاوى الهندية: 4/412؛ وبدائع الصنائع: 6/2606؛ ونهاية المحتاج: 5/322؛ والمغني لابن قدامة: 5/440-441.

(3)

الروضة: 5/176.

(4)

بدائع الصنائع: 6/2608.

(5)

الذخيرة للقرافي: 5/376-377.

ص: 311

تعليق الإجارة على أحد الأمرين، أو النسبة:

وأجاز بعض الحنفية بعض صورها مثل أن يدفع إلى الحائك غزلاً ينسجه بالنصف حيث أجازه مشايخ بلخ (1) ، وتوسع الحنابلة في ذلك إذا كان بجزء شائع (2) ، ومنعه الشافعية وجمهور الحنفية (3) .

ومنع المالكية أن تكون الأجرة مترددة بين أمرين بأن يقول إن خطته اليوم فبدرهم، أو غداً فبنصف درهم، أو خياطة رومية فبدرهم، أو عربية فنصف درهم، لأنه كبيعتين في بيعة، فإن خاط فله أجرة مثله لفساد العقد، وقيد بعضهم بأن لا تزيد على المسمى، وعن مالك في أجراء يخيطون مشاهرة فيدفع لأحدهم الثوب على إن خاطه اليوم فله بقية يومه، وإلا فعليه تمامه في يوم آخر، ولا يحسب له في الشهر: يجوز في اليسير الذي لو اجتهد فيه لأتمه، ويمتنع في الكثير، ولو استأجره على تبليغ كتابه إلى بلده ثم قال بعد الإجارة: إن بلغته في يوم كذا فلك زيادة كذا، فكرهه، واستحسنه في الخياطة بعد العقد، قال ابن مسعدة: هما سواء، وقد أجازهما سحنون وكرههما غيره.

وأما الحنفية فلديهم خلاف وتفصيل في هذه المسألة، حيث ذهب أبو حنيفة –رحمه الله إلى أن الشرط الأول (اليوم) صحيح، والثاني (غداً) فاسد حتى لو خاطه اليوم فله درهم، وإن خاطه غداً فله أجر مثله، وقال أبو يوسف: الشرطان جائزان، وقال زفر: الشرطان باطلان (4) .

إذن ففي المسألة أربعة مذاهب:

المذهب الأول: العقد فاسد، والشرط باطل وهو رأي المالكية –على التفصيل السابق- والشافعية، وزفر (5) .

المذهب الثاني: العقد صحيح، والشرطان صحيحان، وهو رأي الصاحبين وأحمد في رواية (6) .

المذهب الثالث: الشرط الأول صحيح، والثاني فاسد، وله أجر مثله، وهو رأي أبي حنيفة في ظاهر الرواية (7) .

المذهب الرابع: مثل الرأي الثالث، ولكن في اليوم الثاني له أجر مثله لا يزداد على نصف درهم، وهو إحدى روايتي ابن سماعة في نوادره، عن أبي يوسف، وأبي حنيفة (8) .

(1) الفتاوى الهندية: 4/445.

(2)

المغني لابن قدامة: 5/442.

(3)

الروضة: 5/176؛ والفتاوى الهندية: 4/445.

(4)

بدائع الصنائع: 5/2584.

(5)

الذخيرة: 5/377؛ والروضة: 5/175؛ والبدائع: 5/2585.

(6)

بدائع الصنائع: 5/2585.

(7)

البدائع: 5/2584؛ والكافي لابن قدامة: 2/392؛ والمغني لابن قدامة.

(8)

المصدر السابق نفسه.

ص: 312

وحجة القائلين بفساد العقد تكمن في أن ذلك يدخل في اجتماع شرطين في العقد، أو صفقتين في صفقة واحدة، وهذا منهي عنه.

ولكن التحقيق أن المراد بهما هو اجتماع السلف مع البيع أو الإجارة (1) .

وأما حجة القائلين بالجواز هو أن هذا الشرط، أو الشرطين ليس فيه، أو فيهما مخالفة لنص من الكتاب والسنة، ولا لمقتضى العقد، ولا يؤدي ذلك إلى غرر، وجهالة تؤدي إلى نزاع، لذلك؛ فالراجح هو المذهب الثاني، لما ذكرنا، ولأن الأصل في الشروط الصحة إلا إذا دل دليل على فسادها، ولا دليل هنا على ذلك، بل يحقق غرضاً مشروعاً، وقد ذكر الكاساني أن العاقد سمي في اليوم الأول عملاً معلوماً، وبدلاً معلوماً، وكذلك في اليوم الثاني، فلا معنى إذن لفساد الشرط فضلاً عن فساد العقد (2)، ولأنه سمى لكل عمل عوضاً معلوماً كما لو قال: كل دلو بثمر، إضافة إلى أن التعجيل والتأخير مقصودان فينزل منزلة اختلاف النوعين (3) .

وأجاز مالك أن تكون الأجرة الكسوة بأن يستأجره على أن يكسوه أجلاً معلوماً، وبالمقايضة بأن يدفع خمسين جلداً على أن تدبغ خمسين أخرى مثلاً، ولم يجيزوا الكراء بمثل ما يتكارى الناس للجهالة، ولا إكراء الدابة بنصف الكراء، وإذا عمل فله أجرة مثله، وأجازه يحيى بن سعيد، وكذلك أجاز أن يقول: احتطب على الدابة، ولي نصف الحطب، أو لي نقلة، ولك نقلة (والأخيرة أجازها الجميع لأن مقدار النقلة معلوم عادة، ومقدار الحطب يختلف)، وجوز ابن القاسم: اعمل عليها اليوم لي، وغداً لك، وأجاز أشهب: احمل طعاماً إلى موضع كذا ولك نصفه، وأجازوا كذلك أن تختلف الأجرة من شهر أو يوم إلى آخر بأن تكون أجرته في الشهر الأول خمسة، وفي الثاني ستة أو بالعكس (4) .

عدم تسمية الأجرة، ثم التراضي:

أجاز مالك في رواية لابن يونس عنه عدم ذكر الأجرة في العقد، ثم إرضاء الأجير (5) ، وهذا مبني على العرف، وعلى أن الأساس هو التراضي.

والخلاصة: أن الشرط الأساسي في الأجرة هو أن تكون معلومة علماً يدرأ جهالة مؤدية إلى النزاع من خلال التعيين، أو الوصف ببيان الجنس، والنوع، والقدر، وذلك للأحاديث الواردة في نفي الغرر والجهالة (6) .

(1) يراجع للتفصيل في معاني الأحاديث الواردة في هذا المجال بحثنا المنشور في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة بعنوان: أحاديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة فقهها وتخريجها.

(2)

البدائع: 5/2585.

(3)

العناية شرح الهداية: 7/131.

(4)

الذخيرة: 5/385.

(5)

الذخيرة: 5/378؛ ومواهب الجليل: 7/494.

(6)

يراجع السنن الكبرى للبيهقي: 6/120-121.

ص: 313

المبحث الثاني

المنفعة

ويشترط في المنفعة التي تكون محلاً للإجارة الشروط التالية:

1-

أن تكون معلومة علماً تندفع به الجهالة المؤدية إلى النزاع، وذلك ببيان محل المنفعة، وبيان مدتها إلا إذا كانت الإجارة مرتبطة بإنهاء عمل، وببيان العمل في استئجار الصناع والعمال، وهناك تفاصيل تخص إجارة الأعيان والمنافع لا يسع البحث لذكرها (1) هنا.

إجارة المجهول للحاجة (أو الإجارة بالنسبة المئوية) :

ذكر ابن رشد أن طائفة من السلف، وأهل الظاهر ذهبوا إلى جواز إجارة المجهولات مثل أن يعطي دابته لمن يسقي عليها بنصف ما يعود عليه قياساً على المضاربة (2) ، وهذا مذهب أحمد وابن سيرين، وإليه مال البخاري (3) .

2-

أن تكون المنفعة متقومة أي أن تكون لها قيمة مقصودة حسب العرف، فلا تصح إجارة التافه الحقير الذي لا يقابل بالمال، وذكر بعض الفقهاء من أمثلتها استجار تفاحة للشم (4) .

3-

أن تكون مباحة الاستيفاء، فلا تكون معصية ممنوعة ولا طاعة واجبة، وهذا الشرط فيه تفصيل وخلاف (5) .

4-

أن تكون مقدورة الاستيفاء حقيقة وشرعاً، فلا تصح إجارة المغصوب من غير الغاصب (6) .

5-

أن لا تستهلك العين المؤجرة بالإجارة مثل الطعام (7) .

بطلان عقد الإجارة وفساده:

من المعلوم فقهاً أن الحنفية فرقوا بين الباطل والفاسد، فقالوا: الباطل ما كان الخلل في أصله (أي ركنه) والفاسد ما كان الخلل في وصفه (أي شرطه) ، لكن الجمهور لم يفرقوا بينهما فإذا اختلت الأركان أو الشروط، أو كلاهما فإن الإجارة تصبح باطلة أو فاسدة (8) .

(1) يراجع للمزيد: بدائع الصنائع: 5/2569؛ والذخيرة: 5/415؛ والروضة: 5/188؛ والمغني: 5/462.

(2)

بداية المجتهد: 2/371.

(3)

المغني لابن قدامة: 5/446؛ وصحيح البخاري-مع الفتح: 4/451.

(4)

يراجع: الفتاوى الهندية: 4/411؛ والذخيرة: 5/400؛ والروضة: 5/177؛ والمغني لابن قدامة: 5/433.

(5)

يراجع: بدائع الصنائع: 5/2561؛ ومواهب الجليل: 7/548؛ والذخيرة: 5/396؛ وروضة الطالبين: 5/184؛ والمغني: 5/549.

(6)

المصادر السابقة نفسها.

(7)

الفتاوى الهندية: 4/411؛ ومواهب الجليل: 7/448؛ والروضة: 5/184؛ والمغني: 5/552.

(8)

يراجع لمزيد من التفصيل: مبدأ الرضا في العقود للدكتور علي القره داغي: 1/155-177 ومصادره المعتمدة.

ص: 314

الخيارات في عقد الإجارة:

بما أن عقد الإجارات من المعاوضات المالية الملزمة للطرفين فَيَرِدُ عليها عدد من الخيارات مثل خيار المجلس عند الشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية والمالكية (1) .

ومنها خيار الشرط لزمن اختلف فيه الفقهاء بين محدد بثلاثة أيام، أو شهرين أو أكثر بحيث يكون للشارط حق الخيار في المدة المتفق عليها ويكون العقد غير ملزم بالنسبة له خلال تلك المدة، ثم إذا لم يفسخ العقد يصبح العقد باتاً ملزماً (2) .

ومنها خيار العيب، حيث يكون للعاقد الحق في الفسخ إذا وجد في المأجور عيباً تنتقص به المنفعة المقصودة في الإجارة (3) .

ومنه خيار الرؤية، وهو يثبت لمن لم يرد الشيء المعقود عليه عند من يقول به (وهم جمهور الفقهاء) وعند بعضهم إذا وصفه بأوصافه ثم وجد عليها فلا خيار له (4) .

إيجار المستأجر العين المستأجرة لآخر بعد القبض وقبله:

هناك تفصيل وخلاف، ولكن الجمهور على جواز ذلك سواء أكانت الأجرة في العقد الثاني أكثر من الأجرة في العقد الأول أم أقل مادامت العين المؤجرة قد قبضت (5) .

وأجاز المالكية، ووجه للشافعية، ووجه للحنابلة، جواز التصرف في العين المستأجرة قبل القبض بإيجارها لآخر مطلقاً، وقيد الحنفية ذلك بالعقار دون المنقول (6) .

الضمان في الإجارة:

يكاد الفقهاء يتفقون على أن يد المستأجر على العين المستأجرة في إجارة الأعيان يد أمانة، لا يد ضمان، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، أو مخالفة الشروط، أو العرف (7) .

وأما الإجارة على الأعمال فالأجير المشترك ضامن عند جماعة من الفقهاء، والأجير الخاص غير ضامن عند الجمهور إلا في حالات التعدي أو التقصير أو المخالفة (8) .

(1) يراجع: فتح القدير: 5/81؛ وشرح الخرشي: 4/109؛ والمجموع: 9/184؛ والمغني: 3/563.

(2)

يراجع: فتح القدير: 5/110؛ وشرح الخرشي: 4/19؛ والمجموع: 9/225؛ والمغني: 4/520.

(3)

يراجع: الفتاوى الهندية: 4/72-73؛ وتكملة المجموع: 12/175؛ والمبسوط: 13/105؛ وبداية المجتهد: 2/175؛ ويراجع للتفصيل: الخيار وأثره في العقود للدكتور عبد الستار أبو غدة، ط. دلة البركة، ص192؛ وتراجع المجلة في موادها (497-506) .

(4)

يراجع: فتح القدير: 5/137؛ وحاشية الدسوقي: 3/27؛ والمجموع: 9/330؛ والمغني: 3/494؛ ود. عبد الستار أبو غدة، المرجع السابق، ص493.

(5)

الفتاوى الهندية: 4/425؛ والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 4/7؛ والمهذب: 1/403؛ والمغني: 5/478.

(6)

حاشية ابن عابدين: 5/56؛ وحاشية الدسوقي: 4/807؛ والمصادر السابقة.

(7)

بدائع الصنائع: 6/2644؛ والذخيرة: 5/502؛ والروضة: 5/226؛ والمغني لابن قدامة: 5/525.

(8)

يراجع للتفصيل والخلاف: بدائع الصنائع: 6/2644؛ والدسوقي على الشرح الكبير: 4/81؛ والروضة: 5/228؛ والمغني: 5/527؛ والفتاوى الهندية: 4/410؛ والذخيرة: 5/502.

ص: 315

القسم الثاني

الإجارة المنتهية بالتمليك

الإيجار المنتهي بالتمليك

يستعمل هذا المصطلح وكذلك مصطلح: (الإجارة المنتهية بالتمليك) و (الإجارة التمليكية) و (التأجير المنتهي بالتمليك) فالكل بمعنى واحد وهو أن يتفق الطرفان على إجارة شيء لمدة معينة بأجرة معلومة قد تزيد على أجرة المثل، على أن تنتهي بتمليك العين المؤجرة للمستأجر.

وهو كما ترى يشبه بيع التقسيط من حيث المقصد الخاص للمتعاقدين ولكنه مختلف عنه تماماً، لأنه يتكون من عقدين عقد الإجارة وعقد البيع أو الوعد بالبيع أو الهبة، كما أنه لا يلاحظ في بيع التقسيط أي تناسب مع قيمة الإيجار، وإنما ينظر إلى توزيع الثمن على الوقت المحدد، كما أنه يختلف عن الإجارة العادية (التشغيلية) التي لا يقصد منها التملك ولكنه متفق معها في الأسس العامة وتطويرها (1) ، وهي صيغة استثمارية معاصرة تتلاءم مع التطوير الاقتصادي في العالم، وطورتها البنوك الإسلامية، وبالأخص بنك التنمية الإسلامي في تعامله مع الدول الإسلامية، واقتضاها التنوع في التمويل الاستثماري لتلبية حاجات المتعاملين مع البنوك الإسلامية من المستثمرين والأفراد الراغبين في التملك وغير القادرين على الشراء مباشرة مع الحفاظ على حقوق البنوك الإسلامية.

وهو صيغة لا يقصد بها الاستمرار في عقد الإجارة، أو عودة العين المؤجرة إلى المؤجر بعد انتهاء المدة المتفق عليها –كما هو الحال في عقد الإجارة العادية- وإنما يراد من خلالها تملك المستأجر العين المؤجرة بعد مدة الإجارة مباشرة، أو من خلال تملكه نسبة شائعة منها شهرياً أو سنوياً (بالتدرج) فتطفأ الحصص في آخر المدة المتفق عليها، ويصاغ ذلك من خلال اتفاقية مسبقة تتضمن هذا العقد مع وعد بالبيع، أو الهبة في آخر المدة.

ونحن هنا نذكر جميع الصور المتاحة لنا واحدة واحدة مع تكييفها الشرعي، والقانوني، ثم ما يرد عليها من إشكالات أو شبهات لمناقشتها، للوصول إلى الرأي الراجح الذي يدعمه الدليل، ثم نذكر بعض العقود المطبقة في بعض البنوك الإسلامية، ثم نختم هذا المبحث بالبدائل الممكنة المحققة لمثل هذه الأغراض المنشودة بعقد الإجارة المنتهية بالتمليك (2) .

(1) ذكر القانونيون باسم (الإيجار الساتر للبيع) أو البيع التجاري أو الإيجار المملك، ويراجع لتفصيل ذلك: الوسيط للدكتور السنهوري: 4/177؛ والبيع بالتقسيط والبيوت الائتمانية الأخرى للدكتور إبراهيم دسوقي أبو الليل، ط. جامعة الكويت 1984م، ص303 وما بعدها؛ وبحوث مجمع الفقه في دورته الخامسة المطبوعة في مجلته، العدد الخامس: 4/2595 وما بعدها.

(2)

عز الدين خوجة: أدوات الاستثمار الإسلامي، ط. دلة البركة، ص84؛ ود. محمد عثمان شبير: مرجع سابق، ص280؛ ود. حسن الشاذلي: الإيجار المنتهي بالتمليك، بحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة، 1409هـ.

ص: 316

نبذة تاريخية:

تعود فكرة البيع الإيجاري (الإيجار المنتهي بالتمليك) إلى القانون الإنجليزي حيث لجأ أحد التجار بإنجلترا إلى هذه الطريقة المعروفة في القانون الإنلجو أمريكي باسم (Hir-Pur Chass) قاصداً رواج مبيعاته بتشجيع عملائه على الشراء بالتقسيط مع وجود ضمان كاف للتاجر نفسه حيث تبقى ملكيته للعين، ثم ما لبثت هذه الطريقة أن انتشرت نتيجة إنتاج الصناعات الكثيرة فلجأ إليها العديد من المصانع الكبيرة لتسويق مصنوعاتها مثل مصنع سنجر حيث كان يتعامل مع عملائه عن طريق عقد إيجار يتضمن إمكانية تملك الآلات المؤجرة بعد تمام سداد مبلغ معين يمثل في حقيقته ثمناً لها، ثم تطور هذا العقد عن طريق مؤسسات السكك الحديدية التي كانت تشتري مكائن خاصة لمناجم الفحم من خلال البيع الإيجاري (1) ، ثم تزايد انتشار هذا العقد مما دفع بالمشرعين إلى تنظيمه بنصوص قانونية، وذلك منذ بداية هذا القرن.

فقد تناوله فقهاء القانون تحت مسميات الإيجار الساتر للبيع، أو البيع الإيجاري، أو الإيجار المملك، وذلك عند شرحهم للمواد القانونية الخاصة به مثل المادة (430) من القانون المدني المصري، والمادة (398) من القانون المدني السوري، والمادة (419) من القانون المدني الليبي، والمادة (534) من القانون المدني العراقي، والمادة (140) من القانون المدني الكويتي (2) .

عقد الليزنج:

وقد تطور الإيجار الساتر، أو البيع الإيجاري في القانون الأنجلو أمريكي عندما دخلت المؤسسات المالية كوسيط بين العاقدين، وقامت بتمويل عملياتها التي سميت بعقد الليزنج (Leasing) أو ما يسمى في القانون الفرنسي بهذا المسمى؛ وبمسمى الإيجار الائتماني (Credit Boil) ، بل سميت هذه المؤسسات نفسها بمؤسسات الليزنج، وكانت بداية هذا العقد في أمريكا عام 1953م، ثم في فرنسا عام 1962م، ولم يظهر في القانون المصري إلى اليوم (3) .

(1) د. إبراهيم دسوقي أبو الليل: البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى، ط. جامعة الكويت، 1984م، ص304.

(2)

د. السنهوري: الوسيط، ط. دار النشر للجامعات المصرية: 4/177.

(3)

د. إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق، ص307.

ص: 317

وقد امتازت هذه الصورة بتدخل طرف ثالث وهي المؤسسات المالية التي تقوم بشراء الأشياء التي هي في الغالب تجهيزات وصناعات كالطائرات، والقطارات، والسفن، والدور، ونحو ذلك ولكنها لا تريدها لنفسها، بل تشتريها لهذا الغرض، حيث تقوم بتأجيرها لمن يتعاقد معها لفترة مناسبة للطرفين طويلة –في الغالب) وقد يجددها لفترة أخرى، ثم يقوم المستأجر بإعادة الشيء المستأجر إلى المؤسسة، أو بتملكه مقابل ثمن يراعي في تحديده المبالغ التي دفعها كأقساط إيجار، فليس في عقد الليزنج إلزام بشراء العين المؤجرة، وكذلك تظل مملوكة للمؤسسة.

والجديد في الليزنج هو تدخل مؤسسة الليزنج التي لا تريد شراء هذه المعدات، وإنما تريد تحقيق الأرباح من خلال هذه العملية، ولذلك يقوم المستأجر نفسه بتحديد الأشياء التي يريدها، ومواصفاتها، بل قد توكله المؤسسة للقيام بشراء هذه الأشياء باسمها، فهو وكيل فمستأجر، لذلك يوجد بجانب عقد التأجير عقد التوريد طرفاه الصانع، أو المورد، ومؤسسة الليزنج التي تحتفظ بملكية هذه الأشياء، وهي تنظر إلى كيفية استرجاع رأسمالها مع أرباحها، آخذة بنظر الاعتبار نوعية هذه الآلات والمعدات وعمرها الافتراضي والأقساط التي تتسلمها، مع قيمتها بعد انتهاء مدة الإيجار مع إتاحة حق الشراء الاختياري للمستأجر في نهاية العقد بأسعار تحدد بعد منذ البداية، أو بأسعار السوق السائدة، وتحميله تكاليف الصيانة والإصلاح والتأمين وغيرها (1) .

ولذلك عرف القانون الفرنسي الصادر في 2 يوليو 1966م عقد الليزنج بأنه عمليات تأجير المعدات والتجهيزات والآلات والعقارات ذات الاستعمال الصناعي، والمشتراة خاصة بقصد هذا التأجير من قبل شركات تبقى محتفظة بملكية هذه التجهيزات، ويكون من شأن هذه العمليات أن تخول المستأجر الحق في شراء التجهيزات (2) .

(1) د. إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق، ص318.

(2)

المرجع السابق، ص320.

ص: 318

مزايا الليزنج (البيع الإيجاري) :

أصبح الليزنج وسيلة جيدة لتمويل التجهيزات ساعدت على تنشيط المشروعات الصناعية، والتجارية، وتدوير السيولة وتحققت له مكانة مرموقة في الأسواق العالمية حيث حقق معدل نمو مرتفع للغاية، فقد بلغ معدل نموه في أوروبا الغربية وحدها على سبيل المثال (800 %) خلال الفترة من عام 1970 إلى عام 1979م، وتقدر الاستثمارات الأوروبية التي تتم حالياً عن طريقه (8 %) من إجمالي الاستثمارات، وفي عام 1981م بلغ رأس مال الشركات العاملة في مجال التأجير في الدول الصناعية (55) مليار دولار (1) ، وبذلك قد فاق كل وسائل التمويل الأخرى، وذلك لما يتمتع به من مزايا مقارنة بوسائل التمويل التقليدية الأخرى، وهذه المزايا هي:

1-

يهتم نشاط الليزنج بالدرجة الأولى بمقدرة التدفقات النقدية للمستأجر على السداد دون التركيز على حجم أصوله ومقدار رأس ماله.

2-

احتفاظ شركات الليزنج بملكية الأصل موضوع الإيجار يجعلها تتغاضى عن كثير من الضمانات التي تطلب في حالة التمويل النقدي.

3-

تكون شروطه في الغالب أفضل وسائل التمويل المتاحة حيث تقدم المؤسسة (الطرف الثالث) في الغالب ما يقرب من (100 %) من التمويل المطلوب في حين أن التمويل التقليدي لا يتجاوز في أغلب الأحيان (70 %) مما يدفع المقترض المستفيد أن يبحث عن السيولة لتغطية الباقي (30 %) .

4-

يحقق مرونة أكثر في تقدير أقساط الأجرة مقارنة بأقساط سداد القروض في حالة التمويل التقليدي، وذلك لأن شركات الليزنج تركز على تحليل قدرة التدفقات النقدية على الوفاء بالتزامات المستأجر.

5-

يقوم المستأجر في إطار نشاط الليزنج بتزييل كافة مدفوعاته مقابل استقلال الأصل محل الإيجار من حسابات الأرباح والخسائر الخاصة بشروطه.

(1) وأما بالنسبة لتوزيع هذه الشركات في نفس العام 1981م كالآتي: (35) شركة في هونج كونج، و (18) شركة في أندونيسيا و (9) في كوريا، و (53) في ماليزيا، و (16) في الفلبين، و (33) في سنغافورة، و (50) في تايوان

وهكذا.

ص: 319

6-

لا تؤثر الاستفادة من الليزنج على قدرة المستأجر على الاستفادة من وسائل التمويل الأخرى، وذلك لأن التزاماته الناشئة عن عقد الليزنج تكيف على أساس كونها أحد مصروفات التشغيل، ولا تدخل عند حساب معدلات المديونية، وبالتالي لا تؤثر على القدرة الائتمانية للمستأجر.

7-

تفادي القيود التي تلتزم بها البنوك في تمويلها للمشروعات، أو إقراضها حيث جعلتها عاجزة عن إشباع حاجة الائتمان في مختلف صوره.

8-

يدفع عجلة التنمية إلى الإمام لما يتمتع به من تسهيلات كبيرة تؤدي إلى تذليل مشكلات التشييد والمرافق التي ترجع أساساً إلى ضعف إمكانيات أجهزة المقاولات الحالية (1) .

وقد نشرت الأهرام في أغسطس 1983م، أن هيئة سوق المال بالاشتراك مع بنك مصر إيران للتنمية تعتزم إدخال نظام الليزنج كوسيلة تمويلية فعالة مستحدثة في مصر فقالت:

"ذلك أنه بالرغم من أن صدور قانون الاستثمار والمناطق الحرة كان إيذاناً بتحرك قوي على مدارج النمو الاقتصادي، وهو تحرك يستهدف مسايرة التقدم التكنولوجي العالمي واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية لكي تسهم بدور فعال في دفع عجلة التنمية ودعم الصرح الاقتصادي لمصر المستقبل، ومع أن البنوك المصرية والمشتركة قامت بدور فعال في تمويل الكثير من المشروعات الجديدة، إلا أن طبيعة القيود التي تلتزم بها البنوك التجارية قد جعلتها عاجزة عن إشباع حاجة الائتمان في مختلف صوره، فبدت فجوة واسعة لم تستطع أن تسدها في مختلف الدول النامية إلا نوعية من شركات توظيف الأموال، التي تقوم بمزاولة نشاط الليزنج أو التأجير المالي للعقارات والمنقولات المختلفة التي يستهدف سد احتياجات كافة القطاعات الإنتاجية والخدمية من الآلات والمعدات والمنشآت والتي عادة ما تعجز وسائل التمويل التقليدية عن مقابلتها".

"وبناء على ما سبق فقد قامت هيئة سوق المال بالاشتراك مع بنك مصر إيران للتنمية بدراسة كافة الجوانب القانونية والمالية والمحاسبية والتسويقية المتعلقة بمثل هذا النشاط، وذلك بالاستعانة بهيئة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي للإنشاء والتعمير نظراً لخبرتها في تقديم هذا النشاط في العديد من البلدان النامية، وعلى أثر النتائج الإيجابية للدراسات العديدة التي تم الانتهاء منها في هذا الشأن، يقوم حالياً بنك مصر إيران للتنمية بالاشتراك مع هيئة التمويل الدولية وشركة مانوفاكتشورز ليسنج الأمريكية إحدى كبرى الشركات العالمية المتخصصة في هذا النشاط بالاضطلاع بمسؤولية تأسيس أول شركة تأجير مالي في مصر للمساهمة في سد النقص الملموس في هيكل ووسائل التمويل المتوسط والطويل الأجل المتاحة في مصر حالياً"(2) .

(1) جريدة الأهرام أغسطس 1983م، بصدد مؤتمر المصريين المغتربين الذي عقد بالقاهرة خلال شهر أغسطس 1983م حيث ناقش موضوع شركات تأجير المعدات، والتأجير عموماً.

(2)

جريدة الأهرام المصرية في أغسطس 1983م تحت عنوان: الليزنج: التأجير المالي كأداة تمويلية مستحدثة في مصر؛ ويراجع د. أبو الليل، المرجع السابق، ص320-321.

ص: 320

صور الإيجار البيعي في القانون (الإيجار المنتهي بالتمليك) :

ذكر الأستاذ السنهوري صورتين، تتفرع من الثانية صورتان فأصبحت ثلاثاً، وهي:

1-

الإيجار الساتر للبيع: وهذا يتحقق فيما إذا كان قصد العاقدين هو البيع بالتقسيط، ولكن البائع يخاف من عدم استطاعة المشتري من دفع الأقساط فيعمد إلى تسميته بالإيجار ولا يذكر البيع مطلقاً في العقد حتى لا تنتقل ملكية العين المؤجرة إليه، ولكنهما يتفقان على أنه إذا وفى المشتري بالأقساط المطلوبة انقلب الإيجار بيعاً، ولذلك قضت الفقرة الرابعة من المادة (430) من القانون المدني المصري بأن أحكام البيع بالتقسيط تسري على هذا العقد:(ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً) ويترتب على ذلك أن الإيجار الساتر للبيع يعتبر بيعاً محضاً وتسري عليه أحكام البيع بالتقسيط من انتقال ملكية المبيع إلى المشتري معلقة على شرط واقف منذ إبرام العقد، وأنه إذا أفلس المشتري لم يستطع البائع أن يسترد المبيع من التفليسة، لكن إذا حجز دائنو المشتري على العين فإن البائع يستطيع أن يفسخ البيع، كما له حق امتياز على العين يتقدم به على دائني المشتري (1) .

2-

الإيجار المقترن بوعد بالبيع، ولكن النية واضحة في أنه بيع بالتقسيط، وذلك بأن يكون المتعاقدان يريدان في الحقيقة بيعاً بالتقسيط منذ البداية، وآية ذلك أن يجعل المؤجر الوعد بالبيع الصادر منه معلقاً على شرط وفاء المستأجر بأقساط الإيجار في مواعيدها، وأن يجعل الثمن في حالة ظهور رغبة المستأجر في الشراء هو أقساط الإيجار، وقد يضاف إليها مبلغ رمزي، ففي هذا الفرض يكون العقد بيعاً بالتقسيط لا إيجاراً، ويعتبر المشتري مالكاً تحت شرط واقف، فلا يكون مبدداً إذا هو تصرف في المبيع قبل الوفاء بالثمن، ولا يستطيع البائع استرداده من تفليسة المشتري.

3-

الإيجار الجدي المقترن بوعد بالبيع، بحيث تكون الأجرة مناسبة للعين المستأجرة، وأن يكون الثمن الموعود به عند البيع ثمناً حقيقياً جدياً مستقلاً عن أقساط الأجرة ومتناسباً مع قيمة العين، ففي هذا الفرض يكون العقد إيجاراً، لا بيعاً بالتقسيط، ولا يتم البيع تلقائياً بنهاية المدة المحددة، وإنما بعقد جديد (2)

4-

عقد الليزنج –كما سبق شرحه.

(1) د. السنهوري، الوسيط: 4/177-182؛ ويراجع كذلك د. سليمان مرقس، شرع عقد الإيجار، ط. القاهرة، عام 1984م، ص74.

(2)

المرجع السابق نفسه.

ص: 321

التكييف القانوني للإيجار البيعي وحكمه:

اعتبر القانون المصري الصورة الأولى بيعاً بالتقسيط (كما في الفقرة 430م. م) حيث قضت بأن أحكام البيع بالتقسيط تسوى على العقد (ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً) فلم يحتفل بهذا التذرع وذلك لأن الغرض الذي يرمي إليه العاقدان واضح وإن لم يذكرا عقد البيع، حيث قصدا أن يكون الإيجار عقداً صورياً يستر به العقد الحقيقي وهو البيع بالتقسيط، وأن الثمن الحقيقي الذي يسميانه أجرة إن هو إلا أقساط، فتسري عليه أحكام البيع بالتقسيط التي سبق أن ذكرنا بعضها (1)

وكذلك الأمر في الصورة الثانية حيث يعتبر العقد بيعاً بالتقسيط لا إيجاراً حتى ولو أضيف إليه مبلغ رمزي، ويعتبر المشتري مالكاً تحت شرط واقف، فلا يكون مبدداً إذا هو تصرف في المبيع قبل الوفاء بالثمن، ولا يستطيع البائع (المؤجر) استرداد المبيع من تفليسة المشتري (2) .

ومن هنا عوقب البائع (المؤجر) بنقيض قصده وانطبقت عليه القاعدة الفقهية: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"(3) ، وذلك لأن البائع قد ظن أنه حصن نفسه من أن يتصرف المشتري في العين، ومن شر إفلاسه، حيث لا تزال العين في ملكه ولم تنتقل إليه، ولكنه لم يستفد منه.

وأما الصورة الثالثة فتعتبر إيجاراً، لا بيعاً بالتقسيط، فلا تنتقل الملكية إلى المستأجر، وإذا تصرف المستأجر في العين المؤجرة كان مبدداً وإذا أفلس استرد المؤجر السيارة من تفليسته، فإذا ما أظهر المستأجر رغبته في شراء العين انتهى عقد الإيجار، وتم عقد بيع بنقل الملكية إلى المشتري من وقت ظهور الرغبة، ولا يستند بأثر رجعي إلى وقت الإيجار، وزال التزام المستأجر بدفع أقساط الأجرة، وحل محله التزام المشتري بدفع الثمن المتفق عليه، ويكون الثمن مضموناً بحق امتياز على المبيع (4) .

وقد كان فقهاء القانون والقضاة في مصر مختلفين قبل صدور القانون المدني الجديد، فكان بعضهم يذهب إلى أن البيع الإيجاري إيجاد مقترن بشرط فاسخ ومصحوب ببيع معلق على شرط فاسخ (5) .

في حين ذهب بعضهم إلى اعتبار العقد مركباً يهدف إلى غرضين مختلفين في وقت واحد، لا يمكن الفصل بينهما، ومن ثم يكون عقداً غير مسمى (6) ، وقضت محكمة الاستئناف المختلطة في 11/12/1929م بأن حقيقة العقد بيع لا إيجار، وذهبت محكمة النقض في 21/6/1934م إلى أن تكييف العقد هل هو بيع أو إيجار يتبع فيه قصد العاقدين وأن المحكمة تستهدي في ذلك بنصوص العقد، والظروف التي تحيط به (7) .

(1) د. السنهوري، الوسيط: 4/174،178.

(2)

المرجع السابق نفسه.

(3)

شرح القواعد الفقهية للزرقا: 1/403-406، دار الغرب الإسلامي.

(4)

د. السنهوري، الوسيط: 4/181-182.

(5)

استئناف مختلط في 30/4/1913م.

(6)

رسالة الأستاذ الشيني، فقرة 65 المشار إليها في الوسيط: 4/179.

(7)

الأستاذ السنهوري، الوسيط: 4/179.

ص: 322

وأما النظام الإنجليزي فلم يعتبر الإيجار البيعي إيجاراً بالمعنى الدقيق، لأنه يتضمن عناصر للبيع، ولا بيعاً، لأنه لا يؤدي إلى إلزام المؤجر أو المستأجر بعقد البيع، بل تظل ملكية الشيء للمؤجر، ولا تنتقل إلى المستأجر (المشتري) ولذلك فرق القانون الإنجليزي بين العمليتين الآتيتين:

1-

اتفاق بين عاقدين يظهران كمؤجر ومستأجر يحصل بمقتضاه المستأجر على حق التملك في نهاية مدة الإيجار، مقابل دفع مبلغ إضافي، رمزي في العادة، وفي هذه الحالة يقرب الإيجار البيعي من عقد الإيجار.

2-

عقد بينهما على الإيجار في الظاهر لكنه يتضمن تملك المستأجر للعين المستأجرة بمجرد دفع القسط الأخير دون حاجة إلى إبرام عقد جديد، وفي هذه الحالة يقترب من عقد البيع (1) .

وقد حاول الفقه الفرنسي تحديد طبيعة هذا العقد، ولكنه لم يتفق على ذلك، فقد ذهب الاتجاه السائد إلى تكييفه بأنه عقد إيجار مقرون بوعد منفرد بالبيع، وأما القضاء الفرنسي فقد اعتبره متضمناً عمليتين قانونيتين في وقت واحد وهما: إيجار يليه بيع، وكل منهما مستقل عن الآخر، إذا تبين استقلال الإيجار عن البيع، وحينئذ يخضع كل منهما لأحكامه الخاصة، وفيما عدا ذلك يعتبر عملية قانونية واحدة، وقرر القضاء في هذا الصدد أنه بمجرد سداد جزء معين من الثمن فإن عقد البيع الإيجاري يتحول إلى بيع ائتماني (2) .

(1) د. أبو الليل، المرجع السابق، ص305.

(2)

د. السنهوري، الوسيط: 4/180-181؛ ود. أبو الليل، ص306؛ ويراجع كذلك بلانيول، وريبير هامل: الفقرة 219 المشار إليه في الوسيط: 4/180.

ص: 323

وبما أن العبرة في تكييف الاتفاق هو ما اتجهت إليه نية العاقدين، فإن للقضاء سلطة واسعة في إعطاء هذا الاتفاق تكييفه الصحيح، فإذا ظهر له أن نيتهما كانت متجهة إلى إبرام عقد بيع فإنه يكيف على أنه بيع، ويظهر ذلك من خلال ما يأتي:

1-

الظروف المحيطة بالتعاقد والأمور التي التزم بها العاقدان.

2-

والنشاط المهني الذي يمارسه المؤجر.

3-

ووجود اتفاق ملحق بالعقد.

4-

والسلطات الكبيرة المخولة للمستأجر على العين المؤجرة من حيث التصرف.

5-

وكيفية سداد الثمن من حيث القدر والتناسب مع الأجرة، أو الأقساط، بل قد يعطي المستأجر جزءاً كبيراً من الثمن قبل تحقق البيع، فإن هذا يدل بوضوح على أنه بيع، وما دفعه أقساط حتى ولو تحايل فسمى المبلغ المقدم عربوناً، أو باسم الضمان، أو التأمين (1) اعتبر القضاء ذلك الاتفاق بيعاً وليس إيجاراً.

6-

وقلة المبلغ الذي يباع به الشيء في الأخير وضآلته حيث يستشف منها أن العملية كلها بيع وإن ستر بلفظ الإيجار (2)

ففي هذه الحالات التي تظهر منها نية العاقدين أنها متجهة في حقيقتها إلى بيع بالتقسيط في صورة عقد الإيجار اعتبرت المحاكم هذه النية، وجعلت العقد بيعاً بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية، ولم تول عناية بهذا الظاهر المتمثل في العقد بأنه إيجار، وقررت نتيجة ذلك عدم الاحتجاج باحتفاظ البائع بالملكية، في مواجهة تفليسة المشتري، أما إذا كانت النية متجهة للتحايل على الأحكام التي يفرضها المشرع للبيع الائتماني فقد أعلن القضاء الفرنسي بطلان مثل هذا الاتفاق لعدم مشروعيته (3) .

(1) وقد قضت محكمة باريس في 19 يناير 1966م أن العقد إيجار بحت، آخذة في الاعتبار بحرية التعاقد مع الاعتداد بعقد البيع حتى يظل العقدان مرتبطين معاً، وذلك في قضية كان البائع قد أخذ دفعة كتأمين يرد إلى العميل بعد خصم مستحقات الإيجار إذا لم يرغب في شراء الجهاز محل العقد.

(2)

د. أبو الليل: المرجع السابق، ص308.

(3)

المرجع السابق، ص 310، حيث عرض في هذا الصدد مجموعة من قرارات محاكم النقض بفرنسا.

ص: 324

الخلاصة:

إن البيع الإيجاري ليس له تكييف واحد، بل يتردد تكييفه وتحديد طبيعته القانونية بين البيع مع الاحتفاظ بالملكية لحين استيفاء كامل الثمن، وبين الإيجار المقترن بوعد بالبيع، ففي الحالة التي تنطبق على الصورتين الأولى والثانية اللتين ذكرناهما فإن القضاء الفرنسي يخضع البيع الإيجاري من حيث الأصل لأحكام عقد البيع، والتشريعات التي تنظم البيع الائتماني من حيث وضع القيود المتعلقة بمدة الائتمان وأقساط الثمن، ولا يطبق عليه قواعد الإيجار إلا استثناء، ولذلك فإذا تضمن العقد وعداً فلابد أن يكون ثمن البيع محدداً، أو قابلاً للتحديد، وإلا لما وجد العقد، كما أن الأجل الممنوح للمشتري (المستأجر) يسقط في حالة تصرف المشتري في المبيع بإعادة بيعه إذا كان البائع قد اشترط ذلك، كما تطبق عليه قواعد الغبن في حالة بيع العقار، وتكون العبرة في تقدير الغبن بوقت إبرام العقد (1) .

وفيما يخص نقل ملكية الشيء المؤجر، فله اعتباران حيث إنه بالنسبة للعاقدين لا يتم ذلك، وفي مقابل دائني المستأجر (المشتري) قرر القضاء الفرنسي – ورغبة منه في وأد كل محاولة للتحايل على دائني المستأجر – أنه بمثابة البيع النهائي بالنسبة لهم، لذلك لا يسمح للمؤجر بالاحتجاج باحتفاظه بالملكية إلى حين تمام سداد الثمن على تفليسة المشتري، وحينئذٍ فلا يمكن استرداد المبيع من التفليسة، ولكن في غير حالة الإفلاس يبدو أن القضاء الفرنسي يسمح بالاحتجاج بالبيع الإيجاري على دائني المشتري (2) ومع كل ذلك فإن بعض الشراح لا يعتبرون البيع الإيجاري بيعاً ائتمانياً بالمعنى الدقيق، لأن الملكية فيه تظل للبائع حتى تمام سداد الثمن (3) وفي هذا النطاق يتشابه البيع الإيجاري مع البيع بالتقسيط المشترط فيه الاحتفاظ بالملكية (4) .

(1) د. إبراهيم أبو الليل، ص314؛ وبلانيول وريبير: 10/ فقرة 178.

(2)

داللوز 1886 –1- 57؛ ود. إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق.

(3)

سوماد: البيع الائتماني فقرة 362 حيث يرى أن البيع الإيجاري يختلف عن البيع الائتماني في أن الأول يكون كالشرط الواقف، أما الائتماني فكالشرط الفاسخ، ولم يقبل د. أبو الليل، ص 315 بهذه التفرقة.

(4)

د. أبو الليل، المرجع السابق، ص 315.

ص: 325

وأما ما يخضع هذا العقد لأحكام الإيجار فهو فيما يخص العلاقة الداخلية بين طرفيه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى الإضرار بالغير، وأنه إذا تصرف المستأجر في العين المؤجرة قبل تملكه بتمام سداد الأقساط المستحقة فإنه يعاقب بجريمة خيانة الأمانة، لأنه تطبق حينئذٍ قواعد الإجارة بهذا الصدد (1) .

والفقه والقضاء في مصر في ظل القانون المدني المصري الجديد على أن الصورتين اللتين ذكرتهما تخضعان لأحكام البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية لحين استيفاء الثمن إعمالاً لنص الفقرة الرابعة من المادة (430م م)(2) ، وهكذا الأمر في القانون الكويتي حيث نصت المادة (410) من قانون التجارة رقم (68) لسنة 1980م بسريان أحكام البيع بالتقسيط ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً.

وأما الحالة الثانية المتمثلة في الصورة الثالثة السابقة التي يقترن فيها الإيجار الحقيقي بوعد، فإن أحكام الإجارة هي التي تطبق على هذا العقد، ولا تخضع لأحكام البيع، ولا للفقرة الرابعة من المادة (430م م) التي نظمت البيع الائتماني، فلا تنتقل الملكية إلى المستأجر، وإذا تصرف في العين المستأجرة كان مبددا، وإذا أفلس استردها المؤجر من تفليسته، وإذا ما أظهر المستأجر رغبته في شرائها انتهى عقد الإيجار، وبدأ عقد البيع منذ تلاقي الإرادتين عليه دون الاستناد إلى أثر رجعي وقت الإيجار وزال التزام المستأجر بدفع الأجرة، وحل محله التزام المشتري بدفع الثمن المتفق عليه، ويكون الثمن مضموناً بحق امتياز على المبيع (3) .

وأما التكييف القانوني لعقد الليزنج فهو عبارة عن عملية مركبة من عدة عمليات قانونية تختلط وتندمج لتصبح عملاً قانونياً واحداً غير قابل للانقسام، لكن مكوناته تتكون من ثلاثة عمليات قانونية وهي الشراء بقصد التأجير، وعقد الإيجار، ثم إمكانية الشراء أو التملك في الأخير (4)، ويرى بعض الفقهاء في فرنسا أنه يتكون من خمس عمليات قانونية هي: وعد تبادلي بالإيجار يقيد المؤجر بشراء مال معين، ووكالة ممنوحة من المؤجر إلى المستأجر المستفيد من عقد الليزنج باختيار الأموال التي يرد علها، ثم عقد التأجير، ووعد منفرد بالبيع بتحقق في نهاية مدة الإيجار، وأخيراً البيع (5) ، وعقد الليزنج وإن كان تطويراً للبيع الإيجاري إلا أنه عقد مستقل بذاته له خصائصه الخاصة، ويختلف معه في بقاء المؤجر في عقد الليزنج مالكاً للتجهيزات المؤجرة إلى حين انتهاء العقد وإنشاء عقد البيع إن أرادا، ومن ثم يكون له الحق في استردادها من تفليسة المستأجر وأنه إذا قام المستأجر بتبديد الأعيان المسلمة إليه قبل تمليكها يعتبر مرتكباً جريمة الخيانة، وهذا ما لم يقبله القضاء بالنسبة للبيع الإيجاري (6) .

(1) المرجع السابق، ص 313.

(2)

د. السنهوري، الوسيط 4/177-178 ود. أبو الليل، المرجع السابق، ص 316.

(3)

د. السنهوري، الوسيط: 4/171 –182.

(4)

ميشيل كابرلاك: مووسعة داللوز، بحث بعنوان (Leasing) رقم (10) .

(5)

وهذا رأي شامبوا الأسبوع القانوني عام 1966 م المنشور في داللوز رقم (3) ؛ ويراجع د. أبو الليل، ص 320.

(6)

د. أبو الليل، المرجع السابق، ص 322.

ص: 326

الإيجار المنتهي بالتمليك في الفقه الإسلامي:

يقصد بالإيجار المنتهي بالتمليك في الفقه الإسلامي: اتفاقية إيجار يلتزم فيها المستأجر بشراء الشيء المؤجر في الوقت المتفق عليه خلال مدة الإيجار أو بعدها بسعر يتفق عليه مسبقاً أو فيما بعد –كما سبق-.

فوائد هذا العقد ومقاصده:

للإجارة المنتهية بالتمليك فوائد ومقاصد قد لا تتحقق بغيرها من العقود القريبة منها مثل البيع، أو حتى البيع بالتقسيط، وذلك لأن البيع بجميع صوره يقتضي نقل ملكية المبيع إلى المشتري، في حين أن البنك –مثلاً- قد لا يريد ذلك حفاظاً على حقه في العين المؤجرة بحيث إذا لم يتمكن المستأجر من دفع الإجارة، فإن ملكيتها لم تنتقل إلى أحد، وحقه محفوظ، إضافة إلى أن البنك يريد أن يكون له مرونة في زيادة أرباحه ولاسيما في مثل العقود الطويلة الأجل، أو أن المتعامل معه يخاف على هبوط الأرباح عن معيار (لايبور) فيعطي له عقد الإجارة المنتهية بالتمليك مرونة لا تتوافر في البيع بالتقسيط الذي يقسط الثمن على فترات محددة لا يجوز له أن يزيد شيئاً، أو ينقص، إضافة إلى أمور أخرى تعود إلى الضمانات ونقل الملكية كما سبق.

ومن جانب آخر فقد تشتري بعض الشركات سيارات –مثلاً- للأجرة ثم تتعاقد مع السائقين بأجور شهرية لها، مع وعد بأنه بعد عشرة سنوات –مثلاً- تهبها لهم، أو تبيعها لهم بسعر رمزي، فالشركة تستفيد من الأجرة والسائق يستفيد مرتين: مرة من خلال ما يوفره للإنفاق على نفسه وعلى أسرته، ومرة أخرى حيث تعود إليه ملكية السيارة، وحينئذٍ يحافظ عليها أكثر مما لو كان أجيراً، وهكذا الأمر في الدور والمساكن، في حين أن المستأجر ليس لديه المال الكافي للشراء، وبذلك تتحقق أهداف اجتماعية وتنمية اقتصادية جيدة، فالإيجار المنتهي بالتمليك يفيد صغار الموظفين، وقليلي الدخول والمرتبات حيث لا يمكنهم شراء الدور، أو الشقق بسبب عدم الوفر، فيلجأون إلى الإيجار المنتهي بالتمليك الذي يحافظ أيضاً على حقوق البنوك أو الشركات، كما يفيد أصحاب المصانع والشركات الذين ليس لديهم السيولة الكافية، فيكون الأمثل للطرفين، هو الإيجار المنتهي بالتمليك.

وبنك التنمية الإسلامي وجد في هذا العقد مع الدول الإسلامية منافع كثيرة حيث مكنها من الإفادة من المعدات التي اشتراها البنك وملكها، كما أن تفكيك هذه المعدات وإرجاعها إلى البنك يكلفه الكثير، فكان الحل الأمثل هو تمليكها هذه المعدات بأسعار رمزية، أو حقيقية.

وقد ذكرنا فيما مضى عدة مميزات للإيجار المنتهي بالتمليك بالأخص لعقد الليزنج فتلاحظ هنا بناءً على أن "الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها"وقصدي من ذلك أن مقاصد الشريعة في تشريع العقود تتحقق في ذلك.

ص: 327

صور الإيجار المنتهي بالتمليك في الفقه الإسلامي

للإيجار المنتهي بالتمليك صور حسبما ذكرها المعاصرون من أهمها:

الصورة الأولى: أن يتم الإيجار بين الطرفين، ثم يلحق هذا العقد بوعد بيع العين المستأجرة مقابل مبلغ (حقيقي، أو رمزي) يدفعه المستأجر في نهاية المدة بعد سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها.

الصورة الثانية: أن يتعاقد الطرفان على تأجير العين (الدار، السفينة، أو نحوهما) ويلحق به وعد بالهبة في عقد منفصل، أي أن المؤجر يهبها للمستأجر بعد انتهاء زمن محدد يدفع فيه جميع الأقساط الإيجارية المستحقة.

وكون الوعد ملزماً مختلف فيه (1) سيأتي تفصيله.

الصورة الثالثة: أن يتضمن صلب العقد الإجارة والبيع سواء كان الثمن رمزياً أم حقيقياً، وذلك بأن يصاغ على عقد البيع معلقاً على شرط سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال المدة المعينة.

وهذه الصورة مختلف فيها قديماً وحديثاً:

وتدخل قديماً: في باب تعليق عقد البيع على شرط حيث منعه الجمهور وأجازه أحمد في رواية، ورجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه بعض المعاصرين (2)، قال الشيخ ابن بيه: وهو "أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن، فيكون البيع معلقاً على دفع آخر الثمن، وحسبما يفيده الزرقاني عن أبي الحسن على المدونة هذه الصيغة جائزة معمول بها وسلمه البناني الدسوقي "(3) .

(1) يراجع للتفصيل: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار الثائر 1985: 2/1032.

(2)

منهم أستاذنا الدكتور حسن الشاذلي. وانظر كتابه نظرية الشرط، ط. القاهرة من 132؛ وبحث عن الإيجار المنتهي بالتملك، ص 42.

(3)

بحثه المقدم بعنوان: الإيجار الذي ينتهي بالتملك، المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409 هـ، ص 12.

ص: 328

الصورة الرابعة: ذكرها بعض الباحثين، فقال:"أن يكون إيجاراً حقيقياً، ومعه بيع بخيار الشرط لصالح المؤجر ويكون مؤجراً إلى أجل طويل (وهو آخر مدة عقد الإيجار) عند من يجيز الخيار المؤجل إلى أجل طويل كالإمام أحمد، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف وابن المنذر، وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور بشرط أن تكون المدة معلومة محددة، واجتماع البيع مع الإجارة جائز في عقد واحد بشرط أن يكون لكل منهم موضوع خاص به"(1) .

الصورة الخامسة: أن يصاغ العقد على أساس عقد الإجارة، ولكن يكون للمستأجر الحق في تملك العين المؤجرة في أي وقت يشاء على أن يتم البيع في وقته، بعقد جديد تراعى فيه قيمة العين المؤجرة، أو حسب الاتفاق في وقته.

وهذه الصورة جائزة لا غبار عليها وهذا يتدخل في قرار المجمع الآتي ذكره، وهذا الشرط الموجود فيه لا يؤثر في العقد، لأنه شرط ليس فيه أي تعارض مع نص من الكتاب والسنة والإجماع ولا مع مقتضى عقد الإجارة.

الصورة السادسة: أن يصاغ العقد على أساس الإجارة كما في الصورة الخامسة، ولكن يعطى حق الخيار للمستأجر في ثلاثة أمور:

1-

شراء العين المؤجرة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.

2-

مد مدة الإجارة لفترة أو لفترات أخرى.

3-

إعادة العين المؤجرة بعد انتهاء مدة الإجارة إلى صاحبها، ولا مانع من أن يعطى له حق إنهاء عقد الإجارة.

وهذه الصورة جائزة بقرار من مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409هـ.

ويلحق بهذه الصورة ما ذكرناه في عقد الليزنج من أن الثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق له دفعها كأقساط إيجار.

الصورة السابعة: أن يقوم شخص أو (مؤسسة) ببيع الدار، أو الطائرة، أو الباخرة للبنك، ثم بعد الشراء يقوم البنك بتأجيرها للبائع الأول مع وعد بالبيع، أو الهبة.

وهذه الصورة لا تختلف عن الأولى والثانية إلا في شيء واحد، وهو أن المستأجر هنا كان هو البائع للعين المؤجرة في حين أن المستأجر في الصور السابقة لم يكن له علاقة بها، وهل في ذلك ضير؟

وهذا الاختلاف قد يزيد الأمر تعقيداً من الناحية الشرعية حيث يزيد من احتمال الحيلة، ومجرد التمويل بالمرابحة، والتغطية لعملية ربوية تحت هذا المسمى حيث هو أقرب ما يكون إلى بيع العينة (2) من حيث المآل والمقاصد، وقد أفتت ندوة البركة الأولى (الفتوى رقم 14، وهيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي بجواز ذلك بشرط أن يكون عقد البيع منفصلاً عن عقد الإجارة (3) .

وقد صدرت بخصوص الإيجار المنتهي بالتمليك فتوى عن الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي عام 1981م هذا نصها:

إذا وقع التعاقد بين مالك ومستأجر على أن ينتفع المستأجر بمحل العقد بأجرة محددة بأقساط موزعة على مدد معلومة، على أن ينتهي هذا العقد بملك المستأجر للمحل فإن هذا العقد يصح إذ روعي فيه ما يأتي:

أ-ضبط مدة الإجارة، وتطبيق أحكامها طيلة تلك المدة.

ب-تحديد مبلغ كل قسط من أقساط الأجرة.

جـ- نقل الملكية إلى المستأجر في نهاية المدة بواسطة هبتها إليه تنفيذاً لوعد سابق بذلك بين المالك والمستأجر.

(1) الشيخ ابن بيه: بحثه السابق؛ ويراجع: الخيار وأثره في العقود للدكتور عبد الستار أبو غدة، ط. دلة البركة، ص 221.

(2)

يراجع للتفصيل في بيع العينة: مبدأ الرضا في العقود: 2/1225

(3)

الفتاوى الشرعية لبيت التمويل الكويتي: 4/20؛ والفتاوى الشرعية في الاقتصاد الصادرة عن ندوة البركة، 1403هـ – 1980م، ص 47.

ص: 329

كما صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409 هـ هذا نصه:

أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان:

الأول: البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية.

الثاني: عقد الإجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:

-مد مدة الإجارة.

-إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.

-شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.

ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها، وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراستها وإصدار القرار في شأنها.

البنوك الإسلامية والإيجار المنتهي بالتمليك:

أولت البنوك الإسلامية أهمية بهذا العقد لتنشيط استثماراتها، وإفادة المصانع والشركات المتعامل معها، حيث تدخل كطرف ثالث ممول كما شرحناه في عقد الليزنج، غير أن هناك اختلافاً بين ما تقوم به البنوك الإسلامية، وبين البيع الإيجاري السائد في القانون –كما سبق- يتمثل في أنه يجوز للعميل أن ينهي اتفاقية الإيجار مع البنوك الإسلامية في أي وقت شاء بشراء الأصل بالسعر المحدد مسبقاً في الاتفاقية، في حين أنه في ظل البيع الإيجاري في القانون لا يجوز للعميل أن ينهي الاتفاقية من جانب واحد، وعليه أن يؤدي كافة المدفوعات قبل أن تنتقل ملكية الأصل من المؤسسة المالية إليه.

والذي يجري عليه العمل في بعض البنوك الإسلامية هو الخطوات العملية الآتية:

1-

اتفاق مبدئي يكيف على أساس الوعد أو المواعدة يتضمن بحث كافة العمليات من شراء البنك، إلى شراء العميل وما يتضمنه من شروط.

2-

قيام البنك الإسلامي بشراء الشيء المطلوب (طيارة، باخرة، بيت

)

3-

ثم قيام البنك بتأجير الشيء المطلوب للعميل حسب الأجرة المتفق عليها.

4-

التأمين على المعدات والأشياء المؤجرة.

5-

وعد في ملحق منفصل يتعهد فيه المستأجر بشراء العين المؤجرة.

وهذا الوعد قد يتضمن السعر المتفق عليه للشراء، سواء أكان رمزياً أم حقيقياً، وهو الغالب، وقد يكون مجرد وعد بالشراء بالسعر المتفق عليه عند إرادة الشراء، أو حسب سعر السوق، وهذا هو الأفضل.

6-

بعد انتهاء مدة الإجارة ووفاء المستأجر بكافة الشروط الواردة في العقد، يتم نقل ملكية الشيء المؤجر إلى المستأجر بموجب عقد جديد، وإذا رغب المستأجر أن ينهي عقد الإجارة في أي وقت شاء ليشتري العين المؤجرة ووافق على ذلك المؤجر (البنك) فلا مانع من ذلك شرعاً وقانوناً، والبنوك الإسلامية حريصة على عدم الربط بين العقدين: عقد الإجارة، وعقد البيع، بل يكون الوعد، أو ما يسمى بالعقد الابتدائي في ملحق منفصل، وهي حريصة كذلك على أن يتم تحديد سعر العين المستأجرة وفق الأسس الآتية:

أ- القيمة السوقية المعروفة في السوق، أو حسب ما يقيمها الخبراء.

ب-تحقيق العدالة من حيث النظر إلى الأقساط المدفوعة للإجارة، وإلى قيمة الشيء ملاحظاً فيه الاستهلاك ونحو ذلك.

ص: 330

وهذا النوع لا غبار عليه من الناحية الشرعية، حيث هو عقد إجارة، تم بعد انتهاء مدتها أو إنهائها تم عقد البيع للمعدات التي اشتراها البنك بنفسه وقبضها كمالك لها، ثم أجرها لعميله لمدة معلومة، ثم باعها إياه.

طريقة أخرى: ولكن إذا قام البنك بإجراء عقد مع العميل قبل تملكه الشيء المؤجر، وذلك بأن يؤجر معدات ليس مالكاً لها وقت التعاقد، ثم يشتريها من الموردين باسم عميله المستأجر، ويجعله وكيلاً له في قبضها وتسلمها، والقيام بالإشراف على تركيبها، ثم يؤجرها للعميل من فترة معينة يتوقع أن يتم تركيبها فيها، فإذا انتهت مدة الإجارة واستوفى البنك كل ما يجب له على العميل اعتبرت المعدات مبيعة له بثمن رمزي.

فهذه الطريقة بهذه الصورة عليها ملاحظات من أهمها أنها تدخل في إجارة ما لا يملك وهي لا تجوز، لأنها شبيهة ببيع ما لا يملك المنهي عنه (1) .

وحل هذه المشكلة يمكن بإحدى الطريقتين الآتيتين:

الأولى: أن يكون عقد الإجارة وارداً على الذمة، وليس على العين، وذلك بأن يتعهد البنك بترتيب الشيء الذي يريده المستأجر حسب المواصفات بأن يقول: عليّ بأن آتي لك بطيارة (باخرة، دار

) على المواصفات المتفق عليها خلال شهر (أقل أو أكثر) وبذلك أصبح العقد وارداً على الذمة، وليس على العين، وبذلك صح العقد، ولزم، ثم يقوم البنك بترتيب الشيء المتفق عليه بشرائه، وتركيبه بنفسه، أو عن طريق وكيله ويجوز أن يوكل المستأجر بضوابط من أهمها أن تكون الفواتير باسم البنك، وأن تكون جميع الأمور المتعلقة بالشراء والتركيب معلومة محددة للبنك.

الطريقة الثانية: أن يقوم البنك بوعد، أو تعهد بالشراء، بحيث لا يتم التعاقد بينه وبين العميل على الإجارة إلا بعد الشراء والتركيب، وفي هذه الحالة لا مانع أيضاً من توكيل العميل بالضوابط السابقة.

(1) ورد النهي عنه بلفظ ((لا تبع ما ليس عندك)) رواه أبو داود في سننه، الحديث رقم 3486؛ وعون المعبود: 9/401 والترمذي في سننه مع تحفة الأحوذي: 4/430؛ والنسائي، الحديث رقم 4612؛ وابن ماجة، الحديث رقم 2188؛ وأحمد في مسنده: 3/402؛ وغيرهم؛ ويراجع بحثنا حول: حديث: ((لا تبع ما ليس عندك)) سنده وفقهه.

ص: 331

والمقصود في هاتين الطريقتين أن المعدات تكون في ضمان البنك بحيث إن هلكت هلكت في ماله وليس في مال المستأجر، ويكون قبض العميل –في حالة التوكيل - لتلك المعدات قبض أمانة لا يضمن إلا عند التعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط.

وهناك ملاحظة ثانية أن هذا العقد يتضمن شرط البيع في صلبه وهذا يفسده.

للإجابة عن ذلك إن هذه المسألة خلافية –كما سيأتي- ولكن ترد الشبهة من جانب آخر أن عقد البيع الذي تضمنه العقد مشروط بانتهاء مدة الإجارة، وفراغ ذمة المستأجر من كل ما يجب عليه وهذا لا يصح شرعاً، لأن البيع من العقود التي لا تقبل التعليق، ولا تصح إضافتها إلى المستقبل (1) .

وهناك بديل لهذه الحالة يتمثل في صياغة هذه الاتفاقية بين البنك وعميله بطريقة الوعد، أو المواعدة لإنشاء الإجارة أولاً، ولإنشاء البيع ثانياً، ثم تعقد الإجارة وقتها من غير أن يذكر فيه شروط البيع، ويعقد البيع في وقته من غير شرط فيكون العقدان خاليين عن شرط فتتكون الاتفاقية من:

1-

توكيل البنك للعميل بشراء المعدات.

2-

وعد العميل باستئجارها بعد التسلم والتركيب.

3-

وعد البنك للعميل ببيعها بعد انتهاء مدة الإجارة (2) .

(1) شرح المجلة العدلية لخالد الأتاسي: 1/234؛ ويراجع: بحوث قضايا فقهية معاصرة للشيخ تقي العثماني، ط. دار العلوم، كراتشي، ص 211.

(2)

المراجع السابقة.

ص: 332

الإجارة مع شراء تدريجي للعين المؤجرة:

قد يتفق البنك في الاتفاق المبدئي (الوعد، أو المواعدة) على أن العميل يشتري مباشرة من البنك (الممول المؤجر) 50 % من الشيء المستأجر، أو أية نسبة منه بمبلغ نقدي أو مؤجل عن طريق المرابحة، ثم يؤجر البنك ما يملكه للمستأجر على أن ينتهي بالتمليك حسب الصور التي ذكرناها.

وقد يتم التوافق على أن يكون تمليك النصف، مثلاً بعد سنة، ثم بعد سنتين يتم تمليك نصف الباقي (أي ربع الكل) ، ثم في السنة الثالثة تمليك الكل، ويبقى البنك مالكاً مؤجراً لحصته، وكلما قلت نسبته من العين المؤجرة قلت أجرته لحصته، وتوزع حسب النسب منها.

كل هذه الصور لا مانع منها شرعاً إذا توافرت الشروط المطلوبة من أهمها:

1-

أن تتم عملية التمليك الجزئي بعقد مستقل في وقته ولا يتضمن عقد الإيجار نفسه ذلك، ولكن لا مانع أن يصاغ ذلك عن طريق الوعد، أو المواعدة، منفصلاً عن عقد الإجارة.

2-

إبرام عقد جديد مع المستأجر السابق عند شراء المستأجر نسبة من الشيء المستأجر تحدد فيه الأجرة الجديدة على ضوء تغير نسبة الملكية.

والبنوك الإسلامية تلاحظ في الإجارة المنتهية بالتمليك نوعية السلع من حيث إنها هل هي من السلع التي تتحسن قيمتها بل تزداد مع مرور الزمن كما في العقارات، أو السلع التي تقل قيمتها مع مرور الزمن كما في السيارات والطائرات ونحوها؟ ففي النوع الأخير تحتاط لعدم استرجاعها إليها أكثر من النوع الأول الذي حتى لو استرجع لا تتضرر بل قد تربح.

المبادئ الأساسية للإيجار المنتهي بالتمليك:

وقد صدر بذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن المؤتمر الإسلامي في دورته الثالثة بخصوص ما يجري في البنك الإسلامي للتنمية وهذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه،

ص: 333

قرار رقم (1)

بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986.

-بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، انتهى إلى ما يلي:

ب-بخصوص عمليات الإيجار:

قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:

-المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً.

-المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعاً، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.

-المبدأ الثالث: أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد.

-المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.

-المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعية عندئذٍ عليه.

-المبدأ السادس: أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك، يتحملها البنك.

جـ-بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن:

قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:

المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً.

المبدأ الثاني: أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصلها وحصولها في يد الوكيل، وهو توكيل مقبول شرعاً. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.

المبدأ الثالث: أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها، وأن يبرم بعقد منفصل.

ص: 334

فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي، ص640:

السؤال: يقوم بيت التمويل الكويتي بشراء أصول مثل السيارات والطائرات والسفن، وعند تملكها يؤجرها لشركات محلية ودولية، مقابل أجرة شهرية أو ربع سنوية، وفي هذه الحالة هناك أسلوبان متبعان في تحديد أسلوب التسجيل المحاسبي، الأول التأجير التشغيلي، والثاني التأجير التمويلي، فيرجى إفادتنا عن الجانب الشرعي لهذا الموضوع؟

نص المذكرة المقدمة لهيئة التفوى:

السيد أمين سر هيئة الفتوى والرقابة الشرعية المحترم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

برجاء عرضه على الهيئة الشرعية.

مقدمة: تعتبر المحاسبة شرحاً رقمياً لأعمال المؤسسات، بحيث تظهر رأسمال الشركة وأصولها وخصومها وإيرادها ومصروفها وصافي الناتج من أعمالها.

ويحرص محاسبو الشركات والمدققون الخارجيون على أن تكون حسابات الشركة تشرح بصورة واقعية أعمال الشركة، حيث إن هذه الحسابات (الميزانية السنوية) تعتبر من أهم وسائل معرفة ملاك الشركة (المساهمين) والمشاركين (أصحاب الودائع الاستثمارية) والدائنين لحقيقة أوضاع الشركة من حيث المتانة الاقتصادية ونوعية الاستثمارات ودرجة المخاطر التي تتعرض لها هذه الشركة.

وتوجد معايير محاسبية لإظهار العمليات الاستثمارية بصورة تبين واقعها والتي يجب الالتزام بها ما أمكن ذلك، بما لا يخالف الشريعة بالنسبة للمؤسسات الإسلامية.

يقوم بيت التمويل الكويتي بشراء أصول مثل السيارات والطائرات والسفن وبعد تملكها يؤجرها على شركات محلية ودولية مقابل أجرة شهرية أو ربع سنوية، وفي هذه الحالة هناك أسلوبان متبعان في تحديد أسلوب التسجيل المحاسبي.

الأسلوب الأول: (التأجير التشغيلي) :

في هذه الحالة يكون المؤجر متحملاً لمخاطر الملكية، ومسؤولاً عن الأصل، والتسجيل المحاسبي في هذه الحالة يكون بقيد الاستثمار كأصل ثابت، مثل (سيارات –سفن) ويقوم بتسجيل الإيجار كإيجار محصل (عائد إيجار) كما يحتاط لتناقص قيمة الأصل بمرور السنين بتكوين مخصص استهلاك.

إن هذا الأسلوب ممكن من الناحية الشرعية والعملية، إلا أنه لا يمكن اتباعه في جميع أنواع عقود الإجارة، حيث إنه لا يطبق في عقود الإجارة التي تتضمن اتفاقاً بنقل ملكية الأصل في نهاية فترة العقد، أو تحمل المستأجر لكل المخاطر المترتبة على استخدام الأصل، سواء كانت بسبب المستأجر أو كوارث عامة.

ص: 335

الأسلوب الثاني: (التأجير التمويلي) :

في حالة تحمل المستأجر لجميع المخاطر والمنافع الناتجة من ملكية الموجود، سواء انتقلت الملكية فعلاً في نهاية المدة أم لا، فإن الأصل المؤجر لا يظهر في دفاتر المالك (المؤجر) وإنما يسجل مديونية على المستأجر، وتشمل هذه المديونية تكلفة الأصل والعوائد.

وعند تسلم الإيجار الشهري، يتم تخفيض قيمة الدين بالجزء المسلم، بينما يظهر الأصل المستأجر في دفاتر المستأجر، وهذا الأسلوب في التسجيل يجب اتباعه إذا كان هنالك ترتيب بنقل الملكية في نهاية عقد الإيجار وذلك وفقاً لمعايير المحاسبة الدولية.

إن اتباع هذه الطريقة في التسجيل ينتج عنه معالجة عملية التأجير بأسلوب مشابه إلى حد كبير لعقود البيع، حيث يختفي الأصل من الدفاتر وتنشأ مديونية على المستأجر، وقد رأينا أن نعرض هذا الموضوع على هيئة الرقابة الشرعية الموقرة، لإفادتنا عن الجانب الشرعي حيث إن هذا الأسلوب قد لا يتفق وطبيعة أو حقيقة العقد كعقد إجارة، كما أن مدقق الحسابات الخارجي يلزمنا باتباع هذا الأسلوب ما لم يكن هنالك فتوى شرعية بعدم استخدام هذه الطريقة في التسجيل.

جزاكم الله خيراً. والله ولي التوفيق.

الجواب: بعد أن اطلعت الهيئة على المذكرة المقدمة من الإدارة المعنية توضح بها الطريقتين (التأجير التشغيلي والتأجير التمويلي) ترى الهيئة أن الطريقتين كلتيهما صحيحتان، وتعتبران عقد إجارة، ولهما أحكام الإجارة ولا يجوز العدول عن التسجيل المطابق لواقع العقود، إذ أن الأعيان المؤجرة لم تزل على ملك بيت التمويل الكويتي، والواقع يقتضي أن تسجل أصولها لبيت التمويل الكويتي، أما إذا سجلت للمستأجر (وكالة) فإن بدل الإيجار الذي يتقاضاه المؤجر سيكون فائدة ربوية وأكل لأموال الناس بالباطل.

ص: 336

التأصيل الفقهي للإجارة المنتهية بالتمليك

القسم الأول: أسئلة وملاحظات وشبهات مع محاولة الإجابة عنها:

يثور حول عقد الإجارة المنتهي بالتمليك من حيث الجملة عدة أسئلة وملاحظات ينبغي الإجابة عنها، وتوضيحها حتى تكون الصورة واضحة من الناحية الفقهية.

ومن هذه الملاحظات ما يأتي:

أولاً: أليس هذا العقد جديداً أم أنه تطوير لعقد الإجارة؟

ثانياً: أليس هذا العقد داخلاً في العناية بالألفاظ والعبارات؟ وبعبارة أخرى: ما علاقته بقاعدة: العبرة في العقود بالقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني؟ وهل الغالب في الفقه الإسلامي العناية بالدلالات وما يفهم من العبارة أو بظاهر الألفاظ؟

ثالثاً: وما حكم الشرع في الجمع بين صفقتين في صفقة واحدة، ألم يرد فيه نهي؟

رابعاً: إن هذا العقد يتضمن الوعد فهل هو ملزم أم لا؟

خامساً: إن هذا العقد في معظم حالاته يتضمن التأمين على الأشياء والمعدات المستأجرة؟

سادساً: إن هذا العقد يتضمن شروطاً قد تفسد العقد منها اشتراط البيع في الأخير بعد انتهاء عقد الإجارة؟ أي اشتراط البيع في الإجارة في بعض صوره.

سابعاً: إن في بعض صوره إجارة قبل التملك وإجارة قبل القبض؟

ثامناً: ما الحكم في أن الثمن الذي يحدد في بعض صوره يكون رمزياً، أو هبة؟

وكل هذه الأسئلة لها علاقة بهذا العقد، فإذا أجيب عنها بأجوبة مقنعة فإن التأصيل الفقهي له يكون ميسوراً.

1-

الإجابة عن السؤال الأول:

إن الإيجار المنتهي بالتمليك ليس عقداً جديداً في حقيقته، وإنما هو نوع من التطوير الذي اهتدت إليه المؤسسات المالية للاستفادة منه كوسيلة مربحة وأقل مخاطر لتمويل المشروعات والصناعات والمعدات يستفيد منها المتعاملون معها لشراء تلك المعدات في المستقبل عبر عقد الإجارة – كما سبق.

ص: 337

ثم إنه حتى لو كان عقداً جديداً فلا مانع منه شرعاً ما دام لا يصطدم مع نص شرعي من الكتاب والسنة والإجماع، وذلك لأن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة، وليس هناك مانع شرعي من إحداث أي عقد جديد بشرط واحد وهو أن لا يخالف نصاً من الكتاب والسنة أو الإجماع (1) .

2-

للإجابة عن السؤال الثاني، نقول: إن المقصود بالقاعدة هو أنه ينظر في العقود إلى المعنى العام المفهوم من الجملة، ولا يقتصر النظر على كلمة واحدة منها، وإلى المقصد العام منها، فلو قال شخص وهبتك هذه الدار بألف دينار مثلاً فهل ينظر إلى لفظ الهبة التي يتناقض معناها مع تقييدها بألف دينار، حيث إن معناها العطاء دون مقابل، وحينئذ يلغى تماماً العقد، أو يلغى القيد فتكون هبة، أو ينظر إلى المعنى المفهوم من الجملة وهو الدفع في مقابل شيء فيكون بيعاً لأن البيع هو مبادلة المال بالمال، وحينئذٍ لا قيمة لمعنى لفظ مجرد، وإنما العبرة بالمعنى العام المفهوم من الجملة بكاملها، وبالقصد العام منها، وهو البيع (2) .

وأما القصد من الشيء فهو معتبر عند الجميع لحديث: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (3)، وقد انبثقت منه القاعدة المعروفة:"الأمور بمقاصدها"(4) .

قال ابن القيم: "ومن تدبر مصادر الشرع تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه، ومن قواعد الشرع التي لا يجوز هدمها أو هدرها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، ودلائل هذه تفوق الحصر

" (5) .

لكن هذه القاعدة بهذا المعنى لا تنطبق على موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك، إذ إن عقدها لا يذكر فيها ألفاظ البيع، وإنما يذكر منفصلاً ومستقلاً عن العقد الوعد بالبيع، أو حتى العقد كملحق، ولكن الذي تنطبق على الإجارة المنتهية بالتمليك هو مدى رعاية القصود والنيات أم رعاية الألفاظ والعبارات، فهذا العقد وإن كان قد صيغ بصياغة الإيجار وشروطه لكن مقصود العاقدين هو التملك والتمليك، فالمؤجر لا يريد أن يحتفظ بالعين المؤجرة إلا لفترة زمنية محددة يسترجع فيه ثمنها مع الأرباح، والمستأجر لا يريد الإجارة لذاتها وإنما يريد تملكها ولكن بما أنه لا يمتلك السيولة الكافية أو لأي سبب آخر يختار الإجارة المنتهية بالتمليك، وحتى هذه النية ليست مما يمكن الاستدلال عليها بل تدل عليها الظروف المحيطة بالعقد، ونوعية أقساط الإجارة – حيث تكون أكثر من الأجرة العادية – وبيع العين المستأجرة الذي يتم بثمن رمزي في الغالب لا يمثل قيمتها السوقية.

فقد ثار خلاف بين الفقهاء حول تغليب النيات والقصود على الألفاظ والعبارات ودلالاتها على رأيين:

الرأي الأول: هو الاعتناء بالألفاظ والعبارات، ولذلك صححوا – بيع العينة ونحوه، وهذا رأي الشافعية وأبي يوسف من الحنفية، في حين ذهب الجمهور إلى عدم صحة بيع العينة (6) ، والجميع متفقون على حرمتها إذا أراد عاقدها التحايل على الربا، وإنما الخلاف فيما عدا ذلك وفي الصحة والبطلان.

وقد استدل المجيزون بالكتاب والسنة والآثار والقياس:

أما الكتاب فهو الآيات الواردة بخصوص وجوب الوفاء بالعقود، وهي ليست إلا الإيجاب والقبول مع توافر بقية الأركان والشروط، وليس في هذه الآيات ما يشير إلى وجوب الكشف عن نية العاقد، وغرضه ما دام الظاهر مشروعاً.

وأما السنة فمنها ما رواه الشيخان في صحيحيهما بسنديهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم)) (7) ، والحديث واضح في دلالته على أن المعتبر هو القول، أو الفعل، قال الشافعي: إن الله تعالى أمره –أي النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحكم على الظاهر.. (8) .

(1) يراجع للتفصيل في هذه المسألة والتحقيق فيها: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر، 1985: 2/1164.

(2)

الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص207.

(3)

الحديث صحيح متفق عليه انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري: 1/12؛ ومسلم: 3/1515؛ وسنن أبي داود مع عون المعبود: 6/284؛ والنسائي: 1/51.

(4)

الأشباه والنظائر للسيوطي، ط. دار الكتاب العربي ببيروت، ص 38.

(5)

إعلام الموقعين: 3/109 – 112.

(6)

بيع العينة هو: أن يبيع شخص شيئاً لآخر بمبلغ ألف دينار مثلاً مؤجلاً، ثم يشتريه منه بتسعمائة حالاً، فأصبح في ذمة المشتري الأول ألف دينار بينما لم يستلم إلا تسعمائة دينار فقط. يراجع في تفصيل مسألة العينة: فتح القدير مع شرح العناية: 5/208؛ والفتاوى الهندية: 3/208؛ وبداية المجتهد: 2/140؛ وشرح الكبير مع الدسوقي: 3/76؛ والخرشي على المختصر: 5/105؛ والأم: 3/34؛ والروضة: 3/374؛ والمغني لابن قدامة: 4/62، 193؛ ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 29/30؛ وإعلام الموقعين: 3/128.

(7)

صحيح البخاري –مع الفتح- كتاب الطلاق: 9/388؛ ومسلم، كتاب الإيمان: 1/116؛ ومسند أحمد: 2/255.

(8)

الأم: 5/113 –114.

ص: 338

وأما الآثار فهي مروية عن زيد بن أرقم حيث يرى جواز ذلك (1) .

وأما القياس فهو يقتضي صحة هذا العقد لأنه تتوافر فيه الشروط والأركان، وأيضاً لو فتح باب الباطن لأدى إلى الفوضى والاضطراب.

واستدل المانعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم)) (2) . كما استدلوا بأحاديث أخرى تدل بوضوح على بطلان بيع العينة ونحوها مما فيه نوع من التحايل، وهي بمجموعها تخصص الآيات والأحاديث التي استدل بها الشافعية ومن معهم، ولذلك فالراجح هو قول الجمهور (3) في أن القصد معتبر في المعاملات أيضاً ولاسيما إذا ظهر ذلك من خلال القرائن والظروف المحيطة به، وكلام الشافعي –رحمه الله – محمول على النية الكامنة في النفس التي لا يدل عليها دليل، أما إذا كانت الظروف والقرائن كلها تدل بشكل واضح على أن البائع لم يرد البيع، وإنما جعله وسيطاً للحصول على الزيادة، ووسيلة إلى الربا فهو بلا شك ينبغي القول ببطلانه وحرمته.

لكن علاقة هذه القاعدة بالإجارة المنتهية بالتمليك يمكن أن تكون محل نظر من حيث إن النية في بيع العينة نية سيئة، يراد من خلالها الوصول إلى الربا، أما القصد وراء الإجارة المنتهية بالتمليك فهو البيع وهو مشروع كالإجارة، -إذن- لا يبقى حرج في هذا المجال، وذلك قد يقال إن في ذلك حيلة لأن العلماء قالوا في باب الحيل إنما تكون محرمة إذا كانت وسيلة إلى محرم، أو إلى التخلص عن مقتضيات نص شرعي، أما إذا كانت الغاية مشروعة، والوسيلة مشروعة فإن ذلك جائز وقد ذكر ابن القيم أنواعاً كثيرة من الحيل المشروعة فقال:

"القسم الثالث: أن يحتال على التوصل إلى الحق، أو على دفع الظلم بطريقة مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره، فيتخذها هو طريقاً إلى هذا المقصود الصحيح.. ونذكر لذلك أمثلة منها: إذا استأجر منه داراً مدة سنتين بأجرة معلومة فخاف أن يغدر به المكري في آخر المدة ويتسبب إلى فسخ الإجارة بأن يظهر أنه لم تكن له ولاية الإيجار، أو أنه كان مؤجراً قبل إيجاره.. فالحيلة في التخلص من هذه الحيلة أن يضمنه المستأجر درك العين المؤجرة له، أو لغيره، فإذا استحقت، أو ظهرت الإجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه، أو يأخذ إقرار من يخاف منه بأنه لاحق في العين، وأن كل دعوى يدعيها بسببها فهي باطلة، أو يستأجرها منه بمائة دينار مثلاً، ثم يصارفه كل دينار بعشرة دراهم، فإذا طالبه بأجرة المثل طالبه هو بالدنانير التي وقع عليها العقد

ومنها أنه لا يجوز استئجار الشمع ليشعله لذهاب عين المستأجر، والحيلة في تجويز هذا العقد أن يبيعه من الشمعة أواقي معلومة، ثم يؤجرها إياها فإن كان الذي أشعل منها ذلك القدر، وإلا احتسب له بما أذهبه منها، قال ابن القيم: "وأحسن هذه الحيلة أن يقول: بعتك من هذه الشمعة كل أوقية منها بدرهم، قل المأخوذ منها أو كثر، وهذا جائز على أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخنا، وهو الصواب

، بل عمل الناس في أكثر بيوعاتهم عليه، ولا يضر كمية المعقود عليه عند البيع، لأن الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدي إلى القمار والغرر، ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل، وهذه لا تؤدي إلى شيء من ذلك، بل إن أراد قليلاً أخذ، والبائع راض، وإن أراد كثيراً أخذ والبائع راض، والشريعة لا تحرم مثل هذا ولا تمنع منه، بل هي أسمح من ذلك وأحكم".

ثم صرح ابن القيم بأنه لا محذور في الجمع بين الإجارة والبيع، فقال: فإن قيل لكن في العقد على هذا الوجه محذوران:

أحدهما: تضمنه للجمع بين البيع والإجارة، والثاني أن مورد عقد الإجارة يذهب عينه، أو بعضه بالإشعال.

قيل: لا محذور في الجمع بين عقدين كل منهما جائز بمفرده كما لو باعه سلعة وأجره داره شهراً بمائة درهم، وأما ذهاب أجزاء المستأجر بالانتفاع فإنما لم يجز، لأنه لم يتعوض عنه المؤجر، وعقد الإجارة يقتضي رد العين بعد الانتفاع، أما هذا العقد فهو عقد بيع يقتضي ضمان المتلف بثمنه الذي قدر له وأجره وانتفاعه بالعين قبل الإتلاف، فالأجرة في مقابلة انتفاعه بها مدة بقائها، والثمن في مقابلة ما أذهب منها، فدعونا من تقليد آراء الرجال، ما الذي حرم هذا؟ وأين هو من كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة أو القياس الصحيح " (4) .

(1) المصدر السابق: 3/68.

(2)

مسند أحمد: 2/84؛ وأبو داود –مع العون- البيوع: 9/355.

(3)

ويراجع لمزيد من التفصيل والمناقشة: مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة: 2/ 1227 – 1238.

(4)

إعلام الموقعين، ط. الأزهرية: 4/337 – 342.

ص: 339

ولكن تبقى علاقتها بهذه القاعدة من حيث إنه إذا اعتمدنا على القصد فيعتبر العقد من حيث القصد والمآل عقد بيع وحينئذٍ تطبق عليه أحكام البيع، كما هو الحال في القانون، وإذا اعتمدنا على الألفاظ فيعتبر العقد عقد إجارة فتطبق عليه أحكام الإجارة، غير أنه مما يجدر التنبيه عليه أن الفقه الإسلامي يشترط بجانب القصد الصيغة الدالة على العقد، فإذا لم توجد فلا يمكن أن يتحقق العقد لعدم توافر أركانه الأساسية، ومن هنا فلا يعتبر ما ذكرناه عقد بيع تطبق عليه أحكامه. هذا والله أعلم.

3-

والجواب عن الإجارة المنتهية بالتمليك تدخل في باب صفقتين في صفقة واحدة وهي منهي عنها حيث ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة واحدة. (1) .

والجواب عن ذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا إنما ينطبق في صورة واحدة يذكر في الإجارة المنتهية البيع والإجارة معاً، وفي حين أن معظم صورها لا يذكر في نفس العقد إلا الإجارة فقط.

الوجه الثاني: أن هذا الحديث مرفوعاً بهذا اللفظ ضعيف (2) ، وإنما الثابت هو الموقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، كما ثبت أيضاً حديث ((لا يحل بيع وسلف)) (3) ، وحديث "النهي عن بيعتين في بيعه"(4) ، وعلى ضوء ذلك لا يدخل عقد الإجارة في الموضوع لأن النهي عن البيع، والسلف، أو عن البيعتين، فلا يشمل الإجارة والبيع.

(1) رواه بهذا اللفظ مرفوعاً: أحمد في مسنده: 1/398؛ ورواه موقوفاً على ابن مسعود: 1/393 بلفظ "لا تصلح صفقتان في صفقة واحدة".

(2)

يراجع: إرواء الغليل للشيخ الألباني: 5/149 – 151.

(3)

رواه الحاكم في المستدرك وصححه: 2/17؛ والنسائي في سننه: 5/295؛ وأحمد في مسنده: 2/179؛ والبيهقي في السنن الكبرى: 5/343؛ والترمذي وقال: "حسن صحيح"؛ تحفة الأحوذي: 4/433؛ والمستدرك: 2/17.

(4)

رواه الترمذي وصححه في سننه –مع تحفة الأحوذي -: 4/427-429؛ ومالك في الموطأ، ص 414؛ والنسائي في سننه: 7/295 – 296؛ والحاكم في المستدرك: 2/17؛ وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

ص: 340

الوجه الثالث: أن التفسير الراجح لهذا الحديث هو ما ذكره راوي الحديث نفسه، وهو ابن مسعود رضي الله عنه حيث ثبت أنه قال:"لا تصلح الصفقتان في الصفقة: أن يقول هو بالنسيئة بكذا وكذا، وبالنقد بكذا وكذا"(1) ، وهذا التفسير أيضاً مروي عن سفيان الثوري، وسماك.

وعبد الوهاب بن عطاء، وأبي عبيد وابن سيرين، والنسائي، وابن حبان، ومالك، وبعض أهل العلم حسب تعبير الترمذي (2) .

وقد حققنا في بحث لنا أن المراد بهذه الأحاديث هو ذلك التفسير السابق إضافة إلى النهي عن الجمع بين السلف والبيع في عقد واحد وذلك لأنه يؤدي إلى السريان، وإلى استغلال عقد القرض، أو السلم للوصول إلى زيادة لم تكن تتحقق لولاه، فحرم الإسلام ذلك قطعاً لكل وسيلة تحايل تؤدي إلى المحرمات من ربا وغيره (3) .

قال ابن القيم: "هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحيل الربوية"، ثم قال: "وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة فقد جعل البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رداً لمثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك

" (4) ، ويلحق في الحرمة بما سبق كل عقد من عقود المعاوضات المالية كالإجارة إذا اقترن بالسلف، بأن يجمعهما عقد واحد (5) .

والخلاصة أن الجمع بين الإجارة والبيع جائز، لا يدخل في هذه الأحاديث الواردة في النهي عن الصفقتين في صفقة واحدة، لما ذكرناه، ومن هنا فلو تضمنهما العقد لما كان عقداً منهياً عنه ولا عقداً فاسداً أو رباً باطلاً، وقد نص جماعة من الفقهاء منهم المالكية على جواز الجمع بين الإجارة والبيع في صفقة واحدة (6) ، ومنهم الشافعية (7) ، والحنابلة (8) .

4-

الإجابة عن مدى إلزامية الوعد والمواعدة:

فالوعد (أو العدة) هو الإخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل (9) ، فهو تصرف شرعي قولي يتم بإرادة منفردة.

وأما المواعدة –فهي المشاركة في الوعد من شخصين، وذلك بأن يعلنا عن رغبتهما في إنشاء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما، وقد ذكر الفقهاء المواعدة في عدة أماكن منها المواعدة على بيع النكاح في العدة، والمواعدة في الصرف، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، والمواعدة على بيع الإنسان ما ليس عنده وغير ذلك (10) .

(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه: 8/138.

(2)

مصنف عبد الرزاق: 8/138؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 5/343؛ والترمذي مع تحفة الأحوذي: 4/428؛ ونيل الأوطار للشوكاني: 6/287 – 288.

(3)

يراجع لمزيد من التفصيل: بحث د. علي القرداغي حول: أحاديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة، دراسة تحليلية، المنشور في مجلة بحوث السنة والسيرة العدد 15، ص 295 – 340.

(4)

شرح ابن القيم على سنن أبي داود بهامش عون المعبود: 9/405 – 407.

(5)

يراجع د. علي القرداغي: بحثه المستقل.

(6)

الذخيرة للقرافي: 5/415.

(7)

مغني المحتاج: 2/41.

(8)

منتهى الإرادات: 2/21.

(9)

فتح العلي المالك: 1/254؛ وتحرير الكلام في مسائل الالتزام، ص 153.

(10)

يراجع مواهب الجليل: 3/413؛ وشرح الخرشي: 5/38؛ والمحلي لابن حزم: 8/513.

ص: 341

والمواعدة تختلف عن العقد الذي هو إنشاء للالتزام في الحال في حين أن المواعدة عبارة عن وعد بين طرفين بإنشاء العقد في المستقبل.

وقد ثار الخلاف بين الفقهاء في إلزامية الوعد على عدة آراء:

1-

منها رأي الجمهور القاضي بعدم إلزامية الوعد.

2-

ومنها رأي ابن شبرمة وبعض المالكية الذين يقولون بأن الوعد كله لازم، وهو رأي القاضي سعيد بن أشوع الكوفي الهمذاني، قال البخاري:"وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب "وأن ابن راهويه يقول به (1) .

3-

ومنها القول المشهور والراجح في مذهب مالك الذي عزاه القرافي إلى مالك، وابن القاسم، وسحنون حيث يقولون بأن الوعد ملزم قضاء وديانة إذا كان مرتبطاً بسبب، ودخل الموعود في السبب، قال سحنون:"الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أخلفته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق.."ثم قال القرافي: "بذلك قضى عمر بن عبد العزيز "(2) .

بل إن هذا الرأي التجأ إليه متأخرو الحنفية على الرغم من أن قدماءهم لا يقولون بذلك فقد جعل متأخروهم عدة مواعيد لازمة، جاء في حاشية ابن عابدين في مطلب الشرط الفاسد:"قلت وفي جامع الفصولين: لو ذكر البيع بلا شرط، ثم ذكر الشرط على وجه العقد جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمة فيجعل لازماً لحاجة الناس.."ثم نقل عن الفتاوى الخيرية للرملي أن علماء الحنفية صرحوا بأن العاقدين لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العدة جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد (3) . وأيد ذلك العلامة خالد الأتاسي في شرح المجلة وعلل ذلك بحاجة الناس (4) .

ونحن هنا لا نريد الخوض في تفاصيل ذلك، لكن الذي يظهر لنا رجحانه هو القول بإلزامية الوعد ديانة مطلقاً إلا لعذر مشروع، وبإلزامية الوعد قضاءً أيضاً إذا ارتبط بسبب أو ترتب عليه ضرر

فهذا هو المناسب مع مقاصد الشريعة، وأدلتها الكثيرة في الكتاب والسنة القاضية بوجوب الوفاء بالعهود والوعد والعقود، وأن مخالفة الوعد من علامات النفاق، ولذلك استشكل الحافظ ابن حجر قول جماعة من الفقهاء حينما قالوا:"يجب الوفاء بالوعد ديانة لا قضاء، وقول بعضهم: إنه يجب الوفاء بالوعد ديانة لا قضاء"، وقول بعضهم:"إنه يجب الوفاء تحقيقاً للصدق وعدم الإخلاف"فقال الحافظ: "وينظر: هل يمكن أن يقال: يحرم الإخلاف، ولا يجب الوفاء، أي يأثم الخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك"(5) أي في القضاء.

وقد صدرت عدة فتاوى جماعية بهذا الصدد: منها فتوى المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد بدبي عام 1399هـ مفادها أن وعد عميل المصرف بشراء البضاعة بعد شرائها، ووعد المصرف بإتمام هذا البيع ملزم للطرفين.

ومنها فتوى المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي عام 1403هـ مفادها "وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزماً للآمر، أو المصرف، أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً، وكل مصرف مخير في أخذ ما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.

وأخيراً صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة هذا نصه:

(1) صحيح البخاري –مع الفتح – ط. السلفية: 5/289.

(2)

الفروق: 4/24 – 25؛ ويراجع: فتح العلي المالك: 1/254، وتحرير الكلام للحطاب، ص 153؛ والبيان والتحصيل: 8/18؛ وفتح الباري: 5/290؛ وشرح العيني على البخاري: 1/258؛ والمحلى لابن حزم: 8/377؛ ويراجع لمزيد من التفصيل: مبدأ الرضا في العقود: 2/1032؛ وبحث د. نزيه حماد: الوفاء بالوعد، المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجده، العدد الخامس: 2/825.

(3)

حاشية ابن عابدين: 4/135.

(4)

شرح مجلة الأحكام العدلية: 2/415.

(5)

فتح الباري: 5/290.

ص: 342

قرار رقم 40 –41 (2/5و3/5)

بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأول 1409هـ/ 1 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.

بعد اطّلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما.

قرر:

أولاً: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعاً، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.

ثانياً: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد. ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض على الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.

ثالثاً: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذٍ أن يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.

5-

الإجابة عن التأمين على الأشياء والمعدات المستأجرة:

لا مانع شرعاً من التأمين على هذه الأشياء المستأجرة إذا كان عن طريق شركات التأمين الإسلامية، وأجاز بعض المعاصرين وبعض هيئات الرقابة الشرعية على التأمين التجاري إذا لم يتمكن من التأمين عن طريق التأمين الإسلامي، وكان هناك حاجة إلى ذلك، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة ذلك، وإنما نناقش هنا هو أن الذي يجري العمل عليه في بعض البنوك أن العميل هو الذي يقوم بالتأمين على العين المؤجرة لصالح البنك حفاظاً على أموال البنك وضماناً لرأس ماله، والذي نراه أن التأمين ليس من أعمال المستأجر بمقتضى عقد الإجارة، ولا يجب عليه، ولذلك ينبغي أن يقوم البنك نفسه به، أو يوكل العميل للقيام به، ثم يخصم المبلغ من الأجرة، ولا مانع هنا من زيادة الأجرة لتغطي ذلك أيضاً، وإذا قام المستأجر بعد العقد بذلك بأمر من البنك أو بموافقته فإنه يرجع عليه بما أنفقه، أما إذا قام بذلك دون إذن أو موافقة، فإنه يعتبر متبرعاً.

ص: 343

وهنا يثور التساؤل فيما لو اشترطه البنك على العميل؟

فالذي يظهر لنا رجحانه هو جواز ذلك (1) ، لأنه شرط لا يخالف نصاً من الكتاب والسنة والإجماع، فيعتبر العميل متبرعاً بحمله لتحقيق مصالحه في عقد الإجارة، يقول العلامة ابن القيم: "وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد يدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة فلا يستغنى عنه المكلف، وههنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم.

إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائناً ما كان.

والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه –وهو ما يجوز تركه وفعله، بدون الشرط – فهو لازم بالشرط

" (2) وسيأتي لذلك مزيد من التفصيل.

ولكن الأفضل والأحرى هو أن يخصم المبلغ من الإجارة أو يضم أساساً إلى الإجارة، ثم يخصم خروجاً من الخلاف، ودرءاً للشبهات، وقد أفتت هيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي بجواز أن يلزم البنك المستأجر بالتأمين لصالح البنك (المؤجر) وفق النظام التعاوني (3) .

6-

الإجابة عن وجود شرط البيع في عقد الإجارة تم من خلال ما يأتي:

أ-أنه يمكن فصل الوعد بالبيع عن عقد الإجارة، ويكون وعداً مستقلاً غير مشروط، وهذا أولى وأحوط.

ب-أن اشتراط البيع في الإجارة غير مفسد للعقد عند جماعة من الفقهاء منهم المالكية، قال العلامة الخرشي: "إن الإجارة إذا وقعت مع الجعل في صفقة واحدة، فإنها تكون فاسدة لتنافر الأحكام بينهما، لأن الإجارة لا يجوز فيها الغرر وتلزم بالعقد، ويجوز فيه الأجل ولا يجوز شيء من ذلك في الجعل

بخلاف اجتماع الإجارة مع البيع في صفقة واحدة فيجوز سواء كانت الإجارة في نفس المبيع، كما لو باع له جلوداً على أن يخرزها البائع للمشتري نعالاً، أو كانت الإجارة في غير المبيع كما لو باع له ثوباً بدراهم معلومة على أن ينسج له ثوباً آخر" (4) .

(1) رأيت بعد ذلك فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي. انظر الفتاوى الشرعية: 4/103.

(2)

إعلام الموقعين ط. النهضة الجديدة القاهرة: 3/389 –390.

(3)

الفتاوى الشرعية ط. بيت التمويل الكويتي: 4/103.

(4)

شرح الخرشي على مختصر خليل: 7/4.

ص: 344

جـ- إن اشتراط الشروط التي لا تخالف نصاً من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع ليس هناك دليل صريح مقبول يمنع ذلك، فقد فصلنا القول في رسالتنا الدكتوراه ووصلنا إلى أن الأصل في ذلك الإباحة وليس الحظر (1) .

وقد أطال شيخ الإسلام (2) وتلميذه ابن القيم النفس فيه، نذكر هنا بعض ما قاله العلامة ابن القيم: "وقد شرع الله تعالى لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج إليه العبد حتى بينه وبين ربه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم –لضباعة بنت الزبير- وقد شكت إليه وقت الإحرام، فقال:((حجي واشترطي على ربك فقولي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن لك ما اشترطت على ربك)) (3) .

فهذا شرط مع الله في العبادة وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الأمة إليه، ويفيد شيئين: جواز التملك وسقوط الهدي.

وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف، وقد صح تعليق النظر بالشرط بالإجماع ونص الكتاب، وتعليق الضمان بالشرط بنص القرآن، وتعليق النكاح بالشرط في تزويج موسى بابنة صاحب مدين وهو من أصح نكاح على وجه الأرض، ولم يأتِ في شريعتنا ما ينسخه بل أتت مقررة له.. ثم بعد أن ذكر أدلة من الكتاب والسنة وأثار الصحابة الكرام –رضي الله عنهم قال: "والمقصود أن للشروط عند الشارع شأناً ليس عند كثير من الفقهاء، فإنهم يلغون شروطاً لم يلغها الشارع، ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود ومما لا يقبله، فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل؛ فالصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم.

يوضحه أن الالتزام بالشرط كالالتزام بالنذر، والنذر لا يبطل منه إلا ما خالف حكم الله وكتابه، بل الشروط في حقوق العباد أوسع من النذر في حق الله تعالى، والالتزام به أوفى من الالتزام بالنذر.

وإنما بسطت القول في هذا لأن باب الشرط يدفع حيل أكثر المتحيلين ويجعل للرجل مخرجاً مما يخاف منه، ومما يضيق عليه؛ فالشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] .

وههنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائناً ما كان، والثانية أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه –وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط- فهو لازم بالشرط، ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الصحابة، ولا تعبأ بالنقض بالمسائل المذهبية والأقوال الآرائية فإنها لا تهدم قاعدة من قواعد الشرع، فالشروط في حق المكلفين كالنذر في حقوق رب العالمين، فكل طاعة جاز فعلها قبل النذر لزمت بالنذر، وكذلك كل شرط قد جاز بدله بدون الاشتراط لزم بالشرط، فمقاطع الحقوق عند الشروط، وإذا كان من علامات النفاق إخلاف الوعد وليس بمشروط فكيف الوعد المؤكد بالشرط؟ ترك الوفاء بالشرط يدخل في الكذب والخلف والخيانة والغدر، وبالله التوفيق (4) .

(1) يراجع للتفصيل في ذلك: مبدأ الرضا في العقود: 2/1164-1196.

(2)

القواعد النورانية، ص184؛ ومجموع الفتاوى: 29/126.

(3)

رواه البخاري في صحيحه: 3/417؛ ومسلم: 4/26.

(4)

إعلام الموقعين: 3/389-390.

ص: 345

ولا أعتقد بعد هذا القول الرائع المؤصل أننا نحتاج إلى المزيد، فالمعيار في عدم شرعية الشروط المقترنة بالعقد هو المخالفة لنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمل من هذا ما أوجزه الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه حيث قال:" مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت"(1) وقال تلميذه القاضي شريح: "من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه"(2) .

وقد أورد الإمام البخاري في صحيحه كتاب الشروط وترجم باب ما يجوز من الشروط في الإسلام، والأحكام والمبايعة، ثم أورد حديث شروط الصلح في الحديبية وفيها "كان فيما اشترط (سهيل بن عمرو) على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يأتيك منا أحد- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه" فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى (سهيل) ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ثم بين البخاري التزامه صلى الله عليه وسلم بهذا الشرط التزاماً دقيقاً حيث رد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً (3) .

ثم ترجم البخاري باب الشروط في البيع، وباب الشروط في المعاملة، وباب الشروط في المهر عند عقدة النكاح، وباب الشروط في المزارعة، وباب الشروط في الطلاق، وباب الشروط مع الناس بالقول، وباب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط، وباب الشروط في القرض، وباب الشروط في الوقف (4) .

7-

الإجابة عن الإجارة قبل التملك، أو القبض:

فالموضوع الأول أن يتفق البنك مع عميله على تأجير المعدات قبل شرائها، وهذا شبيه ببيع ما لا يملك المنهي عنه.

وقد أجبنا عن ذلك مع ذكر الحلول المناسبة له فيما سبق.

والموضوع الثاني هو أن يشتري البنك فعلاً المعدات المطلوبة (طائرة، باخرة، عقاراً

) ولكن قبل تسلمها وتركيبها يؤجرها للعميل فهذا يحتاج إلى تفصيل:

أ-أن يؤجرها بعد الشراء مباشرة وقبل التسليم والتركيب، وذلك بأن يحسب الأجرة من يوم العقد مباشرة، فهذا لا يجوز، لعدم التسلم والقبض وعدم تمكن المستأجر من الانتفاع، ومن المعلوم أن الإجارة تمليك المنفعة، وهذا لم يتحقق، ومن جانب آخر فهذا يدخل في باب النهي عن ربح ما لم يضمن (5) .

(1) صحيح البخاري -مع الفتح-: 9/217؛ رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم وقال الحافظ وصله سعيد بن منصور وذكر أن سبب قوله هذا أن رجلاً قال له: تزوجت هذه وشرطت لها دارها، وإني لأجمع أمري أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: ((لها شرطها

)) .

(2)

المصدر السابق: 5/354.

(3)

صحيح البخاري –مع الفتح- كتاب الشروط: 5/312.

(4)

المصدر السابق: 5/312-354.

(5)

ورد حديث صحيح في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، رواه أحمد في مسنده: 2/174، 175، 179، 205؛ ومالك في الموطأ، ص407، 408؛ والنسائي في سننه: 7/295، 300؛ والبيهقي في السنن الكبرى: 5/340 وغيرهم؛ ويراجع المغني لابن قدامة: 5/478.

ص: 346

وذلك لأن المؤجر (المشتري) لم تدخل المعدات في ضمانه بعد، فكيف يربح بالأجرة التي يحصل عليها، قال أبو الخطاب:"الأجر يملك بالعقد، ويستحق بالتسليم ويستقر بمضي المدة"(1) .

ب-أن يؤجرها على أن يبدأ عقد الإجارة بعد شهر، أو شهرين أو سنة مثلاً يتوقع أن كل الإجراءات تكتمل خلال تلك المدة فهذا جائز عند جمهور الفقهاء ما عدا الشافعية (2)، جاء في الذخيرة:"يجوز كراؤها –أي الأرض- قابلاً وفيها زرع الآن لربها ولغيره، وكراء الدار على أن لا يقبضها إلا بعد سنة، ولا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد.. واشترطه الشافعي حتى يتمكن من التسليم في الحال، ونحن نقول: تكفي القدرة على التسليم في الجملة"(3) .

جـ-أن يؤجر شيئاً يمكن الاستفادة منه بعد القبض ولا يحتاج إلى التركيب مثل الدار، والسيارة، والطيارة ونحوها، فهذا يكفي فيه بالقبض الحكمي أي التمكن من التسلم ولا يحتاج إلى القبض الحقيقي (4) ، أما إذا لم يمكن الاستفادة منه إلا بعد التركيب فإن عقد الإجارة إنما يصح إذا كان مراعىً فيه الوقت الذي يحتاج إليه للتركيب، وذلك بأن تحسب الأجرة بعد التركيب، وإن كان العقد صحيحاً قبل ذلك كما ذكرنا في فقرة (ب) .

8-

الإجابة عن الثمن الرمزي، أو الهبة:

من الناحية الفقهية المحضة فإن ذلك جائز لأن الإنسان حر في تصرفاته فيجوز أن يبيع بثمن رمزي، أو يهب ما يشاء ما لم يكن مريضاً مرض الموت حيث تحدد تبرعاته بالثلث (5) ، غير أن العدالة مطلوبة في العقود وهي تتحقق بالتساوي بين الثمن والمثمن، ولذلك شرع الله تعالى الخيارات في العقد لدفع الغبن، وتحقيق العدل.

(1) المغني: 5/444.

(2)

بدائع الصنائع: 6/2629؛ والذخيرة: 5/413؛ والروضة: 5/196؛ والمغني: 5/446.

(3)

الذخيرة: 5/413.

(4)

يراجع بحثنا: القبض وصوره المعاصرة المنشور في مجلة مجمع الفقه، العدد السادس: 1/555، وما بعدها، حيث وصل البحث إلى ترجيح ذلك، وأن القبض الحقيقي لا يشترط إلا في بيع الشيء الربوي بجنسه كالطعام.

(5)

يراجع للتفصيل: مبدأ الرضا في العقود: 1/573.

ص: 347

هذا إذا كان المؤجر شخصاً طبيعياً يتصرف في ماله، أما بخصوص إدارة البنوك والشركات (الشخصية المعنوية) فهل لها الحق في التبرع أو الثمن الرمزي؟

للإجابة عن ذلك نقول إن مجلس الإدارة (أو الإدارة) هو يمثل المساهمين ويعبر عن آرائهم فهو وكيل عنهم فيجوز له أن يتصرف أي تصرف مشروع يحقق المصلحة لهم أو لا يضرهم، والتصرفات التي في ظاهرها ضرر كهذا يعرضها على الجمعية العمومية لإقرارها.

هذا إذا كانت المعدات قد اشتريت من أموال المساهمين، أما إذا اشتريت من خلال صناديق خاصة بها ونص نظامها الخاص على ذلك أو حصلت موافقة أصحابها على ذلك فلا مانع شرعاً من ذلك.

هذا وقد أفتت هيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي بمثل هذا حيث قالت: "وليس لبيت التمويل الكويتي أن يهب من أموال المؤسسين والمستثمرين إلا بإذنهم ولا أن يبيع السيارة بسعر رمزي، ثم يشتريها بيت التمويل بسعر السوق حتى ولو كان ذلك مراعى في ثمنها عند العقد الأول وذلك سياسة دفعاً للشكوك والريبة"(1) .

وأما مقاصد العاقدين في هذه الحالة فهي: أنهما يريدان إظهار الاتفاق في البداية على أنه عقد إيجار، وفي النهاية عقد بيع، حيث يستفيدان من هذا التكييف، فالمؤجر (البائع) يستفيد من خلال الحفاظ على العين، حيث لا تنتقل ملكيتها إلى المستأجر على خلاف ما لو كان عقد بيع، وفي ذلك مصلحة معتبرة له، والمستأجر (المشتري) لا يملك السيولة الكافية للشراء فيستفيد من هذه العملية، غير أنه يثور التساؤل حول تكييف العقد في حالة كون الثمن رمزياً هل يظل إجارة، أم يتحول إلى بيع مقسط؟

فقد قال الفقهاء: إن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة الأصيل كفالة، وأنه لو قال: وهبتك هذا بدينار فهو بيع، ولو قال: ملكتك هذه الدار كل شهر بكذا كان إجارة وهكذا، فعلى ضوء ذلك هل يعتبر هذا العقد بيعاً مقسطاً؟

لهذه الاعتبارات جعله القانون بيعاً مقسطاً –كما سبق- أما في الفقه الإسلامي فالذي يحول بينه وبين اعتباره بيعاً هو عدم وجود صيغة دالة على البيع داخل العقد، أو في صلب العقد، وأن العاقدين لم يريدا حقاً البيع ابتداء، وإنما إجارة ابتداء وبيعاً انتهاء.

(1) الفتاوى الشرعية لبيت التمويل الكويتي: 4/102.

ص: 348

ولذلك يظل تكييف هذه الصور التي فيها وعود بالبيع، وأن الثمن رمزي على أساس الإجارة ابتداء والبيع انتهاءً.

9-

إشكال آخر:

قد يثور التساؤل حول الثمن العادل، أو الأجرة العادلة في الإجارة المنتهية بالتمليك، حيث إن الأجرة فيها ليست أجرة المثل، وإنما يلاحظ فيها قيمة العين المستأجرة مع الأرباح الخاصة بالممول أو المؤجر، وهي تختلف باختلاف قصر المدة، أو طولها، في حين أن العدالة مطلوبة وأن الزيادة الخارجة عن العرف عن أجرة المثل تدخل في الغبن المنهي عنه، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنه في هذه الحالة لم يقم المستأجر بشراء العين المؤجرة فإن الظلم الواقع عليه واضح جداً، والضرر الذي وقع عليه بين، فكيف الخروج عن ذلك؟

للإجابة عن ذلك نقول إنه في الحالة الأولى –أي تمام عملية الشراء فيما بعد- لم يعد هناك ظلم، وأن الضرر قد زال، كما أن الأجرة وإن كانت أكثر قد تم الاتفاق عليها بين الطرفين، أو بعبارة أخرى: أن التراضي قد تحقق، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] .

وأما الحالة الثانية –أي عدم إتمام عملية الشراء - فإن العدالة تقتضي أن يرد المؤجر على المستأجر مقدار ما يدفع عنه الضرر الواقع عليه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)) (1) ، بل إنه إذا وجد وعد فإن آثار القول بإلزاميته تكمن في إجبار المخلف وعده إما بإتمام عملية العقد، أو بتحمل الأضرار التي ترتبت على ذلك.

ولكننا نرجح عدم اللجوء إلى هذه الصور، وإنما الاكتفاء بالصور التي يتم فيها التعاقد على أساس الإجارة الحقيقية من حيث الأجرة وبقية شروط الإجارة، ثم إعطاء الحق، أو الخيار للمستأجر بشراء العين المستأجرة بسعر السوق، أو بالسعر المتفق عليه.

(1) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده: 1/313، 5/327؛ وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام: 2/785؛ ومالك في الموطأ كتاب الأقضية، ص464؛ وقال الألباني في الإرواء: صحيح.

ص: 349

القسم الثاني- التكييف الفقهي:

بعد الرد على تلكم الشبهات، والملاحظات التي أثيرت حول الإجارة المنتهية بالتمليك نستطيع القول بأنها عقد صحيح من حيث المبدأ، ولكن حكمها يختلف حسب صورها، وقد رأينا أنه في القانون الوضعي يختلف تكييفه عن الفقه الإسلامي لا من حيث الصحة، وإنما من حيث تكييفه بأنه عقد بيع نظراً إلى المآل والقصد، إلا في صورة واحدة كما ذكرنا فيما سبق.

وأعتقد إن إجابتنا عن الأسئلة والملاحظات والشبهات الثماني قد ساهمت في إعطاء صورة لهذا النوع من الإيجار، لكن تكييفه الكامل يتحقق من خلال النظر والتحليل لكل صورة بحد ذاتها، ولا يسع المجال لذكرها مفصلة ونكتفي بما ذكرناه عند حديثنا عن صور الإجارة المنتهية بالتمليك، ولكن نعلق على:

فالصورة الأولى: تعتبر عقد إجارة صحيحاً، لما أنه لم يذكر في صلب العقد شيء يخص البيع، وكون الوعد ملزماً أم لا؟ سبق ذكره في جواب السؤال الرابع، وهكذا الحكم في الصورة الثانية.

والصورة الثالثة: يتضمن صلب العقد فيها البيع في النهاية فكأن العاقدين أرادا الإجارة ابتداء، والبيع انتهاء لتحقيق مصالحهما المعتبرة التي ذكرناها في جواب السؤال الثامن، فالمؤجر أراد أن يكون العقد إجارة ابتداء ضماناً لحقوقه، وبيعاً في النهاية لأنه يريد أن يحتفظ بالعين المؤجرة، وليس بحاجة إليها، وقد قضى وطره من خلال ما تحقق له من أرباح، والمستأجر يريده أن يكون عقد إجارة في الابتداء حتى لا يظهر أنه مدين أو بعبارة أخرى حتى لا تظهر مديونيته في ميزانيته، أو أنه ليس له المال الكافي لشرائه، أو أنه ليس مطمئناً في قدرته على الشراء فيضع لنفسه هذه الفرصة، ويريده أن يكون بيعاً في الأخير، لأنه بحاجة إليه ويريد أن يكون مالكاً للعين المستأجرة.

وكون العقد إجارة ابتداءً وبيعاً انتهاءً لا مانع منه في الشريعة الإسلامية، وله نظائره في الفقه الإسلامي منها ما ذكره الفقهاء في المضاربة أنها إذا دفع المال إلى المضارب فهو في حكم الوديعة، لأنه قبضه بأمر المالك، لا على طريق البدل والوثيقة، فإذا اشترى به فهو وكالة، لأنه تصرف في مال الغير بإذنه، فإذا ربح صار شركة، لأنه ملك جزءاً من المال، فإذا فسدت المضاربة صارت إجارة يجب فيها أجر المثل، وإن خالف المضارب صار غاصباً (1) .

غير أن هذا التصرف قد احتوى على عقدين عقد إجارة ناجز اقترن به شرط فاسخ، وعقد بيع معلق على شرط (2) ، ولذلك لابد من بيان حكم تعليق البيع على شرط، وجمع صفقتين في صفقة واحدة، فبخصوص الجمع بين البيع والإجارة فإن جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية في القول الراجح، والحنابلة) أجازوا الجمع بين الإجارة والبيع، جاء في شرح الخرشي:"بخلاف اجتماع الإجارة مع البيع في صفقة واحدة، فيجوز سواء كانت الإجارة في نفس المبيع كما لو باع له جلوداً على أن يخرزها البائع للمشتري نعالاً، أو كانت الإجارة في غير المبيع كما لو باع له ثوباً بدراهم معلومة على أن ينسج له ثوباً آخر، وما أشبه ذلك على المشهور"(3) .

(1) تحفة الفقهاء للسمرقندي، ط. قطر: 3/25-26.

(2)

يراجع بحث: أ. د. الشاذلي-السابق-في مجلة المجمع: 4/2615.

(3)

شرح الخرشي على مختصر خليل: 7/4؛ ويراجع الذخيرة: 5/415؛ ومواهب الجليل: 7/503.

ص: 350

قال الخطيب الشربيني الشافعي: "ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع كأن يقول: أجرتك داري شهراً وبعتك ثوبي هذا بدينار؛ أو إجارة وسلم كأن يقول: أجرتك داري شهراً أو بعتك صاع قمح في ذمتي سلماً بكذا صحاً في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمتهما أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه"(1) .

والمقصود بمختلفي الحكم هو أن حكم البيع مختلف عن الإجارة من حيث التأبيد فيه، فالإجارة تقوم على التأقيت، ومن حيث إن المعقود عليه (المبيع) في البيع تنتهي علاقته بالبائع، في حين أن العين المؤجرة تبقى مملوكة للمؤجر، فالبيع ينقل ملكية الرقبة والمنفعة، والإجارة تنقل ملكية المنفعة لمدة زمنية فقط.

وجاء في المغني: "وإذا جمع بين عقدين مختلفي القيمة بعوض واحد كالصرف وبيع ما يجوز التفرق فيه قبل القبض، والبيع، والنكاح، أو الإجارة نحو أن يقول: بعتك هذه الدار وأجرتك الأخرى بألف.. صح العقد فيهما، لأنهما عينان يجوز أخذ العوض عن كل واحدة منهما منفردة، فجاز أخذ العوض عنهما مجتمعتين.."(2) .

وحتى الحنفية قالوا: وإن شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولأحدهما فيه منفعة إلا أنه متعارف بأن اشترى نعلاً وشراكاً على أن يحذوه البائع جاز استحساناً.. لتعارف الناس كما في الاستصناع، لكنهم قالوا في هذا النوع إذا لم يكن متعارفاً عليه بين الناس لا يجوز (3) ، فالمثال المتعارف عليه الذي ذكره يجمع بين البيع والإجارة فأجازوه لكنهم اشترطوا أن يكون متعارفاً عليه.

فعلى ضوء ذلك فالجمع بين الإجارة والبيع جائز من حيث المبدأ، والسبب الذي ذكره الفقهاء يصلح لإجارة هذه الصورة من الإجارة المنتهية بالتمليك، وذلك لأنهم قالوا: إن كل تصرف من الإجارة والبيع جائز على الانفراد فلا يمنع من الجمع بينهما، ولاسيما أنه لا يترتب عليه محظور شرعي من الربا وشبهته كما في الجمع بين البيع والسلف، ولأن محل العقد هنا يجوز بيعه، كما يجوز إجارته.

وإذا صحح هذا الجمع بصورته الحالية فإنه من الضروري لصحة كل من العقدين أن يتوافر فيه أركانه وشروطه، فإذا توافر ذلك كله بأن كان الشيء المستأجر، أو المبيع مملوكاً مقبوضاً والعاقدان على أهليتهما الشرعية ولم يوجد مانع شرعي في ذلك فإن العقدين صحيحان عند بعض المعاصرين (4) .

وأما ما يتضمنه هذا العقد من تعليق البيع على شرط دفع الأقساط فهو محل خلاف كبير بين الفقهاء؛ فجمهور الفقهاء لم يجيزوه في حين أن الإمام مالكاً أجازه في قول (5) ، وكذلك الإمام أحمد أجازه في رواية رجحها شيخ الإسلام ابن تيمية ودافع عنها (6) .

وما يقال في هذه الصورة يمكن أن يجري على الصورة الرابعة.

(1) مغني المحتاج: 2/41.

(2)

المغني لابن قدامة: 4/260؛ ومنتهى الإرادات: 2/21.

(3)

تحفة الفقهاء: 2/74.

(4)

د. حسن الشاذلي: بحثه السابق –ص2632- وابن بيه: بحثه السابق، ص12.

(5)

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/175-176.

(6)

مجموع الفتاوى: 29/350؛ ويراجع لتفصيل ذلك نظرية الشرط للدكتور حسن الشاذلي، ص531.

ص: 351

وأما الصورة السادسة فتدخل في قرار مجمع الفقه، وكذلك الصورة الخامسة وهما تكيفان على أساس عقد الإجارة الحقيقية ثم يتم البيع بعقد مستقل.

ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أن وجود وعد بالبيع، أو حتى اشتراط البيع في العقد لا يحول العقد إلى بيع كما هو الحال في القانون، لأن العاقدين أرادا الإجارة فعلاً، لا البيع في الأول، ولأن الأجرة دفعت شهرياً كأجرة وليست كقسط لبيع فكيف تتحول الأجرة إلى ثمن؟ لذلك فتكييف العقد بأنه بيع بثمن مقسط تكتنفه صعوبات كثيرة في إطار الفقه الإسلامي (1) ، ولهذا النوع صور في الفقه الإسلامي منها الهبة بشرط العوض حيث لم يجعلها الجمهور بيعاً لأن مآلها إلى البيع كما سيأتي.

وكل ما يمكن قوله في التكييف الفقهي لهذه الصورة هو أن هذا العقد إجارة ابتداء وبيع انتهاء، وهذا التكييف له نظائر في الفقه الإسلامي كما سبق.

إصدار صكوك الإجارة المنتهية بالتمليك:

إن من أفضل العقود وأكثرها ملاءمة لإصدار الصكوك عليها هو عقد الإجارة المنتهية بالتمليك، حيث إن أقساط الإجارة تحدد تماماً نسبة الربح فتكون معلومة لمشتري هذه الصكوك، فمصدر الصكوك الخاصة بالإجارة المنتهية بالتمليك يستطيع أن يعلن عن نسبة الربح المتوقع في العملية كلها، فمثلاً لو أن المؤسسة المالية اشترت طائرات أو مصانع بمائة مليون دولار وأجرتها لمدة عشر سنوات مثلاً مع ملاحظة قيمتها التي تباع بها من خلال الوعد، وظهر من خلال ذلك أن الربح هو (10 %) فإن الصكوك يمكن أن تصدر بها (2) .

بدائل عن الإجارة المنتهية بالتمليك:

1-

ذكر قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409 هـ بديلاً عن الإجارة المنتهية بالتمليك وهو البيع بالتقسيط مع الحصول على الضمانات الكافية.

ولكن هناك بدائل أخرى منها:

2-

عقد بيع مع اشتراط عدم نقل الملكية أو عدم التصرف في المبيع إلا بعد سداد جميع الثمن المؤجل.

(1) د. الشاذلي، المرجع السابق، ص2639.

(2)

يراجع لمزيد من التفصيل حول الصكوك الإسلامية: بحثنا حول التطبيقات العلمية لإقامة السوق الإسلامية، المقدم إلى دورة المجمع الثامنة ببروناي.

ص: 352

وفي هذا البديل معظم المقاصد التي يتوخاها العاقدان في الإجارة المنتهية بالتمليك.

وهذا البديل أجازه بعض الفقهاء حيث نص المالكية على أنه يجوز بيع شيء مع اشتراط منع المشتري من التصرف في العين المبيعة بأي نوع من أنواع التصرفات –معاوضة أو تبرعاً- حتى يؤدي المشتري الثمن كاملاً، وإلا انفسخ العقد، واعتبروه بمثابة الرهن (1) ، وهذا الرأي هو رأي ابن شبرمه، وابن تيمية، وابن القيم (2) الذين يصححون كل شرط إلا شرطاً خالف نصاً من الكتاب والسنة.

3-

عقد بيع بالتقسيط مع إعطاء الخيار (أي خيار الشرط) للبائع، أو المشتري، أو لكليهما وذلك بأن يقول: بعت لك هذه الطيارة بمبلغ كذا على أن تقسط المبلغ على عشرين شهراً كل شهر تدفع كذا، ولي الخيار لمدة عشرين شهراً.

وهذا العقد بهذه الصورة جائز عند من أجاز أن تكون مدة الخيار مدة طويلة معلومة وهو مذهب أحمد، ومحمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف، صاحبي أبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمه، والثوري، وابن المنذر، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، حيث ذهبوا إلى تفويض مدة الخيار إلى العاقدين (3) .

4-

صيغة العقد على أساس الهبة بثواب (أي بعوض) بأن يقول صاحب الدار، أو المعدات:"وهبتك هذه الدار على أن تعطيني أو بشرط أن تعطيني في كل شهر مبلغ كذا لمدة عشرين شهراً مثلاً".

وهذه أيضاً جائزة عند الفقهاء، فقد ذكر صاحب الدر المختار أن البيع لا يشمل الهبة بعوض، وعلق على ذلك ابن عابدين بقوله:"فإنه: (أي المذكور أي الهبة بعوض) ليس ببيع ابتداءً وإن كان في حكمه بقاءً.. وكذا لو وهبه شيئاً على أن يعوضه عنه شيئاً معيناً فهو هبة ابتداءً مع وجود المبادلة المشروطة"(4) .

ثم ذكر أن الهبة بشرط العوض وإن كانت في معنى البيع، لكنه يشترط فيها شروط الهبة وليست البيع، فقال صاحب الدر المختار:"ولذا يشترط فيه شرائط الهبة كقبض، وإفراز، وعدم شيوع"ولو كان العوض يسيراً كما أن العوض يمنع جواز رجوع الواهب عن هبته (5) .

وقال الحطاب المالكي: "إذا قال: وإن أعطيتني.. دارك فقد التزمت لك بكذا، أو ملك بكذا.. فهذا من باب الهبة"(6)، وجاء في الشرح الكبير:"وجاز للواهب شرط الثواب أي العوض على هبته.. نحو وهبتك هذا بمائة، أو على أن تثيبني، ولزم الثواب بتعيينه إن قبل الموهوب له فيلزمه دفع ما عين، وأما عقد الهبة المشروط فيها الثواب فلازم للواهب بالقبض عين الثواب أم لا"، وعلق عليه الدسوقي فقال: وأما الموهوب له فلا يلزمه إلا بالفوات، وما ذكره الشارح من لزومها بالقبض للواهب عين الثواب، أم لا غير ظاهر، فإن توقف لزوم العقد على القبض وإنما هو إذا كان الثواب غير معين، وأما إذا عين الثواب عند عقد الهبة ورضي الموهوب له فلا يتوقف اللزوم على قبض بل يلزم العقد كلاً منهما بسبب تعيينه كالبيع

، ولذا قال البساطي:"ولزم العقد بتعيينه أي الثواب"(7) .

(1) يراجع فتح العلي المالك: 1/364؛ ود. الشاذلي: نظرية الشرط، ص217،365.

(2)

مجموع الفتاوى: 29/350؛ وإعلام الموقعين: 3/389.

(3)

المغني لابن قدامة: 3/498؛ ومطالب أولي النهي: 3/89؛ والمبسوط: 13/41؛ والفتاوى الهندية: 3/38؛ والمجموع: 9/190؛ والمحلى لابن حزم: 8/373؛ ويراجع: الخيار وأثره في العقود للدكتور عبد الستار أبو غدة، ط. دلة البركة، ص221.

(4)

حاشية ابن عابدين: 4/5.

(5)

المصدر السابق: 4/517.

(6)

الالتزامات للحطاب، ص211.

(7)

الشرح الكبير مع الدسوقي: 4/114.

ص: 353

وذكر النووي أن الهبة المقيدة بالثواب –أي بالعوض- إما أن يكون الثواب معلوماً، أو مجهولاً.

فالحالة الأولى: المعلوم، فيصح العقد على الأظهر، ويبطل على قول، فإن صححنا فهو بيع على الصحيح، وقيل: هبة، فإن قلنا: هبة لم يثبت الخيار والشفعة، ولم يلزم قبل القبض، وإن قلنا: بيع ثبتت هذه الأحكام.

الحالة الثانية: إذا كان الثواب مجهولاً، فإن قلنا: الهبة لا تقتضي ثواباً بطل العقد، لتعذر تصحيحه بيعاً وهبة، وإن قلنا: تقتضيه صح، وهو تصريح بمقتضى العقد، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور

" (1) .

وجاء في المنهاج وشرحه للمحلى: "ولو وهب بشرط ثواب معلوم فالأظهر صحة العقد ويكون بيعاً على الصحيح نظراً إلى المعنى، والثاني يكون هبة نظراً إلى اللفظ فلا يلزم قبض"(2) .

وجاء في المغني: "فإن شرط في الهبة ثواباً معلوماً صح نص عليه أحمد، لأنه تمليك بعوض معلوم فهو كالبيع، وحكمها حكم البيع في ضمان الدرك وثبوت الخيار والشفعة وبهذا قال أصحاب الرأي" وقال أبو الخطاب: "وقد روى عن أحمد ما يقتضي أن يغلب في هذا حكم الهبة فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به"(3) .

(1) روضة الطالبين: 5/386-387.

(2)

شرح المحلى على المنهاج مع حاشيتي القليوبي، وعميرة: 3/114.

(3)

المغني لابن قدامة: 5/685.

ص: 354

والخلاصة:

أن هذا العقد صحيح وهل يعتبر بيعاً أو بمثابة البيع نظراً إلى المعنى والمؤدى، أم هل يعتبر هبة نظراً للفظ والتعبير على خلاف بين الفقهاء، وإذا اعتبر بيعاً تطبق عليه أحكام البيع وضوابطه، في حين إذا اعتبر هبة تطبق عليه أحكام الهبة وضوابطها، وهذا النوع أقرب شيء إلى الإيجار المنتهي بالتمليك.

ونلاحظ أن جماهير الفقهاء لم يقولوا ببطلان الهبة بشرط العوض بسبب أنها في حقيقتها ومآلها بيع لكنها صيغت بصياغة الهبة، وألبست لباسها، كما أنهم لم يقولوا: إنها داخلة في الحيل، وذلك لأن كلا العقدين صحيح، وأن العاقدين أرادا هذه الصياغة لمصلحة يريدانها.

5-

صياغة العقد على أساس الهبة المعلقة:

إذا علق الهبة على شرط سداد جميع الأقساط المتفق عليها خلال مدة يتفق عليها بأن يقول: إذا قمت بسداد جميع الأقساط المتفق عليها خلال عشرين شهراً مثلاً فإني وهبتك هذه الدار، ووافق عليها الطرف الآخر، فهذا مجال خلاف كبير بين الفقهاء، حيث أجازه بعض الفقهاء منهم المالكية وقول في المذهب الحنفي بناء على صحة تعليق الهبة على شيء في المستقبل، في حين لم يصححها الأكثرون بناء على عدم صحة ذلك (1) .

وقد دل على صحة تعليق الهبة ما رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن أم كلثوم بنت أبي سلمة، قالت: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال: ((إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواني مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة علي، فإن ردت فهي لك)) ، قالت:"فكان ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت عليه هديته فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة"(2) .

فهذا الحديث يدل على صحة تعليق الهبة على شيء قد يتحقق في المستقبل، وهو نص في الموضوع.

(1) يراجع: الالتزامات للخطاب: 1/180؛ ونظرية الشرط، ص135.

(2)

مسند أحمد: 6/404؛ وصحيح ابن حبان، الحديث رقم (1144) ، والحديث وإن كان فيه مقال لكنه ينهض حجة على هذا الحكم لما له من شواهد ومتابعات.

ص: 355

تلف العين المؤجرة، وحدوث عيب فيها، وصيانتها:

تلف العين المؤجرة (1) .

إذا تلفت العين المؤجرة فترد عليها عدة مسائل نذكرها هنا لأهميتها وهي:

1-

التلف قبل القبض، أو بعده:

أ-إذا تلفت العين المؤجرة تلفاً كلياً قبل القبض وبعد العقد فإن الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه كما قال ابن قدمة (2) .

ب-إذا تلفت بعد القبض مباشرة وقبل استيفاء المنفعة فإن الإجارة تنفسخ على ضوء التفصيل الذي يذكر آنفاً، قال ابن قدامة في هذه الحالة:"إن الإجارة تنفسخ، ويسقط الأجر، في قول عامة الفقهاء إلا أبا ثور حكي عنه أنه قال: يستقر الأجر لأن المعقود عليه أتلف بعد قبضه أشبه المبيع، وهذا غلط، لأن المعقود عليه المنافع، وقبضها باستيفائها، أو التمكن من استيفائها، ولم يحصل ذلك فأشبه تلفها قبل قبض العين"(3) .

جـ-أن تتلف بعد مضي شيء من المدة فتنفسخ فيما بقي من المدة دون ما مضى فيستحق المستأجر الأجرة بقدر ما استوفى من المنفعة، وإذا حدث نزاع فالمرجع في تقويم المقدار هو أهل الخبرة، جاء في الروضة:"وفي الماضي طريقان: أحدهما القول بالفسخ في الماضي وحينئذٍ يسقط المسمى وتجب أجرة المثل، والطريق الثاني: أنه لا ينفسخ فيه، وحينئذٍ فهل له خيار الفسخ؟ وجهان أصحهما عند الإمام والبغوي: لا، لأن منافعه استهلكت، والثاني: نعم وبه قطع ابن الصباغ وآخرون، لأن جميع المعقود عليه لم يسلم، وحينئذٍ وجب قسط ما مضى من المسمى والتوزيع على قيمة المنفعة وهي أجرة المثل، لا على نفس الزمان وذلك يختلف فربما تزيد أجرة شهر على أجرة شهرين لكثرة الرغبات في ذلك الشهر، فإن كانت مدة الإجارة سنة ومضى نصفها، وأجرة المثل فيه مثلا أجرة المثل في النصف الباقي وجب من المسمى ثلثاه، وإن كانت بالعكس فثلثه"(4) .

(1) يراجع في موضوع التلف: بدائع الصنائع للكاساني: 6/2675؛ والمبسوط للسرخسي: 1/137؛ والذخيرة للقرافي: 5/476؛ ومواهب الجليل مع التاج والإكليل: 7/561-562؛ والمغني لابن قدامة: 5/455؛ الروضة: 5/240؛ والمحلى لابن حزم: 9/5-12.

(2)

المغني لابن قدامة: 5/453؛ والروضة: 5/240.

(3)

المرجع السابق نفسه.

(4)

الروضة: 5/241 مع تصرف قليل في بعض العبارات.

ص: 356

2 -

أثر التلف في العقد:

لاشك أن محل عقد الإجارة هو المنفعة، فمادامت المنفعة باقية، فالعقد باقٍ ومستمر إلى مدته أو الاتفاق على إنهائه.

أما إذا لم يكن الانتفاع بالعين المؤجرة بسبب تلفها أو هلاكها فإن الفقهاء ذكروا تفصيلات حول أثر ذلك على فسخ العقد:

أ-إذا كانت الإجارة واردة على الذمة وليست على عين معينة فإن العقد يظل صحيحاً، ولا يؤثر تلف العين المؤجرة أو هلاكها بإنهاء العقد، وذلك لأن على المؤجر القيام بالبديل المضاهي للعين المستأجرة التي هلكت ليحل محلها، وعلى المستأجر قبول ذلك (1) .

ب-أما إذا كانت الإجارة واردة على عين معينة مثل الدار الفلانية، أو تلك السيارة المعينة، أو نحو ذلك فإن العقد ينفسخ إذا لم يبق هناك مجال للفائدة مطلقاً، وذلك مثل أن تموت الدابة المستأجرة، أو تحترق السيارة فلا تبقى إمكانية الانتفاع حتى بأجزائها، أما إذا بقي احتمال الانتفاع بها فقد اختلف الفقهاء في تقدير إمكانية المنفعة مع تلف العين المؤجرة.

فمثلاً اختلف الفقهاء في انهدام الدار المؤجرة هل يؤدي إلى فسخ العقد أم لا؟

فذهب جمهور الفقهاء –الحنفية في الرأي المرجوح عندهم، والمالكية، والشافعية، في القول الراجح، والحنابلة على الوجه الراجح عندهم، والظاهرية (2) – إلى أن عقد الإجارة ينفسخ مباشرة بالانهدام، لأن محل العقد لم يعد صالحاً لتحقيق المنفعة المنشودة وهي السكنى.

(1) المصادر السابقة نفسها.

(2)

المبسوط: 15/136؛ والتاج والإكليل على مختصر خليل: 7/562؛ والروضة: 5/341-342؛ والمغني لابن قدامة: 5/454؛ وشرح المحلى على المنهاج مع حاشيتي القليوبي وعميرة: 3/84؛ والمحلى: 9/5-12.

ص: 357

وذهب الحنفية في الأصح عندهم، والشافعية في قول مرجوح، والحنابلة في وجه، إلى عدم الانفساخ، وذلك لأنه يمكن الانتفاع بالعرصة بعد انهدام الدار بنصب خيمة، أو جمع حطب، أو بيع الأشياء فيها، أو نحو ذلك فلم تبطل المنفعة جملة، ولذلك يكون المستأجر بالخيار بين الفسخ والإمضاء، فإن فسخ كان عليه أجرة ما مضى على ضوء ما سبق، وإن أمضاه ورضي به فعليه جميع الأجر، لأن ذلك بمثابة عيب رضي به فسقط حكمه (1) ، والأول أرجح لعدم بقاء المعقود عليه الذي أراده العاقدان، قال ابن قدامة في ترجيح رأي الجمهور:"لأنه زال اسمها –أي الدار- بهدمها وذهبت المنفعة التي تقصد منها، ولذلك لا يستأجر أحد عرصة دار يسكنها"(2) .

غصب العين المؤجرة:

إذا غصبت فقد ثبت للمستأجر حق الفسخ، لأن فيه تأخير حقه، فإن فسخ فالحكم فيه كحكم الفسخ عند هلاك العين من حيث احتساب الأجرة لما مضى.

وإن لم يفسخ حتى مضت مدة الإجارة فله الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل، لأن المعقود عليه لم يفت مطلقاً بل إلى بدل، وهو القيمة فأشبه ما لو أتلف آدمي الثمرة المبيعة قبل قطعها، ويتخرج انفساخ العقد بكل حال على الرواية التي تقول: إن منافع الغصب لا تضمن وهو قول الحنفية (3) .

عدم الانتفاع بالعين المستأجرة لظروف قاهرة أي خارجة عن إرادة العاقدين، وذلك كحدوث حرب في منطقة خاف أهلها من البقاء فيها فتركوها، وبينهم المستأجرون، فقد ذكر ابن قدامة أن هذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ، لأنه –أي الخوف العام- أمر غالب يمنع المستأجر استيفاء المنفعة فأثبت الخيار كغصب العين، ولذلك لا يستوجب الخوف الخاص الخيار، فلو أن المستأجر يخاف من السكنى في الدار لخوف خاص به مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه من منزله المستأجر، أو حلولهم في طريقه لم يملك الفسخ، لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية، حيث يستطيع تأجيره لغيره (4) .

(1) المصادر السابقة نفسها.

(2)

المغني: 5/455.

(3)

المصدر السابق: 5/455-456؛ والروضة: 5/342؛ والذخيرة: 5/537.

(4)

المغني: 5/456؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/264.

ص: 358

العيب في العين المستأجرة:

إذا وجد المستأجر في العين المستأجرة عيباً (1) لم يكن يعلم به أثناء العقد، فإن العقد لا ينفسخ، وإنما يكون للمستأجر حق الفسخ "بغير خلاف نعلمه"كما قال ابن قدامة (2) فهو بالخيار إن شاء فسخ العقد وإن شاء قبل بالعقد كما هو الحال في العيب في البيوع، لكن جماعة من الفقهاء قالوا: لو بادر المؤجر بإصلاح العيب سقط الخيار (3) .

وكذلك الحكم إذا وجد عيباً فيها بعد العقد، وحتى بعد القبض –خلافاً لما في البيع- وذلك لأن الإجارة عقد على المنافع، وهي تتجدد، ويحتاج إليها طوال فترة الإجارة، كما أنها لا يحصل قبضها إلا شيئاً فشيئاً، فإذا حدث العيب فهو خلل يسبق البقية الباقية من المنافع المطلوبة إلا إذا قام بإصلاحه فوراً فلا يحق له الفسخ.

وإن اختلفا في كون الشيء عيباً أم لا، فالمرجع في ذلك أهل الخبرة.

وفي كلتا الحالتين فالمستأجر إذا فسخ فالحاكم فيه كحكم ما سبق من الانفساخ بتلف العين.

وإذا رضي بالعين المؤجرة مع وجود العيب فما الذي يلزمه من الأجرة، هل كلها؟ أم ينقص منها بقدر العيب؟

هذا ما ثار فيه الخلاف بين الفقهاء:

فذهب جمهور الفقهاء (منهم الحنفية، والشافعية في وجه، والحنابلة)(4) إلى أنه إذا رضي بالعين المؤجرة فتجب عليه الأجرة كاملة، لأنه رضي به ناقصاً فأشبه لو رضي بالمبيع معيباً حيث ليس له إلا الثمن.

(1) المراد بالعيب هنا هو ما ينقص الانتفاع المقصود بالعين المؤجرة مثل هدم حائط للدار، أما ما لا يفوت شيئاً من الانتفاع على المستأجر مثل انهدام جزء يسير منها لا يضر بالمنفعة المقصودة له من الدار وهو السكنى فإن ذلك لا يثبت الخيار وحق الفسخ. انظر: المغني: 5/457؛ والروضة: 5/239؛ والمبسوط: 15/136.

(2)

المغني: 5/457.

(3)

الروضة: 5/239؛ والمغني: 5/457.

(4)

يراجع: المبسوط: 15/136؛ والروضة: 5/239؛ والمهذب: 1/405؛ والمغني: 5/457؛ ويراجع الوسيط في عقد الإجارة للدكتور عبد الرحمن محمد عبد القادر، ط. دار النهضة العربية بالقاهرة، ص238.

ص: 359

وذهب المالكية، والشافعية في وجه (1) ، إلى أن جميع الأجرة لا تجب عليه، لأنه لم يستوف جميع ما استحقه من المنفعة المقصودة بمقدار العيب، فلو أن العيب قد أثر في الانتفاع بالعين المؤجرة بنسبة (10 %) مثلاً فإن هذه النسبة تحسم من الأجرة.

والذي يظهر رجحانه هو رأي الجمهور، إذ أن الرأي الثاني قد يؤدي إلى الإجحاف بحق المؤجر، إذ أنه قد يجد مستأجراً لبيته مثلاً يدفع له مثل الأجرة السابقة، كما أن إعطاء حق الخيار للمستأجر يفسح له المجال للنظر فيما هو يحقق مصلحته، ويدرأ عنه المفسدة والمضرة، فهو إما أن يرد العين المؤجرة، أو يقبلها كما تم الاتفاق عليه، أما أن يرضى بالعين المؤجرة ويطالب بتقليل الأجرة فهذا فيه شيء من الإجحاف بحق المؤجر، كما أن الأجرة عقد رضائي لا يمكن لأحد العاقدين أن يفرض شيئاً على الآخر إلا برضاه، ورضا المؤجر تم على الأجرة كلها وليست على بعضها، والعيب أثبت له حق الفسخ فقط وليس حقاً آخر كما هو الميزان في البيع ونحوه.

ثم إن هذه الأحكام خاصة بما إذا كان عقد الإجارة واقعاً على شيء معين، أما إذا كان وارداً على العين الموصوفة في الذمة فإن عقد الإجارة لا ينفسخ بالعيب مطلقاً، بل يجب على المؤجر أن يأتي بما تم الاتفاق عليه سليماً، وبعبارة أخرى يغيرها إلى الشيء المتكامل فيه الأوصاف المتفق عليها (2)، قال ابن قدامة:"هذا إذا كان العقد يتعلق بعينها، فأما إن كانت موصوفة في الذمة لم ينفسخ العقد، وعلى المكري إبدالها لأن العقد لم يتعلق بعينها فأشبه المسلم فيه إذا سلمه على غير صفته، فإن عجز عن إبدالها أو امتنع عنه ولم يمكن إجباره عليه فللمكتري الفسخ أيضاً"(3) .

على من تقع تبعة الهلاك؟ وهل يمكن أن يتحملها المستأجر؟

اتفق الفقهاء –من حيث المبدأ- على أن المستأجر يده يد أمانة لا يضمن إلا بالتعدي والإتلاف، والتقصير والإهمال، ومخالفة الشروط المتفق عليها في العقد، ومخالفة العرف السائد في إجارة كل شيء، بحيث يكون استعماله استعمال الرجل الحريص على أموال الآخرين فلا يزيد على ما يتحمله الشيء فوق طاقته وإلا أصبح ضامناً (4) .

(1) الذخيرة: 5/532؛ والكافي، ص369؛ والروضة: 5/239.

(2)

المبسوط للسرخسي: 15/136؛ والتاج والإكليل: 7/566؛ والذخيرة: 5/476؛ والمغني لابن قدامة: 5/457.

(3)

المغني: 5/457-458.

(4)

يراجع بحثنا حول مدى مسؤولية مجلس الإدارة عن الخسائر، المقدم إلى الدورة 14 للمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.

ص: 360

وفي المذهب المالكي رأي مرجوح أنه ضامن، قال القرافي:"وقيل ضامن"(1) ، ونحن هنا لا ندخل في تفاصيل هذا المبحث، ولكنه بلا شك يعتبر هذه المسألة من أهم القضايا التي تفكر فيها المصارف الإسلامية وتسعى جاهدة لإيجاد ضمانات كافية من خلال الشروط، والتأمين ونحو ذلك.

والخلاصة أن تبعة الهلاك تقع من حيث المبدأ على المؤجر (البنك) ما دام العقد قد صيغ صياغة عقد الإجارة، حتى القانون المدني يحمله تبعة الهلاك على الرغم من أنه يكيفه على أساس البيع بالتقسيط –كما سبق- وأما الأجير بشقيه (الخاص والمشترك) فقد سبق أن الأجير العام أو المشترك ضامن على الراجح، أما الأجير الخاص فغير ضامن.

هل يمكن أن يتحملها المستأجر؟

لتحمل المستأجر تبعة الهلاك في الإجارة بصورة عامة وفي الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة طريقتان:

الطريقة الأولى: أن يتحملها طوعاً دون أن يذكر ذلك في العقد، وذلك بأن يتعهد تعهداً مستقلاً عن عقد الإجارة –مكتوباً أو شفهياً- بأنه يتحمل تبعة الهلاك فيما لو هلكت العين المستأجرة، أو تلفت تلفاً كلياً أو جزئياً، وهذا يدخل في الوعد من طرف واحد اعتبره جماعة من الفقهاء منهم المالكية في قول لهم، وابن شبرمة وغيرهم كما سبق.

الطريقة الثانية: أن يكتب ذلك في العقد كشرط من الشروط المقترنة بالعقد، وهذا غير جائز عند جمهور الفقهاء، لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، غير أنه يفهم من كلام ابن رشد في المقدمات والممهدات ومن كلام القرافي في الذخيرة أنه على قول أشهب يجوز اشتراط ما يخالف مقتضى العقد، فمثلاً يد الأجير المشترك على سلعة يؤثر فيها يد ضمان في بيته أو حانوته، ومع ذلك لو اشترط عدم الضمان ففيه ثلاثة أقوال.. قال أشهب: ينفع، لأن الأصل اعتبار العقود –أي الشروط-، ولأنه كان قادراً على عدم التزامه، وإنما رضي المسمى أي من الأجر لسقوط الضمان عليه، وكذلك ينفع شرط عدم الضمان في المستعير والمرتهن، لأن هذا الشرط زيادة معروف، ولكن القول المشهور هو أن هذا الشرط لا ينفعه "لأنه خلاف مقتضى العقد"(2) .

بل أكثر من ذلك، فقد رأيت أن الإمام أحمد يرى في أحد قوليه جواز اشتراط الضمان على المستأجر، جاء في المغني: "فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى العقد، وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم، وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه ووجوبه بشرطه، لقوله صلى الله عليه وسلم:((المسلمون على شروطهم)) (3) وهذا القول للإمام أحمد في غاية من الأهمية، إذ أنه يحقق الأمن والأمان للبنوك الإسلامية حيث لا تخاف من ضياع رأسمالها على أقل تقدير، وهذا رأي وجيه مستند على حديث صحيح ممكن الاعتماد عليه في الظروف الحالية التي نعيشها من حيث انعدام الثقة ونحوها.

ومن جانب آخر يمكن التخفيف من آثار ذلك على البنوك الإسلامية وغيرها، من خلال اشتراط أن يكون عبء الإثبات لحالات عدم الضمان على المستأجر، وتوضيح ذلك هو أنه غير ضامن إلا في حالات التعدي والتقصير ومخالفة الشروط والعرف –كما سبق- وأن عبء الإثبات لهذه الحالات يقع على المؤجر عند جمهور الفقهاء، وبعبارة أخرى أن الأصل هو عدم الضمان، وإذا ادعى المؤجر الضمان بسبب التعدي أو التقصير فإن عبء الإثبات يقع عليه وهو ليس بأمر هين ولا سيما أنه غائب عن العين المستأجرة، وبالأخص في تأجير السيارات والطائرات والبواخر، فلو اشترط المؤجر على المستأجر بأنه في حالة التلف أو الهلاك الكلي، أو الجزئي فإن عبء الإثبات يقع عليه وبعبارة أخرى إذا لم يثبت أنه غير متعد، وغير مقصر، وغير مخالف للشروط والعرف فإنه يجب عليه الضمان.

(1) الذخيرة: 5/502؛ والتعبير بقيل يدل على الضعف الشديد.

(2)

يقرأ بدقة: الذخيرة: 5/505؛ والمقدمات والممهدات: 3/151-252.

(3)

المغني لابن قدامة: 8/114-115، والحديث رواه البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم –مع فتح الباري-: 4/451، ورواه غيره.

ص: 361

فهذا الشرط إن صح يحقق العدالة للطرفين، ويتوافق مع عصرنا الحاضر، وطبيعته القائمة على فساد معظم الذمم وعدم تقوى الله تعالى إلا ما رحم ربي، وهو موافق لمذهب بعض الصحابة الكرام الذين قالوا بضمان الأجير المشترك وقالوا:"لا يصلح الناس إلا ذلك"(1)، وقد روى البيهقي عن الشافعي أنه قال:

قد ذهب إلى تضمين القصار شريح، فضمن قصاراً احترق بيته، فقال:"تضمنني وقد احترق بيتي"؟ فقال شريح: "أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك؟ " وروى أيضاً بسنده عن أبي هيثم أنه قدم دهن له من البصرة وأنه استأجر حمالاً يحمله، والقارورة ثمنها ثلاثمائة، أو أربعمائة، فوقعت القارورة وانكسرت فأردت أن يصالحني فأبى فخاصمته إلى شريح، فقال له شريح:"إنما أعطى الأجر لتضمن فضمنه شريح، ثم لم يزل الناس حتى صالحته"(2) .

والمقصود أن الفقهاء كيف غيروا فتاواهم السابقة من عدم الضمان إلى الضمان لسوء أخلاق البعض، وللحفاظ على الأموال وعدم الاستهانة بها.

ومن جانب آخر فإن هناك شبهاً بين المستأجر وبين الأجير المشترك بجامع الإجارة، فلو قلنا بأن عبء الإثبات يقع عليه لما أخطأنا الهدف وهو أقل بكثير من القول بالضمان الواقع على الأجير المشترك، حتى ولو لم يكن له دخل وأثر في التلف والهلاك.

وأيضاً فإن قياس المستأجر على المضارب والشريك قياس مع الفارق حيث إن المستأجر لا يخسر شيئاً بتلف العين المؤجرة إذا انفسخ العقد، بل قد يستفيد فيما لو كانت الأجرة مرتفعة في وقت التلف لأي سبب من الأسباب، وحينئذٍ إذا انفسخ العقد بتلف العين المؤجرة فإنه يستفيد من خلال تأجير عين أخرى من نفس الجنس وبأقل من الأجرة التي كان يدفعها.

أما المضارب، أو الشريك فإنه في حالة الخسارة فقد خسر الجهد، كما خسر رب المال ماله، فهناك نوع من التعادل، كما أن الربح يعود على الطرفين، أما المستأجر فلا يخسر شيئاً بل قد يستفيد من هذا التلف –كما سبق-.

(1) السنن الكبرى للبيهقي: 5/122.

(2)

السنن الكبرى للبيهقي: 5/122-123.

ص: 362

وفي الإجارة المنتهية بالتمليك يكون الأمر أكثر تعقيداً وذلك لأن المستأجر قد لا يريد تنفيذ جميع بنود الإجارة بسبب أن الأجرة حسب السوق الحالية مرتفعة، وإن كانت عند العقد غير مرتفعة، أو أنه لا يريد أن يلتزم بشراء هذه الطائرة، أو الباخرة لأي سبب معقول أو غير معقول، ومن هنا يرد احتمال التهمة، وقد قال جماعة من الفقهاء بأن الوكيل ونحوه لا يصدقون إذا كان هناك مجال للتهمة (1) .

ولذلك فالذي يظهر لي رجحانه أنه في الإجارة بصورة عامة، وفي الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة، لا يصدق المستأجر في تلف العين المستأجرة، ولا في إدعاء عدم التعدي والتقصير ومخالفة الشروط والعرف إلا ببينة مقنعة، فإذا لم يأت بها فيجب عليه الضمان، ولا أرى أي مانع من تثبيت هذا الشرط من الشروط المقترنة بالعقد للأسباب التي ذكرناها آنفاً.

وسيلة أخرى لحماية المؤجر:

يستطيع المؤجر (البنك أو نحوه) أن يطلب من المستأجر بأن يهيئ له طرفاً ثالثاً يضمن العين المؤجرة، وهذا أجازه مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة، وبقراره رقم (5) في 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ الموافق 6-11 فبراير 1988م حيث نص على أنه "ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار، أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين على أن يكون التزاماً مستقلاً".

(1) المغني لابن قدامة: 5/102.

ص: 363

الهلاك الكلي والجزئي للعين المستأجرة في القانون:

وتتفق القوانين المدنية على أن هلاك العين المستأجرة هلاكاً كلياً يترتب عليه انفساخ العقد تلقائياً، أما هلاك العين جزئياً، أو إذا أصبحت العين في حالة لا تصلح معها للانتفاع الذي أجرت لأجله، أو نقص هذا الانتفاع نقصاً كبيراً ولم يكن للمستأجر يد في شيء من ذلك، فيجوز له –إذا لم يقم المؤجر في ميعاد مناسب بإعادة العين إلى الحالة التي كانت عليها- أن يطلب تبعاً للظروف إما إنقاص الأجرة أو فسخ الإيجار ذاته دون إخلال بما له من حق في أن يقوم بنفسه بتنفيذ التزام المؤجر وفقاً لأحكام المادة السابقة (أي المادة 568م م) وفي هاتين الحالتين لا يجوز للمستأجر أن يطلب تعويضاً إذا كان الهلاك أو التلف يرجع إلى سبب لا يد للمؤجر فيه (1) .

ونصت المادة 11 من قانون (2) لسنة 1975م في شأن إيجار الأماكن والمباني بقطر على أنه "إذا هلكت العين المؤجرة أثناء الإيجار هلاكاً كلياً انفسخ العقد من تلقاء نفسه.

أما إذا كان هلاك العين المؤجرة جزئياً، أو أصبحت في حالة غير صالحة للانتفاع، أو نقص هذا الانتفاع نقصاً كبيراً، أو كان من شأنها أن تعرض صحة المستأجر، أو من يعيشون معه أو يعملون لديه لخطر جسيم ولم يكن للمستأجر يد في شيء من ذلك كله جاز للمستأجر أن يطلب فسخ العقد ".

وهذه الأحكام كما ترى لا تجد فيها مخالفة لما ذكرناه سابقاً، ويلاحظ في هذا المقام أن معظم القوانين العربية ألزمت المهندس المعماري والمقاول متضامنين بضمان ما يحدث خلال السنوات العشر اللاحقة لتسلم العمل من تهدم كلي، أو جزئي فيما شيدوه من مبان، أو أقاموه من منشآت ثابتة أخرى، ولو كان التهدم ناشئاً عن عيب في الأرض ذاتها، أو كان رب العمل قد أجاز إقامة المنشآت المعيبة ما لم يكن المتعاقدان في هذه الحالة قد أرادا أن تبقى هذه المنشآت مدة أقل من عشر سنوات (المادة 651م م) وإذا كان المالك هو الذي أقام البناء ولم يعهد به إلى مقاول فإن مدة الضمان تبدأ من تاريخ إنهاء جميع الأعمال اللازمة لإقامة المبنى وإعداده صالحاً للاستعمال (2) .

(1) هذا هو مقتضى نص المادة (569) من القانون المدني المصري، والمادة (537) من القانون المدني السوري، والمادة (751) من القانون المدني العراقي، والمادة (568) من القانون المدني الليبي، ويراجع د. السنهوري (المرجع السابق: 6/1/282) .

(2)

ينظر: موسوعة الفقه والقضاء والتشريع في إيجار وبيع الأماكن الخالية، ط. القاهرة 1955م، ص439.

ص: 364

صيانة العين المؤجرة:

إن من أهم المسائل التي تثار في موضوع الإجارة بصورة عامة، وفي موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة، موضوع الصيانة للعين المؤجرة على من تكون هذه الصيانة؟ وهل يمكن تحميلها للمستأجر برضاه؟

قبل الإجابة عن ذلك أرى أنه من الأفضل أن نذكر بإيجاز موقف القانون من ذلك.

فالقانونان المدني المصري والفرنسي يلزمان المؤجر بتعهد العين المؤجرة بالصيانة وبالقيام بجميع الترميمات الضرورية حتى يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين طيلة فترة الإجارة.

فقد قرر القانون المدني المصري في مادته 567 الفقرة (1) التزام المؤجر بتعهد العين بالصيانة لتبقى على الحالة التي سلمت بها، وأن يقوم في أثناء الإجارة بجميع الترميمات الضرورية، دون الترميمات التأجيرية.

ونصت الفقرة 2 على أنه: "عليه أن يجري الأعمال اللازمة للأسطح من تجصيص، أو بياض، وأن يقوم بنزح الآبار والمراحيض ومصارف المياه".

وفي الفقرة 3 نص على أنه: "يتحمل المؤجر التكاليف والضرائب المستحقة على العين المؤجرة

".

وفي الفقرة 4 على أن: "كل هذا ما لم يقض الاتفاق بغيره".

فالفقرة الأخيرة أعطت الحق للعاقدين على الاتفاق على خلاف ذلك بأن تكون جميع أعمال الصيانة على المستأجر، أو عليهما (1) ومعظم التقنينات العربية على هذا المنوال (2) .

والصيانة والترميم على ثلاثة أنواع:

1-

ترميمات ضرورية لحفظ العين المؤجرة، مثل إصلاح الحائط الذي يريد أن ينقض، وترميم الطوابق السفلية إذا غمرتها مياه فأوهنتها، وترميم الأسقف التي توشك على الانهيار، كل ذلك من الترميمات الضرورية للانتفاع بالعين، وكما أن المؤجر ملزم بإجرائها فإن له كذلك الحق في إجرائها ولو عارض المستأجر ذلك (م 570 م م) .

2-

ترميمات تأجيرية مثل إصلاح البلاط، والنوافذ، والأبواب، والمفاتيح، ونحو ذلك، مما يقتضي به العرف، وهذا النوع يلتزم بها المستأجر ما لم يكن هناك اتفاق على غير ذلك (م 582 م م) .

3-

ترميمات ضرورية للانتفاع بالعين على الوجه المطلوب، مثل إصلاح السلم، أو المصعد أو دورة المياه، أو نحو ذلك مما هو مطلوب للانتفاع بالعين على الوجه المطلوب وهذا النوع يقع على عاتق المؤجر إلا إذا وجد اتفاق على خلاف ذلك (3) .

(1) د. السنهوري الوسيط: 6/1/257.

(2)

مثل القانون المدني العراقي في مادته (750) ، والقانون المدني السوري في مادته (535) واللبناني في مادته (547) .

(3)

الوسيط: 6/1/260؛ ومجموعة الأعمال التحضيرية: 4/495.

ص: 365

جزاء الإخلال بالصيانة:

إذا لم يقم المؤجر بالصيانة اللازمة في النوعين الأول والثالث فإن المادة (568 م م) نصت على أن المستأجر له الحق في أن يحصل على ترخيص من القضاء في إجراء ذلك بنفسه، وفي استيفاء ما أنفقه خصماً من الأجرة، وهذا دون إخلال بحقه في طلب الفسخ، أو إنقاص الأجرة، بل إن له الحق في القيام بإجراء الترميمات المستعجلة، أو البسيطة مما يلتزم به المؤجر دون الحاجة إلى ترخيص من القضاء وذلك إذا لم يقم المؤجر بعد إعذاره بتنفيذ هذا الالتزام في ميعاد مناسب على أن يستوفي المستأجر ما أنفقه خصماً من الأجرة، ويقابل هذا النص في القانون المدني العراقي المادة (750 م م) وفي السوري المادة (536 م س)(1) .

حق الفسخ أو إنقاص الأجرة بسبب عدم الصيانة:

وإذا لم يشأ المستأجر التنفيذ العيني على النحو السابق جاز له أن يطلب فسخ الإيجار إذا كان حرمانه من الانتفاع بالعين المؤجرة بسبب حاجتها إلى الترميمات حرماناً جسيماً يبرر الفسخ، وللمحكمة حق التقدير طبقاً للقواعد العامة، كما أن له الحق في طلب إنقاص الأجرة، وللمحكمة أن تجيبه فتنقص الأجرة بالقدر المناسب إذا رأت أن هناك مبررات لذلك (المادة 568م م) .

(1) د. السنهوري: الوسيط: 6/1/267-268.

ص: 366

وفي جميع الأحوال أعطى القانون المصري الحق للمستأجر بأن يطالب بالتعويض عن الضرر الذي أصابه بسبب نقص الانتفاع بالعين المؤجرة، والتعويض عما أصابه من ضرر في شخصه أو ماله بسبب ذلك، كل ذلك بشرط إعذار المستأجر المؤجر بإجراء الترميمات الضرورية، إذ المسؤولية هنا مسؤولية عقدية وليست مسؤولية تقصيرية (1) .

غير أنه صدرت عدة قوانين في مصر تنظم بعض أمور الإجارة منها القانون رقم (136) لسنة 1981م حيث ألغى التفرقة بين أعمال الإصلاح المعتاد، وأعمال الصيانة المعتادة وغير المعتادة، وجعلها كلها موزعة بين المالك وشاغل المبنى، فهي تشمل إصلاح درج السلم المكسور، أو المتآكلة، وكسوة الأرضية في السلالم والمداخل، وأعمال البياض والدهانات لواجهات المبنى والشبابيك من الخارج وكذلك الأعمال التي تتطلبها إعادة الحال إلى ما كانت عليه في الأجزاء التي تناولها الترميم والصيانة، واستبدال الزجاج المكسور للسلم والمناور والمداخل، ونزح الآبار والبيارات ومصارف المياه.

وقد اعتبر القانون المصري أن نفقات الترميم والصيانة إذا التزم بها المستأجر تعتبر في حكم الأجرة، ولذلك يستطيع المؤجر رفع دعوى الإخلاء على المستأجر عند عدم الوفاء بهذه النفقات (2) .

(1) د. السنهوري، الوسيط: 6/1/272.

(2)

الموسوعة في الإجارة المشار إليها، ص445-446.

ص: 367

أسئلة بنك التنمية تحدد المشكلة:

وجه البنك الإسلامي للتنمية بجدة خطاباً أوضح فيه العقبات التي تتطلب حلاً جذرياً بخصوص الصيانة وطالب مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في شهر المحرم عام 1407هـ بالإجابة عن أسئلته موضحاً له أن أنواع الصيانة ثلاثة هي:

النوع الأول: التشغيل السليم، ويشمل قراءة معدات قياس الحرارة، والمياه، والزيوت، ومتابعة ذلك للتأكد من سلامتها طوال فترات التشغيل.

النوع الثاني: الصيانة الوقائية، وتتمثل في أعمال محددة تتم في آجال معلومة يحدث فيها تغيير بعض الأجزاء وضبط البعض الآخر.

النوع الثالث: الصيانة الطارئة، وهي أعمال يجب القيام بها عند حدوث عطل فني غير متوقع مما قد يترتب عليه تغيير أجزاء هامة، وتتطلب مهارة فنية فائقة، وهذا النوع من الصيانة يمكن التقليل منه بالتشغيل السليم والصيانة الوقائية.

وقد طلب البنك في خطابه هذا الإجابة عن أسئلته حول الإيجار المنتهي بالتمليك وكيفية الصيانة فيه، وصدر عن المجمع في دورة مؤتمره الثالث عدة مبادئ بهذا الصدد منها:"أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد، أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذٍ عليه".

ومنها: "أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك يتحملها البنك".

ثم عرض البنك هذا الموضوع على مجموعة من الفقهاء الذين استشارهم البنك في بيان أفضل وسيلة لوضع المبادئ الستة التي أقرها المجمع موضع التنفيذ فأشارت عليه بما يأتي:

1-

يجوز للبنك أن يبرم عقداً مع المستأجر يقوم بموجبه المستأجر بصيانة العين المؤجرة مقابل مبلغ مقطوع.

2-

لا مانع شرعاً من توكيل البنك للجهة المراد تأجير المعدات لها بإجراء التأمين على المعدات محل الإيجار على نفقة البنك.

غير أن بنك التنمية –وهو حريص على عدم مخالفة الشريعة في جميع عملياته- أوضح بأنه يواجه بعض الصعوبات العملية في تطبيق تلك المبادئ السابقة على أسلوب الإيجار المنتهي بالتمليك مبيناً بأن البنك مؤسسة تمويلية تمتد عملياته إلى أربع وأربعين دولة، وأن المعدات والآلات والأجهزة التي يقوم بتأجيرها تختلف مواصفاتها وتتعدد بأنواعها وتتباين أغراضها مما يجعل التزام البنك بصيانتها أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً.

ص: 368

وأضاف البنك قائلاً: إن طبيعة الصيانة المطلوبة تختلف من شيء إلى آخر، فبالنسبة للعقارات –مثلاً –فإن أعمال الصيانة واضحة محددة وتتسم بالطابع الموسمي، وتتم في فترات محددة ما عدا الأضرار التي تنجم عن الحوادث الطارئة، أما المعدات والآلات فإن صيانتها تتسم بالاستمرارية، ويصعب لذلك تقديرها مسبقاً لارتباطها بطبيعة التشغيل ونوعه وكفاءة الكوادر الفنية التي تقوم بهذا النوع الفني الشائك من الصيانة الذي يتطلب أن يكون لدى البنك فريق كامل من الخبراء والفنيين في كافة التخصصات وهو أمر يفوق طاقة مؤسسات التمويل الإسلامية، ويضعف مركزها في مواجهة مؤسسات التمويل غير الإسلامية (1) ، وقد طلب البنك البحث عن صيغة تحقق مصالحه، وتتفق مع أحكام الشريعة ومقاصدها، وتجيب بصفة خاصة عن الأسئلة الثلاثة الآتية:

1-

هل يمكن تصنيف أعمال الصيانة المختلفة، كما تقدم وصفها، لمعرفة ما يمكن أن يتحمله المستأجر منها، دون أن يتعارض ذلك مع مقتضى عقد الإيجار؟

2-

وإذا بقي من أنواع الصيانة ما يقضي الفقه بإلزام مالك العين به، فهل لذلك المالك أن يتفق مع المستأجر على أن يقوم المستأجر بتلك الصيانة مقابل تخفيض الأجرة؟

3-

هل بالإمكان من الناحية الشرعية أن يتم الاتفاق بين المؤجر والمستأجر على أن يقوم الأخير بإجراء التأمين على العين موضوع الإيجار تأميناً شاملاً على نفقته؟

هذا وقد أجابت الفتاوى الصادرة عن الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي عن بعض ما تتضمنه هذه الأسئلة الثلاثة، وهذا نصها:

صيانة العين المأجورة:

أولاً: لا يلزم المؤجر القيام بشيء من الإصلاحات الإنشائية، أو التحسينية إلا بشرط في العقد.

ثانياً: يلزم المؤجر القيام بالإصلاحات الضرورية لتمكين المستأجر من الانتفاع، إذا حدث الخلل بعد التعاقد، أو كان موجوداً عند التعاقد ولم يطلع عليه المستأجر، أما إذا كان موجوداً قبل التعاقد واطلع عليه المستأجر فلا يلزم المؤجر القيام بإصلاحه إلا بشرط في العقد، فإذا قام المؤجر بالإصلاحات التي تلزمه بمقتضى البند السابق لم يكن للمستأجر حق فسخ العقد.

(1) يراجع بحث: أ. د. حسين حامد حسان عن المسؤولية عن أعمال الصيانة في إجارة المعدات المنشور ضمن أعمال الندوة الفقهية الثانية لبيت التمويل الكويتي المنعقد في الكويت 4-7 ذي القعدة 1410هـ/ 28-31مايو 1990م.

ص: 369

ثالثاً: الأصل أنه لا يجوز أن يشترط المؤجر على المستأجر صيانة العين مما قد يحصل بها من الخلل، فإن وقع العقد بهذا الشرط فسد، للجهالة.

ويستثنى من ذلك الحالات التالية:

1-

الصيانة التشغيلية وهي ما يستلزمه استعمال العين المستأجرة لاستمرارية استخدامها (كالزيوت المطلوبة للآلات والمعدات) .

2-

الصيانة الدورية، وهي ما يتطلبه استمرار قدرة العين على تقديم المنفعة.

3-

الصيانة المعلومة، بالوصف والمقدار في العقد، أو العرف، سواء كانت الصيانة مجرد عمل أو مع استخدام مواد أو قطع غيار معلومة، لأن ما كان من هذا القبيل فإنه بمثابة أجرة مأخوذة في الاعتبار.

رابعاً: إن أذن المؤجر للمستأجر في العقد أو بعده أن يقوم بإصلاحات معينة في العين فله أن يفعل ذلك ثم يكون له أن يرجع على المؤجر بما أنفقه عنه، ما لم يكن المؤجر قد اشترط أن لا رجوع عليه، أما إن قام المستأجر بعمل صيانة للعين المستأجرة بدون إذن المؤجر فليس له أن يرجع عليه بشيء، بل يكون متبرعاً. "انتهى نص القررا".

الصيانة في الفقه الإسلامي:

تدخل هذه المسألة ضمن ما يلزم به شرعاً المؤجر، أو المستأجر، ولذلك تحدث الفقهاء عن التزامات المؤجر، والمستأجر، فقالوا على المؤجر ما يتمكن به من الانتفاع كتسليم المفتاح، وعليه بناء حائط إن سقط، وإبدال خشبه إن انكسر، وعليه تبليط الحمام وعمل الأبواب ومجرى الماء، لأنه بذلك يتمكن من الانتفاع.

وأما ما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة في إجارة البئر فعلى المكتري (1) .

وقال النووي: "ما تحتاج إليه الدار المكراة من العمارة ثلاث أضرب:

أحدها: مرمة لا تحتاج إلى عين جديدة كإقامة جدار مائل وإصلاح منكسر، وإغلاق مفتوحة.

الثاني: ما يحوج إلى عين جديدة كبناء، وجذع جديد، وتطيين سطح.

الثالث: عمارة يحتاج إليها لخلل قارن العقد بأن أجر داراً ليس لها باب ولا ميزاب.

ولا يجب شيء من هذه الأضرب على المستأجر، بل هي من وظيفة المؤجر، فإن بادر إلى الإصلاح فلا خيار للمستأجر، وإلا فله الخيار إذا نقصت المنفعة.. وإنما يثبت الخيار في الضرب الثالث" (2) .

وجاء في الذخيرة "على رب الدار كنس المرحاض، وإصلاح الواهي حتى يتمكن من المنفعة"(3) .

وجاء في الدر المختار: "وعمارة الدار المستأجرة وتطيينها (أي تطيين سطحها) وإصلاح الميزاب، وما كان من البناء على رب الدار، وكذا كل ما يخل بالسكنى، فإن أبي صاحبها أن يفعل كان للمستأجر أن يخرج منها إلا أن يكون المستأجر استأجرها وهي كذلك وقد رآها لرضاه بالعيب، وإصلاح بئر الماء والبالوعة والمخرج على صاحب الدار"(4) .

(1) يراجع: المغني لابن قدامة: 5/458؛ والروضة: 5/211.

(2)

الروضة: 5/210.

(3)

الذخيرة: 5/493.

(4)

الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 5/49.

ص: 370

وذكر ابن عابدين أنه جاء في البزازية "أن تسييل ماء الحمام وتفريغه على المستأجر وإن شرط نقل الرماد والسرقين رب الحمام على المستأجر لا يفسد العقد"(1) .

والمعيار عند الفقهاء في هذه المسألة هو أن ما كان يخص تحقيق الهدف من الإجارة فعلى المؤجر، أو بعبارة أخرى "ما يتمكن به من الانتفاع بالعين المؤجرة، فعلى المؤجر، وما كان لاستيفاء المنافع فهو على عاتق المستأجر، فالواجب على المؤجر أن يزيل كل العقبات أمام المستأجر لتمكينه من الانتفاع بما أجره على الوجه الذي هو مقصوده (2) ، أما ما يخص استيفاء المنفعة فهو على المستأجر".

وأعتقد أن هذا الميزان والمعيار الفقهي يفتح أمامنا مجالاً للنظر والاجتهاد في مسائل الصيانة اليوم، حيث إن ما يلزم لاستيفاء منافع العين المؤجرة يقع على عاتق المستأجر، وعلى ضوء ذلك فالصيانة اللازمة لتشغيل المحركات ونحوها مثل تبديل الزيت والفلتر والعجلات ونحوها مما يحتاج إليها العمل، وتستهلكه العين المؤجرة تكون على المستأجر (3) ، لأن هذه الأمور بمثابة العلف للدابة المستأجرة حيث يقع على المستأجر.

وكذلك الصيانة التي تكون للأجزاء الصغيرة غير الجوهرية التي تستهلك أو تتلف في فترات دورية معينة بسبب التشغيل فهذه أيضاً تقع على عاتق المستأجر لأنها تلزم لاستيفاء المنافع وهي أشبه ما تكون بآلات رفع الماء من البئر التي تقع على المستأجر، وقد قال ابن قدامة:"وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة (في إجارة البئر) فعلى المكتري"(4) أي المستأجر، وجاء في الروضة:"إذا اكترى للركوب قال الأكثرون: على المؤجر الإكاف والبرذعة.. وفي السرج إذا اكترى الفرس أوجه، ثالثها اتباع العادة، قلت: صحح الرافعي في المحرر اتباع العادة، والله أعلم. وقال أبو الحسن العبادي في (الرقم) لا يلزم مكري الدابة إلا تسليمها عارية، والآلات كلها على المستأجر"(5) .

(1) المرجع السابق نفسه.

(2)

يراجع: المبسوط: 15/157؛ والمغني: 5/458.

(3)

د. حسين حامد، بحثه المنشور حول الصيانة في أعمال ندوة بيت التمويل الثالثة، ص454.

(4)

المغني: 5/458.

(5)

الروضة: 5/219؛ وحاشية القليوبي وعميرة على المحلى: 3/79.

ص: 371

دور العرف في هذا الباب:

للعرف في تحديد التزامات المؤجر، والمستأجر دور كبير، فقد رأينا أن الشافعية الذين لا يعتبرون العرف دليلاً أو مصدراً من مصادر الفقه يولون هنا عناية به ويصححون اتباع العادة والعرف فيما يلزم المؤجر والمستأجر (1)، ويقول ابن قدامة:"يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطأ به المركوب للراكب"(2)، وقال السرخسي:"ولأن المرجع في هذا إلى العرف"(3) .

فعلى ضوء ذلك يمكن الاعتماد على العرف الجاري السائد.

اشتراط الصيانة على المستأجر:

لا خلاف بين الفقهاء –من حيث المبدأ- بأن الأشياء التي لا تجب على المؤجر لو اشترطها على المستأجر ووافق عليها فإن هذا الشرط ملزم ما دام لا يخالف نصاً من نصوص الكتاب والسنة.

وإنما الحديث هنا عن اشتراط المؤجر ما يجب عليه من أعمال الصيانة، ثم يشترطها على المستأجر ويوافق عليها، فهل يعد هذا الشرط باطلاً أو صحيحاً؟

وللإجابة عن ذلك نحتاج إلى تحديد نوعية هذا الشرط هل هو مما خالف نصاً من نصوص الكتاب والسنة؟ أو هو يخالف مقتضى العقد؟

إنه من خلال التقصي لا نجد نصاً شرعياً ثابتاً يمنع هذا الشرط هنا، وإذا لم يثبت ذلك فإن الأصل –على الراجح عند المحققين كما سبق- هو الإباحة في العقود والشروط كما أثبت ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره (4) .

وهل هو مخالف لمقتضى عقد الإجارة؟

للإجابة عن ذلك نقول: إن مقتضى عقد الإجارة هو تملك المستأجر للمنفعة، وتملك المؤجر للأجرة، وتسليم محل المنفعة بشكل يستطيع المستأجر أن ينتفع به، ويحقق غرضه المنشود من الإجارة، أما القيام بأعمال الصيانة التي يقتضيها استيفاء المنفعة فليس من مقتضى العقد.

(1) المصادر السابقة أنفسها.

(2)

المغني: 5/415.

(3)

المبسوط: 15/157.

(4)

يراجع: مجموع الفتاوى: 29/126

؛ والقواعد النورانية، ص184؛ وللتفصيل مبدأ الرضا في العقود: 2/1186.

ص: 372

ويدل على ذلك أن الفقهاء ذكروا أن الواجب على المؤجر أن يسلم مع الدابة المستأجرة حزامها وإكافها ونحو ذلك، ومع ذلك أجازوا اشتراط نفي ذلك، قال النووي:"هذا إذا أطلقا العقد، أما إذا قال: أكريتك هذه الدابة العارية بلا حزام ولا إكاف ولا غيرهما فلا يلزمه شيء من الآلات"(1) .

ثم إن هناك فرقاً بين تسليم العين المؤجرة سليمة وصالحة، وهذا بلا شك واجب على المؤجر إلا إذا اتفقا على عين معيبة وهذا أيضاً جائز، وبين أن يفرض على المؤجر الصيانات التي تحتاج إليها العين المؤجرة بسبب العمل، فالذي يظهر لي رجحانه أن جميع أنواع الصيانات التي يعود سببها إلى العمل والتشغيل ليست من مقتضيات العقد، بل هي مما يجوز فيها الاشتراط والاتفاق.

قد يقال: إن بعض انواع الصيانة يتوقف عليها تشغيل المعدات؟

نقول: لا ضير في ذلك فهي مثل العلف للدابة المستأجرة، حيث لا تستطيع بدونه أن تعمل، أو تحمل، بل قد تموت، ومع ذلك فهو على المستأجر، لأنه يتعلق باستيفاء المنفعة، وليس بالتمكن من الانتفاع، وكذلك الحال في المعدات حيث إن المهم فيها هو أن يسلمها طبقاً للأوصاف المتفق عليها، أو برضا المستأجر بعد رؤيتها، أما ما تحتاج إليه هذه الآلة أو الطائرة من صيانة فيما بعد بسبب طبيعة العمل والاستهلاك فهذا يعود إلى العرف الجاري، أو الاشتراط.

بل إن بعض الفقهاء أجازوا ضمان العين المستأجرة كلها، وهذا مروي عن أحمد، وقول مرجوح للمالكية.

جاء في المغني: "فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى العقد.. ولأن ما لا يجب ضمانه لا يصيره الشرط مضموناً، وما يجب ضمانه لا ينتفي ضمانه بشرط نفيه، وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم، وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه، ووجوبه بشرطه لقوله صلى الله عليه وسلم:((المسلمون عند شروطهم)) (2) .

وذكر الإمام القرافي قولاً مرجوحاً للمالكية بأن يد المستأجر يد ضمان على العين المستأجرة كما في الأجير المشترك (3) .

(1) الروضة: 5/219.

(2)

رواه البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم، فتح الباري: 4/451؛ ورواه الحاكم في المستدرك: 2/49؛ وأبو داود في سننه –مع العون-: 9/516؛ وابن حبان، الحديث رقم 1199؛ وقال الألباني في الإرواء: صحيح الحديث 1303.

(3)

الذخيرة: 5/502.

ص: 373

شروط المرمة على المستأجر:

وقد أجاز جماعة من الفقهاء منهم المالكية اشتراط الترميم (الصيانة) من الأجرة نفسها (1) ، وأجازوا كذلك أن تكون أعمال المرمة زيادة على الأجرة إذا كانت معلومة علماً يرفع الجهالة المؤدية إلى النزاع، جاء في الشرح الكبير:"وجاز شرط مرمة على المكتري، أي إصلاح ما تحتاج إليه الدار أو الحمام مثلاً من كراء وجب، وشرط تطيين الدار أي جعل الطين على سطحها إن احتاجت على المكتري من كراء وجب.."وعلق عليه الدسوقي بقوله: "اعلم أنهما –أي المرمة والتطيين- إن كانا مجهولين فلا يجوز اشتراطهما على المكتري إلا من الكراء لا من عند نفسه كأن يقول كلما احتاجت لمرمة، أو تطيين فرمها أو طينها من الكراء، وأما إن كانا معلومين كأن يعين للمكتري ما يرمه، أو يشترط عليه التطيين مرتين، أو ثلاثاً في السنة فيجوز مطلقاً سواء كان من عند المكتري، أو من الكراء بعد وجوبه، أو قبله وهذا النص يساعدنا في مجال الصيانة على أن تحمل على المستأجر"(2) .

وهذا النص الفقهي يدل بوضوح على جواز اشتراط الصيانة المعهودة في عصرهم على المستأجر ما دامت معلومة علماً لا يؤدي إلى النزاع، ويقاس عليها الصيانة المعهودة في عصرنا للآلات والمعدات والدور ونحوها، ولكن ينظم ذلك عن طريق المرات المطلوبة أو للأجزاء المحدودة.

والمرمة تعني إصلاح التالف، فيجوز على ضوء ما سبق أن تكون على المستأجر وهي تشمل الصيانة الضرورية لاستيفاء المنفعة، وتشمل إصلاح الآلات التالفة بسبب التشغيل، أو استبدالها، لأن المرمة قد تتطلب شراء الجص ومواد البناء، وقد أجاز الفقهاء أن تكون على المستأجر إذا اشترط عليه، وهكذا الأمر في إصلاح العطل وتبديل ما تحتاج إليه المعدات من أدوات وآلات تستبدل في كل فترة، والشرط الوحيد في ذلك هو أن تحدد المرمة، أو الصيانة بفترات محددة، أو بأي وسيلة ترفع الجهالة المؤدية إلى النزاع.

ويقرب من هذا ما أجازه جماعة من الفقهاء من المالكية من شرط تكريب الأرض الزراعية وتزبيلها (3) على المستأجر، مع أنه من مسؤولية المؤجر عند إطلاق العقد، فقد جاء في المدونة:"قلت أرأيت إن أكريتك أرضي هذه السنة بعشرين ديناراً وشرطت عليك أن لا تزرعها حتى تكريها ثلاث مرات فتزرعها في الكراب الرابع، وفي هذا منفعة لرب الأرض، لأن أرضه تصلح على هذا؟ قال: نعم هذا جائز، قلت: أرأيت إن أكريته أرضي وشرطت عليه أن يزبلها؟ قال: إذا كان الذي يزبلها به شيئاً معروفاً فلا بأس بذلك، لأن مالكاً قال: لا بأس بالكراء والبيع أن يجمعا في صفقة واحدة، قلت: أرأيت إن استأجرت منك أرضاً بكذا وكذا على أن على رب الأرض حرثها أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: يجوز"(4) .

(1) المدونة: 5/508.

(2)

الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 4/47.

(3)

هو حرث الأرض، وتقليب تربتها، وتزبيلها أي وضع الزبل والسماد فيها، انظر: هامش المدونة: 4/555.

(4)

المدونة: 4/554-555.

ص: 374

فهذه النصوص تدل بوضوح أن باب الشروط في الإجارة واسع، وأن اشتراط الصيانة على المستأجر من ماله، أو من الأجرة جائز.

مخرج عند من لا يجيز ذلك:

بعض الفقهاء منهم الحنفية لم يجيزوا اشتراط المرمة على المستأجر، حتى لو اشترطها عليه فسدت الإجارة وقالوا: إن هذا شرط مخالف لمقتضى العقد، وأنه يؤدي إلى الجهالة (1) ، وهكذا الشافعية حيث لم يجيزوا اشتراط العمارة على المستأجر (2)، ولكنهم أجازوا أن يشترط المؤجر مبلغاً زائداً على الأجرة للترميم بأن يقول: أجرتك داري كل شهر بعشرين ديناراً، وعشرة دراهم للترميم، وأذن له أن ينفقها عليه فهو جائز، لأنه معلوم المقدار ووكله في ذلك، جاء في الفتاوى: قال محمد: الأصل أن شرط المرمة على المستأجر يجعل الإجارة فاسدة، لأن قدر المرمة يصير أجراً وأنه مجهول، وإن أراد الحيلة فالحيلة أن ينظر إلى قدر ما يحتاج إليه في المرمة، ويضم ذلك إلى الأجرة، ثم يأمر صاحب الحمام المستأجر بصرف ما ضم إلى الأجر للمرمة إلى المرمة حتى إذا كان الأجر عشرة والقدر المحتاج إليه للمرمة أيضاً عشرة فصاحب الحمام يؤجر منه بعشرين ويأمره بصرف العشرة إلى المرمة فيصير المستأجر وكيلاً من جهة صاحب الحمام بالإنفاق عليه من ماله، وأنه معلوم فيجوز" (3) .

إذن دون اشتراط:

ذكر بعض الفقهاء أن المؤجر لو أذن للمستأجر أن يقوم بالصيانة على نفقته، بأن يقول: أجرتك هذه الطائرة، أو السيارة، أو الباخرة، وأذنت لك بصيانتها كلما احتاجت إلى ذلك على حسابك الخاص دون أن ترجع علي بشيء، لصح ذلك، وأصبح المستأجر متبرعاً بما ينفقه عليها فلا يكون له حق الرجوع على المؤجر، وذكر البهوتي أن شرط التعمير لا يجوز للجهالة لكن الإذن بذلك جائز (4) .

قيام المستأجر بالصيانة دون إذن المؤجر:

إذا قام المستأجر دون إذن ولا اشتراط بأعمال الصيانة والإصلاح فإن فقهاء المذاهب الأربعة –ما عدا وجهاً مخرجاً ضعيفاً للحنابلة- على أنه لا يرجع بنفقات الصيانة على المؤجر، لأنه بمثابة المتبرع بها (5) .

(1) المبسوط: 15/157، 159؛ والفتاوى الهندية: 6/413.

(2)

فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 12/200.

(3)

الفتاوى الهندية: 6/413.

(4)

شرح منتهى الإرادات: 2/264، 370؛ ود. سليمان الأشقر: صيانة الأعيان المؤجرة، بحث مقدم إلى الندوة الفقهية الثالثة بالكويت، ص 12.

(5)

مجمع الأنهار: 2/399؛ والفواكه الدواني: 2/164؛ وحاشية الخرشي: 7/50؛ والإنصاف: 6/67؛ وحاشية ابن عابدين: 5/49؛ وبحث الدكتور محمد شبير عن صيانة العين المؤجرة في الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي.

ص: 375

وحل آخر ذكروه وهو أن يقول رب الدار، أو الحمام للمستأجر: قد تركت لك أجر شهرين لمرمة الحمام، أو الدار، فهذا لا يفسد الإجارة (1) .

ويفهم من هذه النصوص أن المدار هو الجهالة، ومن هنا فلو أمكن عن طريق العرف أو الوصف تحديد أعمال الصيانة للزم القول بالجواز.

أما كون ذلك مخالفاً لمقتضى العقد فهذا غير مسلم، وذلك لأن مقتضى عقد الإجارة هو التسليم والتسلم وتملك المنفعة والأجرة، أما هذه الالتزامات فهي ليست على المؤجر بمقتضى العقد بدليل أن جماعة من الفقهاء أجازوا اشتراطها على المستأجر كما سبق، كما أنها من الشروط التي لم يرد فيها نص خاص فتبقى على الإباحة، وحينئذ يجوز تحديدها بمقتضى الشروط.

وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية الفرق بين العقد المطلق، وبين المعنى المطلق من العقود فقال:"فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضر، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد، فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره"(2) .

فعلى ضوء ذلك نجد أن مقتضى العقد هو مقصوده الأساسي، وهو في الإجارة تملك المنفعة، والأجرة، وأن المراد بالشرط المخالف لمقتضى العقد هو الذي يتناقض مع مقصوده فيبطل، لأنه يؤدي إلى الجمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه، ومن هنا فاشتراط الصيانة ليس من هذا القبيل.

والخلاصة أن جميع أنواع الصيانة التي يتطلبها استيفاء المنفعة من الصيانة التشغيلية، ومن إصلاح الخلل للأجزاء التي تتلف بسبب التشغيل يجوز اشتراطها على المستأجر، لأن القاعدة العامة هي أن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه بأن يكون مخالفاً لنص من الكتاب والسنة (3) .

(1) المبسوط: 15/ 157 – 159.

(2)

القواعد النورانية، ص 211

؛ ويراجع مجموع الفتاوى: 29/346.

(3)

يراجع: مجموع الفتاوى 29/346؛ ويراجع: د. حسين حامد، بحثه السابق، ص 485.

ص: 376

الصيانة وتحمل تبعة الهلاك للعين المستأجرة:

لاشك أن تبعة هلاك العين المؤجرة تقع على عاتق المؤجر –كما سبق- فلماذا لا يقاس عليها أعمال الصيانة في عدم جواز اشتراطها على المستأجر؟

للجواب عن ذلك نقول:

أولاً: إن الإمام أحمد في رواية –كما سبق- أجاز أن يكون ضمان العين المستأجرة على المستأجر بالاشتراط، واستنبط منه ابن قدامة ضابطة فقهية وهي: جواز نفي الضمان بشرطه، ووجوبه بشرطه.

ثانياً: إن الصيانة تختلف من هلاك العين المستأجرة، إذ أن هلاكها يؤدي إلى عدم إمكانية الانتفاع بها، في حين أن الصيانة في معظم أحوالها للتشغيل، والوقاية، وأما ما فيها من إصلاح لتلف بعض الأجزاء فهو بمثابة الترميم (المرمة) ولذلك لا يجوز اشتراط أن تكون هلكة الأجزاء الكبيرة الجوهرية على عاتق المستأجر إلا على رواية لأحمد، وقول مرجوح في المذهب المالكي –كما سبق-.

ونستطيع القول بعد هذا العرض للموضوع بأن الصيانة بأنواعها الثلاثة التي طرحها البنك الإسلامي للتنمية ليست من مقتضى عقد الإجارة، وبالتالي يجوز للمؤجر أن يشترطه على المستأجر، فإذا وافق على ذلك فقد التزم به (1) ، ولكن يلزم أن تكون هذه الصيانة معلومة بالوصف، أو المرات، أو بالعرف أو حسب الخبرة القائمة على الدراسات الفنية التي قاموا بها، أو بعبارة أخرى تكون معلومة علماً يرفع الجهالة الفاحشة الموجبة للنزاع.

فأعمال الصيانة وإن كانت واجبة على المؤجر باعتبارها من أحكام العقد، لكنه لا يلزم أن تكون من مقتضى العقد الأساسي الذي لا يجوز مخالفته، وبالتالي يجوز شرطها على المستأجر.

والثاني: لا يقبل، لأنه قبضه لنفع نفسه، أشبه المستعير" (2) .

(1) وهذا هو رأي الدكتور حسين حسان في بحثه السابق الإشارة إليه حيث قال في ص485: "إن الصيانة بأنواعها الثلاثة المتقدم بيانها ليست من مقتضى عقد إجارة الآلات والمعدات، فكان شرطها على المستأجر غير مناف لمقتضى العقد بمعنى مقصود الشارع منه، كما أنها لا تخالف نصاً شرعياً من كتاب وسنة فجاز شرطها على المستأجر بناء على الأصل المتقدم الذي أكده شيخ الإسلام".

(2)

الكافي: 2/154.

ص: 377

ثالثاً: أن نظرة الفقهاء إلى الأجير تختلف عن نظرتهم إلى المضارب والوكيل، والشريك، حيث إن جمهورهم يرون تضمين الأجير المشترك، وبعضهم يضمنون حتى الأجير الخاص –كما سبق- وأن تعليلهم لذلك يفهم منه نوع الخصوصية للإجارة، فلنذكر ما قاله الإمام القرافي في هذا المجال في رده على من قال بعدم تضمين الأجراء (كالخياط ونحوه) فقال: "والجواب عن الأول –أي حديث ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) (1) المعارضة بقوله عليه السلام ((على اليد ما أخذت حتى ترده)) (2) .

وعن الثاني (أي القبض لمنفعة الغير) بأننا لا نسلم أنه لم يقبض لحق نفسه بل لمستحق الأجرة، فوجب أن يضمن كالفرض (3) .

ثم رد القرافي على قياس الأجير على المضارب والمساقي والمودع والوكيل فقال: "سلمنا صحة القياس لكن المودع لم يؤثر في العين تأثيراً يوجب التخمة على أخذ بسبب التغيير، وهو الفرق في الوكيل، وأما المساقي فكذلك أيضاً، لأن الله تعالى هو منمي الثمار، وأما المقارض فلو ضمن مع أن المال بصدد الذهاب والخسارة في الأسفار لامتنع الناس منه فتتعطل مصلحته بخلاف السلع عند الصناع فظهر الفرق، ثم يتأكد ما ذكرناه أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قضوا بتضمينهم وإن لم يتعدوا.. ولأنه من المصالح فوجب أن يكون مشروعاً"(4) .

وهذا النص يدل بوضوح على أن نظرة الفقهاء إلى الإجارة –بصورة عامة- تختلف عن غيرها من العقود التي لا تقوم على مبنى الضمان، فالإجارة لها طبيعة خاصة تختلف عن غيرها حتى في كيفية استفادة المستأجر من العين المؤجرة، ولذلك فإذا سلمها المؤجر بالشكل الذي يحقق الغرض المنشود من الإجارة، أو حسب الاتفاق فإنه قد أدى ما عليه، ثم إذا احتاجت بعد ذلك إلى أية صيانة تخص جانب التشغيل، أو ما سماه الفقهاء باستيفاء المنفعة، فإنها يمكن أن تشترط على المستأجر حسب مواصفات معلومة بالعرف أو المرات أو نحو ذلك مما يؤدي إلى رفع جهالة فاحشة عنه.

يقول القرافي: "يجوز كراء الدابة على أن عليك رحلها أو نقلها، أو علفها وطعام ربها، أو على أن عليه طعامك ذاهباً وراجعاً، وإن لم توصف النفقة، لأنه معلوم عادة"(5) ، فهذا النص وغيره من النصوص الفقهية تسعفنا في عدم التشدد في موضوع العلم بالصيانة، وإرجاعها إلى العرف والعادة وأن المعيار في ذلك هو أن لا تكون الجهالة مؤدية إلى النزاع.

(1) رواه أحمد في مسنده: 5/72؛ والبيهقي في السنن الكبرى: 6/100؛ والدارقطني في السنن رقم (300) ، وهو حديث صححه عدد من الأئمة.

(2)

رواه الخمسة والحاكم وصححه. انظر: مسند أحمد: 5/8، 12، 13) ؛ وأبو داود، الحديث (3561) ؛ والترمذي: 1/239؛ وابن ماجه، الحديث (2400) ؛ والحاكم: 2/47؛ والبيهقي: 6/90.

(3)

لعلها: كالقراض.

(4)

الذخيرة: 5/503.

(5)

الذخيرة: 5/378.

ص: 378

آثار عدم قيام المؤجر بالصيانة:

ذكرنا السابق أن جمهور الفقهاء في العقد المطلق على أن الصيانة الضرورية لحفظ العين، ولتمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة تقع على كاهل المؤجر، ولكنهم اتفقوا على أنه لا يجبر على ذلك، لأن الإنسان لا يجبر على إصلاح ملكه (1) ولكن المستأجر له الحق في فسخ العقد بشرط أن يكون هذا قد وجد بعد العقد، أو كان موجوداً ولم يعلم به، أما إذا كان قديماً وعلم به أو حادثاً فأصلحه فوراً فليس له حق الفسخ، جاء في الدر المختار:"فإن لم يخل العيب به –أي بالنفع – أو أزاله المؤجر، أو انتفع بالمخل –أن يرضى به- سقط خياره لزوال السبب.. فإن أبي صاحبها أن يفعل كان للمستأجر أن يخرج منها إلا أن يكون المستأجر استأجرها وهي كذلك وقد رآها، لرضاه بالعيب، وإصلاح بئر الماء والبالوعة، والمخرج على صاحب الدار لكن بلا جبر عليه، لأنه لا يجبر على إصلاح ملكه، فإن فعله المستأجر فهو متبرع، لكن لو كانت وقفاً يجبر الناظر على ذلك حماية لأموال الوقف"(2) .

إذن الجزاء على الإخلال بذلك هو حق الفسخ والخروج من العين المستأجرة دون الإجبار قضاء، وهذا ما أخذت به مجلة الأحكام العدلية في مادتها (529) ومرشد الحيران في مادته (645) ، وذهب بعض الفقهاء (ابن حبيب من المالكية والغزالي من الشافعية) إلى أن المؤجر يجبر على ما يطيقه من الصيانة، وإصلاح العيوب اليسيرة (3) .

لكن القوانين الوضعية ذهبت إلى أن الصيانة على المؤجر مطلقاً وأنه ملزم بها قضاء، كما في المادة (576) من القانون المدني المصري، والمادة (572) من القانون المدني الكويتي، بل للمستأجر الحق في التنفيذ العيني –كما سبق-.

ورأي الجمهور هو الراجح لأنه يحقق العدالة للطرفين، ولا يؤدي إلى تعسف بحق المؤجر الذي يجحف بحقه إلزامه بالإصلاحات التي قد تكلفه مبالغ باهظة، إضافة إلى أن هذا التشدد في حق المؤجر يؤدي بالنهاية إلى الإضرار بالقطاع التأجيري، لأنه يترتب عليه امتناع الكثيرين من الولوج في الاستثمار التأجيري خوفاً من تعسف يطالهم في هذا المجال.

ثم إن هذا الرأي لم يغفل حق المستأجر حيث له الخيار في فسخ العقد والخروج من العين المؤجرة (4) .

(1) حاشية ابن عابدين: 5/49؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/54؛ وحاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلى على المنهاج: 3/78؛ وكشاف القناع: 4/21.

(2)

الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 5/49.

(3)

شرح الخرشي: 7/52؛ وحاشية الجمل على شرح المنهج: 3/550.

(4)

د. محمد الأشقر: بحثه السابق، ص 7.

ص: 379

وهل للمستأجر الحق في إنقاص الأجرة؟

ذهب جماعة من الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة في قول)(1) إلى جواز إنقاص الأجرة في مقابل حدوث خلل في العين المؤجرة وعدم قيام المؤجر بالإصلاح، أو بعبارة أخرى إذا لم يقم بالصيانة اللازمة وبقي الخلل فإن للمستأجر الحق في إنقاص الأجرة، والمرجع في ذلك إلى أهل الخبرة.

وذهب الحنفية، والحنابلة على المذهب إلى عدم جواز إنقاص الأجرة، وإنما له حق الفسخ فقط (2) .

وقد أخذت القوانين العربية بحق إنقاص الأجرة بحكم من المحكمة –كما سبق-.

والذي يظهر لي رجحانه هو الرأي الأخير، وذلك لما يأتي:

أولاً: إن عقد الإجارة من عقود الرضا، وهذا يقتضي أن لا يجبر أحد العاقدين إلا برضاهما ولما يترتب على رضاهما، ومن هنا فإجبار المؤجر على القبول بإنقاص الأجرة دون رضاه إجبار على شيء لم يذكر في العقد، ولا اقتضاه العقد فيكون أكلاً لأموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .

ثانياً: بالقياس على البيع حيث يكون المشتري بالخيار عند العيب بين الفسخ والقبول بالمبيع بثمنه المتفق عليه –كمبدأ-.

ثالثاً: إن هذا يحقق العدالة للعاقدين، إذ أن إجبار المؤجر على القبول بإنقاص الأجرة لا يخلو من ظلم وتعسف يفرض عليه، في حين أن حق الفسخ وحده يحقق المطلوب للطرفين، فإن شاء المستأجر فسخ، وإن شاء بقي على الأجرة المتفق عليها، وإذا أراد الطرفان إنقاص الأجرة فيكون ذلك برضى جديد من الطرفين.

هذا والله أعلم بالصواب.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين.

(1) شرح الخرشي: 7/51؛ وشرح المحلى مع حاشية القليوبي وعميرة: 3/78؛ والإنصاف: 6/66.

(2)

الفتاوى الهندية: 4/458؛ الإنصاف: 6/66؛ ويراجع بحث د. محمد عثمان شبير.

ص: 380