الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استثمار موارد الأحباس
إعداد
الشيخ كمال الدين جعيط
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد:
[تعريف بالبحث]
1-
الاستثمار:
أ-تعريفه: سيأتي تعريفه لغة واصطلاحاً والفرق بين الاستثمار والاستغلال والانتفاع وهو أعم من الجميع.
ب-حكمه: الاستحباب.
جـ-أركانه: المستثمر وهو المالك أو من ينوب عنه، والمال المستثمر وشرطه أن يكون ملكاً حلالاً.
د- طرق الاستثمار: تكون بطريق مباشر باستخدام الأموال في شراء الآلات والمواد الأولية، أو بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات.
وشرطه أن يكون ملكاً مشروعاً، لأن الثمرة تابعة لصاحب الملك.
2-
الأوقاف:
أ-تعريف الحبس: سيأتي تعريفه لغة واصطلاحاً وبيان الفرق بين ملك العين وملك المنفعة وملك الانتفاع، وهو لا يلزم إلا بأمور ثلاثة:
1-
أن يحكم به الحاكم.
2-
أن يعلقه بموت صاحبه، فيلزم كالوصية في الثلث بالموت.
3-
أن يجعله وقفاً فيما تنعدم الملكية به كالمساجد والزوايا ونحوها.
ب-مشروعيته: الحبس نظام إسلامي محض بدليل الحديث والإجماع.
جـ-صفة الوقف: هو تبرع غير لازم، لصاحبه أن يرجع فيه، ويبطل رجوعه في الحبس بموته، والأوقاف خاصة وعامة. أما العامة فتنتقل ملكيتها من صاحبها إلى الأمة لتصير ملكاً من الأملاك العامة التحبيس على المستشقيات ودور التعليم والمساجد والمصالح العامة. وأما الخاصة فتكون بالتحبيس على أهله وذوي قرابته أو على من عين التحبيس عليه.
د-حق الحكر: هو حق القرار المترتب على الأرض الموقوفة بإجارة مديدة تعقد بإذن القاضي، وهو حق قابل للبيع والشراء وينتقل إلى ورثة المستحكر. والحكر يطلق على ثلاثة معان: على الأجرة المقررة على العقار الحبوس، وعلى العقار المحتكر ذاته، وعلى الإجارة الطويلة الأمد. ويكون الحكر غالباً في الأوقاف العامة، وقد يكون في الأوقاف الخاصة. والإجارة أعم من الحكر.
هـ-أحكام الأوقاف: غالب أحكام الأوقاف والأحباس اجتهادية، ذهب المالكية إلى عدم جواز كرائها فيما زاد على أربع سنين، وذهب الحنفية إلى عدم جوازها فيما زاد على ثلاث، بينما ذهب الشافعية إلى جوازها، وأما الحنابلة فيجيزون الإجارة الطويلة إذا كانت في المدة التي تبقى فيها العين غالباً وإن كثرت.
وحكم التحكير في الوقف وشرط جوازه: ذهب أكثر العلماء إلى جواز التحكير بشروط ثلاثة: تخرب الوقف وتعطل الانتفاع به، وأن لا يكون له حاصل يعمر به، وأن لا يوجد من يقرض الوقف القدر المحتاج إليه بأقل من أجر تلك المدة. ومذهب الحنابلة وجمهور الشافعية جواز الوقف مطلقاً، إلا بعض الشافعية فقد رأوه ممنوعاً مطلقاً.
3-
الخلو:
أ-تعريفه: هو المنفعة التي يملكها المستأجر لعقار الوقف مقابل مال يدفعه إلى ناظر الوقف لتعميره إذا لم يوجد ما يعمر به.
ب-حكمه: يختلف باختلاف كونه أوقافاً أو أراضٍ أميرية أو أراضي خواص.
جـ- أقسامه: ينقسم باختلاف العقارات إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول أوقاف، القسم الثاني أراض أميرية، القسم الثالث عقارات مملوكة ملكاً خاصاً والقسم الأول هو موضوع البحث وله خمس صور:
الصورة الأولى: أن ينشأ باتفاق بين الواقف أو الناظر وبين المستأجر، كأن يكون الوقف آيلاً للخراب فيؤجره الناظر لمن يعمره.
الصورة الثانية: أن يكون لمسجد مثلاً حوانيت موقوفة عليه واحتاج المسجد للتكميل والإصلاح والتعمير ولم يكن الريع كافياً، فيعمد الناظر إلى مكتري الحوانيت فيأخذ منه قدراً من المال يعمر به المسجد وينقص عنه من أجرة الحوانيت مقابل ذلك.
الصورة الثالثة: أن تكون أرضاً موقوفة وليس لها ريع تعمر به وتعطلت، فيستأجرها من الناظر ويبني فيها للوقف داراً، على أن عليه لجهة الوقف مثلاً في كل ثلاث أشهر عشرة دنانير ولكن بعد بناء الدار تكرى بستين، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى تسمى خلواً.
الصورة الرابعة: أن يبني الواقف محلات للموقوف عليهم فيأتيه أشخاص يدفعون له أموالاً مقابل أن يكون لكل واحد منهم محلاً يسكنه بأجرة معلومة شهرية.
الصورة الخامسة: أن يشتري حق الخلو من الناظر من غير أن يكون النفع يحتاج إليه الوقف ذاته.
د-شروط ثبوت ملكية الخلو في عقار الوقف:
1-
أن يكون المدفوع من المال من الساكن الأول عادة على الوقف يصرفها في مصالحه.
2-
أن لا يكون للوقف ريع يعمر منه.
3-
ثبوت العرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي.
هـ- الحالات التي ينشأ فيها حق الخلو:
1-
في العقارات والأوقاف بطريق الاتفاق بين الواقف أو الناظر وبين المستأجر.
2-
أن يكون للمستأجر في عقار الوقف حق القرار.
3-
الخلو في أراضي بيت المال.
صيانة الأوقاف وتنميتها:
أ-وضع الأوقاف في البلدان الإسلامية: من الخصائص البارزة في الأحوال الوقفية أنها قليلة السيولة، ولذلك يلتجئ الموقوف عليهم إلى التخلية. والمؤسسات المكلفة برعاية الأوقاف مهمتها عظيمة وكلفتها جد جسيمة لما تقدمه من خدمات دينية واجتماعية وإنسانية. وهي لذلك تتطلب قدراً لا يستهان به من العمل لإدارتها. ونظراً لعجز الأوقاف في جل البلاد الإسلامية عن أداء دورها المنوط بها لقلة دخلها، فإنه من المتحتم البحث عن طرق استثمار حلال تحقق أعلى عائد مالي ينمي دخل الأوقاف ويساعدها على أداء دورها، وهذا لا يتحقق إلا بمتابعة الدراسات الكفيلة بتحقيق الأهداف المبتغاة.
ب-دراسة الجدوى: لا يتحقق تنمية الأوقاف إلا بالاعتماد على الدراسات لمعرفة جدوى المشاريع المزمع إقامتها، وتشمل: مرحلة أولية بدراسة موجزة إجمالية قليلة التكلفة تبين إمكانية تحمل تكاليف دراسة الجدوى مجملة، ومرحلة ثانية وهي دراسة تفصيلية للتكلفة المالية والمدة الزمنية وطريقة المردودية.
جـ-صيغ التمويل المقبولة إسلامياً:
الصيغة الأولى: حق الحكر، والمنطق الاقتصادي فيه هو التضحية بعقار وقفي معين عن طريق استخدام المال الذي أخذ في استنقاذ عقارات وقفية أخرى ونقلها من وضع غير مفيد إلى استثمارها بطريقة مفيدة تدر المال الكثير على الموقوف عليهم.
الصيغة الثانية: السماح لجهة تمويلية بإنشاء عقار على أرض الوقف على أن تنتقل الملكية إلى الأوقاف بعد إبرام العقد واسترداد الجهة الممولة لثمن البناء بالتدريج من المبالغ المتصلة (1) من الإجارة.
الصيغة الثالثة: تقسم الأجرة بحصة شائعة متفق عليها بين الممول وناظر الوقف، باعتبار أن الواقف قد قدم الأرض والممول قد قدم البناء.
الصيغة الرابعة: استثمار الأرض الوقفية بأجرة سنوية على أن يبني فيها المستأجر بناء يستفيد من مدخوله ويكون لمدة طويلة تكفي فيها أجرة الأرض بتسديد قيمة البناء بالتدريج.
د-طرق الاستثمار: وفي مشاريع الاستثمار يمكن للمؤسسات الوقفية أن تديرها وفق الطرق التالية:
الطريقة الأولى: الإدارة المباشرة من قبل مؤسسة الأوقاف بتشغيل المشروع وبيع خدماته أو منتجاته.
الطريقة الثانية: التوكيل لقاء أجر ثابت في السنة.
الطريقة الثالثة: منح حق الاستثمار لجهة أخرى لقاء بدل محدد.
(1) أي المحصلة.
استثمار موارد الأحباس
1-
الاستثمار:
أ-تعريفه.
ب-حكمه.
جـ-أركانه.
د- طرق الاستثمار.
2-
الأوقاف:
أ-تعريف الحبس.
ب-مشروعيته.
جـ-صفة الوقف.
د-حق الحكر.
هـ-أحكام الأوقاف.
وحكم التحكير في الوقف وشرط جوازه.
3-
الخلو:
أ-تعريفه.
ب-حكمه.
-جـ-أقسامه.
د-شروط ثبوت ملكية الخلو في عقار الوقف.
هـ-الحالات التي ينشأ فيها حق الخلو.
4-
صيانة الأوقاف:
أ-وضع الأوقاف في البلدان الإسلامية.
ب-دراسة الجدوى.
جـ-صيغ التمويل المقبولة إسلامياً.
د-طرق الاستثمار.
استثمار موارد الأحباس
1-
الاستثمار:
أ-تعريفه: الاستثمار في اللغة من ثمر الشيء إذا تولد منه شيء آخر. وثمر الرجل ماله إذا أحسن التصرف فيه والقيام عليه ونماه، وثمر الشيء هو ما تولد منه بالاستثمار، من استفعل بزيادة الألف والسين والتاء، وهو ما يفيد طلب الفعل، واستثمر الشيء أي طلب الحصول على ثمرته، وهذا إطلاق عام لمدلول الاستثمار، وقد يخصص بطريق الإضافة فيقال: استثمار المال، تجاري وفلاحي
…
ومعلوم أن الإضافة تقيد وتخصص المطلقات، وهو ما سنعمد إليه في موضوعنا هذا بقصره على الاستثمار المالي.
فالاستثمار هو استخدام الأموال في الإنتاج، إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات. وأصل المورد الطريق إلى الماء والمنهل، وهو مصدر الرزق، ويجمع على موارد، والفقهاء يستملون هذا اللفظ بهذا المعنى. والاستثمار كالاستغلال ويعمهما الانتفاع، لأنه هو الحصول على المنفعة والفرق بين الانتفاع والاستثمار أن الانتفاع أعم منه لأنه قد يكون بالاستثمار وقد يكون بغيره. وكذلك الاستغلال، وهو طلب الغلة، وهي كل عين حاصلة من ريع الملك الذي هو عين الاستثمار فيما تخرجه الأرض من ثمر وهي غلة من ريع. وقد فرقت الحنفية خاصة بين الثمرة والغلة في باب الوصية، فإذا أوصى موصي بثمرة بستانه انصرف ذلك إلى الموجود خاصة، أما إذا أوصى بغلته شمل الموجود وما بعرضه (1) .
ب-حكمه: الأصل استحباب استثمار الأموال القابلة لذلك لما فيه من وجوه النفع.
جـ-أركانه: أولاً: المستثمر. والأصل أن يتم استثمار المال من قبل مالكه، ولكن قد يجعل ذلك للغير فيقوم مقامه، وهو على صورتين: الأولى: الإنابة، وقد تكون من المالك كالوكالة أو من تعيين الشارع للقيام بذلك كمقدم القاضي على القصر، وقد يكون الاستثمار بالتعدي كأن يتقدم أجنبي بغير إذن صاحبه وبغير إذن الشارع لهذا الحق، فيعتبر حينئذ غاصباً.
(1) الهداية بشرح فتح القدير: 8/484، ط. بولاق؛ وحاشية ابن عابدين: 5/444، ط. بولاق؛ والمغرب مادة ريع.
الثاني: المال المستثمر، فلكي يكون الاستثمار حلالاً يشترط في المال المستثمر أن يكون مملوكاً ملكاً مشروعاً للمستثمر أو لمن كان نائباً عنه نيابة شرعية أو نيابة تعاقدية، فإن لم يكن كذلك، لم يحل الاستثمار كالمال المغصوب أو المسروق، وكذلك لا يحل استثمار الوديعة لأن يد الوديع هي يد حفظ وائتمان لا تصرف في ملك الثمرة. فإذا كان الاستثمار مشروعاً، كانت الثمرة ملكاً للمالك. أما إذا كان الملك غير مشروع كأن يكون مغتصباً أو مسروقاً ونحو ذلك، فإنه لا يكسب صاحبه الملكية، ومن باب أولى وأحرى أن يكتسب ثمرة ذلك بالملك، لأن الأصل في الثمرة أو الغلة أن تكون لصاحب الملك، وهذا شأنه شأن الوديعة من حيث عدم ثبوت ملكيتها ولا تصرف فيها، لأن يد المودع عنده يد ائتمان وحفظ لا يد تمليك وتصرف.
فملك الثمرة إذا كان الاستثمار مشروعاً كانت الثمرة ملكاً للمالك. أما إذا كان الاستثمار غير مشروع كمن غصب أرضاً واستغلها، فإن الثمرة عند الحنفية يملكها الغصب ملكاً خبيثاً ويؤمر بالتصدق بها. وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الغلة للمالك، وفي رواية عن أحمد أنه يتصدق بها (1) .
د- طرق الاستثمار: يجوز استثمار الأموال بأي طريق مشروع (2) سواء كان هذا الاستثمار باستخدام الأموال مباشرة في الإنتاج بشراء الآلات والمواد الأولية والتصنيع والبيع، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات.
(1) انظر ابن عابدين: 5/120؛ الشرح الصغير: 3/195؛القليوبي: 3/33؛ المغني لابن قدامة: 5/275.
(2)
ابن عابدين: 2/454؛ جواهر الإكليل: 2/136 و137؛ المغني: 5/521.
2-
الأوقاف:
والوقف وغالب أحكام الأحباس اجتهادية، لأن النصوص فيها منطلقها التحبيس والتسبيل، وهما بمعنى واحد، وهو لغة الحبس عن التصرف، وفي الشرع واصطلاح الفقه يطلق الوقف على اسم المفعول أي الموقوف. وقد عرف عند الحنفية بحبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة على جهة الخير. ولا يلزم زوال الموقوف عن ملك الواقف، ويصح له الرجوع عنه ويجوز له بيعه، لأن الأصح عند الحنفية أن الوقف جائز غير لازم وهو العارية، ولا يلزم إلا بأحد أمور ثلاثة:
1-
أن يحكم به الحاكم، كأن يختصم الواقف مع الناظر لأنه يريد أن يرجع بعلة عدم اللزوم، فيقضي الحاكم باللزوم فيلزم لأنه أمر مجتهد فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف.
2-
أن يعلقه الحاكم بموت صاحبه فيقول إذا مت فقد وقفت داري مثلاً على كذا، فيلزم كالوصية في الثلث بالموت لا قبله.
3-
أن يجعله وقفاً لمسجد ويفرزه عن ملكه ويأذن بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه ولو واحد بطل ملكه وزال عن الواقف عند أبي حنيفة.
مشروعيته: الوقف نظام إسلامي محض، وقد قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت، وإنما حبس أهل الإسلام. وقد عرف الحبس عند الجمهور وهو رأي الصاحبين، وبه يُفتى عند الحنفية والشافعية والحنابلة في الأصح بأنه حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره على مصرف مباح موجود، أو بصرف ريعه على جهة بر وخير تقرباً إلى الله تعالى، وعليه يخرج المال عن ملك الواقف ويصير حبساً على حكم ملك الله تعالى، ويمتنع على الواقف التصرف فيه ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف. وقد استدلوا لرأيهم بحديث ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أصاب أرضاً بخيبر فقال: يا رسول الله أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال:((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، فتصدق بها عمر على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول. رواه الجماعة.
وهذا الحديث أصل في مشروعية الوقف، وهو يدل على منع التصرف في الوقف، لأن الحبس معناه المنع، أي منع العين عن أن تكون ملكاً، وعن أن تكون محلاً لتصرف تمليكي. لكن يلاحظ أن هذا الحديث لا يدل على خروج المال الموقوف عن ملك الواقف. وقد استمر الحبس وعمل الأمة به منذ صدر الإسلام إلى الآن على وقف الأموال على وجوه الخير ومنع التصرف فيها من الواقف وغيره.
وقد عرفه المالكية فقالوا: جعل المالك منفعة مملوكه ولو كان مملوكاً بأجرة أو جعل غلته كدراهم لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس، أي أن المالك يحبس العين عن أي تصرف تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية تبرعاً لازماً مع بقاء العين على ملك الواقف مدة معينة من الزمن، فلا يشترط فيه التأبيد.
ومثال المملوك بأجرة أن يستأجر مثلاً داراً مملوكة أو أرضاً مدة معلومة، ثم يوقف منفعتها لمستحق آخر غيره في تلك المدة، وبه يكون المراد من المملوك إما ملك الذات أو ملك المنفعة، فالوقف عند المالكية لا يقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها. وقد استدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة بحديث ابن عمر المتقدم لأنه قال صلى الله عليه وسلم:((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، ففيه إشارة بالتصدق بالغلة مع بقاء ملكية الموقوف على ذمة الواقف ومنع أي تصرف تملكي فيه للغير بدليل فهم عمر على الاتباع ولا توهب ولا تورث. وهذا يشبه ملك المحجور عليه لسفهه، أي تبذره، فإن ملكه باق في ماله ولكنه ممنوع من بيعه وهبته، وهذا الرأي أحق دليلاً.
واتفق العلماء على أن وقف المساجد هي من باب الإسقاط والعتق لا ملك لأحد فيها، وقد قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] . وتقاس كل مصلحة عامة كالمستشفيات والمدارس والكتاتيب ونحوها من كل ما يحقق مصلحة عامة ترجع بالفائدة على المجتمع.
وحكم الوقف: أنه سنة مندوب إليها، وهو من باب التبرعات المندوبة، وقد قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، وقال سبحانه:{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] . وهذا يفيد بعمومه الإنفاق في وجوه الخير والبر، والوقف إنفاق المال في جهات البر.
وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له بخير)) (1) .
والوقف من خصائص الإسلام، والثابت من الأحكام فيه قليل نادر، والأصل فيه حديث ابن عمر الذي تقدم ذكره، بل معظم أحكامه ثابت بالاجتهاد من العلماء والاعتماد على الاستحسان والاستصلاح والعرف. وسببه في الدنيا بر الأحباب، وفي الآخرة بحسن النية وتحصيل الثواب. وذهبت الحنفية إلى إباحته بدليل صحته من الكافر، وقد يصبح واجباً بالنذر.
وصفة الوقف: هو تبرع غير لازم، فللواقف الرجوع فيما أوقفه، فيأخذ حكم الإعارة غير اللازمة، فلصاحبه أن يرجع فيه متى شاء. ويبطل بموته باعتبار أن الملك انعدم بهلاكه وانتقل إرثاً لورثته كما هو مقرر في باب الإعارة.
ومن المعلوم أن الأوقاف العامة تنتقل ملكيتها من صاحبها إلى الأمة، فمن بنى مسجداً وأذن بالصلاة فيه انتقل ملكاً عاماً للدولة، بحيث تتولى تسمية إمامه ومؤذنيه وسدنته، ويصير ملكاً من الأملاك العامة لمصالح المسلمين، وهكذا كل ما كان من الأحباس العامة كالتحبيس على المستشفيات ودور التعليم والمصالح العامة، ومنها التحبيس على الفقراء والمساكين وتحقيق مصالح المسلمين كالجيش وإنشاء المنشآت العمومية التي ترجع بالمصلحة العامة وتحقق غاية من الغايات التي يقصدها المحبس تحقيقاً لمصلحة دنيوية لبلاده، وسد حاجة من حاجاته، ويريد ثواب الله تعالى في الآخرة.
ولو فرضنا أن أحدا أوقف أرضا بقصد أن ترجع ثمرتها لتحقيق مصلحة عامة من مصالح المسلمين أو عقارا غير جاهز للإيجار وهو مبني ولكنه غير جاهز للاستخدام الزراعي إن كانت أرضا زراعية أو الانتفاع به إن كان عقارا إذ يحتاج إلى تمويل للاستثمار أو إلى مزيد من الاستثمار حتى يصبح صالحاً لتوليد الدخل وطرقه. وإذا كان الوقف مثلاً أرضاً صالحةً للبناء وغير صالحة للزراعة وليس لدى أهلها أموال كافية للبناء على هذه الأراضي أو بناء حبس مستثمراً حالياً ولكن العائد من استثماره ضئيل، في حين أنه لو نقض هذا البناء وجدد مكانه بناء آخر، لأمكن الحصول على عائد هو أضعاف مدخوله.
(1) أخرجه الترمذي وقال فيه حديث حسن صحيح.
ولو نظر إلى بعض الطرق التي نص عليها الفقهاء لحل هذه المشكلة وتمويل الأوقاف واستثمارها أحسن استثمار وهو ما يعبر عنه بعضهم بحقوق القرار على الأوقاف، ولو رجعنا إلى المدخل لنظرية الخزانة العامة في الفقه الإسلامي للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، وقد قرر أن أول طريقة لاستثمار أرض وقفية مما ذكره الفقهاء هي ما يسمى بحق الحكر، وهو حق قرار المرتب على الأرض الموقوفة بإجارة مديدة تعقد بإذن القاضي ويدفع فيه المستحكر لجانب الوقف مبلغاً معجلاً يقارب قيمة الأرض، ويرتب مبلغاً آخر ضئيلاً يستوفي سنوياً لجهة الوقف من المستحكر أو ممن ينتقل إليه هذا الحق، على أن يكون للمستحكر حق الغرس والبناء وسائر أوجه الانتفاع.
وحق هذا الحكر قابل للبيع والشراء وينتقل إلى ورثة المستحكر، وإن الغرض من هذا العقد أن يستفاد من استثماره. والحكر بكسر الحاء هو ما يجعل على العقارات ويحبس، وهو لفظ مولد كما نص على ذلك ابن منظور في لسان العرب، وتاج العروس للفيروزآبادي، وهو في اصطلاح الفقهاء يطلق على ثلاثة معان:
الأول: الأجرة المقررة على عقار محبوس في الإجارة الطويلة ونحوها، ومن هذا الاستعمال ما قال ابن نجيم: من بنى في الأرض الموقوفة المستأجرة مسجداً أوقفه لله تعالى، فإنه يجوز، وإذا جاز فعلى من يكون حكره؟ الظاهر أن يكون على المستأجر مادامت المدة باقية، فإذا انقضت ينبغي أن يكون في بيت المال، وفي فتاوى عليش: ومن استولى على الخلو يكون عليه لجهة الوقف أجرة للذي يؤول إليه الوقف، ويسمى عندنا بمصر حكر، لئلا يذهب الوقف باطلاً (1) .
الثاني: أن يطلق على العقار المحتكر ذاته فيقال: هذا حكر فلان (2)
الثالث: أن يطلق على إجارة طويلة الأمد ويسمى التحكير أو الإحكار بمعنى الإيجار أو التأجير (3) قال ابن عابدين: الاحتكار إجارة يُقصد بها منع الغير واستيفاء الانتفاع بالأرض (4) . وفي الفتاوى الهندية: الاستحكار عقد إجارة يقصد به استبقاء الأرض للبناء أو الغرس أو لأحدهما، ويكون في الدار والحانوت أيضاً (5) ومراد ابن عابدين من قوله:"يقصد بها منع الغير" أي من المنافسة فيما لو أجرت الأرض إجارة قصيرة وانتهت المدة، فمن يستأجرها إجارة طويلة يأمن من المنافسة ويمنعها.
(1) من فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك: 2/243، القاهرة، مصطفى الحلبي، 1378هـ؛ وحاشية الدسوقي على الدردير: 3/467.
(2)
الفتاوى الخيرية: 1/197.
(3)
انظر منحة الخالق لابن عابدين حاشية على البحر الرائق: 5/230، القاهرة، ط العلمية.
(4)
قانون العدل والإنصاف، ص 331؛ ومرشد الحيران، ص 96، مطبعة بولاق، 1308هـ وحاشية ابن عابدين على رد المحتار: 5/20، القاهرة، ط بولاق، 1272هـ.
(5)
قانون العدل والإنصاف، ص 332.
ومن هنا أخذ هذا الاصطلاح وهو الاحتكار لأنه يؤول في معانيه اللغوية إلى المنع. ومما يتصل بلفظ الحكر: الخلو، وهو المنفعة التي يمتلكها المستأجر لعقار الوقف مقابل مال يدفعه لناظر الوقف لتعميرها إذا تخرب ولم يجد ما يعمره به، ويكون عليه لجهة الوقف أجرة معلومة عن باقي المنفعة تسمى حكراً (1) .
والإجارة أعم من الحكر، والإجارة الطويلة هي اصطلاح عند الحنفية وغيرهم وهو أعم من الاحتكار، إذ الاحتكار يقصد به استئجار الأرض لمدة طويلة للبناء أو للغرس أو لأحدهما. أما الإجارة الطويلة فلا يشترط فيها أن تكون لهما بل قد تكون للزرع ولسائر أنوع استعمالات الأرض (2) .
والحكر الغالب فيه أن يكون في الأوقاف العامة، وقد يكون في الأوقاف الخاصة، قال ابن عابدين في تعريف الاحتكار: هو الأرض المقررة للاحتكار، وهي أعم من أن تكون ملكا أو وقفا (3) . إلا أن أكثر كلام الفقهاء في شأن الحكر ينصب على الحكر في الأوقاف، ولم يتعرض الفقهاء للحكر في الأملاك إلا نادراً، ولذا عرفه صاحب قانون العدل والإنصاف بأنه: استيفاء الأرض الموقوفة مقررة للبناء أو الغرس أو أحدهما. ومن أجل ذلك نقصر الكلام على الحكر في الأوقاف، لأن الحكر في الأملاك تجري الأحكام على ما يقع الاتفاق عليه بين المتعاقدين، أما في الأوقاف فقد اختلف فيه الفقهاء، فذهبت المالكية إلى عدم جوازها فيما زاد على ثلاث سنين عند الحنفية، وعلى أربع عند المالكية.
وذهبت الشافعية إلى جوازها، على تفصيل كما سيأتي. وذهبت الحنفية في الجملة إلى أنه إن شرط الواقف أن يؤجر الوقف أكثر من سنة، جاز شرطه لا محالة، وإن شرط ألا يؤجره أكثر من سنة، وجب مراعاة شرطه، فإن لم يشترط شيئاً فأكثر الحنفية على عدم الجواز لأكثر من سنة.
(1) فتح العلي المالك وفتاوى الشيخ عليش: 2/243 وما بعدها.
(2)
الفتاوى الهندية: 4/513؛ وتنقيح الفتاوى الحامدية: 1/176.
(3)
منحة الخالق على البحر الرائق.
وجوز بعضهم كأبي جعفر الثلاث ومنع فيما زاد على ذلك. وفصَّل حسام الدين المعروف بالصدر الشهيد بين أراضي الضياع (أي الزراعة) فأفتى بالجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز، وفي غير الضياع أفتى بعدم الجواز، إلا إذا كانت المصلحة في الجواز في الواقع أمر مختلف فيه باختلاف الزمان والمكان، لذا قال صاحب الدر المختار بهامش ابن عابدين: ولو أجرها المتولي أكثر من ذلك لم تصح الإجارة وتفسخ.
وفصل بعضهم تفصيلاً آخر فقال: إن كانت الأرض تزرع في كل سنة فلا يؤجرها أكثر من سنة، وإن كانت تزرع في كل سنتين مرة لا تؤجر لأكثر من سنتين وإن كانت لا تزرع إلا في كل ثلاث سنوات لا تؤجر لأكثر من ثلاث.
ومرجع هذه الأقوال وهذه الفتاوى عند الحنفية تحقيق المصلحة من جهة، وصيانة الأوقاف من الضياع بدعوى الملكية بطول المدة من جهة أخرى، يتصرف فيها تصرف المالك في ملكه مع طول الزمان متوالياً ولا مالك يعارضه ويزاحمه يظنه الرائي بتصرفه الدائم مالكاً ويشهد له به إذا ادعاه، ولا مصلحة للوقف في أمر يدعو إلى الإضرار بالملكية وهو ضرر بين، ودفع الضرر متعين لقوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار.
ومن أجل هذا جرت الفتيا على إلحاق أرض اليتيم بأرض الوقف في هذا الحكم فلا تؤجر أكثر من ثلاث سنوات. وقد ألحق بعض العلماء أراضي بيت المال بالوقف، نقله ابن عابدين عن حاشية الرملي ووافقه صاحب الفتاوى الحامدية.
أما قدماء الحنفية فأجازوا إجارة الوقف للمدة الطويلة، ولكن المفتى به قول المتأخرين وهو التوقيت إلى غاية ثلاث سنين خوفاً على ضياع الوقف عن أهله كما صرح بذلك ابن عابدين.
ورأى بعض متأخري الحنفية أن ناظر الوقف إن احتاج أن يؤجر الوقف إجارة طويلة فالحيلة له في ذلك: أن يعقد عقوداً فيكتب: استأجر فلان بن فلان ثلاثين عقداً، مثلاً، كل عقد على سنة من غير أن يكون بعضها شرطاً في بعض، فيكون العقد الأول لازماً لأنه ناجز وما بعده لا يلزم لأنه مضاف، وإنما تلزم كل سنة إذا دخلت (1) . وكل هذا خوفاً من ضياع الحبس على أهله.
(1) الفتاوى الخانية بهامش الهندية: 3/333.
لذا ولرفع الضرر وجدت إدارة الملكية العقارية التي تنص على ملكية أصحابها في دفاترها، وذلك حفاظاً على أملاك الناس، ودفعاً للشغب. ومذهب المالكية كمذهب الحنفية: لا يجوز كراء الوقف لمدة طويلة، ففي الحطاب: الحبس إن كان على معينين كبني فلان، فلناظر أن يكريه سنتين أو ثلاث سنوات لا يكريه أكثر من ذلك، فإن وقع الكراء في السنين الكثيرة فعثر على ذلك وقد مضى بعضها فإن كان الذي بقي يسيراً كالشهر والشهرين لم يفسخ، وإن كان أكثر من ذلك فسخ، ونقل الحطاب عن البرزلي عن نوازل ابن رشد في وقف أكرية خمسين عاماً إن وقع الكراء لهذه المدة على النقد (أي تعجيل الأجر) فسخ. وفي جوازه على غير النقد قولان، الصحيح عند البرزلي المنع. وهذا في الحبس على تعيين الأفراد، أما الحبس على المساجد والمساكين وشبهها فلا يكريها الناظر لأكثر من أربعة أعوام إن كان أرضاً ولا أكثر من عام إن كانت داراً، وهو عمل الناس ومضى عليه عمل القضاة، فإن أكري أكثر من ذلك مضى إن كان نظراً (أي لمصلحة) ولا يفسخ.
وقد علل المالكية منع الإجارة الطويلة بنفس ما علل به الحنفية في الوقف وهو خوف اندراسه إذا طال مكثه بيد مكتريه (1) .
وذهبت الشافعية إلى جواز تأجير العين إلى مدة تبقى إليها غالباً ما لم يخالف شرط الواقف لأن شرط الواقف كالنص، فلا تجوز مخالفته، وعليه فتؤجر الأرض مائة سنة أو أكثر لا فرق بين الملك والوقف، وتؤجر الدار ثلاثين سنة والثوب سنة أو سنتين. وفي قول لا يزاد على سنة (2) . وقال ابن حجر الهيتمي: إنما تجري الإجارة الطويلة في الوقف إن وقع وقف للحاجة والمصلحة لعين الوقف. واصطلاح الحكام على أنه لا يؤجر أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس استحساناً منهم، قال ابن حجر: وإنما اشترطنا ذلك لفساد الزمان بغلبة الاستيلاء على الوقف عند طول المدة، ولأن شرط إجارة الوقف أن يكون بأجرة المثل وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب، أي لتغير الأسعار وطروء الرغبات غالباً، وأيضاً فيها منع الانتقال إلى البطن الثاني وضياع الأجرة عليهم إذا كانت معجلة.
وبين ابن حجر أن قضاة الشافعية مالوا في ذلك إلى مذهب أبي حنيفة لأنه أحوط، ونقله عن السبكي وغيره، وبين أن مجرد زيادة الأجرة على أجرة المثل لا يسوغ الإجارة الطويلة في الوقف، وقال: وألحقوا بأرض الوقف في ذلك أرض اليتيم (3) ، وكلامه هذا ضمن رسالة أفردها لذلك سماها (الإتحاف ببيان حكم إجارة الأوقاف)(4) .
(1) مواهب الجليل: 6/47، في آخر باب الوقف؛ وحاشية الدسوقي: 4/96؛ والمواق بهامش مواهب الجليل: 6/47.
(2)
شرح المنهاج وحاشية القليوبي: 3/80.
(3)
تحفة المحتاج لابن حجر بحاشية الشرواني: 6/172؛ والفتاوى الكبرى الفقهية: 3/338- 348.
(4)
مطبوعة ضمن الفتاوى الكبرى: 3/326.
ومذهب الحنابلة أن الإجارة الطويلة جائزة على الأصل في الإجارة إذا كانت في المدة التي تبقى إليها العين غالباً وإن كثرت. واستدل ابن قدامة لهذا الأصل بقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل. قال ابن قدامة: وما جاز لسنة جاز لأكثر منها والتقدير بسنة أو ثلاث، تحكم لا دليل عليه.
وصرح ابن تيمية في فتاويه أن ذلك يجري في الوقف، قال: إن كان الوقف على جهة عامة جازت إجارته بحسب المصلحة، ولا يتوقف ذلك بعدد. وكذلك قال صاحب مطالب أولي النهى ونسبة إلى الرعاية والمغني وأنهم قالوا: بل الوقف أولى بجواز الإجارة الطويلة. وذكر ابن قيم الجوزية وبين مفاسد الإجارة الطويلة في الوقف كما بينها أصحاب المذاهب الأخرى، لكن لم يصرح ببطلانها حيث لم يشترط الواقف امتناعها (1) .
حكم التحكير في الوقف وشرط جوازه: ذهب أكثر العلماء إلى جواز التحكير في الأحباس سواء اشترط الواقف منعه أم لا؟ وذلك لما في منعه من ضرر على أرض الوقف لأنه يغل يد الواقف أو الناظر في التصرف في الأرض واستغلالها، ولكن ذلك بشروط:
1-
أن يكون الوقف قد تخرب وتعطل انتفاع الموقوف عليهم به بالكلية.
2-
ألا يكون للوقف حاصل يعمر به.
3-
ألا يوجد من يقرض الوقف القدر المحتاج إليه بأقل من أجر تلك المدة. وزاد الحنفية: أن لا يمكن استبدال الوقف بعقار ذي ريع.
فإذا توفرت هذه الشروط جاز إيجاز الوقف مدة طويلة لمن يبنيه أو يغرس أرضه لأنه تعين طريقاً للانتفاع بالوقف. ولم ينظر أصحاب هذا القول إلى احتمال تملك الوقف لأنه موهوم، فلا ينظر إليه عند وجود الضرر المحقق (2) .
القول الثاني: أنه جائز مطلقاً وهو مذهب الحنابلة وجمهور الشافعية، إلا أنه إن كان الواقف قد منع الإجارة الطويلة امتنع، إلا إذا حصلت الشروط المذكورة آنفاً.
(1) المغني لابن قدامة: 5/601، ط. الثالثة؛ والفتاوى الكبرى: 30/46، ط. الرياض؛ ومطالب أولي النهى: 3/622؛ وأعلام الموقعين: 3/304، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1374هـ.
(2)
الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر: 3/144؛ تحفة المحتاج: 6/172؛ ابن عابدين: 3/358؛ قانون العدل والإنصاف لقدري باشا، مادة 332؛ الدسوقي:4/196 مطالب أولي النهى: 4/316؛ أعلام الموقعين: 3/304.
القول الثالث: قول بعض الشافعية أنه ممنوع مطلقاً، وهو ما ذهب إليه الزركشي والأوزاعي.
وإذا أنشأ الناظر خلواً على الوقف بمال أخذه من أحد ليعمر به الوقف حيث المال يعمر به، وذلك على أن يكون جزء من منفعة الوقف مملوكاً لدافع المال وهو ما يسمى بالخلو، فلا يجوز بيع كل المنفعة، لأن ذلك يؤدي إلى بطلان الوقف ويجعل على الخلو حكراً دائماً في الجزء الذي لم يملكه من المنفعة يدفع للناظر حقاً للجهة المستحقة في الوقف. قال الشيخ عليش: من استولى على خلو يكون عليه لجهة الوقف أجرة للذي يؤول إليه الوقف، سمي عندنا في مصر حكراً لئلا يذهب الوقف باطلاً (1) .
والخلو في كتب متأخري الفقهاء استعملوه بمعنى المنفعة التي يملكها المستأجر لعقار الوقف مقابل مال يدفعه إلى ناظر الوقف لتعميره إذا لم يوجد ما يعمر به، على أن يكون له جزء من منفعة الوقف معلوم بالنسبة كنصف أو ثلث ويؤدي الأجرة لحظ المستحقين عن الجزء الباقي من المنفعة، وينشأ ذلك بطرق مختلفة.
وقد عرفه الزرقاني (أي الخلو) بتعريف أعم فقال: هو اسم لما يملكه دافع الدراهم في المنفعة التي دفع في مقابلتها الدراهم (2) . وقد ذكر البناني في حاشيته على شرح الزرقاني أن الخلو في الأوقاف وسماه شيوخ المغاربة في فاس بالجلسة (3) وهو كما نعبر عنه بالإنزال في بلادنا تونس. ومن استولى على الخلو يكون عليه لجهة الوقف أجرة للذي يؤول إليه الوقف. وهي معان كلها تصب على شيء واحد المقصود بها ألا يذهب الوقف باطلاً. ولا يصح الاحتكار إلا إذا كان بأجرة، ولا تبقى على حالة واحدة بل تزيد الأجرة وتنقص باختلاف الزمان.
ويظهر من استعمال الفقهاء أن المراد بهذه الألفاظ التنازل عن حق من مثل وظيفة لها راتب من وقف ونحوه، أو التنازل عن الخلو من مالكه لغيره بعوض فهو بيع للمنفعة المذكورة، إلا أنه خص باسم الإفراغ تمييزاً له عن البيع الذي ينصرف عند الإطلاق إلى بيع الرقبة، ولعل تسميته بالفراغ والإفراغ لأن مالكه لا يملك رقبة الأرض بل يملك حق التمسك بالعقار أو بعض منفعته، ويؤخذ هذا من كلام الشيخ عليش (4) .
(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك: 2/243.
(2)
الزرقاني: 6/127.
(3)
البناني على الزرقاني: 6/128.
(4)
فتح العلي المالك: 2/250.
أحكام الخلو: تختلف باختلاف العقارات، إما عقارات أوقاف أو الأراضي الأميرية أو العقارات المملوكة ملكاً خاصاً.
القسم الأول: الخلو في عقارات الأوقاف (وهو موضوع بحثنا) وله أحوال:
الحالة الأولى: أن ينشأ باتفاق بين الواقف أو الناظر وبين المستأجر، وله خمس صور:
الصورة الأولى: أن يكون الوقف آيلاً للخراب فيؤجره الناظر لمن يعمره بحيث يصير الحانوت مثلاً يكرى بثلاثين ديناراً في السنة، ويجعل عليه لجهة الوقف خمسة عشر ديناراً فتصير المنفعة مشتركة بين المكتري وبين جهة الوقف، وما قابل الدراهم المعروفة في التعمير هو الخلو. وشرط جوازه أن لا يوجد للوقف ريع يعمر به الوقف.
الصورة الثانية: أن يكون لمسجد مثلاً حوانيت موقوفة عليه واحتاج المسجد للتكميل والإصلاح والتعمير ولم يكن الريع كافياً، فيعمد الناظر إلى مكتري الحوانيت فيأخذ منه قدراً من المال يعمر به المسجد وينقص عنه من أجرة الحوانيت مقابل ذلك، بأن تكون الأجرة في الأصل ثلاثين في كل سنة فيجعلها خمسة عشر فقط في كل سنة، وتكون منفعة الحوانيت المذكورة شركة بين المكتري وبين جهة الوقف، وما كان منها لذلك المكتري هو الخلو والشركة بحسب ما ينفق عليه صاحب الخلو وناظر الوقف على جهة المصلحة.
الصورة الثالثة: أن تكون أرضاً موقوفة ولم يكن هناك ريع تعمر به وتعطلت بالكلية، على ما ذكره الدردير، فيستأجرها من الناظر ويبني فيها للوقف داراً مثلاً على أن عليه لجهة الوقف في كل أربعة أشهر عشرة دنانير، ولكن الدار بعد بنائها تكرى بستين مثلاً، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى يقال لها الخلو. قال الشيخ عليش: وهذا الذي أفتى به فقهاؤنا ووقع العمل به من غير نزاع، ويجب تقييد ذلك بما يثبته بالبينة على أنه يملك ما يقابل البناء أو الغرس، وهو حق الخلو. أما إذا بنى أجنبي في الوقف شيئاً فإنه يكون ملكاً، والغرس كالبناء وإذا كان ملكاً فله نقضه أو قيمته منقوصاً إن كان في الوقف ما يدفع منه ذلك، هذا إن كان ما بناه لا يحتاج إليه الوقف، وإلا فيوفي ثمنه من الغلة قطعاً بمنزله ما بناه الناظر (1) .
الصورة الرابعة: أن يريد الواقف بناء محلات للموقوف، فيأتيه أشخاص يدفعون له أموالاً، على أن يكون لكل شخص محل من المحلات يسكنها بأجرة معلومة يدفعها كل شهر، فكأن الواقف باعهم حصة من تلك المحلات قبل التحبيس وحبس الباقي، فليس للواقف تصرف في تلك المحلات ولكن له الأجرة المعلومة كل شهر أو كل سنة، وكأن دافع الثمن شريك للواقف بتلك الحصة (2) .
قال الرملي الحنفي: وربما بفعله تكثر الأوقاف، قال: ومما بلغني أن بعض الملوك عمر مثل ذلك بأموال التجار ولم يصرف عليه من ماله لا درهماً ولا ديناراً، بل فاز بقربة الوقف وفاز التجار بالمنفعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب ما يخفف على أمته (3) ، ودين الله يسر وليس بعسر، ولا مفسدة في ذلك في الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم:((يسروا ولا تعسروا)) (4) .
(1) فتح العلي المالك للشيخ عليش: 2/243 – 244؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/423.
(2)
فتح العلي المالك: 2/249-250.
(3)
الفتاوى الهندية: 1/180.
(4)
.أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك.
ولقد سئل العلامة الناصر اللقاني بما نصه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في خلوات الحوانيت التي صارت عرفاً بين الناس في هذه البلدة وغيرها، وبذلت الناس في ذلك مالاً كثيراً حتى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهباً، فهل إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوته عملاً بما عليه الناس أم لا؟ وهل إذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال أم لا؟ وهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه يوفى ذلك من خلو حانوته؟ أفتونا مأجورين، فأجاب بما نصه:
الحمد لله رب العالمين، نعم إذا مات شخص له وارث شرعي يستحق خلو حانوته عملاً بما عليه الناس، وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال، وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه فإنه يوفى دينه من خلو حانوته، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، كتبه الناصر اللقاني المالكي حامداً مصلياً مسلماً.
وقد أورد الزرقاني هذه الفتوى وذكر أن التعويل على هذه الفتيا (1) .
الصورة الخامسة: أن يشتري حق الخلو شراء من الناظر ولو لمصلحة الموقوف عليهم من غير أن يكون النفع يحتاج إليه الوقف ذاته، وظاهر كلام العدوي وغيره عدم صحة ذلك في الوقف لأنه كبيع جزء من العقار الموقوف، إذ إن قيمته إذا كان محملاً بحق الخلو تنقص، وأما إذا لم يكن محملاً بذلك الحق وجاز في الصور الأربعة المتقدمة الذكر، لأنه يكون قد نقص من الوقف فيه مع حاجة الوقف إلى ذلك، أما في هذه الصورة الأخيرة فإن مصلحة الوقف قد انعدمت أو تعطلت ولا موجب لذلك، بل فيها فساد لذلك الوقف والموقوف عليه، بخلاف الصور الأربعة المتقدمة فالمصلحة فيها بينة لما فيها من إحياء الوقف وتحقيق منفعة للموقوف عليهم، وكذلك فيها منفعة لأصحاب الخلو، ولذلك أجاز الحنابلة بيع الوقف إذا خرب وتعطل.
(1) الأشباه والنظائر للحموي، ضمن الكلام على قاعدة (العادة محكمة) : 1/137-138.
واختلف في لزوم الخلو في الصور الأربعة غير الصورة الخامسة، إن الخلو الذي ينشأ للمستأجر مقابل مال دفعه إلى ناظر الوقف اعتبره الحنفية بعده نوعاً من بيع الحقوق المجردة، أي كحق الشفعة وحق الوظائف في الأوقاف من إمامة وخطابة وتدريس في جواز التنازل عنها بمال، وقد اختلف الحنفية فيه على قولين وهما مبنيان على اعتبار العرف الخاص أو عدم اعتباره، فمن لم يعتبره قال: لا يجوز بيع الحقوق المجردة والتي منها الخلو باعتبار أن العمل في بلد لا يدل على الجواز، ما لم يكن على الاستمرار من الصدر الأول فيعتبر دليلاً على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عليه ويكون شرعاً منه، فإذا لم يكن كذلك لا يكون فعلهم حجة إلا إذا كان من الناس كافة في كل البلدان فيكون حينئذٍ إجماعاً، قال ابن عابدين: يلزم من عدم إخراج صاحب الحانوت لصاحب الخلو حجر الحر المكلف عن ملكه وإتلاف ماله، قال: وفي منع الناظر من إخراجه تفويت نفع الوقف وتعطيل ما شرطه الواقف من إقامة شعائر مسجد ونحوه (1) .
لكن قد أفتى كثير من العلماء باعتبار العرف الخاص كالعرف العام، وبناءً عليه أجازوا النزول على الوظائف الموقوفة بمال وأفتوا بلزوم خلو الحوانيت، وبهذه الفتوى يصير الخلو في الحانوت حقاً لصاحب الخلو وليس لمالكها إخراجه منها ولا إجارته لغيره.
وقد كان السلطان الغوري لما بنى البلدة أسكنها للتجار بالخلو، وجعل لكن حانوت قدراً أخذه منهم وكتب ذلك بمكتوب الوقف، ومنع جماعة من العلماء إثبات الخلو وعدم صحة بيعه، وألف الشيخ الحموي رسالة سماها (مفيدة الحسنى في منع ظن الخلو بالسكنى)(2) .
(1) الدر المختار؛ وحاشية ابن عابدين: 4/16؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي في شرح قاعدة العادة محكمة: 1/136.
(2)
ابن عابدين: 4/14 وما يليه؛ الأشباه والنظائر مع حاشيته: 1/135.
ونقل ابن عابدين قال: ممن أفتى بلزوم الخلو الذي يكون مقابل مال يدفعه المالك أو متولي الوقف العلامة المحقق عبد الرحمن العصادي، فقد قال: لا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ولا إجارتها لغيره ما لم يدفع له المبلغ المرقوم فيفتي بجواز ذلك للضرورة قياساً على بيع الوفاء الذي تعارفه المتأخرون (1) وفي الفتاوى الخيرية للرملي الحنفي ما يفيد أن الخلاف في هذه المسألة معتبر، فقد أفتى الشيخ الناصر اللقاني ومن تابعه بصحة ذلك، فيقع اليقين بارتفاع الخلاف بحكم القاضي لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، حيث استوفى شرائطه، وحينئذٍ يصح الحكم ويرتفع الخلاف خصوصاً فيما للناس إليه ضرورة ملحة وخصوصاً في المدن الكبيرة المشهورة، فإنهم يتعاطونه ولهم فيه نفع كلي يضر بهم نقضه وإعدامه (2) .
وأول فتيا صدرت عند المالكية فتيا الشيخ ناصر الدين اللقاني في إنشاء الخلو وتملكه وجريان الإرث فيه وهي مخرجة على النصوص على ما قاله الغرقاوي من المالكية، وأجمع على العمل بها واشتهرت في المشارق والمغارب (3) .
وحيث جرى العرف عند إنشاء الخلو على استمرار حق صاحبه فيحمل عليه عند الإطلاق فيكون الإحكار مستمراً أبداً، إذ جرى العرف بذلك، والعرف عندنا كالشرط، وعليه فمن احتكر أرضاً مدة ومضت فله أن يبقى، وليس لمتولي أمر الوقف إخراجه، اللهم إلا أن حصل ما يدل على قصد الإخراج بعد مدة وأنها ليست على الأبد، فإنه يعمل بذلك (4) .
وقال الدسوقي: يجوز استئجار شيء مؤجر مدة تلي مدة الإجارة الأولى للمستأجر نفسه أو لغيره، مالم يجر عرف بعدم إيجارها إلا للأول كالإحكار بمصر، وإلا عمل به، لأن العرف كالشرط، فإذا استأجر داراً موقوفة مدة معينة وأذن له الناظر بالبناء فيها ليكون له خلواً وجعل له حكراً كل سنة لجهة الوقف، فليس للناظر أن يؤجرها لغير مستأجرها مدة إيجار الأول لجريان العرف بأنه لا يستأجرها إلا الأول، والعرف كالشرط، فكأنه اشترط عليه ذلك في صلب العقد (5) ، قال الدسوقي إن استحقاق مالك الخلو في استئجار عقار الوقف لمدة لاحقة لا يصح، إلا إن كان يدفع من الأجر مثل ما يدفع غيره، وإلا جاز إيجارها للغير، ومثل هذا الكلام لابن عابدين في دفع أجر المثل وإلا كانت سكناه بمقابلة ما دفعه من الدراهم عين الربا، كمن قالوا فيمن دفع للمقرض داراً ليسكنها إلى أن يستوفي قرضه يلزمه أجرة مثل الدار (6) .
(1) ابن عابدين: 4/17.
(2)
الفتاوى الخيرية: 1/180؛ ونقله عنها ابن عابدين: 4/17.
(3)
من رسالة في الخلو للغرقاوي طبعتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت.
(4)
البدوي على الخرشي: 7/79.
(5)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/11.
(6)
ابن عابدين: 4/17.
وقد بين الزرقاني أن الاستمرار في المأجور هو الفائدة في الخلو، إذ هو الفرق بينه وبين الإجارة المعتادة، فالفائدة إذن أن ليس لمن له التصرف في المنفعة التي استأجرها أكان مالكاً أم ناظراً أن يخرجها عنه وإن كانت الإجارة مشاهرة.
إن مستند المالكية في إثبات حق الاستمرار إنما هو المصلحة، وعلى هذا الطريق وقعت الفتوى من شيوخ فاس المتأخرين كالقصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وأمثالهم، فكانت فتواهم كفتوى الناصر اللقاني وأخيه شمس الدين اللقاني.
المقدار الذي يدفعه الحكر: لا يخفى أن الوقف يؤجر بأجر المثل، ولا يجوز أن ينقص عن أجر المثل إلا القدر الذي يتغابن به الناس عادة، والمشهور عند الحنفية والمالكية أنه لا تؤجر دار الوقف أو دكانه لأكثر من سنة، هذا هو الأصل فيها ولا أرض الوقف لأكثر من ثلاث أو أربع سنوات فإن زادت أجرة المثل في أثناء المدة زيادة معتبرة، وجب فسخ العقد وإجارته بأجر المثل ما لم يقبل المستأجر الزيادة، أما إذا انتهت المدة فللناظر إجارتها للمستأجر الأول بأجر المثل أو إخراجه عنه وإجارته لغيره بأجر المثل، وهذا إن لم يكن للمستأجر حق الخلو، أما إذا دفع لمصلحة الوقف مالاً للواقف أو الناظر، كان له استحقاق البقاء إن كان يدفع من الأجر مثل ما يدفع غيره وإلا جاز إجارته لغيره.
ولثبوت ملكية الخلو في عقار الوقف شروط ذكرها الأجهوري، فقال: يشترط لصحة الخلو:
أولاً: أن يكون المدفوع من المال من الساكن الأول عادة على الوقف يصرفها في مصالحه، فما يفعله الآن من أخذ المال يريد الخلو ويصرفه في مصالح نفسه ويجعل لدافعها خلواً غير صحيح ويرجع بها دافع الدنانير على الناظر.
ثانياً: ألا يكون للوقف ريع يعمر منه، فإن كان له ريع يعمر به، مثل أوقاف الملوك الكثيرة فيصرف عليها منه، ولا يصح فيه خلو ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر، لأنه ينزع منه على شرط لم يتم لظهور عدم صحة خلوه.
الشرط الثالث: ثبوت العرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي، ولا يقبل قول الناظر في مصرف الوقف، وإذا توفرت هذه الشروط ثبت الخلو للمستأجر وكان مالكاً له، أصبح من حقه التصرف فيه بالبيع والإجارة والرهن والهبة والعارية والوصية وغير ذلك، فإذا باعه أو أوصى به فمن صار إليه الخلو أخذ حكم من كان قبله (1) .
أما وقف الخلو فاختلف فيه القوم، فجمهور متأخري المالكية قالوا بجواز وقفه لأن منفعة العقار الموقوف، بعضها موقوف وبعضها غير موقوف، وهذا البعض غير الموقوف هو الخلو فيجوز أن يتعلق به الوقف إذا جرت العادة به، والقول المقابل أن الخلوات لا يجوز وقفها لأنه منفعة وقف وما تعلق الوقف به لا يوقف (2) .
قال أحمد السنهوري وعلي الأجهوري: محل صحة وقف المنفعة إن لم تكن منفعة حبس، لتعلق الحبس بها وما تعلق به الحبس لا يحبس، ولو صح وقف منفعة الوقف لصح وقف الوقف، واللازم باطل شرعاً وعقلاً، فكل ذات وقفت إنما يتعلق الوقف منفعتها وأن ذاتها مملوكة للواقف، قال الأجهوري: وبهذا نعلم بطلان تحبيس الخلو، ووافق الأجهوري على فتواه الشيخ عبد الباقي الزرقاني، لكن لما روجع بفتوى اللقاني بجواز بيعها وإرثها أفتى بجواز وقفها (3) .
والأصل عند الحنفية أنه لا يجوز وقف البناء بدون الأرض سواء أكانت الأرض مملوكة أم كانت موقوفة على جهة أخرى، قال ابن عابدين: أفتى بذلك العلامة قاسم وعزاه إلى محمد بن الحسن وإلى هلال والخصاف، ثم قال: وحيث تعورف وقفه جاز، وقال ابن الشحنة: إن الناس منذ زمن قديم نحو مائتي سنة على جوازه، والحكم به من القضاة العلماء متواتر والعرف جار به، فلا ينبغي أن يتوقف فيه. أهـ.
وقد سئل ابن نجيم عن البناء والغرس في الأرض المحتكرة هل يجوز بيعه ووقفه؟ فأجاب: نعم، قال ابن عابدين: ووقف الشجر كوقف البناء، أما مجرد الكبس بالتراب ونحوه مما هو مستهلك كالسماد فلا يصح وقفه، ونقل عن الإسعاف في أحكام الأوقاف أنه لا يجوز وقف ما بني في الأرض المستأجرة ما لم تكن متقررة للاحتكار.
وقد تقدم ذكر الحالة الأولى: في نشوء حق الخلو في العقارات والأوقاف وذلك بطريق الاتفاق بين الواقف أو الناظر وبين المستأجر.
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 3/467 في أثناء كتاب الاستحقاق: 3/433؛ والزرقاني: 7/75؛ والعدوي على الخرشي: 7/79؛ وفتاوى عليش: 2/251.
(2)
العدوي على الخرشي: 7/79؛ والدسوقي على الشرح الكبير: 4/76.
(3)
فتاوى الشيخ عليش: 2/253.
أما الحالة الثانية: أن يكون للمستأجر في عقار الوقف حق القرار بسبب ما ينشئه في أرض الوقف بإذن الناظر لأجل أن يكون ملكاً له وخلواً ينتفع به من بناء أو غراس أو كبس بالتراب وهو المسمى عند الحنفية (الكردار) ، أو ما ينشئه كذلك في مبنى الوقف من بناء ونحوه متصل اتصال قرار وهو المسمى عندهم (الجدك)، قال صاحب الفتاوى الخيرية: صرح علماؤنا بأن لصاحب الكردار حق القرار فتبقى في يده، ونقل ذلك عن القنية والزاهدين قال الزاهدي: من استأجر أرضاً وقفاً وغرس فيها أو بنى ثم مضت مدة الإجارة، فللمستأجر أن يستبقيها بأجر المثل إذا لم يكن في ذلك ضرر، ولو أبي الموقوف عليهم إلا القلع ليس لهم ذلك (1) ، لكن لو كان في البقاء ضرر لم يجب الاستيفاء، كما لو كان المستأجر أو وارثه مفلساً أو سيئ المعاملة (2) .
ولا يخفى أن الأصل في الإجارة أنه إذا انتهت المدة فالناظر بالخيار بين أن يجدد عقد الإجارة للمستأجر الأول أو لا يجدد، بل تنتهي الإجارة وله أن يؤجر لغير المستأجر الأول، وهي مسألة إجماعية على ما ذكره الرملي، لكن استبقاء الأرض الوقفية المؤجرة عند من أفتى به إن بنى عليها مستأجرها على الصفة المذكورة، وجهه أنه أولوي، دفعاً للضرر عن المستأجر لاسيما مع ما ابتلي به الناس كثيراً (3) .
ويشترط في هذه الحالة عند كل من أفتى بثبوت هذا الحق ألا تجدد الإجارة بأقل من أجرة المثل منعاً للضرر عن الوقف بها، كما أن حق الاستبقاء للمستأجر إنما ثبت له دفعاً للضرر عنه لو طولب برفع جدكه أو كرداره.
ولثبوت حق القرار أي البقاء عند من أفتى به من الحنفية أن يكون ما صنعه المستأجر من وضع غراسه وبنائه أو جدكه بإذن الناظر ليكون المستأجر ملكاً وخلواً، فإن وضعه دون إذن فلا عبرة به، ولا يجب تجديد الإجارة له (4)، أما المستأجر إذا لم يكن له جدك ولا كردار (5) فلا يكون له فيه حق القرار ولا يكون أحق بالاستئجار بعد انقضاء مدة استئجاره سواء أزادت الأجرة أم لا؟ وسواء قبل الزيادة أم لا؟ قال ابن عابدين: ومن أفتى بأنه إن قبل الزيادة العارضة يكون أولى من غيره، فذلك مخالف لما أطبقت عليه كتب المذهب من متون وشروح وفتاوى وفيه الفساد وضياع الأوقاف، حيث إن بقاء الوقف بيد مستأجر واحد المدة الطويلة يؤدي به إلى دعوى تملكها، ثم إنهم منعوا من تطويل الإجارة في الوقف خوفاً من ذلك (6) .
(1) الفتاوى الخيرية: 1/180؛ ابن عابدين: 3/399.
(2)
ابن عابدين 5/20.
(3)
الفتاوى الخيرية: 1/173.
(4)
الفتاوى الخيرية: 1/180؛ والفتاوى الهندية: 5/61.
(5)
الكردار هو حق القرار.
(6)
ابن عابدين: 3/399.
الحالة الثالثة: الخلو في أراضي بيت المال، وهي التي فتحت عنوة وأبقيت بأيدي أربابها من أهل الأرض بالخراج، وأما الأراضي التي آلت إلى بيت المال بموت أربابها أو فتحت عنوة وأبقاها الإمام لبيت المال وهي المسماة (أرض الحوز) ، فإذا دفعها الإمام إلى الرعية كانت بأيديهم وليس لهم بيعها ولا استبدالها إلا بإذن الإمام، ولا يكون ملكاً لأحد إلا بتمليك السلطان له، ثم من هي تحت يده إن تسلمها بوجه حق فهو أولى بها من غيره، مادام يدفع أجر المثل فيكون له فيها (مشد مسكة) أي يتمسك بها مادام حياً في الحرث وغيره، وحكمها أنها لا تقوم ولا تملك ولا تباع، وكذلك إن أجرى فيها كراباً أي حرثاً أو كراء (1) أنهارها مما لم يكن مالاً ولا بمعنى المال وهو مجرد الفلاحة، فليس ذلك متقوماً لأنه بمعنى الوصف فلا يباع ولا يورث، فإذا كان له كردار من بناء أو أشجار فإنه يباع ويورث دون الأرض ولم يسموه خلواً، وإن كان المالكية يسمونه خلواً وألحقوه بالخلو، وهذا اختلف فيه المتأخرون من المالكية على قولين:
القول الأول: أفتى بعضهم بأنه يورث وألحقوه بالخلوات والخراج كالكراء، وإنما يلحق بها إن حصل من واضع اليد على الأرض أثر فيها كإصلاح بإزالة شوكها أو حرثها أو نصب جسر عليها أو نحو ذلك مما يلحق بالبناء في الأوقاف، فيكون الأثر الذي عمله في الأرض خلواً ينتفع به ويملك، وكأن الذين أفتوا بذلك نظروا إلى أنه لا يسلم الأمر من وقوع شيء من هذا النوع أو من دفع مغارم للملتزم وهو الذي يتقبل الأرض من السلطان مقابل مال يدفعه له، ويأخذ الملتزم المال من الفلاحين لتمكينهم من الأرض، قال الشيخ عليش: والذي ينبغي في هذا الزمان الإفتاء بالإرث ولأنه أدفع للنزاع والفتن بين الفلاحين، وللملتزم الخراج على الأرض لا أكثر، وألا يكون له عزل الفلاحين عن أثر له في الأرض.
(1) أي حفر.
القول الثاني: قال الدردير: إن الفتوى السابقة مكذوبة على من نسبت إليه، ومراعاة مشهور المذهب تقتضي عدم التوريث فيما فتح عنوة بل يفعل السلطان أو نائبه ما فيه مصلحة ولا تورث، بل الحق لم يقرره فيها نائب السلطان لأنها مكتراة والخراج كراؤها، ولا حق للمكتري في مثل هذا، ثم إنه إذا تنازل من هي بيده لغيره مقابل عوض مالي على أن يكون الخراج على المسقط له، فقد أفتى الشيخ عليش بجواز ذلك على أن يكون العوض من غير جنس ما يخرج منها.
التحكير نوع من الإجارة وشرط الإجارة في الأصل العلم بالمدة بدءاً ونهاية، أما التحكير فقد قال العدوي من المالكية: جرى العرف عندنا بمصر أن الاحتكار مستمر للأبد، وجرى العرف بذلك، وليس لمتولي أمر الوقف إخراجه إلا بشرط وقصد أن ليس على الأبد، إذ الناس على شروطهم ويثبت للمحتكر حق القرار إذا وضع بناءه في الأرض مادام أسُّ بنائه قائماً فيها، ولا يكلف برفع بنائه ولا بقلع غراسه مادام يدفع أجرة المثل المقررة على ساحة الأرض المحتكرة، إلا إذا كان مفلساً هو أو وارثه أو كان سيئ المعاملة أو متغلباً يخشى على الوقف منه إلى غير ذلك من الأضرار، لقاعدة أن الضرر يزال (1) .
وقد اختلف الفقهاء في تحكير الأرض بأقل من أجرة المثل، قالت الحنفية لا يجوز لمن له حق إجارة الوقف أن يؤجره بأقل من أجرة المثل حتى لو كان المؤجر هو الناظر، ويعد ذلك من الناظر خيانة، اللهم إلا إذا كان النقصان يسيراً بحيث يتغابن الناس في مثله ويتسامح وتنفذ الإجارة معه (2) ، وفرقت الشافعية والحنابلة بين أن يؤجر المتولي العين الموقوفة عليه أم لا؟ ففي الحالة الأولى لا يجوز له أن يؤجرها بأقل من أجرة المثل، أما في الحالة الثانية فإن ذلك له، قياساً أولياً على صحة الإعارة منه كما هو مذهب الشافعي، وباعتبار نقل ملكية المنافع للموقوف عليه عند الشافعية والحنابلة (3) .
(1) ابن عابدين: 5/20؛ مطالب أولي النهي: 3/622؛ العدوي على الخرشي: 7/79؛ قانون العدل والإنصاف، المادة 334-335.
(2)
الدر المختار: 3/395؛ وأحكام الوقف للخصاف، ص205.
(3)
مغني المحتاج: 2/395؛ مطالب أولي النهي: 4/248.
فإذا آجر الناظر الوقف بأقل من أجرة المثل وبغبن فاحش وترتب عليه فساد عقد الإجارة عند الحنفية، فإن استغلها المستأجر فعليه أجر المثل كما لو أجر من غير تسمية أجر، أما إذا لم يستعمل المحتكر كالدار مثلاً يقبضها ولم يسكنه فإن الأجر لا يلزمه لأن الإجارة فاسدة، فإن سكنها فعليه أجر المثل، وعلى دفع أجر المثل جرى العمل، سكنها أو لم يسكن وبه الفتوى (1) ، ورأت المالكية أن الناظر إذا أكرى العين الموقوفة بأقل من أجر المثل ضمن الناظر تمام أجرة المثل إن كان مليئاً، وإلا رجع على المستأجر لأنه مباشر (2) ، وقالت الحنابلة بصحة عقد الإجارة إذا آجر الناظر العين الموقوفة بأقل من أجر المثل حتى إذا صاحب هذه الإجارة غبن فاحش، فعلى الناظر ضمان النقص في الأجرة فيما لا يتسامح فيه الناس في العادة إذا كان الناظر غير المستحق في الوقف، أما إذا كان هو المستحق الوحيد في الوقف فالظاهر أنه لا يضمن (3) .
وإذا مات المستحكر قبل أن يبني أو يغرس في الأرض المستحكرة انفسخت الإجارة وليس لورثته البناء في الأرض أو الغرس فيها إلا بإذن الناظر.
وينقضي الحكر بهلاك العين الموقفة بناءً أو غرساً، فإذا خرب البناء الذي بناه المستحكر في أرض الوقف وزال عنها بالكلية ينقضي حق المحتكر في القرار فيها إذا كان ذلك بعد انقضاء مدة الإجارة، وكذلك إذا فنيت الأشجار التي في الأرض الزراعية وذهب كردارها فلا يبقى للمحتكر حق الاستمرار إن حصل ذلك بعد انقضاء مدة الإجارة.
إن ما قدمناه من الأحكام والفروع الفقهية اختلاف الأئمة فيها من حيث الجواز والمنع، ومن الشروط المشترطة من الأحكام المتعلقة بالخلو وما يترتب عليه من الحقوق ودوافع ذلك كله مرجعه إلى تحقيق خصيصة هي المقصود الأول من الوقف، وهي استمراريته وتأبيده وبقاؤه بطريقة تحقق الانتفاع به فيما استقبل من الزمان وبقاء غلبته واستثماره.
(1) الدر المختار: 3/401.
(2)
حاشية العدوي على الخرشي: 7/99.
(3)
مطالب أولي النهي: 4/340.
ولذا كان من الواجب الإنفاق عل عمارته وصيانته من الضياع والخراب حتى يستمر في تقديم خدماته وفي تجديد ثمراته وتوليد دخله في مستقبل الأيام والانتفاع بمدخوله جيلاً بعد جيل من المحبس عليهم.
ولقد أكد الفقهاء وأجمعوا على لزوم عمارة الوقف سواء اشترطها الواقف أو لم يشترطها تحقيقاً لقاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
ولذا مادام الوقف ينبغي أن يكون مؤبداً ومستمراً كان ولابد من صيانته محافظة على الوقف بالصورة التي كان عليها عندما أوقفه صاحبه، ولذا كانت أكبر مهمة الواقف أو ناظره –تحقيقاً للانتفاع به- أن يتولاه بالرعاية والإصلاحات اللازمة حتى يبقى صالحاً لأداء مهمته، سواء أكان ذلك بالانتفاع بالسكنى أم الانتفاع بثمراته.
ثم إذا نظرنا إلى الأحباس نظرة اقتصادية نرى أن من أهم اختصاصات الوقف أن ينصب على العقارات، والقليل منها على المنقولات وكلها تنصرف إلى الأهداف التي من أجلها وقفت.
ونحن إذا نظرنا إلى استثمار مشروع يحقق المقاصد والغايات التي من أجلها شرع، نرى أن الأوقاف عموماً لديها الكثير من عنصر معين هو المال غير السائل على شكل عقارات كالدور والحوانيت والأراضي الزراعية ونحوها من كل ما يصح وقفه.
والعنصر الهام جداً هو العمل حتى يبقى صالحاً للاستثمار، ومن هنا جاء طريق الإيجار الذي يتطلب شيئاً من الأعمال: أعمال المراقبة والنظارة، والتعهد بالصيانة ومتابعة المستأجرين والدخول في عقود معهم، وهو حينئذٍ يتطلب شيئاً من الأعمال الإدارية والتنفيذية والتنظيمية، فالأوقاف عموماً: عنصر العمل لديها عنصر قليل، ويستنتج من ذلك أن من الخصائص البارزة في الأحوال الوقفية أنها قليلة السيولة (1) ، والعقارات حتى في الأموال التي يجوز فيها شرعاً بيعها واستبدالها ببديل مثل العقار بالعقار، حتى في هذه الأحوال، فإن تحويلها من عقارات إلى أموال سائلة أمر يتطلب نفقات ووقتاً لا يستهان به، عندئذٍ يمكن اعتبار انخفاض السيولة خصيصة مميزة من خصائص أموال الأوقاف، فإذا ما أردنا أن نستثمر أموالاً وقفية بصيغة من صيغ الاستثمار العقارية، كأن ننشئ بناءً فوق أرض وقفية حتى نؤجره وننتفع بعوائد دخله لما يتطلبه الوقف من أموال حاضرة نستطيع بها تحويل الوقف من حالة إلى حالة.
(1) يقصد الاقتصاديون بالسيولة: قابلية مال معين لتحويله إلى نقد خلال فترة قصيرة وبتكلفة معقولة.
إن الأوقاف تفتقر عادة إلى أموال للإصلاح والترميم والبناء والتشييد، وغالباً ما يكون الموقوف عليهم ليس لهم أموال للقيام بهذه الأعمال، ولذلك يلتجئون إلى التخلية، فإذا أراد الموقوف عليهم تنفيذ مشروع معين فالمتوقع أن يلتجئوا إلى من لهم سيولة للتكفل بإصلاح ما تحتاج إلى الإصلاح أو إنشاء ما يرفع من قيمة الوقف وتنمية مداخيله التي ترجع بالمصلحة على الوقف من جهة، وعلى الموقوف عليهم من جهة أخرى.
إننا إذا نظرنا إلى المؤسسات المكلفة بالسهر على الأوقاف عموماً نجد مهمتها عظيمة وكلفتها جسيمة، إذ هي تقدم خدمات دينية واجتماعية للمجتمعات الإسلامية والإنسانية، فتشرف على أماكن العبادة كالمساجد وسدنتها وما يتبع ذلك من أئمة ومؤذنين وغيرها، ومن مشمولات أنظارها المؤسسات الخيرية الوقفية، وهي ما يقصد بها الواقف التصدق على وجوه البر والإحسان كالمستشفيات والمدارس مما ينعكس نفعه على المجتمع، وهذه مهمة الأوقاف الخيرية بل حتى الأوقاف الأهلية مرجعها إلى الأوقاف العامة الخيرية، فإن من حبس على نفسه ثم على أولاده وأعقابه وأعقاب أعقابه، فإنه ينص أنه بعد انقطاع نسله يرجع الوقف إلى مصلحة من المصالح العامة كمسجد معين من المساجد يكون مدخول الوقف راجعاً إليه، فمآله إلى جهة القربة، فهو قد أوقفه على أولاده فأحفاده، وما تعاقب منهم، وكان ذلك لدفع الحاجة عنهم أو منع غائلة العوز والجوع أن تستبد بهم.
والمؤسسات الوقفية –بقطع النظر عن قصد الواقف- تتطلب قدراً لا يستهان به من العمل الذي يحتاج لإدارتها على وجه يحقق الغاية التي من أجلها شرع وأنجز الوقف.
وإذا ما أردنا أن ندخل في مشروع اقتصادي يحقق استثمار الوقف أحسن استثمار، نجد أنفسنا مفتقرين كل الافتقار إلى عنصرين اثنين: عنصر الإدارة الناجعة من أصحاب الكفاءة، وعنصر مادي به نحقق المشاريع الاستثمارية لهذه الاوقاف. فالاستثمار والرقابة وحسن الإدارة هي أسس لنجاح كل مؤسسة من المؤسسات الاقتصادية.
والأوقاف ككل مؤسسة دولة فهي مفتقرة إلى الأجهزة الإدارية التي تستطيع القيام بهذا العمل ومفتقرة إلى سيولة مالية أي إلى أموال نقدية لكي تستطيع أن تنمي مداخيلها وتقوم بواجبها أحسن قيام. فالهدف الأساسي لمباشرة الوقف هو الهدف الاقتصادي لاستثمار أموال الوقف وتوليد دخل نقدي مرتفع بقدر الإمكان يسمح للوقف بتقديم الخدمات المنتظرة منه للمجتمع، وذلك بطرق الاستثمار الحلال. ولاشك أن تقوية القدرة المالية وحسن إدارتها أمر مطلوب مرغوب لأن فيه تحسين مستوى الأداء.
إن الاقتصاديين يلتزمون عادة الطرق الاستثمارية التي تولد أكبر عائد مالي للمستثمر. هذا هو المعيار عموماً عندهم بقطع النظر عن الوسائل التي تتخذ لتحقيق ذلك غير ناظرين إلى الوجهة الإسلامية في طرق هذه الوسائل من حيث الحلية أو الحرمية. ولاشك أن النظرة الإسلامية تمانع في كثير من الطرق التي فيها غرر والتي تؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل في النظر الشرعي.
ونحن لو نظرنا إلى الهدف الأساسي لوجدناه بالنسبة للأوقاف يهدف إلى توليد السلع والخدمات للمجتمع الإسلامي. ولو كان مردود المشروع المالي قليلاً بالنسبة لبعض الطرق إذا كان يحقق هدفاً له اعتبار مهم للمجتمع والذي منه تشغيل اليد العاملة في البلد الذي تكثر فيه البطالة مثلاً.
لا شك أن الأوقاف ينبغي أن تكون أشد تمسكاً من غيرها في تحقيق الأهداف الاجتماعية الإسلامية المتعددة والكثيرة بالإضافة إلى هدف الحصول على معدل ربح مرتفع من استثماراتها. وعلى النظار للأوقاف أن يبحثوا في دائرة مشروعات الحلال عن الطرق التي تولد لها أكبر عائد مالي.
ونحن إذا نظرنا إلى الأوقاف عموماً نلاحظ افتقارها في أكثر البلدان الإسلامية إن لم نقل في جميعها وأن دخلها لا يفي ولا يكفي لتؤدي مهماته الكبيرة والكثيرة فيما أوقفت العقارات لأجلها، فيكون المردود ضعيفاً بعيداً عن المستوى الذي يتطلبه العمل. فنرى مثلاً في كثير من البلدان الإسلامية أن الأوقاف عاجزة عن دفع المرتبات الشهرية لأئمة المساجد بما يلائم الخدمات التي يؤدونها ويناسب مستواهم. وبذلك لا يتقدم لمثل هذه الوظائف أئمة فيهم الكفاءة والمقدرة والمعرفة وحسن الهندام بسبب رواتب غير مجزئة. وهذا يمتد إلى كل الخدمات الأخرى التي تؤديها الأوقاف، ولذا كان في ظل هذا الوضع من المتحتم أن نبحث عن استثمارات حلال تعود بتوفير دخل الأوقاف حتى تتمكن من أداء رسالتها والقيام بما شرعت من أجله.
وقد قدمنا أن الفقهاء قرروا أن الإنسان إذا كان يقوم بعمل مالي نيابة عن سواه، فإنه ملزم بمراعاة مصلحة من استنابه أو وكله. ولذا منع الناظر للأوقاف من الإيجار بأقل من ثمن المثل وأنه لا يحق له أن يتبرع بتبرعات من مال الوقف حتى ولو كانت هذه التبرعات لأهداف نبيلة ومحمودة شرعاً، فالناظر كولي اليتيم لا يحق له أن يتبرع من مال اليتيم إطلاقاً، وحتى إذا كان محتاجاً فليس له أن يأخذ من مداخيل يتيمه إلا بالمعروف، إذ قال تعالى:{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] .
ومثل ولي اليتيم الوصي على القصر والقيم على فاقد الأهلية وكذلك القاضي فممنوع عليه أن يقضي بالتبرع من مال اليتيم، بل يجب دوماً على متولي مال اليتيم وعلى القاضي إذا رفع له أمر يتصل بالأيتام أن يبحث عما هو أصلح لهم وأنفع مالياً باعتبار أن هؤلاء الأيتام عندما يبلغون سن الرشد يمكنهم أن يمارسوا حقهم في التبرع إذا شاؤوا، أما أن يتبرع إنسان على حساب غيره فهذا يؤدي إلى مفاسد واسعة وأضرار جسيمة، لذا اتفق الفقهاء على منعه.
ولقد توعد الله النظار في أموال الأيتام فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] .
ولقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) (1) ، فأوجب على من تولى أمر يتيم له مال أن يعمل على ما ينميه كتجارة وغيرها، وأن لا يتركه حتى تأكله الزكاة، ومن هنا ندرك وجوب استثمار أموال الأوقاف قياساً على استثمار أموال اليتامى حتى تفنى وتنقرض بسبب المصاريف عليهم من دون تنمية لها.
وقد جاء في المعيار: المناسب لاختيار استثمار معين إذا طلبنا من إدارة الأوقاف أن تراعي مختلف الاعتبارات الاجتماعية في اختيار المشروعات، ومعنى ذلك أنها ستتنازل عملياً عن بعض الأرباح التي كان يمكن تحقيقها من استثماراتها لرعاية مقاصد أخرى حميدة في ذاتها ولكنها تؤدي إلى انخفاض في دخل الوقف نتيجة لذلك، ولذا فإنه يتعين علينا أن نعتبر أن ناظر الوقف بمنزلة ولي اليتيم عليه أن يرعى أموال الوقف بما هو أصلح مالياً للوقف.
وإن إدارة الأوقاف أو وزارة الأوقاف هي مؤسسة ترعى أموال الأوقاف بما هو أصلح مالياً للوقف، وهي مسؤولة عن تحقيق مختلف الأهداف الاجتماعية، وعلى هذه المؤسسة أن تحاول أداء مهمتها على أكمل وجه، سواء كان من جهة إيجاد وسائل لتثمير وتنمية مداخيل الوقف، أو من حيث تحقق تقديم الخدمات التي تشرف عليها على أفضل وجه ممكن، وهذا إنما يتحقق بالبحث في دائرة استثمارات الحلال التي تحقق أعلى عائد مالي يحقق ما قصد من الوقف، وهذا لا يتحقق إلا بمتابعة الدراسات التي بها تتحقق الأهداف المبتغاة.
(1) رواه الترمذي والشافعي والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
فإذا أردنا أن نقوم بمشروع معين، فعلينا أولا بدراسة الجدوى الاقتصادية لذلك المشروع، وتتمثل في تكاليف إنشاء ذلك المشروع لأن كل مشروع استثماري يبدأ أولا بخسارة مؤكدة تساوي تكاليف إنشائه، ثم ينظر في دراسته من حيث ما يعود بدخله في المستقبل وما يحتمل أن نحصل عليه، بذلك ندرك مصلحة المشروع من عدمه وهل يقدم عليه أو يضرب عنه صفحاً ويتحول إلى غيره، إذ كل مشروع دائماً يبدأ بالأخذ وليس بالعطاء، وأي مشروع استثماري لا يمكن أن يعتبر مقبولاً ما لم يكن يعدنا بدخل يتجاوز التكلفة الأولي للقيام به، وحيث إن النفقة البدائية لكل مشروع هي نفقة مؤكدة قطعاً، بينما الدخل الذي سيتولد منه إنما هو دخل مظنون عبر سنوات عديدة قد تقل وقد تكثر حسب المشروع في الزمن المستقبل، فلذا لا يكفي أن يرد المشروع مقدار ما أنفق عليه أو يردها بزيادة ضئيلة متوقعة، بل ينبغي قبل الإقدام عليه أن نتوقع عائداً معتبراً خلال فترة عمر ذلك المشروع يتجاوز ما أنفق على المشروع بنسبة معقولة مقبولة اقتصادياً ليعوض المخاطرة التي تحملت عند الدخول فيه، وهذه المخاطرة هي التي تحملت تكلفتها المبدئية عند الإقدام على المشروع.
إن المشروع الاقتصادي عموماً يعتبر خاسراً ما لم يثبت بالتجربة أنه رابح، وهذا يرجع لقاعدة أن الأصل براءة الذمة، وبناء عليها فالأصل عدم الإدانة، وبالنسبة للمشاريع الاقتصادية تنعكس هذه الحقيقة، إذ قبل الإقدام على المشروع، فإن الخسارة هي المحققة ابتداءً بطريقة يقينية قطعية، حتى يثبت بطريق الدراسة أنها رابحة، والدراسة تفيد الظن لا اليقين، والواقع الخارجي هو الذي يحقق صحة الدراسة فيقع التطابق في الواقع والحقيقة.
وهذه هي المراحل الدراسية لجدوى المشاريع الاقتصادية، وهي تتركب من مرحلتين:
المرحلة الأولى: هي مرحلة أولية وهي دراسة موجزة إجمالية بتكلفة قليلة بالنسبة للتكلفة المستفيضة، يعرف بواسطتها إمكانية تحمل تكاليف دراسة الجدوى الاقتصادية مجملة، وليس من المناسب عند دراسة أي مشروع ما، أن نبدأ مباشرة بدراسة مفصلة مستفيضة، لأن لهذه تكاليف عالية، بل الوضع الطبيعي أن يبدأ بدراسة أولية قليلة التكلفة، فإذا بدأت النتائج إيجابية، انتقلنا إلى الدراسة التفصيلية المستفيضة والتي يقرر في الدراسة كل صغيرة وكبيرة من حيث التكلفة المالية والمدة الزمنية وطريقة المردودية، بل حتى تكاليف تشغيله وإدارته والدخل المتوقع من تشغيله، وهذه الأنواع الثلاث هي من المعلومات الضرورية المطلوبة، وهذا عمل متخصص يحتاج إلى فنيين ومهندسين وأهل اختصاص، وهو لا يوجد عادة لدى الجهات الوقفية.
صيغ التمويل المقبولة إسلامياً:
إن لكل صيغة من صيغ التمويل لها ملابساتها ومزاياها ومحاذرها، وإن مثل هذه المواضيع لم تأخذ حظها كما ينبغي في الدراسات، رغم ما بذل من الجهود في السنوات الأخيرة، إلا أنه ما تزال تحتاج إلى كثير من الدراسات الإضافية واقتراحات أولية تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص في الشريعة، فقد نجد صيغاً مقبولة شرعاً وجيدة اقتصادياً عند المستوى الأول من الدراسة، فإذا جئنا إلى التطبيق تطرأ بعض المشاكل التطبيقية التي لم تكن متوقعة.
وتطوير صيغ التمويل الفعالة الحلال هو أمر لا يتطلب الدراسة النظرية الشرعية والاقتصادية فحسب، بل يرتبط ارتباطاً بالتطبيق العملي وملابساته، فقد تطرأ بعض المشاكل التطبيقية التي لم تكن متوقعة، وهذا يعين عملياً أن ننظر بعين الناقد البصير إلى أي صيغة استثمارية نطرحها ولا نتردد في بحث ملابساتها الإيجابية والسلبية والنظرية والتطبيقية.
فلو فرضنا أن لنا مؤسسة وقفية هي أرض نريد أن نستثمرها، وأن هذه الأرض أو العقار المستثمر ليس في وضع صالح للاستثمار وليس جاهزاً للإيجار إن كان مبنياً، أو ليس جاهزاً للاستخدام الزراعي إن كان أرضاً زراعية، وإنما يحتاج إلى مزيد من الاستثمارات حتى يصبح صالحاً لتوليد الدخل، وأقل ذلك أن تكون المؤسسة الوقفية أرض لا تصلح إلا للبناء، وليس لدى أهل الوقف أموال كافية لتبني على هذه الأرض بناء، أو يوجد عقار مبني على هذه الأرض وهو مستثمر حالياً، ولكن العائد من استثماره ضئيل، ولو نقض وبني مكانه بناء جديد لأمكن حصول أضعاف عائده.
ولقد نص الفقهاء على بعض الطرق لحل هذه المشكلة، أي تمكين الوقف من استثمار عقار من النوع الممتاز كما ذكرناه من النوع العام من هذه الطرق التي ذكرها الفقهاء يمكن أن نسميها حقوق القرار على الأوقاف.
وأول طريقة لاستثمار أرض وقفية هي حق الحكر وهو حق قرار مرتب على الأرض الموقوفة بإجارة مديدة تعقد بإذن القاضي يدفع فيها المستأجر لجانب الوقف مبلغاً معجلاً يقارب قيمة الأرض ويرتب مبلغ آخر ضئيل يستوفى سنوياً لجهة الوقف من المستحكر أو ممن ينقل إليه هذا الحق، ويكون له حق الغرس والبناء وسائر أوجه الانتفاع على حسب ما كنا قدمناه، وهذا الحق هو الحكر قابل للبيع والشراء وينتقل إلى الورثة يحلون محل أبيهم على حسب التفصيل الذي كنا قدمناه.
والغرض من هذا العقد كما هو ظاهر أن يستفاد من استثماره، وقد كان هذا العقد معروفاً منذ منتصف القرن الثالث الهجري، وبموجبه أخذت الأوقاف مبلغاً كبيراً نسبياً من المال الذي يقرب من قيمة الأرض، أخذت هذه الأموال مقدماً ولقاء ذلك يكون الموقوف عليهم قد باعوا حق الانتفاع من الأرض لهذا المستحكر مدة طويلة جداً، مادام المستحكر يدفع كراء أجرة المثل، وبهذا العقد يكون الوقف قد حصل مبلغاً كبيراً من المال معجلاً مع مبلغ صغير كأجرة سنوية، ومقابل ذلك قد تنازل الوقف عن الانتفاع بهذا العقار، ويمكن للوقف مقابل هذا المال الكثير الذي قبضه أن يستخدمه في تمويل عقارات وقفية أخرى يقع تمويلها بهذه الأموال.
والملاحظ أن حق الحكر ليس من قبيل حق الانتفاع الذي ينتهي بموت صاحبه، كما أنه ليس من قبيل حق الارتفاق، لأن حقوق الارتفاق بأنواعها حقوق مقررة لمصلحة عقار على عقار آخر مجاور له، فحق الحكر حينئذٍ حق له طبيعة خاصة، ولو وازنا بين مزايا ومحاذير طريقة الحكر، لوجدنا أن مزيتها واضحة، إذ هي تسمح للأوقاف بالحصول على مبالغ مالية تكاد تساوي قيمة الوقف الممنوع شرعاً بيعه، ولكنها لقاء ذلك قد تنازلت عملياً عن أي منفعة يمكن أن تحصل عليها من هذا العقار الوقفي في المستقبل، لأن الأجرة السنوية المضروبة على الكراء ضئيلة جداً، فقد تكون الأجرة تساوي (2.5) من قيمة العقار، وهي أجرة رمزية بالنسبة للأجرة الحقيقية، ولذا لا يصح اللجوء إلى الحكر إلا في حالة خاصة ضرورية بدافع قلة ما في اليد لتنمية أموال الأوقاف لإصلاحها.
ولذا نجد اليوم قد يباح انتفاع الوقف للمحتكر لا إلى الأبد أو انعدام الانتفاع بالحكر، وإنما يكون لمدة زمنية كعشرين سنة أو خمسين سنة مثلاً، ثم يرجع الانتفاع للموقوف عليهم، وهذه الطريقة هي أخف من الطريقة الأولى لأنها ليست طريقة أبدية، لأن المحتكر ما دام يدفع الأجرة السنوية المضروبة على الحبس مادام له الحق في البقاء، وليس للموقوف عليهم أو لناظر الوقف إخراجه من الأرض.
والحق أن المنطق الاقتصادي يقتضي أننا ضحينا بعقار وقفي معين عن طريق حق الحكر فيه إلى استخدام المال الذي أخذ في استنقاذ عقارات وقفية أخرى ونقلها من وضع غير مفيد إلى استثمارها بطريقة مفيدة تدر المال الكثير على الموقوف عليهم.
والخلاصة أن التحكير في الأوقاف يمكن استخدامه كوسيلة تمويل لعقارات الأوقاف، وذلك باستخدام المبالغ المعجلة من ذلك العقار الوقفي وفي أوقاف أخرى كإشادة بناء على العقار الموقوف أو إنشاء حوانيت تدر على الموقوف عليهم أموالاً طائلة، ولقد بحث الفقهاء ذلك، عندما نشبت حرائق هائلة في أكثر العقارات التابعة للأوقاف بالقسطنطينية بعد سنة ألف وعشرين للهجرة، فعجزت غلات هذه العقارات عن تجديدها، وقد تشوه منظر البلدة، فابتكر الفقهاء طريقة الإجارتين تشجيعاً على استئجار هذه العقارات لتعميرها اقتباساً من طريقة التحكير في الأراضي الوقفية، وحقيقتها عقد إجارة مديدة بإذن القاضي الشرعي على عقار الوقف المتدهور الذي يعجز ناظر الوقف عن إعادته إلى حالته من العمران السابق بأجرة معجلة تقارب قيمته تؤخذ لتعميره وأجرة مؤجلة ضئيلة سنوية يتجدد العقد عليها تدفع كل سنة، وكل ذلك كمخرج لعدم جواز بيع الوقف وإجارته مدة طويلة، وسميت هذه بالإجارتين لأن هناك إيجار يدفع ناجزاً يقارب قيمة الأرض، وإيجار ضئيل يدفع في آخر السنة ويتجدد كل سنة.
والفرق بينهما وبين الحكر أن البناء والشجر في الحكر ملك للمستحكر لأنهما أنشئا بماله الخاص بعد أن دفع إلى جانب الوقف ما يقارب قيمة الأرض المحكرة باسم الأجرة المعجلة، أما في عقد الإجارتين فإن البناء والأرض ملك للواقف لأن عقدها إنما يرد على عقار مبني متداع يجدد تعميره من الأجرة المعجلة نفسها التي استحقها الوقف.
ومن الوجوه التي تمكن من تثمير الأوقاف صورة عكسية لما تقدم تكيف بها صيغة العقد وهي إنشاء عقار يبنى على أرض الوقف بثمن مؤجل وذلك بأن يعلن ناظر الوقف بأن هذه الأرض الوقفية مستعدة للسماح لجهة تمويلية بأن تبني بناء على هذه الأرض الوقفية يكون ملكاً للشركة التي بنته، ولكن الأوقاف هي الأحق بشرائه بعد إنجازه واكتماله، يدفع ثمنه أقساطاً مؤجلة، تدفع من الناظر أو من أهل الموقوف عليهم سنة بعد سنة تكون أقل من الأجرة المتوقعة من تأجير هذا البناء حتى تكون الأوقاف مطمئنة إلى أنها ستجد المال الكافي لتسديد أقساط ثمن البناء في المواعيد المحددة لهذا العقد، فالأرض أساساً للأوقاف وتنتقل ملكية البناء مباشرة إلى الأوقاف بعد إبرام العقد ويسترد ثمن البناء بالتدريج من المبالغ المتصلة (1) من الإجارة، وبالطبع تضع الجهة الممولة لبناء يدها على البناء المحدث لتضمن لنفسها أن الوقف سيسدد لها استحقاقاتها في المواعيد المحددة ثم بعد انتهاء فترة التمديد التي غالباً ما تكون فترة طويلة سيؤول العقار المستعمل إلى الأوقاف ليصبح ملكاً لها خالصاً، ويصبح الوقف بهذه الطريقة مالكاً للأرض ولما بني عليها بعد دفع كل الثمن الذي بني به، وهذا العقد أشبه ما يكون بعقد الاستصناع مع المؤسسة التي تكلفت بالبناء على الأرض الوقفية، ومعلوم أنه لا ممانعة من أن يكون عقد الاستصناع على ثمن معين مؤجل.
(1) أي المحصلة.
ويمكن اقتراح طريقة أخرى وهي أن تقوم الأوقاف أرضها، ويقوم الممول البناء على أرضها بعد إذن الناظر ويؤجر البناء الذي بني وتقتسم الأجرة بحصة شائعة بين الممول وناظر الوقف بحيث يكون الوقف قد قدم الأرض والممول قد قدم البناء على هذه الأرض، ويكون أجر الكراء لهذه البناية مقسوماً بين الممول وناظر الوقف بحصة شائعة يتفقان عليها.
وقد نص الإمام أحمد بن حنبل في باب المضاربة على جواز أن يدفع أحد المتضاربين شبكته إلى من يصيد بها ويكون الصيد بينهما، أو يدفع دابته لمن يعمل عليها وتكون الأجرة بينهما، وهكذا، فهذا بأرض الوقف والآخر بما أنشأه من بناء عليها، ولكن الإشكال فيمن يملك البناء الذي بني على الأرض الوقفية، لأن الأرض ملكيتها للواقف بلا خلاف. فمالك البناء هل هو الممول بأن ينسحب تدريجياً من المشروع بعد استرداد نفقته من ربح مناسب فوق التكلفة؟ إن الذي يؤدي إلى تحقيق هذا الهدف هو أن نصيب الأوقاف من الأجرة ينبغي أن يقسم قسمين: قسم تشتري به الأوقاف بالتدريج حصصاً متزايدة في البناء الذي بناه الممول، والقسم الآخر تستخدمه في نفقاتها الجارية كمورد من موارد الأوقاف، وقد طبقت هذه النظرية في عقارات وقفية في السودان.
إن هذه الطريقة بهذه الصيغة تسمح للممول بأن ينسحب تدريجياً من المشروع بعد أن يسترد نفقاته مع ربح مناسب فوقها، وبذلك يتحقق الهدف وهو نصيب الأوقاف من الأجرة.
فناظر الوقف يدعو من يبني بناء كعمارات وشقق وحوانيت على الأرض الوقفية الصالحة للبناء ويحدد المبلغ الذي ينبغي على الأوقاف تسديده بعد إجراء دراسة تقدر هذه المبالغ المالية كدين على الوقف بحيث يتصرف فيه الممول ويستخلص أجرتها إلا القليل فيأخذه الموقوف عليهم، ويستمر هذا العمل خلال فترة السداد، وتكون الأجرة التي تحصل عليها الأوقاف من العقار مختلفة، فبقدر ما ينقص الدين المدفوع بقدر ما يزداد دخل الوقف، وهكذا كلما كانت الأرض عقاراً وبناءً.
ويمكن أن يكون بطريقة التضحية بجانب من الأرض مقابل أن تحصل على جانب من البناء، ولكن الإشكال في هذه الصورة أن الممول قد أصبح شريكاً في مال الوقف، وهو مشكل، لأن الوقف باق على ملك صاحبه، والموقوف عليهم لهم حق الانتفاع لا حق الملكية، وهذا محظور من الناحية الشرعية.
لكن إذا نظرنا إلى نزول الوقف عن جزء من أرضه مقابل جزء من البناء الذي هو أيضاً عقار فتكون حينئذ عملية استبدال الجزء من الأرض بجزء من البناء، وفي حالة ملجئة، حتى يمكن استثمار هذه الأرض التي كانت مالاً معطلاً غير مستغل، وفيه تضحية من جانب الأرض في مقابلة الحصول على جانب من البناء، وتستحق كل من الأرض الوقفية ومن البناء كل حسب قيمته، فإذا كانت التي انتزعت للبناء تساوي مثلاً نصف قيمة البناء، يكون مدخول شركة البناء الثلثان ومدخول الموقوف عليهم الثلث، وهكذا يتحقق استثمار الوقف.
ومن الطرق الممكنة أيضاً والتي تحقق استثمار الأرض الوقفية أن تقدم الأرض الموقوفة لشخص بأجرة سنوية معينة ويسمح لمن استأجرها بالبناء لمدة معينة من السنوات يستفيد من مدخول ما بناه والذي هو ملك له ويكون ذلك لمدة طويلة يكفي فيها أجرة الأرض لتسديد قيمة البناء بالتدريج، ويلتزم الباني بهذا العقد على الوفاء، ولكن المشكل هنا أن في ذلك غرر، إذ قد تحصل كارثة طبيعية أو حريق ينقض البناء ولا قدرة لمن يبني أن يعيد هذا البناء، فهل لمالك البناء الذي تهدم أن يعقد مع طرف ثالث ليقوم بهذا البناء الذي هو ملكه؟ وهل لأصحاب الوقف أن يعقدوا مع غيره وأن يمكنوه من البناء وأن يحل محل الباني الأول حيث انعدم بناؤه؟ فهل لهذه الملابسات التي تؤكد أهمية أي عقد تكييف فقهي؟.
ولابد في العقد من بيان جميع التفاصيل بطريقة صريحة تنص على كل الجزئيات التي يمكن أن يتعرض إليها مشروع الاستثمار، ويتبين ذلك في صيغة الكتب. والصيغ التي يمكن اتباعها في إدارة مشروع الاستثمار بعد إنجازه هي:
1-
أن تقوم الإدارة المباشرة للأوقاف بكل الأعمال اللازمة لتشغيل المشروع ولبيع خدماته أو منتجاته. ولاشك أنه يغلب على الدوائر الحكومية عموماً، أنه لا يوجد فيها من هم أهل الاختصاص.
2-
طريق التوكيل بأجر، بأن تختار الإدارة الوقفية جهة تكون ذات خبرة توكلها بالقيام بإدارة المشروع لقاء أجر ثابت في السنة.
3-
أن تمنح الأوقاف حق استثمار المشروع لجهة أخرى لقاء بدل محدد، وتصبح الجهة الأخرى مسؤولة مسؤولية كاملة عن الاستثمار. وفي مقابلة ذلك عليها أن تؤدي مبلغاً مقطوعاً للأوقاف. وهنا تنتقل المخاطرة نوعاً ما إلى الجهة التي قبلت بالضمان. وأهم ما يلحظ في هذه الحالة أن عقد الضمان قد رغبته الأوقاف، ففي هذه الحالة ينبغي أن يكون العقد لمدة طويلة، لأنها إذا كانت لفترة قصيرة تستطيع أن تعرضه مزايدة مرة أخرى، ذلك أن قصر فترة الضمان تجعل المستثمر للمشروع غير ثابت بصيانته صيانة جيدة لأنه يعلم أنه موجود لفترة مؤقتة، فيهمه أن يجني منها أكبر ربح ولا يولي تكاليف الصيانة والترميم والإصلاح أي اهتمام، ولاشك أن هذه أمور تطبيقية ليس من السهل أن تعطى فيها مبادئ عامة.
إن أكثر أموال الأوقاف على شكل عقارات وأكثر صيغة للاستثمار هي إيجار هذه العقارات. وأكثر الأنظمة السائدة تمنع زيادة الأجرة كل سنة أو إعادة النظر فيها بتراضي الطرفين. وبذلك تصبح الأجرة المتفق عليها في سنة معينة والتي كانت مناسبة في تلك السنة فتصبح مع مرور السنوات بعيدة عن تمثيل الوضع الاقتصادي المتغير والمتجدد، ففي كثير من الأحيان يكون تضخم مالي في البلد، وبذلك تصبح الأجرة الثابتة بالوحدات النقدية ذات قيمة متناقصة مع الزمن.
والنظم السائدة في كثير من الأحيان تمنع المؤجر من أن يعيد النظر أو يطلب إخلاء العقار من المستأجر ليؤجره من شخص آخر يقدم أجرة أرفع وأعلى. وفي ظل هذه الظروف التي تكون فيها الإنجازات مقيدة مع وجود التضخم الذي يؤدي إلى أن الأجرة قيمتها الحقيقية تتآكل مع الزمن.
وهنا ينبغي أن نتساءل: هل الاستثمار العقاري هو أولى لأحوال الوقف من الناحية الاقتصادية؟ أم أن الأولى أن هذه الناحية نبيع العقار ونشتري به أسهماً في شركات حلال تقوم بنشاط حلال، وتحل هذه الأسهم محل الوقف وتبقى هذه الأسهم كبديل عن الوقف نفسه، تبقى دائماً لا تباع إلا ليشترى بثمنها أسهماً أخرى من نوع آخر بحيث تبقى قيمة الاستثمار ثابتة ومتزايدة، ولا يؤخذ منه إلا الدخل الذي يولده نتيجة توزيع الأرباح على حاملي الأسهم؟. ولكن هل هذه العملية جائزة شرعاً وقد علمنا أن الأوقاف هي على ملك صاحبها لا تباع ولا يملك الموقوف عليهم إلا الاستثمار؟. وعلى هذا الاعتبار لو كانت أوقاف عديدة في مدينة واحدة فتباع ويؤخذ حصيلة ثمنها فيشتري بها أرض ويبنى عليها عمارة ذات طبقات للسكنى، ويجعل الطابق الأسفل حوانيت تجارية، وتكرى شقق هذه العمارة كما تؤجر هذه الحوانيت، وأجرة هذه العمارة بشققها وحوانيتها توزع بين الموقوف عليهم بعد الأداءات على عقود هي الأكرية وما يقدر من المصاريف اللازمة للصيانة ونحوه، وتوزع غلة العمارة على حسب حصص نسبة مساهمتها في هذا المشروع الكبير.
والسؤال المطروح: هل يجوز مثل هذا العمل الذي تتضاعف فيه غلة الأوقاف بناء على من يرى من الفقهاء أن الوقف يكون في المنقولات كما يكون في العقارات؟ فلو فرضنا أن أحداً له أسهم ذات بال في شركة من الشركات فحبسها على مسجد البلد وأشهد على ذلك وأتمه. وبعد فترة انحلت تلك الشركة وقسمت على أصحابها، فإن على المحبس عليهم أن يشتروا بهذه الأسهم أسهماً في شركة من الشركات، ولا حق لهم في تمليك رأس مالها، لأن الحبس ملك لصاحبه، فإذا اشتروا أسهماً أخرى بما تجمع من مال الأسهم كان ذلك حبساً، ثم ما ينتج من الأرباح هو الذي يكون لهم، لأنه هو الفائدة والغلة لهذه الأسهم التي يستحقها المحبس عليهم، لأنهم يملكون مداخيلها وفوائدها لا ذاتها، لأنها ملك لمحبسها. كذلك إذا ترك في بلد واحد مجموعة من الأراضي الصغيرة الحجم من غير رصيد مالي يمكن به إنشاء أبنية عليها تدر على المحبس عليهم أموالاً كثيرة يقع استثمار هذه القطع الموقوفة، فهل لهم أن يبيعوا مجموعة من هذه الأراضي الموقوفة وبأثمانها يبنون عمارة تدر عليهم الكثير من الأموال؟ وهكذا يقع تمويل الأوقاف واستثمارها مع ما فيها من ملابسات بعضها إيجابية وبعضها سلبية وما فيها من إشكالات بعضها نظرية وبعضها تطبيقية. ولذا كان من الضروري دراسة كل صيغة من صيغ التمويل حتى يعلم المقبول منها شرعاً مما لا يقبل شرعاً وإن كان مقبولاً كنظرية اقتصادية.
والله أعلم وأحكم.
كمال الدين جعيط مفتي الجمهورية التونسية