المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويضومسؤولية الحكومة في تطبيقه - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثاني عشر

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادأ. د. خليفة بابكر الحسن

- ‌استثمار موارد الأوقافإعدادالدكتور إدريس خليفة

- ‌استثمار موارد الأحباسإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌أثر المصلحة في الوقفإعدادالشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌صور استثمار الأراضي الوقفية فقهاً وتطبيقاًوبخاصة في المملكة الأردنية الهاشميةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكوصكوك الأعيان المؤجرةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة(الإجارة المنتهية بالتمليك)دراسة فقهية مقارنةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكدراسة اقتصادية وفقهيةإعداد الدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الشرط الجزائيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌الشرط الجزائيإعدادالأستاذ الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الشرط الجزائي في العقودإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الشرط الجزائي في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور ناجي شفيق عج

- ‌الشرط الجزائيدراسة معمقة حول الشرط الجزائي فقها وقانوناإعدادالقاضي محمود شمام

- ‌عقود التوريد والمناقصةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌عقد التوريددراسة فقهية تحليليةإعدادالدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ مجتبى المحمودوالشيخ محمد على التسخيري

- ‌الإثبات بالقرائن والأماراتإعدادالدكتور عكرمة سعيد صبري

- ‌القرائن في الفقه الإسلاميعلى ضوء الدراسات القانونية المعاصرةإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ محمد الحاج الناصر

- ‌الطرق الحكمية في القرائنكوسيلة إثبات شرعيةإعدادالدكتور حسن بن محمد سفر

- ‌دور القرائن والأمارات في الإثباتإعدادالدكتور عوض عبد الله أبو بكر

- ‌بطاقات الائتمانتصورها، والحكم الشرعي عليهاإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور محمد العلي القري

- ‌بحث خاصبالبطاقات البنكيةإعدادالدكتور محمد بالوالي

- ‌بطاقة الائتمانإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بطاقة الائتمان غير المغطاةإعدادالشيخ علي عندليبوالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التضخم وعلاجهعلى ضوء القواعد العامةمن الكتاب والسنة وأقوال العلماءإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الصلح الواجب لحل قضية التضخمإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويضومسؤولية الحكومة في تطبيقه

- ‌مسألة تغير قيمة العملة الورقيةوأثرها على الأموال المؤجلةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌التأصيل الشرعي للحلول المقترحةلعلاج آثار التضخم

- ‌التضخم وتغير قيمة العملةدراسة فقهية اقتصاديةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌نسبة التضخم المعتبرة في الديونإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

- ‌حقيقة التضخم النقدي: مسبباته – أنواعه – آثاره

- ‌التضخم وآثاره على المجتمعات

- ‌ضبط الحلول المطروحة لمعالجة آثار التضخم على الديون

- ‌حقوق الأطفال والمسنينإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌حقوق الشيوخ والمسنين وواجباتهمفي الإسلامإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌حول حقوق المسنينإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌حقوق الطفلالوضع العالمي اليومإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌الشيخوخةمصير. . . وتحدياتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌البيان الختامي والتوصياتالصادرة عنالندوة الفقهية الطبية الثانية عشرة

- ‌(حقول المسنين من منظور إسلامي)

الفصل: ‌تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويضومسؤولية الحكومة في تطبيقه

‌تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويض

ومسؤولية الحكومة في تطبيقه

إعداد

أ. د. عبد الرحمن يسري أحمد

جامعة الإسكندرية

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

تناول الفقهاء قديمًا ظاهرة غلاء ورخص النقود العرفية أو الاصطلاحية (الفلوس) بطرق شتى. ولا نجد إشارة واحدة منهم تدل على أن هذه الظاهرة كانت من الظواهر الخطيرة المزمنة والمستعصية. فالنظام النقدي اعتمد قديمًا على الذهب والفضة أساسًا، وعلى الفلوس بصفة ثانوية لزمن طويل، وحتى حينما تزايد الاعتماد في وقت لاحق على الفلوس والنقود الذهبية والفضية المغشوشة، وحلت هذه محل النقود النفيسة لم يدر بخلد أحد من الفقهاء القدامى أن النقود في طريقها لتصبح كلها اصطلاحية، أو أن ظاهرة الغلاء الشديد التي كان يقابلها رخص مفرط أحيانًا في قيمة النقود الاصطلاحية يمكن أن تصبح مزمنة وحادة. ولقد سجل المقريزي المؤرخ الإسلامي المعروف ظاهرة الغلاء الشديد، والذي قابله رخص مفرط في قيمة الفلوس، إلى الحد الذي جعل الناس ينبذونها ولا يتعاملون بها، ولكنه كبقية أهل عصره ومن سبقه من أهل العلم لم يتصور دوام هذه الأحوال، أو إمكانية الاستغناء عن نقود الذهب والفضة الخالصة الجيدة.

وفي عصرنا الحديث حيث أصبحت النقود كلها اصطلاحية بالإلزام كالنقود الورقية، أو بالعرف كالنقود المصرفية، تعرضت بلدان العالم المختلفة لظاهرة الغلاء أو التضخم، كما هو المصطلح الشائع، بدرجات مختلفة ولفترات طويلة اختلفت في طولها، ولم تنج البلدان الإسلامية من هذه الظاهرة، بل إن بعضها عانى منها بشدة وما يزال. والجدول (1) يبين معدلات التضخم المسجلة رسميًا في عدد من البلدان الإسلامية، علمًا بأن المعدلات الفعلية قد تكون أعلى بكثير كما دلت بعض الدراسات.

ص: 1584

_________

ص: 1585

ومعروف أن كل ارتفاع في المستوى العام للأسعار بنسبة معينة يقابله انخفاض بنفس النسبة في القيمة الحقيقية للعملة النقدية داخل البلد، ولقد حاول البعض أن يقلل من حجم المشكلة بالقول أن المشكلة غير ظاهرة في بعض البلدان الإسلامية، أو أنها في طريقها إلى الاختفاء تدريجيًا بفعل قوى السوق، أو بطريق السياسات النقدية والمالية، أو أنها سوف تزول حينما يطبق نظام اقتصادي ونقدي إسلامي، ومعظم هذه الأقوال مردود عليه، فالقول بأن المشكلة غير ظاهرة في بعض الحالات لا يعني غيابها، بل وقد تظهر وتنفجر بشدة، وحتى إن كانت المشكلة غير موجودة في حالات فلا يعني أبدًا إهمال الحالات الأخرى التي ظهرت فيها بشدة وأزمنت وأثرت تأثيرًا سيئًا في الحقوق والالتزامات الآجلة. أما معظم الأقوال الأخرى فتفتقر إلى الحجة القوية والإثبات العملي.

ص: 1586

قضية التعويض:

وفي ظل التطورات التي أصابت العملات الذهبية والفضية من غش أو رخص وغلاء أو إبطال أو استبدال من قبل الحكام في العصور الوسطى، كانت النقود المعدنية الرخيصة التي عرفت (بالفلوس) تتخذ أهمية متزايدة في عمليات التبادل في الأسواق، فزادت كميات النقود المعدنية الرخيصة وأصبحت تستخدم في إتمام صفقات كبيرة القيمة، بعد أن كان استخدامها مقصورًا على المبادلات الزهيدة القيمة، فأصبحت هذه النقود رغم انحطاط قيمتها الذاتية محلا للقروض وعقود المضاربة وسداد المعاملات الآجلة. ولابد أن سحب الأفراد للنقود المعدنية النفيسة من الأسواق والاحتفاظ بها أو الانتفاع بمعادنها؛ كان له أثره التدريجي في الالتجاء إلى المعادن الرخيصة لسك النقود وحتمية الاعتماد عليها بشكل متزايد في الوفاء بجميع الحقوق والالتزامات. ولقد بيّن بعض الفقهاء – مثل ابن تيمية رحمه الله – أن تداول النقود المعدنية الرخيصة والنقود الذهبية المغشوشة قد تسبب في حد ذاته في اختفاء النقود الذهبية والفضية الخالصة من التداول، وهذه القاعدة التي عرفت فيها بعد باسم قاعدة أو قانون جريشام.

ولا شك أن النقود المعدنية الرخيصة مثل المعدنية النفيسة استطاعت أن تؤدي وظيفتي الوساطة في التبادل وقياس القيم الحاضرة، ولكن هذه النقود كانت أقل نجاحًا في قياس القيم الآجلة، نظرًا لأن التغيرات التي تصيب قيمتها في الأجل الطويل كانت أحيانًا شديدة الحدة، على عكس النقود المعدنية النفيسة، وكذلك بالنسبة لوظيفة (مخزن الثروة أو القيمة) ، فهذه تتوقف على استقرار قيمة العملة في الأجل الطويل، فكلما تعرضت هذه للتدهور كانت العملة مخزنًا سيئًا للثروة أو القيمة، والعكس صحيح.

ولقد ميز فقهاء المسلمين النقود المعدنية الرخيصة بأنها (عرفية) أو (اصطلاحية) ؛ تفرقة لها عن النقود الذهبية والفضية التي عرفت بأنها ذات قيمة ذاتية أو نقود بالخلقة.

ص: 1587

وفي عصر النقود المعدنية الرخيصة زادت مشاكل البيوع الآجلة والديون على مستوى المعاملات الفردية، كما نشأت مشاكل نقدية جديدة تمامًا على المستوى الكلي لم تكن معروفة من قبل. ففي عصر المعادن النفيسة لم تكن كمية النقود الكلية تزيد إلا بمقدار الزيادة في عرض هذه المعادن. ولم يكن هذا العرض يزداد كما هو معروف إلا عند اكتشاف مناجم جديدة للمعادن النفيسة، أو عن طريق التجارة الخارجية في بعض الظروف الملائمة لتحقيق فائض في ميزان التجارة. ولهذا كان من المعتاد غالبًا أن يتغير عرض النقود المعدنية ببطء على مدى الزمن. وبطبيعة الحال فإن هذه الصورة تغيرت شيئًا فشيئًا مع غش المعدن النفيس في أثناء عملية سك العملة. فكان عرض النقود المعدنية النفيسة التي دخل عليه الغش يزيد بمعدلات أكبر تبعًا لهذا العالم في حد ذاته. ولكن مهما كان الأمر فقد ظلت كمية النقود في تلك الظروف محكومة أو مقيدة بكمية المعدن النفيس التي لن يمكن إنقاصها تحت حدود معينة، حيث يستبان أمر الغش. أما في عصر النقود الرخيصة فقد زال عنصر الندرة الذي يميز المعدن النفيس، وأصبح من اليسير زيادة كمية النقود تبعا لحاجة الحكام، فزادت النقود مع زيادة إنفاق الأمراء على قصورهم، وزيادة أعداد جندهم، ومع اتجاههم للبذخ والإسراف. وفي ما كتبه المقريزي نجد زيادة كمية النقود الرخيصة أهم سبب وراء ارتفاع الأسعار المتتالي بشكل عام في مصر خلال عصره. ولقد كانت هذه المسألة النقدية في غاية الخطورة، إذ أنها كانت وراء تدهور القيمة الآجلة للعملات الرخيصة ومن ثَمَّ وراء فساد المعاملات الآجلة واضطراب العلاقات بين الدائنين والمدينين. وبينما اتجه البعض من العلماء إلى مهاجمة سلوك الحكام أو الأمراء الذي تسبب في تلك الظاهرة، إلا أن عامة الفقهاء اتجهوا إلى معالجة الآثار المترتبة على الظاهرة، فبحثوا حالات الكساد العام للعملة، والكساد المحلي وانقطاعها، وكذلك حالة غلاء ورخص العملة، ولا شك أن الأحكام الشرعية التي توصل إليها فقهاء المسلمين قديمًا في هذه الحالات لها أهميتها بالنسبة لأنواع أخرى من النقود العرفية أو الاصطلاحية التي استحدثت فيما بعد ذلك.

ص: 1588

وفي بحث حالة غلاء ورخص الفلوس اختلف الفقهاء فيما يلزم المدين أداؤه في حالة الغلاء أو الرخص على ثلاثة أقوال:

" القول الأول لأبي حنيفة والمالكية في المشهور عندهم والشافعية والحنابلة، وهو أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت دينًا في الذمة دون زيادة أو نقصان، وليس للدائن سواه " ويلاحظ أن هذا الرأي يمكن أن يتعرض للنقد الشديد إذا افترضنا أن حالة الغلاء والرخص كانت حادة واستمرت، فالنقود المعدنية الرخيصة لها ثمنية بالاصطلاح، وهذه الثمنية تتحدد بالنسبة للمعدن النفيس، فهي ليست ذات قيمة ذاتية. ومن ثم فإن الغلاء أو الرخص يعبث عبثًا شديدًا بقيمة الدين، أو بالالتزام الآجل كلما احتد وكلما طال الآجل.

"والقول الثاني لأبي يوسف – وعليه الفتوى عند الحنفية – وهو أنه يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض" ويلاحظ أن هذا القول يراعي الاعتبارات الواقعية التي ذكرناها في التعقيب على القول الأول. وقد كان أبو يوسف يأخذ بالقول الأول ثم عدل عنه للقول الثاني، وهذا هو أصل مبدأ التعويض في الفقه الإسلامي.

" والقول الثالث وجه عند المالكية، وهو أن التغير في قيمة النقد إذا كان فاحشًا، فيجب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص، أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل"(1) .

(1) العبارات بين القوسين – من مقالة د. نزيه حماد، تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي، قدمت في مؤتمر الربط القياسي للحقوق والالتزامات Indexation مايو (1987م) ، جدة تحت رعاية البنك الإسلامي للتنمية.

ص: 1589

ولكن يلاحظ أن حالة التغير الفاحش يجب أن تستند إلى قاعدة موضوعية، وإلا أصبح الحكم مما يحتمل التأويل ممن يفقهون وممن لا يفقهون. وعلى أية حال فإن هذه الاجتهادات جميعًا تدل بوضوح على صلاحية الشريعة الإسلامية في مواجهة كافة التغيرات الطارئة في عالمنا هذا. وكما رأينا فيما سبق أن فقهاء المذهب الحنفي خاصة كانوا مبرزين في مجال بحث المسائل النقدية ابتداء من أبي يوسف إلى ابن عابدين. ولا يعني هذا إهمال المساهمات البارزة في المجال نفسه من بعض فقهاء المذهب الحنبلي.

ويجب التأكيد هنا أن مبدأ التعويض عند الفقهاء الذين أقروه لا يسري على النقود الذهبية والفضية، يقول ابن عابدين رضي الله عنه (1) :"كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا أو رخص، بأن باع ثوبًا بعشرين ريالًا مثلًا أو استقرض ذلك، يجب رده بعينه، غلا أو رخص " ويضيف قائلًا: " وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة – كالشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والريال (أسماء عملات معروفة حينذاك) فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع ".

والسبب الأساسي وراء هذا الرأي – فيما أظن – هو رغبة الفقيه في ضمان استمرار المعاملات بين الناس على أسس مستقرة ومتعارف عليها، فلو نقض المتعاملون أو أصحاب الديون معاملاتهم أو ديونهم بسبب غلاء أو رخص العاملة الجيدة، لأدى ذلك إلى نقض الحقوق واضطراب المعاملات، ومن ثم شيوع الفساد. ويؤكد هذا الشرح ابن عابدين أيضًا أنه حتى لو قامت السلطة المصدرة للعملة الجيدة الرائجة بتغيير سعرها بالزيادة أو النقص، فلا يلزم إلا دفع نوع العملة الذي وقع عليه الاتفاق، طالما أن نوع العملة كان معينًا عند التعاقد أو عند الدين. يقول الفقيه الحنفي:" ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق "(2) .

وهكذا كان الاهتمام الأساسي بقضية استقرار المعاملات والديون على أسس موحدة على مدى الزمن، حتى وإن كان النقص في قيمة وحدة النقود بسبب قرار السلطة المصدرة للنقود. واستقرار المعاملات والديون بين المتعاملين وبين الدائنين والمدينين على أسس معروفة لا شك له أهميتها الكبيرة.

(1) تنبيه الرقود على مسائل النقود لابن عابدين: 2 / 64، وابن عابدين يفتي على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، ويعتبر من أكثر الفقهاء فهمًا لموضوع النقود.

(2)

المصدر السابق نفسه.

ص: 1590

والواقع أن غلاء أو رخص العملة الذهبية أو الفضية - وهو تغير القيمة الحقيقية للعملة ارتفاعًا أو انخفاضًا - يرجع إلى انخفاض أو ارتفاع (على الترتيب) أسعار معظم السلع في الأسواق، وهذه ترجع إلى عوامل لا دخل للناس بها، طالما كانت الأسواق تنافسية. وحيث إن العملات المعدنية النفيسة ذات قيمة ذاتية، وحيث توافرت حرية السك أو حرية تحويل المعدن النفيس من العملة إلى السلعة وبالعكس؛ فإن غلاء أو رخص العملات لن يسبب إزعاجًا في غالب الأمر لعامة الناس. ففي حالة غلاء العملة بسبب انخفاض أسعار السلع في الأسواق، يمكن لمن يريد من الأفراد أن يذهب إلى دار السك بذهبه (أو فضته) ، وذلك لكي يحول إلى عملات، أما في حالة رخص العملة بسبب ارتفاع أسعار السلع في الأسواق، فيمكن للناس أن يحولوا ما في أيديهم من عملات عن طريق الصهر إلى معادن نفيسة يستفيدون من قيمتها السلعية في الأسواق.

لقد امتد عصر النقود المعدنية النفيسة وغيرها أمدًا طويلًا جدًا من الزمن، إلى أن ظهرت النقود الورقية (1) Paper Money في أواخر القرن الثامن عشر (ميلادي) في إنجلترا، ثم انتشرت تدريجيًا في بلدان العالم الغربي خلال القرن التاسع عشر، ثم في بقية بلدان العالم خلال القرن العشرين (الحالي) . ولم تعد هناك دولة في العالم الآن إلا ولها عملة نقدية ورقية.

ولقد مرت النقود الورقية بعدة مراحل منذ أن قامت الحكومات بإصدارها، فتميزت المرحلة الأولى بتغطية كمية النقود الورقية بمقدار من الذهب يتساوى معها تمامًا في القيمة، فتحتفظ السلطة النقدية التي قامت بإصدار النقود بالغطاء الذهبي لديها في خزانتها، وتطرح كمية النقود الورقية للتداول بين الأفراد. وتعتبر الأوراق النقدية في هذه الحالة (أوراق نائبة) أي تنوب عن الذهب. كما أن الأوراق النقدية كانت سندات لحاملها، فكان من حق كل فرد يحمل الورقة النقدية أن يتقدم إلى السلطة النقدية (البنك المركزي غالبًا) مطالبًا بقيمتها الذهبية، بموجب عبارة تعهد مدونة عليها. ونعرف هذه المرحلة باسم (الغطاء الذهبي الكامل) . أما المرحلة الثانية فقد تميزت بعدم تغطية كمية النقود الورقية المصدرة بغطاء هذبي كامل. فقد سمحت الدولة للبنك المركزي (أو لهيئة الإصدار) بأن يصدر كمية من النقود الورقية دون غطاء ذهبي. وكان هذا لأجل احتياجات النشاط الاقتصادي الذي كان يتسع حقبة بعد أخرى بمعدل يفوق الزيادة الممكنة في رصيد الذهب، الذي يستخدم كغطاء في عمليات الإصدار. وفي بداية هذه المرحلة حددت كمية النقود التي تصدر بلا غطاء تحديدًا مطلقًا، ولكن تدريجيًا أصبح غطاء الذهب يمثل نسبة معينة من الكمية الكلية للنقد الورقي المصدر. أما عن محددات نسبة الغطاء الذهبي، فمن أهمها تقديرات جهة الإصدار بالنسبة لمطالبات الأفراد بالقيمة الذهبية لنقودهم الورقية (2) . فقد لوحظ أنه كلما زادت الثقة في النقود الورقية المتداولة، كلما قلت مطالبات الأفراد بقيمتها الذهبية – خلال أي فترة من الزمن – وبالتالي كلما أمكن التوسع في إصدار كمية أكبر من هذه النقود الورقية بنفس المستوى من رصيد الذهب. بعبارة أخرى أنه كلما ازداد القبول العام للأوراق النقدية في حد ذاتها، دون اعتبار للذهب الذي تنوب عنه، كلما أمكن لجهة الإصدار خفض نسبة الغطاء الذهبي. ويلاحظ أن النقود الورقية لم تصبح في هذه المرحلة نائبة عن الذهب إلا جزئيًا. أما من الوجهة القانونية البحتة، فقد كانت التعهدات الرسمية المدونة عليها مازالت تتيح للأفراد تبديلها في أي وقت بقيمتها الذهبية من البنك المركزي للدولة، مما جعل عامة الناس يتصورون خطأ أنها ما زالت مغطاة تغطية كاملة بالمعدن النفيس. وفي المرحلة الثالثة من مراحل تطور النقود الورقية انفصمت العلاقة بينها وبين الذهب حقيقيًا ورسميًا. ذلك أنه تحت ضغط التوسع الكبير في النشاط الاقتصادي أصبحت الحاجة ماسة إلى إصدار مزيد من النقود الورقية. ولم يعد من الممكن لمعظم الدول المحافظةُ على العلاقة بين هذه النقود ورصيد الذهب أو الوفاءُ بتعهداتها بدفع القيمة الذهبية.

(1) نسبة إلى الوَرَقِ بفتح الواو والراء؛ لأن الوَرِقَ في اللغة العربية (بكسر الراء) هو معدن الفضة.

(2)

راجع أيضًا عبد الرحمن يسري أحمد، اقتصاديات النقود، الفصل الرابع،دار الجامعات المصرية، الإسكندرية (1979م) ، أو أي مرجع آخر في اقتصاديات النقود.

ص: 1591

ودون دخول في تفاصيل فإن بلدان العالم تخلصت من نظام الذهب نهائيًا في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، كما أن العديد من البلدان التي احتفظت باحتياطيات كبيرة من الذهب بدأت تتخلص منه بالبيع في السنتين الأخيرتين من هذا القرن.

هذه التطورات السابقة جميعًا التي انتهت بتأكيد حقيقة النقود الورقية كنقود اصطلاحية إلزامية مستقلة شكلًا وموضوعًا عن الذهب؛ لم تخص بلدًا أو مجموعة من البلدان، بل عمت العالم أجمع.

وبعد أن انتشر التعامل بالنقود الورقية في البلدان الإسلامية اختلفت نظرة الفقهاء المحدثين إلى هذه النقود وأحكامها، ومن ثم معالجتهم للتدهور في قيمتها الحقيقية. فهل تأخذ النقود الورقية أحكام نقود الذهب والفضة؟ أم هل يطبق عليها كنقود اصطلاحية ما كان يطبق على الفلوس من قبل الفقهاء السابقين؟

ولقد توصل نزيه حماد في دراسة عن تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي إلى أن النقود الورقية لا تقوم مقام النقدين الذهب والفضة في حالة تغير الأسعار، فهي نقود اصطلاحية، فتتعرض قيمتها بسبب قيمتها بسبب ذلك للتغير بالنقص أو بالزيادة. وهذا مما له أثره على جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض أو مهر أوبيع أو إجارة أوغيرها، فيؤدي إلى غبن إما للدائن (في حالة نقص قيمة النقد) أو للمدين (في حالة زيادة قيمة النقد، ويصبح هذا الغبن فاحشًا كلما تغيرت الأسعار تغيرًا كبيرًا وغير عادي (1) .

(1) نزيه حماد، المرجع السابق ذكره (في الملاحظة رقم 1)

ص: 1592

وتطرق محيي الدين قره داغي في دراسة عن تذبذب النقود الورقية وأثره على الالتزامات على ضوء قواعد الفقه الإسلامي؛ إلى صميم المشكلة، ورفض أن تأخذ النقود الورقية أحكام الدنانير والدراهم لأنها مختلفة عنها، وذكر عشرة أسباب (1) لذلك من أبرزها:" أن الذهب والفضة نقدان ذاتيان ضامنان للقيمة في حد ذاتهما، في حين أن العملة الورقية نقد حسب العرف والاصطلاح اكتسبت قوتها في بدايتها (بداية عصر النقود الورقية) من غطائها الذهبي أو الفضي، والآن تكسبها من قوة الدولة وضمانها لها "، وأن " النقود الذاتية: الذهب والفضة، لا ينسي من نقديتهما وزنهما، باعتبار أن زيادة الوزن تدل بلا شك على زيادة القيمة "، بينما أن " النقود الورقية لا يلاحظ فيها الوزن قاطبة حتى تكون مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ومن هنا قال الشافعي:" الذهب والفضة بائنان من كل شيء لا يقاس عليهما غيرهما "، وأن النقود الذاتية كالدراهم والدنانير حتى لو أغليت نقديتها بقيت مثليتها على عكس النقود الاصطلاحية "، وأن النقود الورقية كان لها (معيار) تتحدد به قيمتها حينما كانت مرتبطة بالذهب، أما بعد أن ألغى هذا الربط فبأي شيء ترتبط؟ ما هو المعيار الذي تتحدد به قيمة النقود الورقية؟ إذن فهي بحاجة إلى التقويم من خلال اعتبارات مختلفة. " أما النقود الذهبية والفضة، فلم يقل أحد أنها بحاجة إلى التقويم ". وإن مشكلة التضخم في حد ذاتها وليدة نظام النقود الورقية. حيث أسرفت الحكومات في إصدارها، ولم تكن تستطيع أن تفعل هذا لو كانت النقود ذهبية أو فضية. وأن ما قاله المقريزي في شأن الغلاء الذي حدث في بعض العصور الإسلامية بسبب الإسراف في سك الفلوس، والاعتماد عليها في كافة المعاملات بصفة أساسية بدلًا من الذهب والفضة، وما جره ذلك من محن وبلايا؛ قد تحقق أكثر منه في عالم النقود الورقية. " ولم يعد الإنسان يطمئن إلى هذه النقود ولم تصبح مخزنًا " للثروة، ولا قيما يقاس بها الأموال، بل أصبحت السلع هي المعيار لها "(2) .

(1) محيي الدين القره داغي، المسلم المعاصر، العددان (51، 52) ، ص 125 – 134، مارس (1988م) .

(2)

المصدر السابق، ص 133.

ص: 1593

ومن جهة أخرى، فإن على السالوس له رأي مخالف للسابقين، ففي دراسة عن أثر تغير يمة النقود في الحقوق والالتزامات يخلص إلى أن " النقود مرجعها إلى العادة والاصطلاح، ولهذا كانت النقود الورقية نقدًا قائمًا بذاته، له ما للذهب والفضة من الأحكام "(1) وهذه العبارة تجمع ما بين ما هو مقبول وما هو مرفوض، أما ما هو مقبول بالنسبة للاقتصاديين المعاصرين، فهو أن منشأ النقود الورقية العادة والاصطلاح، وأنها نقدًا قائمًا بذاته، أما ما هو غير مقبول فهو أن يعتبر ذلك أساسًا لتأخذ ما للذهب والفضة من أحكام، لقد كان النقد الذهبي أو الفضي نقدًا قائمًا بذاته، ولكن هل أخذ أحكامهما في الفقه الإسلامي من العادة والاصطلاح.

لقد أخذ الذهب والفضة أحكامها في الفقه الإسلامي؛ لأنهما أثمان بالخلقة، حيث لهما قيمة سلعية أو ذاتية الثمنية بالخلقة، أو لأنهما يوزنان (علة الوزن) ، ولم أقرأ لأحد أبدًا أنهما أخذا أحكمهما الفقهية من العادة والاصطلاح، وحينما كانا يؤخذان بالعدد فإنما لأن عملية السك ضبطت الوزن في قطع مميزة من النقد، فأصبح الناس يعدون النقود عدا اعتمادًا على أنها قد وزنت بدقة بضمان السلطة المصدرة لها، ولو فرضنا جدلًا أن السلطة سكت نقودًا غير محددة الوزن أو غير موزونة بدقة، لقام الناس بوزنها ولم يأخذه أحد بالعدد إلا ناقص عقل أو دين؛ لأن هذا لن يعني إلا سفه شديد أو ربا صريح.

(1) علي أحمد السالوس، أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزامات، ندوة ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار، البنك الإسلامي، جدة (1407 هـ / 1987م) ، وكذلك مؤلفه (النقود واستبدال العملات) .

ص: 1594

أما النقود الورقية فنشأت فعلًا، كما يقول السالوس من العادة والاصطلاح، وكانت مرتبطة بالذهب تمامًا خلال مرحلة الغطاء الذهبي الكامل، ثم مرحلة الغطاء الجزئي مع القابلية للتحويل إلى ذهب عند الطلب من الجهة المصدرة. ولكن كل هذا انتهى في غضون الأزمة العالمية (1929 – 1933 م) مع السقوط النهائي لنظام الذهب من معظم بلدان العالم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية آخر دولة تسقط رسميًا قابلية عملتها للتحويل إلى ذهب في (1963 م) . ولم يعد حافظا لقيمة أي عملة ورقية في العالم إلا الظروف المحددة لعرضها، وذلك تبعًا للسياسة الإصدار النقدي من جهة، والظروف المحددة لطلبها، وذلك تبعًا لاحتياجات المعاملات أو خزن الثروة من جهة أخرى (1) ، فلما أخفقت بلدان عديدة في اتباع سياسات إصدار نقدي حكيمة، بل وتورطت في عمليات إصدار لتمويل مشروعات ضعيفة الإنتاجية، أو لتمويل عجز الموازنة العامة؛ زاد عرض النقود زيادة تفوق الطلب عليها، خاصة في حالات معظم الدول النامية التي كان نشاطها الاقتصادي إما راكدًا أو ينمو بمعدلات ضعيفة، وهذا من أهم الأسباب المولدة للتضخم، وهنا فرق كبير بين النقد الورقي والنقد الذهبي أو الفضي، إذ لم يتسبب النقدين في ارتفاع مستمر في الأسعار خلال التاريخ البشري إلا استثناء (2) .

ثم إن هذا الارتفاع في الأسعار يؤدي إلى تدهور القيمة الحقيقية للنقد الورقي، ومع معرفة الناس أن هذا النقد ليس له (قيمة ذاتية) فإنهم يسعون إلى التخلص منه بسرعة بشراء أصل يمكن أن تحقق ارتفاعًا في قيمتها الحقيقية في ظل التضخم، أو على الأقل تحافظ على قيمتها الحقيقية، مثل المجوهرات والذهب والعقارات وأحيانًا أصولًا نقدية مثل العملات الأجنبية القوية. فأي شيء في هذا يشبه النقدين النفيسين؟ لقد كان ارتفاع الأسعار يؤدي أيضًا إلى انخفاضا القيمة الحقيقية لهما كنقد، ولكن مع وجود قيمة ذاتية أو سلعة لم يكن أحد يسعى للتخلص منهما، بل كان يحدث العكس، فقد اتجه الناس في فترات الارتفاع الشديد في الأسعار إلى خزن ما ليدهم من عملات ذهبية وفضية وتعاملوا بالفلوس (3) .

(1) يتكون الطلب على النقود من طلب على المعاملات Transactions والاحتياط precautionary (لهذه المعاملات) بالإضافة إلى الطلب على النقود كمخزن للثروة store of value، وهو نفسه الطلب لأغراض السيولة liquidity، أو للمضاربة specualtive، تبعًا لتحليل كينز j.keynes، ويلاحظ أن الطلب على المعاملات والاحتياط دالة للنشاط الإنتاجي. راجع أيضًا: عبد الرحمن يسري أحمد، اقتصاديات النقود، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية (1979 م) .

(2)

الاستثناء الوحيد الذي نعرفه في التاريخ هو ما حدث في القرن السادس عشر في دول أوروبا المركنتالية mercantillist، حيث تدفقت كميات هائلة من الذهب إليها إثر اكتشاف مناجم غنية بالذهب في القارة الأمريكية. وكانت السياسة المركنتالية تعمل على تكوين أكبر فائض من الذهب لديها عن طريق التجارة. ولذلك يعرف القرن السادس عشر بقرن ثورة الأسعار price revalution في التاريخ.

(3)

وهكذا بين عديد من علماء المسلمين في العصور الوسطى أن تداول النقد الرديء أدى إلى خروج النقد الجيد من التداول، وهي القاعدة المعروفة لطلاب الاقتصاد باسم: قانون جريشام Gresham’s law، (راجع أيضًا: عبد الرحمن يسري أحمد، تطور الفكر الاقتصادي، الطبعة الرابعة، الناشر: قسم الاقتصاد، كلية التجارة، جامعة الإسكندرية، 1996 م) .

ص: 1595

إن الخطأ الكبير في الواقع هو أننا اعتبرنا أن قيام النقد الورقي بوظيفتي الوساطة في المعاملات وقياس القيم الحاضرة مقام النقدين شرطًا كافيًا، يكفل له أن نعطيه جميع ما لهما من أحكام فقهية، ونقول: خطأ كبير؛ لأن قيام النقد الورقي بهاتين الوظيفتين يعد شرطًا ضروريًا لكي يكون نقدًا، أما الشرط الكافي لاعتبار النقد الورقي بديلا كاملا للنقدين النفيسين، فهو أن يقوم أيضًا بوظيفتي قياس القيم الآجلة ومستودع الثروة بنفس الكفاءة التي كانت لهذين النقدين في الماضي.

هذا الشرط الكافي لا يتحقق إلا في حالة استقرار الأسعار (ولا نقول ثباتها بالضرورة) ، ولكنه بعيد عن التحقيق في ظروف التضخم، وخاصة كلما اشتدت حدته، لهذا صار غالبية الناس لا يدخرون ثرواتهم في العملات الورقية المتدهورة القيمة، بل في أشكال أصول أخرى مضمونة القيمة الحقيقية بطبيعتها، ولا يعتمدون عليها كمقياس للقيم الآجلة، بل يعملون على قياس هذه القيم بطرق مختلفة.

ص: 1596

المشكلة الحقيقية أن حرص علمائنا الشديد على إلحاق النقود الورقية بأحكام النقدين كان منبعثًا من خوفهم الشديد أن يجري فيها الربا، ولا تدفع فيها زكاة إن لم يفعلوا هذه، ولم يكن هذا الخوف إلا بسبب أن البعض من الفقهاء المعاصرين أراد إلحاق النقود الورقية بالفلوس، والتي لم تعتبر نقدًا لدى الشافعية في أي زمن من الأزمان، فأبيح فيها الفلس بالفلسين (1) ، ولقد رأينا أن من الفقهاء المعاصرين من أراد اعتبار النقود الورقية عروض تجارة، فيصبح بيعها وشراؤها جائزًا وفقًا للتقدير، وتسقط عنها الاعتبارات الشرعية الخاصة بزكاة النقدين

إلخ، ولكن الخوف من الوقع في هذه المصائب جعلنا نقع في مصيبة أخرى، حينما أصبح التضخم بلاء مستمرًا في حياتنا، بينما اعتبرنا النقد الورقي بديلًا كاملًا للذهب والفضة وأعطيناه أحكامهما في الفقه الإسلامي، هذا خطأ ينبغي التراجع عنه، ليس دفاعًا عن أي رأي فقهي ولا عن أبي سياسة، بل لكي نضع أيدينا أولًا على الحقيقية ونؤسس أحكامًا صحيحة عليها.

(1) انظر: عبد الله بن سليمان بن منيع، الورق النقدي، حقيقته، تاريخه، قيمته وحكمه، الطبعة الثانية، المملكة العربية السعودية، (1404 هـ ـ / 1984 م) ، ص 59. ولا تعتبر الفلوس من الأموال الربوية عند المالكية على المشهور وكذلك الشافعية والحنابلة على الصحيح. انظر موسى آدم، رسالة ماجستير بعنوان (آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي) ، جامعة أم القرى – مكة المكرمة (1405 هـ ـ / 1985 م) ، وقد تم نشرها ضمن سلسلة صالح كامل للرسائل الجامعية في الاقتصاد الإسلامي (1414 هـ / 1993 م)، وكنت مشرفًا على النواحي الاقتصادي في هذه الرسالة. وانظر: البهوتي كشاف القناع، مكتبة النصر الحديثة، الرياض: 3 / 251.قال: ولا يجري الربا أيضًا فيما لا يوزن عرفًا لصناعته، ولو كان أصله الوزن غير المعمول من النقدين. قال: فيجوز بيع سكين بسكينتين، وبيع إبرة بإبرتين ونحوه، وكذا يجوز بيع فلس بفلسين عددًا ولو نافقة؛ لأنها ليست بمكيل ولا موزون. أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد لا بأس الفلس بالفلسين يدًا بيد. وأخرج حماد مثله، ونص أحمد: لا يباع فلس بفلسين ولا سكين بسكينتين.

ص: 1597

وسأقتطف بضعة فقرات من أقوال علمائنا قديمًا، لكي أبين كيف كانوا على دراية بما ينبغي أن يكون عليه النقد حتى يقوم بوظائفه، إنهم يعنون فعلًا ما نريده نحن الآن من النقد، ولكن لا نجده كاملًا في النقد الورقي، قال ابن القيم: " فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذا لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض. فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح. فعم الضرر وحصل الظلم، أقول: وما أشبه هذا بل أكثر منه بما حدث ويحدث في إصدار النقود الورقية، بما لا يتفق مع المصلحة العامة ويؤدي إلى التهاب الأسعار، ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص ولا تقوم هي بغيرها؛ لصلح أمر الناس. ولا تحتاج هذه الفقرة إلى أي تعقيب، فهي شاهد إثبات على ما للدنانير والدراهم من صفات تمكنها من القيام بوظيفة الثمنية حاضرًا أو آجلًا، على أتم ما يرام غير متحقق في النقد الورقي (1) . وكذلك أيضًا العبارة التالية من مقدمة ابن خلدون تثبت نفس المعنى.

(1) ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين: 2 / 132. وقد تنبهت إلى هذه العبارة بعد أن رأيتها في مقالة علي السالوس، سبق ذكر المرجع، ص 1725 – 1726.

ص: 1598

يقول ابن خلدون: " إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول (قيمة ومقياسًا للأموال الأخرى كلها) ، وهمًا الذخيرة والقنية (الثروة الحقة التي تقتني لحين الحاجة إليها) لأهل العالم في الغالب، وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلهما لما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق (تغير أحوال الأسواق بسبب غلاء أو رخص الأموال الأخرى، أو الأنواع الأخرى من النقود الاصطلاحية) التي هما عنها (بمعزل) . وأضاف ابن خلدون إلى ذلك أن وظيفة سك النقود إنما هي تمييز للنقود وحفظ لقيمتها من الغش، فإذا تمّ فإن النقود التي تسكها الدول تصبح محل ثقة الناس، فيتخذونها – كما يقول – إمامًا وعيارًا، يقدرون به ما معهم من نقود، وكان يقصد بالنقود الأخيرة غير الذهبية والفضية، أو التي غلب عليها الغش وما زالت في أيدي الناس (1) .

علينا إذن أن نحسم الأمور، ما هي حقيقة النقد الورقي حتى يكون خاضعًا أو غير خاضع لمبدأ التعويض حينما تتعرض قيمته الحقيقية للتدهور؟

الواقع أن النقد الورقي مثل الفلوس اكتسب خاصية الثمنية بالعرف والاصطلاح، والذي نشأ أصلًا مع قرار الإصدار من قبل السلطان، أو الحكومة، ولم يكن أبدًا معتمدًا على قيمته السلعية والقبول العام للناس له في معاملاتهم، كما كان الوضع بالنسبة للذهب والفضة، حتى قبل سكهما نقدًا (2) . لقد كانت القيمة الذاتية للفلس الواحد لا تتجاوز قيمة القطعة المعدنية الزهيدة المصنوع فيها، مما يقل كثيرًا عن قيمة النقدية الاسمية. ومع أن العملات الورقية في بدايتها كانت مغطاة بالذهب، إلا أنها انفصلت عنه تدريجيًا، وأصبحت قيمتها لا تقوم إلا على أساس الإلزام القانوني، حيث قيمتها الذاتية لا تتعدى قيمة قصاصات ورقية ملونة.

(1) انظر ابن خلدن، المقدمة، طبعة الشعب، القاهرة، ص 201، 202، 292. ويمكن أيضًا في بحث، عبد الرحمن يسري أحمد، تطور الفكر الاقتصادي، سبق ذكره، ص 123.

(2)

وكان العرب في مكة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاملون بالنقدين من غير سكه. انظر البلاذري، كتاب النقود، وهو منشور ضمن كتاب انستاس الكرملي، النقود العربية وعلم النميات،ص 10، طبعة حديثة، بيروت، لبنان.

ص: 1599

وقد يقال: إن الفلوس لم تكن تستعمل إلا في إتمام المعاملات زهيدة القيمة فقط، وهذا كان صحيحًا في بداية عهدها. ولكن تغيرت الأمور بعد ذلك، حيث أسرف الحكام في إصدراها وأصبحت نقدًا رائجًا بعد ذلك في الأسواق واستخدمت في المعاملات صغيرها وكبيرها، وأقرضت وقبلت مالًا للمضاربة. هذا بينما اختفت الدنانير والدراهم التي أدخرها الناس ثروة لهم أو قاموا بصهرها حتى ينتفعوا من قيمتها السلعية. ولقد أثبت المقريزي هذا التطور بالرغم من أنه كان كارهًا للفلوس معتبرًا أنها لا تستحق أبدًا أن تكون أو تسمى نقدًا؛ لأن هذا لا يكون عنده إلا للذهب أو الفضة (1) .

بالإضافة إلى ذلك لم يعرف غلاء (تضخم) مستمر إلا في عصر الفلوس، وكان هذا بسب الإسراف في إصدارها (انظر المقريزي) فتعرضت (للرخص) الشديد في بعض الفترات. ما يحدث الآن من تضخم بسبب الإسراف في إصدار النقد الورقي لا يختلف في جوهره كثيرًا عما كان يحدث للفلوس.

ولكن هل هذا الشبه يبيح لنا أن نقول إذن أن نأخذ أحكام الفلوس في الفقه حتى نطبقها على النقد الورقي؟ لو فعلنا هذا لارتكبنا خطأ لا يقل عن خطأ أخذ أحكام الذهب والفضة للنقد الورقي. فالفلوس عند بعض المذاهب اعتبرت نقدًا اصطلاحيًا، وعند البعض الآخر لم تعتبر نقدًا بل سلعة، وعند آخرين نقدًا عند رواجها، أما في غير ذلك فهي سلعة تباع وتشتري.

(1) انظر المقريزي، إغاثة الأمة يكشف الغمة، يمكن الاطلاع على أهم ما جاء فيه بشأن موضوعنا هذا في بحث: رفيق المصري، الإسلام والنقود، ص 85 – 86، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز جدة، الطبعة الثانية (1410 هـ / 1990 م) . وكذلك في بحث: عبد الرحمن يسري أحمد، تطور الفكر الاقتصادي، سبق ذكره، ص 129 – 139، ولكن بصفة خاصة (135 – 137) .

ص: 1600

وخلاصة ما سبق: أن النقود الورقية تقوم الآن مقام النقدين تمامًا في قياس القيم الحاضرة والوساطة في المعاملات (خاصية الثمنية) ، ولكنها لا تستطيع القيام أبدًا مقامها في قياس القيم الآجلة أو الوفاء بالديون والالتزامات الآجلة طالما اتجه المستوى العام للأسعار إلى الارتفاع (أو الانخفاض) بصفة مستمرة. ومن جهة أخرى فإن النقود الورقية لم تكتسب خاصية الثمنية اعتمادًا على قيمة ذاتية (سلعية) مثلما كان الوضع بالنسبة للنقدين، بل بناء على الإلزام من قبل الجهات الرسمية المصدرة، فأصبحت بذلك نقودًا اصطلاحية، كما كان الأمر تمامًا بالنسبة للفلوس في عصور رواجها. بالإضافة إلى ذلك فإن القيمة الحقيقية (القوة الشرائية) للفلوس تعرضت دائمًا للتدهور مع الارتفاع العام والمستمر في الأسعار، مما كان يؤدي إلى مشكلات حادة في قياس قيم المعاملات الآجلة وفي الوفاء بالحقوق والالتزامات الآجلة. ونفس الأمر قائم الآن بالنسبة للنقد الورقي. والأمر الخطير الذي يستدعي الانتباه هنا أحد الأسباب الرئيسة، وربما السبب الحقيقي وراء الارتفاع العام والمستمر في الأسعار في عصر الفلوس الرائجة قديمًا، وكذلك في عصر النقود الورقية في عصرنا هو الزيادة في عرضها نتيجة تزاوج عنصر (الإلزام) مع قلة الخبرة والدراية، أو (الإساءة) في عملية الإصدار من قبل السلطات، ومن هنا كانت مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود الورقية أو الفلوس مشكلة ذاتية التوليد، وهذا بخلاف نظام النقدين حيث كان عرضهما محكومًا بعوامل أخرى خارجة غالبًا عن نطاق تحكم السلطات التي تسك النقود. لذلك كان الارتفاع العام في الأسعار يحدث لأسباب أخرى متعلقة بعوامل الطلب والعرض، وهذه الأمور تجعلنا نؤكد أن النقود الورقية في حاجة إلى أحكام شرعية خاصة بها في قياس القيم الآجلة، وفي الوفاء بالحقوق والالتزامات الآجلة، وليس من المنطقي أو المعقول أن تؤجل هذه المسألة لحين بناء اقتصاد إسلامي جديد؛ لأن التشريع الإسلامي كان موجودًا حينما كان المجتمع الإسلامي في بدايته أو في مرحلة التكوين، ولم يكن أبدًا قاصرًا على المجتمع المثالي الذي أصبحت فيه الدولة الإسلامية قائمة بذاتها، مطبقة الشريعة في كافة أركانها.

ص: 1601

وأعتقد أننا بحاجة ماسة في هذا المنعطف إلى مناقشة مسألة (المثلية) أو (القيمية) بالنسبة للنقود الورقية حتى تنتهي برأي فاصل في قضية التعويض؛ ذلك لأننا إذا كنا سوف نحكم على المثلية تبعًا (للجوهر) أو لتساوي وحدات النقد الورقي من الفئة الواحدة في القيمة أو المنفعة، أي من حيث القوة الشرائية للسلع الأخرى، فسوف نقول وعلى الفور: إن هذا النقد يعد مثليًّا فقط في المعاملات الحاضرة أو خلال الفترة الزمنية القصيرة التي لا تتعيب في هذه المثلية عادة بسبب التغيرات الطفيفة أو المحدودة في الأسعار. أما في الفترة الطويلة فالأمر يختلف، فإذا كان ثمة استقرار في الأسعار – أو حتى شبه استقرار – فإن النقد الورقي سيظل محتفظًا بخاصية المثلية، أما إذا كان ثمة ارتفاع متواصل في الأسعار، فإن المثلية بالمعيار الذي تقدم تتعيب على سبيل التأكيد، بل وقد تُفقد تمامًا على مدى السنوات. وكلما كان الارتفاع في المستوى العام للأسعار أشد حدة، كلما كان فقدان خاصية المثلية بالنسبة للنقد الورقي أسرع، وهنا يصبح طول الفترة التي نتكلم عنها وتتعيب فيها المثلية متوقف على معدل التضخم، ونفس هذه المناقشة تنطبق منطقيًا على حالة انخفاض الأسعار، فإن المثلية تختلف ولكن على وجه عكسي، فتصبح العملة الورقية من فئة معينة بعد عام أو عامين من الانخفاض المتواصل في الأسعار أفضل نسبيًا بشكل واضح من حيث القيمة والمنفعة.

ص: 1602

هذه المناقشة التي يمكن تقديمها والدفاع عنه من وجهة النظر الاقتصادية الموضوعية لن تتعارض، بل هي قريبة جدًا من جوهر ما قدمه بعض فقهاء المسلمين قديمًا، فعند إمام الحرمين شرط المثلي تساوي الأجزاء في القيمة والمنفعة، وعند الإمام الغزالي تماثل الأجزاء في القيمة والمنفعة من حيث الذات لا من حيث الصنعة (1) . ونجد أن جوهر التعريفيين واحد، ويتعلق بالمعنى أو المضمون وليس بالشكل أو الصورة. وقول الإمام الغزالي: من حيث الذات لا من حيث الصنعة، يؤكد تعلق المفهوم بالمعنى وليس بالشكل (2) . فإذا تم قياس القيمة أو المنفعة تبعًا لقدرة النقد على شراء أو حيازة السلع أو الأصول الأخرى، فإن المثلية تتعيب قطعًا، وربما فُقدت مع استمرار الأسعار في الارتفاع بمعدل ملحوظ على مدى الزمن.

وعند الكاساني (المثل المطلق) هو المثل صورة ومعنى، فأما القيمة فمثل من حيث المعنى، دون الصورة (3) ، والقصد من هذا أن مفهوم المثلية يكتمل بتماثل المعنى وهو الجوهر أو المضمون، والذي يقاس بقيمة الشيء مع الصورة أو الشكل. ويفهم من هذا أن الصورة وحدها لا تفي بالمثلية، وكذلك القيمة وحدها، وفي إحدى عباراته يؤكد أن " الجبر بالمثل أكمل منه من القيمة، فلا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند التعذر ". ولو طبقنا هذا على النقود الورقية لقلنا: إن اكتمال المماثلة يتحقق أولًا بالصفات الشكلية الدقيقة للورقة النقدية من حيث نوعية الورق المستخدم في صناعتها وألوانها، وغير ذلك من علامات مميزة تجعل تزويرها صعبًا، بالإضافة إلى الأرقام التي تُثبت رسميًا محل وزمان إصدارها وقيمتها الاسمية وتوقيع محافظ البنك المركزي نائب عن الدولة في سلطة الإصدار، ويتحقق ثانيًا باستقرار القيمة، والتي تتعين باتفاق الاقتصاديين جميعًا بالقوة الشرائية، أي القدرة على حيازة الأشياء الأخرى، فإذا تغيبت الصفات الشكلية ستتعرض الورقة النقدية للرفض من قِبل المتعاملين، وكذلك نفس الشيء بالنسبة للقيمة. وفي مجتمعاتنا المعاصرة يفطن معظم الناس إلى تعيب الشكل بالنسبة للنقد الورقي (خاصة الوطني) ، ولكن قد لا يفطنون إلى تعيب القيمة، حيث يحدث على التدريج غالبًا إلا في حالات التضخم الجامح

فالواجب الشرعي إذا كان الأمر كذلك تنبيه الناس إلى تعيب القيمة في النقد وإرشادهم إلى كيف يتصرفون بإزائه، وهذه مسئولية الحكومة (4) .

(1) انظر محيي الدين القره داغي، سبق ذكره، ص 118، وذلك عن فتح العزيز: 11 / 266 – 269؛ والوسيط: 2 / 124.

(2)

وقصد الغزالي بهذه الزيادة الاحتراز من الملاعق والمغارف وصنجات الميزان المتساوية، فإن تساويهما جاء في حفظ التشابه في الصنعة، وإلا فالمصنوعات مختلفة في الغالب – المرجع السابق، ص 88.

(3)

الكاساني، بدائع الصنائع: 9 / 421.

(4)

نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدم بيان عيب المبيع: ((لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا بيّن ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بيّنه)) (الحاكم والبيهقي وقال الحاكم: صحيح الإسناد – الترغيب والترهيب: 4 / 2585 في باب الترهيب من الغش) وقد روى أحمد والطبراني الحديث بلفظ ((المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعًا ألا يبينه)) (الترغيب والترهيب: 4 /2586) فكيف بالنقد إذا أصبح معيبًا وهو الذي يشترى به جميع السلع.

ص: 1603

ويقول السرخسي: إن المراد بالمماثلة في النقدية المماثلة في الوزن (1) . وهذه حقيقة تستند إلى نص شرعي ثابت. فالذهب والفضة من الأصناف الربوية الستة التي ذكرت في حديث الربا. فالحقيقة التي لا تقبل الجدل أن المثلية في الذهب والفضة، سلعتين كانتا أو نقدين إنما تتحدد بالوزن، وأن عدم الالتزام بهذا المفهوم يعني الوقوع في الربا، وإذن فليس الشكل أو الصورة أو القيمة الاسمية المكتوبة على قطعة النقد الذهبية أو الفضية هي التي تحد مثيلتها.

والقول بأن المثلية في النقدين اعتمدت على العدد فقط يجانب الصواب، فالمعدود لا يعد مثليًا عند فقهاء المسلمين إلا إذا تساوى آحاده. فإذا قلنا: إن التساوي يكون بالشكل أو بالقيمة الاسمية للعملة الذهبية أو الفضية فقط، وقعنا في الغلط، حيث إذا لم يكن الوزن متساويًا تمامًا في الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة وقع الربا.

والآن فإن القول بأن النقود الورقية مثلية كما كان الأمر بالنسبة للنقدين يجانب الصواب كثيرًا؛ ذلك لأن قياس النقود الورقية على النقدين في هذا الصدد أصلًا، أو من هذه الزاوية لايصح، فالنقد الورقي ليس له وزن، وليس له عيار يعرف به إلا عن طريق قياس قيمته الحقيقية، والتي تتمثل في قدرته الشرائية، وهذه لا تتحدد إلا بمعرفة أسعار الأشياء الأخرى. أما العدد في النقد فلم يكن أبدا أساسًا لمثلية الدنانير أو الدراهم، وإنما كان دليلًا صادقًا لهذه المثلية طالما حددت الأوزان بدقة وأمانة واستقرت على حال واحد. وكذلك فإن العدّ للنقد الورقي، والذي هو مرتبط فقط بمواصفاته الشكلية لا يمكن أن يكون أبدًا أساسًا لمثلية النقد الورقي.

فهل يعني ما سبق أن النقود الورقية قيمية وليست مثلية؟ الواقع أننا إذا قلنا: إنها قيمية على الإطلاق فقد جانبنا الصواب، وكذلك إذا قلنا: إنها مثلية على الإطلاق فقد جانبنا الصواب أيضًا، إن النقود الورقية مثلية بشروط وبغيرها تصبح قيمية، إنها مثلية طالما كنت الأسعار مستقرة أو شبه مستقرة، وذلك بالرغم من أنها – أي النقود الورقية - ليس لها قيمة ذاتية مثل النقدين.

(1) السرخسي، المبسوط: 14 / 12؛ والبحر الزخار: 4 / 385.

ص: 1604

وتزداد أهمية المناقشة السابقة كلها حينما نتطرق إلى نوع آخر من النقود المعاصرة أصبح أكثر أهمية من النقد الورقي، ألا وهو النقد المصرفي، والذي يطلق عليه نقود الودائع أو النقود الائتمانية والتي ظهرت وتطورات تطورًا هائلًا في عصر النقود الورقية، وأصبح لها أهمية كبرى في كافة المجتمعات الحديثة. ففي وقتنا الحاضر ينقسم عرض النقود في معظم بلدان العالم إلى قسمين: الأول يتكون من العملات الورقية والعملات المعدنية الصغيرة المساعدة لها، وهي جميعًا نقود اصطلاحية إلزامية (Legal tender) تصدر عن الخزانة أو البنك المركزي، والقسم الثاني يتكون من نقود الودائع أو النقود الائتمانية أو المصرفية والتي لها خصائص تميزها عن غيرها، ويتم توليدها عن طريق المصارف التجارية، والملاحظ أن القسم الأكبر من النقود في بلدان العالم – خاصة البلدان المتقدمة اقتصاديًا – عبارة عن نقود مصرفية. هذه النقود المصرفية أو الائتمانية تتمثل في الودائع التي تحتفظ بها البنوك في حساباتها ن ويمكن التصرف في مبالغها عن طريق استخدام الشيكات cheques أو بطاقات الائتمان. ولو أن الودائع التي تحتفظ بها المصارف في حساباتها تساوي ما يحتفظ به الأفراد من نقود لديها، لما كان في الأمر شيء جديد يستحق الاهتمام. فالأفراد – في هذه الحالة - يودعون مبالغ نقدية لدى المصارف، ثم يقومون بسحبها لأمرهم أو يأمرون بدفعها لآخرين، ولكن الواقع أن الودائع المصرفية تفوق مجموع ما يحتفظ به الأفراد من نقود لدى المصارف، فالواقع أن المصارف التجارية بما ليدها من أصول مختلفة من جهة، ولما تحوزه من ثقة من جانب الأفراد الذي يتعاملون معها من جهة أخرى، تستطيع أن (توليد)(1) ودائع مصرفية، وينبغي أن يكون واضحًا منذ البداية أن هذه المقدرة على توليد نقود الودائع لا تتأتى لمصرف واحد، وإنما تتأتى للمصارف مجتمعة معًا.

(1) الكلمة الشائعة لدى رجال الاقتصاد المعاصرين هي خلق ودائع مصرفية أو نقود ائتمانية، ولكن حيث يعترض البعض على حق استخدام هذه الكلمة بالنسبة للمخلوقين، فإن كلمة توليد تحل محلها وتكفي، وقد استخدمها بعض الكتاب الإسلاميين في هذا الموضوع.

ص: 1605

ويلاحظ أن النقد المصرفي له ثمنية اصطلاحية تمامًا مثل النقد الورقي، ولكنها أساسًا ثمنية اصطلاحية عرفية - أي عرفًا بين الناس - وليست إلزامية أصلًا بأمر القانون كما هو الحال في النقد الورقي. ولقد اعتقد البعض من رجال الاقتصاد الإسلامي أن النقد المصرفي لا يتم توليده إلا في إطار نظام الفائدة، والذي هو مرفوض إسلاميًا، ولكن الحقيقة أنه غير مرتبط بهذا النظم ضرورة. فعملية توليد النقد المصرفي تعتمد أساسًا على استعداد الناس للتعامل بهذا النقد بدلًا من النقد الورقي. وهذا الاستعداد يعتمد على الثقة في البنوك أيا كانت هويتها أو نظامها، إسلامية أو غير إسلامية، ومقدرتها الوفائية، أي مقدرتها على دفع أي مبالغ تطلب منها بنقد ورقي جاهز في أي لحظة من اللحظات. وكلما ازداد استعداد الناس لقبول الدفع وتسوية الديون بالشيكات المصرفية أو ببطاقات الائتمان، وكلما ازدادت الثقة في المقدرة الوفائية للبنوك، كلما ازدادت أهمية النقد المصرفي، وحل محل النقد بالورقي في المعاملات العاجلة والآجلة.

ص: 1606

والآن نحن في مجال النقد المصرفي لا نستطيع إطلاقًا أن نؤيد أو نوافق على الآراء الفقهية التي تحاول قياس كل ما يستجد من إشكال النقود على الذهب والفضة أو الفلوس، فالنقد المصرفي له خواص مستقلة تمامًا ونظام مختلف تمامًا عن نظام المعدنين، ويجب أن نجابه الأمور مجابهة موضوعية على أسس علمية رصينة، فهل النقد المصرفي يؤدي وظائف النقد وهي الوساطة في المبادلات وقياس القيم وخزن الثروة أو القيمة بكفاءة؟ وهل وحدات النقد المصرفي مثلية أم قيمية؟ وسوف نجد الإجابات واضحة إذا لم نحول في كل مرة تعقيد الأمور والرجوع إلى آراء فقهية قديمة وغير مناسبة إطلاقًا للمشكلة المطروحة للقياس عليها. فالنقد المصرفي نائب عن النقد الورقي، ويؤدي بكفاءة أكبر منه وظائف الوساطة في المعاملات الضخمة. أما بالنسبة لقياس القيم وخزن الثروة فلا يختلف النقد المصرفي عن النقد الورقي في قياس القيم العاجلة أو الآجلة وحفظ الثروة بكفاءة تامة، طالما كانت الأسعار مستقرة.

أما إذا كانت الأسعار تتغير في الأجل الطويل بشكل ملحوظ، فإن النقد المصرفي يتعرض لنفس ما يتعرض له النقد الورقي. ولا يستطيع أحد أن يقول: إن النقد المصرفي مثلي بسبب الشكل أو الوزن، فهذه كلها أمور مستعبدة، حيث لا شكل له ولا وزن، وإنما هو أرقام تسجلها الدفاتر أو تكتب على الأوراق. وإنما هو مثلي تبعًا للمنفعة المحققة من وراءه، ومثليته هذه يفترض ثباتها طالمًا استقرت الأسعار، ولكنها تتعيب تماما كما هو الحال في النقد الورقي إذا ارتفعت الأسعار وظهر التضخم واستمر على مدى الأجل الطويل، ومن ثم تصبح قضية التعويض ضرورية لأجل العدالة.

فالنقود الورقية في حالة استقرار الأسعار لها منفعة وقيمة حقيقية لا تختلف عن الدنانير الذهبية أو الدراهم الفضية، ويمكن التعامل بها غدًا بثقة تامة. أما في حالة ارتفاع الأسعار (أو انخفاضها) فالأمر يختلف، إذا كان الارتفاع في الأسعار يسيرًا ولفترة قصيرة عدة شهور مثلًا، ثم انتهى، فلا بأس من القول بمثلية النقد الورقي، وذلك حرصًا على استقرار المعاملات في الأسواق، وحرصًا على الحقوق والالتزامات بين الأفراد. وفي حالة ما إ ذا كان الارتفاع في الأسعار مستمرًا على مدى عام وأكثر، فإنه سوف يؤثر في تماثل وحدات العملة الورقية، حتى وإن كان يجري بمعدلات منخفضة؛ وذلك لأن الأثر التراكمي له سوف يكون كبيرًا على مدى الفترة الزمنية الطويلة. وفي هذه الحالة تتعيب المثلية، وكلما كان الارتفاع في الأسعار كبيرًا، كلما تأكدت هذه النتيجة، وحينئذ لا يمكن القول بمثلية النقد الورقي، ولابد من اعتباره قيميًا، أو رفض التعامل به إذا وجد بديل أفضل منه (1) .

(1) قياسًا على ما قاله الفقهاء قديمًا في الدراهم والدنانير المغشوشة، فإنني أرى أن إقراض النقود الورقية في ظروف التضخم الجامح لا يصح؛ لأنه في حالة رد القرض بمثله عددًا سيحصل المدين على ربا حقيقي، نتيجة أن يرد نقودًا قوتها الشرائية أو قيمتها الحقيقية منخفضة عن هذه التي اقترضها. وسوف يكون هذا الربا فاحشًا إذا كان التضخم جامحًا.

ص: 1607

وفي نهاية هذه المناقشة لمفهوم المثلية بالنسبة للنقود الورقية والائتمانية المعاصرة، أعتقد أن البعض لن يستريح من القول بأن هذه النقود يمكن أن تكون مثلية أو تكون قيمية. وما ذلك إلا لأننا قد درجنا على تصنيف الأشياء على أنها إما مثلية أو قيمية، ولم يتطرق إلى أذهان أهل الفقه والعلم قديمًا أنه سيكون هناك نقد اصطلاحي بحت بالإلزام القانوني أو بالعرف التجاري يصل في قوته الشرائية إلى ما وصل إليه الذهب قديمًا، ولكنه يمكن أن يهبط في قوته الشرائية إلى ما هبطت إليه الفلوس أو أقل، إذا أسيئت إدارة كميته، وأن هذا الأمر لا يحدث أبدًا فجأة، وإنما على مدى الأجل الطويل. ومن ثم فإن اعتبار الزمن والتغيرات النسبية المتعلقة بالزمن لابد من أخذهما في الحكم على هوية النقود المعاصرة في أنها مثلية، وقد تبقى كذلك أو تتغير إلى قيمية، إنه شيء جديد لم يعرف السابقون شبيهًا له إلا جزئيًا في حالة الفلوس، ولكنهم لم يعرفوه كما نعرفه نحن الآن على سبيل التأكيد (1) .

(1) أعجبتني كلمات الإمام الشوكاني، قال:" إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلى، وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم "، السيل الجرار، تحقيق إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية، بيروت: 3 /360.

ص: 1608

مسئولية الحكومة في التعويض:

لقد أصبح من المتعارف عليه في كل أنحاء العالم أن تقوم الحكومة بالحفاظ على مصالح الناس وتعينهم على تحقيقها، مع اختلاف المفاهيم بالنسبة للمصالح واختلاف السياسات والسبل التي تتبع للمحافظة عليها أو لتحقيقها. والحكومة في النظام الإسلامي تقوم بوظيفتي الحراسة والرعاية للمحكومين ولمصالحهم، قال عليه الصلاة والسلام:((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) ، ولكنها تقوم بذلك ليس بناء على عرف موروث أو عقود اجتماعية أو مواثيق سياسية ثابتة أو متجددة، وإنما امتثالًا لشريعة الله عز وجل في المقام الأول، وأخذًا في الاعتبار مقاصد هذه الشريعة، ثم بعد ذلك أخذًا في الحسبان المصالح المرسلة على أساس الاجتهاد من العلماء والشورى مع أهل الخبرة، قال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] .

إن مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود من المشكلات المعاصرة التي تحتاج إلى مواجهة معالجة خاصة حينما تكون مزمنة حادة. وليس هناك من حكومة في العالم إلا ولها مواجهات مع هذه المشكلة ومحاولات لعلاجها، ولا تستثنى الحكومات في البلدان الإسلامية من هذا الاتجاه، ولكن المشكلة في البلدان الإسلامية أنها لم تعد تحكم بالشريعة الإسلامية إلا استثناء أو استرشادا ً، ولكن ليس التزامًا وإلزامًا. وهنا في اعتقادي يأتي دور علماء المسلمين وواجبهم عند مواجهة المجتمع لأي مشكلة حادة، أن يبينوا الحل الإسلامي، وأن يوضحوا للحكومة القائمة كيفية القيام به ويحثونها على ذلك قدر ما يستطيعون.

ص: 1609

وانطلاقًا من المناقشات والآراء التي تم عرضها فيما سبق من صفحات وما يستخلص منها، أعتقد أن مسئولية الحكومة في قضية التعويض تتحدد من خلال الأطر الشرعية والاقتصادية التي تعمل على تحقيق العدل بين الناس في معاملاتهم وفي تحصيلهم لحقوقهم، أو أداء ما عليهم من التزامات تجاه البعض، مع الحفاظ على توازن دقيق بين معالجة أسباب المشكلة وآثارها. وهذا ما نعمل على توضيحه فيما بعد:

أولًا – يرى البعض أن مسئولية الحكومة في مواجهة مشكلة تدهور القيمة الحقيقية للنقود يجب أن تنحصر في أمر واحد، ألا وهو معالجة سببها وهو التضخم، فتدهور القيمة الحقيقية للنقود ما هو إلا إنعكاس لارتفاع الأسعار أو هو الأثر الناجم عن ارتفاع الأسعار، ومن ثم فإن الاهتمام بعلاجه بالتعويض أو بغير ذلك يمكن أن يؤدي إلى إهمال السبب الأساسي، فتزداد المشكلة تفاقمًا.

ونرى أن معالجة السبب يجب أن تسير جبنًا إلى جنب مع معالجة الآثار التي تعبث بالعدالة في أداء الحقوق والالتزامات الآجلة، وللتأكيد فإن إهمال معالجة السبب لايعني سوى استمرار الداء وما يترتب عليه، ولكن إهمال معالجة ما يترتب على الداء لايعني سوى المعاناة مع احتمال استفحاله.

وتنبع مسئولية الحكومة في معالجة التضخم من أنها تتحمل بصفة أساسية مسئولية إدارة عرض النقود داخل الاقتصاد، سواء عن طريق الإصدارات النقدية أو عن طريق تفويض البنك المركزي في إدارة النقد المصرفي. ولقد أظهرت الأبحاث والدراسات أن الارتفاع المستمر في الأسعار لا يمكن أن يكون ناشئًا فقط عن صدمات طلب أو صدمات عرض مجردة عن زيادات نقدية، فالواقع أن آليات السوق الحر كفيلة بتصفية الموجات التضخمية الناشئة عن صدمات الطلب أو العرض بعد فترة، واستعادة الاستقرار في الأسعار،ولكن التغذية النقدية، أو زيادة عرض النقود، في ظروف الصدمات هي التي تسبب في استمرار الأسعار في الارتفاع، ومن ثم فإنها مسئولية السلطات النقدية أن تتحكم بدقة في معدلات الزيادة في عرض النقود حينما تظهر بوادر صدمات طلب أو عرض تضخمية، وكذلك حينما تسعى إلى إزالة هذه الصدمات تدريجيًا حتى لا يستمر الارتفاع في الأسعار (1) . ولكن التسليم بضرورة الإدارة الحكيمة والرشيدة لعرض النقود لا يعني بالضرورة النجاح في وقف عملية الارتفاع في الأسعار والتخلص من التضخم،؛ لأن ثمة عوامل عديدة تتدخل في الصورة وتمنع من استعادة الاستقرار والعودة إلى التوازن بسهولة أو في مدى قصير من الزمن (2) ، من ثم فإن التضخم سوف يستمر، ولابد من معالجة ما يترتب عليه من اختلالات في النشاط الاقتصادي وفي المعاملات والحقوق والالتزامات، وتزداد أهمية هذه المعالجة ومسئولية الحكومة في القيام بهما كلما زادت حدة التضخم وطال أمده.

(1) في التحليل الاقتصادي، تترتب صدمات الطلب على زيادة تلقائية في الاستهلاك أو الاستثمار أو في الإنفاق العام (الحكومي) أو صافي الصادرات (الصادرات – الواردات) بالقرب من مستوى التوظف الكامل، ويترتب على صدمة الطلب حدوث فجوة تضخمية يصاحبها ارتفاع في المستوى العام للأسعار، فإذا بقي عرض النقود ثابتًا فإن آلية السوق الحر ستعمل على إزالة هذه الفجوة تلقائيًا بعد فترة، ويتوقف الارتفاع في المستوى العام للأسعار، أما صدمات العرض فتحدث بسبب ارتفاع في معدلات الأجور العمالية بنسبة تفوق الزيادة في الإنتاجية الحقيقية أو ارتفاع عام في تكلفة الإنتاج لأسباب أخرى، مثلًا ارتفاع أسعار الخدمات المستوردة اللازمة للنشاط الإنتاجي، فيرتفع المستوى العام للأسعار.فإذا بقي عرض النقود ثابتًا فإن آلية السوق الحر ستعمل تلقائيًا على إزالة هذا الوضع والعودة إلى مستوى الأسعار السابق مرة أخرى بعد فترة (ربما عام أو عامين) ، أما إذا صاحب صدمة الطلب أو صدمة العرض زيادة في عرض النقود داخل الاقتصاد، فإن النتائج سوف تختلف تمامًا، فيستمر الارتفاع في المستوى العام للأسعار بلا توقف، وقد يتسارع معدله بسبب توقعات استمراره، أو مزيد من التغذية النقدية.

(2)

وأهم هذه العوامل هي المطالبات العمالية بزيادة معدلات الأجور، وفقًا لمعدلات التضخم بسبب توقعاتهم باستمراره.

ص: 1610

ثانيًا – ينبغي أن يلاحظ أن مسئولية الحكومة في الاقتصاديات الوضعية التي تعتمد على آليات السوق الحر أساسًا في معالجة أسباب التضخم وآثاره؛ تقل عن مسئولياتها في ظل نظام إسلامي فيه إشراف على الأسواق والمعاملات التي تجري فيه لأجل تحقيق العدالة، ففي البلدان التي ارتضت أنظمة السوق الحرة يسعي الأجراء تلقائيًا للمطالبة بزيادة أجورهم النقدية حينما ترتفع الأسعار؛ لتعويض التدهور في القيمة الحقيقية لدخولهم، وقد يُضربون أو يمتنعون عن العمل لتحقيق مصالحهم، والحكومة لا تتدخل إلا إذا وصلت الأمور إلى الحد الأسوأ.

أما في البلدان الإسلامية فالتراضي في المصالح بين الأجراء وأصحاب الأعمال يجب أن يتم في إطار التماسك الاجتماعي بين الطبقات؛ لأن المسلمين أخوة، ومن ثم فإن الحكومة لا تدع الأمور تصل إلى حد المصادمة بين المصالح الطبقية.

كذلك فإنه في البلدان المتقدمة ذات الأسواق الحرة أصبح نظام الفائدة مستقرًا وله مؤسساته الراسخة، واعتمادًا على هذا النظام تجد رجل الأعمال أو الرجل العادي لا يقرض أمواله بالزمن، إلا مقابل فائدة لا تعوّض فقط التدهور في القيمة الحقيقية للنقود التي يسببها التضخم، بل تزيد عن ذلك. والبنوك الربوية تتنافس في عرض مزايا لاستخدام مدخرات الأفراد لآجال طويلة في ظل هذا النظام. وعامة الناس أصبحوا في هذه البلدان مدركون لظاهرة خداع النقود (1) ، ومتمرسون في عمليات الإقراض والاقتراض بفوائد، أو استخدام أموالهم في مضاربات شراء وبيع أوراق مالية على مدى الزمن، لكي يحققوا من ورائها عوائد مجزية تحفظ قيمة ثوراتهم الحقيقية أو تنميتها في إطار الظروف التضخمية.

ولكن الأمر يختلف تمامًا في ظل نظام اقتصادي إسلامي، حيث لايسمح للأفراد بالمعاملات الربوية ولا يصرح لهم بالتغلغل في المضاربات السعرية في أسواق الأوراق المالية، سواء قيل: إن هذا أو ذاك للمحافظة على القيمة الحقيقية لثرواتهم في ظروف التضخم، أو لأجل تنمية هذه الثروات.

ومن ثم نتبين مسئولية الحكومة في معالجة المشكلة، سواء من جهة سببها أو أثرها في ظل توجه اقتصادي إسلامي.

(1) خداع النقود Money Deception هو المصطلح الشائع للتعبير عن الفرق بين ما تظهره القيمة الاسمية للنقود الورقية وقيمتها الحقيقية المعبر عنها بقوتها الشرائية. وفي البلدان النامية لا يفطن كثير من الناس إلى خداع النقود، فيظنون أن زيادة الأوراق النقدية في أيديهم بسبب زيادة دخولهم النقدية معناه زيادة دخولهم الحقيقية، ولكنهم يتنبهون بعد فترة إلى أنهم قد خدعوا بالزيادة الاسمية أو العددية؛ لأن قدرتهم على استخدامها في شراء حاجتهم قد بقيت ثابتة، أو انخفضت بسبب ارتفاع الأسعار بمعدل مماثل أو بمعدل أكبر (على الترتيب) . أما في البلدان المتقدمة فقد أصبح عامة الناس شديدي الفطنة لظاهرة خداع النقود، ومن ثم يتصرفون لكي لا يضاروا بتدهور قيمتها الحقيقية في الأجل الطويل.

ص: 1611

ثالثًا – بعض من الاقتصاديين الإسلاميين يرى أن وجود نظام اقتصادي إسلامي يمثل الحل الأمثل، حيث تنتهي في ظل هذا النظام مشكلة التضخم؛ لأسباب عديدة منها إدارة عرض النقود وفقًا لاحتياجات النشاط الإنتاجي الحقيقي، ومنها منع البنوك من إصدار نقود ائتمانية، ولكن هناك اعتراضات على هذا الرأي، منها أن البلدان الإسلامية قديمًا في ظل ظروف أفضل، سواء من جهة الالتزام بالشريعة أو من الجهة الاقتصادية العامة عانت من التضخم، وبالتالي عانت من مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية لنقود، ولعل إفتاء الفقهاء في القرن الثاني الهجري في حالات غلاء ورخص النقود الاصطلاحية دليل على ذلك. وحتى لو فرضنا أن النظام الاقتصادي الإسلامي إذا نُفّذ بطريقة مثلى سوف يقلل من حدة المشكلة ويجعلها غير ذات أهمية، فمتى يتحقق هذا في بلادنا؟ وهل نترك المشكلات التي ترتبت على غير ذلك الوضع الأمثل بدون حل في هذه الظروف؟ هل هذا يتفق مع العدالة التي تنشدها الشريعة الإسلامية؟ وإذن فإن من الواجب أن يحمّل علماء المسلمين الحكومات القائمة حاليًا في البلدان الإسلامية مسئولية معالجة مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود، بدلًا من انتظار أمر قد لا يتحقق في معظم البلدان الإسلامية قبل عشر سنين أو ربما أكثر.

رابعًا – مع التسليم بضرورة معالجة التضخم نفسه، فإنه بناء على الآراء والمناقشات التي سبق بيانها في عرض مبدأ التعويض (الصفحات السابقة) نرى أنه لا غنى عن هذا المبدأ لدرء المفاسد وتحقيق المصالح في إطار العدالة. ولكن التسليم بمبدأ التعويض أمر، وتطبيقه في الواقع العملي لتحقيق أهدافه أمر آخر. من هنا يجب أن نتخذ كافة الاحتياطات حتى لا يساء استخدام المبدأ أو يكون سببًا في زيادة هذه المشكلة. هذه المسئولية في التطبيق إنما تقع على عاتق الحكومة من جهتين: أولهما أن تمنع من تطبيق أي أساليب للتعويض تؤدي إلى مفاسد شرعية أو اقتصادية. وثانيهما أن تقوم بتنظيم التعويض من حيث توقيته الزمني ومقداره والمستحقين له والآلية والوسائل التي يتم بها تنفذه ومراجعته، وذلك لتحقيق المصلحتين الكلية (للمجتمع) والجزئية (للأفراد) في إطار الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

ص: 1612

خامسًا – بالنسبة للاحتياطيات التي يجب اتخاذها من أجل عدم إساءة استخدام مبدأ التعويض، يأتي أولًا ضرورة إعلام الناس عمومًا وتنبيههم إلى أن الحكومة وحدها هي المسئولة شرعًا عن تنظيم تطبيق مبدأ التعويض في الواقع العملي، وأنه ليس لأحد ممن يعلمون في النشاط الإنتاجي أو المصرفي أو من عامة الناس أن يخرج عن القواعد أو الأطر التي تقوم الحكومة بوضعها في هذا المجال، فلا يحق لأحد من الناس أن يطلب لنفسه تعويضًا عن القيمة الحقيقية لدينه أو لقرض حسن أقرضه بالطريقة التي يظن أنها مناسبة له، حيث إن هذا باب واسع يمكن أن يدخل منه الربا والغرر بلا حدود. وتأتي أهمية هذا الإعلام الشرعي في الظروف التي يمر بها الناس في البلدان التي تعاني من ظاهرة التضخم وآثارها بالنسبة للقيمة الحقيقية للنقود. فقد أزمنت المشكلة وافتقد عامة الناس وخاصتهم الحل الإسلامي ما بين مناقشات فقهية واقتصادية طويلة ومعقدة، وما بين اعتراض وموافقة، فصاروا يستمعون لمن يعرف ومن لا يعرف في أمور اقتصادية تدخل في صميم الحلال والحرام،وصار الكثير منهم يتصرف تبعًا لما يراه محققًا لمصلحته.

ومع هذا لا يجب شرعًا حرمان الأفراد من التقدم إلى القضاء طلبًا لتعويض يراه الأفراد مناسبًا في ظروف تدهور القيمة الحقيقية عندما تقصر القواعد الشرعية والاقتصادية التي وضعتها الحكومة عن الوفاء بهذا التعويض. فحق التقاضي مكفول للجميع في مواجهة أي قواعد أو تنظيمات جديدة يضعها ولي الأمر، وقد تؤدي مطالبات الأفراد إلى تعديلات هامة في القواعد أو التنظيمات تقود إلى تحقيق العدالة بصورة أفضل.

ص: 1613

سادسًا – أحد المسائل التي يجب حسمها تمامًا وقطع رأسها كما تقطع رأس الحية، والتي تسببت في الإساءة بشكل بالغ إلى مبدأ التعويض في المناقشات الاقتصادية الإسلامية؛ ما اقترحه بعض الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين – لشديد الأسف – من اعتبار الفائدة المصرفية تعويضًا عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود في ظروف التضخم. وبالرغم من أن هذا الاقتراح لا يستحق عناء بالرد عليه؛ بسبب سطحيته البالغة من الناحيتين الشرعية والاقتصادية، إلا أن من الضروري تفنيده حتى ينتهي أمره.

أولًا: إن البنوك أو المؤسسات التي تمارس الإقراض والاقتراض بفائدة في كل أنحاء العامل لا تفعل هذا إطلاقًا بغرض التعويض عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود، بل لأجل الاكستاب (اكتساب الفوائد) والفائدة تتطابق في معناها مع الربا كما أقرت المجامع الفقهية في العالم ومجمع البحوث الإسلامية للأزهر في مصر. وإذا قيل: ولماذا لا نعتبر الفائدة تعويضًا عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود ومن ثم تصبح جائزة شرعًا؟ قلنا على سبيل التأكيد: إن البنوك التجارية التي تتعامل الآن بنظام الفائدة لن ترضي بأن تغير جوهر نشاطها على هذا النحو، وإن البنوك الإسلامية التي لا تتعامل بالفائدة لا تستطيع أن تستبدل نشاطها التمويلي القائم على أساس المشاركة في الغنم والغرم، والذي يخدم النشاط الاقتصادي بنشاط لا هدف له سوى عملية التعويض، وهي ليست إلا عملية تصحيحية تنتهي إذا زال السبب الذي يدعو إليها ولم تعد إليها حاجة. هل نسي من اقترحوا أن تكون الفائدة تعويضًا عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود: أن المستوى العام للأسعار قد يظل ثابتًا في بعض السنوات أو ربما ينخفض؟ هل ترضى البنوك أن تصبح مجرد مكاتب تأخذ المدخرات من أصحابها وتسلمها لمن يريد استثمارها بعائد يساوي الصفر في حالة ثبات الأسعار؟ وهل يرضى أصحاب المدخرات أن يدفعوا نقودًا إضافية للمستثمرين إذا حدث انخفاض في المستوى العام للأسعار؟ إن حجتهم داحضة.

وثانيًا: لقد اعتقد من اقترحوا الفائدة تعويضًا عن تدهور القيمة الحقيقية للنقود، أنها سوف تسخر لتحقيق هذاالهدف، ونسوا أن البنك المركزي في كل دولة يقوم بتحديد سعر الفائدة والارتكاز عليه كأداة رئيسة من أدوات السياسة النقدية، ليس فقط لتحقيق الاستقرار الاقتصادي داخليًا، وإنما أيضًا لتحقيق توازن ميزان المدفوعات خارجيًا، وقد ترتفع أسعار الفائدة وتنخفض تبعًا لأهداف السياسة الاقتصادية الكلية دون اعتبار لارتفاع المستوى العام للأسعار. وفي فترة السبعينيات ارتفعت الأسعار كثيرًا، وبقيت أسعار الفائدة شبه ثابتة حتى أصبحت الفائدة الحقيقية سالبة في عدد كبير من البلدان النامية بنسب تصل إلى (- 30 %) ، (-40 %) ، وفي الثمانينيات ارتفعت أسعار الفائدة العالمية فوق معدلات التضخم الجارية فتزايدت معدلات الفائدة الحقيقية بما سبب لكثير من البلدان النامية متاعب جمة وزيادة كبيرة في أعباء الديون الخارجية، وكل هذه الأموال وما يحدث الآن في التسعينيات في إطار البرامج الإصلاحية لصندوق النقد الدولي التي ترتكز على سعر الفائدة لتقليل معدلات التضخم تارة، ولتشجيع الاستثمارات تارة أخرى، تدل على أن هؤلاء الاقتصاديين والفقهاء الذين اقترحوا الفائدة كآلية للتعويض كانوا مخدوعين فيها، أو أنهم تعرضوا للتغرير من بعض أولي الجهل الذي يدعون الخبرة الاقتصادية وهم بلا أي خبرة.

ص: 1614

سابعًا – هناك مسألتان يجب أخذهما في الاعتبار حتى لايؤدي التعويض إلى إخلال بالنواحي الشرعية أو الاقتصادية. المسألة الأولى بالنسبة للتوقيت الزمني للتعويض، فلا يجب إطلاقًا أن يقوم التعويض على أساس ما نتوقع حدوثه من ارتفاع في المستوى العام للأسعار، ومن ثم تدهور في القيمة الحقيقية للنقود؛ ذلك لأن ما نتوقع حدوثه مهما كانت دقة التوقعات قد لا يتحقق إلا جزئيًا، وقد لا يتحقق على الإطلاق، أو قد يتحقق شيء مخالف له، وفي كل هذه الأحوال سينطوي التعويض على غرر أو ربا وكلاهما مرفوض. وعلى ذلك فإن التعويض لا يجب أن يتم إلا في ظروف قد وقعت وعرفت تفاصيلها، والتحليل الاقتصادي من جانب آخر يؤكد أهمية هذه المسألة؛ لأن إقرار التعويض مسبقًا يؤدي مباشرة إلى زيادة المطالبات النقدية من قبل أصحاب الحقوق على أصحاب الالتزامات الذين تتكون نسبة كبيرة منهم في الاقتصاديات المعاصرة من أصحاب الأعمال، فيسارع هؤلاء برفع أسعار بضائعهم أو خدماتهم، فيترفع المستوى العام للأسعار بمعدلات أكبر مما كان يمكن أن يحدث في غير هذه الظروف. ولذلك فإن القاعدة العامة الذي يجب الالتزام بها هو أن لا يتم تعويضٌ قبلَ أن يتحقق تضخم بالفعل. والمسألة الثانية مكملة للمسألة الأولى، وهي أن بعض أنواع التضخم قد يكون أقل حدة من بعضها الآخر، كما قد يكون ممكنًا علاجه في مدى سنة أو سنتين، وهنا قد لا يصرح بالتعويض؛ لأن هذا في حد ذاته قد يؤدي إلى زيادة حدة التضخم أو إطالة أمده. والسبب في هذا مرة أخرى ما سبق أن ذكرناه من العلاقة الاقتصادية بين زيادة المطالبات النقدية بسبب التعويض وارتفاع الأسعار، وقد يكون في عدم التصريح بالتعويض في هذه الحالة ضرر للبعض، ولكن المصلحة العامة للمجتمع لها الأولية، والحكومة هي المسئولة عن الحفاظ على المصلحة العامة، ومرة أخرى فإنه إن وقع على البعض ضرر بالغ بسبب عدم التصريح بالتعويض، فإن بإمكانه رفع الأمر للقضاء كحالة خاصة.

ص: 1615

ثامنًا – إلحاقًا بالنقطة السابقة فإنه يتعين على الأجهزة المسئولة أن تقرر حالة التضخم التي ينبغي إقرار التعويض فيها، حيث يصاحبها تدهور غير محمود في القيمة الحقيقية للنقود، لا يعبث فقط بالحقوق والالتزامات الآجلة للأفراد، بل يسيئ عمومًا إلى النشاط الاقتصادي للمجتمع، وتقرير حالة التضخم لا يتم إلا بمعرفة معدله ومدى تسارعه. ويجب علينا الآن تحديد حالة التضخم التي اقترحنا في النقطة السابقة التغاضي عنها، والعمل على علاج سببها فقط دون آثارها، حيث هذه تمثل الحد الأدنى، وما فوق هذا الحد يجب إقرار التعويض فيه.

لقد خشي الرسول صلى الله عليه وسلم على أموال اليتامى أن تأكلها الصدقة إن لم تستثمر على مدى الزمن، والصدقة هنا هي الزكاة، والمقصود هنا ما يخص المال (حيث الزراعة والتجارة وأنشطة استثمارية) ونسبتها ربع العشر، أي (2.5 % سنويًا) ، والخشية هنا أن تستمر الأموال عاطلة سنتين وثلاث وأكثر، فتتآكل بفعل الصدقة، إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم خشي من معدل (2.5 %) إذا أصبح تراكميًا، فكيف بنا بمعدل (12.5 %) للتضخم يأكل خمس مرات ما تأكله الصدقة؟ ألا نخشى على أموال اليتامى وحقوق الضعفاء، بل وحقوق عامة الناس؟ هل نعتبر (5 %) تراكم المعدل في سنتين مثلًا) مبررًا لتعيب مثلية النقد الورقي، أم (10 %) وهو أربع مرات مثل معدل الزكاة؟

أم نأخذ توجيهًا من حديث الثلث في المال (33.3 %) حينما أراد سعد رضي الله عنه أن يتنازل عنه للفقراء قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه قال: ((والثلث كثير)) .

أم نعتبر أن ما يفعله التضخم بالقيمة الحقيقية للنقود (غبن) ، وهو هكذا فعلًا في الواقع، ونأخذ بما ورد في مجلة الأحكام العدلية بالنسبة لأقصى حد للغبن يمكن التجاوز عنه، وهو (20 %) ، فنقطع بأن زيادة معدل التضخم فوق هذا الحد تعيب مثلية النقد الورقي (1) .

أم نأخذ بالعرف فنتخذ لنا معيارًا وحكمًا معدل التضخم السائد في الدول التي نعرف بأن عملاتها النقدية قوية أو مستقرة نسبيًا، ومن ثم فإن مثليتها محفوظة على مدى الزمن؟ وفي هذه الحالة سنعتبر أن أي معدل تضخم يرتفع عن هذا المعدل يتسبب في تعيب مثلية النقود؟ لو أخذنا مجموعة البلدان المتقدمة اقتصاديًا (بلدان الدخل المرتفع) في عالمنا المعاصر، وعملات هذه البلدان تتميز عمومًا بأنها قوية ومستقرة نسبيًا، سنجد أن معدل التضخم فيها خلال الفترة (1980 – 1990 م) لم يتجاوز في متوسطه (4.5 %) سنويًا (2) ، فهل نعتبر أن مثلية النقد الورقي في البلدان الأخرى تتعيب بارتفاع معدل التضخم السنوي فيها فوق (4.5 %) أو (5 %) ؟

(1) مجلة الأحكام العدلية، الكتاب الأول في البيوع، المادة (165) ، الغبن الفاحش " غبن على قدر نصف العشر في العروض (5 %) ، والعشر في الحيوانات (10 %) ، والخمس في العقار (20 %) أو زيادة، أي إذا نقصت القيمة إلى هذا الحد أو أكثر كان الغبن فاحشًا، والقيمة تثبت بإخبار الخبراء بالخلو من الغرض "، فأعتقد أن أقصى شيء يمكن التجاوز عنه (20 %) ، وقد يرى البعض الأخذ بمتوسط مرجح، أو تبعًا لنوع النشاط الإنتاجي (عروض أو حيوانات أو أصول عقارية)

(2)

تقرير البنك الدولي السنوي world develoment report أي عدد من الأعداد للأعوام 1991 إلى 1995 م. الجداول الإحصائية، ولابد أن نسلم بأن هذا المعدل للتضخم السائد في البلدان المتقدمة عرضة للتغير، وهذا على أي حال مجرد اقتراح نقدمه للتفرقة بين التغيرات العادية (أو غير المزعجة) في الأسعار وغيرها. وأود أن أؤكد أن هناك قدرًا من التغيرات في الأسعار يعكس ظروف الطلب والعرض، وأنه ينبغي أن نعزل هذا القدر عند حديثنا عن التضخم كظاهرة وبائية تستدعي المعالجة.

ص: 1616

وأجد نفسي بعد عرض هذه المقترحات ميّالًا إلى اعتبار أن التضخم يؤدي إلى غبن أصحاب الحقوق الآجلة، وأن أقصى غبن يمكن التجاوز عنه لا يجب أن يتعدى (20 %) خُمس القيمة، فإذا كان ثمة ارتفاع عام في الأسعار بمعدل (20 %) في سنة واحدة، فإنه يعيب مثلية النقد الورقي في سنة واحدة، وإذا حدث بمعدل (10 %) في سنتين متتاليتين فإنه يحدث نفس الأثر، فلا يجوز اعتبار النقود الورقية مثلية بعد عامين في هذه الحالة. وأعتقد أن علينا أيضًا أن نتفق على حد أدنى لمعدل تغير الأسعار نتجاوز عنه عرفًا في السنة الواحدة، وربما كان هذا (2.5 %) هو معدل زكاة النقدين في سنة فقط أو (4.5 %) وهو متوسط المعدل السنوي السائد في بلدان العملات الورقية المستقرة القيمة نسبيًا، حيث ليس من الحكمة افتراض الثبات والاستقرار التام، فهذا لا يمكن أن يتحقق مطلقًا لا في قيمة العملات النقدية أو غيرها، ومن هنا فإن المقترح هو التعويض الجزئي عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود، حينما يستلزم الأمر هذا، وليس التعويض الكلي بأي حال.

وتتأكد ضرورة عملية التعويض الجزئي ومسئولية الحكومة في الإشراف عليها بدقة أيضًا، على أساس التحليل الاقتصادي الذي يؤكد أن التعويض نفسه يتضمن زيادات نقدية تتدفق إلى الاقتصاد، وأن هذه في حد ذاتها يجب أن تتم بمعدلات تقل عن معدل التضخم، حتى يتم علاجه في النهاية.

ص: 1617

تاسعًا – مَن المستحق للتعويض حينما يتقرر ذلك في ظروف التضخم؟ هذا سؤال هام يحتاج إلى إجابة متأنية. فالمفروض أنه حينما يتقرر التعويض يصبح حقًا لكل من تعرّض للمشكلة. فالأجراء أو الموظفون المتعاقدون بعقود عمل طويلة الأجل مع أصحاب الأعمال يستحقون تعويضًا سنويًا يتقرر لهم، حتى لا تتدهور القيمة الحقيقية لدخولهم، وكذلك لا يختلف عنه من قاموا بإيجار عقارات سكنية أو أراضي أو غير ذلك بعقود طويلة الأجل. وأصحاب الحقوق من الدائنين الذين باعوا بضاعة بالأجل أو أقرضوا الغير قروضًا حسنة لأجل طويل. ولكن الحقيقة من الجهة الاقتصادية البحتة أنه كلما اتسعت عملية التعويض، كلما أصبح لها آثارً جانبية، قد تعوق معالجة التضخم.

فالتعويض لا يغني في الواقع سوى زيادات نقدية تتقرر لأصحاب الحقوق بناء على ارتفاع المستوى العام للأسعار، وهذا في حد ذاته يعني تغذية العملية التضخمية مرة أخرى. ولذلك إن ضغط عمليات التعويض إلى حدها الأدنى أمر مرغوب. والدور الذي يمكن أن تضطلع به الحكومة هنا له أهميته. فمن الممكن إنشاء هيئات توفيقية تتوسط بين أصحاب الأعمال والعمال تشترك فيها الحكومة، وذلك لإجراء تعديلات تلقائية في معدلات الأجور بما يتناسب مع التغيرات الحقيقية في الإنتاجية في الصناعات وفي القطاعات المختلفة على النحو الذي لا يؤدي في حد ذاته إلى التضخم.

أما حينما يحدث تضخم لأي سبب آخر فإن الهيئات التوفيقية سوف تسعى للحد من التسابق بين الأجور والأسعار، حتى لا يتسارع معدل التضخم. وهذه الآلية ستصبح مستقلة عن عمليات التعويض ولكنها ستعني أن هناك حماية جزئية بدرجة أو بأخرى للدخول الحقيقية للعمال التي تتم تلقائيًا على نحو لا يؤدي إلى مزيد من التضخم.

أما أصحاب العقارات والأراضي المؤجرة، فمن الواجب نصحهم بأن يضعوا شرطًا في عقود الإجارة بما يضمن تجديدها كل عام، وهذا الشرط في حد ذاته يعتبر ضمان لهم في ظروف الارتفاع الشديد للأسعار بين عام وآخر. ويبقى بعد ذلك أصحاب الحقوق المترتبة على ديون أو قروض، فهؤلاء يستحقون التعويض حينما تتدهور قيمة النقود التي لهم في ذمة الغير والحكومة مسئولة عنهم، وليس هناك بديل لهم سوى هذا الحل إلا أن يتبرعوا بما خسروه نتيجة هذه الظروف، وهذا أمر يرجع إلى كل واحد منهم، ولكن لا يمثل سياسة عامة.

ص: 1618

عاشرًا – يثار سؤال تابع للنقطة السابقة، ومن الذي يدفع التعويض حينما يكون ذلك مستحقًا للدائنين أو المقرضين؟ والإجابة ببساطة: المدينون أو المقترضون. ولكن المشكلة هنا أن المدينين أو المقترضين قد يكونون في حالة إعسار، وهذا احتمال قائم لا يمكن التجاوز عنه. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمقدار الدين الأصلي والتعويض، فلابد من الإمهال {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، على أن يعاد تقدير التعويض المستحق حينما تتحقق القدرة على السداد في فترة أخرى. أما إذا كانت الحالة المالية للمدين أو للمقترض تسمح بسداد مقدار الدين أو القرض الأصلي دون التعويض المقرر، فأرى أن من المناسب في مثل هذه الحالة التجاوز عن هذا التعويض؛ ذلك لأن التعويض ليس إلا عمل تصحيحي نشأ نتيجة ظروف، ربما لم تكن في حسبان المدين أو المقترض إطلاقًا، فلا يجب التشدد فيه، وثانيًا لأن الدائن أو المقرض حينما يسمح بنشأة الدين أو يقرض قرضًا للغير، إنما يفعل ذلك جزئيًا (وربما كليًا) على سبيل الإحسان، فيجب أخذ هذه العوامل في الاعتبار، حتى لا تتغلب العوامل المادية على عوامل الأخوة والتعاطف في المجتمع الإسلامي.

ص: 1619

أحد عشر – امتدادا للسؤال السابق، فإذا كانت الحكومة هي المقترضة من عامة الناس وتدهورت القيمة الحقيقة للنقود، فهل تقوم بدفع تعويض لهم؟ والإجابة الأولى: نعم يجب أن تدفع لهم، كما هو مقرر على الآخرين الذين هم في نفس موقفها، ومن مواردها العامة بخلاف الزكاة التي لها مصارفها الشرعية المعروفة. ولكن الإجابة الثانية: يجب أن تأخذ في الحسبان ظروف القروض العامة، فإذا اقترضت الحكومة لأجل الدفاع عن البلد في حالة الحرب ثم ارتفعت الأسعار، هل نزيد من أعبائها في السداد بفرض تعويض إضافي يغطي التدهور في القيمة الحقيقية للنقود؟ لا أعتقد أن المسلمين يجب أن يفعلوا هذا مع حكومتهم في مثل هذه الظروف. أما إذا اقترضت الحكومة لأجل إقامة مشروعات استثمارية للتنمية، وهي على علم بالظروف التضخمية، ومتوقعة لاستمرارها، فلماذا لا تدفع تعويضًا لمن اقترضت منهم حتى تغطي ما حدث من تدهور في القيمة الحقيقية لأموالهم؟ وإذن فإن الأمر يتوقف على ظروف الاقتراض، من جهة أخرى ينبغي على الحكومة ألا تقترض لأجل أمور من الممكن الاستغناء أو قيام الأفراد بها على نحو أكثر كفاءة، حيث هذا يزيد من مشكلاتها أصلًا، فإذا ارتفعت الأسعار ازدادت هذه المشكلات حيث من الضروري أن تلتزم بتطبيق مبدأ التعويض على نفسها، كما هو على غيرها.

ص: 1620

اثنا عشر – فيما سبق تم التأكيد على ضرورة تطبيق مبدأ التعويض في ظروف محددة، ولكن ما هي الكيفية العملية التي يتم بها ذلك؟

- هل تعلن الحكومة في نهاية كل عام (في الفترات التي تشهد تضخمًا يستدعي التعويض) عن نسبة عامة، بما تراه مناسبًا للظروف، يلزم إضافتها إلى مقدار الحقوق أو الالتزامات الأصلية، سواء للإجراء والموظفين ومؤجري العقارات والأراضي أو الدائنين، ويصبح على عامة الناس والمؤسسات الالتزام تلقائيًا بما حددته السلطة، والمتضرر يلتجأ إلى القضاء؟

أو....

- هل تعلن الحكومة عن حدين أقصى وأدنى للتعويض (في شكل نسب مئوية) ، ثم تترك لأصحاب الحقوق الآجلة اللالتجاء إلى القضاء حتى يتم تقدير كل حالة على حدة وفقًا لظروفها؟ ويلزم في هذه الظروف إنشاء قضاء مستعجل، بحيث يفصل بسرعة ومرونة في كل ما يقدم إليه من حالات في وقت قصير، ويعتبر حكم القضاء في هذه الظروف نهائي وغير قابل للاستئناف. أو

- هل تقوم الحكومة بتحديد النسبة المقررة للتعويض في نهاية كل فترة تضخمية، وفقًا لأنواع النشاط الاقتصادي، فالأجراء لهم نسبة تختلف عن أصحاب العقارات السكنية أو عن أصحاب الأراضي الزراعية، كما أن أصحاب الديون الآجلة لهم نسبة أخرى، على أن يلتزم الجميع بما تقرره الحكومة في هذا الإطار، مع ترك حرية الالتجاء إلى القضاء في حالة التضرر.

وجميع هذه الطرق لها تكلفتها الإدارية في التنفيذ، كما أن إجراءات التعويض قد لا تتم بمرونة خاصة في البداية، أو قد تتسبب في نشأة مشكلات جديدة بينهم بما له أثره على المعاملات. ولكننا إذا كنا نبحث عن (العدالة) فلابد أن نتحمل هذه التكلفة ونقوم بهذه الإجراءات، والتي هي بمثابة علاج، وهو مهما كان أمر لا ينبغي أن يطول أمده في إطار ما قدمناه من مناقشات، فالتضخم وهو أصل المشكلة يجب أن يعالج، فإذا انخفض معدله إلى الحدود الدنيا يصبح التعويض غير ضروري.

ص: 1621

ومع أخذ كل ما سبق في الاعتبار يجب أن نتناول بعض المقترحات التي قد تصلح لوقاية عامة الناس من المشكلات العملية المرتبطة بتطبيق مبدأ التعويض، وسنعرضها بما لها أو عليها، وجوهر هذه المقترحات يتمثل في إيجاد آلية تلقائية للتعويض من خلال الاتفاق في العقود على تسجيل القروض طويلة الأجل (أكثر من عام) ، أو قيمة الديون المترتبة على البيوع، أو غير ذلك، بعملة نقدية مستحدثة أو معيارية. ولقد قام البنك الإسلامي للتنمية في جدة باستحداث (دينار إسلامي) ، وهو عملة نقدية (حسابية) فقط ليس لها وجود شكلي ورقيا كان أو معدنيا، ويعادِل وحدة من وحدات السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي (sdr) . وتسجل جميع العمليات المالية للبنك مع الدول الأعضاء بالدينار الإسلامي، ويتم سداد المبالغ المستحقة على هذه الدول بنفس هذه العملة الحسابية. والبنك يمارس نشاطه منذ عام (1395 هـ) الموافق (1975 م) . ويلاحظ أن وحدة حقوق السحب الخاصة (SDR) - والتي تحد

قيمة دينار البنك الإسلامي - كانت مرتبطة في البداية بنظام الذهب ثم انفكت عنه. ولقد ظلت إلى عام (1971 م) مقومة بدولار أمريكي واحد، ثم تغيرت قيمتها بعد تخفيض الدولار في (1971 م) ثم في (1973 م) ، وأصبحت تزيد عن الدولار = (1.2064) . ثم في (1974 م) أصبحت وحدة حقوق السحب الخاصة تقوّم بمتوسط قيمة ست عشرة عملة من العملات الرئيسة في العالم. وفي عام (1981 م) أنقص صندوق النقد عدد العملات التي يؤخذ متوسطها لتحديد قيمة وحدة حقوق السحب الخاصة إلى خمسة فقط، مع إعطاء وزن خاص لكل عملة، وهذه العملات أوزانها كما يلي: الدولار الأمريكي (40 %) ، المارك الألماني (21 %) ، الين الياباني (17 %) ،الفرنك الفرنسي والجنيه الإسترليني (11 % لكل منهما)(1) .

(1) الأوزان المذكورة تبعًا لتقديرات (1994 م) ومجموعها = 100 % أو واحدا صحيحا، وبداية (1994 م) كانت وحدة حقوق السحب الخاصة = 1.38 دولار. انظر: D.Selvator. International economics ، p. 704 ، prentice hall. 1995

ص: 1622

ولنا تعقيب بالنسبة لاستخدام مجموعة من العملات النقدية المعروفة بقوتها واستقرارها وأخذ متوسط لقيمتها ليكون أساسا للتحاسب الآجل، إن هذا الأسلوب يمكّن إلى حد كبير من التخلص من مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية لعملة نقدية واحدة، خاصة إذا كانت هذه عملة ضعيفة. ولكننا في نفس الوقت نواجه المقترضين بتحد صعب، فمثلًا إذا حصلنا على قرض تحددت قيمته على أساس متوسط قيمة مجموعة عملات نقدية قوية، فلابد أن نعمل على تحقيق عائد موجب من وراء هذا القرض، بحيث نغطي كحد أدنى التدهور في القيمة الحقيقية للعملة الوطنية بالنسبة إلى هذه المجموعة من العملات المستقرة. فإذا فعلنا هذا فإننا لم نحقق بعد شيئًا موجبًا لنا! والواقع أنه لِيكون القرض نافعًا لِمَن يقترض لابد على آخذِهِ أن يستثمره ويحقق من ورائه عائدًا يزيد وفق معدل التضخم السائد محليًا، وإلا فإنه سيتعرض إلى تحمل عبء فوق طاقته عند السداد.

ص: 1623

ويلاحظ أنه إذا تبنت أية حكومة مثل هذا الاقتراح داخليًا، فإن أحدًا لن يقترض إلا للاستثمار، أو بعبارة أخرى سيختفي القرض الخيري أو تزول ناحية الإحسان في القبض، أما المدينون لظروف بيع آجل مثلًا أو لغير ذلك، فسوف يواجهون مشكلات معقدة عند مطالبتهم بالسداد، وفقًا لهذه الوحدة النقدية المستقرة.

وفي رأينا أنه من غير المناسب معالجة مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للعملة الوطنية، بوحدة للتحاسب تكون مستقرة تمامًا، فهذه تسبب مشكلة أخرى؛ إذ إنه لا شيء في هذا العالم مستقر تمامًا. بعبارة أخرى نحن نعرض أنفسنا للخروج من إطار العدالة في هذه الظروف، لذلك لا أرى إطلاقًا أن تتبنى أي حكومة داخل أي بلد مثل هذا الاقتراح، أو ما يشابهه في تطبيق مبدأ التعويض. ومع كلٍّ فلا بأس أن يلجأ البعض كحالات فردية لمثل هذا الأسلوب، طالما كان في إطار تعاقد محدد يتم بناء عليه تحصيل وتسجيل قيمة القرض بعملات أجنبية أو بعملة أجنبية مستقرة، هناك فرق كبير من الجهة الاقتصادية بين أن يتم هذا العلاج في إطار جزئي تحت مسئولية الأفراد، وأن يتم في إطار كلي يشمل الاقتصاد وتحت مسئولية الحكومة.

وثمة دينار إسلامي آخر اقترحه موسى آدم عيسى للتحاسب الآجل، يقول:" على أن تساوي هذه الوحدة الحسابية وزنًا معينًا من الذهب وليكن واحد غرام ". . " ولا يشترط الوجود المادي لهذه الوحدة الحسابية، وإنما تتم المبادلات الآجلة على أساس النسبة الموجودة بين سعر الذهب وسعر العملة الورقية وقت الوفاء بالدين "(1) ولا بأس أيضًا أن يلتجأ الأفراد إلى هذا الحل، ولكنه لا يصح أن يمثل صلب سياسة حكومية رسمية، فالمشكلة في هذا الاقتراح أن قيمة الذهب لم تعد مستقرة، بل هي في تدهور أيضًا، ونحن الآن في السنة الأخيرة من القرن العشرين، وذلك لسبب رئيس، وهو أن عددًا من الدول التي تمتلك أرصدة كبيرة من الذهب كاحتياطيات دولية تتخلص منها الآن بالبيع في السوق العالمي، لقد ولى عصر الذهب، ليس فقط كأساس لإصدار العملات الورقية، بل أيضًا كواحد من الاحتياطيات الهامة للمعاملات الدولية.

(1) موسى آدم عيسى، آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي، مرجع سبق ذكره.

ص: 1624

أما منور إقبال فقد اقترح أن تصدر الحكومة أدوات مالية جديدة يطلق عليها: وحدات القيمة الثابتة، وتحدد الحكومة سعر الوحدة منها بالعملة النقدية المحلية، ولكنها تعمل على تعديل هذا السعر مع التغير في المستوى العام للأسعار. ويفهم من اقتراح منور إقبال أن قيم الحقوق والالتزامات الآجلة يمكن أن تحدد بوحدات القيمة الثابتة، مما يتضمن تعويض التدهور في القيمة الحقيقية للنقود تلقائيًا كلما ارتفع الرقم القياسي للأسعار (1) . ولقد انتقد هذا الرأي من قبل الذين لا يوافقون على الربط القياسي (Indexation) كأسلوب لتطبيق مبدأ التعويض.

الخلاصة

إن مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للعملة النقدية أثر واضح من آثار التضخم، وعلاجها لابد أن يتم جنبًا إلى جنب مع علاج التضخم، ولكن لا يجب أن يطغى علاج الأثر على علاج السبب، فالأخير أولى بالاهتمام، ومن هنا يستدعي الأمر موازنة دقيقة في السياسات النقدية والاقتصادية التي تتحمل الحكومة مسئولياتها. ومبدأ التعويض في رأينا يحقق العدالة بالنسبة للقروض ولقياس القيم الآجلة للبيوع والديون واستيفاء الحقوق المترتبة عليها في ظروف استمرار الظاهرة التضخمية، خاصة إذا اشتدت حدتها، وادعاء البعض بعدم وجود مشكلة تدهور في القيمة للنقود أو رغبتهم في تأجيل بحثها ومعالجتها إلى أن تتحقق ظروف اقتصادية إسلامية مثلى، إنما يعبر عن هروب من هذه المشكلة. كذلك فإن من القصور حقًا أن يحاول البعض تقييد الآراء والمعالجات لهذه المشكلة بآراء سادةٍ من الفقهاء الأجلاء الذين عاشوا في قرون سابقة لم تشهد أبدًا نقودًا مثل نقودنا التي نتعامل بها، أو غلاء مستمرًا لا ينقطع. فلو أن الفقهاء القدامى الأجلاء ذوي الآراء السديدة في كل مجال عاشوا في عصرنا الحاضر لقالوا في مشاكلنا التي نعاصرها أقوالًا جديدة تمامًا في إطار الشريعة ومقاصدها، لا في إطار آرائهم الفقهية التي ارتبطت بظروف مختلفة تمامًا.

والتسليم بمبدأ التعويض في إطار الرغبة في معالجة آثار وأسباب التخضم معًا يلقي مسئولية جسيمة على السلطات الرسمية، وتتمثل المسئولية في موازنة العدالة التي تقترن بمعالجة الآثار المترتبة على التضخم بالمصلحة الاقتصادية التي تقترن بمعالجة أسباب التضخم في نهاية الأمر، ومن هذا المنطق تقدمنا بمقترحات تخص مسئولية الحكومة بالنسبة لمبدأ التعويض، وكيفية تطبيقه، وذلك حتى لا يؤدي هذا إلى إعاقة عملية معالجة أسباب التضخم وهي الأساس.

(1) انظر منور إقبال، مزايا ربط العملات بمستوى الأسعار ومبادئه، ندوة ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية، جدة (1407هـ / 1987م) ، ص 37.

ص: 1625

وتتمثل هذه المقترحات في ألا يتم التعويض إلا إذا ارتفع معدل التضخم فوق حد أدنى معين، وأن يكون جزئيًا وليس كليًا، وأن تراقب الحكومة وتمنع أي تعويض يتم على أساس ما هو متوقع من ارتفاع في المستوى العام للأسعار، فلا تعويض إلا على أساس ما تم وحدث فعلًا، وتقدير ما إذا كان تسبّبَ أم لا في حدوث تدهور معيب في القيمة الحقيقية للنقود.

كما يقع على الحكومة إعلام الناس أن الفائدة المصرفية محرمة كتعويض، كما هي محرمة كعائد على القروض أو الديون. ومن مسئولية الحكومة أن تقدر كيف تؤثر عملية التعويض على زيادة المطالبات النقدية ورفع المستوى العام للأسعار، ومن ثم تحدد النسب الملائمة التي يتم بها التعويض.

ومن العدالة أن يكون التعويض شاملًا لجميع الفئات التي تتعرض لمشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود، ولكن من باب تخفيف أعباء عمليات التعويض في الواقع العملي يمكن تنظيم مطالبات الأجراء والموظفين بزيادة أجورهم أو مرتباتهم من خلال لجان توفيقية متخصصة تسهم الحكومة فيها إيجابيًا. كذلك لابد من إتاحة الفرصة لأصحاب العقارات السكنية وملاك الأراضي الزراعية لتغيير معدلات الإيجار كل عام، حتى لا يواجهوا مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية لدخولهم، وهذا في إطار التوجيهات الحكومية، كي لا تؤدي تصرفاتهم إلى زيادة حدة التضخم. .

وعلى الحكومة من منطلق العدالة والمصلحة الاقتصادية أن تهتم بتعويض الدائنين، ومع ذلك عليها أن تفعل ذلك بحرص في إطار سياسة متأنية حتى لا يقع ظلم على بعض الفئات، وأن تفتح باب الالتجاء إلى القضاء عند التضرر من إجراءاتها مهما كانت تبتغي بها الصالح العام؛ لأن من المؤكد أنه ستكون هناك حالات تستدعي الاستثناء.

والحكومة في حد ذاتها مسئولة عن تعويض المؤسسات أو الأفراد إذا اقترضت منهم، ومع ذلك لابد من أن نأخذ في الحسبان ظروف القروض الحكومية قبل أن نتمادى في تطبيق القاعدة. وأخيرًا يأتي الأسلوب الذي يتم به استيفاء التعويض، وهذا مما يحتاج إلى بحث بين العلماء ورجال الاقتصاد حتى تتحقق العدالة للبعض من جهة ولا يضار الاقتصاد من جهة أخرى، وقد عرضنا في هذا عدة اقتراحات، مع بيان مزايا ومثالب كل منها.

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

أ. د. عبد الرحمن يسري أحمد

جامعة الإسكندرية

ص: 1626