المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصلح الواجب لحل قضية التضخمإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثاني عشر

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادأ. د. خليفة بابكر الحسن

- ‌استثمار موارد الأوقافإعدادالدكتور إدريس خليفة

- ‌استثمار موارد الأحباسإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌أثر المصلحة في الوقفإعدادالشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌صور استثمار الأراضي الوقفية فقهاً وتطبيقاًوبخاصة في المملكة الأردنية الهاشميةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكوصكوك الأعيان المؤجرةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة(الإجارة المنتهية بالتمليك)دراسة فقهية مقارنةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكدراسة اقتصادية وفقهيةإعداد الدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الشرط الجزائيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌الشرط الجزائيإعدادالأستاذ الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الشرط الجزائي في العقودإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الشرط الجزائي في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور ناجي شفيق عج

- ‌الشرط الجزائيدراسة معمقة حول الشرط الجزائي فقها وقانوناإعدادالقاضي محمود شمام

- ‌عقود التوريد والمناقصةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌عقد التوريددراسة فقهية تحليليةإعدادالدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ مجتبى المحمودوالشيخ محمد على التسخيري

- ‌الإثبات بالقرائن والأماراتإعدادالدكتور عكرمة سعيد صبري

- ‌القرائن في الفقه الإسلاميعلى ضوء الدراسات القانونية المعاصرةإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ محمد الحاج الناصر

- ‌الطرق الحكمية في القرائنكوسيلة إثبات شرعيةإعدادالدكتور حسن بن محمد سفر

- ‌دور القرائن والأمارات في الإثباتإعدادالدكتور عوض عبد الله أبو بكر

- ‌بطاقات الائتمانتصورها، والحكم الشرعي عليهاإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور محمد العلي القري

- ‌بحث خاصبالبطاقات البنكيةإعدادالدكتور محمد بالوالي

- ‌بطاقة الائتمانإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بطاقة الائتمان غير المغطاةإعدادالشيخ علي عندليبوالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التضخم وعلاجهعلى ضوء القواعد العامةمن الكتاب والسنة وأقوال العلماءإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الصلح الواجب لحل قضية التضخمإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويضومسؤولية الحكومة في تطبيقه

- ‌مسألة تغير قيمة العملة الورقيةوأثرها على الأموال المؤجلةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌التأصيل الشرعي للحلول المقترحةلعلاج آثار التضخم

- ‌التضخم وتغير قيمة العملةدراسة فقهية اقتصاديةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌نسبة التضخم المعتبرة في الديونإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

- ‌حقيقة التضخم النقدي: مسبباته – أنواعه – آثاره

- ‌التضخم وآثاره على المجتمعات

- ‌ضبط الحلول المطروحة لمعالجة آثار التضخم على الديون

- ‌حقوق الأطفال والمسنينإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌حقوق الشيوخ والمسنين وواجباتهمفي الإسلامإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌حول حقوق المسنينإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌حقوق الطفلالوضع العالمي اليومإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌الشيخوخةمصير. . . وتحدياتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌البيان الختامي والتوصياتالصادرة عنالندوة الفقهية الطبية الثانية عشرة

- ‌(حقول المسنين من منظور إسلامي)

الفصل: ‌الصلح الواجب لحل قضية التضخمإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

‌الصلح الواجب لحل قضية التضخم

إعداد

أ. د. علي محيي الدين القره داغي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن النقود الورقية بما أنها لا تزال هي الوسيط للتبادل، والمقياس للقيم، والمعيار للمدفوعات الآجلة من الديون والالتزامات؛ فإن حقوق الناس تهتز كثيرًا بتذبذبها واضطرابها وعدم استقرارها، ومن هنا يمثل تضخمها أو انكماشها مشاكل كبيرة في المعاملات التعاقدية والاقتصادية، ويتضرر بسببه الكثيرون، بل قد تتحول جميع أموال الإنسان النقدية إلى لا شيء بسبب أي هزة تصيب النقود الورقية.

ولذلك أولى مجمع الفقه الموقر عناية فائقة بهذا الموضوع منذ دورته الخامسة إلى اليوم يبحثه، من خلال بحثه في دورات المجمع، أو في حلقات النقاش أو الندوات العلمية، حيث وصل المجمع في دورته الخامسة إلى بناء أصل ثابت يتمثل في اعتبار النقود الورقية، مثل الذهب والفضة في الأحكام المذكورة لهما.

ولكن المجمع في دورته التاسعة ذكر عددًا من الاتجاهات بشأن معالجة حالات التضخم الجامح، وكيفية الربط، ونص في فقرة (د) على " أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب بعد تقرير أضرار الطرفين ".

وها نحن نقدم هذا البحث المتواضع بناء على طلب الأمانة العامة للمجمع، لمناقشته في حلقة النقاش الثالثة للتضخم، راجيًا أن يحقق غرضه المنشود منه.

كتبه الفقير إلى ربه

أ. د. علي محيي الدين القره داغي

ص: 1564

الصلح الواجب لحل قضية التضخم

الصلح لغة واصطلاحًا:

الصلح لغة: اسم بمعنى إنهاء الخصومة وإنهاء حالة الحرب، وبمعنى المصالحة والتصالح.

والفعل المجرد صلح – بفتح اللام وضمها – يصلح صلاحًا وصلوحًا؛ أي زال عنه الفساد، يقال: صلح الشيء أي نفع.

ويقال: أصلح في عمله أو أمره؛ أي أتى بما هو صالح نافع، وأصلح الشيء: أي أزال فساده، وأصلح بينهما أي أزال ما بينهما من عداوة وشقاق، وصالحه مصالحة وصلاحًا أي سالمه وصافاه، وله استعمالات أخرى (1) .

وفي الاصطلاح عرفه الحنفية بأنه عقد يرفع النزاع (2) . وعرفه المالكية بعدة تعريفات، منها تعريف ابن عرفة حيث قال:" الصلح انتقال عن حق، أو دعوى بعوض لرفع نزاع، أو خوف وقوعه (3) ، وعرفه الشافعية بأنه: عقد تنقطع به خصومة المتخاصمين. ولكن الإمام الرافعي علق على هذا التعريف بقوله: " وليس هذا على سبيل الحد، بل أرادوا ضربًا من التعريف، إشارة إلى أن هذه اللفظة تستعمل عند سبق المخاصمة غالبًا، ثم أدخل الشافعي والأصحاب رحمهم الله في الباب التزاحم المشترك، كالشوارع ونحوها" (4) .

وعرفه ابن قدامة بأنه: " معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين "(5) .

وهذه التعاريف وإن كانت متقاربة من حيث الأصل، ولكنها تدل على بعض الاختلافات، منها أن الصلح عند الحنفية عقد وضع لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتراضي، في حين أن المالكية أطلقوه على الصلح لتوقي منازعة غير قائمة بالفعل؛ خوف وقوعها.

(1) يراجع لسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط، مادة (صلح) .

(2)

حاشية ابن عابدين، ط. دار إحياء التراث العربي ببيروت: 4 / 472.

(3)

مواهب الجليل، ط. دار الكتب العلمية ببيروت: 7 / 3.

(4)

روضة الطالبين، ط. المكتب الإسلامي: 4 / 193.

(5)

المغني، ط. الرياض: 4/ 193.

ص: 1565

ورود الصلح في الكتاب والسنة:

ورد لفظ الصلح مرة واحدة، و (صلحًا) مرة أخرى في القرآن الكريم حيث قال تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] ، كما ورد لفظ (أصلح) ثمان وعشرين مرة، منها قوله تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] .

كما ورد لفظ (الصلح) ومشتقاته في السنة كثيرًا، حيث استوعب ما ورد فيها معظم أنواع الصلح وأحكامه، وقد عقد البخاري كتابًا مستقلًا له يتضمن أربعة عشر بابًا أورد فيه واحدًا وثلاثين حديثًا مرفوعًا منها اثنا عشر حديثًا معلقًا، وثلاثة آثار عن الصحابة ومن بعدهم (1) ترجم باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، وخصص بابا آخر: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، وهكذا.

(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5/ 297 – 311.

ص: 1566

حكم الصلح:

يدل الكتاب والسنة والإجماع على مشروعية الصلح، بل على استحبابه وكونه مطلوبًا، فمن الكتاب قوله تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] .

قال ابن رشد: " وهذا عام في الدماء والأموال والأعراض وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين "(1) .

وأما السنة فالأحاديث فيها أكثر من أن تذكر، فقد عقد الإمام البخاري كتابًا مستقلًا للصلح وخصص غيره أبوابًا له، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) (2) .

وأجمع الفقهاء على مشروعية الصلح. قال ابن قدامة: "وأجمعت الأئمة على جواز الصلح "(3) .

والصلح نوعان: صلح عادل فهذا جائز بل مندوب إليه ومطلوب، وصلح جائر وهو محرم مردود، فقد أمر الله تعالى أن يكون الصلح بالعدل فقال تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] .

(1) المقدمات الممهدات:2/ 516.

(2)

هذا الحديث روي بطرق ورويات عدة يصل إلى درجة الحسن أو الصحيح لغيره فقد أخرجه الترمذي 1 /253 وابن ماجة الحديث رقم 2353، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح؛ وأخرجه الطبراني في الكبير: 1 / 222، وقال الشيخ الألباني في الإرواء: 5 / 145: صحيح لغيره.

(3)

المغني: 4 / 527.

ص: 1567

ورود الأحكام الخمسة على الصلح:

والتحقيق أن الصلح يرد عليه الأحكام الخمسة من الوجوب، والندب، والكراهة والحرمة والإباحة، قال العلامة ابن عرفة:"وهو - أي الصلح- من حيث ذاته مندوب إليه، وقد يتعين وجوبه عند تعيين مصلحة، وحرمته وكراهته، لا تلزمه مفسدة واجبة الدرء، أو راجحته"(1)، قال الخطابي:"وقد نقل بعض عن بعض قضاة طرابلس جبر الخصوم والتزامهم بالصلح"(2) .

وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفضل رد الخصوم إلى الصلح ويأمر ولاته بذلك، فقال:"ردوا الخصوم يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بني الناس"(3) .

فتبين من قول ابن عرفة أن الصلح قد يصبح واجبًا إذا تعينت المصلحة لذلك، كما يفهم من قول عمر رضي الله عنه أولوية الصلح، وأن اللجوء إلى القضاء يأتي بعد اليأس من التصالح، بل إن القاضي يندب له أن يرد الخصوم إلى الصلح، فإن لم يصطلحوا يفصل بينهم؛ وذلك لأن فصل القضاء قد يؤدي إلى اللجوء إلى وسائل غير مشروعة وشهادات زور وغير ذلك عندما تأخذ الخصم العزة بالإثم، إضافة إلى أنه يؤدي إلى الأحقاد والضغائن، في حين أن التصالح يؤدي إلى التآلف والتراضي.

ويأتي عند حديثنا عن موضوع البحث مذهب الحنفية، ولاسيما المتأخرون حول الصلح الواجب، وبذلك يتبين لنا أن الصلح الواجب من حيث المبدأ قال به جماعة من الفقهاء، وتدل عليه الأدلة المعتبرة وسنة الخلفاء الراشدين ما دامت المصلحة يتعين تحقيقها بالصلح.

(1) مواهب الجليل: 7 /3.

(2)

المصدر السابق نفسه.

(3)

رواه عبد الرزاق في مصنفه: 8 / 304.

ص: 1568

طبيعة عقد الصلح بين الاستقلال والاتباع:

ثار الخلاف بني الفقهاء حول طبيعة عقد الصلح، هل هو عقد مستقل بذاته في شروطه وأحكامه؟ أم أنه عقد تابع لأحد العقود الموجودة في الفقه الإسلامي حسب طبيعة محل الصلح المعقود عليه؟

فذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه تابع في الأحكام والشروط للعقود القريبة حسب نوعية الصلح.

قال الزيلعي الحنفي: "وهذا، لأن الأصل في الصلح أن يحمل على أشبه العقود به فتجري عليه أحكامه؛ لأن العبرة للمعاني دون الصورة"(1) .

وقال الخليل: "الصلح على غير المدعي بيع أو إجارة، وعلى بعضه هبة، وجاز عن دين بما يباع به، وعن ذهب بورق وعكسه إن حلّا وعجل، كمائه دينار ودرهم عن مائتيهما، وعلى الافتداء من يمين أو السكوت أو الإنكار إن جاز على دعوى كل، وعلى ظاهر الحكم.. "(2) .

وذكر الشافعية والحنابلة قريبًا مما سبق (3) لكنهم أقل صراحة مما سبق.

فهذا النص وغيره ظاهر الوضوح في الدلالة على أن الصلح ليس عقدًا مستقلًا من حيث الأحكام والشروط، وإنما هو تابع لأحد العقود فهو قد يأخذ حكم البيع إذا كان صلح المعاوضة، بأن ادعى عليه دارًا فأقر بها، وصالحه منها على سيارة مثلًا، فهذا الصنف حكمه حكم البيع وإن عقد بلفظ الصلح، ويتعلق به جميع أحكام البيع كالرد بالعيب، والشفعة، والمنع من التصرف قبل القبض، واشتراط القبض في المجلس إن كان المصالح عليه والمصالح عنه متفقين في علة الربا، واشتراط التساوي في معيار الشرع إن كان جنسًا ربويًا.

وقد يأخذ حكم الإجارة إذا تم التصالح من الدار مثلًا على منفعة دار أخرى (4) . وقد يأخذ حكم الهبة وذلك في صلح الحطيطة وهو الجاري على بعض العين المدعاة، كمن صالح من الدار المدعاة على نصفها، أو ثلثها، فيشترط لصحته القبول ومضي مدة إمكان القبض، ويصح بلفظ وما هو في معناها، وفي صحته بلفظ الصلح خلاف الأصح (5) وهكذا.

(1) تبيين الحقائق: 5 / 31؛ وحاشية ابن عابدين: 4 / 473.

(2)

مواهب الجليل: 4 / 3- 9.

(3)

روضة الطالبين: 4 / 193 – 194؛ والمغني لابن قادمة: 4 / 534.

(4)

المصادر السابقة؛ والروضة: 4 / 193.

(5)

روضة الطالبين: 4 / 194.

ص: 1569

والذي يظهر لنا رجحانه: أن الصلح عقد مستقبل بذاته له أحكامه الخاصة وشروطه، وأنه لا يضير استقلاله تطبيق بعض أحكام البيع، أو الإجارة، أو الهبة عليه؛ وذلك لأن الفقهاء القائلين بتبعية الصلح لبعض العقود اعترفوا بأن الصلح يخالف تلك العقود في بعض الأحكام، وأن بينهما فروقًا كثيرة تكفي للحكم على الصلح بالاستقلال، فقد قال الرافعي، والنووي – بعدما ذكرا أن صلح المعاوضة بيع -: " الصلح يخالف البيع في صور:

إحداها: إذا صالح صلح الحطيطة بلفظ الصلح فإنه يصح على الأصح، ولو كان بلفظ البيع لم يصح قطعًا.

الثانية: لو قال من غير سبق خصومة: بعني دارك بكذا فباع، صح، ولو قال والحالة هذه: صالحني عن دارك هذه بألف، لم يصح على الأصح؛ لأن لفظ الصلح لا يطلق إلا إذا سبقت خصومة.

الثالثة: لو صالح عن القصاص صح، ولا مدخل للفظ البيع فيه.

الرابعة: قال صاحب التلخيص: ولو صالحنا أهل الحرب من أموالهم على شيء نأخذه منهم جاز، ولا يقوم مقامه البيع.

الخامسة: قال صاحب التلخيص: ولو صالح من أرش الموضحة على شيء معلوم جاز إذا عُلِم قدر أرشها ولو باع لم يجز، وخالفه الجمهور في افتراق اللفظين" (1) .

(1) روضة الطالبين: 4 / 194.

ص: 1570

ومن جانب آخر فإن دائرة الصلح واسعة جدًا تسع العين والدين، كما أنها تسع حالات الإقرار والإنكار، فالصلح عن الإنكار أجازه جمهور الفقهاء (1) ومع ذلك لا يمكن أن يكيف على أساس البيع ولا الإجارة، وإنما هو صلح لأجل قطع الخصومة (2) ، كما أن الصلح عن المجهول جائز عند جماعة من الفقهاء، قال ابن قدامة:" ويصح الصلح عن المجهول سواء كان عينًا أو دينًا إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته "(3) ، بل أجاز بعض الفقهاء منهم أبو الخطاب، وابن عقيل من الحنابلة التصالحَ بدفع العوض للكف عن الدعوى (4) .

فدائرة الصلح أوسع بكثير من دائرة البيع، فالصلح جائز عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه، سواء كان مما يجوز بيعه أولا يجوز، عن دم العمد وسكنى الدار وعيب المبيع وغير ذلك (5) . وحتى مسألة الدين أجاز الحنفية وأحمد - في رواية - الصلحَ عن المائة الثابتة في الذمة بالإتلاف بمائة مؤجلة، في حين أن هذه الصورة غير جائزة في بيع الدَّين بالدين (6) إضافة إلى أن باب الصلح يسعى للتصالح في التزاحم على الحقوق ونحوها.

كل ذلك وغيره يدل على أن الصلح عقد مستقل لا يندرج تحت أي عقد من العقود بصورة كاملة، وإنما له أحكامه الخاصة، ولا يسع المجال لمزيد من التفصيل.

(1) تحفة الفقهاء: 3 / 418؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 527؛ والروضة: 4 / 198، وشرح الخرشي: 6 / 4.

(2)

المصادر السابقة نفسها.

(3)

المغني: 4 / 542.

(4)

المصدر السابق: 4 / 549.

(5)

المغني: 4 / 545.

(6)

تبيين الحقائق: 5 / 31؛ والمغني: 4 / 545.

ص: 1571

الصلح الواجب في السنة:

تدل بعض الأحاديث الشريفة على الصلح الواجب أو المطلوب الذي يتم به قطع المنازعة، وتحقيق المصالحة، فقد ترجم البخاري باب الصلح بالدين والعين، ثم أورد حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج رسول الله إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعب بن مالك، فقال:((يا كعب)) . فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار بيده أن ضع الشطر: فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قم فاقضه)) . (1) قال ابن بطال: "اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها جاز إذا حل الأجل، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئًا قبل أن يقبضه مكانه، وإن صالحه بعد حلول الأجل عن الدراهم بدنانير أو عن دنانير بدراهم؛ جاز، واشترط القبض"(2) .

وترجم كذلك البخاري باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث والمجازفة في ذلك، وقال ابن عباس: لا بأس أن يتخارج الشريكان، فيأخذ هذا دينًا وهذا عينًا، فإن توى لأحدهما لم يرجع على صاحبه (3) .

وروى البخاري بسنده عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: وسمعت عائشة رضي الله عنها تقول: سمع رسول الله صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟)) . فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب (4)، قال الحافظ ابن حجر: أي من الوضع أو الرفق، وفي رواية ابن حبان: فقال: إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال. فوضع ما نقصوا. وهو يشعر بأن المراد بالوضع الحط من رأس المال، وبالرفق الاقتصار عليه وترك الزيادة، ثم قال الحافظ:" وفيه سرعة فهم الصحابة لمراد الشارع، وطواعيتهم لما يشير به، وحرصهم على فعل الخير، وفيه جواز سؤال المدين الحطيطة من صاحب الدين. . "(5) .

(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5 / 311.

(2)

فتح الباري: 5 / 311.

(3)

فتح الباري: 5 / 310.

(4)

المصدر السابق: 5 / 308.

(5)

المصدر السابق: 5 / 309.

ص: 1572

يفهم من هذه الأحاديث أنه قد يصبح الصلح واجبًا إذا كان هو السبيل لقطع المخاصمة والنزاع، فيفهم من حديث كعب السابق وجوب القبول بالصلح عندما تقتضيه الدواعي، حيث أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بيده أن ضع الشطر، وفهم كعب ذلك ففعل، ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، بل قال:((قم فاقضه)) . وكذلك حديث عمرة فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع الشطر صلحًا وليس قضاء؛ لأن القضاء له ميزانه الخاص، والأمر حقيقة في الوجوب، وحينئذ يكون الصلح واجبًا عندما يكون هناك نزاع، ويمكن أن يؤدي إلى الإضرار بأحد الطرفين أو بكليهما، ولكنه يرد على هذا السؤال وهو: هل وجوب الصلح كان بسبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الخاص؟ أم أن ذلك وارد على كل حالة تتوافر فيها الدواعي التي كانت موجودة في حالة كعب وغيره؟

والذي يظهر لنا رجحانه هو الثاني؛ لأن الأصل في أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التشريع وليس الخصوصية.

ص: 1573

ولكن يرد سؤال آخر: هل وجوب الصلح في مثل هذه القضايا النزاعية يستفاد من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من ينوب عنه في الولاية السياسية (وهو ولي الأمر) ، أو أن هذا الأمر عام، أي سنة عامة، وبعبارة أخرى هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم كونه إمامًا فيكون خاصًا بمن هو إمام، أو مبلغ فيكون عامًا؟

فعلى ضوء التفسير الأول أي أن الصلح لا يجب إلا إذا صدر أمر من ولي الأمر بذلك؟ وعلى الثاني لا يجب ذلك.

وقد أشار البخاري إلى الأول حيث ترجم باب: هل يشير الإمام بالصلح؟ ثم أورد حديث عمرة بنت عبد الرحمن، وحديث كعب الذي أورده بلفظ: فمر بهما (أي بكعب وخصمه الذي طالبه بماله) فقال: ((يا كعب)) – فأشار بيده كأنه يقول: النصف – فأخذ نصف ماله عليه وترك نصفًا (1) .

قال ابن بطال: "وهذا الحديث أصل لقول الناس: خير الصلح على الشطر "(2) .

(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5 / 307.

(2)

فتح الباري: 5 / 309.

ص: 1574

وفي رأيي أنه حتى لو قلنا بأن وجوب الصلح قد أتى بسبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لا يدل على أنه لو صدر أمر من ولي الأمر في حالة التضخم بوجوب الصلح فإنه حينئذ يجب التصالح بين الدائن والمدين، وحل مشكلتهما بالتصالح والتراضي، وإلا فيشدد الحاكم في الأمر، ويحكم على الطرف الممتنع بالحكم البيّن، مثلما حدث من النزاع بين الزبير ورجل من الأنصار، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك)) . فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:((اسق، ثم احبس حتى يبلغ الجدر..)) ولذلك ترجم البخاري باب: إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم البين (1) .

ولكن الذي يظهر لي رجحانه أن هذا الأمر عام لا يحتاج إلى أمر الإمام وإشارته، وإنما هو خاص بالحالات التي لا يكون أحد الطرفين سببًا في المشكلة، بل تحدث بسبب آخر، مثلما يحدث في التضخم، حيث لا يعود السبب إلى أحد العاقدين، وإنما إلى أمور خارجة عن إرادتيهما، وحينئذ يجب التصالح بإزالة المظالم، والمشاركة في تحمل آثار التضخم.

وعلى ضوء ذلك فإذا لم يتم الاتفاق بين الطرفين فإن أمامهما اللجوء إلى المحاكم التي لابد أن تحكم على ضوء تحمل الطرفين آثار التضخم حسبما يحقق العدالة، أو إلى التحكيم، وهذا ما أراه الراجح في هذا المقام. والله أعلم.

(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5 / 309.

ص: 1575

وجوب توزيع الضرر على المتعاقدين

(بالفتوى أو بالصلح الواجب)

ذهب ابن عابدين (الفقيه الحنفي المعروف) وشيخه العلامة سعيد الحلبي إلى أن الضرر الناتج من تغير قيمة النقود (في غير الذهب والفضة) لابد أن يتحمله الطرفان: البائع والمشتري، والدائن والمدين، فقد أوضح ابن عابدين أن النقود التي سادت عصره كالريال الإفرنجي ونحوه، كثر صدور الأمر السلطاني بتغيير بعضها بالنقص، فكان الفتوى في وقته (1230هـ) استقرت على أنه ما إن يدفع النوع الذي وقع عليه العقد إذا كان النقد قد عُيّن، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق، وأما إذا لم يعيّن المتبايعان نوعًا من هذه النقود السائدة، فإنه يدفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد على أن يعطى الخيار للدافع (أي المشتري مثلًا) .

ولكن هذا الرأي لم يرتضه ابن عابدين؛ لأنه يؤدي إلى الإضرار بالطرف الآخر (البائع) ، حيث يختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر، نظرًا إلى نقص النوع الآخر، وهذا مما لا شك في عدم جوازه. وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأنفقهم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا، لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد، وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلأنه ظهر أنه يتمنع عن قصد إضراراه، ولاسيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.

ص: 1576

وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلًا، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى الصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة؛ لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلًا، وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه.

وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.

ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلًا ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلًا، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان، صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار كما قلنا، وفي الحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلًا ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا أصر ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وإن ألزمنا المشتري بدفعه بثمانية وتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقع الصلح على الأوسط، والله تعالى أعلم (1) .

(1) تنبيه الرقود: 2 / 66 – 67.

ص: 1577

ويمكن الإفادة من هذه الفتوى من عدة اعتبارات لها وجاهتها، وهي:

1-

أن ابن عابدين قال معللًا ترجيح قوله هذا بأن " المسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش"(1) .

وعلى ضوء ذلك نقول في موضوعنا الخاص بالنقود الورقية: إنها غير منصوص عليها بعينها، بل هي جديدة ومستحدثة، فيجب النظر إليها والاجتهاد فيها على ضوء مقاصد الشريعة ومبادئها العامة من تحقيق العدالة والمساواة بين طرفي العقد، وعدم الإضرار والضرار.

2-

أن نقودنا الورقية هي مثل القروش التي ذكرها ابن عابدين، حيث لا يتعين بالتعيين، حيث قال:" وإنما الشبهة فيما يتعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص ".

ومن هنا يمكن أن يستأنس بالفتوى الشائعة في عصر ابن عابدين عام (1230هـ) استقرت على:

" دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد، إذا لم يعين المتبايعان نوعًا والخيار فيه للدافع. . " فالذي اعترض عليه ابن عابدين هو أن يكون الخيار فيه للدافع، وأن يختص الضرر بالبائع، ولكن يستفاد منه دفع القيمة يوم العقد من حيث الجملة في النقود الورقية، وهذا ينفعنا في القول بأن النقود الورقية ليست مثلية دائمًا.

3-

يستفاد من مجموع ما ذكره ابن عابدين نظرية الأخذ بسلة العملات عند التقويم، والأخذ بالأوسط منها، كما سنوضحها فيما بعد.

4-

كما يستفاد منها أيضًا نظرية الربط بمؤشر معين للقروش؛ أي النقود غير الفضية والذهبية كما سيأتي.

5-

أن العقود لابد فيها من رعاية الرضا الحقيقي – كما قال بعض المفتين – وكذلك التساوي بين العاقدين في الحقوق، وفي توزيع الأضرار عليها إن تحققت، دون تخصيص أحدها بالآثار السلبية دون الآخر.

(1) المصدر السابق: 2/ 66.

ص: 1578

على أي معيار نعتمد في التقويم؟

وبعد هذا العرض لتلك الحلول ينبغي أن يبين المعيار الذي يرجع إليه عند التقويم لقيمة النقد الذي تم به التعاقد، سواء كان قرضًا أم بيعًا أم مهرًا أم مضاربة أم مشاركة أم نحو ذلك.

فهل نعتبر قيمة ذلك النقد بحسب الذهب والفضة، أم حسب سلة العملات، أم حسب سلة السلع الأساسية، أم يربط بمؤشر تكاليف المعيشة؟ هذه الاحتمالات كلها واردة، وهي كلها قابلة للنقاش، بل نوقش أكثرها في حلقات سابقة.

ص: 1579

ومن هنا فأمامنا أربعة معايير وهي:

المعيار الأول:

الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز، بحيث نقوّم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد، كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية، يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولاسيما في الرواتب والأجور.

ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الإنسان – وهو أغلى ما في الوجود – الإبل مع وجود النقدين – الدراهم والدنانير – في عصره.

ويقال: إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب.

وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قومها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذكر العلماء أن الإبل قد عزت عندهم، ومع ذلك لم يجعل الذهب أو الفضة أصلًا في الدية، ومن هنا زاد القدر حسب قيمة الإبل. فقد روى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم، فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت. قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا. (1)

قال الخطابي: " وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى؛ لكون الإبل قد عزت عندهم فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثماني مائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم، فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإبل في زمانه، فبلغ بقيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألفًا "(2) .

(1) سنن أبي داود، مع العون، كتاب الديات: 12 / 284؛ ورواه مالك بلاغًا في الموطأ: 2/530.

(2)

عون المعبود: 12 / 285.

ص: 1580

والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقرارًا تامًا، وإنما كانت تابعة لغلاء الإبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم:((أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا)) (1) .

كما روى الدارمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذهب ألف دينار (2) .

وروى النسائي: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، أو عدلها من الورق)) (3) ، وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر قال ابن جريج عن عطاء وغيره، عن جابر:((أخذته بأربعة دنانير)) . وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم. (4)

كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية اعتبار السلع الأساسية وجعلها معيارًا يرجع إليها عند التقويم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع ونقيس من خلالها قيمة النقود – كما ذكرنا – ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثير تساؤلًا حول ما إذا هبطت قيمة الذهب أيضًا: هل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: " وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأنصبة الأخرى الثابتة بالنص " ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأساسية، مثل الإبل والغنم والزروع والثمار، ثم رجح كون الإبل والغنم المعيار الثابت، حيث إن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد.

(1) سنن أبي داود، مع العون، كتاب الديات: 12 / 290؛ والترمذي، مع التحفة، كتاب الديات: 4 / 646، قال الشوكاني في النيل 8 / 271: وكثرة طرقه تشهد بصحته.

(2)

سنن الدرامي، كتاب الديات: 2 / 113؛ وراجع نيل الأوطار: 8 / 271.

(3)

سنن النسائي، كتاب القسامة: 8 / 43.

(4)

صحيح البخاري، مع فتح الباري، كتاب الشروط: 5 / 314.

ص: 1581

المعيار الثاني:

الاعتماد على الذهب واعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد – وفي جميع الحقوق والالتزامات – قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلًا لو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف ريال ويشترى به عشرون جرامًا من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشتري به هذا القدر من الذهب؛ وذلك لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتًا واستقرارًا، وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثلما أصاب غيره حتى الفضة (1) . ولذلك رجح مجمع البحوث الإسلامية الاقتصار – في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية – على معيار الذهب فقط، لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات (2) ، ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم، أن الذهب لم يقوّم بغيره في حين أن الفضة قد قومت به في مسألة نصاب السرقة، يقول السيوطي:

" الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض بالنسبة إليه " نص عليه الشافعي في الأم، وقال:" لا أعرف موضعًا تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة"(3) .

ثم إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة فبها ونعمت، وإلا فيرجع الأمر فيها إلى القضاء، أو إلى التحكيم ، تنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى والبيانات والقضاء.

(1) فقه الزكاة: 1 / 265 – 269.

(2)

مقررات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة (1965م) ، القرار (2)، ص 402؛ ويراجع فقه الزكاة: 1 / 264، وذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة هو ما اختاره الشيوخ الأجلاء أبو زهرة، وخلاف، وحسن رحمهم الله.

(3)

الأشباه والنظائر، ص 398.

ص: 1582

الجمع بين المعيارين:

ويمكن لقاضي الموضوع أو المحكم أن يجمع بين المعيارين بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد.

المعيار الثالث:

الاعتماد على عملة مستقرة نوعًا ما مثل الدولار، أو الجنيه الإستراليني، أو الين اليباني، وأولى منه الاعتماد على سلة العملات الدولية، وذلك بأن يعتمد في وقت الأداء على قيمة النقد الذي تم عليه التعاقد في يومه بمقابل الدولار الأمريكي، والجنيه الإستراليني، والمارك الألماني، والين الياباني، والفرنك الفرنسي، فيؤخذ متوسط الأسعار يوم العقد، فيجعل المعيار في قيمة النقد وقت الأداء، وقد ذكرنا في الحل الثاني والحل الثالث تأصيلًا فقهيًا لهذا.

المعيار الرابع: الربط بمؤشر تكاليف المعيشة:

ولا أدخل في تفاصيل هذا المعيار حيث كتبت فيه عدة بحوث ونوقش في الحلقة الأولى لندوة التضخم.

ص: 1583