الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإثبات بالقرائن والأمارات
إعداد
الدكتور عكرمة سعيد صبري
المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القرينة القاطعة
قرينة جمعها قرائن، وهي مأخوذة من المقارنة بمعنى الموافقة والمصاحبة. (1)
وتكون القرينة وسيلة من وسائل الإثبات إذا كانت قاطعة فتكون القرينة- حينئذ- الأمارة البالغة حد اليقين، أو هي البينة الواضحة التي يصبح بها الأمر المدلول في حيز المقطوع به، أو هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه، أو هي الحال التي تظهر على الشخص.
أما إذا كانت القرينة ضعيفة أو غير قاطعة فإنه يستأنس بها فقط وتكون مجرد احتمال. (2) .. .. ..
واعتبرت مجلة الأحكام العدلية القرينة القاطعة أحد أسباب الحكم. (3)
وعرفتها: هي الأمارة البالغة حد اليقين، (4) بينما المحاكم الشرعية في بلادنا لا تأخذ بها.
(1) المصباح المنير: (2/686) ؛ مختار الصحاح، ص532، 523؛ والقاموس المحيط:(4/259) ؛ والمدخل الفقهي العام: (2/909) الفقرة (535) ؛ وطرق القضاء، ص 439، 949.
(2)
معين الحكام، ص 203، وقرة عيون الأخيار (تكملة حاشية ابن عابدين) :(1/408) ؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: (15/144- 147) ؛ وأصول استماع الدعوى، ص 261؛ وعمدة الحاكم، ص87، 88؛ والأصول القضائية، 275؛ وتبصرة الحكام:(1/202و 2/111) ؛ والشرح الصغير: (3/529) ؛ ووسائل الإثبات، ص 378؛ والطرق الحكمية، ص 3، 6؛ وطرق القضاء، ص429، 443؛ والمدخل الفقهي العام:(2/909، 910، 1046، 1051) ، الفقرات 535، 536، 672، 675 على التوالي، والقضاء في الإسلام، د/ مدكور، ص93؛ ونظام القضاء في الشريعة الإسلامية، ص155؛ والفقه الإسلامي وأدلته، ص282.
(3)
المادة (1740)، ص353 من المجلة؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام:(15/144) .
(4)
المادة (1741)، ص353 من المجلة؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام:(15/145) .
أ - الأدلة على مشروعيتها:
1-
قال تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] .
لما أراد إخوة يوسف- عليه السلام أن يجعلوا الدم علامة صدقهم قرن الله سبحانه وتعالى بهذه العلامة علامة أخرى تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق، إذ لا يعقل أن يفترس الذئب يوسف- عليه السلام وهو لابس قميصه ويبقى القميص سليما دون تخريق أو تمزيق؟!.
فإن يعقوب- عليه السلام استدل على كذب أولاده بسلامة القميص وعدم تمزيقه.
واستدل الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل كثيرة من الفقه. (1)
2-
قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . [يوسف: 26- 27] ، ففي هاتين الآيتين دليل واضح على العمل بالأمارات فإن الملك العزيز حينما رأى قميص يوسف- عليه السلام مقدودا (مشقوقا) من الخلف استدل على أن زوجته هي التي راودت يوسف وأنه امتنع منها وفر من وجهها فمسكت بطرف قميصه لتمنعه من الفرار مما أدى إلى قده، واعتبر قد القميص قائما مقام الشهود. (2)
(1) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) : (9/149- 150) ؛ والطرق الحكمية، ص4؛ وتبصرة الحكام:(1/202، 2/111) .
(2)
الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) : (9/149- 175) ؛ والطرق الحكمية، ص6؛ وتبصرة الحكام:(1/202، 2/112) .
3-
قال تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] ، والسيما العلامة (1) وقد ورد لفظ (سيماهم) ست مرات في القرآن الكريم. (2)
4-
قال عليه الصلاة والسلام: ((الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها صمتها)) . (3) فجعل الرسول صلي الله عليه وسلم صمت البنات (أي سكوتها) قرينة على الرضا، ويعتبر هذا الحديث الشريف من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن. (4)
(1) تكتب (السيما) بألف مقصورة أيضا (السيمى)، وأصل الألف بالمد أو بالقصر- هو حرف الواو. (المصباح المنير:(1/404) ؛ ومختار الصحاح، ص323؛ والطرق الحكمية، ص12؛ وتبصرة الحكام:(2/111) ؛ والقاموس المحيط: (4/231) .
(2)
فتح الرحمن لطالب آيات القرآن ترتيب علمي زاده فيض الله المقدسي، ص231 المطبعة الأهلية، بيروت.
(3)
رواه مسلم عن الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية (وإذنها سكوتها) والمعنى واحد، (صحيح مسلم: 4/140- 141؛ ومشكاة المصابيح: 2/168 رقم 3127) .
(4)
تبصرة الحكام: 2/114؛ ووسائل الإثبات، ص381؛ ومعين الحكام ص204.
5-
روى الصحابي عبد الرحمن بن عوف (1) رضي الله عنه من حديث مطول بأن معاذ بن عمرو بن الجموح (2) ومعاذ بن عفراء (3) تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر. فقال لهما رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((هل مسحتما سيفكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله)) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. (4)
فإن نظرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى السيفين إنما ليرجح من القاتل، بما يراه من أثر الطعان وصبغ الدم فأعطى السلب لابن عمرو لوجود علامات تشير إلى أن سيفه أنفذ مقاتل أبي جهل فكان هو المؤثر في قتله.
وعليه فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: ((كلاكما قتله)) تطييبا لنفس معاذ ابن عفراء لأن له بعض المشاركة في قتل أبي جهل. (5)
(1) هو الصحابي عبد الرحمن بن عوف، ويكنى أبا محمد الزهري القرشي، وهو أحد المبشرين بالجنة وكان من أوائل الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، هاجر إلى الحبشة مرتين، وشهد المشاهد كلها وثبت في معركة أحد، وصلى النبي صلي الله عليه وسلم خلفه في غزوة تبوك، اهتم برواية الحديث الشريف وروى عنه ابن عباس، ولد بعد عام الفيل بعشر سنين (580م) وتوفي سنة (32هـ- 652م) ودفن بالبقيع وله من العمر اثنتان وسبعون سنة (الإصابة: 2/405، والاستيعاب: 2/285) .
(2)
هو الصحابي معاذ بن عمرو بن الجموح الأنصاري الخزرجي وشهد العقبة الكبرى (العقبة الثانية) وبدرا هو وأبوه عمرو. وقد قتل في معركة بدر أبا جهل بالمشاركة مع معاذ بن الحارث المشهور بـ (معاذ بن عفراء) . روى عنه عبد الله بن عباس. وتوفي في خلافة عثمان. (الاستيعاب: 3/241؛ والإصابة: 3/409) .
(3)
هو الصحابي معاذ بن الحارث بن رفاعة الأنصاري، وعفراء أمه وهي بنت عبيد بن ثعلبة. شارك هو ومعاذ بن عمرو في قتل أبي جهل في معركة بدر.، روى عنه ابن عباس وابن عمر، أما بالنسبة لوفاته فرواية تقول إنه توفي بالمدينة بعد بدر إثر جراح أصابته، وقيل توفي في خلافة عثمان. (الاستيعاب: 3/342؛ والإصابة: 3/408) .
(4)
صحيح البخاري: 2/197، باب من لم يخمس؛ وصحيح مسلم: 5/148- 149؛ ومشكاة المصابيح: 2/407رقم (4028) .
(5)
فتح الباري: 6/154؛ وعمدة القاري: (15/65- 67) ؛ وتبصرة الحكام: (1/203) ؛ وسبل السلام: (4/71) ؛ ووسائل الإثبات، ص380، 381.
6-
روى الصحابي زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإذا جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه. وإلا فهي لك)) . (1)
ففي هذا الحديث الشريف دليل على أنه يجوز للملتقط أن يرد اللقطة إلى من وصفها بالعلامات المذكورة من غير أن يحتاج إلى الإتيان بالبينة على أنها له.
ويعقب ابن قيم الجوزية بقوله: (الصحيح الذي دلت عليه السنة: أنه لا معارض لها، إن اللقطة إذا وصفها واصف بصفة تدل على صدقه دفعت إليه بمجرد الوصف فقام وصفه لها مقام الشاهدين بل وصفه لها بينة تبين صدقه وصحة دعواه) . (2)
ويقول: (....بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة) . (3)
وبهذا قال مالك وأحمد وبعض أصحاب الشافعي وأبو بكر الرازي الحنفي والمؤيد بالله والإمام يحيى. (4)
(1) متفق عليه واللفظ لمسلم (صحيح البخاري: 2/63؛ وصحيح مسلم: (5/134- 135) ؛ ومشكاة المصابيح: (2/145 رقم 3033) . معاني المفردات: وكاءها: الحبل الدقيق يربط به فم القربة أو الكيس أو غيرها، عفاصها: العفاص- وزن كتاب- الوعاء الذي تكون فيه النفقة، ويكون مصنوعا من الجلد أو القماش أو غير ذلك. استنفق بها: أي أنفقها على نفسك- والأمر للإباحة- وذلك بعد مضي سنة من الإعلان عنها. (النهاية لابن الأثير: (3/308، 4/228) ؛ والمصباح المنير: (2/571-572) ؛ وحاشية صحيح مسلم: (5/134) .
(2)
إعلام الموقعين: (1/97) ؛ ووسائل الإثبات، ص381، وأكد ابن فرحون في التبصرة:(2/112) هذا المعنى.
(3)
الطرق الحكمية، ص10.
(4)
نيل الأوطار: 6/94؛ والطرق الحكمية، ص10؛ والتبصرة:(2/104) ؛ ومعين الحكام، ص166؛ وعمدة الحاكم، ص87؛ ووسائل الإثبات، ص381؛ وأصول استماع الدعوى، ص262.
7-
حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه رضي الله عنهم متواترون برجم المرأة (1) التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد. (2)
ذهب مالك وأحمد - في أصح روايتيه- إلى أن الأخذ بالقرينة الظاهرة وإقامة الحد، وقال الحنفية والشافعية وأحمد - في الرواية الأخرى- بأن المرأة لا تحد بمجرد ظهور الحمل بها وإنما تسأل عن ذلك فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة أو لم تعترف بالزنا لم تحد.
ولعل ذلك إنما هو من باب درء الحدود بالشبهات لا لكون الحمل لا يدل على الوطء. (3)
8 – حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابن مسعود وعثمان رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف- بوجوب إقامة الحد على من وجد فيه رائحة الخمر أو قاءها اعتمادا على القرينة الظاهرة، وقال بذلك مالك وأحمد- في روايته الراجحة. (4)
(1) لعل المرأة التي رجمت كانت متزوجة سابقا فإما أن تكون مطلقة، أو أن يكون زوجها متوفى عنها.
(2)
الطرق الحكمية، ص6؛ تبصرة الحكام:(2/91، 114) ؛ ووسائل الإثبات، ص382؛ والقضاء في الإسلام، د. مدكور، ص94؛ وطرق القضاء، ص448.
(3)
المصادر السابقة.
(4)
إعلام الموقعين: 1/103؛ والطرق الحكمية، ص6؛ وتبصرة الحكام:(2/87و 114) ؛ وطرق القضاء، ص448؛ ووسائل الإثبات، ص383؛ والقضاء في الإسلام، د. مدكور،ص94، 95.
ب - أمثلة تطبيقية على القرينة القاطعة:
هناك عشرات الأمثلة تفيد الحكم بالقرينة القاطعة مبثوثة في كتب الفقه ونكتفي بإيراد ثلاثة منها:
1-
إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس- وليس ذلك عادته- وآخر هاربا أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة. حكمنا لمكشوف الرأس بالعمامة التي بيد الهارب قطعا ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف. (1)
2-
إذا خرج شخص من دار خالية خائفا مدهوشا وفي يده سكين متلوث بالدم وكان في الدار رجل مذبوح في ذلك الوقت فلا يشتبه في كونه قاتل ذلك الرجل، ولا يلتفت إلى الاحتمالات الأخرى كأن يكون الشخص المقتول ربما قتل نفسه أو ربما قتله آخر ثم تسور الحائط. (2)
3-
إذا رأيت رجلا فقيرا يحمل صرة فيها بعض الأموال- وسبق له أن دخل دار أحد الأغنياء- ثم رأيته بعد ذلك يتنازع مع صاحب الدار في المال المذكور فالقول لصاحب الدار لا للذي يحمل الصرة. (3)
ولكن إذا ظهرت بينة تدفع القرينة القاطعة فيحكم بموجبها. (4)
(1) ورد هذا المثال في معظم كتب القضاء (الطرق الحكمية، ص7، 9؛ والقضاء في الإسلام، د. مدكور، ص75.
(2)
الطرق الحكمية، ص7؛ والأصول القضائية، ص275؛ وعمدة الحاكم، ص87؛ وطرق القضاء، ص450.
(3)
عمدة الحاكم، ص88؛ وأصول استماع الدعوى، ص263- 264.
(4)
المصدر السابق نفسه.
جـ- موقف الفقهاء من القرينة:
1-
يعتبر الإمام ابن قيم الجوزية الحنبلي من أوائل الذين اعتبروا القرينة القاطعة وسيلة من وسائل الإثبات، في القضاء
…
ومن الذين دافعوا عن رأيه وتحمسوا له بل يذهب تحمسه به بعيدا ليقول بأن القرينة القاطعة- في بعض الأحيان- أقوى وأظهر من الإقرار والبينة. (1)
2-
ثم يأتي بعده القاضي ابن فرحون المالكي مؤيدا الأخذ بالقرينة كوسيلة من وسائل الإثبات، ويتوسع في هذا الموضوع ويخصص له بابا في القضاء بما يظهر قرائن الأحوال والأمارات والفراسة على ذلك من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة. (2)
بإيراد قول لابن العربي: (
…
على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، (3) فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها وقد جاء العمل في مسائل اتفقت عليها الطوائف الأربعة وبعضها قال بها المالكية خاصة) (4) .
هذا قول صريح بأن الفقهاء لم يتفقوا على جميع المسائل التي يحكم فيها بالقرينة.
(1) الطرق الحكمية، ص10.
(2)
تبصرة الحكام، ص11.
(3)
المصدر السابق، ص115.
(4)
المصدر السابق نفسه.
3-
يأتي القاضي الطرابلسي الحنفي- قاضي بيت المقدس - مؤيدا الأخذ بالقرينة يخصص بابا بعنوان مشابه للعنوان الذي ورد في كتاب تبصرة الحكام لابن فرحون ويبدأ هذا الباب- أيضا- بقول ابن العربي دون أن يذكر اسمه وإنما بدأ الطرابلسي بقوله: (قال بعض العلماء
…
) . (1)
ويأتي بعده العلامة بدر الدين بن الغرس الحنفي، (2) فقد ذكر في كتابه (الفواكه البدرية في البحث عن أطراف القضية الحكمية) بأن القرينة القاطعة تعتبر من طرق الحكم. (3)
(1) معين الحكام،ص203.
(2)
هو العلامة محمد بن خليل بن الغرس ولد بالقاهرة سنة 833هـ/ 1429م وتوفي بها سنة 894هـ/ 1488م وهو من فقهاء الحنفية وله عدة كتب منها: الفواكه البدرية في الأقضية الحكمية (الضوء اللامع: 9/220) .
(3)
قرة عيون الأخيار (تكملة حاشية ابن عابدين) : 1:408؛ وطرق القضاء، ص450؛ والأصول القضائية، ص275.
ويرى بعض الحنفية الذين جاؤوا بعده بأن كلامه من عنده، فقال في البحر: ولم أره إلى الآن لغيره، وقال الخير الرملي: ولاشك أن ما زاده ابن الغرس غريب خارج عن الجادة فلا ينبغي التعويل عليه ما لم يعضده نقل من كتاب معتمد فلا تغتر به.
إلا أن بعض العلماء ينتصرون لابن الغرس بقولهم: إنه منقول عنهم- أي عن العلماء المتقدمين- إلا أنه قاله من عند نفسه، وأن عدم رؤية صاحب البحر له لا يقتضي عدم وجوده في كلامهم. (1)
ويعقب الإمام محمد بن علاء الدين بن محمد أمين عابدين: (والحق أن هذا محل تأمل
…
) . (2)
ونؤكد أن هناك من علماء الحنفية من سبق ابن الغرس لهذا الموضوع ألا وهو القاضي الطرابلسي الحنفي- قاضي بيت المقدس - الذي ورد ذكره قبل قليل -هذا وقد اختلف أصحاب المذاهب الفقهية في الموضوعات التي تتناولها القرينة القاطعة: فالمالكية والحنابلة- في روايتهم الراجحة- يأخذون بها في جميع الموضوعات حتى في الحدود والقصاص.
بينما الحنفية والشافعية والحنابلة- في روايتهم المرجوحة- لا يأخذون بها في موضوعات الحدود والقصاص وإنما يأخذون بها فيما سوى ذلك.
أما إذا كانت القرينة غير قاطعة فيستأنس بها فقط ولا تعتبر- حينئذ- طريقا من طرق القضاء، وإنما رجاء الوصول من خلالها إلى الإقرار.
وعلى القاضي أن يتحرى في القرائن وأن يكون حذرا في الأخذ بها حتى يميز بين القرينة القاطعة والقرينة غير القاطعة. (3)
(1) قرة عيون الأخبار: (1/408) .
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
معين الحكام، ص203؛ وقرة عيون الأخبار: 1/408؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: (15/ 146- 147) ؛ وعمدة الحاكم، ص87- 88؛ وطرق القضاء، ص448و 450و 451و 461؛ والأصول القضائية، ص275- 276؛ وتبصرة الحكام:(2/114- 115) ؛ والطرق الحكمية، ص6و 13و 14؛ ووسائل الإثبات، ص382و 385و 386.
القيافة:
القيافة: اسم لاقتفاء الأثر.
ومتتبع الآثار يقال له: قائف، وجمعه: قافة، كبائع وباعة، وقاف أثره: تبعه.
وتشمل القيافة أيضا: الذي ينظر بفراسته في وجوه الشبه بين شخصين ليعرف بينهما النسب في الأبوة والبنوة والأخوة، فالقائف: من يلحق النسب بغيره.
كما تشمل القيافة: ملاحظة أقدام المارة من الناس، وأخفاف الإبل، وحوافر الدواب والتمييز بينها.
حتى أن القائف يميز بين آثار قدم الشاب وقدم العجوز، وبين آثار قدم المرأة المتزوجة من غير المتزوجة.
وبهذا المعنى يقول سبحانه وتعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ} [المائدة: 46] . ويقول: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ} [الحديد: 27] .
وتعتبر القيافة علما مستقلا قائما على الحدس والتخمين والممارسة، ولا يؤخذ هذا العلم بالمدراسة والتعلم. (1)
وهناك أمور تحتاج إلى دراسة وتخصص كبصمات الأصابع. (2)
(1) القاموس المحيط: (7/188) ؛ والمصباح المنير: (2/713) ؛ ومختار الصحاح، ص556؛ ومغني المحتاج: 4/488؛ وحاشية صحيح مسلم: (4/172) ؛ وطرق القضاء، ص463؛ والمغني:(5/769) ؛ وتبصرة الحكام: (2/109) ؛ ووسائل الإثبات، ص217.
(2)
إن التحقيقات الجنائية في معظم دول العالم تستأنس ببصمات الأصابع لأنه لا يوجد تشابه تام من كل الوجوه بين بصمتي أصبعين وإن بصمة الأصبع أثبت من الأختام والتواقيع، ومن العلماء من يدرج بصمات الأصبع ضمن القرينة القاطعة، ومما يدخل تحت قسم القيافة: إرشادات كلاب الشرطة (الكلاب البوليسية) إلى المجرمين اعتمادا على قوة حاسة الشم وتمييز الروائح بعضها من بعض (طرق القضاء، ص464) . كما يمكن الاستئناس بالفحوص الطبية والمخبرية في قضايا لها علاقة بالنسب والعرض والقتل وفي قضايا السرقات.
1-
رأي الفقهاء في القيافة:
أ - رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد وابن حزم) : أنهم يأخذون بالقيافة ويعتبرونها وسيلة من وسائل الإثبات، وأنها أقوى من القرعة، (1) واستدلوا بما يأتي:
1-
الحديث النبوي الشريف: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل على النبي صلي الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدا، وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقداهما. فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) (2) ، وقد كان لون أسامة أسود شديد السواد طويل القامة ولون زيد أبيض شديد البياض قصير القامة. وكان المنافقون- من أجل هذا- يطعنون في نسب أسامة بن زيد. فلما قال القائف مقالته هذه سر النبي صلي الله عليه وسلم، ولم يسر إلا لما هو حق وصدق.
2-
أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام بالقيافة. في حادثة اللعان فقال من حديث مطول: ((
…
أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضئ العينين فهو لهلال ابن أمية، وإن جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء)) . (3)
3-
عمل الصحابة بالقيافة أمثال: عمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك، ولم يخالف أحد من الصحابة رضوان الله عليهم جميعا فكان إجماعا منهم.
ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري وإياس بن معاوية وقتادة وكعب بن سوار. (4)
(1) المدونة: (2/83) ؛ وتبصرة الحكام: (2/108- 109) ؛ والشرح الصغير: (4/570) ؛ والمجموع: (15/305- 306و 17/413- 414) ؛ ومغني المحتاج: (4/488) ؛ وحاشية صحيح مسلم: 4/172؛ والمغني:5/766- 767؛ والطرق الحكمية، ص216- 217؛ وغاية المنتهى: 2/297؛ والروض المربع، ص263؛ والمحلى: 9/435؛ وسبل السلام: 3/263؛ وطرق القضاء، ص468- 470؛ ووسائل الإثبات، ص218، 219، 220.
(2)
الحديث متفق عليه وورد في الكتب السبعة (صحيح البخاري: (2/304و 4/170- 171) ؛ وصحيح مسلم: (4/172) ؛ وسنن أبي داود: (2/280 رقم 2267و 2268) ؛ وعارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: (8/290- 291) ؛ وسنن النسائي: (6/184) ؛ وسنن ابن ماجة: (2/787 رقم 2349) ؛ ومسند أحمد: (6/82و 226) .
(3)
صحيح مسلم: 4/209؛ وسنن النسائي: (6/171) .
(4)
المغني: (5/766- 767) ؛ والطرق الحكمية، ص216؛ ووسائل الإثبات، ص218.
وقد اختلف القائلون بالقيافة: هل يكتفي بقول قائف واحد أم لابد من اثنين كالشهادة؟ وقد اختار ابن قيم الجوزية أنه يكتفى بقائف واحد لأن كلامه خبر لا شهادة. وهذا أيضا قول ابن القاسم وابن حبيب من المالكية. ونسب للإمام أحمد أنه اشترط اثنين لأن القيافة أشبه بالشهادة وهي رواية عن أشهب عن مالك. (1)
ب- يرى الحنفية أن القيافة لا تعتبر وسيلة من وسائل الإثبات لأنها تعتمد على الظن والتخمين (2) والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . لذا فإن مجلة الأحكام العدلية لم تتعرض للقافة، وإن المحاكم الشرعية في بلادنا لا تعمل بها.
(1) المغني: (5/770) ؛ والطرق الحكمية، ص224؛ وغاية المنتهى:(2/297) ؛ وتبصرة الحكام: (2/108) ؛ وطرق القضاء، ص470.
(2)
المصادر السابقة.
2-
الترجيح:
يعقب الحنفية حول شرح الحديث الشريف الذي يتعلق بزيد وأسامة رضي الله عنهما والذي استدل به الجمهور بقولهم: لا دليل في هذا الحديث الشريف على ثبوت النسب لأن النسب ثابت بالفراش من قبل وإنما كان سروره عليه الصلاة والسلام بمقولة القائف بحكمه على صلة النسب بين شخصين تبين أنهما زيد وابنه أسامة رضي الله عنهما.
فهذه المقولة قطعت ألسنة الطاعنين في نسب أسامة بن زيد وكفتهم عن الكلام فيه.
ويرى الحنفية أن النسب يثبت بواحد من ثلاثة:
الفراش، الإقرار بالنسب، الاستلحاق.
أما الجمهور فقد زادوا أمرا رابعا وهو: القيافة، أي الأخذ بقول القائف عند عدم الفراش أو إذا لم يعارض قول القائف الفراش إذ الفراش أقوى ما يثبت به النسب شرعا. (1)
وقد انبرى الإمام ابن حزم للرد على رأي الحنفية حول القيافة بقوله: بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يسر بباطل ولا يسر إلا بحق مقطوع به. فمن أعجب أن أبا حنيفة يخالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه، وينكر علما صحيحا معروف الوجه. (2)
وأرى رجاحة رأي الجمهور ومدى أهمية الأخذ بالقيافة، وهذا ما أميل إليه وأفتى به، والله تعالى أعلم.
(1) طرق القضاء، ص468- 469؛ ووسائل الإثبات، ص221- 222.
(2)
المحلى: (9/435) .