الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صور استثمار الأراضي الوقفية فقهاً وتطبيقاً
وبخاصة في المملكة الأردنية الهاشمية
إعداد
الدكتور عبد السلام العبادي
وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية
في المملكة الأردنية الهاشمية
وعضو المجمع
صور استثمار الأراضي الوقفية
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وعلى آله الطيبين وصحبه أجمعين وبعد:
فإن موضوع استثمار الأراضي الوقفية يفرض نفسه على الاجتهاد المعاصر بهدف إيجاد صيغ جديدة، أو تطوير صيغ قديمة لإقامة مشروعات استثمارية على هذه الأراضي ذات جدوى اقتصادية تتيح مجالات لجذب رؤوس الأموال لهذا الاستثمار وفق هذه الصيغ على أن تكون مقبولة شرعاً.
وهذه المسؤولية التي يحملها الاجتهاد المعاصر في هذا المجال الحيوي يعود لعدة أسباب أهمها:
أولاً: طبيعة الوقف الخاصة.. والتي تقوم في أهم ما تقوم عليه على حبس العين الموقوفة عن التداول، فالوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وعندما فتح الفقهاء باب استبداله فقد فتحوه في حدود ضيقة وضمن شروط محددة، فصيغ استثمار الأراضي الوقفية يجب أن تقوم على استبقاء ملكية الأرض الموقوفة محبوسة عن التداول، وهذا أمر يحتاج إلى دراسات فقهية خاصة.
ثانياً: إننا في مجال استثمار العقارات الوقفية يجب أن نلتزم بالصيغ المقبولة شرعاً.. وهذا يجعل من كل الصيغ القائمة على التمويل الربوي غير مقبولة في هذا المجال، وهذا يتطلب من الاجتهاد المعاصر العمل على اقتراح صيغ استثمارية جديدة أو تطوير الصيغ السابقة، لتلبي احتياجات الاستثمار الكبير في هذا المجال مع ضرورة توافر إمكانيات القياس الدقيق للجدوى الاقتصادية للمشروعات من خلال أدوات الاستثمار المعتمدة، وهذه النقطة من المحاور الرئيسية لهذا البحث.
ثالثاً: نمو الاتجاهات الجادة في العديد من الدول الإسلامية لإحياء دور الوقف في خدمة جهات الخير والنفع العام، والوقف إذا لم يرافقه الاستثمار المجدي بهدف تكثير منفعته المسبلة لهذه الجهات لن يندفع الناس نحو إنشائه، وإلا فإن الوقف يمكن أن ينقلب إلى نوع من تعطيل المال، ولذلك اهتم فقهاؤنا ببيان المسؤولية الكبرى التي يحملها متولو الوقف في إعماره وإصلاحه ليظل يعود بالنفع إلى الجهات التي وقف عليها، وقد باتت تحمل هذه المسؤولية على الأوقاف الخيرية وليس الأوقاف الذرية في معظم الدول الإسلامية وزارات أو إدارات متخصصة في إدارة الوقف وتنميته باعتبارها متولياً عاماً على هذه الأوقاف الخيرية، وأمام ذلك أصبحت هذه المسؤولية تتطلب جهوداً كبيرة لاستحداث صيغ جديدة تلبي احتياجات الاستثمار المتزايدة أمام كثرة الأراضي الوقفية التي باتت تقع تحت مسؤولية هذه الجهات.
وإن تحمل هذه المسؤولية دفع عدداً من هذه الوزارات والإدارات إلى بذل جهود متميزة في استحداث مثل هذه الصيغ وتوظيفها في المجالات الاستثمارية المتعددة، وهذا يتطلب استعراضاً لمثل هذه الجهود ثم دراسة لإمكانية تقويمها على ضوء التطبيق لقياس مدى نجاحها في تحقيق الاستثمار النافع لأراضي الأوقاف مع الإلمام بما قرره الفقهاء في هذا المجال سابقاً ولاحقاً.
رابعاً: أهمية مشاركة قطاع الأوقاف في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية، لوجود العديد من الأملاك الوقفية التي يجب أن يشارك استثمارها في دفع عملية التنمية في هذه المجتمعات، نظراً لحاجتها لكل جهد اقتصادي يبذل في هذا المجال.
وقد دفع هذا الأمر البنك الإسلامي للتنمية وهو جهة تمويلية إسلامية دولية تحرص على دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأعضاء وفي المجتمعات الإسلامية في الدول الأخرى إلى تبني إنشاء صندوق لتنمية الأوقاف وتثميرها، يمكن للبحوث المقدمة أن تقف على نظامه الأساسي وإجراءات عمله لبيان حكم الشرع فيها، وذلك بعد استكمال هذه الأمور وتقديمها للمجمع لبيان الأحكام الشرعية الخاصة بها إجازة أو تعديلاً.
خامساً: يلاحظ أن كثيراً من الجهات الوقفية والخيرية في المجتمعات الإسلامية باتت تلجأ إلى صيغة الوقف لتمويل المشروعات الثقافية والتعليمية والصحية والاجتماعية، وأن التوجه الإسلامي أخذ يستجيب لهذه الصيغ وبدأ المحسنون يقفون الأوقاف المنقولة وغير المنقولة لهذه الأغراض، مما يحمل هذه الجهات مسؤولية كبيرة في استثمار هذه الأوقاف لتتمكن من تحقيق الأهداف الخيرة المنوطة بها.
وهنا لابد من التنبيه إلى أن كثيراً من هذه الأوقاف التي أخذت في القيام هي أوقاف نقدية، مما يتطلب اهتماما خاصاً باستثمارها الاستثمار الراشد الذي يحقق أهداف هذه الأوقاف في المجتمع، بالإضافة إلى الاطمئنان إلى استمرارها ونموها باضطراد بإقبال المحسنين عليها عندما يقوم هذا النمو على الاستثمارات النافعة المقبولة شرعاً.
سادساً: وقد اهتمت المملكة الأردنية الهاشمية بهذا الموضوع وتحركت في هذا المجال على أربعة محاور:
المحور الأول: عملية البناء الفقهي وبذل الجهود العلمية المناسبة لتأصيل صور جديدة للاستثمار في المجالات الوقفية.
المحور الثاني: التطوير التشريعي في إصدار القوانين والأنظمة لتنظيم صيغ تؤصل عمليات الاستثمار الوقفي وتفعلها.
المحور الثالث: البناء المؤسسي لجهة فاعلة تتولى تنفيذ ذلك بالعمل على إنشاء مؤسسة عامة مستقلة لتنمية الأوقاف واستثمارها.
المحور الرابع: الاستثمار الميداني في العديد من المشروعات المتنوعة، واستخدام الصيغ المعتمدة في مشروعات استثمارية عملية، مما يمكن من تقويم هذه الصور، وملاحظة كثير من التفصيلات والمشكلات التي يثيرها التطبيق.
ومن هذه الصور التي استخدمت أو تطورت لتستخدم والتي تتطلب جهوداً فقهية لدراستها (الاستبدال، الإجارة الطويلة، المغارسة، سندات المقارضة، عمليات التمويل المصرفي الإسلامي وبخاصة المرابحة، والمشاركة المتناقصة والاستصناع) ، هذا مع ملاحظة أن كثيراً من الصيغ المقترحة تصلح للاستثمار في كثير من القطاعات غير قطاع الأوقاف وفق مبادئ الاقتصاد الإسلامي وأسسه.
وعلى ضوء هذا التمهيد فإن هذا البحث سيهتم بالأمور التالية:
أولاً: طبيعة الوقف الخاصة وعلاقته بالاستثمار وصوره.
ثانياً: اهتمام الفقهاء بإعمار الوقف وإصلاحه.
ثالثاً: الصيغ التي قررها الفقهاء لإعمار الوقف سابقاً وهل يمكن تطويرها لتلبية الاحتياجات المعاصرة لإعمار الأوقاف.
رابعاً: صيغ جديدة لاستثمار الأوقاف.
خامساً: جهود المملكة الأردنية الهاشمية في هذا المجال.
أولاً- طبيعة الوقف الخاصة وعلاقتها بالاستثمار وصوره
الوقف لغة: الحبس والمنع.. ومنه وقفت الدابة إذا حبستها في سبيل الله، ومنها: وقف إذا منع نفسه من السير، وجمعه أوقاف كثوب وجمعها أثواب.. ومنها: قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] ، أي امنعوهم عن السير ليحاسبوا..
وقولنا أوقف بالهمزة لغة شاذة رديئة، أما الوقف في الاصطلاح الفقهي فقد تعددت تعريفات الفقهاء له على ضوء اختلاف مذاهبهم في كثير من أحكام الوقف من حيث لزومه وعدم لزومه ومن حيث اشتراط القربة فيه ومن حيث الجهة المالكة للعين الموقوفة بعد وقفها، إلى غير ذلك من أمور تحدد طبيعة الوقف وحقيقته في المذاهب الفقهية المتعددة.
فمن تعريفات الشافعية مثلاً: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه على مصرف مباح (1)، وعرفه أبو حنيفة بأنه: حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة. وعرفه الصاحبان بأنه: حبس العين على حكم ملك الله تعالى وصرف منفعتها على من أحب (2)، وعرفه أئمة المالكية بأنه: إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً (3) ، وعرفه أئمة الحنبلية بأنه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة (4)، وعرفه القانون المدني الأردني باعتباره مستمداً من الفقه الإسلامي استفادة من مجموع التعريفات السابقة: الوقف حبس عين المال المملوك عن التصرف وتخصيص منافعه للبر، ولو مالاً (5) .
وواضح من مجموع هذه التعاريف أن الوقف له طبيعة خاصة تقوم على حبس العين عن التداول وبالتالي لا يجوز فيها أي تصرف يمس هذا الحبس، فلا يجوز التصرف بالبيع أو الهبة أو بأي تصرف آخر يؤثر على ديمومة تمحضها لأن ينفق دخلها وما ينتج منها على الجهة الموقوفة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب المحافظة على استمرارية تدفق دخلها للجهة الموقوفة عليها، وأن أي عملية تمس ذلك يجب أن تكون في المحصلة لمصلحة هذه الجهة وفي إطار ما هو جائز شرعاً، وهذا أمر تقوم على تقديره الجهة المتولية لإدارة الوقف واستثماره تحت رقابة القضاء الشرعي ووفق الأسس والقواعد المقررة في القوانين والأنظمة السارية المفعول الملتزمة بأحكام الشريعة والتي تعتبر شرط الواقف كشرط الشارع ما يوجب مراعاته عند التعامل مع الوقف إدارة واستثماراً.
(1) حاشية القليوبي على شرح المنهاج: 3/97.
(2)
شرح فتح القدير: 5/416؛ حاشية ابن عابدين: 4/337.
(3)
مواهب الجليل شرح مختصر خليل: 6/18.
(4)
المغني لابن قدامة: 5/597.
(5)
المادة (1233) من القانون المدني الأردني.
والواقع أن الفقهاء في الأصل قد اختلفوا في ملكية العين الموقوفة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: إن العين الموقوفة محبوسة على حكم ملك الله تعالى.
المذهب الثاني: إن ملكية العين الموقوفة تبقى للواقف.
المذهب الثالث: إن ملكية العين الموقوفة تكون للجهة الموقوف عليها.
وقد رجح كثير من العلماء المذهب الأول باعتبار أن الوقف إزالة للملك على وجه القربة بحيث يمنع التصرف فيه بعد هذه الإزالة إلا عند الفقهاء الذين قالوا بعدم لزوم الوقف (ومن المعلوم أن الرأي الراجح القول بلزوم الوقف) فأجازوا للواقف الرجوع عنه، وعند ذلك يجوز بيعه أو التصرف فيه، لأنه لو كانت العين الموقوفة مملوكة للواقف أو الموقوف عليه لجاز لهم التصرف فيها، ولما كان هذا التصرف ممنوعاً فدل ذلك على عدم وجود الملكية، لأن الملكية تستلزم جواز التصرف.
ويؤكد هذا أن العين الموقوفة عند وفاة الواقف لا تنتقل إلى الورثة بل يظل حكم الوقف مشابه تماماً لحكمه قبل الوفاة.. مما يعني عدم وجود ملكية للواقف أو الموقوف عليهم، وإلا لانتقلت منهم للورثة.
والذي دفع الفقهاء الذين قالوا بملكية الواقف أو الموقوف عليه للعين الموقوفة ضمن شروط معينة هو الحرص على تمييز الوقف عن السائبة باعتبار أن الوقف ليس فيه إسقاط للملكية، إنما إبقاء لها على حكم ملك الواقف أو نقلاً لها للجهة الموقوف عليها.
وأما المذهب الراجح فيكون الأمر فيه من باب نقل الملكية إلى حكم ملك الله تعالى وحبسها على ذلك حتى لا يجوز التصرف فيها أو هو تصور فقهي يقوم على افتراض جهة مالكة يمكن التعبير عنها كما يرى كثير من الفقهاء المعاصرين بالشخصية الحكمية للوقف وهي التي عبر عنها الفقهاء القدماء بحبس العين على حكم ملك الله تعالى.. وإلا فمن المعلوم أن كل الأشياء ملك لله تعالى.
ثانياً-اهتمام الفقهاء بإعمار الوقف وإصلاحه:
واضح مما سبق أن أساس مشروعية الوقف هو استفادة الجهة الموقوف عليها من منفعة العين الموقوفة بشكل مستمر.. وهذا يتطلب أن يكون الوقف عامراً غير خرب، يستمر في تحقيق المنافع المقصودة منه بشكل مناسب، مما يعود بالفائدة على الموقوف عليهم، وإذا تعطل الوقف ولم يعد يحقق منفعة للموقوف عليهم، فلا معنى لاستمراره.. وقد كان هذا واضحاً في النصوص التي قررت مشروعيته في النظر الإسلامي.. فعموم النصوص التي دعت إلى إنفاق المال في سبيل الله من أجل تحقيق انتفاع الجهات المحتاجة يؤكد على ذلك وهو انتفاع هذه الجهات من مردود الأموال الموقوفة.
أما النصوص التي أشارت إلى الوقف بشكل مباشرة فالأمر واضح بين فيها وهي النصوص التي وردت في السنة النبوية الشريفة:
فقد أخرج البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري، أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمر به؟.. فقال:((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، قال: فتصدق بها عمر على أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف ويطعم غير متمول (1) ، فمدار الحديث على استمرار منفعة هذه الأرض تحقيقاً لحكمة حبس الأصل عن التداول.. والذي نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر به على أساس مبدأ حبس الأصل وتسبيل المنفعة (2) .
(1) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري: 5/354-355؛ صحيح مسلم بشرح النووي: 11/85-87.
(2)
نيل الأوطار للشوكاني: 6/1.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) (1) .
وقد حمل العلماء الصدقة الجارية على الوقف، وحتى تكون الصدقة جارية لابد أن تكون منفعة الوقف مستمرة.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال:((من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة)) ، قال: فاشتريتها من صلب مالي (2) ، أي جعلها على هذه الصورة التي طلبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم تستمر هذه البئر في تدفق مائها لخير المسلمين فأي فائدة من وقفها عند ذلك.
ومن هنا اهتم الفقهاء اهتماماً بالغاً في استمرار الوقف وديمومة عطائه ووضعوا من القواعد والأسس، وبينوا من العقود والصيغ ما يحقق ذلك ويعالج مشكلات خراب الأعيان الموقوفة أو قصورها عن أداء ما أريد منها عندما حبست وسبلت منافعها لجهات الخير المتعددة.
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 11/85.
(2)
فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 5/406؛ نيل الأوطار: 6/21.
ثالثاً-صيغ استثمار الوقف التي قررها الفقهاء سابقاً:
واضح أن المقصود هنا ليس الاستثمار العام في مثل الإجارة وبيع ناتج الأعيان الموقوفة، فهذا الاستثمار ليس من الصيغ التي نحتاج إلى بحثها هنا.. فقد كفانا الفقهاء مؤونة بحثها، فلا تخلو كتب الوقف في المصادر الفقهية المتعددة من دراسات تفصيلية حولها.. هذا مع ملاحظة أن الفقهاء قد وضعوا من القيود والشروط على تعامل متولي الوقف ونظاره ما يضمن الحفاظ على مصلحة الوقف مثل اشتراط ألا تزيد مدة الإجارة في الدور والمباني عن سنة وفي الأرض الزراعية عن ثلاث سنوات، واشتراط أن لا تقل الأجرة عن أجر المثل، وأن للقاضي أن يرفعها لذلك وأن لا يكون البيع لناتج الأراضي الوقفية بغبن يضر بالمال الموقوف هذا في الإجارة والبيع، كما تم اشتراط شروط مناظرة في مثل عقود المزارعة والمساقاة إلى غير ذلك من تفصيلات.
إنما المقصود بهذا البحث الصيغ التي استخدمها الفقهاء لإعمار الوقف عندما يتعرض للخراب أو عندما تحتاج أعيانه لإعمار مع بقاء وقفيتها أو دون بقائها وقد لجأ الفقهاء إلى هذا المجال إلى استحداث صيغ أهمها:
1-
الاستبدال، 2- عقد الحكر، 3- عقد الإجارتين، 4- عقد المغارسة
وفيما يلي كلمة تعريفية بكل صيغة من هذه الصيغ من زاوية الاستثمار التي أتحدث عنها:
1-
الاستبدال:
المقصود بالاستبدال عند الفقهاء إخراج العين الموقوفة عن الجهة التي وقفت عليها ببيعها على أن يشترى بثمنها هذا عيناً أخرى تكون وقفاً عوضاً عنها أو مقايضتها بهذه العين مباشرة إذا خربت العين الموقوفة أو تعطلت بعض منافعها، وكان هذا الفعل لمصلحة الوقف.
ويلاحظ هنا أن الفقهاء يستعملون كلمة الاستبدال وحدها مطلقاً فيكون هذا معناها، وقد يستعملونها مع استعمال لفظة الإبدال إلى جوارها فيكون الإبدال لمرحلة البيع بالثمن، والاستبدال لمرحلة الشراء بهذا الثمن.. وينص العلماء على تلازم هاتين المرحلتين، فلا يصح فصلهما إلا بالقدر الذي يستوجبه إنجاز هذا الأمر بما يحقق مصلحة الوقف ووفق رأي الخبراء العارفين.
وقد اختلفت المذاهب في جواز الاستبدال.. ومحور هذا الاختلاف قائم على أمرين:
الأمر الأول: هل تأبيد الوقف متعلق بالعين الموقوفة بذاتها أم يمكن أن يكون بغيرها إذا لم تعد صالحة لذلك، وقامت العين الجديدة بمهمتها؟
والأمر الثاني: هل هناك مجال لأن يؤدي هذا الاستبدال إلى ضياع الوقف فيجب إغلاق بابه سداً للذريعة أم أنه طريق إلى تجديد الفائدة منه عندما تتعرض الأراضي والعقارات الوقفية للخراب أو التلف أو القصور في تحقيق أهدافها؟
أ-فقد ذهب الشافعية والظاهرية إلى عدم جواز استبدال الوقف سواء أكان عقاراً أم منقولاً وسواء أكان في ذلك مصلحة للوقف أم لم يكن، وسواء أكان الواقف قد اشترط ذلك أم لم يشترطه، كما أنه لا يجوز ذلك للقاضي، ولا للحاكم (1) ، وحجتهم أن الحديث النبوي الشريف الذي ورد في مشروعية الوقف كان واضحاً أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، بالإضافة إلى مخالفة الاستبدال من حيث المعقول للتأبيد الذي يقوم عليه الوقف.
ب-وذهب المالكية في الراجح إلى عدم جواز الاستبدال في العقار الموقوف إلا إذا كان ذلك من أجل مصلحة عامة مثل توسيع مسجد أو طريق عام (2) .
(1) انظر نهاية المحتاج للرملي: 5/394؛ المحلى لابن حزم: 9/183.
(2)
الشرح الكبير للشيخ الدردير: 4/90؛ شرح منح الجليل للشيخ عليش: 4/69.
أما في المنقول فيجوز استبداله لأن منع الاستبدال فيه قد يؤدي إلى إتلافه وبينوا أن العقار يرجى الانتفاع منه ولو مستقبلاً بخلاف المنقول.. فهذا المذهب يفصل في المسألة ولكن الأصل عنده عدم جواز الاستبدال.
جـ-وذهب الحنبلية إلى جواز الاستبدال عندما تدعو الضرورة لذلك، فهو مذهب ينيط الأمر بالضرورة وهو أشمل من ربطه بالمصلحة العامة لأن المقصود هنا ضرورة متعلقة بالوقف نفسه (1) .
د-وذهب الحنفية إلى جواز الاستبدال في العقار والمنقول ولو لم يصل إلى درجة الضرورة (2) ، إذا كان في ذلك مصلحة للوقف ولو لم تتعطل مصالح الوقف تعطلاً نهائياً تاماً، خلافاً لمذهب الحنبلية، مثل إذا كان الاستبدال بهدف الحصول على عين جديدة أكثر ريعاً من العين الأولى فتكون بذلك أنفع للموقوف عليه، فهذه الصورة يجيزها الحنفية ولكن لا تجيزها بقية المذاهب المشار إليها.
وقد استدل الذين قالوا بجواز الاستبدال –على الخلاف القائم بينهم- بما وقع من إجماع على فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد فإنه لن يزال في المسجد مصل، وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يخالفوا فكان إجماعاً على جواز نقل الوقف وهو الاستبدال.
هذا بالإضافة إلى أن في الاستبدال من حيث المعقول استبقاء للوقف بمعناه بعد أن تعذر إبقاؤه بعينه.. فإذا تعذر تحصيل منفعة الوقف بالكلية بخرابه فإنه سيؤدي إلى تضييع غرض الواقف وفائدة الوقف، وبالاستبدال إعادة للوقف إلى أثره وثمرته المقصودة.. وإن التمسك بتأييد الوقف سيؤدي إلى أن تنقلب كثير من الأوقاف إلى خرائب، ومبان مهدمة، قال ابن قدامة: إن في الاستبدال أو البيع استبقاء الوقف بمعناه، وعند تعذر إبقائه بصورته وجب إبقاؤه بمعناه، وهو جريان لعطائه وثوابه، قال ابن عقيل: الوقف مؤبد فإذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه، استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطيلها تضييع للغرض (3) .
وأما الخوف من أن يضيع الاستبدال الأعيان الموقوفة، فهذا لا يعود لذاته إنما لسوء استخدامه واستغلال إجازته للاعتداء على الأوقاف والاستيلاء عليها.. وهذا يتطلب وضع الشروط والضوابط التي تصون الأوقاف من أن يعتدى عليها من هذا الطريق.
(1) المغني لابن قدامة: 5/631.
(2)
حاشية ابن عابدين: 3/384.
(3)
المغني لابن قدامة: 5/633
وقد ذكر الفقهاء كثيراً من الشروط التي مدارها على أن يكون الاستبدال لا غبن فيه لجهة الوقف وألا يكون الاستبدال مع من يرتبط بمتولي الوقف برابطة تثير شبهة المحاباة مثل البيع لقريب أو دائن للمتولي وكذلك اشتراط أن يكون البديل أفضل لجهة الوقف من العين المباعة.
وأما الضوابط التطبيقية فيمكن اقتراح العديد من الضوابط في هذا المجال مثل أن يكون الأمر من خلال اللجان المتخصصة، وتحت رقابة القاضي الشرعي.
وقد ذكر العلماء المعاصرون العديد من الصيغ الاستثمارية التي يمكن أن يكون الاستبدال طريقاً إليها منها:
1-
بيع جزء من الأرض الموقوفة لإعمار بقية هذه الأرض.
2-
بيع وقف من أجل إعمار وقف آخر يشتركان معاً في جهة الانتفاع.
3-
بيع عدد من الأملاك الوقفية لشراء عقار جديد ذي غلة عالية وهو أفضل لجهة الوقف.
وعلى ضوء التجربة العملية في المملكة الأردنية الهاشمية، فإني لا أشجع على التوسع في الاستبدال لسبب لم يشر إليه الفقهاء بشكل واضح وهو أن الاستبدال سيؤدي إلى إلغاء صفة الوقف عن الأراضي والعقارات التي بيعت أو استبدل بها.. وبالتالي قد يفاجأ الناس بزوال صفة الوقف عن أراضي وقفوها واعتزوا هم وأباؤهم بذلك.. فإذا بمتولي الوقف يزيل عنها صفة الوقفية بحجة أن غيرها أحسن منها.. لذلك أرى أن لا يلجأ إلى الاستبدال إلا لضرورة موجبة.. وهو ما نجري عليه عملياً في المملكة الأردنية الهاشمية هذه الأيام، وهو أحد المذاهب المعتبرة في موضوع الاستبدال وذلك وفق ما يلي:
1-
الأصل أن لا نلجأ إلى عملية الاستبدال للأراضي الوقفية أينما كانت في المدن والقرى والبادية، إنما نحافظ على الأراضي الموقوفة بالتسجيل والتسوير وبالاستثمار حسب الإمكان تأكيداً للمواطنين على دور الوزارة في رعاية الأوقاف والمحافظة عليها وتشجيعاً للمسلمين على مزيد من الأوقاف لجهات الخير المتعددة، ولو فتحنا هذا الباب لكان يعني هذا استبدال كل الأراضي الموقوفة في البوادي والقرى، لأن الأراضي في المدن أفضل منها.
2-
إذا دعت الضرورة للنظر في الاستبدال شكلت لجنة فنية مختصة لدراسة هذا الأمر ومعرفة مدى مصلحة الوقف بذلك.. وتكون الأولوية في الاستبدال أرضاً بدل أرض.. ولا يلجأ إلى الاستبدال النقدي إلا في حالات محدودة جداً مثل فضلات الطرق وعند وقوع الاستملاك للمنفعة العامة.
3-
لابد أن يعرض الأمر بكل تفصيلاته على مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية لاتخاذ القرار المناسب.
4-
لابد من أخذ موافقة القاضي الشرعي على الاستبدال للتأكد من مصلحة الأوقاف تمسكاً بنصوص الفقهاء في هذا المجال وكرقابة قضائية على هذا التصرف الهام.
5-
إذا كان الاستبدال بالنقد فيجب أن يتم بالسرعة الممكنة شراء عقارات وقفية به.
6-
وضع معظم هذه القواعد في نصوص تشريعية ملزمة.
2-
الحكر:
عرف القانون المدني الأردني المستمد من أحكام الفقه الإسلامي الحكر بأنه: عقد يكتسب المحتكر بمقتضاه حقاً عينياً يخوله الانتفاع بأرض موقوفة بإقامة مبان عليها أو استعمالها للغراس أو لأي غرض آخر لا يضر بالوقف لقاء أجر محدود.
وهذا التعريف يمثل نوعين من العقود سميت في الفقه: المقاطعة والإجارتين.. وكثيراً ما يطلق الفقهاء الحكر ويريدون به المقاطعة.. ويجعلون عقد الإجارتين قسيماً له لا قسماً منه.
وقد عرفوا المقاطعة بأنها: عقد يرتب حق قرار على الأرض الموقوفة على أساس الإجارة الطويلة أو الممتدة، على خلاف بينهم –وبحيث يدفع المستأجر مبلغاً معجلاً من المال يقارب قيمة الأرض يستخدم في إعمار الأراضي الوقفية، ويلتزم المستأجر بعد ذلك بدفع أجرة ضئيلة تستوفي سنوياً لجهة الوقف لإبقاء العلاقة معه على أن يكون للمستأجر حق البناء والغرس وهو مالك لها دون مساس بحق الوقف في ملك رقبة الأرض تمسكاً صورياً بتأبيد الوقف، وإن كان من حق المحتكر بيع الأعيان التي أقامها على هذه الأرض وتأجيرها كما أنها تنقل عنه بالميراث.
لذلك رأينا القانون المدني الأردني لا يأخذ بمبدأ الإجارة الممتدة هنا، إنما بمبدأ الإجارة الطويلة فاعتبر الحد الأعلى لعقد الحكر هو خمسون سنة. إلى غير ذلك من تفصيلات ليس هنا مجال الحديث عنها.
وواضح أن هذا العقد صيغة ابتكرها الفقهاء لتأمين إعمار الأراضي الوقفية رغم الأخطار الكبيرة التي رتبها ذلك على العقارات الوقفية، وبخاصة قبل ابتكار ترتيبات السجل العقاري التي تحمي الأراضي من التلاعب في ملكياتها نتيجة وضع اليد عليها أو تقصير ملاكها أو القائمين عليها. ونظراً لسلبيات هذا العقد فقد توقف العمل به في المملكة الأردنية الهاشمية منذ سنة 1974م بقرار من مجلس الأوقاف.
3-
عقد الإجارتين:
أما عقد الإجاريتن فهو عقد يكون على المباني الخربة المهدمة بحيث يقوم المستأجر بدفع أجرة مقدمة بمبلغ كبير يكفي لإعمارها ويقارب قيمتها ثم يلتزم بدفع أجرة سنوية ضئيلة يتجدد العقد عليها، فهناك أجرتان، المقدمة والسنوية ولذلك سمي بعقد الإجارتين.
والواقع أن عقد الحكر رغم ما فيه من سلبيات هو أجدى من عقد الإجارتين لأن المبلغ المقدم في الحكر تستفيد منه عقارات الوقف الأخرى، أما في عقد الإجارتين، فيستفيد منه العقار الوقفي المؤجر نفسه.
4-
المغارسة:
هو عقد تأجير للأرض السليخ لمدة طويلة يتفق عليها يلتزم فيها المستأجر بزراعة الأرض بالأشجار والغراس وكذلك بالتسوير، ويكون له خلال مدة الإجارة الانتفاع بهذه الأشجار والغراس وبعد انتهاء مدة الإجارة يعود الأمر لجهة الوقف، ويمكن تجديد الإجارة عند ذلك بأجر المثل باعتبارها أرضاً مشجرة.
وقد ساعدت هذه الصيغة في إعمار كثير من الأراضي الوقفية الزراعية في المملكة الأردنية الهاشمية.
رابعا- الصيغ الجديدة لاستثمار الأراضي الوقفية:
ولّد الاجتهاد الفقهي المعاصر في مجال الاستثمار مجموعة من الصيغ الإسلامية التي تصلح لتمويل إعمار الأراضي الوقفية، والذي يستلزم المحافظة على وقفية هذه الأراضي ومن هذه الصيغ:
1-
بيع المرابحة للآمر بالشراء:
حيث تتمكن جهة الوقف (المتولي الخاص أو المتولي العام من وزارات الأوقاف وإدارتها) من طلب شراء مواد البناء لإقامة المساكن والمكاتب والمحلات التجارية، وتجهيزها من جهات التمويل الإسلامية، وبحيث تطبق على هذا الطلب قواعد عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء. وواضح أن هذا العقد يمكّن من تمويل المواد التي يمكن أن تتملكها جهة التمويل وتدخل في ضمانها قبل بيعها بعد ذلك لجهة الوقف مما يعني ضرورة أن يكون لدى جهة الوقف الأموال اللازمة لدفع أجور المتعهدين والعمال والفنيين اللازمين للبناء، وثمن أي مواد لا يمكن تمويلها عن طريق عقد المرابحة من حيث طبيعتها مثل المواد التي لا يمكن تسلمها إلا راكبة في البناء مما يعني عدم إمكان تصور تملك جهة التمويل لها قبل تسليمها لجهة الوقف طالبة التمويل بهذا العقد.
2-
المشاركة المتناقصة:
حيث مكنت هذه الصيغة جهة الوقف من التعاقد مع جهة التمويل الإسلامية لبناء مشروع عقاري على الأرض الوقفية بحث يوزع دخله بين تسديد أصل المشاركة وتحقيق ربح معقول لجهة التمويل بالإضافة إلى إمكانية إعطاء نسبة لجهة الوقف حتى تنتهي هذه المشاركة بتسديد المال الذي دفعته الجهة التمويلية لإقامة المشروع، فيتمخض المشروع لجهة الوقف ويكون الوقف قد أعمر وانتفع الموقوف عليهم بتحسن دخل العين الوقفية بهذا المشروع. وتكون جهة التمويل قد حققت خلال مدة المشاركة نسبة الربح التي خصصت لها من دخل المشروع. وهذه الصيغة تتطلب أن يكون المشروع المطلوب إقامته على الأرض الوقفية مشروعاً ذا جدوى اقتصادية عالية بمعنى أن دخله منسوباً لما دفع لإنشائه يشكل دخلاً عالياً يمكن توزيعه بنسب معقولة بين تسديد رأس المال وتحقيق ربح معقول فضلاً عن إمكانية تخصيص ولو نسبة بسيطة لجهة الوقف من هذا الدخل، من منطلق أن المشروع سيؤول كاملاً مع دخله لجهة الوقف بعد اكتمال تسديد رأس المال.
3-
الاستصناع:
معلوم أن هذا العقد بات يستخدم على نطاق واسع في عمليات التمويل التي تقوم بهدف صناعة أعيان يمكن وصفها بدقة.. وأنه بات يستخدم في صناعة مثل عمارة أو مصنع أو طائرة أو سيارة أو سفينة كما كان يستخدم في صناعة نحو ثوب أو محراث
وقد كان اللجوء إلى هذا العقد أول مرة وفق تصور قدمته لمجلس إدارة وتنمية أموال الأيتام في المملكة الأردنية الهاشمية سنة 1989م وذلك في المواد التي يرغب بشرائها ولا يمكن للجهة التمويلية تسلمها ودخولها في ضمانها قبل دخولها في ملك طالب الشراء، مثل صناعة الحجر الذي تلبس به جدران البنايات وصناعة الأبواب والشبابيك والتي تقاس كمياتها وتحسب أثمانها بعد تركيبها ولا يمكن أن يتم ذلك قبل التركيب، ثم قدمت بحثاً حول هذا الموضوع لمجمع الفقه الإسلامي كان مع عدد من البحوث أساساً في اتخاذ قرار المجمع حول الاستصناع والذي فتح مجالاً رحباً لاستخدامه في التمويل الكبير للمشروعات وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
ومن المعلوم أن المشروعات العقارية يمكن وصفها بدقة من خلال المخططات والمواصفات التفصيلية الخاصة بالأبنية، وبذا يمكن لجهة الوقف أن تطلب من الجهة التمويلية صناعة بناية استثمارية بحيث تتفق على إنشائها مع الجهة التمويلية وفق شروط هذا العقد، وقد تم تطبيق هذه الصورة في إعمار بعض الأراضي الوقفية الأردنية.
4-
سندات المقارضة:
تم استحداث هذه الصورة أول مرة في المملكة الأردنية الهاشمية بقانون بهذا الاسم سنة 1981م ليكون بدلاً إسلامياً عن سندات التنمية التي تقوم على الفائدة في تنمية الأراضي الوقفية وما يشبهها وقد أعددت فيه بحثا مستقلاًّ قُدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورتين، وعلى ضوء ذلك نظم المجمع بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية ندوة مستقلة حول هذا الموضوع.. انتهت إلى عدد من التوصيات بخصوصها..وقد اقترحت الندوة في توصياتها هذه والتي تبناها المجمع بعد ذلك في دورته الخامسة صيغاً أخرى يمكن الاستفادة منها في تعمير الأراضي الوقفية
وتقوم فكرة هذه السندات على إصدارها بقيمة إجمالية تكفي لإعمار المشروع الوقفي وبحيث يعلن في نشرة إصدار هذه السندات عن قيمة كل سند وعددها.. وبحيث يوزع دخل المشروع على هذه السندات على أن تكون نسبة منه لسداد قيمة السند تدريجياً، أو بالتعبير التخصصي إطفاء السند تباعاً. والنسبة الأخرى تكون ربحاً لحامل السند. ويمكن تخصيص نسبة من هذا الدخل لجهة الوقف إذا لم يجر تقويم الأرض، وتخصص من البداية سندات لجهة الوقف بقدر قيمتها على ألاّ يكون بخصوص السندات المخصصة لجهة الوقف إطفاء باعتبار أن القصد هو المحافظة على ملكية العين الموقوفة وإعمارها بما يؤول في النهاية لمصلحة الموقوف عليهم. مما يعرف تفصيله بالعودة إلى البحوث الخاصة بالموضوع.
5-
الإجارة الطويلة:
وهي صيغة استثمارية تقوم على أن تقدم جهة الوقف أرضاً وقفية إلى جهة راغبة باستثمارها بمشروع نافع لها لمدة طويلة نسبياً بحيث تقوم هذه الجهة بإقامة المشروع النافع كمدرسة أو مستشفى أو بناية تجارية أو سكنية خلال فترة معينة يتفق عليها.. وخلال مدة الإجارة التي قد تكون لعشرين سنة – مثلاً أو أكثر أو أقل – تدفع هذه الجهة أجرة تحسب على أساس أن الأجرة الأساسية لهذه الأرض تتحقق بتقديم المشروع لجهة الوقف كاملاً عند انتهاء المدة، ويجري في العقد وصف هذا المشروع وصفاً دقيقاً حتى لا يقع خلاف حوله أو يؤدي إلى التفريط بحق الوقف بعمل مشروع بسيط مثلاً لا يعادل أجرة مثل الأرض.. وإذا رغبت هذه الجهة بالاستمرار في الاستفادة من المشروع بعد انتهاء المدة، فالعقد ينص على أن الأجرة تكون عند ذلك وفق أجر المثل للأرض والبناء.. وقد وضعت القواعد وصيغت العقود بما يضمن تحديد هذه الأجرة بشكل يحقق مصلحة الوقف.. وقد جرى تطبيق هذه الصيغة على نطاق واسع في المملكة الأردنية الهاشمية وأجرت الأراضي لجهات أقامت مختلف أنواع المشروعات التجارية والتعليمية والثقافية.
خامسا – جهود المملكة الأردنية الهاشمية في هذا المجال:
استعرضت سابقاً عند بيان مختلف الصور بعضاً من الممارسات التي جرت على الأراضي الوقفية في المملكة الأردنية الهاشمية.
والواقع أن هذا الأمر يحتاج إلى بحث مستقل يتحدث بالتفصيل عن الأمور الهامة التي أشرت إليها في التمهيد وترفق به القوانين والأنظمة والتعليمات التي صدرت بهذا الخصوص مع الدراسة والتحليل، كما ترفق به العقود الخاصة بكل هذه الصيغ مع تفصيل القول فيما تضمنت من بنود لبت ما ورد في الشريعة الإسلامية والتشريعات المستمدة منها بهذا الخصوص، بالإضافة إلى تقديم دراسة عن المشروعات التي نفّذت على الأراضي الوقفية وفق هذه الصيغ على أساس التقييم السليم لها في التطبيق ومعرفة مدى نجاحها في تحقيق الأهداف المنوطة بها، بالإضافة إلى دراسة ما يتم في المملكة من تطوير وتحديث في إدارة الوقف بصفة عامة وبحقل الاستثمار بخاصة مع التركيز على اقتراح إنشاء مؤسسة مستقلة لتنمية الأوقاف واستثمارها والذي تم تضمينه لمشروع قانون الأوقاف الجديد المعروض على مجلس الأمة لإقراره بصيغته النهائية في وقت قريب إن شاء الله تعالى مما أعد بإفراده بالدراسة والبحث قريباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
العرض - التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس (الشيخ بكر أبو زيد) :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة هو (استثمار موارد الأوقاف) ، والعارض هو فضيلة الشيخ خليفة بابكر الحسن.
العارض الشيخ خليفة بابكر الحسن:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
السيد الرئيس، السادة الأعضاء،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
مع التهنئة لمعالي الرئيس بتجديد مدته، والتمنيات له بالتوفيق إن شاء الله. وبعد ذلك يسرني أن أقدم لكم عرضاً لبحوث الجلسة الخامسة من جلسات هذه الدورة، والبحوث تدور حول استثمار موارد الأوقاف (الأحباس)، قام بإعدادها السادة الأساتذة الآتي ذكرهم وفق تسلسلهم: فضيلة الدكتور إدريس خليفة، فضيلة الشيخ كمال الدين جعيط، فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه.
وقد التزم الأساتذة العنوان المقترح من المجمع وهو: استثمار موارد الأوقاف، ما عدا باحثاً واحداً منهم جعل عنوان بحثه، أثر المصلحة في الوقف وفي كل الأحوال فإن البحوث المشار إليها قد غطت موضوع البحث وعالجته من كل جوانبه، والعناصر التي تكاد تكون البحوث مجمعة على تناولها هي: تعريف الوقف، وبيان ركنه، ومشروعيته وتاريخه، توطئة للحديث عن استثماره، تعريف الاستثمار مع بيان صلة الوقف بالاستثمار، ووسائل الاستثمار وطرقه المطبق منها والمتصور، وبما أن الحديث عن تعريف الوقف والقضايا المتصلة به كأركانه وحكمه ولزومه قضايا معروفة كما أن الحديث عنها يجيء بمثابة التوطئة للحديث عن الاستثمار، فسوف تكون نقطة البداية في هذا التلخيص بتعريف الاستثمار الذي انتهى أغلب الباحثين إلى أنه: عبارة عن استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات، هذا هو التعريف الذي تكاد أن تكون كل البحوث قد أجمعت عليه. وحكم الاستثمار مستحب في الأموال القابلة له بما فيه من أوجه النفع، وبعد ذلك فإن الاستثمار وثيق الصلة بطبيعة الوقف نفسه، لأن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهذه المنفعة لا تكون إلا عن طريق الاستثمار، ومن هنا كانت العلاقة الوثيقة بين الوقف والاستثمار.
وللفقهاء إشارات كثيرة في هذا المعنى، من ذلك، ما جاء في (نهاية المحتاج) : شرط الموقوف أن يكون عيناً معينة مملوكة ملكاً يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو مصلحة. فالفائدة والمصلحة والثمرة والريع أمور ملاحظة دائماً في الوقف.
يقول ابن قدامة في المغنى: "وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب فوقفه غير جائز ".
وتتضح العلاقة بين الوقف والاستثمار أكثر من خلال ما اشترطه الفقهاء في الموقوف في أن يكون مالاً متقوماً، والمال هو كل ما له قيمة وجاز الانتفاع به في حالة السعة والاختيار، واشتراط هذا الشرط في الموقوف يدل على العلاقة بين الوقف والاستثمار، لاشتراط المالية في الموقوف، وابتداء الاستثمار يكون من هذه المالية. واشترط جمهور الفقهاء في الموقوف أن يكون عقاراً أو منقولاً يتأتى الانتفاع به مع بقاء عينه، والعقار يمثل رأس مال ثابت يقوم عليه الاستثمار، وكذلك الموقوف الذي ينتفع به مع بقاء عينه. ويساعد في تأكيد العلاقة بين الوقف والاستثمار اشتراط التأبيد في رأي جمهور الفقهاء، وأن يكون الموقوف معلوماً علماً تاماً بحيث لا تشوبه جهالة تفضي إلى نزاع، فالجهالة الممنوعة التي تفضي إلى النزاع تمنع دائماً في المعاوضات، وهذا يدل على العلاقة أيضاً بين الوقف والاستثمار.
بالإضافة إلى ذلك هنالك أبواب في الوقف وظيفتها الإشراف عليه، وتنظيمه، واستثماره، كالولاية على الوقف من أجل ضمان سلامته ليكون دائماً صالحاً للاستثمار، كعمارة الأوقاف والإبدال والاستبدال، أو حمايته وضمانه عند غصبه أو الاعتداء عليه، وقد تحدثت بعض البحوث عن هذه الجوانب من جوانب الوقف التي هي وثيقة الصلة بالاستثمار وأفاضت في الحديث عنها.
طرق استثمار موارد الوقف في الفقه: تحدثت البحوث عن طرق استثمار الوقف في الفقه الإسلامي سابقاً وهي: الإجارة، وفي عقد إجارة الوقف يركز الفقهاء على مصلحة الوقف، فيرى الحنفية أن تكون مدة إجارة الوقف سنة في الدار، وثلاث سنين في الأرض الزراعية، ويفتون بإبطال الإيجار لمدة طويلة إلا إذا دعت إليها حاجة كعمارة الوقف بحيث لم يتأتى تعميره إلا عن طريقها، والمالكية يوافقون الحنفية في إجارة الوقف سنة أو سنتين لكنهم يقصرون ذلك على ما إذا كان الوقف على معين، أما إذا كان على جهة عامة كالفقراء ونحوهم فيجيزون أن تمتد مدة الإجارة إلى عشر سنوات ويوافقون الحنفية في إطالة مدة الإجارة إلى أربعين أو خمسين سنة إذا حملت على ذلك حاجة الوقف إلى الإصلاح والتعمير، وفي كل الأحوال فإن الأجرة تكون أجرة المثل، هذا هو العقد الأول المعروف عند الفقهاء الذي يتم به استثمار الوقف.
العقد الثاني عقد الإجارتين: وهو إيجار الوقف بإجارتين إحداهما معجلة والأخرى مؤجلة، وقد دعت الحاجة إلى هذا النوع من الإجارة عندما تخربت عمارات الوقف مع عدم وجود من يرغب في إجارتها إجارة واحدة، ومقتضى هذا العقد أن يؤخذ من المستأجر أجرة معجلة، مع ترتيب مبلغ آخر عليه يؤخذ منه آخر كل سنة باسم الإجارة المؤجلة، وتصرف الإجارة المعجلة على تعمير الوقف، أما المؤجلة فالغرض منها الإعلام بأن الموقوف مؤجر، ولسد الطريق أمام المستأجر بادعاء ملكيته مع مرور الزمن.
الحكر: وهو عقد يتم بموجبه إجارة الوقف المستأجر مدة طويلة وإعطاؤه حق القرار فيه، يبنى فيه أو يغرس مع إعطائه حق الاستمرار بعد انتهاء عقد الإجارة ما دام أنه يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض خالية من البناء والغرس الذي أحدثه فيها، ويسمى المستأجر وفق هذه الطريق محتكراً، والمالكية يسمونه الخلو.
الإرصاد: هو ما يرصد على الوقف حينما يتخرب ويحتاج للإصلاح ولا يتمكن متوليه من إجارته إجارة طويلة يصلحه منها، وتقدم من يصلحه وتكون نفقة من يصلحه ديناً مرصداً على الوقف.
هذه هي طرق استثمار الوقف التي جاءت في كتب الفقه وعرفها الفقهاء وكلها تدور حول فكرة الإجارة كما هو واضح.
أما الطرق المفتوحة وهي طرق يفسح المجال لها أن الوقف يقبل الاجتهاد، وهو يعتمد في الكثير من أحكامه عليه، وقد وردت في مشروعيته أصول مثل الآيات القرآنية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة، ثم كانت بعد ذلك كل الإجراءات التنظيمية المتصلة به أحكاماً تعتمد على الاجتهاد، وتعتمد على الاستحسان، وكذلك تعتمد على المصالح المرسلة، وتعتمد على العرف، وهذا يتيح لنا في زماننا هذا أن نقترح من الطرق ما يمكن أن يكون ناجعاً بحسب ظروف زماننا ومكاننا وأوضاعنا ما يمكن أن يكون ناجعاً في سبيل استثمار الوقف مع شرط سلامته من الناحية الشرعية، وهذا شرط بدهي، لأننا ننظم لطرق استثمار الوقف الذي هو مبرة وصورة من صور التقرب لله سبحانه وتعالى، وترتيباً على هذا فمن البدهي أن تكون الطرق المقترحة هي طرق تقرها الشريعة الإسلامية، وتتمثل الطرق المقترحة في الآتي:
1-
سندات المقارضة، وهي صيغة من الصيغ المقترحة للاستثمار المالي في عمومه ليس لاستثمار الوقف وحده، ويمكن الاستفادة منها في استثمار الأوقاف، وهي سليمة من الناحية الشرعية لأنها تقوم على المضاربة والمقارضة، مشتقة من القراض وهذه تسمية الحجازيين كما هو معلوم وتسمية العراقيين المضاربة، والمضاربة تعني دفع رب المال ماله لمن يتجر به نظير أخذه جزء من الربح حسبما يتم الاتفاق عليه ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً.
وفي سندات المقارضة يوزع المبلغ إلى وحدات متساوية القيمة، وكل من يملك وحدة يملك حصة شائعة في رأس مال المضاربة، ويتم هذا بعد دراسة التكلفة المتوقعة في كل مشروع لتمثل تلك التكلفة رأس مال المضاربة، ثم يوزع رأس المال بعد تقديره إلى سندات وتعطى هذه السندات لمن يحملونها ويشتركون في المضاربة، ويأخذ أصحاب الصكوك من عائد الربح الذي يكون بعد ذلك بحسب ما يتم الاتفاق عليه حين الإصدار في النشرات الخاصة بذلك، وحملة الصكوك هم أرباب المال، وفي حالة سندات المقارضة في الوقف فإن إدارة الوقف هي المضارب، وقد أجاز هذه الصيغة مجمع الفقه الإسلامي قبل هذا وضبطها بالشروط اللازمة التي تضمن سلامتها من الناحية الشرعية، وبتطبيق هذه الصيغة على الوقف تكون واحدة من طرق استثماره، إلا أنه قد تبدو بعض المحاذير من هذه المعاملة.
المحذور الأول: ضمان السندات عند انتهاء أجلها إذا عجزت إدارة الوقف عن إتمام المشروع، لأن إدارة الوقف مضارب، والمضارب أمين لا يضمن إلا في حالة التعدي أو التقصير، وقد عالج المجمع المحذور بعدم منعه من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة من عائد المشروع ووضعها كاحتياط خاص لمعالجة مخاطر خسارة رأس المال، أو النص على طرف ثالث منفصل بشخصيته وذمته المالية للتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في المشروع على أن يكون هذا الالتزام مستقلاً عن عقد المضاربة وبحيث لا يترتب عليه أثر قضائي إذا لم يقم هذا الطرف بالوفاء بما تبرع به.
المحذور الثاني: أن هذه الصيغة قد تؤدي إلى ملكية الممولين – حملة السندات - لحصة مشاعة في المشروع مما يؤدي ضمناً إلى تملكهم الجزئي لأرض الوقف، والرد على ذلك بأن سندات المقارضة يمكن أن يكون المالكون لها من الموقوف عليهم أو أن جزءاً من المالكين يمكن أن يكون من الموقوف عليهم.
2-
الصيغة الثانية: هي صيغة الاستصناع وهي من الصيغ الإسلامية المقرة المعروفة، ويمكن استخدامه في الوقف بأن تعلن إدارة الوقف عن استعدادها للسماح لجهة تمويلية بأن تقوم ببناء على صفة معينة على أرض الوقف مع تحديد أجل يتم فيه تسليم البناء وتحديد الثمن الذي تشتريه به إدارة الوقف (المستصنع) ويمكن أن يكون ذلك الثمن مؤجلاً كله وموزعاً على أقساط معلومة الآجال محددة، ولإدارة الوقف أن تقوم بدفع الثمن سواء كان مؤجلاً أو على أقساط من أي عوائد أخرى للوقف، كريع قديم مثلاً، فإن لم يكن للوقف ريع قديم يدفع منه الثمن يؤجر البناء ويسدد منه الثمن على أقساط بنهايتها يؤول البناء والأرض إلى الوقف وذلك كله بمراعاة الضوابط التي أقرها المجمع للاستصناع.
وقد يقال عن الحالة الأخيرة بأنها تدخل في البيع بالتقسيط فكأنما الجهة المصنعة قد صنعت البناء وقامت ببيعه لإدارة الوقف، لكن هذا مناقش بأن البناء قد تم بناء على اتفاق مسبق وبمواصفات معينة فهو استصناع، هذا فضلاً عن أن الاستصناع عند الحنفية بيع والمعقود عليه فيه هو العين المطلوب صنعها لا عمل الصانع، وعليه فإن الصانع لو أتى بما لم يصنعه أو صنعه غيره قبل العقد وكان مطابقاً للأوصاف المشروطة جاز ذلك.
3-
الصورة الثالثة من الصور المقترحة: المشاركة المتناقصة: وهي الأخرى صورة حديثة مشتقة من عقد الشراكة الذي هو عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح، وصورة المشاركة المتناقصة أن يشترك الوقف بأعيانه بعد تقييمها مع ممولين يتولون تكلفة الإنشاءات على أرض الوقف وبعد تتمة الإنشاءات تؤجر، ويأخذ كل من الممولين وجهة الوقف نصيبه من تلك الأجرة بحسب نصيبه في رأس المال، فجهة الوقف تأخذ نسبة تقابل الأرض أو الموجودات الأصلية التي دخلت بها الشركة، والممولون يأخذون نسبة تقابل المبالغ التي أنفقوها في التعمير، ويتم الاتفاق أيضاً بأن تقوم جهة الوقف بشراء المنشآت بأقساط مستخدمة في ذلك نصيبها من أجرة المنشآت ويستمر ذلك إلى أن تكتمل ملكية المنشآت لجهة الوقف فتكمل لها ملكية الأرض والمنشآت.
4-
الصورة الرابعة: الإجارة التمويلية مع البيع بالتقسيط، وهذه الصيغة الآن محل دراسة ولم يدل فيه المجمع برأي حتى الآن ولهذا أتجاوزها.
هذا عرض لما جاء بشأن الموضوعات المشتركة بين كل البحوث المقدمة، وفيما عدا ذلك فإن البحوث حفلت بكثير من التفصيلات الفقهية وبكثير من الثراء في معالجة الموضوعات التي تناولتها، على أن هنالك بعض الموضوعات تفردت ببعض المسائل كمسألة انتفاع الأوقاف بعضها من بعض، وخلط أموال الأوقاف عند استثمارها، ومسألة توقيت الوقف تشجيعاً عليه، وهاتان المسألتان تناولهما الدكتور إدريس خليفة في بحثه، وجاء عنه في شأن المسألة الأولى خلط إيرادات أموال الوقف العام حيث أفتى بجوازه فقهاء مذهب مالك والحنفية، واشتراط الشافعية والحنابلة التماثل من جهة الوقف، والقول بالجواز هو ما صرح به ابن قدامة من الحنابلة، والقول بجواز انتفاع الأوقاف بعضها من بعض فيه منفعة للأوقاف العامة جميعها، لذلك ينبغي صدور قرار من مجمع الفقه بذلك.
ثانياً: الأخذ بمبدأ توقيت الوقف أخذاً بمذهب الإمام مالك تشجيعاً على الوقف.
ثالثاً: ضرورة القول بجواز وقف النقود، وهو ما اتجهت إليه أيضاً في بحثي، ويدعو الباحث هنا إلى إنشاء صندوق للسلف لحل ضوائق الناس، وقد تناول الدكتور عبد الله بن بيه مسألة وقف النقود أيضاً، كما أن بحث فضيلة الشيخ كمال الدين جعيط حفل بكثير من التفاصيل الفقهية الدقيقة والخاصة بمذهب مالك، وركز الدكتور بيه على أثر الوقف في المصلحة وجعل مدخله إلى ذلك الحديث عن المصلحة فتحدث عن الوقف وعن المصلحة، كما تحدث عن الأحكام واصفاً بعضها بالتعبدي وبعضها بمعقول المعنى، ومن الأحكام المعقولة المعنى الوقف، ثم انتقل إلى مظاهر المصلحة أو تأثير المصلحة في الوقف، وأخيراً فإن ما يمكن أن ننتهي إليه من تصورات أو اقتراحات أو مسائل تحتاج إلى إعطاء فتوى فيها هي:
أولاً: الإفتاء بترجيح القول بضرورة انتفاع الأوقاف بعضها من بعض.
ثانياً: ترجيح القول بجواز وقف النقود والمنافع وتوقيت الوقف.
ثالثاً: التوصية بإنشاء جهاز مركزي للوقف الإسلامي يكون تابعاً للبنك الإسلامي للتنمية في جدة لمتابعة الدراسات الخاصة بالوقف بجوانبها الفقهية والقانونية والتاريخية والاقتصادية والجغرافية، وتصوير صكوك من كل البلاد الإسلامية وغير ذلك من المهام المتعلقة بالوقف.
رابعاً: الدعوة لحبس الوقف وتشجيع الوقف لمساعدة الأقليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية دفعاً لغائلة الفقر والحاجة عنهم.
خامساً: لابد من إصدار التوصية المناسبة بشأن أوقاف القدس ومدارسه.
وشكراً لكم سيدي الرئيس، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الرئيس:
ما المقصود بتصوير صكوك الأوقاف في العالم الإسلامي؟
خليفة بابكر الحسن:
يعني تصوير الحجج والوثائق وجمعها، فهذا مفيد من الناحية التاريخية والعملية.
الرئيس:
هذه عرضت.
خليفة بابكر الحسن:
هذه من الناحية التاريخية مقيدة ومن الناحية العملية أيضاً مقيدة.
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم،
شكراً معالي الرئيس.
يفرض موضوع استثمار الأراضي الوقفية نفسه على الاجتهاد المعاصر بهدف إيجاد صيغ جديدة أو تطوير صيغ قديمة لإقامة مشروعات استثمارية على هذه الأراضي ذات جدوى اقتصادية تتيح مجالات لجذب رؤوس الأموال لهذا الاستثمار، على أن تكون هذه الصيغ مقبولة شرعاً، وهذه المهمة حقيقة تأخذ أبعاداً خاصة لعدة أسباب:
أولاً: طبيعة الوقف الخاصة، فالوقف يقوم على حبس العين الموقوفة عن التداول، فالوقف لا يوهب ولا يورث حتى عندما فتح الفقهاء باب استبداله فقد فتحوه في حدود ضيقة وضمن شروط محددة، لذلك يجب أن تقوم الصيغ المستخدمة لاستثمار الأراضي الوقفية على أساس استبقاء ملكية الأرض الموقوفة محبوسة عن التداول، وهذا يتطلب كما قلت دراسات فقهية خاصة.
ومن جانب آخر فإن مجال استثمار العقارات الوقفية يجب أن يلتزم بالصيغ المقبولة شرعاً، فلا يمكن أن يبحث هنا عن أي صيغة تقوم على التمويل الربوي الممنوع شرعاً، لذا لابد من تطوير صيغ يتوافر فيها الحل الشرعي وإبقاء ملكية العين الموقوفة، واضح هنا أننا لا نتحدث عن الاستثمار العادي كما ورد في بعض البحوث المقدمة، الاستثمار العادي في الإجارة والمزارعة والمساقاة وغير ذلك، فهذا أمر مقرر في كتب الفقه ونصوصه واضحة، فقد وضعت أحكام خاصة لهذا الاستثمار في مجال الوقف، كأن قيدت مثلاً مدة الإجارة في الدور بسنة، وفي الأراضي الزراعية بثلاث للمحافظة على الأعيان الموقوفة وعدم بقائها في أيدي الناس لمدد طويلة قد تفقدها الوقفية ويدعون ملكيتها، المهم هو التحدي الذي تواجهه جهات الأوقاف في العالم الإسلامي الآن كيف تعمر هذه الأراضي الوقفية الواسعة العديدة ضمن طبيعة الوقف وبما يحقق الاستثمار وفق قواعد الشريعة، وخاصة نحن نتطلع في عالمنا الإسلامي إلى إحياء دور مؤسسة الوقف في خدمة جهات الخير والنفع العام، فإذا لم يرافق هذا الإحياء عملية استثمار جادة لأراضي الأوقاف فإن ذلك يؤدي إلى إحجام المسلمين عن الوقف لأنهم يلاحظون أن كثيراً من الأوقاف مازالت معطلة ولم تستثمر الاستثمار الجاد النافع، ومن هنا تحمل هذه المسؤولية الآن في الدول الإسلامية وزارات وإدارات متخصصة يجب أن تهتم –باعتبارها المتولي العام على الأوقاف- بهذا الجانب الحيوي المهم.
ثم إن مشاركة قطاع الأوقاف في عمليات استثمارية جادة سيساعد في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية ويؤدي إلى توظيف أموال الأوقاف في الخطط الخاصة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فلا يصح أن تظل هذه الأموال على كثرتها في بعض الدول معزولة عن المشاركة في عمليات التنمية.
وفي ظني هذا هو الذي دفع البنك الإسلامي للتنمية – كجهة تمويلية إسلامية تحرص على تحريك ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأعضاء- إلى فكرة إنشاء صندوق لتنمية الأوقاف وتثميرها، وكان المجلس التنفيذي لمؤتمر وزراء الأوقاف قد تطلع إلى أن يسمع رأي المجمع في هذا الصندوق ونظامه الأساسي لتكون عملية إقامته وفق قواعد الشريعة وأسسها في تنظيم عمليات الاستثمار، ولعله إن شاء الله في الدورة القادمة يعرض هذا النظام بشكل تفصيلي لتكون العملية قائمة ضمن هذه التطلعات الشرعية التي نحرص عليها جميعاً.
حقيقة في هذا المجال كان لنا دور في المملكة الأردنية الهاشمية في مجال المسؤولية التي تحملها الوزارة في تحقيق هذا الهدف الكبير، فلذلك حرصنا على التحرك على أربعة محاور:
أولاً: عملية البناء الفقهي وبذل الجهود العلمية المناسبة لتأصيل صور جديدة للاستثمار في مجالات الوقف، واقتراح سندات المقارضة كان دافعه الأول صدور قانون بشأنه سنة 1981م من أجل إعمار واستثمار الأراضي الوقفية باعتبار أن هذه السندات سندات تطفأ –باصطلاح الاقتصاديين- تدريجياً بمعنى أنها ملكية مؤقتة للسندات ينتهي هذا الاستثمار بانتهاء القيمة الاسمية للسندات ضمن شروط ومعايير أوضحتها قرارات المجمع والأوراق المعدة في هذا المجال، تنتهي الأرض الوقفية على أنها أرض وقفية على التأبيد ولا يحدث اشتراك في ملكيتها، وهذا أرجو أن يلاحظه أخي الدكتور خليفة لأن هذه الصفة الأساسية في سندات المقارضة أن هنالك عملية إطفاء لها في النهاية، وبالتالي تسديداً لقيمتها الاسمية، وهذا هو معنى الإطفاء، فهؤلاء المستثمرون وفق عقد المضاربة وتخريجاته الشرعية سينتهون في النهاية، فلذلك هي مضاربة منتهية بتمليك الجهة التي استثمرته، وهي جهة الوقف، فالمشروع في النهاية يصبح ملكاً للأوقاف وأيضاً اللجوء إلى عقد الاستصناع كان بناء على دراسة أعدت ضمن هذا الإطار، بالإضافة إلى صيغ أخرى سنشير إليها لم يتعرض لها أخي الكريم في عرضه، بالإضافة إلى التطوير التشريعي، لأن العملية لابد أن تكون مصانة بالتشريعات، فإذا لم تصدر تشريعات فإن العملية تصبح متروكة للهوى والارتجال، وبالتالي قد تؤدي مثل هذه الصيغ –إذا لم تكن منضبطة- إلى ضياع الأوقاف، وعلى أن يعد بناء مؤسسي يتطلع إلى هذا الهدف ضمن أسس وقواعد إدارية متقدمة حتى تكون العملية ناجحة.
وأما الاستثمار الميداني وإعداد صيغ العقود والتفصيلات فهذا أمر في غاية الأهمية لأنه لابد أن تنعكس المبادئ العامة على العقود التفصيلية التي تنظم مثل هذه الصيغ، واطلاع الفقهاء على صيغ العقود أساسي في ضمان التطبيق التفصيلي للأحكام الشرعية المقررة في هذه العقود سواء كان هذا يتعلق بسندات المقارضة أو بنشاط إصدارها أو في المشاركة المتناقصة أو في الاستصناع أو غير ذلك، فالحديث في هذا الموضوع يتطلب استعراض للصيغ، واستعراض للعقود التي تقوم على هذه الصيغ مما تصدى له بحثي الذي لم أتمكن من تقديمه مطبوعاً في الوقت المتاح ولكن إن شاء الله سيكون بين يدي لجنة الصياغة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به الكثير من التفصيلات والعقود والصيغ المقترحة على نطاق ميداني تطبيقي.
فهذه الصيغ لابد في الواقع من أن تدرس تفصيلاً وأن تكون الصفة الرئيسة فيها أنها لا تؤدي إلى قرار على أرض الأوقاف وبالتالي إلى بيع هذه الأراضي واستعراضها، ونحن في هذا المجال نميز بين الصيغ القديمة والصيغ المستحدثة، لأن الصيغ القديمة مدروسة فقهاً وبشكل تفصيلي كموضوع الاستبدال ودوره في إعمار الأراضي الوقفية وموضوع الحكر وموضوع الإجارتين وموضوع المغارسة، وهي صيغة متقدمة في الإعمار الزراعي، ولم يشر إليها في البحوث، ومن المفيد جداً أن توضع بين يدي أصحاب القرار في استثمار الأراضي الوقفية، أما فيما يتعلق بالصيغ الجديدة فهي كما أشار إليها أخي الكريم: سندات المقارضة والمشاركة المتناقصة والاستصناع، لكن هناك صيغة سميناها في المملكة الأردنية الهاشمية بالإجارة الطويلة وهي التي تأتي فيها جهة راغبة في إقامة مشروع معين على أرض وقفية فتتفق مع جهة الوقف على إقامة هذا المشروع على هذه الأرض التي تستأجرها من الجهة الوقفية، بحيث يكون قيمة المشروع الذي يتفق على تفاصيله وكل ما يتعلق بشروطه هو الأجرة التي تقدم لهذه الأرض خلال مدة معينة يتفق عليها مثل (20) عاماً أو أكثر أو أقل وبعد ذلك يصبح المشروع ملكاً لجهة الوقف، ويمكن إذا رغبت هذه الجهة أن تستمر في الاستثمار والاستفادة بما بنت من المشروع وأن يكون ذلك بأجرة المثل، وقد وضعت القواعد المحددة لأجرة المثل في تاريخه، والتي تضمن أن لا يكون هناك اختلاف حوله، وأرجو أن يولي المجمع هذا الموضوع أهمية خاصة نظراً لحاجة الأمة الماسة إليه.
وشكراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ إبراهيم الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم،
شكراً للإخوة الباحثين، وشكراً بصفة خاصة للشيخ خليفة الذي أتاح لي فرصة الحديث للإدلاء بهذه الشهادة التي وددت أن أدلي بها عند النقاش الذي دار حول الإجارة المنتهية بالتمليك، فالشيخ خليفة أورد من صور الاستثمار وإن كان قبلها قد أورد ما قاله شيخي الشيخ محمد أبو زهرة من أن صور التحايل واستخدام أحكام كالبدل والاستبدال وما إليها قد أقرت على الأوقاف، فقد أورد في صور الاستثمار أمراً يتعلق بالضبط في مد ظل عملية الإجارة المنتهية بالتمليك حينما قال عن المشاركة المتناقصة: إما أن تقوم جهة الوقف بشراء المنشآت من الممولين بأقساط وهذه الأقساط تنتهي في الأخير بالتمليك، هذا الموضوع الذي بدأه بعبارة تقول: إن الوقف لديه القابلية المطلقة للاستثمار بحكم أنه يمثل وعاءً مالياً متسعاً هو الذي يدل على أن تطور الاستثمار الغربي يمد ظله على أمتنا الإسلامية وعلى عالمنا الإسلامي ويكاد أن يقترب من الوقف أيضاً، الذي يهمني أن هذا النظام الذي يشير إليه الشيخ خليفة هو في الحقيقة قمة التطور الرأسمالي الغربي.
فالرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المالية –وأقصى درجات الرأسمالية المالية التي طبقت على أجزاء من عالمنا الإسلامي في ماليزيا وفي أندونيسيا وتمتد نحونا- هو النظام المعروف في المصطلح بـ (B.O.H) ابن وشغل وأجر، ثم سلم الملكية في الآخر بعد أن أوشكت على الانتهاء، إن هذا هو الذي سيمكن المصارف والشركات الاستثمارية المتعددة الجنسيات من بناء شوارعنا، وإقامة عماراتنا، وتقسيطها، وإدارتها تحت إشرافها، فهي تأتي بقروض ربوية وتؤجر ذلك آخذة في الاعتبار تغطية رأس المال أو القرض والفائدة والإدارة والربح، هذا النظام الذي وددت أن أتحدث عنه حينما كنا نتحدث عن الإجارة المنتهية بالتمليك، لا نريد أن نبحثها دون أن نعرف الإطار العام الذي تقدم فيه باعتبارها وسيلة استثمارية، الوسيلة الاستثمارية الآن وأعلى درجات وسائل الاستثمار المالي في الرأسمالية الغربية هو هذا النظام (ابن طرقاً أو عمارات أو مصانع بقروض تشغل المصارف وفوائدها وأجره وأجر المنفعة، واحصل على المقابل لتغطية رأس المال وتغطية الفائدة وتغطية الإدارة، ثم عند انتهاء المدة سلمه لهم) .
وعلى سبيل المثال فإن أندونيسيا وماليزيا وما إليها قد صارت شوارعها وعماراتها وكل مصانعها تدار بهذه الطريقة، أموال مقترضة بفوائد وتدار من قبل الغير ويستحصل عن طريق الإجارة للمنفعة من المواطنين ومن كل المسلمين حتى تغطى هذه القروض والفوائد والإدارة والربح.
إذن أنا أنبه وأضع هذه القضية في إطارها الذي يبدو لي أنه هو الإطار الصحيح الذي يجب أن نبحث فيه وأن نفكر فيه، وأنذر وأحذر، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونصلي ونسلم على نبينا محمد.
الأوقاف تنقسم إلى قسمين: أوقاف على معينين، وأوقاف على جهات، وأظن أن الحديث الآن لابد أن يكون هو الأوقاف على الجهات، أما الأوقاف على المعينين فغلته هي أموال خاصة للموقوف عليهم، وأرى أنه يجب علينا أن نميز بين هذا وذاك وأن نقول إن بحثنا واقع فقط على الجهات الخيرية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كون الأوقاف هذه يكون لها جميعها جهة خاصة، هذا أمر طيب ومستحسن، وهذا هو الذي يجمعها وينميها ويستثمرها ويصرفها في مصارفها الخاصة، ولكن الواقفين لكل واحد منهم جهة قصدها، والعلماء قالوا إنه يجب اتباع نص الواقف، فهذا أيضاً لابد من ملاحظته بأن تكون هذه الأوقاف تدار بجهة خاصة إلا أن هذه الجهة تميز، بمعنى أن يكون عندها تصنيف للأوقاف، بأن تجعل كل وقف يصرف للجهة التي وقف عليها، وهذا ما رأيته في البحوث الموجودة.
الأمر الثاني من حيث تأجير الوقف، وقد عارضه بعضهم وقالوا إذا كان على معينين فهذا لا بأس من طول مدة الإجارة، وهذا أيضاً عليه مؤاخذة، ذلك أن المؤجر إذا كان من المستحقين فإنه إذا أجر مدة طويلة معناه أنه يؤجر حق غيره، وإذن فلابد من أخذ أقل مدة يمكن فيها الإيجار إذا كان على معينين، وإذا كان على جهة عامة فهذا يراعى فيه المصلحة والذي يراعيها هو الناظر عليه أو القائم عليه، قال بعضهم عن الحكر في الأوقاف بأنه إجارة، والذي أرى والذي قرأته عن كثير من المحققين أنه ليس بإجارة وإنما هو بيع مقسط الثمن، ولو كان إجارة لكان له مدة محددة ومعينة، ولو كان إجارة لما صح للمستأجر أن يتصرف هذا التصرف فيما احتكر، يتصرف فيه بتصرفات المالك لا بتصرفات المستأجر، وكثير من الأوقاف فيها هذه الحكورات، فأيضاً لابد من مراعاة هذه النقطة.
الإخوان أطالوا عن صفة الاستثمار، وصفة الاستثمار لم يأت وقتها الآن، الآن نحن في دور جواز الاستثمار نفسه، ثم نحن في دور التجميع الآن، كيف تجمع هذه الأوقاف الخيرية؟ وكيف تجمع هذه الأوقاف المشتتة والتي ليس بأيدينا شيء منها ولا بأيدي من أردنا مثلاً أن يكون جهة فيه ليس بيده شيء منها؟ فطرق الاستثمار ينبغي أن تكون بعد ذلك، ثم إنها تتغير، الآن لدينا طرق تستحسن ويرى أن فيها فائدة ويأتي زمن تتغير ويكون الاستثمار خلاف هذا، فهذا ليس من وظيفتنا وإنما هو من وظيفة القائمين على هذه الأوقاف والآن يكفي أننا نصدر قراراً مثلاً بجواز الاستثمار وبتجميع الأوقاف الخيرية، ويوجد بعض الملاحظات، ولكن الوقت ضيق أؤجلها إلى وقت آخر إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الجلسة المسائية إن شاء الله نستكمل فيها هذا الموضوع، ثم في آخرها موضوع الجلسة المسائية الأصل وستكون إن شاء الله في الساعة السابعة مساء، الكلمة الآن لمعالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرات الإخوة الكرام،
أصحاب السماحة والمعالي،
إنه ليسرني جداً أن أذكر حضراتكم بما وقع توزيعه عليكم هذا الصباح، وهي جملة ملفات بعضها يتعلق بالمسنين والأطفال، والآخر يتعلق بالمرأة أو حقوق المرأة أو سلوك المرأة المدنى، وبعضها يتعلق بقضية التضخم والحلقات الدراسية التي وقعت من أجلها، كل هذه الموضوعات تحتاج إلى أن نتأملها بعض التأمل وذلك في جلسات متعددة، يعني أن كل فريق منا سيختار الجلسة أو الموضوع الذي يراه، ويقع هذا ابتداء من الغد، وسيحدد الوقت والمكان لهذه الجلسات لنخرج منها بالنتائج المرجوة التي كان إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها ينتظرونها منا، بالإضافة إلى هذه الموضوعات هناك موضوعان جديدان باعتبار أنهما لم يطرحا من قبل في هذه الفترة الأخيرة ولكنهما قديمان في الواقع، الموضوع الأول هو ترجمة القرآن الكريم، وبالنسبة لموضوع ترجمة القرآن الكريم أعد مجلس وزراء الأوقاف الذي يجتمع تقريباً كل سنة دراسات معمقة في كثير من الجزئيات التي تحتاج إلى إبداء الرأي، ثم أضفت أنا إليها دراسة نشرت أخيراً حول قضية ترجمة القرآن الكريم، هذا هو الملف الأول، والملف الثاني هو التفكير في إيجاد مؤسسة للقرآن الكريم لدراسات القرآن وللبحوث القرآنية والقراءات وغير ذلك من الموضوعات التي ترجع إلى هذه المادة.
فرجائي أن يقبل كل منكم على ما يريد من هذه الدراسات التي ينفع إن شاء الله بها ونلتقي في هذا الموضوع غداً صباحاً، وشكراً.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نستكمل المناقشة في موضوع استثمار موارد الأوقاف.
الدكتور حسن سفر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
سماحة الرئيس، سماحة الأمين العام، أصحاب الفضيلة،
أود بادئ ذي بدء أن أتقدم بالشكر والتقدير لأصحاب الفضيلة العلماء والفقهاء الذين قدموا لهذا المجمع هذه البحوث الفقهية القيمة والتي تكشف عن الكنوز والمكنونات الثمينة لفقه هذه الشريعة الغراء في معالجتها لقضايا العصر ومستجدات الحياة ونوازلها، وتطلع المسلمين في أرض الله المعمورة لتوصيات وقرارات المجلس الموقر كمنارات وضاءة مشرقة يستضئ بها المسلمون في خطوب الزمان ومدلهماته، والشكر موصول لجهود الفضلاء من العلماء على بحوثهم المتميزة بالدقة والشمول في أمر الأوقاف، والشكر لأستاذنا الدكتور خليفة بابكر على العرض والتلخيص.
سماحة الرئيس، هذا الموضوع الذي تنازع الناس في أمره وتشابك القريب والبعيد، والأهل والأقارب، وعجت الخصومات الدعاوى في محاكمه على جانب كبير من الأهمية، وهو الذي يوليه مجمعنا الموقر هذه العناية من استكتاب العلماء والفقهاء فيه، لكن هناك من الأوقاف ما عجز أهلها عن تعميرها، وتوقف ريعها إما خراباً وإهمالاً، فوجب معالجة أمرها وتنمية مواردها واستثمارها وفق التأصيل الفقهي والنظرة الموضوعية، غير أنني بعد الاستقراء في هذه البحوث أجد أن منها ما عالج طرق الاستثمار عند التعطيل ولكن بمنظور تقليدي واختصارات وإشارات، والبعض لم يتعرض لأمرها كمسألة المناقلات والاستبدال إذا تعطلت مصالحها، فلو تم نزع عقار أو استبداله وكان ثمن التعويض لا يفي بغرض شراء عقار آخر بديل في نفس البلد أو المدينة المنزوع فيها العقار، فهل يجوز شراء ما وجد في مدينة أخرى بنفس القيمة إذا كان فيه مصلحة للاستثمار في بلد آخر؟ لم أجد فيما عالجت به هذه البحوث هذه النازلة، ولا يخفى أن هذه النوازل قد كثرت في العالم الإسلامي وخصوصاً في دار غير المسلمين عند التحبيس، علماً بأن سماحة مفتى الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله، أفتى في فتاويه بعلاج هذه النازلة من منظور المصلحة، وأشار إليها الشيخ عبد الله بن دهيش، رحمه الله، في المناقلات في الأوقاف.
فحبذا لو تفضل المجلس الموقر عند اتخاذ التوصية بالنظر في هذا الموضوع لتطلع الناس في أن يبين حكمه، كما أن لي بعض الملاحظات ليس هذا موضع بسطها استثماراً للوقت أعرضها على فضيلة العارض حفظكم الله ورعاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ ثقيل الشمري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
شكراً فضيلة الرئيس والشكر موصول للعلماء الأجلاء في بحوثهم وللأستاذ العارض، في الحقيقة أحب أن أشكر المجمع على اهتمامه باستثمار أموال الوقف والاهتمام بها لما لها من أهمية في المجتمعات المسلمة، ويجب أن ينصرف ذلك إلى استثمار أموال الوقف في أوجه البر العامة، التي بين الباحثون صيغ استثمارها وهي صيغ أظنها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، لأن سبل استثمارها تختلف زماناً ومكاناً، والحكم فيها يختلف بحسب الأحوال، ونحب أيضاً أن نشير إلى مسألة يكثر فيها النزاع في المحاكم وفي الأوقاف وهي ما يوقفه الأثرياء ويوصون به بعد وفاتهم بأن ذلك الوقف يوقف على أوجه البر العامة ثم يتنازع فيه الناس، منهم من يقول إن ذلك وصية لا يجوز استثمارها وإنما يجب توزيعها حالاً، ومنهم من يقول إن هذا من الوقف لأنه أوصى بأن توقف بعد وفاته، وقد قال بجوازها بعض العلماء، فالذي يجري عليه العمل في بعض البلاد وما تدل عليهم أعرافهم أن ثلث الموصى به في وجه البر العام يسمونه وقفاً ويجرون عليه أحكام الوقف، وقد جرت بعض وزارات الأوقاف في بعض البلاد الإسلامية على ذلك، بل وقامت بعض المؤسسات على هذا في استثماره والمساعدة في أوجه البر العامة، والذي يظهر –والله أعلم- أن هذه الوصايا التي يوصي بها على أن تصبح وقفاً بعد الوفاة، لها حكم الوقف في أوجه البر العامة وأنه يجوز استثمارها، ولكن هذه الوصية إذا تعينت فهل لها حكم الوقف العام (الوقف الخيري) في أوجه البر العامة فيجوز استمارثها على القول بجواز استثمار الوقف في أوجه البر العامة؟ وهذا الذي نحتاج فيه إلى رأي المجمع، وهذا ما أحببت الإشارة إليه وشكراً لكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الشيخ يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وحبيبنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
وبعد، أحب أن أؤكد على أهمية مؤسسة الوقف في تراثنا الإسلامي وفي حياتنا الإسلامية، وينبغي الاهتمام بهذه المؤسسة وإحياء هذا الأمر حتى يؤدي ثمرته ويؤتي أكله، كما كان في السابق، فقد أدى الوقف مهمة كبيرة في الحفاظ على مؤسساتنا الدينية والعلمية والتربوية والفقهية وغيرها قروناً من الزمن.
والوقف الإسلامي كما أثبتت الحجج والآثار الوقفية ليس له نظير في أوقاف العالم كلها، حيث إنه شمل جميع الحاجات الإنسانية التي لم يكن ليتخيلها الناس، ولا داعي للإطالة في هذه الناحية، ولكن الذي أريد أن أشير إليه هنا هو أننا ينبغي أن نتوسع في إجازة أنواع من الوقف ربما لم تكن معروفة من قبل مثل ما أشار إليه أخونا فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه من وقف النقود، العالم الغربي الآن يوقفون النقود بالملايين على مشاريع خيرية أو إنسانية أو ربما دينية، فينبغي أن نستفيد من إيقاف النقود، والإيقاف أيضاً لفترات محددة، أي ليس من الضروري عملية التأبيد، هناك من المذاهب من أجاز الوقف لسنين محدودة، واحد يوقف مبلغاً أو يوقف عمارة أو دخل عمارة لمدة أربعين سنة أو عشرين سنة أو عشر سنوات، ينبغي أن نستفيد من هذا مادام هناك وجه للإجازة، ينبغي أن نتوسع في الإجازة.
أيضاً فقد اعتدي على أوقاف إسلامية كثيرة في بلاد شتى وللأسف نتيجة بعض الفتاوى من بعض علماء السلطة أو نحو هؤلاء، وهذا ينبغي أن ننكره ونطلب إعادة هذه الأوقاف المنهوبة إلى أصحابها، وبعضها موقوف على مؤسسات دينية ومؤسسات علمية وكان لها أثرها، واستولت عليها بعض الحكومات والأفراد بغير حق، مع أن الفقهاء اعتبروا أموال الأوقاف وأموال اليتامى في مستوى واحد، من يأكل مال الأوقاف كمن يأكل مال اليتيم، ولكن الناس اجترءوا عليها فمثلاً في بعض العمارات ترى الواحد يسكن في الشقة بخمسة جنيهات وهي تساوي خمسمائة أو أكثر، يعني أجرة المثل تساوي أكثر من مائة ضعف، فهذا أمر ينبغي أن ننكره.
هناك شيء ينبغي أن نلفت النظر إليه ذكره الأخ الشيخ خليفة وهو أوقاف القدس وهذا يفتح أعيننا على قضية في غاية الأهمية وهي قضية القدس كلها، ليست أوقاف القدس هي المهددة، القدس كلها بمسجدها الأقصى ومسجد الصخرة والأوقاف الإسلامية وأرض فلسطين كلها مهددة، والمعركة الآن حامية الوطيس، وأرى أن مثل هذا المجمع الموقر في عالميته وبأعضائه وخبرائه وضيوفه جدير أن يقول قولاً في هذه القضية، ولا ينبغي أن يجتمع هذا المجمع وينتهي ثم تظل هذه القضية لم يقل فيها شيئاً، المسلمون في أنحاء العالم ينتظرون من هذا المجمع أن يقول شيئاً عن القدس، وللأسف العالم الإسلامي واقف موقف المتفرج ليس هناك حتى صراخ! يعني كنا زمان ليس لنا إلا الصراخ، حتى الصراخ لا نصرخ! نهمس! والهمس ينيم اليقظان والصراخ يوقظ النائم، نحن لم نصرخ!! والعلماء عليهم أن يوعوا الأمة ويوجهوها حتى تصحو وتستيقظ وتعرف ما عليها، يجب أن يقول هذا المجمع شيئاً حول قضية القدس، الآن وهي معروضة للبيع والمساومات، في سنة 1969م حينما أحرق رجل أسترالي منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى هاج العالم الإسلامي من شرقه وغربه وشماله وجنوبه ومن أقصاه إلى أقصاه، وأدى ذلك إلى اجتماع أول مؤتمر قمة إسلامي وإلى انبثاق منظمة المؤتمر الإسلامي عن هذا الأمر، الآن الأمر أشد من مجرد إحراق جزئية بل هو ضياع العملية، الحفريات وما يجري من هذا النوع يكاد يضيع المسجد الأقصى وتضيع القدس كلها.
فأنا أرى أن على المجمع أن يصدر قراراً أو توصية أو نداء إلى العالم الإسلامي حتى ينبههم على أهمية القدس الشريف والمسجد الأقصى وثالث المسجدين المعظمين وأولى القبلتين، وشكراً، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سيدي الرئيس، إنني أتقدم إليك بالتهنئة والتنويه بدوركم القيم وإعادة انتخابكم على رأس هذه المؤسسة العظيمة منوهاً بدوركم القيم الذي أصبح منارة إشعاع علمي تضيء معارف مختلف أنحاء العالم وأعني المجمع الذي أنتم ترأسونه.
أما الموضوع فهو استثمار أموال الأوقاف والتي قدم الباحثون فيها دراسات قيمة وأحكاماً وآراءً وتصورات طيبة.
إن الأوقاف إذا تمت تنميتها واستثمارها بطرق عصرية دون تفويت عينها فإنها ستحل كثيراً من المشاكل الاجتماعية التي يواجهها العالم الإسلامي، وإن دراسة أموال الأوقاف لا تشكل خلافاً جوهرياً في شأن المبادئ العامة، مثل بقاء العين في وضع تستمر ملكيتها في ذمتها على ذمة الواقف دون أن يتصرف فيها، وملكية المنفعة في المحبس عليه، هذه مسألة لا شك في الاتفاق عليها، لكن الوضع الذي أصبح محيراً في استثمار أموال الأوقاف كما أشار إلى ذلك معالي الوزير العبادي في أول تدخل لمناقشة هذا الموضوع والذي يطرح التساؤل الكثير هو انعدام منفعة العين المحبسة وإمكانية بيعها وصرف ثمنها في عين أخرى.
أما تعريفه وأقسامه هل هو عام أو خاص؟ ومشروعيته وكيفية إدارة أمواله والتي هي ولاية، وتسمى النظارة، وكذلك مختلف الجهات التي يتم الوقف عليها، هذه مبادئ عامة تكاد تكون محل إجماع في جل الأحكام التي تطبق عليها، لكن الذي يبقى محل النظر هو تعطل منفعة الحبس بسبب هلاك العين أو جفاف الأرض أو التلاعب بما يعطيه الحبس من أموال، وأيضاً هل يمكن العمل على تنمية موارده وزيادتها بإدخالها في استثمارات لابد أن تزول معها العين الموقوفة باستعمال رؤوس أموالها بهدف تحسين إنتاجها في مقاولات وغيرها؟ فأمام صيغة المحبس التي هي ألفاظ عادة يتبعها المحبس بقوله: يبقى موقوفاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فلهذا يكون أي تفويت لهذه العين مخالفاً لغاية المحبس، وبالتالي فما دامت ذات العين قائمة هل يمكن إزالتها أو تفويتها؟ هذا لا يجوز عند جمهور علماء المذاهب، ومع ذلك فإنها لا تخلو من إشارات ولو غير مباشرة يمكن أن تستنبط منها الأحكام تجعل الحبس يستجيب للهدف الأسمى عند المحبس وهو استمرار إمكانية تنمية موارده مع بقاء عينه، المالكية يمنعون منعاً باتاً بيع العين المحبسة في الأصول خاصة، ويجيزون ذلك في المنقولات إذا كانت لا تفي بغاية المحبس وإلى ذلك أشار ابن عاصم بقوله:
ومن يبيع ما عليه حبسا يرد مطلقا ومع علم أسا
واستمر في القول إلى أن قال:
وغير أصل عادم النفع صرف ثمنه في مثله ثم وقف
واختلفوا في الملك المشترك بين الأشخاص إن أصيب أحدهم بفقر وأصبح لا شيء له هل يمكن أن تباع وتصرف عليه؟ أو تجعل في عقار آخر يمكن أن يدر عليه نفعاً أكثر من بقاء العقار المشاع الذي لا يدر عليه نفعاً؟ وإليه أشار ابن عاصم أيضاً قال:
وكل ما يشترط المحبس من سائغ شرعا عليه حبس
مثل التساوي والأخذ بالأسفل وبيع حظ من بفقر ابتلى
فالمالكية عندهم بيع العين الأصل غير جائز ولكنهم يمنحون الكاري حق ملكية الزينة التي أقامها على الأرض، فإذا اكترى داراً وخربت بسبب ماء أو تهدم فإنهم يجيزون له إصلاحها وبقاءه منتفعاً باستعمال عينها كراءً، وإن كان هذا الأمر أيضاً منعه بعضهم، وبما أن جميع الحالات التي تضمن استثمار سلامة أداء العين الموقوفة لغرض الواقف هو بقاء العين، فإن أكثريتهم لا تجيز استعمالها بأي طريقة من الطرق، والبحوث التي بين أيدينا تكلمت عن المواقف المرنة للحنبلية والمواقف التي أشار إليها كل الباحثين كانت قيمة جداً، ولكن تبقى أسئلة لا بد من طرحها في هذا الموضوع وهي: إذا بيع هذا المال فهل تركن النفس إلى سلامة ثمنه من التلاعب به؟ وإذا وضع في استثمار فهل هناك مؤسسات ستتقي الله في مال الأوقاف وتنميه تنمية تنفع الفقراء والمساكين وتجعله يبقى يخدم المصلحة التي وقف من أجلها؟ ثم أيضاً ما أشار إليه الآن الشيخ يوسف القرضاوي من أن أموال الأحباس درجت العامة على كرائها بثمن بخس تتعطل معه إمكانية صيانتها مما تدره من أموال، فهذا ينبغي للمجمع أن يشير إليه، وهذه العين التي ستباع؛ الذي اشتراها يريد من وراء شرائها ربحاً فهل يجوز لنا أن نحولها له بعقد هو يريد منه ربحاً ونتحاشى هذا الربح للواقف؟
هذه الأسئلة تجعلنا نقول بأن الفتوى أو القرار بزوال أصل الحبس من أجل استثماره أمر يكاد يكون يخالف نية المحبس، وأمر أيضاً لا ندري هل استخفاف الناس بالقواعد الإسلامية اليوم يجعله سيبقى ذلك البديل في المستوى أو في الطموحات التي طمح إليها المحبس؟ نحن نعلم في المغرب أنه كانت أحباس لكل الأشياء حتى للطيور وكانت أحباس بالعين: بالفضة والذهب، وهناك كانت أحباس للفقراء الذين يريدون الزواج، وأخرى للذين ساءت أحوالهم المادية، يستثمرونها فيرجعون عينها مع الربح، ولكن لاستخفاف الناس بالأوامر والنواهي بقيت هذه الأحباس تندثر حتى أصبحت اليوم في عداد حكايات الماضي.
إذن أنا أقول بأنه ينبغي الحذر من بيع العين، أما المنقولات فهذا شيء جائز، والذي ينبغي أيضاً أن يوجه إليه المجمع هو توجيه الناس لضرورة رجوع هذه السنة التي تكاد تندثر، وشكراً، والسلام عليكم.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه.
شكراً سيدي الرئيس لتمكيني من الكلمة في هذا الموضوع الهام الذي هو ثروة لكل قطر من أقطار العالم الإسلامي، وثروة إسلامية أيضاً كان لها دورها الحضاري في مختلف أوجه الحياة الإسلامية، فدخلت الأحباس في المعرفة، في التعليم، وفي الأمن، وفي الدفاع، وتوسعت قاعدتها مع مرور الزمن من العهد النبوي، حسب ما نقرؤه في السجلات القديمة أيام كانت الحضارة الإسلامية متألقة، ثم لما انتكست الحضارة تبعها أمر الأوقاف، وصدرت في هذه الفترة من الضعف فتاوى عمرت بها كثير من الكتب التي ألفت بعد القرن التاسع وأصبحنا نتخذ تلك الفترة كطريق من طرق الاستثمار مع أنها كانت تتناسب مع الوقت الذي تمت الفتوى فيه، وأنها حتى بالصيغ التي عبر بها عنها تدل على الضعف اللغوي للأمة الإسلامية في ذلك العصر، فنعلم أن الناصر اللقاني –رحمة الله عليه- أفتى بالخلو في أحباس السلطان الغوري وجاءت الفتوى بالكردار وجاءت الفتوى بالحكر، والذي أريد لفت النظر إليه في هذا المجمع هو أن يعاد النظر في هذه الفتاوى فإنها فتاوى الانهزام الحضاري وليست فتاوى التألق الفقهي بمعنى أنها كانت فتاوى للترميم لحالات لا يصح –بحال من الأحوال- أن نجعلها مستمرة خاصة في هذه اليقظة الإسلامية التي كانت من مظاهرها هذا المجمع الموقر الذي ينظر في قضايا العصر حسب المستجدات، وهنا ثلاث نواحي أريد أن أتكلم فيها:
الناحية الأولى: إعادة النظر في الفتاوى السابقة والتي ذهب ريع كثير من الأوقاف بسببها والتي لا أتهم فيها العلماء ولكنهم ما صنعوا أحسن ما يوجد في عصرهم.
الناحية الثانية: كيف نوسع دائرة الأوقاف؟ فدائرة الأوقاف قد تقلصت وأصبح الإقبال عليها أضعف بكثير مما كان عليه، ولاشك عندما تقوم الأوقاف بمهامها وعندما تقوم الأوقاف ويقوم القائمون عليها باستثمارها استثماراً يتناسب مع العصر ويكون مثالاً يكون ذلك داعية للمسلمين للإقدام على الوقف، فلا بد من النظر في هذا الأمر، حتى نعلم كيف نستطيع أن نوسع قاعدة الأوقاف ودعوة الناس إلى الاستمرار على ذلك التراث الذي كان لآبائهم وأجدادهم.
الناحية الثالثة: الاستثمار، وإذا ابتدأت كلمتي بأن الأوقاف ثروة فإن الثروات الأخرى لها أصحابها الذين يدافعون عنها، وفي هذا المجلس الموقر بذلنا مجهوداً كبيراً لمساعدة أصحاب الأموال على استثمار أموالهم بطرق شرعية وبطرق جديدة غير الطرق المعلومة والمعروفة من قبل، فهنا بالنسبة للأوقاف أيضاً لابد من نظرة شمولية كاملة، والشكر للمجمع لاختيار هذا الموضوع ولفت النظر إليه، وأقترح في هذا الباب أن يتصل المجمع باعتباره عضواً متميزاً في المؤتمر الإسلامي بجميع المؤسسات الوقفية في العالم الإسلامي وأن يحصر الطرق التي اتخذتها كل دولة بمفردها لتنمية أموال الوقف، ثم تتكون ندوة لذلك تنظر في كل هذه النواحي وتعطي للعالم الإسلامي صوراً جديدة من تنمية الأوقاف لما لها من امتياز واختصاص، هذه النواحي الثلاث التي أردت أن أتكلم فيها، وشكراً لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكراً للسيد الرئيس على إتاحة الفرصة لي للكلام، وأشكر الإخوة الذين قدموا هذه الأوراق وللأخ الدكتور خليفة الذي عرضها عرضاً جيداً، هناك بضعة نقاط أعتقد أنها مهمة في هذا الموضوع:
النقطة الأولى: والتي لا يمل المرء من تكرارها وهي أهمية أوقاف القدس وفلسطين عموماً، وأريد أن أضيف إلى ما قاله الشيخ يوسف بارك الله فيه أن هنالك وثائق معروفة وموجودة في الأرشيف العثماني وفي وثائق المحاكم العثمانية لهذه الأوقاف كلها وأوقاف القدس منشور فيها كتابان تفصيليان يذكران مواقع هذه الأوقاف وأوضاعها، هذه ينبغي أن نطالب بها نحن أي أن يطالب بها المجمع الفقهي الإسلامي لأنه أولى الناس بالمطالبة بها مع أهل فلسطين دعماً لأهل فلسطين في أوقاف القدس بالوثائق الموجودة.
النقطة الثانية: لاحظت من خلال قراءة الأوقاف أن هناك أحيانا عدم أو قلة دقة في استعمال بعض الألفاظ، فكلمة موارد الأوقاف قد تعني أملاك الأوقاف، وقد تعني إيرادات الأوقاف أيضاً، فأرجو أن يؤكد على أننا نقصد منها تنمية أملاك الأوقاف وليس استثمار إيرادات الأوقاف، لأن إيرادات الأوقاف هي من حق الموقوف عليهم فقط، ولا يمكن أن يستثمر إلا ما فاض عنهم، إذا لم يستعمل في مصرف آخر شبيه بالموقوف عليهم، إذا كلامنا بصورة رئيسية ينبغي أن ينصب على تنمية أملاك الأوقاف، وفي تقديري هذا التعبير أدق لأنه هو الذي نقصده من هذه العملية.
النقطة الثالثة: معنى الاستثمار هو الزيادة في الأصول، كما أشارت إلى ذلك إحدى الأوراق، فإلى أي حد نستطيع أن نأخذ من الإيرادات حتى نزيد في الأصول؟ هذا أمر ينبغي أن يكون واضحاً في النظر في الحكم الشرعي.
النقطة الرابعة: إن التنمية الحقيقة لأملاك الأوقاف لا تكون إلا بإعادتها إلى القطاع الخاص وإخراجها من الإدارة الحكومية التي يعرف الناس كلهم شرقاً وغرباً مدى ضعف قدرتها على التنمية في مشروعات مثل مشروعات الأوقاف، وقد ذكر الكثير من الإخوة القدر الكبير الذي انتهبت فيه الأوقاف وكان معظم هذا الانتهاب من السلطات الإدارية التي تسيطر على الأوقاف من الحكومة، إدارة الأوقاف الخاصة أهم نقطة ينبغي أن يبدأ منها من أجل تنمية أملاك الأوقاف، المشكلة في الأوقاف أنها على خلاف الشركات الشخصية فهي أملاك ليس لها مالك يحرص على تنميتها، فينبغي أن نضع الآلية المناسبة التي تعالج هذا الانفصال بين الملكية وبين الإدارة، لأن الإدارة لا تملك، وأعتقد أن هذه الآلية هي في أن تكون وزارة الأوقاف وزارة مشرفة، مراقبة، مفتشة، داعمة، معينة، بدلاً من أن تكون وزارة مديرة مستثمرة مشغلة بنفسها، هذه هي القضية الأساسية وما لم نعالج هذه القضية لا نستطيع أن نعالج مسألة تنمية أملاك الأوقاف، وقد كتبت في هذا الموضوع تفصيلاً.
النقطة الخامسة: أن هنالك عدداً من الصيغ التمويلية لتنمية أملاك الأوقاف يمكن لنا أن نفكر فيها من خلال أساليب الاستثمار المعاصرة دون الاعتماد على الأساليب التقليدية التي كفاني الكلام عنها فضيلة الشيخ السلامي وما صدر فيها من فتاوى، فنحتاج إذا إلى ابتكار هذه الصيغ الحديثة المناسبة للعصر لتنمية الأوقاف وأرى أن هذه الصيغ التمويلية يمكن أن نتخذ اتجاهين عريضين:
الأول: اتجاه اللجوء إلى الأفراد مباشرة من ناظري الأوقاف في الاستعانة بهم على تمويل الأوقاف من خلال سنداتهم وشهاداتهم وغير ذلك مما يمكن أن يصدر لاستدرار الأموال لتنمية أموال الأوقاف، وفي هذا بنود كثيرة لا مجال لتفصيلها.
أما الاتجاه الثاني فهو الاستعانة بالمؤسسات التمويلية، إسلامية، أو غير إسلامية على أساس إسلامي.
النقطة السادسة: هي أنه إذا أردنا أن نراعي مسائل الأوقاف في تنميتها فلابد من وضع ضوابط دقيقة تتناسب مع العصر في مسائل الاستبدال وفي مسائل تخصيص جزء من إيرادات الأوقاف لزيادة أصولها، إن تجارب الماضي دلت على أن هاتين المسألتين وهما كيفية استعمال إيرادات الأوقاف وضوابط الاستبدال كانتا مسألتين أساسيتين في انتهاب أموال الأوقاف.
وأخيراً أريد أن أنوه بالأهمية الكبرى لاقتراح فضيلة الشيخ السلامي بأن ندرس هذا الموضوع بالتفصيل وأن تعقد له ندوة خاصة، ولكنني أرجو أن يخرج هذا المجمع في جلسته هذه أو في اجتماعه هذا بقرار مهم بأنه لابد من العودة لتنمية أملاك الأوقاف وإعادتها إلى مجرى الاستعمال المفيد المثمر، هذا أمر أساسي تنبني عليه الندوة القادمة إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
إن موضوع الأوقاف هو موضوع له أهمية كبرى في الوقت الذي يحتاج فيه العالم الإسلامي إلى جهد كبير ليلج جميع ميادين العمل الخيري، وفي الوقت الذي تقوم فيه المؤسسات التي تسمى مؤسسات خيرية في الغرب بجمع الأموال وتنميتها واستثمارها وغزو العالم الإسلامي من خلالها، في هذا الوقت نحن جديرون بأن ننظر إلى هذه المؤسسة الخيرية التي تسمى بالوقف والتي هي مؤسسة فريدة، وكما نص فقهاؤنا لم تكن موجودة في الديانات القديمة، هذه المؤسسة التي كانت في وقت من الأوقات حصناً يلجا إليها طلاب العلم والفقهاء ويلجأ إليها الفقراء ويلجأ إليها المرضى، لعلكم تذكرون أوقاف قرطبة على المرضى حيث يقدم بعض المرضى دعواهم عندما يصلون إلى قرطبة حديثاً، ثم يتقدمون أمام المحكمة ليشملهم هذا الضمان الاجتماعي وهو الأوقاف، فتحكم المحاكم بحسب مذهب مالك أن من أقام أربعة أيام صحاحاً يعتبر من سكان قرطبة وبالتالي له الحق في هذا الضمان الاجتماعي، أضف إلى ذلك ما قامت به الأوقاف في تحصين الثغور وفي فك أسارى المسلمين وفدائهم إلى غير ذلك من الميادين التي ولجتها الأوقاف.
إذن لا نحتاج إلى تذكير بهذه الأهمية، لكن كيف نحيي هذه المؤسسات في حياة الأمة؟ في الحقيقة توجد عقبات، عقبات فقهية في النظرة المتأصلة هي أن الوقف ثابت لا يتحرك وساكن لا يسير، هذه النظرة الفقهية جعلت كثيراً من الأوقات تضيع إلى جانب الفساد التاريخي والاعتداء على الأوقاف الذي لا يزال مستمراً في بعض رقاع العالم كما سمعنا قبل قليل في القدس، لا بد إذن أن نزيل هذه العقبات.
وقد حاولنا من خلال دراسة الأوقاف عن طريق ما سميناه بالمصلحة أن نعتبر أن المصلحة أساس في الوقف وبالتالي أنها ليست من باب التعبدي كما توهمه النظرة الأولى إلى مذهب الإمام مالك والشافعي رحمهما الله، وقول مالك: دعها تغمرها الرمال بالنسبة للنخيل، وما قاله بعض الشافعية أن تلك الحصر التي في المسجد تحرق، كأنها مسألة تعبدية لا يفقه لها معنى وليست من معقول الأحكام، فهذه النظرة بقيت فترة من الزمن مسيطرة على الذهنية العامة في العالم الإسلامي، وضاعت كثير من الأوقاف بسببها، ثم كانت تؤجر بالبخس حتى تبقى العين ثابتة، بجانب هذا هناك موقف وسط هو موقف مذهب الإمام أحمد المتمثل في استبدال الأوقاف، وهذا الموقف سنرى في النهاية أن المالكية والفقهاء في الأندلس أخذوا به وأجازوا الاستبدال بشروطه وأصبح معمولاً به.
ثم إن هناك موقف متقدم وهو موقف جماعة من العلماء منهم بعض الأندلسيين من أصحاب مذهب مالك ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهم بعض الحنفية وهو أن الأوقاف مصلحية، والمصلحي هذا عبارة ابن رشد، لأنه قسم الأحكام إلى مصلحي وتعبدي، وأنه يجوز التصرف فيها حسب المصلحة الراجحة وهي عبارة ابن تيمية، وأن المصلحة الراجحة تجيز الاستبدال وتجيز المعاوضة، وهكذا وجدنا هذا المذهب مقبولاً وصحيحاً من حيث الأدلة، وبالتالي إذا وافقنا على هذا المذهب سنكون قد أزلنا عقبة كبيرة في طريق استثمار الأوقاف والتعامل معها، في الأندلس كانت فتوى ابن رشد الجد –رحمة الله عليه- صاحب البيان والتحصيل بأن وفر الأوقاف يستعمل في اشتراء الأصول وهي النظرة الاقتصادية التي أشار إليها بعض الإخوان قبل قليل فقال: الوفر هي العبارة التي استعملها أهل الأندلس وهو ما زاد عن حاجة أهل الوقف، وبالتالي فإن الوفر يمكن أن يكون أساساً للاستثمار لأن اشتراء الأصول معناه الاستثمار، ثم إن العين توقف للسلف، وهو قديم في مذهب مالك، والسلف هو قريب من المضاربة أيضاً، وقد جاء عن غيرهم أنها توقف للمضاربة، فيجب أن نرجح هذا القول فنقول: توقف العين للمضاربة للقراض وللأهداف الاستثمارية، وأن نزيل هذه العقبة نهائياً من أذهان الناس، لكن مع ذلك هناك تحذير هو أن الوقف في الأصل ما لم يكن مؤقتاً –والقول بالتوقيت في مذهب مالك- فالوقف حكمته هو استمرار العين أو استمرار المنفعة، وهناك رأيان للعلماء منهم من يقول باستمرار العين (الإبقاء على العين) ، ومن يقول بالإبقاء على ديمومة المنفعة، فلا بد إذن من اتخاذ الإجراءات للإبقاء على ديمومة المنفعة، وهذه المعادلة صعبة ويجب أن تتخذ كل الإجراءات في تحصيل هذه المعادلة.
وفي هذا الزمان نشأت وزارات أوقاف، وجرت عادات وأعراف في مختلف الأقطار الإسلامية، وهذه الوزارات أصبحت هي الجهة التي تمثل الإمام في رعاية شؤون الأوقاف العامة أو الأوقاف المجهولة المصرف، وهي تتمتع بصلاحيات واسعة إلى جانب القضاء في تقديم النظار وعزلهم، إلا أن القضاء هو الذي يحكم في الخصومات، والترتيب القديم للعلماء هو الناظر، وبعده القاضي.
وقد ذكرت هنا مسألة وقعت في القرن الثامن الهجري، حيث كان ناظر الوقف قد ذهب إلى القاهرة، ثم اختلفوا بعد ذلك في ما الذي يجب عمله فاستفتوا من علماء المذاهب الأربعة: علي بن جلال المالكي، والسراج البلقيني الشافعي، والشيخ محمد بن أحمد السعودي الحنفي، والشيخ عبد المنعم البغدادي الحنبلي، فأفتوا جميعاً بأن القاضي يقوم مقام الناظر، وهذا يدل على اهتمامهم بالوقف حيث لم يقتصروا على مذهب واحد بل استشاروا جميع علماء المذاهب حتى تكون الفتوى إجماعية كأنهم يمثلون مجمعنا هذا الذي تمثل فيه مختلف المذاهب، لهذا أرى أن التعاون بين وزارات الأوقاف والقضاء والجهات الخيرية الواقفة والجهات المنتفعة يمكن أن يعد برنامج الاستثمار الذي يراعي الناحيتين الشرعيتين والمصلحة بحيث يحافظ على الموازنة الدقيقة بين انفتاح الوقف لمقتضيات المصالح الراجحة المحققة أو المظنونة، وبين الإبقاء على الوقفية التي تتمثل في بقاء العين أو ما يقوم مقامها للمحافظة على طبيعة الانتفاع للمستفيد من الوقف بحيث لا تؤثر مراعاة المصلحة بالإبطال على أصل الديمومة والجريان المستمر اللذين يمثلان أساس الحكمة التي تميز الوقف عن غيره من الصدقات والهبات.
هذه المعادلة بين ديمومة الوقف وتحقيق أفضل ريع وعائد وفائدة للوقف يجب أن توضع نصب أعين الأطراف المسؤولة عن شؤون الأوقاف وكل الآراء الاجتهادية في المذاهب الفقهية تدور حول هذين المحورين، فبعضها غارق في التمسك بديمومة عين الوقف إلى حد الاحتفاظ بالذات بلا نفع، وكأن الوقف تعبدي سداً للذريعة وخوفاً من اعتداء شطار النظار، وعدوان حكام الجور، وقد سجل التاريخ الكثير من ذلك، بينما نحت اجتهادات أخرى إلى تحرير الوقف تذرعاً بالمصلحة التي من أجلها أنشئت الأوقاف بحثاً عن الاستثمار الأمثل مع ما يسببه ذلك من تعريض الوقف للتغيير والتبديل من جراء نهم النظار الذين خربت ذممهم وخفت أمانتهم.
وانطلاقاً مما تقدم ينبغي صياغة سياسة للمحافظة على الأوقاف ولا سيما في ديار الغرب حيث يتعين تسجيل المساجد والأوقاف الأخرى باسم هيئات موثوق بها، وإيجاد صيغة لاعتراف السلطان في هذه الديار بهذه الأوقاف، وشكراً.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أشكر لسماحة الرئيس إتاحته الفرصة لي مع أنها فاتت، ولكن جزاه الله خيراً استدركها وتفضل علي بذلك، فجزاه الله خيراً.
الواقع حفظكم الله أن موضوع تنمية الوقف يتناول أمرين:
أولاً: تنمية رقبة الوقف من حيث إصلاحه وترميمه والأخذ بكل ما يوجب له غبطة ومصلحة.
ثانياً: تنمية غلاله، بحجبها عن مستحقيها، والأخذ بتنمية هذه الغلال بأي وسيلة من وسائل التنمية، نستطيع أن نتصور الأمرين من خلال تعريف الوقف طبقاً لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- في وقفيته حصته في خيبر.
قال صلى الله عليه وسلم أو ما معناه: ((حبس أصله وسبل منفعته)) فالوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فأخذاً بمفهوم الوقف فلا يجوز حجب الغلال عن مستحقيها بغرض تنميتها حيث يترتب على ذلك أمرين:
أحدهما: تعطيل الوقف، فالهدف من الوقف ابتغاء الأجر واتصال العمل الصالح للواقف بعد موته على اعتبار أن الوقف صدقة جارية.
الثاني: ظلم مستحق الوقف وحرمانه من حقه في حال وفاته، ومطله حقه في حال حياته، فمتى استحقت الغلة تعين صرفها لمستحقها سواء أكان شخصاً طبيعياً أم شخصاً معنوياً، وعليه فلا أرى جواز حجب الغلال لغرض تنميتها، وأما رقاب الأوقاف فيجب على الناظر أن يعنى بتنمية الوقف من حيث عمارته وترميمه وبيعه في حال تعطل منافعه، والاستعاضة عنه بما يكون بدلاً عنه محققاً المصلحة والغبطة، وفي حال تعذر إعماره لعدم وجود ما يقابل ذلك، وإمكان بيع بعضه لعمارة باقية فيجب ذلك إنقاذاً للوقف وأخذاً بأدائه الذي هو الهدف من إيقافه وما يتعلق بآليات إعمار الوقف، فكل وسيلة من وسائل الإعمار والإصلاح والترميم، وهي محققة للوقف الغبطة والمصلحة، فهي وسيلة مقبولة سواء كان ذلك إصلاحاً وترميماً أم كان ذلك عن طريق الاستثمار بالإيجار قصير الأجل أو طويله أو متوسطه، مع الأخذ في الاعتبار التصرف والعناية ببقاء الرقبة وقفاً، ومنع كل تصرف يتعرض للرقبة بالفناء.
هذا ما أحببت التنبيه إليه، حفظكم الله.
الشيخ الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أريد أن أنبه إلى قضية هي أصل القضايا في هذا الموضوع وهي مكانة الوقف في العالم الإسلامي، فهو يمثل مؤسسة عظمى قد جاء بها الإسلام ولم يسبق إليها البتة، وليس لها نظير إلى اليوم حتى في العالم الغربي، ولذلك بات من المسلم لدى جمهور العلماء أن هذا الوقف هو من شرعة الإسلام، شرعته السنة النبوية، فقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة مثل حديث الصحيحين أن عمراً –رضي الله تعالى عنه- أصاب أرضاً بخيبر، فقال: يا رسول الله، أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم:((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث، فتصدق به على الفقراء بأن يجعل ريعها للفقراء ولذي القربي وفي الرقاب والضيف وابن السبيل ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول.
هذا الحديث وضع المؤسسة ووضع أصولها ووضع ما اشتملت عليه هذه المؤسسة من فروع وإدارات، فهي أشبه ببنك عظيم من البنوك الكبرى في العالم التي لها مصالح متعددة، وكل كلمة في الحديث أشارت إلى مصلحة من المصالح، وهذه المصالح حين نعددها انطلاقاً من الحديث، من غير الخروج عنه، نجد مصلحة تثبيت أصل المال المحبس وتحريم انتقاص شيء منه، مع إباحة استخدامه وتنمية موارده لينتفع المستحقون بريعه حلالاً طيباً وليأكلوا من فضل الله هنيئاً مريئاً، ونجد أيضاً مصلحة أخرى هي مصلحة الصدقات الجارية التي يستمر بها المحبس بعد موته صاحب مبرة وصاحب عمل لا ينقطع، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة:((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) .
وكم من شعوب إسلامية فقيرة إلى حد المجاعة القاتلة لم تعد الأحباس قادرة على مواساتها كما كانت، لأنهم أضاعوها فأضاعتهم، وأيضاً مصلحة صلة الرحم وإعانة ذوي القربى، ومصلحة عتق الرقاب، وليس العتق مقصوراً على عتق العبيد والإماء، لأن في عصرنا هذا رقاب أسيرة إما للاتجار في أعراضها البشرية وكرامتها الإنسانية، أو لأسباب أخرى تجعلهم أذلة يتحكم فيهم الأقوياء، أيضاً مصلحة إقراء الضيف وإعانة أبناء السبيل، وكم يحتاج هؤلاء إلى عون وإن كانوا في مواطنهم من أصحاب التفضل والجاه واليسار، وأخيراً مصلحة تشغيل عدد مهم من العمال في هذه الأملاك الموقوفة على اختلاف درجاتهم، وإذا أردنا أن نيسر الأوقاف وإدارة الأوقاف فسيكون العاملون في هذا الميدان فيهم الفنيون والمهندسون على اختلاف اختصاصهم والعاملون في درجات مختلفة.
هذه صورة الوقف باختصار، أشار إليها الحديث إشارة عابرة ولكنها توحي بمعان كثيرة، وتتركنا نتساءل هل سارت الأوقاف على هذا المنهج ثم أصابها ما أصابها من ضياع؟ لا، أبداً، بل الأوقاف تولتها جماعات ليست من أهل الدراية وليست من أهل الاختصاص، ولذلك حصل ما حصل مما نعلمه جميعاً وأصبح الأجانب والأباعد والمعادون للإسلام يرمون الأوقاف بأنها جانب من الجوانب التي أخرت الإسلام، والتي أحدثت ما أحدثته المجتمعات الإسلامية وعطلت ثروات البلاد.
وأقترح أن يتناول هذا المجمع الشريف بعلمائه الأجلة الأخيار موضوع الوقف، والحُبُس، وكيفية تطوير موارده فإن ما تنتظره الأمة الإسلامية قرارات تعيد الاعتبار والمكانة للوقف باعتباره مؤسسة عظمى ذات مصالح جُلَّى وليست تراثاً بالياً جعلت لنهب الناهبين ولحيل المتحيلين، حتى صار هذا التراث مصدر شقاء لمستحقيه مما جلب إليهم، زيادة على الفقر والاحتياج، من خصومات أوقفتهم أمام المحاكم وأنهكتهم حتى في نطاق ثرواتهم القليلة والخاصة، وصارت مصدر إهمال لجانب من أملاك الأمة، وأنا أعرف أن في تونس مثلاً هناك أوقاف تَفَرَّع مستحقوها حتى أصبحت تسمى بـ (الأراضي الاشتراكية) حيث يملكها عدد كبير من الناس، وفي الواقع لا يملكها أحد وبقيت مهملة ولا يستطيع أحد أن ينفق فيها مالاً لصيانتها ولا لتنميتها، وصارت قطعة مهمة جداً من الجمهورية التونسية معطلة لا يدخلها إلا من أراد أن يتجاسر على قطعة منها فيستغلها ولكن بدون ملكية.
وأرى أن الدراسات التي كتبت في الموضوع وبذلت فيها جهود مشكورة من السادة العلماء، وقد ألحت بالخصوص على الجوانب الفقهية الموسوعية والنظرية التي هي جزء من ثروة الفكر الإسلامي التي لم يعرف لها مثيل سوى في التشريع الإسلامي ونظرياته الفقهية، هذا في حد ذاته أمر مهم للرد على الجهلة الذين يرمون الفقهاء بالإفلاس ويرمونهم بتجاوز العصر، ويرمون الأحباس بأنها من العوائق للاقتصاد الإسلامي، ولكن الذي يترقبه الحبس في ذاته وفي ذات من يعود عليهم نفعه من عامة المسلمين على تفاوتهم في الدرجات وما يترقبه المسلمون من هذا المجمع الكريم أمران:
أولاً: تقرير القرارات القطعية أو ما يقرب منها لمزيد تثبيت مشروعية الأحباس باعتبار ما فيها من نفع اقتصادي واجتماعي.
ثانياً: اقتراح بديل للمؤسسات الحالية القائمة على حدود الأوقاف التي لم تعد تصوراتها وتصرفاتها كفيلة بازدهار الأوقاف وتنميتها، لأن المؤسسات الآن أصبحت تحتاج إلى نمط المصارف أو نمط البنوك للأوقاف، وتكون ذات هيكلية عصرية متطورة كما تطورت البنوك، بنوك التنمية مثلاً، على اختلاف جهاتها من بنوك فلاحية وتجارية وصناعية وعمرانية وغيرها، ولماذا لا تكون هنالك مصارف بنكية فيها من الإدارات المختصة ما يقوم على شأن هذه الأملاك وإدارتها؟ وبذلك نستطيع أن نكفل للأوقاف بقاءها ودورها الاجتماعي والاقتصادي وتنميتها سواء من حيث أصل الأوقاف أو من حيث الريع الذي تدره على المسلمين فتكفيهم وتكفي الطبقات التي نسميها (شعبية) وما دونها، تكفيها الحاجة وتكفيها مد اليد للتسول.
هذا ما أردت أن أقوله، وشكراً لكم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد اللطيف آل محمود:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
شكراً سيادة الرئيس.
في الوقت الذي تشكو فيه أوقاف المسلمين من إهمال إدارات الأوقاف الناظرين عليها حتى أعرض الناس عن الوقف لما رأوا من تضييع له، أود أن أشير إلى تجربة إدارية لتنمية الأوقاف كان لها أثر كبير في تنمية أموال الوقف وتحقيق أغراض الواقفين وإقبال الناس على الوقف من جديد، هذه التجربة هي تجربة دولة الكويت بإنشاء الأمانة العامة للأوقاف والصناديق المتخصصة لكل غرض من أغراض الواقفين وهي تجربة يشترك في إدارتها الجهات الحكومية والأفراد من غير الموظفين الحكوميين، حيث لكل صندوق من هذه الصناديق مجلس إدارة جل أعضائه من غير الموظفين الحكوميين، وهذه التجربة الإدارية الناجحة تستدعي الدعوة لدراستها من قبل المجمع الموقر والنظر فيما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات إن وجدت، ونشر هذه التجربة من قبل المجمع الموقر على الدول الإسلامية للدعوة إلى الأخذ بما في هذه التجربة من عناصر كانت كفيلة بإعادة مكانة الأوقاف وتنميتها دون تعطيل، وشكراً.
الشيخ حمزة الفعر:
بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد الله وأثني عليه وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أشكر السادة الباحثين على ما قدموه من أعمال جليلة في سبيل بيان الطرق الكفيلة بتنمية الأوقاف، ومشكلة الأوقاف وما تعانيه في مجتمعات المسلمين مشكلة مزمنة قديمة وقد اعتراها الإهمال والتضييع عبر سنين طويلة، والحقيقة أن هناك عدد من الأمور التي بدت من خلال قراءة الأبحاث ومن خلال العرض الذي قدم في صبيحة هذا اليوم، ولكني في الجملة أرى أن هذه البحوث التي قدمت مع ما بذل فيها من جهد لم تصل إلى عمق المشكلة ولم تحاول أن تعالج جوانبها التي يعاني منها الناس، ذلك أن أكثر ما قدم في هذه البحوث هو عبارة عن رصد للأساليب المتبعة في استثمار الأوقاف وهي أساليب معروفة، ولكن الشيء الأهم من ذلك في نظري يتمثل في أمرين:
الأمر الأول: هو كيفية النهوض بهذه الأوقاف القديمة من ناحية إحياء مصارفها ومن ناحية تطوير أساليب الإدارة والإشراف فإنها تعاني معاناة شديدة في هذا الجانب، وأكثر القائمين عليها لا يكترثون لمسألة تطويرها وتعميرها وتثميرها، فهذه البحوث لم تقدم منهجاً عملياً في هذا المضمار اللهم إلا ما ورد في بعضها من استخدام بعض الأدوات التمويلية والأدوات المالية المعاصرة مثل طرح سندات المقارضة والمشاركة المتناقصة إلى غيرها، ولكن هذه كلها لا تحل المشكلة، نحن بحاجة إلى تطوير إداري بالنسبة للإشراف على الأوقاف وتنميتها، والأوقاف كما هو معلوم ضاع كثير منها بسبب الإدارات وبسبب طغيان بعض الحكومات، وإن أوجب الواجبات الآن على المجتمعات المسلمة وعلى الهيئات العلمية وأولي الأمر السعي لاستخلاص هذه الأوقاف وإعادتها إلى مصارفها التي أنشئت من أجلها.
والأمر الثاني: هو تشجيع الناس على الوقف، وقد أشار فضيلة الدكتور عبد اللطيف إلى التجربة التي قامت بها بعض الجهات في الكويت وهي بلا شك تجربة رائدة نحتاج إلى الإفادة منها، ولكن المسألة بحاجة إلى زيادة تطوير، فإن هناك من أبواب الوقف ما يحتاج إلى نظر جديد، كان الناس فيما مضى يقفون الأوقاف بصفة فردية، فأحد المحسنين يسعى لإنشاء وقف إما على بعض طلاب العلم أو على بعض أوجه الخير، ولكن المسألة الآن اتسعت وبدت الحاجة ملحة لإيجاد أوقاف جديدة قد لا تسعها أموال الأفراد.
ولذلك فإن من الأهمية بمكان النظر في مسألة الأوقاف التي تكون رؤوس أموالها مشتركة يقوم كثير من المحسنين ومن أهل الخير بالتبرع لهذه الأوقاف، ثم بعد ذلك تقوم هيئة معينة بالإشراف على تنفيذ هذه الأوقاف وإنشائها، ووضع نظام خاص بها.
هنالك أيضاً مشكلة كبيرة في قضية الأوقاف، وهي مسألة بعض الأمور الاجتهادية التي أصبح من الضرورة إعادة النظر فيها، فكثير من الاجتهادات الفقهية التي اعتبرت أحكام الأوقاف وظروفها هي بحاجة الآن إلى إعادة انظر، فكثير منها يستند إلى الاجتهاد ولا يستند إلى دليل قاطع، فمسألة الحكر ومسألة الخلو وغيرها كلها مسائل أفتى فيها العلماء بالاجتهاد، فيجب أن نعيد النظر في أمثال هذه الاجتهادات الآن إن أردنا أن نطور هذه الأوقاف حتى تؤدي الغرض المنشود الذي أنشئت من أجله.
وبحث فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه في الحقيقة تمحور حول قضية المصلحة وارتباطها بالوقف، وأطال النفس في هذا الباب، وكنت أتمنى لو أن فضيلته وفر هذا الجهد للحديث عن بعض القضايا المشكلة التي تحتاج إلى بحث فإنه قرر بعد صفحات طويلة أن قضية الوقف متعلقة بالمصلحة، وأن الوقف ليس مسألة تعبدية بل أمر معقول المعنى، والحقيقة أن هذه القضية لا تحتاج إلى طول بحث وكبير نظر، لأنها من المعاملات والعقود، وكلها في جملتها مبنية على المعاني والمقاصد الشرعية الواضحة، ولا يمكن أن تكون هذه من الأمور التعبدية، فكنت أتمنى لو أن فضيلته ناقش عدداً من القضايا التي أشار إليها ومر عليها مرور الكرام، في مسالة تغيير مصارف الأوقاف، وفي مسألة توجيهها وجهة معينة، وفي مسألة جمعها إلى بعضها، هذه أمور كلها تحتاج إلى إعادة نظر.
هناك أيضاً مصارف معطلة نظراً إلى انقطاع من رصدت المصارف لهم، أو إلى أنه لا يعرف لها أحد، أو أنه أصبح من المتعذر صرفها في هذا الباب، فالقضية الآن بحاجة إلى اجتهادات فقهية في إحياء هذه المصارف وفي توجيهها الوجهة الصحيحة، وأعتقد أن القضاء يمكن أن يفعل شيئاً كثيراً في مثل هذا الباب لأن هذا العمل من أعمال البر، ويمكن للقاضي بعد أن يتأمل في المسألة إذا رأى أن مصرفاً معيناً قد تعطل وأنه لا يمكن الصرف عليه يمكن أن يوجه هذا إلى ما يشبهه من المصارف وما يقاربه، والعلماء قد تكلموا في هذا أيضاً كثيراً.
وحتى لا أطيل عليكم فإني أؤكد مرة أخرى على أهمية إصلاح أوضاع الأوقاف القائمة وتطويرها وإمدادها بالأساليب الإدارية المتطورة كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ كمال جعيط في بحثه إلى قضية دراسة الجدوى، فإن هذا الأمر لا أظن أنه مما يعمل به الآن في هذه القضية، قضية تطوير الأوقاف وتنميتها، لو أننا أدخلنا هذه الأساليب الهندسية والإدارية والتطويرية في تقييم أوضاع الأوقاف، وفي إصلاحها وإدارتها واستعنا بكثير من التقنيات المعاصرة، أعتقد أننا بإذن الله إذا صحت منا النوايا وبذلنا هذه الجهود أن الأوقاف يمكن أن تتطور كثيراً وأن تسد حاجات كثيرة لا يمكن أن تسد إلا من هذا الباب، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكراً سماحة الرئيس، شكراً للإخوة الذين تحدثوا في موضوع الوقف بشكل عام وحول أوقاف القدس بشكل خاص، وأحب أن أعطي فكرة موجزة حول توثيق أوقاف القدس.
أول مصدر لتوثيق أوقاف القدس هو المحكمة الشرعية في مدينة القدس، هذه المحكمة التي تعتبر أقدم محكمة في التاريخ الإسلامي والتي تولى فيها القضاء الصحابي الجليل عبادة بن الصامت –رضي الله عنه في عهد الصحابي الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي الله عنه والمحكمة الشرعية بالقدس تحتفظ بملفات وسجلات يعود تاريخها إلى العهد الصلاحي أي من أيام صلاح الدين الأيوبي، وقد صورت هذه السجلات على طريقة الميكروفيلم، للمحافظة عليها وذلك بعد احتلال إسرائيل لمدينة القدس عام 1967م، واحتفظ بنسخ من الميكروفيلم في الجامعة الأردنية في عمان وفي مواقع أخرى حتى لا تغزو إسرائيل هذه السجلات.
ثم موقع آخر للمحافظة على الأوقاف في القدس هو مؤسسة إحياء التراث الإسلامي الموجودة في مدينة القدس، ومهمتها المحافظة على الوثائق والوقفيات والمخطوطات التي لها علاقة بتاريخ القدس بشكل عام وعلى الوقف الإسلامي بشكل خاص.
وكذلك موقع ثالث هو مكتبة المسجد الأقصى المبارك داخل المسجد وفيها أيضاً ميكروفيلم وتصوير لجميع الوقفيات الموجودة في حوزتنا، ولكن هذا لا يمنع الاستعانة بما هو محفوظ في مدينة (إستانبول) في تركية لأن تركية تعتبر أكبر دولة تحتفظ بالتراث وبالوقفيات، لا يمنع من مخاطبة الحكومة التركية رسمياً لتصوير ما له علاقة بالوقف الإسلامي في فلسطين لأن هناك كثيراً من المخطوطات والوقفيات مفقودة في مدينة القدس وهي موجودة حالياً في مدينة (إستانبول) ، لا بد من الاهتمام بموضوع الوقف من حيث التنمية ومن حيث إعادة النظر في جميع الإجارات، لأن هناك إجحاف بحق الوقف من قبل المواطنين بشكل عام ومن قبل المسؤولين عن الوقف بشكل خاص.
مرة أخرى أثني على ما قاله أصحاب الفضيلة عن تسجيل قرارات وتوصيات خاصة بأوقاف القدس، وبارك الله فيكم جميعاً، وشكراً.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بعد هذه المناقشات المباركة، ونظراً لوجود عدة موضوعات أمامنا وهي:(الإثبات بالقرائن والأمارات) ، وموضوع (حقوق الأطفال والمسنين) وموضوع (دور المرأة المسلمة في تنمية المجتمع) وموضوع (التضخم وتغير قيمة العملة) وموضوع (ترجمة القرآن الكريم) وموضوع (إنشاء هيئة إسلامية لعلوم القرآن الكريم) ، فقد رؤي كتجربة أن تشكل لجان عددها ست لجان، لكل موضوع من هذه المواضيع، وتشتغل بالدراسة وإعداد مشاريع قرارات ويكون الاجتماع العام لدراسة ما يعدونه في الساعة الثامنة إن شاء الله تعالى من صباح يوم الخميس.
وبهذا ترفع الجلسة وستوزع عليكم إن شاء الله تعالى البيانات، وبيان محل الاجتماع في القاعة في هذا المكان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 111 (5/12)
بشأن موضوع
استثمار موارد الأوقاف (الأحباس)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (استثمار موارد الأوقاف – الأحباس) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
إرجاء النظر في الموضوع لمزيد من البحث والدراسة وبخاصة الفقرات التالية:
1-
استثمار الوقف.
2-
وقف النقود.
3-
الإبدال والاستبدال.
4-
خلط الأوقاف.
5-
التفرقة بين الوقف والإرصاد (Trust) .
والله سبحانه وتعالى أعلم.