المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالدكتور رفيق يونس المصري - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثاني عشر

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادأ. د. خليفة بابكر الحسن

- ‌استثمار موارد الأوقافإعدادالدكتور إدريس خليفة

- ‌استثمار موارد الأحباسإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌أثر المصلحة في الوقفإعدادالشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌صور استثمار الأراضي الوقفية فقهاً وتطبيقاًوبخاصة في المملكة الأردنية الهاشميةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكوصكوك الأعيان المؤجرةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة(الإجارة المنتهية بالتمليك)دراسة فقهية مقارنةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكدراسة اقتصادية وفقهيةإعداد الدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الشرط الجزائيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌الشرط الجزائيإعدادالأستاذ الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الشرط الجزائي في العقودإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الشرط الجزائي في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور ناجي شفيق عج

- ‌الشرط الجزائيدراسة معمقة حول الشرط الجزائي فقها وقانوناإعدادالقاضي محمود شمام

- ‌عقود التوريد والمناقصةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌عقد التوريددراسة فقهية تحليليةإعدادالدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ مجتبى المحمودوالشيخ محمد على التسخيري

- ‌الإثبات بالقرائن والأماراتإعدادالدكتور عكرمة سعيد صبري

- ‌القرائن في الفقه الإسلاميعلى ضوء الدراسات القانونية المعاصرةإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ محمد الحاج الناصر

- ‌الطرق الحكمية في القرائنكوسيلة إثبات شرعيةإعدادالدكتور حسن بن محمد سفر

- ‌دور القرائن والأمارات في الإثباتإعدادالدكتور عوض عبد الله أبو بكر

- ‌بطاقات الائتمانتصورها، والحكم الشرعي عليهاإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور محمد العلي القري

- ‌بحث خاصبالبطاقات البنكيةإعدادالدكتور محمد بالوالي

- ‌بطاقة الائتمانإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بطاقة الائتمان غير المغطاةإعدادالشيخ علي عندليبوالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التضخم وعلاجهعلى ضوء القواعد العامةمن الكتاب والسنة وأقوال العلماءإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الصلح الواجب لحل قضية التضخمإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويضومسؤولية الحكومة في تطبيقه

- ‌مسألة تغير قيمة العملة الورقيةوأثرها على الأموال المؤجلةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌التأصيل الشرعي للحلول المقترحةلعلاج آثار التضخم

- ‌التضخم وتغير قيمة العملةدراسة فقهية اقتصاديةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌نسبة التضخم المعتبرة في الديونإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

- ‌حقيقة التضخم النقدي: مسبباته – أنواعه – آثاره

- ‌التضخم وآثاره على المجتمعات

- ‌ضبط الحلول المطروحة لمعالجة آثار التضخم على الديون

- ‌حقوق الأطفال والمسنينإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌حقوق الشيوخ والمسنين وواجباتهمفي الإسلامإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌حول حقوق المسنينإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌حقوق الطفلالوضع العالمي اليومإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌الشيخوخةمصير. . . وتحدياتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌البيان الختامي والتوصياتالصادرة عنالندوة الفقهية الطبية الثانية عشرة

- ‌(حقول المسنين من منظور إسلامي)

الفصل: ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

‌عقود التوريد والمناقصات

إعداد

الدكتور رفيق يونس المصري

مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي

جامعة الملك عبد العزيز بجدة

مقدمة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،

فإن هذه الورقة مقسمة إلى قسمين: القسم الأول لعقد التوريد، والقسم الثاني للمناقصات، أما عقد التوريد فسأتناول فيه ما أمكن من العناصر التي طلبها المجمع الموقر، في هذه الدورة. وأما المناقصات فقد سبق لي أن قدمت فيها ورقة للدورة التاسعة 1415هـ / 1995 م، ولذلك فإنني سأقتصر في هذه الورقة (المكملة) على بيان العناصر التي طلبها المجمع، ولم يسبق لي معالجتها في ورقتي السابقة.

ولابد لي هنا من أشير إلى الأمور التالية:

1-

الأمر الأول: إن المجمع قد حدد، في منهج الاستكتاب، الحد الأدنى للورقة بـ (16) صفحة، والحد الأعلى (32) ، وسأتقيد به، حتى ولو لم أتمكن من استيفاء جميع العناصر المطلوبة، ومن الغوص في المناقشة اللازمة في هذا الموضوع الشائك والدقيق، ولكني سأغلب في هذا الأهم على المهم، ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.

2-

الأمر الثاني: يلاحظ القارئ أنني أحيانًا أكتفي بالإحالة إلى بعض المراجع المعاصرة، لأجل الاختصار، ولأنني لا أجد ما يدعو إلى الرجوع إلى المراجع الأصلية، إلا إذا كان هناك ما يستدعي التحقق والتأكد والإضافة.

3-

الأمر الثالث: إن القارئ سيلاحظ في هذه الورقة مناقشة لآراء بعض العلماء، وأرجو أن لا يجد هؤلاء العلماء حرجًا في ذلك، لأن كلًا منهم يؤخذ من أقواله ويرد، ولأن الغاية هي الانتصار للنفس، أو لأحد، أو لمذهب، إنما الغاية هي الانتصار للدين وللعلم وللقرار المجمعي الجاد، بدون مجاملات ويجب أن يسعى العلماء، لدى اجتهادهم في القضايا المستجدة، إلى أن يطبقوا أصول الفقه التي دونوها في كتبهم، وعلموها لطلابهم، وأن لا يتخلوا عنها، في قليل أو كثير، بما يؤدي إلى إثارة التعجب أو التناقص والشعور بعدم الاكتراث. ويجب أن نحرص، ما أمكن، على أن لا يكون هناك أي فجوة، أو تضارب، بين البحوث والمناقشات من جهة، وقرارات المجمع من جهة أخرى.

والله ولي التوفيق.

ص: 784

القسم الأول

عقود التوريد

تعريف عقد التوريد:

عقد التوريد contrat de fourniture بالفرنسية، supply agreement بالإنكليزية، هو في القوانين الحديثة:" عقد يتعهد بمقتضاه شخص بأن يسلم بضائع (أو خدمات) معينة، بصفة دورية أو منتظمة خلال فترة معينة، لشخص آخر، نظير مبلغ معين "(1) .

وإذا أردنا إعادة صياغة هذا التعريف، بطريقة ملائمة للنظر الفقهي، يمكننا أن نقول بأن عقد التوريد: اتفاق يتعهد فيه أحد الطرفين أن يورد إلى الآخر سلعًا موصوفة، على دفعة واحدة، أو عدة دفعات، في مقابل ثمن محدد، غالبًا ما يكون مقسطًا على أقساط، بحيث يدفع قسط من الثمن كلما تم قبض قسط من المبيع.

وعقد التوريد قد يكون محليًّا أو دوليًّا، أي قد يتم بين منشأتين في بدل واحد، أو في بلدين مختلفين، فهو لا يعني بالضرورة أنه عقد متعلق بالاستيراد والتصدير، ، وإن سمي البائع موردًا fournisseur بالفرنسية، و supplier بالإنكليزية، والمشتري موردًا له.

ومن الأمثلة على عقد توريد السلع: توريد الأغذية والأدوية والملابس والوقود، للمستشفيات والمدارس والمطارات والوحدات العسكرية وغيرها.

ومن الأمثلة على عقد توريد الخدمات: " توريد الكهرباء والغاز والمياه، وتوريد الصحف المجلات والعمال، والتعهدات بنظافة وصيانة المدارس والمستشفيات "(2) .

(1) القانون التجاري السعودي، لمحمد حسن الجبر، ص 67.

(2)

المصدر السابق، ص 68.

ص: 785

أغراض عقد التوريد:

يرمى المشتري، في عقد التوريد، إلى ضمان حصوله على المواد أو السلع المطلوبة، في الآجال المتفق عليها، للاستفادة منها في أعمال تجارية أو صناعية أو زراعية أو خدمية.

وهو بذلك يقلل من نفقات التخزين، ومخاطره، بالنسبة للسلع أو المواد السريعة التلف، أو ذات المدة المحددة، بسبب عمرها أو تقليعتها (موضتها) ، أو التي يراد أن تكون طازجة قدر الإمكان.

ويرمى البائع، في عقد التوريد، إلى تلبية طلبات هؤلاء المشترين، من طريق الأعمال التجارية الهادفة إلى الربح، وهو بذلك يقلل من مخاطر كساد بضاعته، لأنه ينتجها بعد أن يتعاقد عليها.

ص: 786

وإذا كان الثمن محددا سلفا، عند العقد، فإن المشتري يعرف مسبقا ثمن الشراء، ويحدد تكاليفه وأثمان منتجاته، والبائع يعرف مسبقا ثمن البيع ويحدد إيراداته.

أما إذا كان الثمن حسب السوق، فإن فائدة العقد تقتصر على اطمئنان كل من البائع والمشتري إلى مطلوبه، في الآجال المضروبة.

مقارنة بين التوريد وعقود أخرى قريبة منه:

1-

السلم: عقد التوريد يشبه عقد السلم، من حيث إن المبيع في كليهما مؤجل، وموصوف في الذمة، ومن حيث لزومه للمشتري، إذا جاء مطابقا للمواصفات المطلوبة.

2-

الاستصناع: عقد التوريد يشبه عقد الاستصناع، عند الحنفية من حيث إن الثمن في كليهما لا يشترط تعجيله.

عقد التوريد وبيع الغائب على الصفة:

قد يقال هنا: ما الفرق بين بيع الغائب على الصفة، وبيع السلم، وهو بيع صفة؟ البيوع نوعان: بيوع أعيان، وبويع صفات. والأعيان هي التي تباع برؤية العين، والصفات هي التي تباع بوصف اللسان، فبيع الغائب هو من بيوع الأعيان، وبيع السلم هو من بيوع الصفات. قد يقال هنا: إن بيع الغائب يتم على الصفة أيضًا. المقصود هنا هو بيع عين غائبة، يتم بيعها على الصفة، فإذا رآها المشتري كان بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا خيار له، إذا جاءت مطابقة للوصف، كما في السلم. فالسلم يتعلق ببيع سلعة مثلية، لها أمثال في السوق، والغائب يتعلق ببيع سلع معينة، سواء كانت مثلية أو قيمية.

وبيع الغائب لا أرى فيه مشكلة، تستحق الوقوف عندها، إذا كان للمشتري خيار الرؤية. كما لا أرى فيه مشكلة كبيرة، إذا كانت السلعة موافقة للوصف، لأنها عندئذ كالسلم.

كذلك فإن ما يشترطه بعض الفقهاء، في بيع الغائب، من شروط، كأن لا تكون العين بعيدة جدًا فتتغير، أو قريبة جدًا فترى (1) . كل هذا وأمثاله ليست له قيمة، إذا كان المشتري له خيار الرؤية أو خيار الخلف (خيار فوات الوصف) ولم يعجل الثمن، لأن تعجيل الثمن قد يتخذه البائع وسيلة أو ذريعة للحصول على المال، وهو لا يريد البيع، فيحصل على السلف (القرض) ، تحت ستار البيع، فيكون قد أكره الآخر على تسليفه بالحيلة.

وههنا قد يكون عدم تعجيل الثمن ذا فائدة في موضوع التوريد، إذ يترتب عليه تأجيل البدلين، ولكن هذا لا يتم إلا إذا كان بيع الغائب ملزمًا لا خيار فيه، وجاءت السلعة موافقة للوصف.

وهذا ما استأنس به عبد الوهاب أبو سليمان، لإثبات صحة التوريد الذي يتأجل بدلاه (2) .

(1) الغرر للضرير، ص 404، والموسوعة: 9 / 23.

(2)

عقد التوريد، ص 27 / 39، 50، 72.

ص: 787

لكن قد يؤخذ عليه أن آجال بيع الغائب آجال قريبة، لا تتعدى اليوم واليومين والثلاثة. ومثل هذه الآجال ألحقها بعض الفقهاء بالعدم، واعتبروها في حكم المعجلة، في بيع السلم. أما في التوريد فالآجال أبعد من ذلك بكثير: سنة أو أكثر أو أقل.

عقد التوريد وبيع ما ليس عنده:

عن حكيم بن حزام قال: " قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل، فيسألني عن البيع، ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق. فقال:((لا تبع ما ليس عندك)) (1) .

وفي فتح الباري: " أبيعه منه، ثم أبتاعه له من السوق "(2) .

وأحسن من رأيته شرح هذا الحديث شرحًا حسنًا هو ابن القيم (3) . ويستفاد من كلامه أن البائع الذي يشمله النهي هو البائع الذي ليس من غرضه التجارة بالسلع، والبيع والشراء، وليس داخلًا في عمله، ولا دينًا له، ولا هو من شأنه ولا تجارته، فيبيع السلعة بثمن، ثم يشتريها بأقل، فيسلمها إلى المشتري، رغبة في العمل المضمون، ولأنه ليس تاجرًا خبيرًا بالسلع، إنما يريد شراء ذلك على مسؤولية الآمر، وغرضه أن يمنح تمويلًا، ربحه مضمون، لا مخاطرة فيه، فيدخل بهذا في النهي عن بيع ما ليس عنده، كما يدخل أيضًا في النهي عن ربح ما لم يضمن، فالتجارة المشروعة هي التجارة المعرضة للمخاطرة.

فالمورد في عقد التوريد يجب أن يكون تاجرًا شرعيًّا، معرضًا للمخاطرة، حتى لا يدخل تحت أي من النهيين المبينين آنفًا، وهذا هو الغالب في الموردين.

(1) رواه الخمسة، نيل الأوطار: 5 / 175.

(2)

فتح الباري: 4 / 349.

(3)

زاد المعاد: 5 / 816.

ص: 788

عقد التوريد وبيع الكالئ بالكالئ تأجيل البدلين:

عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (1) . وزيد في بعض الروايات: " يعني: الدين بالدين، أو النسيئة بالنسيئة ".

واستدل بعض المفسرين بالقرآن نفسه على النهي عن بيع الدين بالدين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . فإن قوله: (بدين) إشارة إلى امتناع الدين بالدين، ذلك أن قوله:(تداينتم) مفاعلة (مداينة) من الطرفين، وذلك يقتضي وجود الدين من الجهتين (الطرفين) فلما قال:(بدين) علم أنه دين واحد من الجهتين (2) .

لكن هذا يرد عليه بأن مقصود الآية هو كتابة الدين، بغض النظر عن كونه دينًا واحدًا أو دينين. كما أن لفظ المداينة صحيح أنه مشاركة من طرفين، غير أن معناه أن أحدهما دائن والآخر مدين، فكلاهما اشترك في المداينة، ولولاهما لما انعقدت، وذلك كالمضاربة (المقارضة، القراض) ففيها مضارب ومضارب، وكالمرابحة والمرابحة والمغارسة والمبايعة (3) .

وما ذكره الزمخشري (4) أفضل، " إذ بين لماذا قيل:{تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ولم يحذف لفظ: (الدين)، فقال: ليرجع الضمير إليه، في قوله:{فَاكْتُبُوهُ} ، فإذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال ".

ذكر بعض العلماء أن المتبايعين لو تبايعا على أن يسلم البائع المبيع مؤجلًا، ويسلم المشتري الثمن مؤجلًا، لكان هذا من بيع الكالئ بالكالئ، فإنه بيع سلم لا يعجل فيه المشتري الثمن بل يتأجل فيه البدلان (5)، وهذا ما يسميه المالكية: ابتداء الدين بالدين. ذكر ابن رشد أن كل معاملة وجدت بين اثنين، وكانت نسيئة من الطرفين، فلا تجوز بإجماع، لأنها من الدين بالدين المنهي عنه (6) .

(1) سنن الدارقطني: 3 / 71 – 72؛ والمستدرك: 2 / 57، وصححه على شرط مسلم، قال الإمام أحمد: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس عليه؛ نيل الأوطار: 5 / 177.

(2)

تفسير الرازي: 7 / 109؛ والجصاص: 1 / 483؛ والبرهان للزركشي: 2 / 398 – 399.

(3)

قارن تفسير أبي حيان: 2 / 342.

(4)

الكشاف: 1 / 402.

(5)

تفسير الجصاص: 1 / 483؛ والأم: 3 / 87؛ والمجموع: 9 / 400؛ ووتكملة المجموع: 10 / 107؛ والقياس لابن تيمية، ص 16؛ والغرر للضرير، ص 312؛ وبيع الكالئ لحماد، ص 14.

(6)

بداية المجتهد: 2 / 104، 122، 130.

ص: 789

وبين الجصاص أن من أبواب الربا: الدين بالدين، وأن الأجل غير جائز أن يكون في البدلين جميعًا (1) .

وأدخل الشافعية في ربا النساء (ربا اليد) لا تأخير أحد البدلين فحسب، بل كليهما أيضًا، ففي حاشية الشرقاوي:" ربا اليد هو البيع مع تأخير قبضهما (أي قبض العوضين أو قبض أحدهما) "(2) .

غير أن البدلين إذا تم تقابضهما في أجل واحد، فلا يكون ثمة ربا نساء، وربا النساء يكون في تعجيل أحدهما، وتأجيل الآخر، أو تأجيلهما إلى أجلين مختلفين. وهذه الحرمة مخصوصة بالأموال والمبادلات الربوية، حيث يكون البدلان متجانسين، أو متقاربين. أما إذا كان البدلان مختلفين، فلا تنطبق هذه الحرمة عليهما.

إن حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ حديث ضعيف السند، لم يثبت، وأجمع الفقهاء على لفظه، ولكن إجماعهم لم يقع على معناه، فبعضهم (3) يقول: إن البيع الذي يتأجل بدلاه هو المجمع على تحريمه، وآخرون (4) يقولون: إن المجمع على تحريمه هو البيع المؤجل (سلمًا أو نسيئة) ، يزاد في أجله لقاء زيادة، وهكذا.

فمعلوم أن الذهب بالذهب لا يجوز فيه النساء، ومعنى النساء هنا هو تأخير أحد البدلين عن الآخر، وكذلك الذهب بالفضة لا يجوز فيه النساء. أما الذهب بالقمح فيجوز فيه النساء.

ولم يشترط الحنفية في الاستصناع تعجيل الثمن، بل يجوز عندهم تأخيره.

وذكر بعض الفقهاء (5) أن عقد السلم إذا انعقد بلفظ السلم، أو السلف، وجب تعجيل رأس المال فيه في المجلس، ولكن إذا انعقد بلفظ البيع لا يشترط فيه تعجيل رأس المال.

(1) تفسير الجصاص: 1 / 483.

(2)

حاشية الشرقاوي: 2 / 30؛ وانظر تكملة المجموع للسبكي: 10 / 25.

(3)

كالجصاص، وابن رشد، وابن تيمية،.

(4)

كالسبكي.

(5)

المهذب: 1 / 392.

ص: 790

وأجاز المالكية تأخير رأس مال السلم، لمدة ثلاثة أيام بالشرط، ولمدة أكثر بدون شرط (1) . وأجازوا أيضًا اكتراء الأرض، يقبضها بعد سنة، ويدفع الكراء بعد عشر سنين، " والثمار تكون ببلد، فيشتريها من صاحبها، على أن يأخذها بذلك البلد، والثمن إلى أجل معلوم أبعد من ذلك. قال: قال مالك: فلا بأس بذلك، وليس هذا من وجه الدين بالدين "(2) .

كما احتج بعض الفقهاء بحديث جابر، على جواز تأجيل البدلين في البيع فعنه:" أنه كان يسير على جمل له، قد أعيي (3) ، فأراد أن يسيبه (4) ، قال: ولحقني النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا لي، وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، فقال: بعنيه، فقلت: لا. ثم قال: بعنيه، فبعته، واستثنيت حملانه (لي) إلى أهلي، فلما بلغت، أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك، ودراهمك، فهو لك "(5) .

استفاد منه بعض الشراح أن البيع بالنسيئة جائز، وأن تعجيل القبض ليس شرطًا في صحة البيع، وأن هذا من باب بيع بعير واستثناء ظهره (ركوبه) إلى مكان مسمى أو بيع دار واستثناء سكناها إلى زمان مسمى.

وأجاز ذلك مالك إذا كانت مسافة السفر قريبة، وحدها بثلاثة أيام، وربما أجاز مالك تأجيل رأس مال السلم، ثلاثة أيام، بالاعتماد أيضًا على حديث جابر.

لكن المبيع هنا عين (حيوان) قابلة للتغير والهلاك، فربما لو كانت شيئًا موصوفًا في الذمة لجاز التأجيل أكثر من ذلك، والله أعلم.

(1) السلم والمضاربة، ص 79 – 80.

(2)

المدونة: 3 / 470؛ والجامع في أصول الربا، ص 345.

(3)

أعيي: تعب وعجز.

(4)

يسيبه: يتركه.

(5)

متفق عليه.

ص: 791

تأجيل البدلين وشغل الذمتين:

ذهب ابن تيمية إلى أن تأجيل البدلين قد منع: " لئلا تتبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت، لا له ولا للآخر "(1) .

قال عبد السميع إمام: " للباحث أن يناقش هذا الاستدلال بأن دعوى عدم الفائدة، من مثل هذا التعامل، قد لا تسلم، فإن التجار والصناع كثيرًا ما يتنافسون في تصريف بضائعهم، أو الحصول عليها، فلو أراد صانع أن يضمن تصريف بضاعته، فإنه يتفق مع أحد التجار على أن يبيع له كمية معلومة، مما ينتجه مصنعه، على أن يسلمها إليه بعد مدة، ويتسلم الثمن منه عند تسليم البضاعة إليه. وقد يكون التاجر نفسه في حاجة إلى بضاعة خاصة، ينتجها مصنع معلوم، وليس لديه المال الذي يدفعه ثمنًا لها، وهو يخشى، إن انتظر حتى يحصل على الثمن، أن يسبقه غيره على شراء منتجات المصنع، فيحتكرها على الناس، ويغلي أسعارها عليهم. فلهذا نرى التاجر المحتاج إلى البضاعة، يسرع بالذهب إلى صاحب المصنع، فيشتري ما يريد من البضائع، على أن يتسلمها منه بعد أجل، ويدفع الثمن إليه عند تسلمها. فهذا التعاقد بين الصانع والتاجر، وكثير ما هم، قد حصل فيه الاتفاق منهما على تأجيل المبيع والثمن، مع استفادتهما جميعًا منه، إذ ضمن الصانع تصريف بضاعته، وضمن التاجر الحصول عليه بثمن مهاود، لم يرهق بأدائه حين التعاقد (....) . والوقائع أعظم شاهد على شيوع هذا التعامل واتساع نطاقه، ووفور الحاجة إليه، وتحقق الفائدة به (

) . فالذي نراه في هذا أن شغل الذمتين من الطرفين لا بأس به، وقد عهد في الشريعة جوازه، في الإجارة والكراء والجعالة والمزارعة وغيرها، إذ يجوز أن يستأجر الإنسان غيره، على عمل خاص، أو يكتري دابة، ثم يحاسب على الأجرة، في نهاية العمل. فقد اشتغلت ذمة المتعاقدين: أحدهما بالعمل الذي التزم القيام بأدائه، والآخر بالمبلغ الذي يدفعه في نظيره. وهكذا في الجعالة والمزارعة، وإذا فتأجيل البدلين معًا، في عقد البيع، لا يتنافى مع أصول الشريعة الإسلامية " (2) .

(1) نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ وانظر له أيضًا: تفسير آيات أشكلت: 2 / 638، 639، 665، 666؛ وانظر أيضًا إعلام الموقعين لابن القيم: 1 / 400.

(2)

نظرات في أصول البيوع الممنوعة، ص 114 – 115؛ وانظر المداينات لعيسوي، ص 147؛ والضرير في الغرر، ص 316، بعبارات قريبة.

ص: 792

هل تأجيل البدلين فيه غرر أو يتعاظم فيه الغرر؟

إن البيع، إذا تم فيه التقابض في المجلس، فلا غرر فيه على الإطلاق، وهو من أبعد البيوع عن الغرر وشبهته، قال الإمام الشافعي:(الأعجل أخرج من معنى الغرر)(1) . وإذا تم فيه قبض أحد البدلين فقد حضره الغرر، وليس كل غرر حرامًا، لأن أحدهما ولنفرض أن المشتري، يقبض المبيع، ويؤجل سداد الثمن، إلى أجل معين، أو إلى آجال متعددة، على نجوم (أقساط) . وقد يحدث تغير في ثمن بيع السلعة خلال مدة الدين. فإن زاد الثمن تضايق البائع، وإن نقص تضايق المشتري وهكذا يحدث في بيع السلم أيضًا.

أما لو تعاقدا على تقابض مؤجل، فكذلك قد يقع تغير في الأسعار، فيكون له نفس الأثر على كل منهما.

لكن الفارق بين البيع الذي يتأجل فيه بدل واحد، والبيع الذي يتأجل فيه البدلان، أن أحد الطرفين في البيع الأول يكون قد متع بالبدل المعجل، فالبائع يتمتع بالثمن في بيع السلم، والمشتري يتمتع بالمبيع في بيع النسيئة. وهذا التعجيل له أثره على ثمن التعاقد. لكن الغرر، على كل حال، لا يختلف بين البيع الأول والبيع الثاني، ويستوي الطرفان معًا في تحمل المخاطرة. فإن بقيت الأسعار ثابتة، فلا مشكلة في الواقع، وإن هبط تأثر المشتري، وإن ارتفعت تأثر البائع، لأنه باع بثمن رخيص.

وعلى هذا فلا فرق، في الغرر، بين بدل واحد يتأجل، أو بدلين يتأجلان، ولا سيما إذا كان للتعجيل والتأجيل أثر في تحديد ثمن البيع.

فأين الغرر المتعاظم الذي ادعاه بعض الفقهاء إذا تأجل البدلان (2) ؟ لعلهم نظروا إلى بدل وبدلين، مع أن النظر يجب أن يكون للمتعاقدين لا للبدلين، والمتعاقدان هما أنفسهما لم يتغيرا في كلا البيعين.

(1) الأم: 3 / 83.

(2)

بيع الكالئ بالكالئ لنزيه حماد، ص 18 – 19.

ص: 793

هل يجوز في عقد التوريد أن يتفق على سعر الوحدة دون الكمية؟ :

تعرض الفقهاء للبيع بسعر الوحدة، لدى كلامهم عن بيع الصبرة، كأن يقول له: بعتك هذه الصبرة من الحنطة، كل إردب بدرهم، وقد أجازه من الحنفية الصاحبان، كما أجازه المالكية والشافعية والحانبلة لأن ثمن البيع يمكن الوصول إليه، بعد معرفة كمية المبيع (1) .

وفي عقد التوريد، غالبًا ما يقوم المورد بتقدير الكمية التي سيطلبها المورد له، لكي يكون مستعدًا لتسليمها (2) ، فلا أرى مانعًا شرعًا من إباحة هذه الصورة من صور التوريد.

هل يجوز في عقد التوريد أن يترك السعر لسعر السوق؟

البيع بسعر السوق أو بسعرالمثل، أو بما ينقطع به السعر، جائز عند الإمام أحمد، وابن تيمية، وابن القيم، قال ابن تيمية: " المرجع في الأجور إلى العرف. كذلك في البيع، فقد نص أحمد على أنه يجوز أن يأخذ بالسعر، من الفامي (3)(....) بل عوض المثل في البيع والإجارة أولى بالعدل، فإنه يوجد مثل المبيع والمؤجر كثيرًا (

) فإذا كان الشارع جوز النكاح بلا تقدير، فهو بجواز البيع والإجارة، بلا تقدير ثمن وأجرة، بل بالرجوع إلى السعر المعلوم، والعرف الثابت، أولى وأحرى، وعلى هذا عمل المسلمين دائمًا، لا يزالون يأخذون من الخباز الخبز، ومن اللحام اللحم (

) ، ولا يقدرون الثمن، بل يتراضيان بالسعر المعروف (

) فإن الله (

) لم يشترط في التبايع إلا التراضي، والتراضي يحصل من غالب الخلق بالسعر العام، وبما يبيع به عموم الناس، أكثر مما يماكس عليه، وقد يكون غبنه، ولهذا يرضى الناس بتخبير (4) الثمن أكثر مما يرضون بالمساومة، لأن هذا بناء على خبرة المشتري بنفسه، فكيف إذا علم أن عامة الناس يشترون بهذا الثمن فهذا مما يرضى به جمهور الخلق. . . " (5) .

(1) الغرر للضرير، ص 264.

(2)

نظرات في أصول البيوع الممنوعة، ص 70.

(3)

الفامي: البقال.

(4)

لعل المعنى: إخبار، ولعل المقصود: بيع الأمانة.

(5)

نظرية العقد، ص 164؛ وانظر إعلام الموقعين: 4 / 5 – 6؛ وبدائع الفوائد: 4 / 51.

ص: 794

وقد أجاز متأخروا الحنفية هذا البيع، على سبيل الاستحسان، وسموه: بيع الاستجرار.

ولابد من الإشارة إلى أن سعر السوق هو السعر الذي يتحدد في سوق السلعة، ولا دخل لإرادة أي من المتعاقدين فيه. ذلك لأنه لو كان كذلك لأفضى إلى النزاع، حيث يسعى البائع إلى رفعه، ويسعى المشتري إلى خفضه.

لكن قد يرد على هذا أن البيع الذي أجازه هؤلاء الفقهاء يتعلق بالمبيعات القليلة القيمة. فهل يجوز أيضًا في عقد التوريد، حيث المبيعات تكون مرتفعة القيمة؟

لقد بحث عبد السميع إمام (1) هذا البيع، بعنوان:(البيع بثمن يحدده السوق في المستقبل) ، ولم يجزه، وضرب مثالًا عليه، بتجارة الأقطان.

هل يشترط في عقد التوريد أن يكون المبيع عام الوجود، كما في السلم؟

اشترط الفقهاء في بيع السلم أن يكون المبيع عام الوجود في السوق، لكي يكون البائع قادرا على تسليمه. ومنهم من اشترط عموم وجوده، في وقت التعاقد وحتى وقت التسليم، بحيث لاينقطع في هذه المدة وجوده من السوق. ومنهم، وهم الجمهور، من اكتفى بعموم وجوده في وقت التسليم فقط. ومنع الفقهاء في بيع السلم أن يكون المبيع منصبًا على شجرة معينة، أو بستان معين، أو مصنع معين.

وبما أن عقد التوريد يشبه عقد السلم، في أنه بيع موصوف في الذمة، فهل يشترط فيه هذا الشرط الذي اشترطه الفقهاء في بيع السلم؟

يبدو لي أن هذا الشرط مهم في كلا العقدين، إذا كان المبيع سلعًا زراعية، معتمدة على الأمطار، ومعرضة للإصابات نتيجة التقلبات الجوية، كالصقيع، والريح، والآفات الزراعية، ولا سيما في البلدان المختلفة اقتصاديًّا.

أما إذا كان المبيع من السلع الصناعية، التي تقوم بإنتاجها مصانع كبيرة، وتتمتع بقدرة عالية على الإنتاج والتسليم، ففي هذه الحالة قد يكون هذا البيع جائزًا، والله أعلم.

ضمان المبيع بالتوريد:

قد يحصل المشتري: " " من البائع على ضمان صلاحية المبيع للعمل مدة معلومة، ويطمئن بذلك إلى أن اشترى شيئًا صالحًا للعمل، هذه المدة على الأقل، ويغلب أن المبيع إذا صلح للعمل هذه المدة، يكون صالحًا للعمل بعد انقضائها، على المدى المألوف في التعامل. وهذا الشرط جائزًا (قانونًا) ، ويجب العمل به " (2) .

(1) نظرات في أصول البيوع الممنوعة، ص 76.

(2)

الوسيط للسنهوري: 4 / 759.

ص: 795

فإذا أصيب المبيع بأي خلل، خلال هذه المدة، فإن " البائع يصلح المبيع، حتى يعود صالحًا للعمل، ،إذا لم يكن قابلًا للإصلاح أبدله بمثيل له يكون صالحًا "(1) . فتتحمل المنشأة الصانعة قيمة القطع المستبدلة، ونفقات الإصلاح من أجور مواد، تعيد الجهاز أو الآلة إلى الوضع الطبيعي.

وإذا كانت الآلة متقنة الصنع، فإن هذا الضمان يصير شكليًّا، لمجرد طمأنة المشتري وكسب رضاه، ولا يتكبد معه الصانع أي نفقة.

إني أرى أن هذا الضمان جائز شرعًا، كما هو جائز قانونًا، لأنه يزيل الجهالة التي يعاني منها المشتري، عند شراء السلعة، ويحقق الرضا، وفيه مصلحة للطرفين مصلحة للمشتري، من حيث إن المبيع قد يكون شيئًا معقدًا، وفيه خفايا، فيتردد المشتري في شرائه، ما لم يطمئن إلى سلامته وحسن أدائه؛ ومصلحة للبائع، من حيث زيادة تغريب الناس في شراء سلعة. ومن البديهي أن هذا الضمان يشمل عيوب الصنع والتركيب، ولا يشمل الأعطال التي يتسبب المشتري في حدوثها، نتيجة إهماله أو تقصيره أو سوء استخدامه، وعدم مراعاته لقواعد الاستخدام والتشغيل، المتعارف عليها، أو المبينة في النشرة المقترنة بالمبيع.

المباحث الأخرى:

طلب المجمع التعرض لمباحث أخرى: صور التوريد، وحكمه التكليفي، وأركانه، وشروطه، ولزومه أو جوازه، وخيار العيب، وخيار فوت الوصف.

أما صوره فيلحظها القارئ ضمنًا من خلال المباحث التي عرضنا لها. أما حكمه التكليفي فهو الإباحة. وأما أركانه وشروطه فهي الأركان والشروط العامة، إلا ما ذكرناه بخصوص شرط عموم الوجود. وأما لزومه أو جوازه، فإني أرى أنه لازم، إذا جاء المبيع مطابقًا للمواصفات المطلوبة، وللمشتري الخيار، إذا جاء المبيع مخالفًا لها، أو كان فيه عيب من العيوب.

(1) المصدر السابق: 4 / 760؛ وانظر: ضمان عيوب المبيع الخفية لأسعد دياب، ص 317 – 328.

ص: 796

فقهاء أجازوا عقد التوريد:

1-

عبد السميع إمام، قال:" نرى أن قواعد الشرع لا تأبى جواز أمثال هذه البيوع، حيث كانت الكمية المطلوبة مما تعرف بالعادة، عند أهل الخبرة بأمثالها. . . "(1) . وقد ذكرنا مزيدًا من حججه ونصوصه، في مواضع سابقة من هذه الورقة.

2-

مصطفى الزرقا، قال: " عقد التوريد صحيح شرعًا (

) ، كما هو صحيح قانونًا (

) ويشبه إلى حد كبير بيع الاستجرار الذي نص عليه الحنفية، كما أنه أولى بالصحة من البيع بما ينقطع عليه السعر الذي صححه الحنابلة، مع أن فيه كمية محددة، والسعر غير محدد عند العقد (

) ، ولا سيما أن الحاجة العامة اليوم تدعو إلى ممارسة عقد التوريد، كما أنه أصبح متعارفًا (

) . ولا يخفي أن عقد التوريد قد أصبح فيه عرف شامل، ولاسيما بعد أن قررته القوانين " (2) .

3-

الصديق الضرير، قال:" دعوى عدم الفائدة في ابتداء الدين بالدين غير مسلمة، فإن المشتري يصبح بالعقد مالكًا للمبيع، والبائع يصبح مالكًا للثمن، وكون التسليم يتأخر إلى أمد لا يذهب بفائدة العقد. ثم إن العاقل لا يقدم على عقد لا مصلحة له فيه، فلو لم يكن للعاقدين غرض صحيح في ابتداء الدين بالدين لما أقدما عليه، والغرض الصحيح في هذا العقد متصور، فقد يعمد التجار لهذا النوع من البيع، لضمان تصريف بضائعهم "(3)، يقصد: بيع التوريد.

4-

عبد الوهاب أبو سليمان، أجازه بالاستناد إلى بيعة أهل المدينة، والبائع الدائم العمل (4) . وذلك نص المدونة:" كان الناس يبتاعون اللحم بسعر معلوم، فيأخذ كل يوم وزنًا معلومًا، والثمن إلى العطاء "(5) ، أو إلى أجل معلوم.

* * *

(1) نظرات في أصول البيوع الممنوعة، ص 70.

(2)

فتاوي الزرقا، ص 487 – 488.

(3)

الغرر، ص 316.

(4)

وهو نفس ما استند إليه قبله الشاذلي، محاولة منه لإثبات جواز الاستصناع في مذاهب أخرى، غير مذهب الحنفية. انظر مجلة المجمع، العدد (7) : 2 / 451.

(5)

المدونة: 3 / 290؛ ومواهب الجليل: 4 / 538.

ص: 797

القسم الثاني

المناقصات

مقدمة:

سبق أن ذكرت، في مقدمة الورقة، أن لي ورقة سابقة حول المناقصات، قدمتها للدورة التاسعة، فلن أكرر هنا ما قلته هناك، وسأقتصر على أمرين:

1-

الكلام في العناصر التي لم يسبق لي الكلام فيها، وهي:

أ- الفرق بين المناقصة وطرق الشراء الأخرى.

ب- حكم قصر الدخول في المناقصة على المرخص لهم حكوميًّا بذلك.

ج- هل يلزم إخبار المشتري بأن البضاعة تملكها البائع بالأجل؟

د- مماطلة المشتري في تسديد ثمن البضاعة.

2-

زيادة إيضاح مسألة بيع دفتر الشروط، ومناقشة آراء العلماء فيها.

الفرق بين المناقصة وطرق الشراء الأخرى

قد يقال هنا بكل سهولة: إن الغرض من المناقصة هو الوصول إلى أنقص ثمن. ولكن هذا أمر واضح، وليس هو المراد هنا. إنما يتبين الغرض منها بالمقارنة بينها وبين طرق أخرى للشراء، كطريقة الشراء المباشرة، الشراء بالمساومة.

في كلتا الطريقتين: المناقصة، والمساومة، يسعى البائع إلى أعلى ثمن، ويسعى المشتري إلى أقل ثمن. وفي طريقهما للوصول إلى هذا، نجد أن المشتري في المساومة يسلك سبيل المماكسة والمكاسرة، وأن البائع يسلك سبيل الاستقصاء أو التعظيم، وفي المناقصة ينعكس دور البائع، فيسلك سبيل النقص، بدلًا من الزيادة، لكي يظفر بالصفقة، ففي حين أنه في المساومة يتعارك مع المشتري لتحقيق أعلى ثمن ممكن، نجد أنه في المناقصة يتنافس مع الباعة الآخرين لتحقيق أقل ثمن ممكن.

وفي حين أن المشتري، في المسومة، يطوف على عدد من الباعة، لجمع المعلومات، ثم بعد ذلك يثبت المواصفات ويطلق الثمن، ليعقد الشراء بالثمن الأدنى، نجد أن المشتري، في المناقصة، يستجمع الباعة، ويجعلهم يطوفون عليه، بدلًا من أن يطوف عليهم.

وتتقارب المناقصة والمساومة، عندما يلجأ المشتري، في المساومة، لدى تجواله على الباعة، إلى أخذ عروض منهم سارية المفعول حتى أمد محدد، ليختار بعد ذلك أرخص عرض.

لكن يبقى هناك فرق لعله هو الفرق الفاصل بين الطريقتين، وهو أن المشتري مساومة له أن يتخير من شاء من الباعة، وأن يقتصر على العدد الذي يريده منهم. أما في المناقصة فإن المشتري يفتح الباب لجميع الباعة على قدم المساواة، فتعطى لهم فرص متكافئة في البيع، وهذا شيء توفره المناقصة (والمزايدة) ، ولا توفره المساومة، إذا كانت المساومة توفر الحرية للمشتري، فإن المناقصة توفر العدالة للبائع، هذا في المناقصة، وعلى الضد من ذلك في المزايدة، فالمساومة هنا توفر الحرية للبائع، ولكن المزايدة توفر العدالة للمشتري، وإذا كان هذا أمر يجب أن يسعى إليه كل من القطاعين العام والخاص، إلا أن القطاع العام حري به أن يكون القدوة في ذلك، لإشعار الجميع بأنهم أمامه سواسية لا محاباة لأحد على أحد، ولولا ذلك لربما اتهم الناس القطاع العام بالمحاباة والتواطؤ والرشوة والفساد واستغلال النفوذ. فكما أن الضرائب واجبة على الجميع، فكذلك البيع حق للجميع، جميع الباعة، وإلا اختل ميزان العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.

ص: 798

وإذا تذكرنا أن المساومة غالبًا ما يلجأ إليها في المشتريات القليلة القيمة، فإن المناقصة غالبًا ما يلجأ إليها في المشتريات الكبيرة القيمة. ولما كان عدد البائعين والمشترين كبيرًا في المساومة، والمبالغ صغيرة، فإن عمليات البيع والشراء تتعارض فيما بينها، وتحقق العدالة للفريقين وللأفراد بداخل كل فريق منهما. أما في المناقصة. فإن عدد المشترين والبائعين يقل نسبيًّا، وترتفع قيمة المبالغ، ولذلك فإنه ما لم تقم المناقصة على مبادئ المنافسة والمساواة وتكافؤ الفرص، فإنها تكون مدعاة لإثارة موجات من الغضب والاستياء العام، لدى البائعين والمشترين والجمهور.

دفتر الشروط:

تنص لوائح المناقصات عادة على أنه: " يجب أن تعد كل جهة، قبل الإعلان عن المناقصات، كراسة خاصة بشروط العطاءات، وقوائم الأصناف أو الأعمال، وملحقاتها، يتم طبعها وتوزيعها بعد ختمها واعتماد مدير المشتريات لها، على من يطلبها، وفقًا للقواعد، وبالثمن الذي تحدده الجهة الإدارية، بشرط أن يكون بالتكلفة الفعلية لكراسة شروط العطاءات والمواصفات وكافة المستندات الملحقة بها مضافًا إليها نسبة مئوية لا تزيد على (20 %) كمصروفات إدارية "(1)

رأي الباحث في بيع دفتر الشروط:

إنني أرى أن الجهة المنظمة للمناقصة هي التي عليها أن تتحمل تكلفة إعداد دفتر الشروط، ولا يجوز لها أن تبيعه، ولا أن تسترد كلفته، فهي المستفيدة منه، وهي التي اختارت طريقة المناقصة، فمن كان له الغنم فعليه الغرم. ولا مانع من أن تأخذ تأمينًا قابلًا للرد، ممن يطلبه، خشية أن يطلبه من هو جاد ومن هو غير جاد، فيلقيه في سلة المهملات.

وتعتبر تكلفة دفتر الشروط من جملة تكاليف المناقصة والعقد.

(1) الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 795 – 796، 219.

ص: 799

مناقشة آراء العلماء في دفتر الشروط:

1-

رأي السلامي: ذهب السلامي، مفتي تونس (سابقًا) ، وعضو المجمع، على جواز بيع دفتر الشروط، فقال: " إن رسم الدخول في المزايدة أمر لم يعهد من قبل، وهو مما اقتضته أنظمة الدول والمؤسسات والشركات (

) ، وهو المعبر عنه بكراس الشروط (

) ، وهي بين من يمكن كل راغب في نسخة منه بدون مقابل، ومن يبيع تلك النسخ للمشاركين في المزايدة (

) ، فإنه ليس القصد في فعله أن يبيع هذا الكراس، لأن تفاهة قيمته بالنسبة للمبيع لا تجعله مقصودًا بالثمن، وإنما هو يشترط ذلك لما بيناه، من أن يكون كل مشارك على بينة من أمره في شروط العقد وضوابطه. ولذا فإن أصل بيع الكراس لا مانع منه، إذ هو وثيقة مادية مسعرة بسعر محدد، لم يلزم بها أي مشتر إلزامًا ظالمًا (

) ، واشتراط ذلك لا مانع منه، نظرًا إلى أنه شرط سائغ، وليس له تأثير في العقد " (1) .

ثم لخص رأيه في آخر البحث، فقال:" لا يوجد ما يمنع البائع من اشتراط أن يكون المشارك في المزايدة قد اشترى كراس الشروط، واطلع عليه، واشتراط ذلك لا مانع منه، لهوان قيمته بالنسبة لأصل الصفقة عادة، إذا لو كان رفيع الثمن لكان عامل طرد للمزايدين، وهو عكس رغبة البائع ومصلحته "(2) .

(1) السلامي، مجلة المجمع، العدد (8) ، ج 2، ص 37.

(2)

المصدر السابق، ص 49.

ص: 800

لم أجد، في الفقه الإسلامي، من احتج بمثل ما احتج به السلامي، من تفاهة القيمة، إلا في موضعين، ومآلهما واحد.

1-

موضوع الحديث عن المال المتقوم، فقال إن الأعيان والمنافع التافهة القيمة ليست من الأموال المتقومة، وضربوا أمثلة على ذلك بقطرة الماء، وحبة القمح، وشم التفاحة. فهل يرى السلامي أن ثمن دفتر الشروط:(100) ريال أو (100000) ريال هو من هذا القبيل؟

2-

موضع الحديث عن اللقطة، فمنها ما له قيمة، كالدينار والدرهم، فيجب تعريفها، ومنها ما لا قيمة له، بل هو تافه حقير، كالزبيبة والجوزة، فلا يجب تعريفها، ومنها ما له قيمة، إلا أنه لا تتبعه نفس صحابه إن ضاع منه، كالرغيف والدانق، هل يعرف أو لا يعرف؟ قولان في الفقه.

فهل ثمن دفتر الشروط كالزبيبة والجوزة، والرغيف والدانق؟

2-

رأي أبو سليمان: ذهب أبو سليمان إلى أن الذي يجب أن يتحمل تكلفة دفتر الشروط هو من ترسو عليه المناقصة، دون سائر أصحاب العطاءات الأخرى الذين لم ترس عليهم. هذا ما قاله في بحثه المقدم إلى المجمع. والمنشور في مجلته: " الأولى والأحق بدفعها من رسا عليه العطاء في المناقصة، أو المزايدة، لأنه المستفيد الوحيد، وسيحتسبها ضمن تكاليف المشروع (

) . . وربما يكون هذا من واجباته ومسؤولياته، لو لم تقم المؤسسة أو الإدارة بتجهيزها " (1) .

لكنه في خاتمة بحثه، ذكر بحق أن تكلفة دفتر الشروط:" جديرة بأن تكون مسؤولية الجهة صاحبة المصلحة "(2) .

ولدى مناقشة البحوث، ردد رأيه بين قولين: قول بتحميل التكلفة للإدارة وقول بتحميلها لمن رسا عليه العطاء (3) .

لقد نشر أبو سليمان بحثه هذا أيضًا في مجلة: (البحوث الفقهية المعاصرة) إلا أنه غير رأيه، فقال:(غير أن الواقع أن من لم يرس عليه العطاء سيستفيد من دفتر الشروط، بمعرفة مدى إمكانية تنجيزه للمطلوب، فلا يدخل مغامرًا دون معرفة قدراته وإمكاناته في تنفيذ مشروع معين، وسيساعده هذا على الفوز في مناقصات مستقبلية، إذا يحفزه هذا على رفع كفاءته، وتطوير قدراته، وتحسين أدائه " (4) .

(1) أبو سليمان، مجلة المجمع، العدد (8) 2 / 119.

(2)

المصدر السابق، ص 124.

(3)

المصدر السابق، ص 156.

(4)

أبو سليمان، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد (19) ، ص 54.

ص: 801

وأكد هذا في خاتمة بحثه، فقال بأن هذه التكاليف:" يتحملها من رسا عليه العطاء ومن لم يرس عليه، لأن كليهما يستفيد منهما عمليًّا بوجه أو بآخر "(1) .

وبهذا صار لأبو سليمان ثلاثة آراء متعارضة:

1-

يتحمل التكلفة من رسا عليه العطاء.

2-

يتحمل التكلفة من رسا عليه العطاء، ومن لم يرس.

3-

يتحمل التكلفة الجهة صاحبة المناقصة.

فأي واحد من هذه الآراء الثلاثة هي رأي أبو سليمان؟ لعله الرأي رقم (2) ، إذ أراد به إما موافقة رأي الأستاذ الذي حكم بحثه لمجلة البحوث الفقهية المعاصرة، أو أراد به العودة عن رأيه لموافقة رأي السلامي، وقرار المجمع، لا سيما وأن هذا الرأي هو المطبق في الحياة العملية، فلماذا نصادمه ونزعج الناس عنه؟

3-

رأي الزحيلي: بين كل من السلامي وأبو سليمان رأيه في ورقة مكتوبة، أما وهبة الزحيلي فقد بين رأيه شفهيًّا خلال المناقشة، فقال:" دفتر الشروط ينبغي أن يكون بثمن، ودائمًا العارض والشركة والدولة تقول: إن الذي يريد أن يشارك في هذه المناقصة عليه أن يدفع ثمن هذا الدفتر، ولماذا الشركة تخسر شيئًا أنفقت عليه من الخبرة والمعلومات، ثم يضيع الأمر؟ ثم تطالب أيضًا هذه الجهات التي تعرض بالمزاد العلني أن يكون هناك جدية في العرض، أن يوضع عربون يأخذه في النهاية، إذا لم يرس الثمن عليه. فلا أجد إشكالًا في قضية إباحة هذا النوع من المباعيات، إن الفقهاء يصرحون ببيعه وجوازه، لذلك إن القضية أسهل من أن يثار فيها غبار "(2) .

والجواب:

1-

الحجة الأولى ليست حجة، إنما هي بيان للواقع الذي يراد الإفتاء فيه.

2-

تخسر الشركة هذه النفقات إذا ألغت المناقصة، وعندئذ تكون هي المسؤولة، أما إذا أجريت المناقصة فإنها لا تخسر، إذ الفرض أنها آثرت أسلوب المناقصة، على غيرها من أساليب الشراء، بعد حساب منافعها وتكاليفها وجدواها.

3-

هناك فرق بين دفتر الشروط والعربون، فليس هذا محل الكلام عن العربون، إنما محله عند الكلام عن الضمان، لا عن دفتر الشروط.

ربما يريد الزحيلي أن قيمة دفتر الشروط هي من قبيل رسم الدخول، وليس من قبيل الثمن، وسأناقش هذه المسألة في مبحث لاحق، من هذه الورقة.

يجب أن نلاحظ أخيرًا أن رأي الزحيلي، كما سبق أن قلنا، هو رأي من اشترك في مناقشة، وليس رأي من أعد بحثا حول الموضوع، كالسلامي وأبو سليمان.

(1) المصدر السابق، ص 59.

(2)

مداخلة شفهية للزحيلي، مجلة المجمع، العدد (8) : 2 / 146.

ص: 802

4-

رأي ابن منيع: قال ابن منيع: " لا أرى ما يمنع من بيعه، وعندئذ تكون قيمته تجميعًا لما خسر عليه، أو ما أنفق عليه تهيئته، وإن كانت قيمته لا تساوي (100) ريال مثلًا، ويباع بـ (1000) ريال، فالغرض من ذلك هو ألا يدخل في المزايدة من يريد أن يضيع فرصة إنهاء هذه المزايدة بما يرسو عليه، لأنه قد يدخل فيها من ليس لها أهلًا، ثم بعد أن ترسو عليه المزايدة يكون عنده شيء من المكر أو عدم الجدية، ومعنى ذلك أن تضيع الفرصة، ثم يرجع إلى الذي يليه (

) . فأرى أن أخذ قيمة، ومرتفعة نسبيًّا عن تكاليفها الدفترية، قد يكون هذا من المصلحة المعتبرة " (1) .

والجواب:

1-

استرداد النفقة لا يكون كيفما اتفق، لا من الناحية الفنية، ولا من الناحية الشرعية.

2-

يجب التفرقة بين الدفتر والضمان، فهما أمران مختلفان، فالجدية هنا مسألة متعلقة بالضمان الابتدائي (وقد سبق بحثه في ورقتي السابقة) ، ولا علاقة لها بدفتر الشروط.

(1) مداخلة شفهية لابن منيع، مجلة المجمع، العدد (8) : 2 / 156.

ص: 803

هل هناك شيء اسمه رسم دخول في المناقصة؟

في قوانين المناقصة ولوائحها، رأيت أن هناك دفتر شروط (وثائق) ، وضمانًا مؤقتًا ونهائيًّا، ولكني لم أجد شيئًا اسمه رسم دخول، تكرر ذكره كثيرًا في مناقشات المجمع، في الدورة الثامنة، حتى ظهر القرار بهذا الشكل:" لا مانع شرعًا من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) ، كونه ثمنًا له "(1) .

يبدو أن المقصود أن قيمة دفتر الشروط هي رسم الدخول، لا سيما وأن بيع دفتر الشروط هو موضع نقاش، فليكن الأمر رسمًا لا ثمنًا.

ربما يذهب بعض العلماء، كما تبين لنا من كلام الزحيلي، على اعتبار الرسم في حكم العربون، لكن المأخذ على هذا أن العربون عند الفقهاء الذين يجيزونه، يوضع من الثمن، إذا تم العقد، وهذا ما لا يحدث في المناقصة، وهناك مأخذ آخر وهو أن العربون هنا يؤخذ متعددًا بتعدد المشتركين في المناقصة، فبأي حق يؤخذ من أشخاص متعددين، تنافسوا على صفقة واحدة لم ترس عليهم؟

قرار المجمع في دفتر الشروط:

لا مانع شرعا من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) ، لكونه ثمنًا له " (2) .

وقد استند القرار إلى بحثين ومناقشات، أحد البحثين للسلامي، والآخر لـ (أبو سليمان) ، واشترك في المناقشة، وهبة الزيحلي (3) ، وعلى السالوس (4) ، وعبد الله بن منيع (5) .

(1) مجلة المجمع، العدد (8) : 2 / 170.

(2)

المصدر السابق نفسه.

(3)

المصدر السابق، ص 146.

(4)

المصدر السابق، ص 151.

(5)

المصدر السابق، ص 156.

ص: 804

ويلاحظ على القرار ما يلي:

1-

أن عبارته لا تختلف عن عبارات قوانين ولوائح المناقصة: " بالثمن الذي تحدده الجهة الإدارية، شرط أن يكون بالتكلفة الفعلية. . . "(1) .

2-

أن عبارات القوانين واللوائح فيها إضافة لم يتناولها قرار المجمع: " مضافًا إليها نسبة مئوية لا تزيد على (20 %) كمصروفات إدارية (2) ، كما لم تتناولها الورقتان المقدمتان من المجمع.

3-

الرسم والقيمة والثمن، لكل منها معنى مختلف، وقد جمعت معًا في القرار، بلا تمييز بينها، ولا توضيح لمعنى كل منها، وهذه أولًا مسؤولية أصحاب البحوث، ثم بدرجة أقل: مسؤولية لجنة الصياغة (الخاصة، والعامة، وأعضاء وخبراء المجمع الذين حضروا الجلسة) . وقد كان من العادات الحميدة للمجمع الموقر أن ينقل في مجلته مناقشة القرار أيضًا، ولكنهم هذه المرة اكتفوا بالقرار دون مناقشة، ولم ينقلوا إلينا آراء الحضور، لا اعتراضاتهم، ولا مناقشاتهم.

مماطلة المشتري في تسديد الثمن:

لا ريب أن مماطلة الغني، في تسديد الثمن، غير جائزة، سواء أكان المشتري من القطاع العام أم من القطاع الخاص. والمماطل الغني ظالم فاسق، مرتكب لكبيرة، مستحق للعقوبة، ويمكن التوقي من خطر المماطلة بالحصول على الكفالات والرهون.

وقد سبق لي أن بحثت هذه المسألة (3)، ووصلت فيها إلى ما يأتي:

1-

عقوبات غير جائزة، وهي التي تفرض على المماطل الغني غرامات مالية في مقابل التأخير أو تطالبه بالتعويض عن الربح الفائت أو الضرر، على أساس ربح المثل، أو ربح الدائن، لأن هذا يدخل في ربا النسيئة، تقضي أم تربي أو أنظرني أزدك، وهو قرار المجمع الفقهي في كل من مكة وجدة.

(1) الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 219، 795.

(2)

المصدر السابق، ص 796؛ وانظر مطلع الكلام في مبحث دفتر الشروط، في هذه الورقة.

(3)

الغني المماطل: هل يجوز إلزامه بتعويض دائنه؟ مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، البنك الإسلامي للتنمية جدة، رجب 1417هـ، أو بيع التقسيط، ط 2، ص 131.

ص: 805

2-

عقوبات جائزة، مثل حلول الأقساط غير المستحقة، وإعلان أنه مماطل، وإدراج اسمه في قائمة سوداء، بحيث يحرم من الاستدانة في المستقبل، وإمكان أن يأمر القاضي بحبسه وملازمته وضربه.

3-

عقوبات يمكن أن تكون مقبولة، ولها سند من أقوال بعض الفقهاء القدامى، مثل:

- تحميل المماطل هبوط القوة الشرائية للنقود.

- تعزير المماطل لصالح جهات خيرية، لا لصالح الدائن.

- اشتراك الدائن مع المدين المماطل بحصة من الربح.

- زيادة حصة الدائن من الربح.

وإذا كان المماطل إحدى المؤسسات القطاع العام، فيختار من هذه الإجراءات ما هو مناسب لحالتها.

حكم قصر الدخول في المناقصة على المرخص لهم حكوميًّا بذلك:

غالبًا ما تضع الدولة للموردين والمقاولين تصنيفًا رسميًّا، بحيث لا يسمح بالاشتراك في المناقصة إلا للمصنفين المسجلين، وقد يكون لهذا التصنيف فئات أو مراتب متفاوتة بحسب حجم المنشأة وملاءتها وقدرتها على مباشرة العقود وتنفيذها.

ص: 806

وتلجأ الدولة أيضًا إلى تنظيم سجل بالممنوعين من التعاون معها، نتيجة ارتكابهم غشًا أو تلاعبًا أو إهمالًا أو تقصيرًا أو رشوة.. . . إلخ.

إن كل تنظيم من هذا القبيل، يكون الغرض منه نجاح المناقصة، ورفع كفاءة عمليات التوريد والمقاولة والشراء، والاطمئنان إلى قدرة المنشأة على تنفيذ التزاماتها، يعد جائزًا شرعًا.

أما المعاملة الاعتباطية للموردين والمقاولين، التي يظهر أن الغرض منها هو المحاباة، أو الإخلال بمبادئ المنافسة والمساواة، وتكافؤ الفرص، أو اختيار منشآت معينة بصورة تحكمية أو استبدادية، فهذا لا يجوز، لأنه من الفساد والظلم والتعسف وسوء استعمال السلطة والنفوذ، وغالبًا ما يخفي وراءه صفقات مشبوهة ورشاوى وهدرًا للمال العام.

هل يلزم إخبار المشتري بأن البضاعة تملكها البائع بالأجل؟

لم أفهم وجاهة طرح هذه المسألة في باب المناقصة. نعم هي مفيدة في باب بيع الأمانة، ولكنها ليست مفيدة في باب بيع المساومة، ولا في المناقصة.

معلوم أن بيع الأمانة ثلاثة أنواع: مرابحة، وتولية، ووضيعة، فإن تم البيع بالثمن الأول، مع إضافة ربح معلوم، فهو مرابحة. وإن تم بالثمن الأول، بدون ربح ولا خسارة، فهو تولية. وإن تم بالثمن الأول. بخسارة معلومة، فهو وضيعة.

فبيع الأمانة يعتمد على أمانة البائع، في إخبار المشتري بالثمن الذي اشترى به السلعة، فإذا كان بيع الأمانة والبيع الأول قد تما نقدًا، أو لأجل واحدًا غير مختلف، فهذا لا مشكلة فيه. لكن إن تم البيع الأول لأجل وبيع الأمانة نقدًا أو تما بالأجل وكان أجل الأول أبعد من الثاني، وجب إخبار المشتري بذلك، لأن للزمن حصة من الثمن، أي إن الثمن المؤجل يزيد عن المعجل، والثمن الأبعد أجلًا يزيد على الأقرب أجلًا، وهو ما بسطناه في موضع آخر.

لكن هذا الإخبار مطلوب في بيع الأمانة، وغير مطلوب في المساومة، ولا في المناقصة.

ص: 807

خاتمة

هذه الخاتمة تعتمد على ورقتي هذه، بالإضافة إلى الورقة السابقة، التي ذكرتها في المقدمة.

التوريد:

عقد يتعهد فيه أحد الطرفين (المورد) بأن يورد إلى الطرف الآخر (المورد له) سلعًا أو خدمات موصوفة، على دفعة واحدة، أو عدة دفعات معلومة، في مقابل ثمن أو أجر محدد، بحيث يدفع قسط منه كلما تم قبض قسط من المبيع.

ويجب أن يكون المبيع عام الوجود وقت التسليم، أو نتيجة مصانع ذات إنتاج كبير، ومعروفة بقدرتها العالية على التسليم.

وهو عقد جائز شرعًا، وإن تأجل فيه البدلان، بالنظر لحاجة الناس إليه، وعموم البلوى به، وانتشاره في القوانين والأعراف الحديثة، وخلوه من الموانع الشرعية.

ويجوز فيه الاتفاق على سعر الوحدة، دون الكمية، كما يجوز فيه ترك السعر لسعر السوق. ويجوز فيه ضمان المبيع لمدة معلومة، لإزالة جهالة المشتري، وزيادة رضاه.

المناقصة:

طريقة في الشراء أو الاستئجار أو الاستصناع، تخضع لنظام محدد، وتلتزم فيه الجهة صاحبة المناقصة بدعوة المناقصين إلى تقديم عطاءاتهم (عروضهم) ، وفق شروط ومواصفات محددة، من أجل الوصول إلى التعاقد مع صاحب أرخص عطاء.

والمناقصة كالمزايدة جائزة شرعًا، سواء أكانت عامة أم محدودة، داخلية أم خارجية، علنية أم سرية.

ويجوز قصر الاشتراك فيها على المصنفين رسميًّا، أو المرخص لهم حكوميًّا، شريطة أن يكون هذا التصنيف أو الترخيص قائمًا على أسس موضوعية عادلة.

ويجوز للجهة صاحبة المناقصة فرض غرامات تخلف على الموردين، الذي يتخلفون عن تنفيذ التزاماتهم بدون عذر مقبول.

ولا يجوز لها فرض غرامات تأخير، لأنها تضارع فوائد التأخير في القروض الربوية، وفي الورقة بيان للعقوبات الجائزة وغير الجائزة، في حالة مماطلة المدين في التسديد.

ويجوز لها تقديم دفتر الشروط إلى المناقصين، مقابل تأمين يرد إليهم، عند إعادة الدفتر، ولكن لا يجوز لها أن تفرض عليهم تكلفته أو ثمنه، لأن منفعته عائدة لها، لا لهم.

ص: 808

المراجع

- الأسس العامة للعقود الإدارية، سليمان محمد الطماوي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984 م.

- إعلام الموقعين، لابن القيم، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، 1397 هـ / 1977 م.

- الأم، للإمام الشافعي، طبعة الشعب، القاهرة، د. ت.

- بدائع الفوائد، لابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت.

- بداية المجتهد، لابن رشد، دار الفكر، بيروت، د. ت.

- البرهان للزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، د. ت.

- بيع الكالئ بالكالئ، لنزيه حماد، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 1406 هـ / 1986 م.

- تفسير ابن حيان، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، د. ت.

- تفسير آيات أشكلت، ابن تيمية، تحقيق عبد العزيز الخليفة، مكتبة الرشيد، الرياض، 1417 هـ / 1997 م.

- تفسير الجصاص، دار الفكر، بيروت. د. ت.

- تفسير الرازي، دار الكتب العلمية، طهران، د. ت.

- تكملة المجموع للسبكي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.د. ت.

- الجامع في أصول الربا، لرفيق يونس المصري، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، دار البشير، جدة، 1412 هـ / 1991 م.

- حاشية الشرقاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت.

- زاد المعاد، لابن القيم، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 هـ / 1982م.

- السلم والمضاربة، لزكريا محمد الفالح القضاة، دار الفكر، عمان، 1984 م.

- سنن الدارقطني، نشر عبد الله هاشم يماني المدني، المدينة المنورة، د. ت.

- ضمان عيوب المبيع الخفية، لأسعد دياب، دار اقرأ، بيروت، 1403 هـ / 1983 م.

- عقد التوريد، لعبد الوهاب أبو سليمان، ورقة مقدمة إلى مؤتمر المستجدات الفقهية في معاملات البنوك الإسلامية، الجامعة الأردنية، عمان، 1414 هـ / 1994 م.

- الغرر وأثره في العقود للصديق الضرير، د. ن، القاهرة، 1386 هـ / 1967م.

- الغني المماطل: هل يجوز إلزامه بتعويض دائنه؟ لرفيق يونس المصري، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، البنك الإسلامي للتنمية، رجب 1417 هـ؛ وضمن بيع التقسيط، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، دار البشير، جدة، ط 2 / 1418 هـ ـ / 1997.

ص: 809

- فتاوى الزرقا، بعناية مجد مكي، وتقديم يوسف القرضاوي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، دار البشير، جدة، 1420 هـ / 1999 م.

- فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت.

- القانون التجاري السعودي، لمحمد حسن الجبر، عمادة شؤون المكتبات، جامعة الملك سعود، الرياض، 1402 هـ / 1982 م.

- القياس، لابن تيمية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1402 هـ / 1982 م.

- الكشاف، للزمخشري، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1392 هـ / 1972 م.

- مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العد (19) ، الرياض، 1414 هـ / 1993 م.

- مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد (7) ، الجزء (2) ، جدة، 1412 هـ / 1992 م.

- مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد (8) الجزء (2) ، جدة 1415 هـ / 1994 م.

- المجموع، للنووي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، د. ت.

- المداينات، لعيسوي أحمد عيسوي، بحث مقدم إلى الأزهر لنيل شهادة العالمية من درجة أستاذ، القاهرة، 1365 هـ / 1946 م.

- المدونة، للإمام مالك، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ / 1978 م.

- المستدرك، للحاكم، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ / 1978 م.

- مناقصات العقود الإدارية: عقود التوريد ومقاولات الأشغال العامة، لرفيق يونس المصري، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد (9) ، الجزء (2) ، 1417 هـ / 1996م.

- المهذب، للشيرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1396 هـ / 1976م.

- مواهب الجليل، للحطاب، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ / 1978 م.

- الموسوعة الفقهية الكويتية، الجزء (9) ، وزارة الأوقاف، الكويت، 1407 هـ / 1987 م.

- نظرات في أصول البيوع الممنوعة، لعبد السميع إمام، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، د. ت.

- نظرية العقد، لابن تيمية، دار المعرفة، بيروت، د. ت.

- نيل الأوطار، للشوكاني، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت.

- الوسيط، للسنهوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.

ص: 810

العرض – التعقيب والمناقشة

العرض

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قبل الدخول في هذه الجلسة أعرض على مسامعكم أمرين:

الأمر الأول: جدول الأعمال وهو بين أيديكم ولعله يكون مناسبًا.

الأمر الثاني: جرت العادة على اختيار مقرر عام وأقترح أن يكون الشيخ عجيل النشمي هو المقرر العام لهذه الدورة.

الشيخ عجيل النشمي:

بسم الله الرحمن الرحيم.

أرجو منك يا فضيلة الشيخ أن تعفيني من هذه المهمة والإخوة خاصة الخبراء لهم سابقة في هذا الموضوع.

الرئيس:

وأنت لك سابقة، جزاك الله خير، تفضل يا شيخ.

عمل هذه الجلسة هو كعقود التوريد والمناقصات، والبحوث بين أيديكم والعارضان هما: الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان والشيخ محمد تقي الدين العثماني والمقرر الدكتور رفيق يونس المصري.

الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد، فإن الأبحاث المقدمة في عقد التوريد، في الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة المنعقدة في مدينة الرياض، أربعة أبحاث، هي: عقود التوريد والمناقصة لفضيلة العلامة محمد تقي الدين العثماني، الثاني: عقود التوريد والمناقصات للأستاذ الدكتور رفيق يونس المصري، والثالث: عقود التوريد والمناقصات للعلامة الشيخ حسن الجواهري، والرابع: عقد التوريد دراسة فقهية تحليلية لعبد الوهاب أبو سليمان، اكتفى الباحث الأخير بما سبق وأن قدمه في عقد المزايدات في دورة ماضية عن الكلام عن المناقصات.

فيما يلي عرض موجز لأهم العناصر والأفكار المتفقة مجموعة ثم ما انفرد به كل بحث عن الآخر في عقد التوريد فحسب.

ص: 811

العناصر المتفقة:

تتفق الأبحاث الأربعة على أهمية عقد التوريد في العصر الحاضر وأنه عصب الحركة التجارية محليًّا ودوليًّا، وأنه عقد جديد. تصوير العقد بمفهومه التجاري المتداول، والبعض حاول تعريفه تعريفًا فقهيًّا. وسأتجاوز عن هذه التعريفات نظرًا لاختصار الوقت.

التخريج الفقهي، وهو المهم في هذا العرض:

فضيلة القاضي محمد تقي العثماني ذهب إلى أن عقد التوريد من قبيل المواعدة اللازمة، وتفصيل هذا أنه قسم العين محل التوريد وموضوعه إلى قسمين:

1-

ما يحتاج إلى صناعة فيكيف على أساس الاستصناع.

2-

وما لا يحتاج إلى صناعة وهذا لا يعدو أن يكون تفاهمًا ومواعدة من الطرفين، أما البيع الفعلي فلا ينعقد إلا عند تسليم المبيعات، وأن الإشكال هو في جعل هذه المواعدة لازمة، والحكم عند أكثر الفقهاء أن المواعدة لا تكون لازمة في القضاء، ويذهب البعض إلى القول بلزوم المواعدة عند الحاجة. ثم استشهد للرأي الأخير بما جاء في فتاوى (الخانية) وبما أفتى به بعض المالكية بما يخص بيع الوفاء. ثم عقب على هذا قائلًا: ولكن المقصود من هذا التنظير أن الفقهاء اعتبروا حاجة الناس في إلزام ما لم يكن لازمًا أصلًا، وأن عبارة قاضي خان – رحمه الله تعالى – بصفة خاصة صريحة في أن المواعدة يمكن أن تجعل لازمة لحاجة الناس، والمواعدة إنما تكون من الطرفين فتبين أنه لا بأس بجعلها لازمة عند الحنفية لحاجة الناس.

ومن الملاحظ والمهم حسب توجيه العلامة القاضي العثماني أنه لم يعد التوريد عقدًا، بل هو اتفاقية حينًا، وعقدًا حينًا آخرًا، وهذا يتبين من خلاصة البحث.

أم التخريج الفقهي لدى الأستاذ الدكتور رفيق يونس المصري فإنه اكتفى بسرد أسماء الفقهاء الذين أجازوه مع اقتباس نبذ من بعض تخريجاتهم.

التخريج الفقهي لدى العلامة الشيخ حسن الجواهري: اعتمد في مشروعية هذا العقد الجديد وصحته على عموم الآيات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . إن هذا العقد يطلق عليه العرف بأنه تجارة عن تراض من الطرفين يدخل تحت عموم الآية السابقة، وعلى هذا فسوف يكون كل عقد عرفي ولو كان جديدًا لم يكن متعارفًا عليه عند نزول النص يجب الوفاء به إذا كان مشتملًا على الشروط التي اشترطها الشارع في الثمنين أو المتعاقدين أو العقد. ثم عرض فضيلته لأدلة المانعين لهذا العقد وتصدى للإجابة عليها.

ص: 812

أما التخريج الفقهي لدى عبد الوهاب أبو سليمان فقد ذكر في بحثه أنه يمكن أن ينظر إلى مشروعية هذا العقد من عدمها من خلال أصلين شرعيين وتنزيله على أحدهما أو على كليهما إن أمكن هذا.

الأصل الأول: تنزيلها على عقد هو أكثر شبهًا به واتفاقًا معه في حقيقته، وأخص صفاته، وهو عقد البيع على الصفة أو ما يسمى (بيع الصفات) ، يجتمع معه في صفات رئيسية ثم ذكر الشبه بين عقد البيع على الصفة وعقد التوريد.

الأصل الثاني: أن يعد عقدًا جديدًا في ذاته وصفاته، يخضع أولًا لقاعدة (الأصل في المعاملات الإباحة) والقواعد الشرعية الأخرى مثل قاعدة (المقتضي والمانع) وغيرها مما له علاقة موضوعية بهذا الأصل.

الدكتور رفيق يونس المصري ذكر في المقدمة أنه يقدم ورقة وليس بحثًا، ملتزمًا في هذه الورقة بالعناصر التي طلبها المجمع، كما ذكر أنه اكتفى بالإحالة إلى بعض المراجع المعاصرة من أجل الاختصار. ومن ثم صنفت الموضوعات التي درسها متفقة ومنفردة مع الأبحاث الأخرى.

تعرضت الأبحاث لدراسة ومناقشة الموضوعات التالية:

- عقد التوريد وبيع ما ليس عنده.

- بيع الكالئ بالكالئ.

انفرد الأستاذ الدكتور رفيق المصري بدراسة حكم الاتفاق على سعر الوحدة في عقد التوريد وهو لا يرى مانعًا من ذلك.

- حكم ترك السعر لسعر السوق في عقد التوريد، أحال الإجابة على هذا إلى العلامة الشيخ عبد السميع إمام – رحمه الله – بعدم الجواز.

- هل يشترط أن يكون المبيع عام الوجود في عقد التوريد؟ يعتبر هذا الشرط مهم بالنسبة للسلع الزراعية المعتمدة على الأمطار، أما السلع الصناعية التي تقوم بإنتاجها مصانع كبيرة وتتمتع بقدرة عالية فقد يكون البيع جائزًا، ضمان المبيع جائز شرعًا كما هو جائز قانونًا، وعمل مقارنة بين التوريد وبين عقود أخرى.

انفرد بحث فضيلة الشيخ حسن الجواهري بالموضوعات التالية:

- لزوم عقد التوريد والاستدلال به.

- ثبوت خيار البيع وفوات الصفات ونحوهما.

- ضمان المبيع.

وبهذا يتم العرض الإجمالي لمجموع الأبحاث في عقد التوريد. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 813

الشيخ محمد تقي العثماني:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فأشكر فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان على تلخيصه للأبحاث فيما يتعلق بعقود التوريد، ولا أريد أن أعيد ما ذكره فضيلته لكنني أريد أن أضيف إليه نقطة جاءت في بحثي كما ذكره فضيلة الدكتور وهو أنني كيفت عقود التوريد على أساس أنها مواعدة ملزمة للجانبين وليست عقدًا باتًا. وإنما ذهبت إلى هذا الرأي من جهة أن جمهور العلماء والفقهاء عبر القرون قد اتفقوا على عدم جواز بيع المعدوم، وعلى عدم جواز بيع الكالئ بالكالئ. فبدلًا من أن نأتي برأي يخالف جمهور الفقهاء من الهين أن نقول إنها مواعدة موافقة الطرفين على إنجاز العقد في تاريخ لاحق، وهو يحتاج إلى الإيجاب والقبول في ذلك التاريخ اللاحق. والإشكال الوحيد على هذا التكييف أنه قد صدر من مجمعنا الموقر قرار بأنه إذا كان الوعد من طرف واحد فإنه يمكن أن يعتبر ملزمًا، أما إذا كان من الجانبين وصار مواعدة فإنه لا يمكن أن يكون ملزمًا.

وإنما صدر هذا القرار على أساس أنه إذا اعتبرنا المواعدة ملزمة للجانبين فإنها تكون في قوة العقد نفسه، ويلتبس بالعقد فلا يبقى هناك فرق بين هذه المواعدة اللازمة وبين بيع المضاف إلى المستقبل الذي اتفقا الأئمة الأربعة على عدم جوازه، لكني ذكرت في بحثي أن هناك فرق كبير بين المواعدة الملزمة وبين إنجاز العقد نفسه، والفرق أن إنجاز العقد ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة، فمن أنجز الشراء فإنه جعل الثمن دينًا في ذمته، ومن أنجز البيع فإنه نقل ملكية المبيع إلى المشتري أو جعل المبيع دينًا في ذمته إن كان البيع سلمًا. وإن هذا الانتقال من ذمة إلى ذمة يحدث فور ما يتم الإيجاب والقبول، ولذلك من اشترى دارًا لسكناه مثلًا ولم يدفع الثمن إلى بائعها فإنه صار مدينًا للبائع بمقدار الثمن وتجري عليه سائر أحكام المديون، فلا تجب عليه الزكاة بمقدار هذا الدين على قول من يجعل الدين مانعًا لوجوب الزكاة حالًا كان أو مؤجلًا. إذا أفلس المشتري فإن البائع أسوة للغرماء مطلقًا على قول الحنفية، وعند تغير المبيع عند الجمهور، وكذلك من باع الحنطة سلمًا فإن أصبح مدينًا للمشتري بذلك المقدار من الحنطة فتسقط عنه الزكاة بذلك المقدار لكونه دينًا عليه ولا يسقط هذا الدين بموت المسلم إليه، فيؤخذ المسلم فيه من تركته حالًا.

ص: 814

أما المواعدة فلا تنشئ دينًا على أحد من الطرفين، فلا تحدث بها هذه النتائج، فإذا تواعدا على بيع الشيء في تاريخ لاحق لم يكن الثمن دينًا في ذمة الواعد بالشراء فلا تسقط عنه الزكاة بمقدار الثمن، ولم يكن المبيع دينًا في ذمة الواعد بالبيع، فلا تسقط عن زكاته. ولا يحق للواعد بالشراء أن يأخذ الشيء الموعود بيعه من تركة الواعد بالبيع بعد موته، أو بعد إفلاسه. فظهر أن المواعدة ليست عقدًا ولا تنتج عنها آثار العقد ولا المديونية إلا في التاريخ الموعود، ولا تحدث هذه النتائج بصفة تلقائية، حتى في التاريخ الموعود بل يجب عند ذلك أن يتم الإيجاب والقبول من الطرفين. على أنه إن عرض لأحد الطرفين في المواعدة عذر حقيقي مقبول منعه من إنجاز الوعد، فإنه يعد معذورًا ولا يجبر على إنجاز العقد ولا على دفع التعويض. أما في البيع المضاف إلى المستقبل فعجز أحد الطرفين من تنفيذ مسؤولياته العقدية لا يسبب فسخ البيع تلقائيًّا وإنما يحتاج إلى الإقالة بالتراضي.

أما أثر كون المواعدة لازمًا فلا يتجاوز من أن يجبر الحاكم الفريقين بإنجاز العقد في التاريخ الموعود. وإن أخل أحدهما بالوفاء بوعده حمله الحاكم ما تضرر به الآخر من الضرر المالي الفعلي الذي حدث بسبب تخلفه عن الوفاء. وهذه النتيجة مختلفة تمامًا عن نتائج إنجاز العقد الذي ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة.

ولذلك قلت إنه نظرًا لهذه الفروق ينبغي أن نفرق بين المواعدة وبين العقد ولكن لا يصار إلى إلزام هذه المواعدة إلا عند الحاجة، والحاجة معترف بها في عقود التوريد.

فهذا ما أردت أن أضيفه إلى ما ذكره فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان حفظه الله تعالى وجزاه خيرًا.

والآن انتقل إلى موضوع المناقصة. والمناقصة طريقة تتبعها جهات تريد شراء سلع أو خدمات بأقل ما يعرض عليهم من سعر. وهو في حقيقته ضد المزايدة أو بيع من يزيد.

وإن المناقصات في عصرنا تجري إما في عقود المقاولات أو في عقود التوريد. والطريقة المتبعة لإجراء المناقصة أن الجهة التي تريد أن تعقد مع مقاول لبناء عمارة مثلًا وتريد أن يتقدم إليه المقاولون بعروض مختلفة فإنها تدون تفاصيل البناء ومواصفاتها وشروط العقد في دفتر ثم تدعو المقاولين إلى المناقصة عن طريق الإعلان في الجرائد أو الصحف، وعلى أساس هذا الإعلان يتقدم المقاولون بعروضهم مع مبلغ الضمان الابتدائي ثم إن الجهة الطالبة للمناقصة تفتح الظروف المختومة، وتختار العرض الأقل سعرًا ويرسو عليه العطاء.

وقد توسع سعادة الدكتور رفيق يونس المصري والشيخ العلامة حسن الجواهري في بيان حقيقة المناقصة والفرق بينها وبين المزايدة والمساومة، حيث إن المزايدة يجريها البائع ليحصل على أكثر ما يكون من ثمن، والمناقصة يجريها عامة المشترون أو المستصنعون ليحصلوا على أقل عرض لثمن البضاعة المطلوبة أو العمل المطلوب. وإن المشتري في المساومة يتخير من شاء من الباعة والمناقصة تفتح الباب لجميع الباعة على قدم المساواة.

ص: 815

وذكر الشيخ حسن الجواهري فرقًا آخر بين المناقصة والبيوع العادية وهو أن المناقصة يسقط فيها خيار المجلس.

والمهم هو التكييف الفقهي للمناقصة، وبما أن هذه ظاهرة جديدة أوجدتها حاجات المشاريع الكبيرة من التجارة فإنه لا يوجد ذكر للمناقصات في الكتب الفقهية. ولذلك لم ينص أو يصرح أحد من الفقهاء القدامى بهذا العقد.

وتكييفها الفقهي فقد ذكرت في بحثي أن تكييفها الفقهي يختلف باختلاف موضوع المناقصة فإن كان موضوعها عقدًا يجوز إنجازه على الفور مثل بيع المبيعات المملوكة للبائع، أو عقد الإجارة، أو الاستصناع، أو المقاولة، فالدعوة إلى المناقصة دعوة إلى هذه العقود. أما إذا كان موضوع المناقصة توريد أشياء غير مملوكة للبائع فقد ذكرت في بحثي في التوريد أن اتفاقية التوريد في هذه الحالة مواعدة لإنجاز العقد في المستقبل فليس هناك إيجاب وقبول لإنجاز العقد في هذه المرحلة، وإنما الإعلان الصحفي في مثل هذه المناقصة دعوة للتجار للدخول في مواعدة أو تفاهم عام، ولكن لا بأس أن تتخذ لها جميع الإجراءات المعهودة في المناقصة بشرط ألا يظن أن إرساء العطاء عقد بات للبيع، بل يرسو العطاء على أنه مواعدة من الطرفين ملزمة عليهما له إنجاز البيع في تاريخ مستقبل. أما الذين يقولون بأن عقد التوريد عقد للبيع ومنهم فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والدكتور رفيق والشيخ الجواهري فلا فرق عندهم بين الصورتين.

المسألة الثانية: في موضوع المناقصة هو أنه متى يتم الإيجاب والقبول في هذا العقد؟ :

وقد تعرضت لهذه المسألة وقلت: إنه قد يفهم بعض الناس أن الدعوة إلى المناقصة عن طريق الإعلان الصحفي إيجاب من قبل الجهة الطالبة، وإرساء العطاء قبول من قبل صاحب العطاء وليس الأمر كذلك لأن الإيجاب الفقهي لابد له من تحديد السعر، أما الإعلام الصحفي فلا يتحدد في السعر من قبل الجهة الطالبة للمناقصة. ولأن العقد لا يتم بمجرد فتح العرض الأقل فقد يحق للجهة الطالبة أن تجري مفاوضة مع صاحب العرض الأقل إذا كان سعره المعروض أكثر من سعر السوق وفي بعض الحالات الأخرى أيضًا. فالصحيح أن الإعلان الصحفي ليس إلا دعوة للدخول في العقد، والإيجاب الفقهي هو تقدم صاحب العرض بعرضه، ويتوقف قبوله على إرساء العطاء، فكلما رسا العطاء ولو بعد إجراء المفاوضة تحقق القبول وتم العقد إذا كان الموضوع بيعًا منجزًا أو إجارة أو استصناعًا. وهو الموقف الذي اختاره فضيلة الشيخ حسن الجواهري في بحثه. وهذا هو الموقف المختار عند الفقهاء في بيع المزايدة، كما يقول الحطاب – رحمه الله تعالى -:" أما بيع المزايدة فالحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له ".

ص: 816

ونقلت عدة نصوص للفقهاء الآخرين ولا حاجة لذكر جميعها، وقد ذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري في (الوسيط) إنه إنما يكون التقدم بالعرض في الإيجاب، ثم يعقبه القبول.

المسألة الثالثة: هل يصح رجوع صاحب العرض عن إيجابه قبل أن يرسو عليه العطاء؟ فلما كان التقدم بعطاء إيجابًا فالظاهر من ضوابط الإيجاب الفقهية أنه يجوز للموجب الرجوع عن إيجابه قبل رسو العطاء الذي يعتبر قبولًا في بيع المزايدة. وعلى هذا جرى القانون المصري كما ذكره الدكتور السنهوري في (الوسيط) ولكن يظهر من كتب المالكية أن الذي يتقدم بالعطاء في المزايدة – وهو المؤجل – لا يحق له الرجوع من إيجابه إلا أن يرسو العطاء.

قال ابن رشد رحمه الله تعالى: " والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطي فيها ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة ". وبمثله ذكر الحطاب ونقلت نصه.

فظهر بهذا أن المالكية فرقوا بين بيوع المساومة العامة وبين المزايدات، حيث يحق للمشتري في المساومة أن يرجع عن إيجابه متى شاء قبل قبول البائع، ولا يحق له ذلك في بيوع المزايدة، وهو الموقف الذي اختاره الشيخ حسن الجواهري في بحثه أيضًا.

ولا شك أنه لا فرق بين المزايدة والمناقصة في هذا الموضوع، فينطبق عليها جميع أحكام المزايدة من هذه الجهة. فمقتضى القواعد العامة أن يجوز لمن تقدم في المناقصة بعطاء أن يرجع عن إيجابه قبل رسوَّ العطاء، ولكن مقتضى ما ذكره المالكية أنه لا يجوز له الرجوع بعد تقدمه بالعرض. وعلى هذا الأخير جرت معظم قوانين المناقصة المعاصرة. وبما أن المسألة اجتهادية فهناك سعة بأخذ ما فيه مصلحة. ولكن الذي يظهر لي أن القول بإعطاء صاحب العرض الحق في الرجوع أعدل وأقيس، لأننا متى جعلنا عرضه إيجابًا فلا وجه لحرمانه من الحقوق التي يستحقها الموجب في البيوع الأخرى.

ثم إن فقهاء المالكية إنما ألزموا الإيجاب على الموجب في المزاد العلني الذي يتقدم فيه كل أحد بعطائه عن بصيرة تامة وعن علم بما تقدم به الآخرون، ويرسو العطاء فيها فورًا. أما المناقصات فمعظمها تجري على أساس السرية ويقع البت فيها بعد مدة، وحينئذ قد يضطر فيها صاحب العرض إلى سحب عرضه لتقلبات الأسعار في السوق أو لأعذار أخرى حقيقية، فلا تقاس المناقصة السرية على المزاد العلني الذي يقع البت فيه في المجلس.

المسألة الرابعة في موضوع المناقصات هي: هل العرض الأقل لازم على صاحب المناقصة؟

ومن النتائج المنطقية لجعل العرض إيجابًا أن يحق لصاحب المناقصة أن يقبل ما شاء من عطاء ويرفض ما شاء. وبهذا صرح فقهاء المالكية في المزايدة فقال ابن رشد رحمه الله: " وهو – أي البائع في المزايدة – مخير في أن يمضيها لمن شاء فمن أعطى فيها ثمنًا وإن كان غيره قد زاد عليه ".

فلو أجرينا المناقصة على أساس هذا القول جاز لصاحب المناقصة أن يقبل أي عرض شاء، سواء كان أقل أو أكثر، وربما تضطر الجهة الطالبة للمناقصة إلى قبول عرض سعره أكثر لمصالح أخرى، مثل كون صاحب العرض أتقن وأوثق بالنسبة لمن عرض سعرًا أقل. ولكن بما أن المناقصات تجري عمومًا من قبل الجهات الحكومية أو المؤسسات الكبرى التي تمر فيها العملية من خلال أيدي كثير من الناس فإن قبول السعر الأكثر معرض لتهمة التواطؤ والرشوة وغيرها. فينبغي أن تكون مثل هذه المناقصات خاضعة لتشريعات تضمن شفافية العملية، ويؤمن معها من التواطؤ والرشوة.

ص: 817

المسألة الخامسة هي مسألة دفتر الشروط. وإن لوائح المناقصات تنص على أنه يجب أن يؤدي صاحب المناقصة كراسة خاصة بشروط العطاءات وقوائم الأصناف أو الأعمال وغيرها. وإن هذا الدفتر يباع عمومًا على من يطلبه للعلم بشروط المناقصة، وثمنه يغطي التكلفة الفعلية لطبع الكراسة وغيره ويضاف إليها ربح لا يزيد عادة على (20 %) وأجاز الشيخ الجواهري هذا البيع وذكر احتمالًا آخر أنه من لم يرس عليه العطاء يكون على خيار فسخ الشراء فيرد إليه ما دفعه من ثمن الدفتر. ومعنى ذلك أن هذه التكاليف يتحملها من رسا عليه العطاء ولا يتحمل ذلك من لم يرس عليه العطاء. ورأي الدكتور رفيق المصري أنه يجب أن تتحمل الجهة المنظمة للمناقصة هذه التكاليف ولا يجوز لها أن تبيعه لأنها هي المستفيدة منها وأنه لا مانع من أن تأخذ تأمينًا قابلًا للرد ممن يطلبه ليكون الطالب يطلبه بجدية. وقد توسع الدكتور رفيق في الرد على من يجيز بيع دفتر الشروط.

ووافقت في بحثي الرأي القائل بأنه لا يجوز بيع هذا الدفتر من الجهة المنظمة للمناقصة ولكني أضفت إلى ذلك: أن إعداد هذا الدفتر ربما يحتاج إلى دراسات فنية ورسم خرائط دقيقة مما يتطلب جهدًا ومالًا. ومن ناحية أخرى إن هذا الدفتر يخفف مؤونة المقاولين أو التجار لأنه لولا هذا الدفتر لاحتاج كل عارض إلى أن يجري هذه الدراسات الفنية بنفسه ويتكبد في ذلك جهدًا. ولذلك قلت: إنه لو كان دفتر الشروط لا يتضمن دراسات فنية، وكان مشتملًا على مجرد شروط العقد، فلا يجوز للجهة الإدارية أن تتقاضى عليه ثمنا، لأنه بمنزلة بيان شروط العقد من أحد العاقدين، ولا يجوز أخذ العوض على ذلك. أما إذا كان هذا الدفتر مشتملًا على دارسات فنية يحتاج إليها المشاركون في المناقصة لإعداد عروضهم، فيجوز للجهة الإدارية أن تأخذ على دفعة عوضًا يغطي تكاليف الجهة الإدارية في إعداده. وهذا قريب مما صدر به قرار من مجمع الفقه الإسلامي في موضوع بيع المزايدة ونصه ما يلي:" لا مانع شرعًا من استيفاء رسم الدخول – قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية – لكونه ثمنًا له ".

ص: 818

والمسألة السادسة في موضوع المناقصة هي طلب الضمان من المشاركين، فإن الجهة الإدارية صاحبة المناقصة تطالب المشاركين بتقديم ضمان. وهذا الضمان على قسمين:

القسم الأول: هو الضمان الابتدائي الذي يطالب بتقديمه مصحوبًا بتقديم العرض. والغرض منه التأكد من جدية العارض في تقديم عرضه، ويكون مبلغ هذا الضمان نسبة من قيمة العرض عمومًا، والمعمول به أن هذا المبلغ يصادر عليه إذا سحب العارض عرضه قبل موعد إرساء العطاء ويرد هذا المبلغ إلى أصحاب العروض الذين لم يفوزوا بالصفقة.

والقسم الثاني: هو الضمان النهائي: ويطالب به من رسا عطاؤه وفاز بالصفقة، والمقصود من مطالبة هذا الضمان إلزام من نجح في المناقصة بتنفيذ العقد بشروطه ومواصفاته ومواعيده الزمنية، فهو ضمان يقدمه المتعاقد لتوثيق التزاماته وأنه سوف يقوم بمسؤولياته العقدية في وقتها الموعود.

فأما الضمان الابتدائي فحكمه أنه لا يظهر هناك مانع من المطالبة به للتأكد من جدية العارض ما دام أنه لا يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وهذا إنما يحصل إذا بقى مبلغ الضمان كأمانة عند الجهة الإدارية، ولو وقع خلطه بالأموال الأخرى فيكون مضمونًا عليها، وإن وقع استثماره فيجب أن يرجع ربحه إلى صاحب العرض الذي قدمه، وإن لم يفز هذا العارض بالصفقة، بمعنى أنه لم يقبل عرضه فإنه يرد عليه كامل المبلغ مع ربحه إذا أودع في وعاء استثماري مقبول شرعًا.

ص: 819

ويبدو من بحث الشيخ الجواهري أنه يجوز مصادرة هذا الضمان لأسباب مختلفة ربما يشرحها عند المناقشة. ولكن يظهر لي أن ما يعمل به عمومًا من مصادرة هذا المبلغ إذا سحب العارض عرضه قبل موعد إرساء العطاء غير مقبول من الناحية الشرعية إطلاقًا، وهو من قبيل أكل أموال الناس بالباطل لأننا حققنا فيما سبق أن التقدم بالعرض إيجاب من قبل العارض ويحق شرعًا لكل من يتقدم بالإيجاب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فلا وجه لمصادرة ما تقدم به من الضمان الابتدائي.

وقد يستشكل هذا بأنه لا تظهر هناك فائدة لهذا الضمان إذا وجب رد مبلغه إلى العارض في جميع الحالات. والجواب عن هذا الإشكال أن هذا المبلغ ليس إلا للتأكد من جدية صاحب العرض وليس ضمانًا في مفهومه الفقهي، فإن الضمان إنما تسبقه مديونية، وإن مجرد التقدم بالعرض لا ينشئ دينًا على صاحب العرض ولا شك أن من يتقدم بهذا المبلغ عند تقديم عرضه فإنه ينبئ عن جديته في الاشتراك، لأنه لا يتنازل أحد عن سيولته ولو لمدة قصيرة، إلا من يريد أن يدخل في العقد حقيقة، وهذه الفائدة حاصلة.

أما الضمان النهائي فإنه يطالب به من يفوز بالصفقة من بين العارضين وإنما يطالب به لتوثيق أن الفائز بالصفقة يلتزم بمسؤولياته التعاقدية. وقد يزعم بعض الناس أنه من قبيل العربون، وليس الأمر كذلك، لأن العربون الذي أجازه الحنابلة إنما يقدمه المشتري، وصاحب العرض في المناقصات هو البائع إذا كان موضوع المناقصات توريدًا أو استصناعًا، والمؤجر إن كانت المناقصة موضوعها تقديم بعض الخدمات.

ص: 820

والواقع أنه لا يوجد هناك نظير في الفقه الإسلامي بمطالبة شيء من البائع والمؤجر إلا مطالبة الرهن من المسلم إليه الذي جوزه بعض الفقهاء ومنعه آخرون. ولكن ذلك إنما يمكن إذا كان البيع باتًا كما في السلم أو الاستصناع، أما في عقود التوريد فلا. وغاية ما يمكن أن يبرر به هذا الضمان هو على أساس ضمان الجدية، فينطبق عليه كل ما ذكرنا في الضمان الابتدائي من أنه أمانة ابتداء، وإن خلط بمال آخر، فإنه مضمون على صاحب المناقصة. وإن وقع استثماره فإنه يرجع ربحه إلى المتقدم به، ويجب رده مع ربحه – إذا كان مستثمرًا في جهة مقبولة شرعًا – إلى صاحبه عند تمام تنفيذ العقد، ولا يجوز مصادرته إلا إذا تخلف صاحبه عن أداء واجبه، وحصل بالتخلف ضرر مالي لأصحاب المناقصة فعلًا، فيمكن أن تقع المقاصة بين هذا المبلغ وبين ما يجب على المتعاقد من تعويض مالي، وقد صدر قرار من مجمعنا الموقر بشأن الضمان في بيوع المزايدة، ونصه:" طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعًا، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة ".

وبما أن هذا القرار كان موضوعه المزايدة ويطلب فيه الضمان من المشتري فيمكن تخريجه على أساس العربون، ولكن ليس الأمر كذلك في المناقصات التي يطلب فيها الضمان من البائع أو المقاول، فلابد من رد هذا المبلغ بعد تنفيذ العقد مع سائر واجبات المتعاقد الأخرى ولا يصادر هذا المبلغ إلا في الصورة التي ذكرناها من تخلف المتعاقد.

والمسالة السابعة: هي مماطلة المشتري في تحديد الثمن. وهذا موضوع صدر في قرار من المجمع بتحريم الغرامة المالية في مقابل التأخير. وقد اتفق الدكتور رفيق والشيخ الجواهري على حرمة ذلك. وجاء الدكتور رفيق ببدائل لهذه الغرامات منها: حلول الأقساط، ومنها إدراج اسم المماطل في قائمة سوداء وتحميل المماطل هبوط القوة الشرائية للنقود، وهذا موضوع ربما يبحث في موضوع (تغير قيمة العملة) . وذكر الشيخ الجواهري أن بديله هو فتح الاعتماد المستندي من قبل المشتري لدى البنك.

المسألة الثامنة وهي الأخيرة، أن الدكتور رفيق والشيخ الجواهري متفقان على أنه يجوز قصر المناقصة على المرخص لهم حكوميًّا بالدخول في مناقصات التوريد والأعمال، لأن الجهة الداعية للمناقصة مختارة في التعامل مع من تريد، ولكن اشترط الدكتور رفيق لجواز ذلك أن يكون مبنيًّا على غرض صحيح مثل رفع كفاءة عمليات التوريد والمقاولة، أما إذا كان مبنيًا على المحاباة وإيثار بعض الجهات على الآخرين تعسفًا واستبدادًا فإن ذلك لا يجوز.

وهذه خلاصة ما وصلت إليه من دراسة هذه الأبحاث المعروضة في موضوع المناقصة وشكرًا لكم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 821

التعقيب والمناقشة

الشيخ عبد الله البسام:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن ولاه.

أما بعد، نشكر أصحاب البحوث على بحوثهم القيمة الممتعة النافعة، ولا أحب أن أطيل، والذي أحب أن أقوله هو أن الأفضل في هذه البحوث هو تكييف المسائل، لأننا إذا كيفنا المسألة على باب من أبواب الفقه، وذلك أن هذه المسٍألة المستجدة استطعنا أن نطبقها على ذلك الباب من أبواب الفقه، وأما إذا لم تكيف على بعض من أبواب الفقه تبقى عائمة، وتبقى المسائل والأبواب تتجاذبها، ولا يستطيع الإنسان أن يقررها على باب خاص من أبواب العلم، فلذا أحب إن كان هذا من أصحاب البحوث فإن هذا يستدرك وإن كان من العارضين فينبغي عليهم أول ما يبتدؤون بالعرض أن يكيفوا الأبواب. هذه المسألة.

المسألة الثانية: أن الارتباك الذي وقع في هذه العقود ومتى تتم؟ وكيف تتم عقود الاستيراد وغيره مما جاء ذكره؟ إن هذا الارتباك راجع إلى أننا لم نميز بين المبيع بالصفة المعينة وبين المبيع بالصفة بالذمة. هذا هو الذي يجعل الباحث يعوم ولا يستطيع أن يطبق المسائل على هذا الباب لأنه لم يجعلها مثلًا مبيعًا معينًا موصوفًا يجوز العقد عليه ولو لم يحصل القبض بالثمن ولا أنه موصوف في الذمة والموصوف في الذمة كثير من الإخوان يشتبه عليهم لحديث – حكيم بن حزام، والبيع بالذمة لا يدخل لأنه مثل بيع السلم، ليس هذا من بيع ما ليس عندك وإنما هو من بيع الذمم، والذمم بابها واسع إلا أنه اشترط فيها القبض عند العقد وإلا فبابها واسع ولا تحتاج منا إلى أن نقول إن العقد يتم عند التوريد، أو إن العقد موصوف بالوعد فقط. هذا ما أردت ذكره. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 822

الشيخ عبد السلام العبادي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله الكريم.

في البداية أتقدم بالشكر الجزيل على هذا العرض المتميز للبحوث المقدمة لهذه الدورة في موضوع (عقد التوريد والمناقصات) لكن لي تعليق يقترب من تعليق فضيلة الشيخ عبد الله البسام وهو أننا في البداية عرضنا الأمر على أساس أنه عقد جديد وأنه من أهم وسائل التعامل المعاصر، وتحدثنا عن أهمية هذا العقد في البحوث التي بين أيدينا. ثم بعد ذلك ضيقنا هذا الأمر الواسع ودخلنا في محاولة تخريج هذا العقد على صيغ فقهية مقررة في السابق، بينما لدينا سعة كبيرة في مجال أن العقود الجديدة مرحب بها في الشريعة ما دامت قائمة على التراضي وما دامت لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا. فلو دخلنا من هذا المدخل لكان الأمر في ظني أجدى وأنفع وبخاصة أننا لاحظنا أن معظم إخواننا قد توجهوا فيما قدموا من بحوث إلى الإباحة إلا في بعضها ورد بعض التقييدات وبعض الشروط البسيطة التي لو لجأنا فيها إلى معالجتها من المدخل الواسع لكان الأمر أجدى وأنفع. هذا تعليق بصفة عامة.

أما التعليق بصفة تفصيلية وخاصة على ما ورد من إحجاج فقهي في هذا المجال أبدأ بما يتعلق بعقد التوريد.

أطال الشيخ الجليل محمد تقي العثماني في تحليل أن الأمر من قبيل العقد وإنما هو من قبيل المواعدة اللازمة إلا إذا كان الأمر يتعلق بالصناعة فالأولى تخريجه على أنه عقد استصناع. وكرر أكثر من مرة بأنه مواعدة وليس عقدًا باتًا، والحقيقة أن هذا عقد، وجعل مضمونه المواعدة لا يخرجه من دائرة العقود لكنه عقد قائم على مواعدة بمضمونها، وإلا كيف نجوز بعد ذلك الإلزام على التنفيذ؟ فهو عقد ارتبط من خلاله الإيجاب بالقبول، لكن الإيجاب والقبول ليس الالتزامات اللاحقة، وإنما الإلزام بهذه الالتزامات اللاحقة، والعقود واسعة في هذا المجال فقد تكون عملية الإلزام بتحقيق التزامات لاحقة هي مضمون هذا العقد وهذا يجعل الذاهب إلى أنه عقد جديد وصيغة جديدة للتعامل أولى من محاولة حشر هذا العقد في الصيغ التي عرفها فقهاءنا وقررها الفقه على نطاق واسع.

ومن هنا أميل مع الوجه الذي عرضه لاحقًا الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان من أنه عقد جديد وبالتالي نخرج من كل هذه الإشكالات.

أما فيما يتعلق بعقد المناقصات، فإنني هنا أحب أن أنبه إلى أن القضية في النظر المعاصر أكبر من موضوع التوريد ومن موضوع المناقصة، وقد عرض بعض الباحثين لموضوع المزايدة كمقابل للمناقصة، لكن ما نراه في التعامل المعاصر يحصر المناقصة في زوايا معينة في التعامل الحكومي، ولدينا قضية أكبر وأوسع وهي قرينة للمزايدة وللمناقصة وترتبط بها في كثير من أحكامها ما يسمى (طرح العطاءات لتنفيذ الأعمال) ، وهنالك لدينا في الأنظمة الحكومية المعاصرة ما يسمى بـ (نظام الأشغال) وما يسمى بـ (نظام اللوازم) ونلجأ في هذين النظامين إلى قضايا المناقصة وقضايا المزاودة وقضايا طرح العطاء وتستخدم النظم المعاصرة في هذا المجال تعبيرًا آخر غير تعبير الضمان الذي درج عليه الإخوة الكرام في تحليلهم وهو ما يسمى (تقديم الكفالة) وبدل دفتر المناقصة هناك ما يسمى بـ (وثائق العطاء) ووثائق العطاء هو الذي غالبًا ما يحتاج إلى مخططات وتفصيلات ووثائق مواصفات عديدة وواسعة في هذا المجال. فكنت آمل أن البحوث تعرج على هذه القضية المرتبطة ارتباطًا كاملًا بهذا الموضع، ونفس ما يتقرر من أحكام في موضوع المناقصات يندرج عليها.

ص: 823

وتعليقي الأخير في موضوع (الضمان، أن دفع مبلغ عند بدء المناقصة وهو المبلغ الذي يطلب، وهنا ما يسمى بكفالة دخول العطاء، حتى نضمن جدية هذا المتقدم من أنه عازم عزمًا أكيدًا على أنه إذا وافقت الشروط التي ذكرها في عرضه والتي طلبتها الجهة التي طرحت العطاء أو طلبت المناقصة أنها إذا أحالت عليه الأمر التزم بها، وبالتالي إذا لم يلتزم ستقع الجهة هذه – وهذا الذي لم أره في البحوث – في ضرر بالغ لأنها قد أضاعت وقتًا كبيرًا. لنفرض أن جهة معينة تريد أن تنفذ مشروعًا كبيرًا وطرحت عطاء واسعًا أو طلبت مناقصة واسعة من عدد كبير من الناس ووضعت وثائق ودفاتر واشتغلت سنوات حتى أعدت هذا المشروع ثم بعد ذلك تطرح هذا الأمر فقد يأتي شخص غير جاد فيعرض عرضًا غير دقيق وغير واضح فإذا أحيل عليه نكل. فإذا لم يكن هنالك كفالة لدخول العطاء أو لدخول المناقصة فإن هذا سيلحق الضرر البالغ بهذه الجهة.

فكنت آمل في هذا العرض هنا أن يشار ولا مانع من وضع قيد ألا يكون المبلغ المطلوب أو الكفالة المطلوبة أو الضمان المطلوب أمرًا زائدًا زيادة فاحشة عن الضرر الذي يكون قد لحق بهذه الجهة نتيجة عدم التزام هذا المتقدم بالشروط التي تقررت.

وأما الشكل الثاني من الضمان والذي يقابله في موضوع العطاءات (كفالة حسن التنفيذ) فهو أيضًا أمر يرتبط بجملة الشروط الواردة في عقد المناقصة أو الواردة في طرح العطاء، مثل التأخر في التنفيذ، وما يسمى بالعطل والضرر، إذا تخلف عن تنفيذ الالتزام الذي التزم به يوميًّا أو أيامًا يقدر ضرر معين يلحق بالجهة صاحبة العطاء أو صاحبة المناقصة بمبلغ معين أو بنسبة معينة، فهذا الأمر يجب أن يدرس على أساس أنه تعويض وليس على أساس أنه نوع من الربا أو نوع من أخذ المال بالباطل، وعلى الأقل أن توضع الشروط وأن تضمن ألا ينقلب هذا الأمر الذي هو تعويض عادل عن ضرر يلحق بالجهة المصدرة للمناقصة أو للعطاء، وذلك بأن توضع له شروط تضمن ألا ينقلب أداة للظلم أو أداة لأكل أموال الناس بالباطل. وعلى فكرة، في هذا المجال الجهات الواضعة للأنظمة هذه تضع من القيود والشروط ما يضمن ألا تتحول الغرامات هذه أو الكفالات هذه إلى أداة لظلم المتعهدين والمتقدمين بعروضهم في المناقصات، كأن تشترط ألا يتجاوز نسبة الكفالة كذا من العطاء الذي تم تنفيذه، وبالتالي تعطي شروط أخرى كأن يبرر التأخر تحت ظروف جوية معينة أو تحت أحوال معينة تتعلق بالظروف العامة من قلاقل أو مشاكل أو غير ذلك. فهذه الأنظمة حقيقية إذا أردنا أن نجيد في هذا الموضوع لابد أن تكون في ذهننا ونحن نتحدث عن هذا الموضوع لأنه تعامل معاصر فلا يصح أن نأخذه أجزاء وتفاريق إنما يجب أن ننظر إلى النظام المنظم لهذا النوع من المعاملات بشموله ونظره لأنه قد يكون بعض ما تحفظنا عليه قد تم تلافيه في نصوص أخرى في الأنظمة التي تضبط هذا الأمر وتنظم ما يتعلق به.

لا أريد أن أطيل لكن أحببت أن أقول إن مدخلنا كان يجب أن يكون أنه عقد معاصر ثم ننظر لتفصيلاته من منطلق قواعد الشريعة العامة في تنظيم العقود.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 824

الشيخ وهبة الزحيلي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد، فإن طروحات الحياة المعاصرة وما قفزت إليه أنظمة التعامل من خلال الأنظمة الغربية أصبح في أمس الحاجة بأن يعرف له الحكم الشرعي من الناحية الإسلامية. والواقع أن كلًا من عقد التوريد وعقد المناقصة إنما هما جديدان كل الجدة، ولا إشكال في الوصول إلى تكييف كل منهما على أسس شرعية واضحة. لذا أستغرب من خلال الأوراق التي تقدم بها السادة الأخوة الكرام أن بعض الناس لا يجيزون هذه التصرفات أو الاتفاقات إما بحجة وجود الربا فيها، أو كونها بيع الكالئ بالكالئ، أو بيع شيء غير موجود، أو بيع معدوم، ويطيلون في سرد هذه الأدلة لهؤلاء وهم في الواقع بعيدون كل البعد عن الصواب وعن إدراك حقيقة هذه العقود. لذلك فإننا من باب التيسير والتسهيل والوصول إلى المراد من أقرب الطرق أقول: إن عقد التوريد والمناقصات إنما تنظمها وتعرضها الأعراف المعاصرة الآن، ولا أجد أي إشكال في جواز هذين الأمرين لأنه لا يتحقق لا غبن ولا إضرار ولا إشكالات وكل ذلك يتم بالتراضي والاتفاق الشامل لجميع جزئيات كل من هذين الموضوعين، فما يتعلق بعقد التوريد، هو في الواقع مجرد اتفاق أولى بين الجهة المستفيدة والجهة المقدمة لهذه الخدمات. فهو اتفاق ينقلب في نهاية الأمر إلى عقود فردية متكررة، كلما تقدم المورد بصفقة معينة يقدم فاتورة المبيعات ويذكر الثمن ثم تأتي الجهة التي تستفيد من هذا التنفيذ بإقرار هذا العمل وتدفع له الثمن على هذه الصفقة التي قدمها، فإذن هناك عدة عقود انفرادية من خلال اتفاق شامل وهو الذي تسميه القوانين (عقود التوريد) والأدق أن يقال له:(اتفاق التوريد) . فإذن ينقلب الأمر من اتفاق إلى عقد عند التنفيذ وحينئذ تظهر مزية هذه العقود من الناحية الشرعية. ولا مانع من إقرار عقد التوريد عند التنفيذ وليس على الاتفاق برمته وذلك من خلال جعل عقد التوريد ليس مجرد إلزام أو مواعدة ملزمة للطرفين فهذا يمكن أن يقال عن الاتفاق العام لتسوية هذا الموضوع بين الطرفين المتفقين، والاتفاق أعم من العقد فهو يشمل العقد ويشمل التصرف ويشمل غير ذلك فالواقع عقد التوريد ينطبق عليه تمامًا ما أسماه فقهاء الحنفية بأن (بيع الاستجرار) وهو مطبق.

الآن أغلب الموظفين لا يستطيعون أن يدفعوا ثمن السلعة على الفور يتفقون مع البقاليات ومع الجزارين ومع باعة الخضار والفواكه في أن يقدم لهم يوميًّا أو في كل فترة زمنية أشياء معينة وفي نهاية الشهر يتم الحساب، فالقضية ليست قضية أن المبيع مجهول أو أن الثمن مجهول وإنما الجهالة تزول في الواقع بالمواصفات، فهو بيع شيء موصوف وهناك مواصفات معينة دقيقة للأمور التي يقدمها المورد من خلال الاتفاق العام والإطار العام الذي تم مع هذه الجهة، فإذن هو في النتيجة ينقلب من اتفاق إلى بيع مفصل ودقيق وهو ما قرره الحنفية بأنه (بيع الاستجرار) ولا حاجة للدخول في تعقيدات كثيرة على الرغم من أنني أقدر البحث العظيم والمعمق لفضيلة الشيخ محمد تقي العثماني لكن هذه الدوشة التي أدخلنا فيها فإننا نجد أن المتعاملين يريدون الأمور مبسطة أكثر من هذا التعقيد الذي نجده في الساحة الفقهية، فإذن عقد التوريد هو في الواقع بيع من البيوع المتعارف عليها والمتفق على مضمونها ولا إشكال فيه من الناحية الشرعية وقرره الفقهاء تحت ستار ما يسمى ببيع الاستجرار.

ص: 825

أما ما يتعلق بالمناقصة، المناقصة هي في الواقع صورة عكسية للمزايدة، وما دام شرعنا أقر بالمزايدة، مقابلة الأضداد بعضها ببعض وأخذ الحكم منها قبل عكس هذه الأمور هو أيضًا مبدأ مقرر فقهًا. قضية العكس والطرد هذه مقررة فقهًا. فما ينطبق على المزايدة ينطبق على المناقصة. كل ما في الأمر أن المناقصة لا يتم فيها في الواقع إبرام عقد لأول وهلة وإنما هي أشبه بالمساومة أولًا، ثم يأتي بعد ذلك رسو العطاء على شخص معين وهو من يتقدم بأقل العروض، هذا إذا أحسنا الظن، ولكن الذي أؤكده أنه في عصرنا الحاضر (90 %) من المناقصات تتم بالغش والاحتيال والرشوة والتواطؤ، والذي يدفع أكثر رشوة هو الذي يرسو عليه العطاء، هذه ناحية جانبيه، لكن إذا التزمنا الناحية الشرعية فإن مقدم العطاء الأقل هو الذي ينبغي أن يرسو عليه الموضوع ثم يتم الاتفاق، إذا لا يجوز أن نجعل الإيجاب معلقًا حتى يأتي القبول من الجهة المنظمة للمناقصة لأنه لا يجوز أن يتأخر القبول عن الإيجاب في هذه المرحلة الزمنية الطويلة التي تتم بين المناقصة وبين رسوها، فالواقع القيود الفقهية في هذا الموضوع تمنع من وصف المناقصة أنه بمثابة الإيجاب المعلق، فهذا لا يجوز تعليقه ولا توقيفه إلى هذه الفترة الزمنية الطويلة ، وإنما هو عرض مثل عروض الممارسات والمساومات ثم يتم الاتفاق عليه في نهاية الأمر.

أما الأمور الجانبية الأخرى مثل قضية دفتر الشروط فالواقع هذا أمر أيضًا تقره العدالة، وكل شيء حتى نفقات الطباعة تكلف الجهة المنظمة، ويريح من يتقدم إلى هذه المناقصة بدلًا من التردد على الموظفين وتقديم الرشوات لمعرفة شروط المناقصة، هذا الدفتر واضح المعالم فإذا دفع ثمنه فهو يدفع ثمن تكلفة طباعة لهذا الدفتر فلا إشكال فيه.

أما قضية الضمان من المشاركين، نحن ينبغي أن نلتزم في هذه بقرارات مجمع الفقه الإسلامي وهي قضية الضمان الابتدائي والضمان النهائي من خلال قراراتنا في خطابات الضمان. والواقع أن ما يتغرمه كل من المخل بمقتضى الضمان الابتدائي والنهائي هو مشروع، حتى إننا نجد شبهًا لهذا في بعض الجوانب وهي قضية العربون. بعض الكاتبين يقولون أننا شبهنا الضمان الابتدائي بالعربون، هذا التشبيه ليس من كل الأوجه، فنحن نشبه بأن العربون يدفع والخسارة يتحملها مقدم العربون لضمان الجدية. فالجدية هنا أيضًا متوافرة وهو حلال شرعًا ولنا قرار سابق ببروناي من إنجاز بيع العربون. فنحن لا نشبه هذا الضمان بالعربون من كل جوانبه، صحيح أن العربون لا يكون إلا بعد عقد بيع أو عقد من العقود ولكن نحن نشبهه في أن العربون إذا خسره مقدمه فإنما يخسره بسبب إلحاقه ضررًا بالبائع، فالشبه في هذه الزاوية فقط. شبه استحلال واستحقاق مبلغ العربون أو مبلغ الضمان في هذا الموضوع. وهناك جزئيات كثيرة إن كنا نسير على ما تفضل به الشيخ تقي ففي الواقع أنا أقره في هذا التحليل المعمق لهذا الموضوع المترامي الأطراف لكن القضية تحتاج منا إلى تبسيط أكثر مما نجده في هذه الكتابات. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 826

الشيخ حسن الجواهري:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله والطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.

إن مشكلة عقود التوريد عبارة عن وقوع العقد الملزم مع تأجيل العرضين سواء كانت السلعة موجودة في الخارج أو غير موجودة ، وإنما أصبحت هذه المشكلة لأن البيع الموجود المتعارف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده هو إما بيع نقد يجب فيه تسليم الثمن والمثمن بعد العقد مباشرة، أو بيع نسيئة يسلم فيه المثمن ويبقى الثمن في ذمة المشتري، أو بيع سلم فيسلم الثمن ويبقى المثمن مؤجلا كليا في ذمة البائع.أما البيع الذي لا توجد فيه هذه المواصفات فليس هو بيع نقد ولا نسيئة ولا سلم بل العوضان فيه مؤجلان ويكون عقدا ملزما فهل هو بيع صحيح وشرعي؟ هذا هو ما يراد بحثه هنا.

ذهب الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان إلى اندراج قسم منه في بيع الصفة، بيع الشيء الغائب، وقسم منه يندرج تحت بيع الدين بالدين وقد ذكره آخر البحث.

أما اندراج عقد التوريد تحت بيع الصفة فقد لا أراه صوابا وذلك لأن بيع الصفة إذا كان المراد به هو بيع الموصوف – بيع الشيء الغائب – عند من يقول به إنما يصح في صورتين:

الصورة الأولى: إذا وقع البيع على عين خارجية شخصية إما نقدا أو نسيئة فيما إذا كان البائع مالكا للسلعة الخارجية. فالبيع النقدي قد يحصل فيه تسليم الثمن والمثمن في مجلس العقد، وقد يتأخر فيه تسليم الثمن والمثمن، ولكن تأخير تسليم الثمن والمثمن لا يضر بصحة العقد الحال. وحينئذ إذا وقع البيع على عين موصوفة غائبة وحصل القبول فقد تم العقد إلا أن المشتري قد لا يسلم الثمن إلا بعد رؤية العين واستلامها كما وصفت له. كما أن البائع قد لا يسلم المبيع إلا بعد أن يستلم الثمن وهذا شيء آخر غير كون العقد حالا. ومما يؤيد أن بيع الصفة هو في مبيع العين الخارجية الشخصية المملوكة للبائع هو ثبوت خيار الرؤية للمشتري كما ذكر ذلك الفقهاء قاطبة، فيثبت الخيار عند الرؤية إذا رأى المشتري ما اشتراه مخالفا للوصف الذي وصف له، بينما إذا كان المبيع كليا في الذمة وقد سلم على خلاف الوصف فلا خيار للمشتري في فسخ البيع بل له المطالبة بالتسليم الكلي الذي وصف له بتطبيقه على فرد آخر واجد للأوصاف. إذن ليس من الصحيح استدلال الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان على تأجيل الثمن في بيع العين الغائبة بنصوص الفقهاء الذين يقولون في المبيع الغائب بأن للمشتري أن يمتنع عن التسليم حتى يحضر المبيع الغائب ، فإن هذا ليس تأجيلا للثمن في العقد، كما أنه ليس تأجيلا للمثمن بل البيع حال ولكن التسليم والتسلم يتوقف على إحضار المثمن وتسلمه ليتم تسليم الثمن أو يحصل التسليم والتسلم في وقت واحد.

ص: 827

إذن البيع النقدي ينسجم مع الامتناع عن إعطاء الثمن إلا أن يتسلم المثمن، كما أن البائع قد يمتنع عن تسليم المثمن حتى يتسلم الثمن. فإن التسليم والتسلم بالثمن والمثمن يكون عادة بعد تمامية العقد في العقود النقدية، إذ تمامية العقد إنما تكون بتمامية الإيجاب والقبول، أما التسليم والتسلم فهي مرحلة متأخرة عن تمامية العقد.

إذن بيع الصفة على العين الخارجية قد يتأجل فيه العوضان عن مجلس العقد، وهو بيع صحيح بخلاف عقود التوريد الذي يكون فيها تأجيل الثمن والمثمن في متن العقد، فلا يصح الاستدلال بالأول على الثاني كما هو واضح.

أما الصورة الثانية التي يصح فيها بيع الصفة – بيع الموصوف – فهو البيع الكلي الموصوف فيما إذا كان البيع ليس واقعًا على عين خارجية مملوكة. وهذا البيع الكلي للموصوف وإن كان يتأجل فيه المثمن في متن العقد إلا أن الثمن يجب أن يكون معجلًا وهو بيع السلم أو السلف الذي ذهب إليه الجل لا الكل إلى اشتراط تقديم الثمن حتى يصح بينما عقود التوريد فالعوضان مؤجلان في متن العقد، فهذه هي المشكلة التي نحن بصدد أن نوجد لها حلًا شرعيًّا، فعقد التوريد سواء كان على عين خارجية موصوفة لأنها غائبة أو كانت على عين كلية موصوفة يختلف اختلافًا أساسيًّا وموضوعيًّا عن بيع الصفة سواء كان على عين خارجية أو كلي موصوف في الذمة.

إذن نصوص الفقهاء التي أتعب الدكتور أبو سليمان نفسه في سردها واستدل بها على صحة عقود التوريد لا تنفعه أصلًا لأنها في غير عقد التوريد الذي يتأجل فيه العوضان في متن العقد بل هي في بيع الصفة للعين الشخصية وهنا يتأخر تسليم الثمن ويتأخر تسليم المثمن عن مجلس العقد أيضًا. على أن الاستدلال بنصوص الفقهاء، قد لا يكون لوحده كافيًّا في المطلوب.

إذن عقد التوريد عقد جديد يتأجل فيه العوضان في متن العقد وهو يختلف عن بيع الصفة فإن وجدت عمومات قرآنية تصححه مثل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أو {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} أو {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} بناء على أن هذه النصوص وردت على نحو القضية الحقيقية التي تشمل كل عقد يوجد بعد زمن التشريع كما هو الصحيح أن عمومات القرآن وردت على نحو القضايا الحقيقية لا الشخصية، فحينئذ ينحصر البحث عن المانع عن صحته كالنهي الوارد عن بيع الدين بالدين، أو النهي الوارد عن بيع الكالئ بالكالئ. فلابد إذن لمن يريد أن يصحح هذه العقود من مناقشة هذه النصوص بمثل عدم شمولها لما نحن فيه بناء على تفسير النهي عن بيع الدين بالدين بما إذا كان الدينان قبل البيع لا فيما إذا حصلا بالعقد، أو تناقش النصوص الناهية بعد صحة إسنادها كما ذكر ذلك البعض.

ص: 828

إذن لا يصح جعل المانع من صحة عقود التوريد هو اشتماله على الربا أو الغرر فقط، كما فعل الدكتور أبو سليمان في بحثه المقدم، لأننا حينما نتكلم في صحة عقد التوريد نبحث عن دليل على صحته بعد افتراض وجود الأركان والشروط المعتبرة في صحة العقد. كما لا أرى من الصحة جعل الحاجة والضرورة إلى عقد التوريد دليلًا لصحته لأن الحاجة والضرورة إنما تصحح العقد – لو قلنا بها – في صورة استثنائية ويكون الحكم ثانويًّا مقيدًا بها وهو أخص من محل الكلام.

بالنسبة للقاضي العثماني – حفظه الله – ينحصر كلامنا في أمور: الأمر الأول الذي ذكره قال: إن محل التوريد إذا لم يكن شيئًا يحتاج إلى صنعة – وهو محل البحث في هذا الموضوع – يتأتى في الإشكال من جهات أربع:

الإشكال الأول: قال: " وهو عقد مضاف إلى المستقبل ومنعه جمهور الفقهاء ".

أقول: ليس عقد التوريد عقدًا يضاف إلى المستقبل، أي ليس عقداً معلقًا، بل هو عقد ناجز إذا قد ملك كل من المتعاملين شيئًا في ذمة الآخر عند تمامية الإيجاب والقبول. أما المراد من العقد المضاف إلى المستقبل - أي العقد المعلق - فهو عبارة عن كون التمليك معلقًا ونفس التمليك مضافًا إلى المستقبل، هذا الذي منعه جمهور الفقهاء لا ما نحن فيه، الذي يكون التمليك فيه منجزًا، فكل من الطرفين يملك ما في ذمة الآخر عند تمامية العقد.

الإشكال الثاني: وقال فيه: إن عقد التوريد عقد يتأجل فيه البدلان فيصير بيع الكالئ بالكالئ، وقد ورد في منعه حديث عمل به جمهور الفقهاء.

نعم، هذا هو الإشكال الوحيد في الباب وهو إشكال يحتاج إلى جواب علمي ويستحق البحث.

الإشكال الثالث: الذي ذكره قال: إن محل التوريد في كثير من الأحوال لا يملكه البائع عند العقد فيصير بيعًا بما لا يملكه الإنسان وهو ممنوع بنص الحديث.

طبعًا هذا الإشكال إنما يكون صحيحًا فيما إذا وقع عقد التوريد على بيع عين شخصية خارجية غير مملوكة للبائع كما في حديث حكيم بن حزام، أما إذا كان محل التوريد كليًّا في الذمة فلا نهي ولا منع عنه.

والإشكال الرابع الذي ذكره قال: عن محل التوريد قد يكون معدومًا فيصير بيعًا للمعدوم، وقد منعه جمهور الفقهاء.

أقول: إن محل التوريد لا بأس أن يكون معدومًا بشرط أن يبيع البائع ما في ذمته موصوفًا بصفات معينة ومحددة كما هو وارد في بيع السلم، بيع السلم هو بيع المعدوم.

إذن الإشكال الوحيد في بيع التوريد هو صدق بيع الكالئ بالكالئ عليه والذي ورد في منعه حديث عمل به الجمهور.

ص: 829

الأمر الثاني الذي ذهب إليه الشيخ العثماني في تكييف عقد التوريد قال: " إنه اتفاق مواعدة من الطرفين " فأخرجه عن العقدية وربطه بالاتفاق والمواعدة وأخذ يستدل على لزوم هذه المواعدة بكلمات بعض الفقهاء الحنفية في بيع الوفاء بأن الشرط إذا كان على وجه المواعدة من الطرفين فهي لازمة. وأيضًا استدل ببعض الكلمات للمالكية في بيع الوفاء أيضًا بأن المشتري إذا وعد البائع بأنه سوف يبيعه إذا جاء بالثمن فإن هذا الوعد صحيح ولازم. ومقصوده – حفظه الله – من هذا الاحتجاج بكلمات هؤلاء الفقهاء هو تقنين قاعدة تنص في حالة اعتبار حاجات الناس على إلزام ما لم يكن لازمًا في الأصل، وبما أن عقد التوريد هو من حاجات الناس فتكون المواعدة فيه لازمة. واستدل ثانيًّا بما ذكره الإمام أبو بكر الجصاص في تفسيره قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] في مثل النذور والعقود التي يتعاقد بها، إذ كل ما قاله في النذر الذي ليس بمعصية وفي العقد الذي تعاقد به يلزمه الوفاء به حتى لا يكون مصداقًا للذم الذي ذكرته الآية فيما إذا لم يعمل به.

أقول: هذا الاستدلال قد يكون بعيدًا عن الصواب إذا اعتبر المواعدة لازمة وأبعدها عن العقد بموجب ما قاله بعض الفقهاء. طبعًا ليس أقوال الفقهاء وحدها كافية للاستدلال بل لابد من دليلهم وتبنيه وتأييده. ثم الذي جعل هذه الموافقة على إنجاز عقد التوريد لازمة ما هو؟ فيما أعتقد هو وصول الموافقة والمواعدة إلى حد العهد والعقد فشملها {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، إذن لا داعي للتهرب من عقديتها وعهديتها فإنها عقد وعهد ناجز. فكل من الطرفين في عقد التوريد قد التزم بشيء يعمله وهو عقد وعهد لأنه عبارة عن التزام في مقابل التزام وهو معنى العقد والعهد إذا ثبت أن هذه الموافقة عقد وعهد – كما ذكر ذلك الشيخ العثماني – فلا حاجة إلى جعلها مقدمة لإيقاع عقد التوريد فيما يأتي من الزمان، بل نعقد عقد التوريد على تمليك سلعة موصوفة في ذمة زيد بثمن موصوف في ذمة عمرو ويكون العقد ناجزًا وحالًا، إذ كل واحد قد ملك في ذمة الآخر شيئًا حالًا، نعم، أما التسليم والتسلم فهو يتم في مراحل متأخرة ونجوم معينة بعد تمامية العقد، وقد تعقبنا هذا حتى في بيع النقد، أن العقد يتم ولكن التسلم والتسليم قد يتأخر، نعم، يقف في وجه هذا التكييف النهي الوارد عن بيع الكالئ بالكالئ، أو الدين بالدين، الذي عمل به الجمهور. فهل نتمكن من جعل موردنا مختلفًا عن بيع الكالئ بالكالئ، أو الدين بالدين؟ أو هل نتمكن من الخدشة في سند هذين الحديثين أم لا؟ هذا هو البحث الحقيقي في بيع التوريد ليس إلا. ثم أتصور أن الشيخ العثماني يمكنه أن يستدل على جعل المواعدة لازمة بطريق آخر مناسب مثل أن يتمسك بحديث ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) .

هذا ما أردنا بيانه ولنا كلام عن الدكتور رفيق المصري إلا أن الوقت ليس بكاف، والحمد لله رب العالمين.

ص: 830

الشيخ محمد المختار السلامي:

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.

شكرًا سيادة الرئيس على إتاحة فرصة الكلام لهذا الجمع الكريم، وأريد أن أعلق على عقود التوريد والمناقصات، بعد شكري للباحثين على ما قاموا به من جهود وعلى عمق تحليلاتهم.

عقد التوريد هو عقد فرض وجوده في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، فلابد من بحث الأسباب التي فرض بها هذا العقد على المسلمين وعلى غير المسلمين الذي فرض عقد التوريد أمران:

الأمر الأول: هو الدخول الآلة في حياة الناس.

الأمر الثاني: هو التنظيم للموازين للدول تنظيما محكما يقع في بداية كل سنة.

فلنأخذ العامل الأول. دخلت الآلة في الإنتاج وصحبتها الطاقة ، فأصبحت القدرة على الإنتاج قدرة تتضاعف كل يوم تضاعفا يعجز عنه من يستخدم الآلة عن إعداد ما تأكله الآلة وما تلتهمه في كل أوقات تشغيلها سنة كاملة. لأضرب لذلك مثلين. مثل بسيط: هذا رجل يصنع الحلوى الذي يصنع الحلوى لا بد له من أن يضمن توريد أو أو يضمن وجود المادة الأولية من السكر ومن القرطاسية ومن الأصباغ سنة كاملة ولا يستطيع أبدا أن يكون له من الوفر المالي ما يسمح له بشراء هذه المواد كلها وخزنه. فالقضية قضية خزن ، وثانيا: قضية تثبيت الثمن حتى يعرف بماذا يبيع ، وثالثا: تنوع ما هو في حاجة إليه. فإذا ذهبنا من هذا الرجل الذي له مصنع للحلوى إلى معمل كبير من المعامل المنتجة للطائرات أو للسيارات أو لغيرها من المعامل الكبيرة فإننا نجد ما يحتاجه هذا المعمل من مواد أولية يعجز صاحبها عن شرائها سلما. فعقد السلم لا يمكن أن يحل الإشكال الذي دخلت فيه البشرية جميعا ولا يمكن أن نقول للناس إما أن تشتروا بالسلم وتدفعوا الثمن حالا وإما أن تغلقوا معاملكم. أعطي مثالا ثالثا: الذين يبيعون الثياب الجاهزة نحن الآن في نهاية الصيف فلو ذهبت إلى معمل من هذه المعامل لتقول له: أعندك مخزون أشترية منك للتقليعات التي ستظهر في الشتاء القادم؟ يقول لك: لا أنا الآن بصدد إعداد للصيف القادم فالقضية قضية ضخمة كبرى هذه ناحية.

ص: 831

الناحية الثانية هي أن الدول نظمت موازينها فهي تعرف ما هي في حاجة إليه ويكون هذا قبل إعداد الميزانية تعرف ما هي في حاجة إلية من ثياب للجيش ومن أحذية للجيش وتعرف ما هي في حاجة إليه من تجهيزات في المستشفيات ومن تجهيزات للمعاهد وللكليات والجامعات فهذه الحاجات لا يمكن أن تكون تتبع سعر السوق نزولا وهبوطا ولكن الميزانية لا بد أن تبنى على أمر ثابت حتى توزع توزيعا عادلا وحتى تكون الميزانية ميزانية صالحة للتطبيق لا تتناقض عند التطبيق.

فكان عقد التوريد الذي تنشئه الدول والدول لا تختزن كامل الميزانية في أول السنة حتى تستطيع أن تشتري سلما وإنما هي تحصل على الواردات شيئا فشيئا وتدفع الأثمان شيئا فشيئا فعقد التوريد إذن عقد فرض نفسه لأمرين: دخول الآلة والتنظيم الداخل اللازم في الدول وفي تنظيم ميزانية الدول فلو نظرنا في هذا العقد نجد أن العاقد أو المشتري يلتزم بشراء كمية محدودة معلومة موزعة لها مواصفاتها ويلتزم البائع أيضا بذلك ولكن هو ابتداء دين بدين حسب التعبير الفقهي وابتداء الدين بالدين لا شك في تحريمه وذلك أن المعاملات التي أباحها الله للناس إنما هي المعاملات التي يقع فيها تقديم مال مقابل عين أو العكس أما أن تصبح الذمم هي التي محل العقود فهذا فساد في الكون وفساد في المجتمع وخروج بالتعامل عن الأصل الذي وضع عليه. جاء الإخوان شكر الله لهم فنظروا في أبواب الفقه وفي جزئياته وأرادوا أن يجدوا مخارج لابتداء الدين بالدين.

أول تخريج رأيته هو أن ابتداء الدين بالدين ليس كفسخ الدين بالدين وأن ابتداء الدين بالدين لا مانع منه. واعتمد في هذا على مناقشة الإمام ابن تيمية في تحليله في لا في أصل القضية، فالإمام ابن تيمية لما قال: إن ابتداء الين بالدين حرام قال: " وذلك لأنه عمل لا فائدة منه " فناقشوا هذا التعليل وقالوا إنه فيه فائدة وأنه لولا أنه فيه فائدة لما أقدم عليه كل واحد من الطرفين فحتى لو فرض قبول هذه المناقشة لابن تيمية فإنما الذي يسقط هو تعليل ابن تيمية لا الحكم الشرعي الأصلي وهو النهي عن بيع الكالئ بالكالئ. آخرون نظروا في جزئيات من الفقه وابتسروها، وهذا ابتسارا أو قطع للنص عن تمامه فتمام النص أن صاحب المدونة يقول:" وليس هذا من باب الدين بالدين ". كما ابتسروا نصا آخر في المدونة وهو ما يسمى ببيع أهل المدينة في اشتراء اللحم لمدة زمنية معينة وأن يكون الثمن العطاء وقالوا: " هذا جائز وهو قد عمرت فيه الذمتان " ولم يتابعوا النص في نهايته ففي نهاية النص " أن هذا ليس من بيع الدين بالدين ". وهنا لابد أن نفهم أن هؤلاء الفقهاء الكبار الذين تركوا لنا هذه الثروة الفقهية ليسوا من البساطة في العقود أن يقولوا: (ليس هذا من بيع الدين بالدين) ثم يجدوه وهو في الواقع من بيع الدين بالدين. فما هو السر؟ السر في ذلك هو أن كراء الأرض لا يكون لازمًا إلا إذا كانت مأمونة بالسقي أو نزلت الأمطار بما تكفي للزراعة والإنبات، وأنه قبل هذه الفترة ولو للسنة ذاتها العقد غير لازم، فهو عقد منحل. ولما ذكروا قضية اللحم لمدة معلومة اشترطوا في ذلك شروطًا، الشرط الأول: وهو أن يشرع المشتري في أخذ القسط الأول من اللحم. وهو ما عبر عنه من قواعد الفقهاء المعلومة بأن قبض الأوائل يعد قبضًا للأواخر، فليس هناك تعمير ذمتين ولكن هناك تواصل يبتدئ من اليوم الأول الذي يأخذ فيه مشتري اللحم القسط الأول ينتهي في نهاية الشهر أو عند أجل العطاء الذي كان معلومًا كما قال مالك لما سئل عن هذا.

ص: 832

إذن القضية الكبرى الآن التي أمامنا – أو الإشكالية الكبرى – هو أنه عندنا عقد ضروري لابد منه لأنه لا يمكن أن نقول للعالم الإسلامي: اتركوا المعامل واستمروا في الصناعة اليدوية، ومن ناحية أخرى قاعدة من قواعد الشرع أو من الأحكام العامة أنه لا يجوز ابتداء الدين بالدين. فكيف يمكن التوفيق في هذه الإشكالية؟ هنا نعود إلى الأصول، فإنه لما تحدث الفقهاء أو كبار الفقهاء عن تقسيم المصالح المعتبرة ليس ذلك التقسيم هو تقسيم لإظهار الحكمة الشرعية في الأحكام الموجودة ولكنه فتح لآفاق التشريع الذي عبر عنه الإمام مالك بالمصالح المرسلة. فالمصالح المرسلة هي العودة بالقضايا الجزئية إلى هذه القواعد العامة التي انبنت عليها الشريعة والتي هي تراعى والتي كما قال المحقوقون من الأصوليين: إنها قواعد يقينية أكثر من الجزئيات لأنها مستمدة من جزئيات متعددة تصل بصاحبها إلى اليقين، فإذن الحجة متأكدة إلى هذه العقود، ولما كان هذا من نوع الحاجي الذي يوقع المسلمين في حرج إذا لم يراعوا الحجة، كما هو تعريف الحاجي، هنا نقول: إنه يقع الاقتصار في بيع الدين بالدين أو فيما يعبر عنه بهذه العقود أو ابتداء الدين بالدين يقتصر في ذلك فقط على هذه العقود التي يكون الناس في حاجة إليها، ولا تخرج خروجًا عامًا حتى تدخل فيها ما هو موجود الآن في الأسواق العالمية في بيع السلع من أنهم يبيعون بذمم ثم بعد ذلك تقع المقاصة بينهما، فبيع السلع بالذمم بيعًا عامًا هو قمار، وهذا القمار ممنوع وما أدى إليه ممنوع، فنقول: إن ابتداء الدين بالدين إذا لم يكن لحاجة هو ممنوع لأنه من القمار. وأما ابتداء الدين بالدين في عقود التوريد فهو جائز لحاجة المسلمين سواء أكان ذلك في دولهم أوكان ذلك في معاملهم.

هذا ما أردت تحريره في أصل القضية.

ثانيًّا: هناك قضية منهجية وأرجو أنه عندما يقع في البحوث مقارنة عقد بعقد ألا يقتصر على النواحي التي يتفق فيها العقدان، ولكن لابد من بيان ما يتفق فيه العقد مع هذا العقد والنواحي التي يختلف فيها هذا العقد مع هذا العقد، وأنه إذا اقتصرنا فقط على نواحي التشابه واعتمدنا قياس الشبه فقياس الشبه غير معتمد إنما المعتمد هو قياس العلة. ولذا لا أريد أن أذكر كل باحث بما اعتمده من قياس الشبه المبتسر ولكن أقول أرجو أن تكون هذه قاعدة في البحث.

الأمر الثالث والأخير – وأشكركم إذا صبرتم على إطالتي – هو أن يقع الالتزام بما اتفقنا عليه في جلستنا السابقة وما ذكرت به الأمانة العامة مشكورة ألا تطول البحوث إلى أكثر من مائة صفحة، فليختصر كل باحث بحثه على القضايا المرتبطة بالموضوع دون الدخول في قضايا أخرى بعيدة. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 833

الشيخ عبد الستار أبو غدة:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

أول ما أريد أن أنوه به أن هذه الأبحاث تمثل غرضًا أساسيًّا من أغراض المجمع، فالعقود المستجدة هي أحوج ما يكون في أن تدرس في هذه اللقاءات الجماعية لأنها تنشط الاجتهاد الجزئي أو ما يسمى اجتهاد المسألة، وتحرك الأذهان للتخريج واستخلاص التكييفات الشرعية من النصوص أو القواعد الفقهية أو العقود.

والأمر الثاني: أن هذه المداخلات يحصل فيه تكرار، والذي سألتزم به أنه ما سبق سوف أقتصر على تأكيده وأركز على الجديد مما لم يقع تناوله ولا سيما حينما يتأخر من يتدخل.

عقد التوريد هو عقد فعلًا، وهو عقد مستجد، ولكن لا مانع بل من المطلوب أن يستأنس في تأصيل هذه العقود المستجدة ببعض القواعد أو بعض المقررات الشرعية السابقة المسلمة. فالإشارة إلى مبدأ المواعدة الملزمة إنما هي للاستئناس وليس للتأصيل المباشر. كذلك يستأنس ببيع الاستجرار الذي نوه به الباحثون الآن وسبق إلى ذكره المرحوم العلامة الزرقا – رحمه الله – في كتبه. وأريد هنا أن أبين أن طبيعة اللزوم في العقود التي لا ينفك عنها عقد التوريد ليست نمطًا واحدًا، فالإلزام تختلف أسبابه، فقد ينشأ عن العقد وقد ينشأ عن الوعد. كما أنه تختلف آثاره أو درجاته فأحيانًا يكون إلزامًا بالمعقود عليه وهو الالتزام العيني، وأحيانًا يكون التزامًا بما ينوب عنه وهو ما يسمى بالالتزام التعويضي أو دفع الضرر إذا لم ينفذ العقد.

أيضًا هناك فرق بين عقد التوريد الذي لا يخفى أنه عقد على دين بدين، هناك فرق بينه وبين عقود المستقبليات التي انتهى المجمع إلى منعها، فعقود المستقبليات التي يتأجل فيها البدلان تعاقد متردد بين الحصول على المعقود عليه أو الحصول على النقود والتي هي فرق السعر في الإقدام على العقد أو الإحجام عنه. أما عقد التوريد وعقود المناقصات فإن التعاقد يستهدف منه الحصول على المعقود عليه ولكن لا يمنع ذلك من أن يصار إلى التعويض عن الضرر إذا وقع إخلال بهذا الأثر العقدي المستهدف من عقود التوريد وعقود المناقصات.

ص: 834

بالنسبة للإيجاب، الإيجاب كما هو معلوم يحق للموجب أن يرجع عن إيجابه ما دام في مجلس العقد ولكن هناك مذهب المالكية يعطي الإيجاب المؤقت بوقت صفة الإلزام للموجب إلى أن يحصل هذا الوقت أو ينتهي ذلك الوقت، وهذا أمر نحتاجه كثيرًا في عقد المناقصة لأنه لا يصلح هذا العقد إذا ظل طرفا الإرادة مترددين، فالموجب يحق له الرجوع والقابل يحق له عدم القبول. إذن لا يحصل هناك استقرار للتعامل، لا بد أن أحد الطرفين يلزم نفسه بأمر حتى ترد عليه إرادة الطرف الآخر وإلا تقع في الدور والتسلسل، لأننا إذا قلنا إن الموجوب يمكن أن يرجع فإذا حصل القبول يكون هذا القبول إيجابًا ويحتاج إلى قبول من الطرف الآخر، وهكذا، ولا تنتهي ولا تستقر المعاملات في ذلك.

أما بالنسبة لعقود المناقصات فإنه من المستحسن والمستجاد ما نوه به فضيلة الشيخ تقي العثماني من أنه ينقسم إلى نوعين، فهو إما أن يكون على موجود أو على غير موجود. فإذا كان على بضاعة موجودة لدى البائع فهو لا يبعد عن المزايدة مع مراعاة الفرق بين عقود التوريد والمناقصات بأن عقود التوريد الثمن فيها محدد، أم المناقصات فإن الثمن فيها مربوط بأساس يؤول ويحصل به التحديد. وهنا لابد وأن يراعى في المناقصات أنها هي والمزايدة استثناء من النهي عن البيع على بيع الغير أو السوم على سوم الغير.

أخيرًا ما طرح بشأن دفتر الشروط أو وثائق العطاء فإن هذه لا تعدو أن تكون من قبيل نفقات إعداد العقود ولو لم يقع العقد، لأن العقود تعد قبل التعاقد، وهذه النفقات – نفقات العقود أو الوثيقة كما عبر الفقهاء – هي على من يلتزم بها ويتحملها أو من يلزم بها، وإذا لم يكن هناك إلزام أو التزام بتحمل هذه النفقات الفعلية فإنها تقسم على الطرفين العاقدين لأن كليهما يستفيد من هذه الشروط وهذه العقود وهذه المستندات. والله أعلم.

ص: 835

الشيخ سعود الثبيتي:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

شكرًا معالي الشيخ والشكر موصول للباحثين الذي قدموا لنا هذه الأبحاث التي جلنا فيه كثيرًا ولله الحمد وأفدنا منها فائدة عظيمة، وجمعنا معها بعض ما عرفناه في التدريس في الجامعات، وإن كان لي من إضافات ، أو تثنية فأنا أثني أولًا على ما تفضل به شيخنا الشيخ العلامة عبد الله البسام وما ثنى به أيضًا الشيخ الجواهري، وأريد أن أحصر كلامي في عدة نقاط موجزة، ولعل أول ما أريد الكلام فيه هو:

ما يتعلق بصفة عقد التوريد، هل هو عقد أو وعد؟ وقد أطال في هذا الشيخ تقي العثماني – حفظه الله – ومال إلى أنه وعد وليس بعقد. والواقع أن عقد التوريد عقد ملزم للطرفين يترتب عليه الإلزام لكل واحد منهما بما عقده، وإلا لو كان وعدًا لما أمكن الإلزام به، ولما أمكن ترتيب الشرط عليه.

الأمر الثاني: الذي أريد الكلام فيه هو محل عقد التوريد. فمحل عقد التوريد من المسلمات أنه لابد أن يكون محلًا مباحًا، والأشياء المحرمة لا يجوز عقد التوريد عليها كما يحصل في كثير من الدول ومنها الإسلامية حيث يتعاقدون على توريد أشياء ممنوعة لعل منها ما يتعلق بآلات اللهو الطرف والدخان والشيش وغيرها من الممنوعات.

الأمر الثالث: من أوجه الإشكال المرتبطة بعقد التوريد ما يتعلق بالتأمين التجاري، وهذا سبق للمجمع فيه بحث وقرار.

الأمر الرابع: يتعلق بمحل عقد التوريد. فهل عقد التوريد يقع على عين معينة؟ والعين هي الشيء المشخص المعين الموجود. فإن كان عقد التوريد يقع على عين معينة مشخصة موجودة مرئية فهو بيع الرؤية، وهذا لا بأس فيه بتأجيل الثمن. وإن كان عقد التوريد يقع على عين معينة موجودة مشخصة لكنها غائبة تباع بالصفة أو بالأنموذج فهذا بيع الموصوف المعين، وهذا أيضًا لا مانع من بيعه آجلًا أو مقسطًا أو غير ذلك. إن لم يكن هذا ولا هذا فإما أن يكون محل العقد مما تدخله الصنعة، وإن كان محل العقد مما تدخله الصنعة فهو أكثر ما يحصل فيه عقد التوريد. فجميع الآلات والأطعمة التي تدخلها الصناعة وكذلك الملابس كل هذه داخلة في باب الاستصناع، والاستصناع سبق للمجمع فيه فتوى سابقة وأنه يجوز بتأجيل الثمن وتقسيطه.

ص: 836

الأمر الخامس: يبقى أمر وهذا الأمر يتعلق بما لا تدخله الصنعة وليس من الأعيان الموجودة المرئية ولا الموصوفة كالمكيلات والموزونات التي لا تدخلها الصنعة وهذا يجب أن يطبق عليه عقد السلم بشرطه وهو: ألا يباع إلا بتقديم الثمن وإلا أغلقنا باب السلم، وألغيناه من الفقه الإسلامي، والمحاولات التي سبقت كثيرة وكررت في أكثر من مرة في دورات المجمع لمحاولة تبرير بعض العقود وإخراجها من عقد السلم فأرجوا ألا تكرر – إن شاء الله – مرة أخرى لأن عقد السلم باب مقر في الفقه الإسلامي ولا يمكن المساس به.

فما لا يمكن وصفه كالحبوب والثمار التي تكال وتوزن أو تباع عددًا كالفواكه وغيرها هذا لا بد فيه من تحقق شرط السلم وهو تعجيل الثمن وتأجيل المثمن وإلا أصبح بيع دين بدين والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، ونهى عن بيع الدين بالدين.

وأما ما أراد البعض أن يجعل محل عقد التوريد من بيع الصفات فبيع الصفات أو الموصوفات ينقسم إلى قسمين: بيع للموصوفات الموجودة المعينة، وبيع للموصوفات في الذمة، فبيع الموصوفات المعينة الموجودة المشخصة هذا لا ينطبق عليها ما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الشخص:((لا تبع ما ليس عندك)) . فالنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان إنما هو من بيع الأعيان، أما ما في الذمم فكل ما في الذمم يصح بيعه وهو ليس عند الشخص لأنه متعلق بالذمة.

فلعل معرفة محل العقد هل هو بيع عين موجودة، أو بيع عين موصوفة بالأنموذج أو بالوصف الذي يكفي في السلم، أو بيع المستصنعات بشرطها وبقرار المجمع فيها في السابق، أو بيع ما لا تدخله الصنعة وهو المحل المشكل والذي قد يستشكله البعض في هذه الأبحاث؟ فلابد من تحقيق شرط السلم فيه.

أمر أحببت أن أضيفه وهو ما يتعلق بكلام الشيخ وهبة الزحيلي – حفظه الله – والذي نفيد منه كثيرًا إلا أنه قال: (التعقيد الفقهي) ودعانا إلى الخروج من هذا التعقيد الذي ذكره. والواقع أن هذا تعقيد لن نخرج منه إلا إليه، وكل ما ورد في أكثر العقود المستجدة إنما هو موجود في الفقه الإسلامي ومستوفى فيه، وما علينا إلا الرجوع إلى ما قاله أهل العلم والتخريج عليه.

فأرجو أن يكون محل البحث والنقاش ينصب على محل عقد التوريد، وتفصيل كل ناحية من النواحي وإعطائها الحكم الشرعي الذي ينطبق عليه.

وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 837

الشيخ عبد الله بن بيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

يبدو لي أن هذا العقد الذي نتحدث عنه اليوم والذي قدم فيه كل واحد من الباحثين جهدًا طيبًا لا يستهان به، هذا العقد هو عقد سلم تأخر فيه العوضان، يجب أن نواجه ذلك وأن نرى الأدلة التي ترد على هذا العقد.

أولًا: نتحدث عن الكالئ بالكالئ.

ثانيًّا: نتحدث عن الإجماع إذا كان قد وجد إجماع.

ثالثًا: نتحدث عن الحاجة وما تدخله الحاجة.

هذه ثلاثة أمور ينبغي أن تكون مقدمات ضرورية حتى تكون النتائج بحسب المقدمات.

فالحديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ "، قد روى بعض العلماء هذا الحديث وقال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى:" إنه لم يصح شيء في ذلك ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه اتفاق الناس في العمل ".

ثانيًّا: بالنسبة لدلالة (الكالئ بالكالئ) هذا عام ينطبق على جملة أفراد وآحاد، هذه الآحاد منها فسخ الدين بالدين وهذا أقوى (الكالئ بالكالئ) ، وربما هو الفرد الذي لا يختلف فيه في دلالة (الكالئ بالكالئ) عليه. أن تفسخ دينًا لك على شخص لا يجد قضاءه في دين آخر وهذا حرام لأنه من باب إما أن تقضي وإما أن تربي، وتنطبق عليه قاعدة أخرى وحديث آخر.

إذن (الكالئ بالكالئ) عام ينطبق على عدة أفراد، هذه الأفراد طبعًا منها تأجيل العوضين وهو من باب الكالئ بالكالئ ومن باب ابتداء الدين بالدين، وابتداء الدين بالدين المالكية وضعوه في المرتبة الثالثة بعد فسخ الدين بالدين وهذا نص خليل حيث قال: " إن ابتداء الدين بالدين يتأخر عن ذلك لأنه يجوز في السلم بشرط في اليومين أو الثلاثة ويجوز بلا شرط مطلقًا. إذن يجوز ابتداء الدين بالدين من هذه الناحية ثم أجازه مالك في الاستصناع وابن رشد لما علق على هذا وغيره، وقالوا: إن هذا لا يسعه قياس ولكنه عمل الناس بأن تقول لرجل: أصنع لي هذه الدار أو أعمل لي هذه الدار أو ابن لي هذه الدار وعليك الجص والآجر. وحتى إنه لم يقيد أجلًا، قال:(الأجل معروف عرفًا) . فالكالئ بالكالئ خرجت عنه آحاد من صوره استثنيت للحاجة.

ص: 838

هنا نقول الحاجة، في أي شيء تدخل الحاجة؟ الحاجة يقول العلماء إنها لا تدخل في الربا وإنما تدخل في الغرر إذا كان الغرر مضافًا حسب عبارة المواق. الغرر المضاف إذا انضاف إلى أصل جائز أمكن أن تعمل فيه الحاجة. إذن الحاجة يمكن أن تعمل في هذا بشروط الحاجة، وهذه الشروط منها: أن يكون العام ضعيفًا في بعض أفراده، بأن يكون هذا الفرد من نوادر الصور أو تكون صور غير معروفة فيمكن للحاجة أن تدخل في ذلك. الحاجة يمكن أن تدخل في بعض عقود الجهالة إذا لم يكن الغرر كبيرًا جدًا وهذا لا خلاف أن الحاجة لا تدخل فيه، لكن إذا كان متوسطًا – كما يقول القرافي والنووي – فقد يلحق هذا المتوسط بالأدنى وهو الغرر المغتفر لوجود حاجة كما قال خليل:" واغتفر غرر يسير لم يقصد للحاجة للنقصان "، وعبر عنها المازري بأنها للضرورة، واستشكلوا عبارة المازري بأن هذا الغرر يغتفر للضرورة، وقالوا: إن الضرورة أخص من الحاجة، والخطب سهل كما يقول البناني.

المسألة الثالثة هي الإجماع، هل هناك إجماع على منع تأجيل العوضين؟ كثير من العلماء أطلقوا الإجماع، وابن رشد في بداية المجتهد قال: إنه لا خلاف، وإنه من الأمر المجمع عليه أنه لا تجوز النسيئة بالنسيئة. لكن الأمر مع ذلك فيه تفصيل إذا أجزنا الاستصناع وأجزنا أيضًا – عند أشهب – الدين في مقابل منافع يتأخر قبضها، هذا لا يجوز عند ابن القاسم ولكنه يجوز عند أشهب. ثم – وهذا هو الأمر المهم جدًا – إن سعيد بن المسيب – رحمه الله تعالى – من المعلوم أنه كان مرجعًا في البيوع ونص على ذلك ابن تيمية وغيره، وقال:" عن سعيد بن المسيب هو أعلم التابعين بالبيوع "، وهو يحتج بذلك لأن مذهب مالك ومذهب أحمد هما أصح المذاهب في البيوع، سعيد بن المسيب يقول بجواز تأجيل العوضين صراحة. نص على ذلك ابن يونس في جامعه. وحينئذ فلسنا أمام إجماع ثابت قد يكون الإجماع في الجملة على الكالئ بالكالئ، لكنه بالنسبة لآحاد الكالئ بالكالئ لا يوجد إجماع في تعيين هذه الآحاد، هناك فرد من أفرادها وطبعًا العام وهو على فرد يدل حتمًا، فالعام يدل على فرد من أفراده وهذا الفرد هو فسخ الدين بالدين، هذا لا خلاف فيه، وكثير من العلماء فسروا به (الكالئ بالكالئ) أنه فسخ الدين بالدين. يبقى بعد ذلك تأجيل العوضين فيه خلاف، وهذا الخلاف كما قلنا سعيد بن المسيب يقول بجواز تأجيل العوضين وتأجيل البدلين، ومالك يفهم من نصوصه المختلفة أنه لا يرى ذلك أمرًا إدَّاً أي أنه لا يراه أمرًا عظيمًا.

ص: 839

بناء على هذا يمكن أن نستثنى هذا العقد، وكما قال الشيخ المختار السلامي ألا نقول إنه يجوز تأجيل العوضين مطلقًا بل نستثنى جزءًا أو فردًا من أفراد العامي بناء على حاجة يمكن أن تدخل هذه الحاجة إذا كان النهي ليس صريحًا في الموضوع أو كانت الأسس الثلاثة لمنع البيع وهي الغرر والجهالة والربا، إذا تجنبنا هذه العيوب الثلاثة أو الأمراض الثلاثة للبيوع إذا تجاوزنا هذه الأمراض وقلنا إن التوريدات الآن لا توجد فيها جهالة كبيرة ولا غرر كبير ولا يوجد بيع فيمكن أن نجيز هذا العقد بناء على الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة: يعني عبارة السيوطي لاحظ عليها بعض العلماء أنها ليست دقيقة، وابن نجيم: الحاجة تنزل منزلة الضرورة. الحاجة قد – بقد التقليدية – تنزل منزلة الضرورة وهذا من باب الحاجي العام الذي يمكن أن يعمل في فرد من الأفراد ولكنه لا يمكن أن يكر على عموم كله بالإبطال. وهذا هو الأمر الذي يجب أن ننبه عليه في المجمع لأن كثير من الأخوة يستعملون الحاجة ويدخلون من خلالها إلى أي شيء مع الأسف. فلابد أن نهتم بذلك. هذا بالنسبة للعقد الأول.

بالنسبة للإيجاب والقبول. الإيجاب، بعض الأخوة ذكروا عن المالكية مسألة أن صاحب الإيجاب يكون نافعًا، هناك نص آخر ذكره البناني وغيره وهو أن من أوجب على نفسه شيئًا وقال: أبيع هذه السلعة بعشرة مثلًا، فمن سمع كلامه أو أبلغ له فإنه يجوز له أن يتمسك بهذا الإيجاب وبالتالي لا يستطيع الأول أن يتراجع عن إيجابه الموجه للجميع. فقد يكون ذلك نافعًا في هذا الموضوع.

النقطة الأخيرة فيما يتعلق بالوضيعة والحطيطة وهي مسألة النقصان. هذا من باب الوضيعة والحطيطة وأنا أرى أن له أصل وبالعلماء تكلموا عنه في باب المرابحة، وقالوا: يقابل هذا الوضيعة والحطيطة وهي نوع من البيوع، وبخاصة إذا قلنا إن الموجب هو الشخص الذي يشتري السلعة.

هذا باختصار رأي في هذه المعاملة التي أرى أن تكون جائزة وأن نترك قضية الشروط أن نبحثها أو الظروف التي تحيط بها من ضمان ونغيره بأن يبحث مستقلًا عن أصل العقد بمعنى أن نحكم في أصل العقد ثم ننتقل إلى ما يحيط به من الضمانات لنحكم فيه حكمًا مستقلًا.

وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 840

الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

لا شك أن البحوث التي قدمت في هذا الموضوع امتازت بالدقة في الملاحظة وملاحقة المراجع لاستخراج النص الشرعي الذي يمكن أن توضع تحته هذه العقود التي قذفت بها المعاملات الجديدة. والتي فرضت نفسها على الساحة الإسلامية بسبب تراكم الصناعات وكثيرة الحاجة إليها، وأيضًا بسبب ما يعرفه أصحاب القوانين بطيعة تنفيذ العقد، وما تفرضه طبيعة تكوين العقد من إعطائه مدة حتى يمكن أن تنتج البضاعة التي تكون محل العقد. والذي يثلج الصدر هو أن أصحاب البحوث ذهبوا في مجمل أقوالهم إلى جواز هذه المعاملة في مبادئها العامة إن وقع شرط استبعاد الربا والغرر من المعاملة نفسها. والذي ذهبوا في كثير من بحوثهم وتناقضاتهم إليه هو البحث عن الاسم الشرعي الذي يمكن أن يعطى لهذه المعاملة.

الحقيقة أن كثيرًا من الملاحظات التي كنت سأقولها قالها شيوخي وأساتذتي قبلي ولكن لي بعض التساؤلات حول التكييف العلمي الذي قدمه العالم الجليل محمد تقي العثماني في بحثه القيم عن عقد التوريد وفي تقديمه للموضوع جعل اتفاقيات التوريد مواعيد ملزمة على الطرفين بإنشاء عقد، ثم يتم العقد في حينه على أساس الإيجاب والقبول، أو على أساس التعاطي والاستجرار.

التساؤل الأول هو أن عقد التوريد الإيجاب والقبول تما فيه عند وقت إبرام الاتفاقية بين أصحاب العقد، وإذا كنا جعلناه غير ملزم فما هي الصيغة التي يمكن أن تضمن بها مصالح كل طرفي العقد عند توريد البضاعة؟ .

ص: 841

ثم استبعد الأستاذ المبلغ الذي يدفعه الطالب، استبعده من أن يعطي له اسم العربون قائلًا بأنه لا يمكن أن يكون عربونًا مبررًا ذلك بأن اتفاقية التوريد ليست عقدًا باتًا، والحال أننا إن حددنا الثمن والمقدار وتاريخ التسليم فلا مانع من تقديم عربون لتوثيق عملية الاتفاق على التوريد الذي سيشمل وقائع لابد من مراعاة مصالح طرفي العقد فيها، فكثيرًا ما يكون المحل بضاعة ستصنع أو سيتم شراؤها من جهات أخرى، أو إنتاج فلاحي يجنى في وقت معين، فكثيرًا ما يكون عليه الطلب خلال تلك المدة فإذا فاتت فرصته تغير الطلب على إثر ذلك، فهل من العدل أن يترك صاحب التوريد تحت اتفاق على وعد بالبيع؟ إنني أرى أن المصلحة الشرعية تقتضي أن يتم النص على أن هذا الاتفاق يجب أن يوثق إما بعربون أو بشكل آخر لا يجعل صاحب الطلب تحت رحمة اختيار المورد. وإن أحكام العربون في الفقه الإسلامي لا تتناقض مع هذا العقد. إذا كانت اتفاقية التوريد ليست عقدًا للبيع عند أصحاب القوانين الوضعية فإن هذا هو محل الريبة فيها عندنا نحن المسلمين، ولكن إذا نظرنا إلى مسيس الحاجة إليها اليوم تحتم علينا أن نبحث لها عن مندوحة تخرجها من الغرر الذي يحفها حسب المسطرة التي يتبعها أصحاب القوانين الوضعية ومراعاة لذلك فإن ما قاله القرافي من أن الناس يجب أن تتبع أعرافهم، حسب ما ذهب إليه عندما قال: إن حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب، والحكم عليهم بخلاف ذلك من الزيغ والجور إذا لم تتناقض هذه الأعراف مع الشريعة، ولابن عرفة تعريف قيم لعقد السلم يمكن أن يسحب على عقد التوريد وذلك التعريف هو:" عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة في غير متماثل للعوضين "، وقوله:" عقد معاوضة يشمل جميع أنواع البيع والكراء " وقوله: " يوجب عمارة الذمة " أخرج به بيع العين الموجودة. وفي المدونة أنه رخصة مستثناة مما ليس عندك على أن يكون المسلم فيه موصوفًا حتى يتم التأكيد على شرعيته، لأن التشريع الإسلامي لا يقر عمارة الذمة بغير مشروع لأنه غير محمي بقواعد الحكم التي تحتم على من عمرت ذمته أداء ما عمرت به.

ص: 842

إن قول العلامة محمد علاء الدين الحصكفي في العبارة التي أوردها الشيخ الجليل عبد الوهاب أبو سليمان حول الحديث الذي تعرض إليه الإخوة يمكن أن تطبق على هذه الحالة من حالات التوريد والتي تجعله عقدًا ذا طبيعة ازدواجية، وهو يأخذ جانبًا من جوانب عقد السلم وذلك عندما قال صاحب التحفة:

فيما عدا الوصول جوز السلم

وصح في المال وليس في الذمم

والشرح لذمة وصف قام

يقبل الالتزام والإلزام

وهو بالاشتراط عند العقد

ولا يجوز فيه شرط النقد

كشرط ما يسلم فيه أن يرى

متصفًا، مؤجلًا، مقدرًا.

ثم هو يأخذ طبيعة أخرى من بيع الخيار والذي أشار إليه:

بيع الخيار جائز الوقوع

لأجل أن يليق في المبيع

كالشهر في الأصل والأيام

في غيره كالعرض والطعام

هذه الحالات لا نجد كل مقوم من مقومات عقد من هذه العقود يمكن أن يطبق على عقد التوريد، ولكن نجد صفات توفر عليها في كل عقد من تلك العقود يمكن أن تجعله عقدًا ذي طبيعة ازدواجية، ولكن التكييف الشرعي الذي يعطي له تكييفًا متميزًا نظرًا لحالته المتجددة، ولا أرى أن هناك داع للقول بأنه داخل في السلم في حد ذاته، ولا في بيع الثنيا، وإنما القواعد التي توفر عليها تجعله عقدًا صالحًا لأن نتعامل معه على أساس، وهذه هي النقطة الأساسية، لأن القوانين الوضعية لا تستبعد منه إمكانية الربا والغرر. إذا أقره المجمع فيجب أن يلزمه بشرط تحاشي الطرفين كل معاملة يمكن أن تسوق إلى غرر أو ربا.

وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 843

الشيخ عبد الله بن منيع

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أشكر سماحة الرئيس على إتاحة الفرصة المباركة وأسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه.

في الواقع أولًا أنا أؤيد ما ذكره إخوتي الأعزاء السابقين من الثناء على هذه المجهودات الجيدة التي قدمها الباحثون حفظهم الله وأدام توفيقهم ويسر لهم كل طريق من طرق الخير والسعادة.

ما يتعلق ببحث الدكتور عبد الوهاب، أولًا – حفظه الله – صور السلع محل العقود بأنها ما بين غائبة ومعدومة، وذكر محاذير عقود التوريد ومنه أمران ذكرهما في خلاصة البحث هما:

الأول: أن البعد المكاني يؤدي إلى تغير الصفات ويعرض السلعة للهلاك. الثاني: أن العدول عن الرؤية إلى الوصف غرر ومخاطرة ويفضي إلى المنازعة.

هو – حفظه الله – من ألمع فقهائنا ويعرف ذلك جيدًا ويعرف أن اختلاف الصفة لمشتري سلعة بالصفة إذا اختلفت الصفة فله خيار الصفة، وفي نفس الأمر كذلك له خيار الرؤية.فإذن كيف نقول بأن في ذلك محظوران أو نحو ذلك؟

كذلك ذكر نصوصًا عن الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة عن الموضوع إلا أن النصوص التي ذكرها عن الحنفية والمالكية والشافعية خاصة بالسلع الموجودة الغائبة. والحنابلة فيما ذكره عنهم تحدثوا عن السلعة الغائبة أو المعدومة. فالسلعة الغائبة يثبت لمشتريها خيار الرؤية، والسلعة المعدومة لها أحكام بيوع السلم. وقال بأن عقود التوريد يمكن إجازتها للحاجة إليها، ويمكن أن تعتبر بديلًا عن المرابحة التي قيل فيها ما قيل. ولا يخفى أن مجموعة كبيرة من العقود تباع على سبيل المرابحة، فكيف يكون الشيء بديلًا عن نفسه؟ ثم أتمنى أن يكون قد تحدث عن السلع المستوردة وهي معدومة وقت العقد، وكذلك لو تحدث عن الثمن وأنه يجب أن يكون مدفوعًا وإلا فما وجه تأخيره؟ هل يكون على سبيل الاستصناع أم لا؟ هذه نقطة تحتاج إلى مزيد من النظر.

ص: 844

ثم في نفس الأمر إذا قلنا بأن عقود التوريد عقود مستجدة فيجب أن يكون في تصورها ما يقتضي اعتبارها كذلك، أما أن تكون هي صورة لتعامل موجود مثله فيما ذكره الفقهاء السابقين وذكروا أحكامه فكيف نعتبره تعاملًا جديدًا على سبيل التحكم والدعوى حيث إن السلع المستوردة لا يخلو أمرها إما أن تكون موجودة أو معدومة؟ وفقهاؤنا السابقون رحمهم الله – ذكروا أحكام البيوع على أعيان موصوفة موجودة غائبة، أو على أعيان معدومة وقت العقد، ذكروا هذا وذكروا هذا. فإذن لا يتصور أن يقال بأن هذه من العقود المستحدثة التي يجب أن نأخذ بها على الأصل في أن الأصل في العقود أو في المعاملات الإباحة. رأيي أن عقود التوريد ليس في أمرها إشكال حتى نخرجها عن مقتضيات أحكام بيوع الصفة، ما كان منها موجودًا غائبًا أو كان منهًا معدومًا، وعلماؤنا – رحمهم الله – ذكروا أحكام ذلك وليس في المسألة شيء جديد حتى نقول بأنه يجب أن نأخذ بأحكام ما يستجد لدينا.

ما ذكره الأخ الكريم القاضي العثماني باعتبار عقود التوريد عقود مواردة أو عقود وعد، وإن قال بأن الوعد ملزم وهو ما اختاره المجمع وأصدر به قرارًا لكن هذا القول مخالف للواقع، فهي بيوع يجري عليها التصرف بها من بيع ونحوه قبل التسلم على رأي من يقول بجواز تصرف البائع فيما اشتراه قبل قبضه إياه. فإذن هي بيوع وليست عقودًا، فيجب أن يكون بحث الموضوع منطبقًا مع واقع وجوده، وإذا كان مخالفًا للمقتضى الشرعي بحثنا البديل عنه.

كذلك ذكر الشيخ العثماني – حفظه الله – أن بيع دفتر المزايدة أو المناقصة يجب أن يكون بقيمة التكلفة. والواقع أن وراء رفع سعر الدفتر مقصدًا وهو مقصد مصلحي في أنه لا يتقدم لهذه المناقصة أو لهذه المزايدة إلا من هو أهل لها. وهذا في الواقع يعتبر حماية من أن يشغل القائمون بهذا العمل أو بهذا التعامل التجاري من ليس أهلًا لذلك.

هذا ما أحببت التنبيه إليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 845

الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

البحوث طويلة شكر الله لكاتبيها، والتعليقات كثيرة، والوقت قصير. ولهذا سأقتصر في حديثي على مسألتين فقط:

المسألة الأولى: تتعلق بما نسبه إلي الدكتور عبد الوهاب وما نسبه إلي أيضًا الدكتور رفيق المصري.

الدكتور عبد الوهاب ذكر في بحثه في الكلام عن حديث حكيم بن حزام الذي قال له فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) واختلف المفسرون في تفسير هذا الحديث وذهبوا مذاهب متعددة. ذكر الدكتور عبد الوهاب رأي الباجي وهو أنه يرى أن هذا خاص بالأعيان المعينة، ثم قال: صحيح هذا هو رأي الباجي ولكنه قال: وأيده الأستاذ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير فذكر عبارة لا تدل على هذا المعنى. أنا رأيي عكس هذا الرأي تمامًا ليس في الأعيان المعينة وإنما قلت " إنما هو فيما إذا كان فيه البيع حالًا " يعني دخل البائع والمشتري على أن يتسلم المشتري المبيع في الحال وليس فيه إذا كان المدخول فيه على تأجيل الثمن. وأردت بهذا أن اخرج بيع الاستيراد، لأن بيع الاستيراد أو بيع التوريد مدخول فيه على التسليم في المآل (فيما بعد) ، أي مؤجل التسليم. هذه هي النقطة الأولى.

النقطة الثانية: ما نسبه إلي الدكتور رفيق المصري من أنني أقول يجوز بيع الدين بالدين – وهذه أعظم – معتمدًا في ذلك على اعتراضي على ابن القيم في تعليله لمنع بيع الدين بالدين بأنه لا فائدة فيه. صحيح اعترضت أنا على هذا وقلت: " إن هذا البيع فيه فائدة "، لكن لم أقل يجوز بيع الدين بالدين ومنعت هذا صراحة لعلة أخرى غير العلة التي ذكرها ابن تيمة وهي بيع الإنسان ما لا يملكه على غير وجه السلم.

ولهذا وجب التنبيه على هاتين الحالتين.

انتقل بعد ذلك إلى صلب الموضوع وهي المسألة الثانية، سأتحدث فيها عن هل عقد التوريد هذا عقد جديد أم عقد يدخل في العقود المسماة؟ وهذه هي الطريقة التي يجب أن نبحث بها في أي عقد من العقود بعد أن نكيفه.

ص: 846

الباحثون كلهم كيفوا هذا العقد بأنه عقد المحل فيه أو المبيع غير مملوك للبائع ومؤجل التسليم، فهو من بيع الإنسان ما لا يملك على الصفة في الذمة هذا هو تكييفه الصحيح. بيع الإنسان ما لا يملك على الصفة وليس معينًا في الذمة فهو في هذا شبيه بعقد السلم، لأن عقد السلم هو أيضًا بيع الإنسان ما لا يملك في الذمة. وقد عجبت للدكتور عبد الوهاب كيف شبهه ببيع العين الغائبة على الصفة! هذا شيء آخر. بيع العين الغائبة على الصفة يكون في بيع عين موجودة ومملوكة للبائع ولكنها غير مرئية، فلا محل لها في التوريد أو الاستيراد، ولا يمكن أن يقاس عليها، لكن يمكن أن يقاس بل هو فعلًا من البيع على الصفة في الذمة، وهي هذه الصفة ملازمة له. فإذا كان هذا هو تكييف بيع التوريد وأنه من بيع الإنسان ما لا يملك على الصفة فالحكم فيه واضح وهو أنه لا يجوز إلا على وجه السلم، أي أن يكون الثمن مقدمًا. والفقهاء عندما قالوا ذلك عللوه بقولهم:" لئلا يكون من بيع الدين بالدين "، وهذه هي المشكلة بالنسبة لهذا البيع أو هذه هي أهم مشكلة.

الشيخ العثماني ذكر مشاكل متعددة، لكن يمكن الرد عليها ما عدا هذه المشكلة في نظري وهي التي تعترض بيع الاستيراد حتى لو اعتبرناه عقدًا جديدًا، لو اعتبرنا عقد الاستيراد عقدًا جديدًا فإن هذه المشكلة ستعترضه، لأن القاعدة في العقود الجديدة هي أن الأصل فيها الجواز والصحة ما لم يرد نص أو إجماع أو قياس صحيح على المنع، وهنا ورد نص وإجماع وقياس صحيح على المنع، وهو كون هذا البيع من ابتداء الدين بالدين ، منع هذه الصورة من صور بيع الدين لا خلاف فيها. كيف المخرج؟

رأي بعض الأساتذة أن المخرج في الحاجة (مبدأ الحاجة) ومبدأ الحاجة معترف به في إجازة بعض العقود الممنوعة وبخاصة العقود الممنوعة بسبب الغرر. والمنع في بيع الدين بالدين سببه الغرر، فقد نص جميع الفقهاء على أن العقد الذي فيه غرر أنه إذا دعت الحاجة إليه بضوابطها الشرعية يجوز. هذه الضوابط هي أن تكون الحاجة عامة أو خاصة، وأن تكون متعينة، بمعنى أن تنسد جميع الطرق التي توصل إلى المطلوب إلا هذا الطريق. فهل هذه الضوابط موجودة في هذه المعاملة؟ هذا هو ما يحتاج إلى تحقيق وتدبر قبل أن نحكم بالجواز أو المنع، ويجب أن ننظر فيما يترتب عليه هذا الجواز لو بنيناه على الحاجة، وقد أشار الشيخ العثماني إلى هذا التخوف بقوله بعد أن ذكر المحاذير، وهي عبارة جيدة، قال: لو فتحنا باب غض النظر عن هذه المبادئ التي استمر عليها الفقه الإسلامي – ويقصد بذلك الموانع – ومن بينها منع ابتداء الدين بالدين عبر القرون، فإن ذلك يفتح المجال لإباحة كثير من العقود الفاسدة التي ابتدعها سوق الرأسمالية مثل المستقبليات وغيرها.

ولهذا فإني متوقف في هذا الحكم حتى يتبين لنا فائدة هذا العقد وأن مبدأ الحاجة ينطبق عليه انطباقًا كاملًا. وشكرًا لكم.

ص: 847

الدكتور إبراهيم حمادي:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.

شكرًا سيادة الرئيس لإتاحة الفرصة لطرح بعض التساؤلات. أتشرف بسماعي لثلة العلماء وكذلك الفقهاء، وأود أن أثني على الأوراق البحثية في موضوع المناقصات والتي سبق أن تطرق لها المجمع. أحب أن أثنى على ورقة الشيخ القاضي العثماني والمقدمة في موضوع المناقصات. ولي بعض التساؤلات فهو قد طرح عدة مسائل ويا حبذا لو تقرب متن البحث إلى الواقع المحلي. نحن نعاني من واقع الممارسة في هذه الأعمال، فعلى سبيل المثال: لو نتطرق للمناقصات أو أن المجمع يتطرق ويتكلم عن الأنظمة المعاصرة وعلى سبيل المثال في المملكة العربية السعودية نجد أن من الأنظمة التي تحكم هذا العمل نظام تأمين المشتريات الحكومي وتنفيذ مشاريعها وعقد الأشغال العامة، وهذا ما يطلق عليه العقود الإدارية، وهو موجود في معظم الدول الإسلامية، حيث إن الدولة هي الطرف القوي في العقد.

الحقيقة، إن الذي أحببت أن أطرحه هو مطلب تقديم مسودة نماذج عقود عصرية تساعد الأجهزة الهندسية ومسؤولي الرقابة والقضاء على تحديد الحقوق في كثير من شروط عقود الأشغال العامة. على سبيل المثال: نحن عندما نتكلم عن وثائق العقد، هنالك وثيقة تسمى (جداول كميات) ، وكثير من الأحيان يختلف الطرفان المتعاقدين على تحديد هذه الكميات بسبب طبيعة الأعمال الهندسية مثل الحفر، نحن لا نتوقع الحفر في بعض المواقع لبعض المباني بأنه يتجاوز كمية محددة، فهذا تساؤول. في بعض العقود تفرض مقدمًا التكلفة أو القيمة المدفوعة وإن تجاوزت كمية الحفر عن المفترض أو عن المتوقع. هذا من ناحية. الناحية الأخرى هو يثير عدة تساؤلات إضافية إلى ذلك وهو أن بعض البنود قد تكون مجحفة مثل غرامة التأخير، ولا يكون هنالك مقابلها وهو مكافأة المقاول عند إنجازه للعمل بوقت أقصر من الوقت المتفق عليه من قبل الطرفين.

وجزاكم الله خيرًا عنا، وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 848

الدكتور رفيق المصري:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد، فضيلة القاضي العثماني لم يقبل بتخريج عقد التوريد على أساس الاستحسان ومخالفته لبعض القواعد والأصول، وقد رأى تخريجه على أساس المواعدة الملزمة، واحتج ببيع الوفاء، والمأخذ على اتجاهه هو:

أولًا: بيع الوفاء حيلة مكشوفة ومنعه المجمع. وعندما تكلم عن الاستصناع ذكر أن المجمع أجازه، ولكنه عندما تكلم عن بيع الوفاء لم يذكر أن المجمع منعه.

ثانيًّا: المواعدة الملزمة حيلة أخرى وبواسطتها يمكن استباحة أي معاوضة محرمة كما بينت سابقًا في بحثي عن بيع المرابحة وفي مداخلتي في المجمع حول المواعدة.

حاول بيان بعض الفروق الناعمة جدًا بين العقد والوعد الملزم، وهذه الفروق لا يكاد يشعر بها القارئ إلا بتكلف ظاهر.

ص: 849

العثماني حنفي والحنفية خرجوا الاستصناع على أساس الاستحسان، والتوريد مثله، قال:" أما المواعدة فلا تنشئ دينًا "، ثم قال:" المواعدة ليست عقدًا "، هذا صحيح إذا كانت غير ملزمة، والكلام في المواعدة الملزمة. ثم لا أدري لماذا حذف وصف الملزمة هنا ولم يحذفه في مواضع أخرى؟

رأي أن مبلغ الضمان لا يشبه العربون، والذي جعله يرى هذا رأيه وأنه خرج التوريد على أساس المواعدة. ميز بين توريد يحتاج إلى صناعة وتوريد لا يحتاج إلى صناعة، وخرج الأول على أساس الاستصناع وخرج الثاني على أساس المواعدة، وذكر أن تخريج التوريد على أساس الاستحسان ومخالفته للقواعد والقياس يفتح المجال لإباحة كثير من العقود الفاسدة. ومأخذي ما يلي:

العثماني حنفي والحنفية كما هو معلوم خرجوا الاستصناع على أساس الاستحسان، فكيف يرضى بتخريج التوريد تارة على أساس الاستحسان وتارة على أساس رفض الاستحسان؟ يفهم من كلامه أن المواعدة ليست من قبيل الاستحسان بل هي متمشية مع القواعد، وهذا الكلام غير صحيح في نظري، فالقول بالإلزام في المواعدة من أخطر المخالفات للقواعد ولكن المسألة تحتاج إلى دقة وتعمق.

تخريج هذه المعاملات على أساس الاستسحان أقوى وأصدق من تخريجها على أساس القواعد، لأن ملف الاستحسان قد يعاد فتحه إذا تغيرت الظروف واستردت الحضارة الإسلامية مكانتها، أما التخريج على أساس القواعد ففيه تلبيس بالنسبة للحاضر وبالنسبة للمستقبل. قال:" لولا هذا الدفتر – دفتر الشروط – لاحتاج كل عارض إلى أن يجري هذه الدراسات الفنية بنفسه " انتهى كلامه، هاهنا حذف تقديره. (لاحتاج إلى أن يجري هذه الدارسات بنفسه لصالح الجهة صاحبة المناقصة)، وبذلك يبطل مدعاه. قال:" وهذا قريب مما صدر به قرار المجمع "، والحق أنه ليس قريبًا فهو قد ميز بين دفتر شروط لا يتضمن دراسات فنية فلا يجوز بيعه، ودفتر شروط يتضمن دراسات فنية فيجوز بيعه، وقرار المجمع لا يميز هذا التمييز. فكيف يقول هذا قريب من قرار المجمع؟ ! .

قال " لا يجوز شرعًا مصادرة الضمان الابتدائي إذا سحب العارض عرضه قبل إرساء العطاء " تعليقي أن الضمان الابتدائي ما جعل إلا لهذا وإلا كان صوريًّا لا معنى له، كما أن إعطاء الحق للعارض بالانسحاب يتعارض مع مقتضيات المناقصة، بل إنه يؤدي إلى انهيارها من أساسها، والأخذ بمذهب المالكية هنا لا غضاضة فيه بل هو وجيه، وهناك عمليات يجيزها بعض الفقهاء المعاصرين لا سند لها من مذهب أو فقيه. فما معنى أن نترخص تارة فيما لا يفهم ثم نتشدد تارة فيما لا يفهم؟! .

ص: 850

قال: " مجرد التقدم بالعرض لا ينشئ دينًا " وبنى عليه جواز انسحاب العارض قبل إرساء العطاء. والتعليق أنه ينشئ التزامًا. قال: " قد يزعم بعض الناس أنه من قبيل العربون "، كنت أتمنى أن يقول:(قد يزعم بعض العلماء أو بعض الباحثين أو بعض الدارسين) فهذا أليق مع خصوم الرأي وخصومه أكثر من واحد لا سيما وأنه لم يستطع هو تخريجه على العربون، لأنه خرج التوريد على أساس المواعدة، وخصومه خرجوه على أساس المعاقدة. ثم إن في عرضه لعله لم يتعرض لغرامات التأخير وهذه المشكلة من أهم المشكلات المطروحة في هذه الندوة.

ورقة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، هناك بعض التعليقات وردت في ورقته لأنني رجعت إلى بحثه هذا الذي كان قدمه سابقًا إلى ندوة المستجدات الفقهية في عمان عام (1414 هـ) . تأجيل البدلين في عقد التوريد منعه بعض العلماء وجعلوه من الكالئ بالكالئ، ولا ينفع الباحث تجاهل آراء هؤلاء العلماء بل يجب مناقشتها. قال أيضًا:" إن عقد التوريد ليس من قبيل بيع الدين بالدين وإنما هو في حدود الاتفاق والوعد لا يتجاوزهما العقد، ومقتضى هذا العقد – أي عقد التوريد – تأجيل دفع الثمن حتى يتم تسليم البضاعة إلا أن يكون المشتري متطوعاً بتقديمه اختياراً ". هنالك جملتان لم أفهمها، الأولى (إنما هو في حدود الاتفاق والوعد لا يتجاوزهما العقد) ، هل يريد الباحث أن يتم عقد التوريد على أساس التوعد أولًا، أم ماذا؟ والجملة الثانية (إلا أن يكون المشتري متطوعًا بتقديمه اختيارًا) . ولا أدري كيف يتطوع المشتري للبائع إلا أن يكون سفيهًا غير رشيد؟ !

قال في الخاتمة: " لم يقيد المالكية جواز البيع الغائب على الصفة بنوع معين من السلع " في حين يخص الحنابلة الجواز بالمبيعات التي يصلح السلم فيها. تعليقي: ما أهمية هذا في موضوع التوريد؟ فالتوريد ليس من باب بيع معين للغائب على الصفة، بل هو أشبه بالسلم من حيث ضرورة أن تكون السلع مثلية قابلة للوصف بالذمة دينًا.

ص: 851

وقال في الخاتمة: " عقد البيع على الصفة هو عقد توريد في مدلوله ومضمونه ". هذا غير مسلم، لأن عقد التوريد يشبه البيع على الصفة من حيث تأجيل الثمن ويشبه بيع السلم من حيث إن المبيع يجب أن يكون مثليًا، ولكن إذا اعتبرنا بيع أهل المدينة عند المالكية ضربًا من بيع الصفة فإن بيع التوريد ينطبق عليها.

وقال كذلك: " وجود السلعة في البيع الغائب على الصفة شرط في صحة العقد لدى المذهب المالكي والمذاهب الموافقة له ". تعليقي أن وجود السلعة مطلوب في بيع العين الغائبة على الصفة ولكنه غير مطلوب في السلم.

ما نقله عن ابن القيم أرى أنه الأنسب للسلم منه لبيع العين الغائبة على الصفة.

قال أيضًا: " عقد التوريد هو البديل السليم المناسب للبنوك الإسلامية عن بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي طال فيه الخلاف بين الفقهاء المعاصرين بسبب الوعد ". أوافقه على هذا، وهذا ما كانت اقترحته على مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي منذ عام (1404 هـ) وتعرضت فيه لبيع الغائب على الصفة، وأرسل هذا الاقتراح إلى حوالي خمسين عالمًا وجاءت ردود من اثنى عشر عالمًا منهم، ونشر الاقتراح في النشرة الاقتصادية لبنك فيصل الإسلامي السوداني لشهر ربيع الأول (1407هـ) مع رد الدكتور الضرير، ووقتها قلت في الاقتراح " وهذا البيع لا يشمله النهي عن بيع ما ليس عنده، لأنه بيع صفة مضمونة في الذمة قابلة للتسليم ولازمة للمشتري إذا جاءت مطابقة ولا خلاف على هذا بين عامة الفقهاء ". وكان رد الدكتور الضرير وقتها: " هذه دعوى لو استطاع الباحث إثابتها فإنها تغنينا حقًا عن بيع المرابحة، ولكن الذي أعلمه أنه لا خلاف بين عامة الفقهاء في أن بيع الصفة المضمونة في الذمة يشمله النهي عن بيع ما ليس عند البائع ما لم يكن سلمًا " انتهى قول الأستاذ الضرير.

ص: 852

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

الرئيس:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لا شك أن تكييف العقود أصل مهم في معرفة التوصل إلى الحكم الشرعي السليم، ولكن ليس شرطًا في كل نازلة أو معاملة مستجدة أن تكيف. ولهذا فإن الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتاب (الفروسية) في بعض صور الرهان ذكر تكييفات الفقهاء المتعددة ثم قال:" وقد أجهدوا أنفسهم فأخطؤوا الحكم الشرعي "، والصحيح أن هذا عقد مستجد يطلب له الحكم الشرعي. وقد عمل المجمع في هذا في عقد الصيانة في دورته الحادية عشر، وعلى كل فقد ترون مناسبًا أن تشكل اللجنة أو تؤلف اللجنة من وجهات النظر التي سمعتم المداولة بشأنها وهم: الشيخ تقي العثماني، الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان، الشيخ الصديق الضرير، الشيخ سعود، بالإضافة إلى المقرر. وبهذا ترفع الجلسة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 853

القرار

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.

قرار رقم: 107 (1 / 12)

بشأن موضوع

عقود التوريد والمناقصات

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م.)

بعد إطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (عقود التوريد والمناقصات) . وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.

قرر ما يلي:

1-

عقد التوريد:

أولًا: عقد التوريد: عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعًا معلومة، مؤجلة، بصفة دورية، خلال فترة معينة، لطرف آخر، مقابل مبلغ معين مؤجل كله أو بعضه.

ثانيًّا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة، فالعقد استصناع تنطبق عليه أحكامه، وقد صدر بشأن الاستصناع قرار المجمع رقم: 65 (3 / 7) .

ثالثًا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعة، وهي موصوفة في الذمة يلتزم بتسليمها عند الأجل، فهذا يتم بإحدى طريقتين:

أ- أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فهذا عقد يأخذ حكم السلم فيجوز بشروطه المعتبرة شرعًا المبينة في قرار المجمع رقم 85 (2 / 9) .

ب- إن لم يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فإن هذا لا يجوز لأنه مبني على المواعدة الملزمة بين الطرفين ، قد صدر قرار المجمع رقم (40 – 41) المتضمن أن المواعدة الملزمة تشبه العقد نفسه فيكون البيع هنا من بيع الكالئ بالكالئ. أما إذا كانت المواعدة غير ملزمة لأحد الطرفين أو لكليهما فتكون جائزة على أن يتم البيع بعقد جديد أو بالتسليم.

2-

عقد المناقصات:

أولًا: المناقصة: طلب الوصول إلى أرخص عطاء، لشراء سلعة أو خدمة، تقوم فيها الجهة الطالبة لها دعوة الراغبين إلى تقديم عطاءاتهم وفق شروط ومواصفات محددة.

ثانيًّا: المناقصة جائزة شرعًا، وهي كالمزايدة، فتطبق عليها أحكامها، سواء أكانت مناقصة عامة، أم محددة، داخلية، أم خارجية، علنية، أم سرية. وقد صدر بشأن المزايدة قرار المجمع رقم 73 (8 / 4) في دورته الثامنة.

ثالثًا: يجوز قصر الاشتراك في المناقصة على المصنفين رسميًّا، أو المرخص لهم حكوميًّا، ويجب أن يكون هذا التصنيف، أو الترخيص قائمًا على أسس موضوعية عادلة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 854