الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دور القرائن والأمارات في الإثبات
إعداد
الدكتور عوض عبد الله أبو بكر
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون
جامعة الخرطوم
الفصل الأول
التعريف بالقرينة وما تفيده من علم
وهو يتضمن:
• المبحث الأول: التعريف بالقرينة.
• المبحث الثاني: العلم المتحصل من القرائن.
المبحث الأول
التعريف بالقرينة
معنى القرينة لغة:
القرينة جمعها قرائن، قارن الشيء يقارنه وقرانا، اقترن به وصاحبه، وقارنته قرانا، صاحبته، وقرينة الرجل امرأته، وسميت الزوجة قرينة، لمقارنة الرجل إياها، والقران المصاحبة كالمقارنة، وقرينة الكلام ما يصاحبه، ويدل على المراد به، والقرين المصاحب، والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، في الحديث ((ما من أحد إلا وكل به قرينه)) (1) ، أي مصاحبه من الملائكة والشياطين (2) .
(1) الحديث: ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بكل خير رواه مسلم في الصحيح: انظر صحيح مسلم مع شرح النووي: 17/156.
(2)
لسان العرب (حرف النون فصل القاف) ؛ تاج العروس (فصل القاف في باب النون) الصحاح مادة (قرن) .
معنى القرينة اصطلاحا:
الباحث في القرينة في كتب الفقه الإسلامي القديمة لا يجد لها نظرية واضحة تتجلى فيها تعريفاتها، وضوابطها، كما تتوافر ذلك لبعض أدلة الإثبات الأخرى، كالإقرار والبينة، وإنما جاء الكلام فيها مبعثرا ومتفرقا على أبواب الفقه المختلفة، وربما يرجع ذلك إلى أن القرينة لم تحظ باتفاق الفقهاء على صلاحيتها كدليل للإثبات.
ولهذا فإنني لم أعثر فيما اطلعت عليه من هذه الكتب على تعريف للقرينة إلا ما ورد في كتاب التعريفات للجرجاني حيث يقول: القرينة أمر يشير إلى المطلوب (1)، وما نقله العلامة ابن نجيم المصري الحنفي عن ابن الغرس من قوله:(من جملة طرق القضاء القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به)(2)، ثم جاء في مجلة الأحكام العدلية من أن:(القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حد اليقين)(3) .
وبالنظر إلى هذه التعريفات نجد أن التعريفين الأخيرين قد اقتصرا على القرينة القاطعة وذلك بذكرهما لقيد- بحيث تصيره في حيز المقطوع به- في أولهما، ولقيد- القاطعة- في ثانيهما، بينما خلا تعريف الجرجاني من هذا القيد- ولعل ذلك مرده إلى أن التعريفين الأخيرين يتحدثان عن القرينة كدليل للإثبات، والقرينة التي تصلح دليلا للإثبات هي القرينة القاطعة، أي الواضحة الدلالة على ما يراد إثباته.
(1) التعريفات للجرجاني، ص:152.
(2)
البحر الرائق شرح كنز الحقائق: 7/205؛ مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/128.
(3)
مجلة الأحكام العدلية، المادة:1741.
ثم إن هذه التعريفات وإن اختلفت كلماتها، إلا أنها تتفق على أن القرينة أمر أو أمارة أي علامة تدل على أمر آخر وهو المراد، بمعنى أن هناك واقعة مجهولة يراد معرفتها فتقوم هذه العلامة أو مجموعة العلامات بالدلالة عليها، وهو لا يختلف عن المعنى اللغوي لأن هذه العلامات تصاحب الأمر المجهول فتدل عليه، أي تدل عليه لمصاحبتها له.
مثال ذلك: أن يرى شخص يحمل سكينا ملطخة بالدماء وهو خارج من دار مهجورة خائفا، يرتجف، فيدخل شخص أو أشخاص تلك الدار على الفور فيجدون آخر مذبوحا لفوره مضرجا بدمائه وليس في الدار غيره- فالمراد معرفته، هو شخصية القاتل، والعلامات التي تدل عليه هي خروج ذلك الرجل وبتلك الهيئة التي تحمل على الاعتقاد أنه القاتل وذلك عند عدم اعترافه أو قيام البينة على القاتل، فالاعتراف والبينة دليلان يتناولان الواقعة المجهولة مباشرة، أما العلامات فإنها تدل عليها دلالة، أي يؤخذ منها بالدلالة والاستنتاج حكم الواقعة المجهولة.
ومن الواضح في هذا المثال أيضا، أن الاستدلال على شخصية القاتل استنتاجا من هذه العلامات المذكورة أمرمنطقي ومعقول، فالارتباط وثيق بين خطوات الاستنتاج، والنتيجة المستنتجة، ولا عتب على القاضي إذن إذا بنى حكمه بناء على هذه الوقائع مطمئنا على سلامة استنتاجه..أما إذا لم يكن الاستدلال قائما على علامات واضحة، أو أسباب مقنعة، بحيث يظهر بوضوح الارتباط بين خطوات الاستنتاج والنتيجة، فمن العسير التسليم للقاضي بسلامة الحكم..ولهذا فقد منع الفقهاء القاضي من بناء حكمه على القرائن الضعيفة التي تتسع فيها دائرة الاحتمال والشك، كما منعوه من بناء حكمه على الفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج (1)
(1) الفراسة بالكسر من التفرس وهو التوسم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) وترددت تعريفاتها عند الفقهاء بين استدلال بالعلامات الخفية التي لا يدركها إلا الأذكياء الحذق، وبين استدلال بالإلهام وما يقذفه الله من نور لأولي البصائر والأولياء يدركون به الأشياء- والفراسة لا تصلح دليلا في الأحكام القضائية عند جمهور الفقهاء خلافا لابن قيم الجوزية- انظر بالتفصيل مقالنا بمجلة الجامعة الإسلامية العدد (62) السنة (1404هـ) بعنوان: الإثبات في الفقه الإسلامي.
المبحث الثاني
العلم المتحصل من القرائن
ظهر من التعريف المتقدم أن الفقهاء أطلقوا لفظ- القاطعة- علي القرينة التي دلت على ما يراد الحكم فيه دلالة واضحة، بيد أن الأصوليين قد أطلقوا العلم القطعي بمعنين.
الأول:
هو العلم الذي يحصل من غير تأمل ونظر أو استدلال، أو الذي يحصل من غير واسطة تفضي إليه.. ويسمى عندهم بالعلم الضروري ومثال ذلك: الأوليات، كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، أو لا يجتمع الضدان، وكذا ما يخبر به متواتر، كعلمنا بوجود مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وعلمنا بالخلفاء الأربعة والأئمة الأربعة- ووسائل العلم الضروري: العقل، والخبر المتواتر والحواس الخمس.
الثاني:
ما يعرف بالنظر والتأمل والاستدلال، ويسمى عندهم بالعلم النظري.. ويقول الغزالي في المستصفى:(النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال فيعلمه بعض الناس دون بعض ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر ولا يعلمه من ترك النظر قصدا، وكل علم نظري، فالعالم به قد يجد نفسه فيه شاكا ثم طالبا ونحن لا نجد أنفسنا شاكين في وجود مكة المكرمة ووجود الشافعي رحمه الله طالبين لذلك)(1) .
ويقول ابن برهان البغدادي: (إن العلم النظري هو الذي يكون بينه وبين النظر ارتباط معقول..كقول القائل: العالم لم يسبق الحوادث فهو حادث، فالعالم إذا حادث.. فبين قولنا: العالم حادث، وبين المقدمتين المذكورتين ارتباطا معقول ومناسبة ظاهرة..والعلم الحاصل بأخبار التواتر ليس بينه وبين الأخبار ارتباط)(2) .
(1) المستصفى للغزالي: 1/132- 133.
(2)
الوصول إلى علم الأصول لابن برهان: 2/142؛ انظر كذلك الإبهاج شرح المنهاج للسبكي وولده: 2/286؛ وإرشاد الفحول للشوكاني، ص45- 46.
ولا شك أن القرينة القاطعة كما يطلق عليها الفقهاء – من قبيل ما يفيد العلم الثاني، بمعنى أن القرينة القاطعة تفيد علم طمأنينة الذي هو أقل درجة من الضروري أو اليقيني، وفوق الظن فهي التي تؤدي إلى اطمئنان القلب بحيث يغلب على الظن دلالتها على المراد المجهول، فيطرح احتمال عدم دلالتها، وغالب الظن ملحق باليقين وتبنى عليه الأحكام الشرعية وتسميتها بالقطع نتج من تطابق آحادها واجتماعها على معنى واحد وهو المراد، مما أدى إلى القطع بصدق دلالتها، غير أننا إذا أفردنا النظر إلى مفرداتها كل على حده ما حصل لنا العلم بصدقها، ولكن عند الاجتماع يحصل العلم بالمجموع.
ولعل من أظهر الأقوال على هذا المعنى قول ابن قدامة الحنبلي في كتابه روضة الناظر: (ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة القرائن وكيفية دلالتها فنقول: لا شك إننا نعرف أمورا ليست محسوسة، إذ نعرف من غيرنا حبه لإنسان، وبغضه إياه وخوفه منه، وخجله..وهذه أحوال في النفس لا يتعلق بها الحس، قد يدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال، لكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاني والثالث يؤكده، ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال إلى أن يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر محتمل منفردا، ويحصل القطع بالاجتماع، فإنا نعرف محبة الشخص لصاحبه بفعل المحبين من خدمته وبذل ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس، وكل واحد منها إذا انفرد يحتمل أن يكون لغرض يضمره لا لمحبته، لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يجعل العلم القطعي بحبه)(1) .
(1) روضة الناظر لابن قدامة، ص49- 50.
ومن هنا يتضح أنه كلما تكاثرت القرائن، وتضافرت على أمر معين يقوي بعضها بعضا.. مما يؤدي إلى اتضاح المجهول وانكشافه فتكون خير معين للقاضي في تأسيس حكمه.. وبالطبع كلما قلت القرائن وضعفت صارت دلالتها غير مقنعة ويشوبها الاحتمال والشك: ولا يجوز للقاضي أن يؤسس حكمه على الشك الذي يستوي فيه الطرفان بحيث لا يميل القلب إلى جانب أو طرف، وهنا يكون حكمه مشوبا ومعيبا.
غير أن بناء الأحكام على مجرد القرائن في الأحكام الجنائية في الفقه الإسلامي يحتاج إلى تأن وتفصيل- فالدعاوى الجنائية في الفقه الأسلامي تنقسم إلى طوائف ثلاثة: دعاوى حدية، ودعاوى قصاص، ودعاوى تعزيرية، وتأثير القرائن في كل طائفة من هذه الطوائف مختلف، وهذا ما ستكشفه الصفحات التالية إن شاء الله تعالى.
الفصل الثاني
أثر القرينة في دعاوى الحدود
وهو يتضمن:
• المبحث الأول: أثر القرينة في الحدود عند الفقهاء.
• المبحث الثاني: رأينا في الموضوع.
المبحث الأول
أثر القرينة في الحدود عند الفقهاء
الحد لغة:
أصل الحد في اللغة: المنع والفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر والجمع حدود، وحد الشيء من غيره وحدده: ميزه، وحد كل شيء: منتهاه لأنه يمنعه عن التمادي والمعاودة وأحدت المرأة إذا امتنعت عن الزينة
…
وأمر حدد: أي منيع حرام لا يحل ارتكابه (1) .
الحد اصطلاحا:
الحد يعني عند فقهاء الشريعة الإسلامية: العقوبة التي تكون خالص حق الله تعالى، أو يكون حق الله تعالى فيها غالبا، فيعرفون الحد في الاصطلاح بأنه (العقوبة المقدرة حقا لله تعالى) فلا يسمى القصاص حدا لأن حق العبد فيه غالب، ولا يقال عن التعزير إنه حد لأن العقوبة فيه غير مقدرة بنص شرعي (2) .
وقد حصر الفقهاء جرائم الحدود في السرقة وعقوبتها على من تثبت عليه بقطع اليد، والحرابة وعقوبتها القطع من خلاف، والزنا وعقوبته الجلد مائة على غير المحصن والرجم للمحصن، والقذف وعقوبته الجلد ثمانين، وشرب الخمر وعقوبته ثمانون أو أربعون عند البعض، والردة عن الإسلام وعقوبتها القتل.
(1) لسان العرب (فصل الحاء حرف الدال) .
(2)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 3/163؛ فتح القدير والهداية: 4/112؛ التعزير للدكتور عبد العزيز عامر، ص5، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، محمد أبو زهرة.
وقد أولى الشارع الحكيم هذه الحدود عناية لما تنطوي عليه جرائمها من الآثار الاجتماعية الخطيرة، حيث إن تفشيها في المجتمع يعني انحلاله واضطراب كيانه، وأن في اقترافها تفويتا للمصالح الضرورية الخمس التي قصد الشارع المحافظة عليها.
يقول الغزالي: (إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة
…
وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب، إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسب والأنساب، وإيجاب زجر النصاب والسراق، إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معايش وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق) (1) .
ولما كانت للحدود هذه الأهمية في حفظ المصالح الضرورية للمجتمع، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال- نص المشرع الحكيم على عقوبتها، وجعلها في أغلب الأحوال عقوبة صارمة مشددة قد تصل إلى القتل أو إلى قطع عضو معين من الجسم، حتى تكون العقوبة سبيلا لردع من تسول له نفسه هتك الأعراض أو تقويض دعائم الفضيلة أو تفويت شيء من مقاصد الله ومصالح الخلق.
(1) المستصفى للغزالي: 1/287؛ وانظر أيضا الموافقات للشاطبي: 2/504.
وفي مقابلة هذه العقوبة الصارمة المشددة أحاط المشرع الكريم إثبات جرائم الحدود بشيء من التدقيق والحذر، وزاد في أمر التثبيت والنظر دون ما هو معهود في غيرها من الجرائم أو الدعاوى، بل إنه في بعضها زاد من عدد الشهود حتى يلائم التشدد في الإثبات شدة العقوبة المقدرة على مقترنها.
فمع هذه الشدة في العقوبة وهذا الحذر في الإثبات هل تفيد القرائن في إثبات الحدود، وهل جعلها الشرع طريقا لإثباتها؟
لم يأخذ بالاعتداد بالقرائن في إثبات الحدود إلا مالك وأصحابه وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ورواية عن الإمام أحمد، وهو أيضا المستفاد من قول ابن الغرس- من فقهاء الحنفية- حيث قال:(القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به) فلم يفصل بين الحد وغيره مما يدل على أنه أراد التعميم.
أما جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية فيقولون إن الحدود لا تثبت بالقرائن، ولا تثبت إلا بما حده الشرع من طرق وليست القرائن من بين هذه الطرق.
بيد أن القائلين بجواز إثبات الحدود بالقرائن لم يتركوا الاقتناع بقوة القرائن لفهم القاضي واستنباطه، إنما نصوا على قرائن معينة ذكروها على سبيل الحصر، وقالوا بجواز إثبات الحد بهذه القرائن، أما غير هذه القرائن فلا يثبت بها الحد، والقرائن التي نصوا عليها هي: قرينة الحمل في الزنا، والتعريض مع دلالة الحال في القذف، والرائحة والسكر والقئ في الخمر، ووجود المسروق مع السارق في جريمة السرقة.
أولا- قرينة الحمل في حد الزنا:
الأصل أن حد الزنا يثبت على مقترفه بالاعتراف أو بشهادة أربعة رجال عدول يرون الفعل رؤية محققة، أما القرينة، فقد قال مالك:(الأمر عندنا في المرأة توجد حاملا ولا زوج لها فتقول قد استكرهت، أو تقول تزوجت، إن ذلك لا يقبل منها، وإنما يقام عليها الحد، إلا أن يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة أو على أنها استكرهت، أو جاءت تدمي إن كانت بكرا، أو استغاثت حتى أتيت وهي على ذلك الحال، أو ما أشبه هذا من الأمر الذي تبلغ بها فضيحة نفسها، فإن لم تأت بشيء من هذا أقيم عليها الحد، ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك)(1) .
ويثبت الحد في قول خليل: (بحمل في غير متزوجة وذات سيد غير مقر به، لم يقبل دعواها الغصب بلا قرينة)(2) .
ويقول المواق في شرح قول خليل المتقدم: (في الموازية لا يجب رجم ولا جلد إلا بأحد ثلاثة أوجه: إما بإقرار لا رجوع بعده إلى قيام الحد، أو يظهر بحرة غير طارئة حمل ولا يعرف لها نكاح، أو بأمة لا يعرف لها زوج وسيدها منكر لوطئها، وبشهادة كما أخبر الله سبحانه وتعالى، ولم يقبل دعواها الغصب بلا قرينة، اللخمي، فإن ظهر بامرأة حمل وادعت أنه من غصب وتقدم لها ذكر ذلك، أو أتت متعلقة برجل أو كان سماعا واستشكت ولم تأت متعلقة به لم تحد إن ادعته على ما يشبه، وإن ادعت على رجل صالح حدت، وتعزر إن لم تسم من استكرهها إن كانت معروفة بالخير)(3) .
(1) الموطأ مع شرح الزرقاني: 4/15.
(2)
مختصر خليل بهامش الحطاب: 6/294.
(3)
المواق بهامش الحطاب: 6/294.
يستفاد من هذه النقول من فقهاء المالكية أنهم يثبتون الحد بظهور الحمل عند المرأة التي لا زوج لها، أو الأمة التي لا زوج لها، وكان سيدها منكرا لوطئها، ولا يصرف عنها الحد إلا إذا أتت ببينة على نكاحها، أو بينة على إكراهها، أو قامت القرائن على الإكراه، ومن القرائن التي تدل على أنها فعلا مكرهة أن تأتي متعلقة به بشرط أن يكون ذلك الرجل ممن يتهم بمثل ذلك، فإن كان معروفا بالصلاح لا يسمع قولها وتحد.
وثبوت حد الزنا بالحبل قال به شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول في تأييده: (وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بأصول الشريعة وهو مذهب أهل المدينة، فإن الاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها، كاحتمال كذبها وكذب الشهود)(1) .
وسار على ذلك ابن القيم: (وهذا هو الصواب، فإن دليل القيء والرائحة والحبل على الشرب والزنا أولى من البينة قطعا، فكيف يظن بالشريعة إلغاء أقوى الدليلين)(2) .
والفقهاء المجيزون لإثبات حد الزنا بالقرينة لم يذكروا إلا قرينة الحبل مما يدل على أنهم لم يطلقوا العمل بالقرائن، ولم يتركوا إثبات الزنا لاقتناع القاضي فلو دلت قرائن أخرى غير قرينة الحبل على الزنا لم يأخذ بها، كما إذا وجدا في لحاف واحد، وكانت حالتهما تدل على أنهما ارتكبا موجب الحد، أو إذا احتملها وغاب بها وادعت أنه وطئها وأنكر هو لا يثبت الحد ولو اقتنع القاضي بدلالة هذه القرائن على الزنا (3) .
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية، ص111
(2)
إعلام الموقعين: 4/374.
(3)
انظر تبصرة الحكام لابن فرحون: 2/134، البهجة شرح التحفة للتسولي: 2/356.
والمانعون للإثبات بالقرائن في الحدود لاينكرون أن الحمل يكون من وطء ولكن لا يرونه لإثبات الحد في المرأة التي لا بعل لها ولا سيد، لوجود الشبهة والاحتمالات التي تكشف هذه القرينة، والحد يدرأ بالشبهة، فقد تكون مكرهة على الزنا، أو ربما يكون قد وطئها في غير الفرج فدخل ماؤه في الفرج فحبلت، والإجماع أن الحد لا يكون عن وطء في الفرج المحرم أو ربما في حمام فيه امرأة واقعت زوجها فسرت إليها النطفة، أو ربما حملت بواسطة المصل المستعملة لنقل نطفة الرجل (1) .
والقرينة عند هؤلاء إن كانت لا تصلح لإثبات الحد للشبهة التي تدرأ الحد، كما إذ شهد أربعة بزناها وشهد أربع من النسوة بأنها عذراء، فإنها لا تحد لشبهة بقاء العذرة الظاهرة في أنها لم تزن، ووافق في ذلك ابن حزم الظاهري بتفصيل يرجع إليه في كتابه المحلى، وخالف المالكية وقالوا يثبت الحد ولا تدرؤه هذه القرينة (2) .
(1) انظر المغني لابن قدامة: 8/211؛ المحلى لابن حزم: 11/339؛ فتح الباري: 12/130؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 3/198.
(2)
المغني: 8/208؛ المحلى: 11/319؛ الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 4/327.
ثانيا- التعريض مع قيام القرائن بإرادة القذف:
إذا رمى شخص آخر بزنا يوجب الحد، كقوله يا زاني، أو زنيت، أو ينفي نسبه كقوله: لست لأبيك، أو أنت ابن حرام، وغير ذلك في إلحاق هذا العار بالمقذوف، فقد اتفقوا على وجوب الحد، لأن لفظ القذف صريح فيما قذفه به، أما إذا لم يكن اللفظ صريحا، فهل تكفي القرائن الدالة على إرادة إلحاق هذه الصفة به؟
يقول فقهاء المالكية: إن التعريض بالقذف إذا دلت القرائن على أنه أراد به القذف كوجود خصومه بين القاذف والمقذوف، أو كان في مشاتمه أو في حال الغضب فإنه يحد به لأنه أفهم المقصود وأراد به القذف.
جاء في حاشية العدوي تعليقا على قول الخليل: (أو عرض غير أب إن أفهم) قوله: (إن أفهم أي أفهم القذف بتعريضه بالقرائن كخصام ولو زوجا لزوجته، ومفهوم الشرط عدم حده إن لم يفهم التعريض قذفا)(1) .
ويقول الخرشي: (أعلم أن التعريض المفهم لأحد الثلاثة المتقدمة وهي الزنا واللواط ونفي النسب عن الأب أو الجد كالتصريح بذلك، فإذا قال: ما أنا بزان فكأنه قال: يا زاني، أو قال: أما أنا فلست بلائط فكأنه قال: يا لائط أو قال: أما أنا فأبي معروف فكأنه قال له: أبوك ليس بمعروف، على قائل ذلك كله وجوب الحد)(2) .
(1) حاشية العدوي بهامش الخرشي: 8/78.
(2)
الخرشي: 8/78.
ولا حد في التعريض بالقذف عند الحنفية والشافعية والظاهرية وإحدى الروايتين عند أحمد، أما رواية الأثرم عن أحمد ففيه الحد (1) .
وتتلخص أدلة المانعين لإثبات الحد بالتعريض في أن الله تعالى قد فرق بين التعريض والتصريح بالخطبة فأباح التعريض ومنع التصريح في قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] ، فدل على أنهما لا يستويان فلا يعطى أحدهما حكم الآخر (2) .. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الحد على من عرض بنفي ولده، كما رواه البخاري من رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن له ولدا أسود، فكان رده صلى الله عليه وسلم: لعل ابنك هذا نزعه عرق (3) .
وعمدة أدلة المثبتين للحد بالتعريض هو أن الكناية والتعريض مع وجود القرينة الصارفة للمعنى إلى أحد محتملاته كالتصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية، وهنا وجب الحد لوجود القرينة الدالة على إرادة القذف.
ثم إن سلفنا الطيب كانوا يوقعون الحد على من عرض بالقذف، فقد أثر ذلك عن عمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم (4) .
(1) المبسوط للسرخسي: 9/120؛ المهذب للشيرازي: 2/293؛ المحلى: 11/340؛ المغني: 8/223.
(2)
المغني: 8/223؛ المحلى: 11/337.
(3)
السنن الكبرى للبهقي: 8/252؛ المغني: 8/223.
(4)
إعلام الموقعين: 3/114
ولعل من الأقوال الحكيمة التي تدل على بعد الأفق وسعة النظر وقوة الحجة في هذا الموضوع ما ذكره ابن القيم رحمه الله مؤيدا إثبات الحد بالتعريض إذا دلت القرائن على ذلك: (وأما الذي قال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحا ولا كناية، وإنما أخبره بالواقع مستفتيا عن حكم هذا الولد أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقرب له الحكم بالمشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح الصدر له، ولا يقبله على إغماض، فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقول من يشاتم غيره، أما أنا فلست بزان وليست أمي بزانية ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وأنكى من التصريح وأبلغ في الأذى، وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، فهذا لون وذلك لون، وقد حد عمر بالتعريض في القذف ووافقه الصحابة أجمعون.. وروى ابن جريج أن عثمان كان يحد في التعريض وذكره ابن أبي شيبة وكان عمر بن عبد العزيز يحد في التعريض وهو قول أهل المدينة والأوزاعي وهو محض القياس، كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكناية واللفظ إنما وضع لدلالته على المعنى فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن لتعبير اللفظ كثير فائدة)(1) .
(1) إعلام الموقعين:3/114.
ثالثا- قرينة الرائحة والسكر والقيء في حد الخمر:
يسير فقهاء المالكية على منهجهم في إثبات الحد بالقرائن، فيقولون: إن من انبعث من فمه رائحة الخمر وجب عليه الحد، ذلك لأن الرائحة قرينة على شربها، بل ويقولون إن الرائحة أقوى في دلالتها على شرب المسكر من الشهادة بالرؤية، إذ أن الرؤية لا يعلم بها حال المشروب أمسكر هو أم غير مسكر، أما الرائحة فتوضح ذلك وتحدده.
ويقول فقهاء المالكية أيضا: إن الحاكم إذا رأى من شخص تخليطا في المشي أو ترنحا كما يفعل السكران فلا بد له من التحقق من حاله فإن وجد ذلك من شرب أقام عليه الحد،، لأن الحاكم برؤيته لهذا الفعل قد بلغه الحد فلا بد له من التأكد منه وإقامته (1) .
وإلى إثبات الحد بقرينة الرائحة أو بقرينة القيء أو السكر يذهب الإمام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم وقالا: إنه من المأثور عن الخلفاء الراشدين وهو الذي اصطلح عليه الناس (2) .
أما جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة فلا يرون ثبوت حد الخمر بمجرد الرائحة، أو بتقايؤها، فقد يكون مكرها، أو جاهلا أنها خمر فقد يظن أنها ماء أو ربما تمضمض بها فقط، فمع قيام هذه الاحتمالات لا يثبت الحد (3) .
(1) المواق بهامش الحطاب، وكذا شرح الحطاب:6/317؛ المنتقى شرح المؤطأ: 3/142.
(2)
السياسة الشرعية، ص116؛ الطرق الحكمية، ص70.
(3)
الهداية مع فتح القدير، والعناية على الهداية:40/179-180؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين:3/226؛ المنهاج ومغني المحتاج:4/190؛ كشاف القناع: 6/116.
قرينة وجود المسروق مع السارق:
وحد السرقة يثبت بالإقرار والبينة التي هي شهادة رجلين، أما ثبوته بالقرائن فمختلف فيه.. ومن القائلين بثبوته بالقرائن الإمام ابن قيم الجوزيه الذي يرى أن وجود المسروق عند المتهم وضبطه في حيازته أبلغ دليل على ارتكابه الجريمة وأصدق من دلالة الإقرار والشهادة لأن الإقرار والشهادة خبران يتطرق إليهما الكذب، أما وجود المال المسروق معه لا يتطرق إليه أي شبهة.
يقول ابن القيم: (ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه قرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نص صريح لا تتطرق إليه شبهة)(1) .
وروي عن الإمام أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات:
الأولى: إذا وجد المسروق مع المتهم وقال أنه ملكي إذ كان وديعة عنده أو رهنا أو هبة لي أو غصبه مني أو من أبي أو بعضه لي، فالقول مع المسروق منه مع يمينه لأن اليد ثبتت له، فإن حلف سقطت دعوى السارق ولا قطع عليه لأنه يحتمل ما قال ولهذا أحلف المسروق منه.
الثانية: أنه يقطع لأن سقوط القطع بدعواه يؤدي أن لا يجب قطع سارق فتفوت مصلحة الزجر.
الثالثة: أنه إن كان معروفا بالسرقة قطع لأنه يعلم كذبه وإلا سقط عنه القطع. ويرجح ابن قدامة الرواية الأولى ويقول: إنها الأولى لوجود الشبهة (2) .
ولا يرى ابن حزم الظاهري القطع لمجرد وجود المسروق معه ويرى أن الحكم بذلك حكم بالظن (3) كما أنه إذا ادعى ملكية المسروق وإن ثبت خلاف دعواه لا يقطع عند الشافعية والحنفية وتسمى شبهة الملك ويسميه الشافعي السارق الظريف (4) .
(1) الطرق الحكمية، ص8.
(2)
المغني: 8/286؛ والقواعد لابن رجب القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة، ص350.
(3)
المحلى: 11/411.
(4)
المبسوط: 9/149؛ تحفة المحتاج: 9/129؛ تحفة الطلاب وحاشية الشرقاوي: 2/434.
نكتفي بهذا القدر من استعراض مذاهب الفقهاء من الأخذ بالقرائن في الحدود..وقد رأينا أن جمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية يرون أنه لا مجال لأعمال القرائن في إثبات الحدود وإن كانت تصلح لدرء الحد الثابت كما في قرينة وجود البكارة في المرأة بعد ثبوت الزنا عليها
…
أما فقهاء المالكية وابن تيمية وابن القيم..وابن الغرس ورواية عن أحمد فقالوا: إنه يجوز إثبات الحدود ببعض القرائن التي ذكروها على سبيل الحصر وهي قرينة الحبل في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وقرينة الرائحة والسكر والقيء في الخمر، والتعريض إذا دلت الحالة الظرفية على إرادة القذف ووجود المال المسروق مع السارق عند بعضهم.
ولكل من هذين الفريقين أدلة تؤيد مذهبه وتسند موقفه، ونعرض هنا أدلة كل فريق، ثم نناقش هذه الأدلة لعلنا نستطيع الوقوف إلى جانب أحدهما على أساس استقامة الدليل معه أو موافقته للمصلحة.
أدلة المجوزين:
أولا: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) متفق عليه (1) .
فظهور الحبل في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد قرينة على ارتكاب الزنا إذ أن الحمل لا يأتي إلا عن جماع.
ثانيا: روى مالك في الموطأ أنه قال: بلغني أن عثمان رضي الله عنه أتي بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر برجمها فقال له علي رضي الله عنه: ما عليها الرجم لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وقال أيضا:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ، فالحمل مدته ستة أشهر (2) .
وهذا يدل على أنه كان يريد رجمها بقرينة الحمل.
ثالثا: روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: زنا العلانية أن يظهر الحمل، أو الاعتراف فيكون الإمام أول من يرمي (3) .
(1) صحيح مسلم مع شرح النووي: 10/ 192؛ وبلوغ المرام لابن حجر مع سبل السلام: 4/8.
(2)
جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد: 1/751 ومؤلفه محمد بن محمد بن سليمان المتوفى في سنة (1094هـ) .
(3)
المغني لابن قدامة: 8/211.
رابعا: ما أخرجه مالك عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته فجلده عمر الحد تاما (1) .
فأقام عمر الحد برائحة الخمر، والرائحة ما هي إلا قرينة على شربها.
خامسا: روي عن علقمة أنه قال: كنت بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا نزلت، فقال عبد الله: والله قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنت)) ، فبينما هو يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر، فقال:((أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟)) فضربه الحد (2) .
سادسا: ما أخرجه مسلم عن حصين بن المنذر الرقاشي أن عثمان رضي الله عنه أمر عليا بحد رجل شهد أحد الشاهدين أنه رآه يشربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها (3) .
سابعا: ما أخرجه أبو داود من أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم المتهم بالزنا حين أدرك عند المرأة واعترف أنه كان مغيثا لها، وقالت المرأة: بل هو الذي زنا بها، حتى قام رجل آخر واعترف بأنه الزاني، أما الذي وجد عندها فقد كان مغيثا لها (4) .
قال ابن القيم: وهذا لوث وإعمال للقرينة في الحدود (5) .
ثامنا: الإجماع: قالوا إن الصحابة قد عملوا بالقرائن فيما تقدم وكانت قضاياهم تشتهر وتذاع، ولم يظهر لهم في عصرهم مخالف، فيكون إجماعا على العمل بالقرائن في الحدود (6) .
(1) الموطأ مع المنتقى:3/142.
(2)
السنن الكبرى للبيهقي:8/315، قال: أخرجاه في الصحيح من حديث الأعمش.
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي، ص216.
(4)
سنن أبي داود: 4/233.
(5)
الطرق الحكمية، ص71.
(6)
المنتقى شرح الموطأ: 3/142.
أدلة المانعين:
أولا: عن عروة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت راجما أحدا بغير قرينة رجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها)) (1) .
هذا الحديث فيه دلالة ظاهرة في عدم إقامة الحد بالقرينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد بها مع وجودها.
ثانيا: ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس أنه قال: شرب رجل الخمر فسكر فلقي يميل في الفج- أو وجد يتمايل في الطريق- فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى دار العباس انفلت ودخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء (2) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على الرجل بسكره، مع أن السكر قرينة على تناول الخمر.
ثالثا: ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من إهمالهم للعمل بالقرائن في الحدود. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة رفعت إليه ليس لها زوج، وقد حملت، فسألها عمر فقالت: أنا امرأة ثقيلة الرأس، وقع على رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد (3) .
وروى عن البراء عن صبرة عن عمر أنه أتي بامرأة فادعت أنها أكرهت فقال: خل سبيلها وكتب إلى أمراء الأجناد ألا يقتل أحد إلا بأذنه (4) .
رابعا: أن القاعدة في الحدود هي أنها تدرأ بالشبهات لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((ادرءوا الحدود)) (5)، وفي رواية أخرى عن عقبة بن عامر الجهني أنه عليه الصلاة والسلام قال:((إذا اشتبه عليه الحد فادرأ ما استطعت)) (6)، ورواية عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم قال:((ادرءوا الحدود ما استطعتم عن المسلمين فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة)) (7) ، وفي رواية أخرى يقول ((ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا)) (8) .
فالقرائن تحوطها احتمالات كثيرة وشبهات وجب درء الحد بها، وإقامة الحد بالقرائن إقامة له مع وجود الشبهة.
(1) سنن ابن ماجه: 2/855.
(2)
سنن أبي داود:4/277.
(3)
السنن الكبرى للبيهقي: 8/236.
(4)
المصدر السابق نفسه.
(5)
سنن الدارقطني: 3/84، جاء في التعليق المغني بهامش الدارقطني: الحديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقى وفي إسناده يزيد بن زياد الدمشقى وهو ضعيف.
(6)
سنن الدراقطني:3/84، وفي التعليق المغني قال: فيه عبد الله بن فروة وهو متروك.
(7)
سنن الترمذي: 2/439، وفيه أيضا يزيد بن زياد الدمشقي.
(8)
سنن ابن ماجه2/850، يقول محمد فؤاد عبد الباقي في تحقيقه لسنن ابن ماجه: وفي الزوائد: في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي ضعفه أحمد وابن معين والبخاري وغيرهم، انظر التحقيق مع سنن ابن ماجه:2/850.
مناقشة أدلة الفريقين:
بالنظر إلى أدلة الفريقين نلاحظ أن الأدلة التي أوردها المجوزون للإثبات بالقرائن في الحدود تعتمد في أكثرها على آثار من عمل الصحابة رضوان الله عليهم والحديث المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي رواه أبو داود ذكره ابن القيم في تأييد مذهبه إلا أنه أورد معه الاضطراب في متنه، والاضطراب المذكور هو ورود رجم الذي اعترف بالزنا في رواية، وفي رواية أخرى أنه لم يرجمه، ويرى ابن القيم أن هذا هو الاضطراب ربما كان هو الذي دعا الإمام مسلما أن يستبعده مع أن الحديث على شرطه (1) .
والحديث في ظاهره يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت الزنا بالقرينة حيث أنه أمر برجم الذي وجد عند المرأة فاتخذ من قرينة قول المرأة وضبط المتهم عندها واعترافه بأنه كان مغيثا لها قرينة على أنه الزاني.
إلا أن بعض شراح الحديث يضعف هذا القول ويرى أنه ربما كان هناك وهم من الراوي وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر فعلا برجم الرجل الذي اتهمته بالزنا، أو أن هذا ما أختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمر برجم ذلك الرجل بالرغم من عدم ثبوت الجريمة عليه ليكون ذلك أدعى لمقترف الجريمة بالاعتراف.
يقول ابن العربي في شرحه على سنن الترمذي (وفي هذه حكمة عظيمة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر به ليرجم قبل أن يقر بالزنا، وإن لم يثبت عليه ليكون ذلك سببا في إظهار النفسية حين خشي أن يرجم من لم يفعل وهذا من غريب استخراج الحقوق ولا يجوز ذلك لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن غيره لا يعلم من البواطن ما علم هو صلى الله عليه وسلم بإعلام الظاهر بالباطن له بذلك)(2) .
(1) الطرق الحكمية، ص70.
(2)
شرح ابن العربي على سنن الترمذي:6/237-238.
وجاء في حاشية عون المعبود بهامش سنن أبي داود: (ولا يخفى أنه – أي الحديث – بظاهره مشكل، إذ لا يستقيم الأمر بالرجم من غير إقرار ولا بينة، وقول المرأة لا يصلح بينة بل هي التي تستحق أن تحد حد القذف، فلعل المراد فلما قارب أن يأمر به وذلك قاله الراوي نظرا إلى ظاهر الأمر حيث أنهم أحضروه عند الإمام، والإمام اشتغل بالتفتيش عن حاله)(1) .
ومما يؤيد هذا التأويل تدقيق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام مع اعتراف بالزنا وتحريه عنه وإعراضه عنه حتى أقر أربع مرات (2) ، فلا يستقيم ذلك مع إقامة الحد على المنكر في هذه الواقعة.
إلا أن من اعتمد على هذا الحديث ربما يقول إن تحري الرسول صلى الله عليه وسلم وتدقيقه ليتأكد من أنه ارتكب موجب الحد، ولذلك كان يسأله لعلك قبلت أو ضاجعت، مما يدل على أنه أراد التأكد (3) .
هذا فيما يتعلق بالحديث النبوي، أما آثار الصحابة رضوان الله عليهم التي ذكرها المجوزون، فإن مذهب الصحابي قد اختلف الفقهاء في لزوم العمل به ولكنهم متفقون على أنه إذا صح الحديث يعمل به ويطرح قول الصاحبي إذا عارضه (4) .
(1) حاشية عون المعبود بهامش سنن أبي داود:4/233.
(2)
صحيح مسلم:1/193.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم:10/193.
(4)
انظر الرسالة للإمام الشافعي بتحقيق أحمد شاكر فقرة (1805) إلى فقرة (1811) ، ص510.
وعلى هذا يمكن القول بأن الآثار التي وردت عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم من أنهم جلدوا حد الخمر بمجرد قرينة الرائحة أو قرينة القيء قد أورد المخالفون لهم ما يعارضها، وذلك ما ورد مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يأمر بحد من وجد سكران يتمايل، والسكر أيضا قرينة على تناول الخمر بل هي أبلغ في دلالتها من القيء، إذ أن من تقيأ الخمر ربما شربها جاهلا فلما علم بها أراد أن يخرجها، والسكر لا يدل على ذلك، فكان التمسك بالحديث المرفوع أولى من مذهب الصحابي.
كما أنه قد ورد عن الصحابة ما يدل على عدم اعتدادهم بقرينة القيء في إثبات حد الخمر، فقد أورد البيهقي: أن الجارود سيد عبد القيس رفع إلى عمر رضي الله عنه أمر قدامة بن مظعون واليه على البحرين ليقيم عمر حد الخمر على قدامة فقال عمر للجارود: من شهد معك؟ قال: أبو هريرة فدعا أبا هريرة فقال: بم تشهد؟ قال: لم أراه شرب ولكني رأيته سكران يقيء فقال عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين، فقدم، فقام الجارود يطلب إقامة الحد عليه، فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ قال: بل شهيد، قال: فقد أديت الشهادة، هذا ولم يحد عمر حتى جاءت زوجة قدامة وشهدت على زوجها فأمر به (1) .
فقد أقام الحد على قدامة بشهادة الجارود وزوجة قدامة ولم يأخذ بقول أبي هريرة أنه رآه يتقيأ.
هذا وقد حاول المانعون للعمل بالقرينة في الحدود تأويل هذه الأحاديث المأثورة عن الصحابة وصرفها عن ظاهرها، فيقول النووي في تأويل ما ورد عن عثمان رضي الله عنه بحد الشارب بمجرد القيء قوله:(وقد يجيب أصحابنا عن هذا بأن عثمان رضي الله عنه علم شرب الوليد فقضى بعلمه في الحدود – قال: وهذا تأويل ضعيف)(2) .
(1) السنن الكبرى للبيهقي:8/315.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم:10/193.
ويقول البيهقي عن حديث ابن مسعود المتقدم: (ويحتمل أن عبد الله بن مسعود لم يجلده حتى ثبت عنده شرب ما يسكر ببينة أو اعتراف)(1) .
أما عن الأثر المنقول عن عمر رضي الله عنه بحد المرأة بقرينة الحمل فقد ذكرت أقوال في تأويله، وصرفه عن ظاهرة، منها قول الطحاوي:(عن مقصود عمر إذا كان الحبل من زنا وجب الرجم فيه، وهو كذلك، ولكن لابد من ثبوت كونه من زنا ولا ترجم بمجرد الحبل مع قيام الاحتمال فيه، لأن عمر لما أتى بالمرأة وقالوا إنها زنت وهي تبكي فسألها ما يبكيك؟ فأخبرت أن رجلا ركبها وهي نائمة، فدرأ عنها الحد)(2) .
قال في فتح الباري عن هذا التأويل: (ولا يخفى تكلفه، فإن عمر قابل الحبل بالاعتراف، وقسيم الشيء لا يكون قسمه، وإنما اعتمد من لا يرى الحد بمجرد الحبل قيام الاحتمال بأنه ليس من زنا محقق، وأن الحد يدفع بالشبهة)(3) ، يقصد بذلك أن عمر رضي الله عنه جعل الحبل في مقابلة الاعتراف أو البينة ولا وجه لذكر الحبل في قول عمر إذا كان الزنا قد ثبت بطريق غيره.
ويقول المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم: (ربما كان هذا سياسة من عمر لظروف اقتضت ذلك، وللإمام أن يعمل ما فيه المصلحة مهتدياً بهدي الشرع)(4) .
ولكن ليس في هذا الخبر ما يدل على أن عمر جعل ثبوت الحد عن طريق قرينة الحمل بطريق السياسة، وأن البينة والاعتراف من غير طريق السياسة، فعمر قد جعل البينة والاعتراف والحبل طرقا لإثبات الزنا وموجب الحد، ولم يبق إلا أن يقال إن هذا هو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1) السنن الكبرى للبيهقي: 8/315.
(2)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: 12/130
(3)
المصدر السابق نفسه.
(4)
طرق القضاء في الشريعة الإسلامية، ص423.
بقي من أدلة المجوزين قولهم: إن الصحابة لم ينكروا على من عمل بها من الصحابة فكان هذا إجماعا منهم.
يقول الصنعاني في سبل السلام: (واستدل الأولون بأنه قاله عمر على المنبر ولم ينكر، فينزل منزلة الإجماع، قلت: ولا يخفى أن الدليل هو الإجماع لا ما ينزل منزلته)(1) .
ويقول الشوكاني في نيل الأوطار: (والحاصل أن هذا من قول عمر، ومثل هذا لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس، وكونه قاله في مجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه لا يستلزم أن يكون أجماعا، كما بينا ذلك في غير هذا الموضوع من هذا الشرح، لأن الإنكار في مسائل الاجتهاد غير لازم للمخالف، لاسيما والقائل بذلك عمر وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة)(2) .
ومقصود قول الصنعاني والشوكاني هو أنه لابد من الإجماع فعلا، وسكوتهم على قول عمر لا يعد إجماعا، وبذلك لا تتحقق دعوى الإجماع التي قالوها.
هذا فيما يتعلق بأدلة المجوزين أما إذا نظرنا إلى أدلة المانعين للعمل بالقرينة في الحدود، فنجد أنها قد اعتمدت على جانب غير يسير من الحديث النبوي الشريف، فالحديث الذي رواه ابن ماجه مرفوعا حديث قال عنه في الزوائد:(إسناده صحيح ورجال ثقات)(3) ويعضده أيضا ما ورد في الصحيح عن ابن عباس حينما سئل في حديث اللعان أهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه؟ فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء، وفي رواية لا، تلك امرأة أعلنت (4) ، أي اشتهر وشاع عنها الفاحشة، ولكن لم يثبت ببينة أو اعتراف، قال النووي:(ففيه أنه لا يقام الحد بمجرد الشياع والقرائن، بل لابد من بينة أو اعتراف)(5) .
(1) سبل السلام:4/8.
(2)
نيل الأوطار:7/106
(3)
تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي على شرح سنن ابن ماجه:1/855.
(4)
صحيح مسلم مع شرح النووي:10/130.
(5)
شرح النووي على صحيح مسلم:10/130.
وكذلك فإن أدلته تعتمد على قاعدة درء الحدود بالشبهات المستفادة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، هذه الأحاديث وإن كان هناك مطعن في صحتها (1) ، إلا أن جماهير علماء الأمة تلقتها بالقبول، ولم يعترض على القاعدة المستفاد منها إلا ابن حزم الظاهري الذي يشكك في القول بدرء الحد بالشبهة، مستندا في ذلك إلى ضعف رواية الأحاديث من جهة، ومن جهة أخرى يقول أن درء الحدود بالشبهات معناه تعطيل الحدود وعدم إقامتها، ويرى أنه إذا ثبت الحد فلا يصح أن يدرأ بشبهة، والله تعالى يقول:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] ثم أورد أمثلة كثيرة لاختلال هذه القاعدة عند فقهاء المالكية والحنفية (2) .
والواقع أن قول الإمام ابن حزم حري بالتأمل، خاصة وأننا نرى أن فكرة الشبهة في الفقه الإسلامي – بالصورة التي هي عليها الآن- أدت إلى تمييع النصوص، حتى سرى الشك في قابلية الحدود للتطبيق في النظام الإسلامي، وذلك فإنه في اعتقادي – وقد سبقني إلى هذا القول بعض البحاثين المعاصرين (3) –، أن موضوع الشبهة الدارئة للحد تحتاج إلى كثير من الضبط بحيث تؤدي دورها في درء الحد عمن سارت الشكوك حول اقترافه للجرم، لا لتعطيل الحدود، وإيقاف تنفيذها لمجرد إقحام نظرية لا يؤيد الواقع العملي منها الكثير من نتائجها مثال ذلك: ما يقال: إن السارق من بيت المال لا يقام عليه الحد لأن للسارق حقا في بيت المال، مع أن الحكمة من حد السرقة هو إضفاء الطابع العام على الملكية الخاصة، ومن هنا يقول الكثير من الفقهاء: إنه حق لله تعالى فيكون من المناقض لقصد الشارع أن نقول للسارق حق في المال العام وهذا يكفي لدرء الحد عنه فتسقط بذلك الحماية للمال العام وتقيمها على الأموال الخاصة. انظر (تبين الحقائق وشرح كنز الدقائق) :3/221. ومثال ذلك أيضا شبهة الحرز فالرجل نائم في المسجد ويضع ثوبه تحت رأسه فإذا سرق الثوب من تحت رأسه قطع السارق لأنه سرق من حرز، وإذا تقلب الرجل وهو نائم وانفلت الثوب من تحت رأسه فسرقه السارق لا يقطع لأنه شيء غير محرز، المهذب:2/279.
ومن ذلك أيضا: شبهة العقد عند أبي حنيفة تدرأ عنه الحد إذا كان على علم بالتحريم أم لم يعلمه فهو لا شك تعطيل للحد في غير ما سبب واضح خاصة مع علمه بالتحريم، فالحق كما قال ابن قدامة الحنبلي: أن الإقدام على هذا الفعل من أعلم بمواطن التحريم يشكل في حد ذاته جريمة، فكيف يكون ارتكاب جريمة هو سبب لإباحة ارتكاب جريمة أخرى بدلا من أن يكون سببا لتشديد العقوبة.
المغني: 8/182؛ وانظر كذلك فتح القدير: 3/4؛ وتبيين الحقائق: 3/179. .
(1) راجع هامش الصفحة (27) .
(2)
المحلى:11/185 وما بعدها، حيث ذكر الإمام ابن حزم عدة مطاعن على هذه الأحاديث ومن المطاعن ما قدمت في الهامش ص376.
(3)
الدكتور أبو المعطي حافظ أبو الفتوح في كتابه النظام العقابي الإسلامي، ص251 وما بعدها.
وبذلك تستفيد الأمة في قوانينها وتشريعاتها من الثروة الفقهية التي خلفها فقهاء الإسلام، فلا تكو سببا في تعطيل النصوص وإيقاف فاعليتها.
على أن هذه القاعدة – قاعدة درء الحدود بالشبهات – تقرر أصلا هاما فحواه ما قررته قاعدة أخرى نص عليها الفقهاء وهي أن الأصل في الإنسان البراءة – أو الأصل في الذمة البراءة – والجريمة ما هي إلا أمر مخالف لهذا الأصل، وذلك فإن كل من يدعي خلاف هذا الأصل فعليه أن يقوم بإثبات ما ادعاه إثباتا واضحا جليا بعيدا عن كل ريب أو شك. فإذا قامت الشكوك وساورت الاحتمالات واكتنفت الشبهات، فينبغي الرجوع إلى الأصل المحقق وهو البراءة فهذا تقرير لما عرف أخيرا من أن الشك يفسر لصالح المتهم، ولهذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الإمام لإن يخطيء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة، فإن تنفيذ الحد مع قيام الشبهة والشك خطأ، أولى منه الرجوع إلى أصل البراءة.
المبحث الثاني
رأينا في الموضوع
بعد هذا العرض لأدلة الفريقين ومناقشتها، فالذي يظهر لي هو قوة أدلة المانعين للعمل بالقرينة في إثبات الحدود وظهورها فيما أوردت من أجله، فقد اعتمدت على أحاديث صحيحة في محل النزاع وعلى قاعدة اتفقوا عليها في الحدود، وهو ما يستفاد كذلك من منهج الشارع في الحدود، فقد وردت جرائم الحدود في الإسلام على سبيل الحصر، وتولى الشارع تقدير عقوبتها فلم يترك للإمام مجالا لتقدير هذه العقوبة ثم حدد طرق للإثبات تختلف في أكثر صورها عن إثبات الحقوق الإخرى، معنى ذلك أن الشارع قد سلك في إثبات الحدود مسلكا معينا، فالاحتمال بهذا المسلك إخلال بنظامه.
كما أن من يتبع إثبات جرائم الحدود في الفقه الإسلامي يجد عدم تشوف الشارع إلى إثباتها فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام يعرض عمن اعترف بالزنا حتى يقر عنده أربع مرات ثم بعدها يسأله بما يدل على إرادة تلقينه الرجوع عن هذا الإقرار، حتى أخذ بعض الفقهاء من ذلك ضرورة تكرار الاعتراف أربع مرات، أو تلقينه الرجوع عنه.
ولا شك أن من حكمة الشارع في ذلك أن التوسع في إثبات مثل هذه الجرائم فيه إشاعة للفاحشة الأمر الذي ربما يترك في القلوب استهانة بها وتقليلا من شأنها مما يسهل ارتكابها خاصة وأن فيها جرائم تتعلق بالأعراض التي يجب صيانتها وحفظها.
ثم أن القرينة لو كانت طريقا لإثبات الحدود فليس هناك أقوى من شهادة ثلاثة من الرجال برؤية الزنا رؤية كاملة للفعل ثم يشهد الرابع بأنه لم ير الفعل إنما رأى ما يدل عليه من أرجل مرفوعة وغير ذلك، ومع هذا لم يحد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من اتهم به بل حد الشهود حد القذف (1) ، فهذه قرينة ظاهرة لم يأخذ بها عمر، اللهم إلا أن يقال: إن طريق الشهادة في الإثبات غير طريق القرينة، فمن اتخذ طريق الشهادة، فيجب عليه أن يكمله كما ورد في الشرع، ومن اتخذ القرينة، فالإثبات بها للإقناع بدلالتها وظهورها على الحد، بغض النظر عن أن شهادة الثلاثة أكثر دلالة منها، كما ورد عن عمر القول بالرجم بالحبل.
على أننا حين نقول بقوة أدلة المانعين للعمل بالقرينة في الحدود وظهورها فيما ذهبوا إليه وهو ما يراه الشارع مراعاة لمصلحة المجتمع بعدم التوسع في إثباتها- لا نغلق الباب على مصراعيه بهذا القول أمام الرأي الآخر ونمنع إعمال القرائن مطلقا، فهذا الترجيح جاء من جهة قوة الدليل وظهور دلالته، ولا شك أن هذا أمر اجتهادي تضاربت فيه الآراء واختلفت، وقد تقدم قول الشوكاني بأن هذا أمر اجتهادي، فكل قال بما يرى صلاحه للمجتمع مستلهما في ذلك روح التشريع وقصد الشارع.
(1) السنن الكبرى للبيهقي:1/235.
وفي مجتمعاتنا الحديثة حيث شاعت الفاحشة وانتهكت الأعراض وسفكت الدماء ونهبت الأموال لا راد يرد المجرمين ولا رادع يردعهم وصارت القوانين بسهولتها وسيلة لحماية الإجرام لا للحد منه، ولا يخفى أن شدة العقوبة في الفقه الإسلامي كانت ولا تزال في البلاد التي تطبق جانبا من هذه العقوبات، لها أثرها الفعال في الحد من الجريمة والتقليل من خطر المجرمين لما تبعثه في النفوس من رهبة وخوف.
فإذا كان الأمر كذلك ورأى علماء المسلمين المختصون ضرورة تطبيق الحدود إذا ثبتت بالقرائن كقرينة الحمل في الزنا، مراعين في ذلك مصلحة المجتمع حيث أصبح من المستحيل إثبات مثل هذه الجرائم بشهادة الشهود، كما انعدم الضمير والوازع الديني الذي يجعل من الشخص مقرا بذنب ارتكبه، فأدى ذلك إلى فقد الخوف من العقوبة وزالت هيبتها، كما ارتفعت نسبة البغايا وكثر عدد الأولاد غير الشرعيين، وأصبح للسرقات شبكات وعصابات تستطيع مراوغة أقوى أجهزة لحفظ الأمن، وضرب الفساد أطنابه في جميع المرافق، مما أدى إلى اضطراب المجتمع وانقلاب نظامه.
أقول: إذا رأى علماء المسلمين ذلك فلا مانع عندي طالما قائدهم ما يحقق مصلحة المجتمع، ولكن بشرط ضبط القرينة في هذا المجال وضبط الشبهات التي ترد عليها بحيث لا يخرج من الإطار العام لمقاصد الشرع الشريف.
خصوصا وأن المتتبع لآراء المجيزين للعمل بالقرينة يرى أنهم لم يطلقوا العنان للقاضي في تكوين رأيه في الدعوى من أي دليل يعرض عليه، إنما نصوا على قرائن معينة ظاهرة الدلالة على أن المتهم قد ارتكب موجب الحد ما لم يستطع ذلك المتهم أن يورد شبهة تلقي ظلالا من الشك في أنه قد اقترف الجرم، فإذا استطاع ذلك درىء عنه الحد للشبهة.
ولا يؤخذ على هذا القول- أي القول بالأخذ بالقرائن الظاهرة التي نص عليها- خروجه عن الدليل القوي وانسياقه وراء دليل أقل قوة منه، فقد ذكرت أن هذا موضوع اجتهادي، وموضوع الاجتهاد من شأنه أن تختلف فيه الآراء، ثم إنه سبق لعلمائنا بمصر والسودان أن خرجوا عن الرأي القوي إلى رأي أضعف منه بما رأوا أنه يحقق المصلحة، فقد أجازوا الوصية للوارث وخرجوا عن رأي الجمهور والأحاديث الصحيحة التي تمنع ذلك، وذهبوا إلى رأي ضعيف عزوه إلى بعض المفسرين وهو رأي أبي مسلم الأصفهاني، والأمر في قضيتنا أقوى بكثير مما ذكر، فإنهم إن خرجوا عن الرأي القوي فإنما يأخذون بقول عمر وعثمان رضي الله عنهما ومالك وأصحابه وابن تيمية وابن القيم وأحد أقوال الإمام أحمد، وقول ابن الغرس من فقهاء الحنفية، كما أنه لا يخرج عن قصد الشارع الحكيم بعدم التوسع في إثبات الحدود إذ أنه لا يجيز العمل بمطلق القرائن إنما قرائن معينة ينص عليها تظهر فيها قوة الدلالة على ارتكاب موجب الحد، ولم يستطع المتهم أن يذكر شبهة تدرأ عنه الحد.
وعلى كل حال فإن القول بوجوب إثبات الحد بالقرائن الظاهرة يمكن أن يؤسس على قواعد وأدلة أحسبها قوية وعملية- وهى:
الأولى: أن مقصود المشرع الحكيم من هذه الحدود هو حماية المجتمع وبقاء صلاحه بحفظ أعراض الخلق وأبشارهم وأموالهم ونسلهم وعقولهم ولا يتم ذلك إلا بإقامة هذه الحدود وتنفيذ عقوبتها.
الثانية: إن تمكين الشبهة الدارئة إلى هذا الحد عند الفقهاء يؤدي إلى عدم تطبيق هذه الحدود أصلا، فكل حبلى بلا زوج قد تدعي الإكراه، وأي دعوى غير الإكراه تستطيع أن تدفع بها شناعة فعلها وعارها، كما أن كل سارق قد يدعي ملكية المسروق، أو عدم الإحراز، وسارق المال العام قد يتعلل بشبهة الملك وماله فيه من حق، وكل قاذف يستطيع أن يصل إلى غرضه بالكناية والتعريض، فتهتك بذلك أعراض الناس وأستارهم، وينفرط عقد المجتمع ويختل نظامه، فقولنا في كل ذلك، وأكثر منه شبهة أنه تمنع ثبوت الحد فكأننا نقر بهذا القول، أن هذه الحدود مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق.
ثم هل نرد أصلا مقطوعا به وهو مقصد الشارع في حفظ الضروريات وبقاء صلاح المجتمع بقاعدة معترض على ثبوتها، كما قدمناه عن ابن حزم الظاهري وشروح الدارقطني.
الثالثة: إن مقصود الشارع من عدم التوسع في إثبات الحدود وهو المستفاد من منهجه المتشدد في طرق إثباتها – هذا المقصد – لا يفوت بإثباتها بالقرائن، إذ أننا لا نقول مطلق القرائن، إنما هي قرائن منصوص عليها على سبيل الحصر.
الرابعة: أن الأدلة المتفق عليها والتي نصبت لإثبات الحدود – أعني الإقرار والبينة – لا تفيد القطع واليقين بأن المتهم قد أتى بموجب الحد ومع ذلك فقد رتب المشرع الحكيم الحكم عليها لإفادتها غلبة الظن، وغلبة الظن هذه تتوفر مع القرائن، وعلى وجه الخصوص القرائن المنصوص عليها، فلا وجه للاختلاف فيها والعلم المتحصل في الجميع واحد وهو غلبة الظن.
الخامسة: إن قوة القرينة أو ضعف دلالتها على المطلوب كثيرا ما تتضح أثناء نظر الدعوى، فإذا استطاع المتهم أن يذكر سببا معقولا يؤدي إلى إضعاف غلبة الظن التي تتوفر للقاضي بهذه القرائن يسقط اعتبارها ولا وجه للحكم بها، ولكن إسقاطها والقول بوجود الشبهة فيها من غير أن يذكر المتهم أسبابا معقولة غير صحيح عندي.
السادسة: إن تغير الزمان وفساده كان سببا رحبا عند الفقهاء لتغيير كثير من الأحكام، ولعله يكون قاعدة منطقية في أمرنا هذا تستوجب إعادة النظر عند المانعين، فإن تطور الجريمة وأساليبها يؤدي حتما إلى تطور الإثبات فيها.
الفصل الثالث
أثر القرينة في إثبات جرائم القصاص
ويتضمن:
• تمهيد
• المبحث الأول: أثر القرينة في إثبات القصد الجنائي.
• المبحث الثاني: أثر القرينة في إثبات القسامة.
• المبحث الثالث: أثر القرينة كدليل مجرد من غير قسامة.
تمهيد
غني عن البيان أن الشريعة الإسلامية قد كرمت النفس الإنسانية وكفلت احترامها وعدت حفظها وصيانتها من الضروريات التي قصدها المشرع الحكيم، فكان الاعتداء عليها من أكبر الجرائم وأعظم الحرمات، والشريعة إذ تحرم ذلك تعتبر أن الاعتداء على النفوس وإزهاقها اعتداء على المجتمع بأسره وتهديد لكيانه لما يؤدي إليه من إفناء للبشرية وزجها في بحر متلاطم من الدماء والمنازعات، وما يثيره في النفوس من حقد وكراهية، يقول تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
ومن هنا جاءت شريعة الله بالقصاص وتعقب الجناة وإنزال العقوبات عليهم، وتولى المشرع الحكيم تقدير عقوبات القصاص في النفوس وما دونها، ومع تقدير هذه العقوبة ترك لأولياء القتيل- لما لهم من حق في دمه – حق التنازل والصفح عن القاتل إذا ما هدأت ثورتهم وسكن غضبهم، ولهذا لم تلحق جرائم القصاص بجرائم الحدود لغلبة حق العبد فيها.
المبحث الأول
أثر القرينة في إثبات القصد الجنائي
ينقسم القتل عند جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية إلى عمد وشبه عمد وخطأ، ويجعله الإمام مالك قسمين: عمد، وخطأ (1) .
فالقتل العمد هو الذي قصد الجاني إلى إحداثه، أي توفرت لديه نية القتل عند إقدامه على الجناية، ولما كانت العمدية صفة قائمة بالقلب لا يمكن الاطلاع عليها، اتخذ الفقهاء من القرائن ما يدل عليها، ومن ذلك ما ذكره فقهاء الحنفية من أن وسيلة القتل أي الآلة التي أستعملها الجاني في ارتكاب الجريمة تعد قرينة دال على توفر القصد الجنائي أو عدم توفره، ويتضح هذا من تعريفهم للقتل العمد بأنه:(أن يتعمد ضربه بآلة تفرق الأجزاء مثل سلاح ومثقل ولو من حديد، وما هو محدد من خشب أو زجاج أو حجر)(2) .
وجاء في حاشية الشلبي قوله: (قال في شرح الطحاوي: فالعمد ما تعمد قتله بالحديد كالسكين والسيف، أو ما كان كالحديد سواء كان له حدة يبضع بضعا أو ليس له حدة ولكنه يرض رضا كالعمود وسنجاة الميزان وغيرها، أو طعن بالرمح أو الإبرة أو الأشفى بعد أن يقع عليه اسم الحديد)(3) .
(1) بداية المجتهد: 2/298، الزيلعي على متن الكنز: 6/97
(2)
الزيلعي على متن الكنز:6/97؛ والدر المختار:5/496.
(3)
حاشية أحمد الشلبي بهامش الزيلعي:6/97.
فأنت ترى هذا الربط الوثيق بين العمدية أي نية القتل والوسيلة المستخدمة في الجناية، فإذا كانت الوسيلة مما يقتل غالبا كهذه الأصناف التي ذكروها من حديد أو سيف أو رمح أو زجاج كان القتل قتلا عمدا لأن هذه الوسيلة قرينة على إرادة القتل، أما إذا كانت الآلة مما لا يقتل غالبا يكون القتل شبه عمد، لأن الوسيلة التي استعملها لا تدل على أن نية القتل كانت متوفرة، لأته قد يقصد الإيذاء من جرح أو غيره وقد يقصد القتل، ولما كان ذلك محتملا بأنه قصد القتل، وإيضاحا لما قررناه عنهم ننقل لك قول العلامة ابن عابدين:(لأن العمد هو القصد ولا يوقف عليه إلا بدليله، ودليله استعمال القاتل آلته فأقيم الدليل مقام المدلول، لأن الدلائل تقوم مقام مدلولاتها في المعارف الظنية الشرعية.. وهو صريح أنه يجب القصاص إن لم يذكر الشهود العمد، وبه صرح الإتقاني، وفيه أنه لا يقبل قول القاتل: لم أقصد قتله)(1) .
وإلي هذا القول الذي يجعل الوسيلة المستخدمة في القتل قرينة على العمدية يذهب فقهاء الشافعية والحنابلة، فيقولون: أن القتل العمد لا يكون إلا بالآلة التي تقتل غالبا، أما إذا كانت الآلة مما لا يقتل غالبا، وكانت فقط تقتل كثيرا أو تقتل نادرا، فإن الجريمة لا تكون قتلا عمدا (2) .
(1) حاشية ابن عابدين: 5/466؛ وانظر تبيين الحقائق (الزيلعي) : (6/97) .
(2)
تحفة الطلاب وحاشية الشرقاوي: 2/357؛ كشاف القناع: 5/412.
أما الإمام مالك - ويوافقه في ذلك ابن حزم الظاهري (1) - فلا يقرن العمدية بالوسيلة، فهو يرى أن كل اعتداء عمد يؤدي إلى الموت يعتبر قتلا عمدا بصرف النظر عن الوسيلة التي استخدمت في هذا الاعتداء، فعلى المشهور من مذهبه أنه متى ما قصد الشخص العدوان بأي وسيلة كان هذا العدوان وأفضى عدوانه إلى الموت، كان هذا العدوان عمدا، قصد هذه النتيجة أم لم يقصدها، لأن العمدية لا يطلع عليها، فينبغي أن يؤخذ بجريرة عمله طالما أنه قصد الاعتداء (2) .
فالإمام مالك لم يعط فكرة الوسيلة المستخدمة في القتل كبير اهتمام وقصد الاعتداء وحده لا يكفي لإثبات القصد إلى القتل.
(1) المحلى: (10:342) .
(2)
بداية المجتهد: 2/298؛ قوانين الأحكام الشرعية، ص474.
المبحث الثاني
أثر القرينة في إثبات القسامة
القسامة في اللغة تطلق على معنيين، بمعنى الحلف، يقال: أقسمت إذا حلفت وبمعنى الحسن والجمال، يقال فلان قسيم الوجه، ورجل قسيم أي وسيم (1) .
أما في اصطلاح الفقهاء:
يقول الصنعاني: القسامة وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم على المدعي عليهم (2) .
وعند ابن عرفة المالكي هي: حلف خمسين يمينا أو جزأها على إثبات الدم (3) . ويعرفها الحنفية بقولهم: (القسامة أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار فيها قتيل به أثر، فيقول كل واحد منهم ما قتلته ولا علمت له قاتلا)(4) .
يتضح من هذه التعريفات أن القسامة هي أيمان قدرها خمسون يمينا يحلفها إما أولياء القتيل يثبتون بها الدم على المدعى عليه كما هو مفهوم جمهور من يقول بها، أو يحلفها من وجد القتيل بين ظهرانيهم ينفون بها نسبة القتل إليهم وهو مفهوم الحنفية.
(1) لسان العرب (فصل القاف من حرف الميم) .
(2)
سبل السلام: (3/252) .
(3)
الحطاب: (6/269) .
(4)
العناية بهامش تكملة فتح القدير: (8/383) .
والأصل في القسامة ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أن نفرا من الأنصار انطلقوا إلى خيبر وتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، فقالوا لليهود: قتلتم صاحبنا فأنكروا فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: تأتون بالبينة، فقالوا يا رسول الله: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة (1) .
وفي روايات أخرى: تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم، ويقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته (2) .
ووجه الدلالة في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع أيمان القسامة، فأجاز لأولياء القتيل الحلف لإثبات القتل. ويتضح فيها أيضا اعتماد المدعين على قرينة العداوة بين اليهود والأنصار مما دعاهم إلى توجيه تهمة القتل إليهم لاسيما وقد وجد القتيل بينهم، وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم الحلف على ذلك.
خالف في الأخذ بالقسامة بعض الفقهاء منهم قتادة وأبو قلابة والبخاري بحجة أن القسامة تخالف أصول التشريع الإسلامي، إذ الأصل ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسًا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف بأولياء القتيل ليشعرهم أنه لا يلزم الحكم بها في الإسلام لأنها من أحكام الجاهلية (3) .
وأجيب على هذا القول بأن القسامة أصل قائم بنفسه قررته السنة النبوية الشريفة كسائر السنن المقررة للأصول، وأنه لا يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وللإنسان أن يحلف على غالب ظنه، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل لهم استحقاق دم القاتل كما يظهر في الأحاديث (4) .
(1) صحيح البخاري: (باب القسامة) : (4/156) .
(2)
صحيح مسلم مع شرح النووي: (11/48) ؛ سنن أبي داود: (4/299) ؛ سنن الترمذي: (6/192) قال الترمذي حديث صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم.
(3)
صحيح مسلم وشرح النووي: (11/152) ؛ السنن الكبرى (122/8) .
(4)
بداية المجتهد: (2/428) ؛ المبسوط: (26/109) ؛ شرح النووي على صحيح مسلم: (11/140) .
دور القرينة في إثبات القسامة:
القائلون بالقسامة قد اتفقوا على أن للقرينة تأثيرا كبيرا في إثباتها وإن اختلفوا في كيفية الأخذ بها، فجمهور القائلين بالقسامة يقولون إنها تجب مع اللوث الذي قد يكون قرائن قوية دالة على صدق دعوى المدعين، وفقهاء الحنفية لا يقولون باللوث ومع ذلك فهم يلجؤون للقرينة فلننظر آراءهم في ذلك.
رأى الجمهور:
يرى فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة أن القسامة لا تجب إلا مع اللوث فإذا كان هناك لوث، يحلف أولياء القتيل خمسين يمينا وبذلك يستحقون القود أي يقاد القاتل به عند مالك وأحمد والشافعي في القديم وابن حزم، وتجب الدية عند الشافعي في الجديد.
أما اللوث عند الشافعية فهو ما يغلب الظن على صدق الدعوى، فيقول صاحب مغنى المحتاج:(اللوث قرينة حالية أو مقالية لصدق أي تدل على صدق المدعي)(1) .
ومن اللوث عندهم وجود القتيل في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم وإن كان يخالطهم غيرهم لا يكون ذلك لوثا، ومن ذلك أيضا وجود القتيل ومعه رجل معه سيف مخضب بالدم ليس هناك غيره، لأن الظاهر أنه قتله، ومنه لهج العام والخاص أن فلانا قتله، وغير ذلك من القرائن القوية ودلائل الأحوال (2) .
وفى مذهب المالكية لم يذكر الإمام مالك القرائن ضمن الأشياء التي اعتمدها لوثا، فقد اعتمد معاينة الرجل العدل والمرأة الواحدة والعبد والصبى، غير أن فقهاء المذهب قد بينوا أن القرائن تصلح أن تكون دليلاً تجب به القسامة.
(1) مغني المحتاج: (4/111) ؛ وانظر المهذب: (2/338) .
(2)
المهذب: (4/112) ؛ مغنى المحتاج: (4/112) .
فقد نقل ابن فرحون في تبصرته قول المازري: وعندي أن الأظهر في الجواب أن القرائن تقوم مقام الشاهد، وقول ابن القاسم: لو رأى العدول المتهم يجرد المقتول ويعريه وإن لم يروه حين أصابه فإن هذا لوث تجب معه القسامة، وقول الجلاب: وإذا وجد مقتول ووجد معه رجل بقربة معه سيف أو في يده شي من آلة القتل وعليه آثار القتل فذلك لوث (1) .
ويقول العدوي في هذا الشأن: (ولا يخفى أن قرائن الأحوال مما تفيد الظن القوي) . (2)
مفاد هذه الأقوال أن فقهاء المذهب المالكي اعتدوا بالقرائن التي تفيد الظن القوي لإثبات اللوث الذي هو شرط القسامة، غير أن هذا الاعتداد قد جاء متأخرا، إذ أن الإمام مالكا كان يرى اللوث هو فقط نقصان البينات.
وما قدمناه من الاعتداد بالقرائن في إثبات القسامة يقول به فقهاء الحنابلة وذكروا من القرائن مثل ما قدمناه من الشافعية والمالكية، بل توسعوا في بعضها أكثر من فقهاء الشافعية، حيث لم يتمسكوا بقيد الشافعية من عدم اعتبار قرينة وجود المقتول في محله إذا كان في المحلة غير أعدائه، فيقولون يكون ذلك لوثا وإن وجد غيرهم (3) .
(1) تبصرة الحكام:1/266 و2/94.
(2)
حاشية العدوى بهامش الخرشي: 8/56.
(3)
المغني: (8/68) وما بعدها.
رأي الحنفية:
أما فقهاء الحنفية فإنهم مع أخذهم بالقسامة لا يقولون بفكرة اللوث كما أنهم يجعلون اليمين على المدعي عليه، فلا يمين على المدعين إذ أن اليمين شرعت في جانب المنكر لقوله صلى الله عليه وسلم:((البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)) (1) .
كما أن اليمين ليست صالحة للاستحقاق فكيف يستحق بها الدم؟ ومن ثم فإنهم لا يوجبون في القسامة القود، وإنما الدية.
وفقهاء الحنفية وإن كانوا لا يأخذون بفكرة اللوث إلا أنهم أخذوا بالقرينة فإنهم يقولون إنه إذا وجد القتيل في محلة قوم أو دارهم أو أرضهم، فهذا دليل على أن القاتل منهم، فالإنسان لا يأتي من محلة إلى محلة ليقتل طائعا مختارا فيها، وإنما تمكن القاتل منهم من هذا القتل بقوتهم ونصرتهم. ولذلك يحلفون يمين القسامة على أنهم ما قتلوا ولا عرفوا له قاتلا، ثم يدفعون ديته صيانة لدمه من الهدر لوجود القتيل بين أظهرهم ولتقصيرهم في النصرة الواجبة عليهم.
وعليه فتكون القرينة الوحيدة التي يشترطها فقهاء الحنفية هي وجود جثة القتيل في محلة فتقوم دليلا على أن القاتل منهم، يجب عليهم بذلك حلف أيمان القسامة. أما إذا وجد في محل عام كالمساجد والجسور والأنهار العامة فلا قسامة إنما تجب ديته في بيت المال (2) .
هذه هي آراء القائلين بالقسامة، وقد رأينا الدور الهام الذي تقوم به القرائن في إثبات القسامة سواء كانت على المدعين أو على المدعى عليهم، ذلك أن القسامة إنما شرعت لعدم وجود البينة الكاملة المباشرة على الفعل، فاحتاج إلى دلائل أخرى تغلب الظن وتفيد الحكم فكانت القرائن القوية هي التي تفيد هذا العلم.
غير أن هذه القرائن التي تعرضنا لها لا يترتب عليها وحدها الحكم، إنما الحكم يترتب على القسامة التي يحلفها من وجبت عليه بناء على دلالة هذه القرائن، أما القرائن وحدها فهل يجوز الحكم بمجردها في الدماء إذا كانت قوية الدلالة؟ هذا هو ما سنعرضه الآن.
(1) رواه مسلم، الصحيح مع شرح النووي:(2/12) .
(2)
المبسوط: (26/107) ؛ تحفة الفقهاء للسمرقندي: (3/202) .
المبحث الثالث
أثر القرينة كدليل مجرد عن القسامة
تعرض الفقهاء للقرينة كدليل يوجب القسامة كما تقدم، أما كونها دليلا منفصلا يترتب عليه حكم في دعوى الدم بغير أن تعضد بأيمان القسامة فلا نكاد نجد له أثرا واضحا في كتبهم، ولعل السبب في ذلك أن الشرع قد نص على القسامة حين تدل القرائن على القاتل، كما جاء في أحاديث القسامة المتقدمة، ومن ثم يكون الاعتداد بالقرينة وحدها أمرا زائدا لا مبرر له.
ومع هذا فهناك من الفقهاء من يميل إلى إثبات جريمة القتل بالقرائن، فالقرينة قد تكون قوية الدلالة واضحة في إثبات الجريمة، وقد لا يؤول الأمر للقسامة فينبغي تحكيم القرائن حينئذ.
وممن يقول بهذا القول الفقيه الحنفي ابن الغرس فقد نقلوا عنه قوله: (إن من جملة طرق القضاء القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به، فقد قالوا: لو ظهر إنسان من دار ومعه سكين في يده وهو متلوث بالدماء سريع الحركة، عليه أثر الخوف، فدخلوا الدار في الوقت على الفور، فوجدوا بها إنسانا مذبوحا بذلك الحين وهو ملطخ بدمائه ولم يكن في الدار غير ذلك الرجل الذي وجد بتلك الصفة وهو خارج من الدار يؤخذ به، وهو ظاهر إذ لا يمتري أحد في أنه قاتله، والقول بأنه ذبح نفسه أو أن غير ذلك الرجل قتله ثم تسور الحائط فذهب احتمال بعيد لا يلتفت إليه إذ لم ينشأ عن دليل)(1) .
(1) البحر الرائق: (7/224) .
خلاصة رأى ابن الغرس أن الصفة المذكورة للمتهم والقرائن القائمة تدل دلالة واضحة على أنه قد ارتكب الجريمة، وأن أي احتمال آخر يقوم على غير ذلك لا دليل عليه بل هو في حكم الوهم، ولذلك لا بد أن يؤخذ الجاني ويقتص منه بهذه الدلائل.
وقول ابن الغرس هذا إن كان يلقى معارضة شديدة من فقهاء المذهب حيث نجد الرملي يقول: إن هذا بعيد خارج عن الجادة ولم يعضده نقل معتبر في المذهب (1) . غير أن المتأخرين منهم لا يمانعون في القول به فها هو العلامة ابن عابدين يفتي بإعمال القرائن بعد أن ذكر قول ابن الغرس المتقدم، فهو إن كان لا يرى القصاص في مثل هذه الحالة ولكنه يقول إن فقهاء المذهب المتقدمين لم ينصوا على القرائن لأن أعرافهم كانت تختلف ولم يكونوا بحاجة إليها، وما دامت الأعراف قد تغيرت فينبغي أن يكون المعول عليها (2) .
(1) رسائل ابن عابدين: (2/158) ؛ قرة عيون الأخبار: (1/408) .
(2)
المصدر السابق نفسه.
ويبدو أن الخلاف في القرائن قد طرأ في صدر المذهب غير أنه لم يأخذ حظه من النقاش لتأتي أحكامه مفصلة كغيره من الأحكام، فقد نقل صاحب واقعات المفتين قوله:(لو أن رجلين كانا في بيت ليس معهما ثالث فوجد أحدهما مذبوحا، قال أبو يوسف، أضمن الآخر الدية، قال محمد: لا أضمنه لأنه يحتمل أن القتيل قتل نفسه، ويحتمل أن يكون قتله الآخر فلا أضمنه بالشك، ولأبي يوسف: أن الظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه فكان التوهم ساقطا، كما لو وجد في محلة لا يلتفت إلى هذا التوهم فكذا هذا)(1) .
يتضح من هذا القول أن الإمام محمدا لم يجعل القسامة في هذه الواقعة بينما يضمن أبو يوسف المتهم بالدية، والظاهر أن الضمان بعد حلف أيمان القسامة.
(1) واقعات المفتين، ص71.
هذا ما كان في مذهب الحنفية، أما في مذهب المالكية، فإن الفقيه المالكي ابن فرحون يميل إلى ما ذهب إليه ابن الغرس، ويستفاد هذا الميل من قوله معددا القرائن التي يقول بها الفقهاء:(الأربعون: قال أصحابنا: إذا رأينا رجلا مذبوحا في دار والدم يجري وليس في الدار أحد ورأينا رجلا قد خرج من عنده في حالة منكرة علمنا أنه الذي قتله وكان لوثا يوجب القسامة أو القود للقرينة الظاهرة)(1) .
يظهر من هذا القول أن ابن فرحون يرى أن الحكم في هذه الواقعة التي هي شبيهة بتلك التي أوردها ابن الغرس- هو إما القسامة وهو ما يقول به غيره من فقهاء المذهب، أو القود وهو ما يميل إليه هو، ويؤيد ذلك قوله في موضع آخر:(ومن اللوث الذي يوجب القصاص لو شهد شاهدان أنهما رأيا رجلا خرج مستترا في دار في حالة رثة، فاستنكرا ذلك، فدخل العدول من ساعتهم الدار فوجدوا قتيلا يسيل دمه، ولا أحد في الدار غيره وغير الخارج فهذه شهادة يقطع الحكم بها وإن لم تكن على المعاينة) .
فقد عد هذه القرينة أي هيئة المتهم بالقتل كالشهادة على المعاينة وأوجب بها القصاص.
(1) تبصرة الأحكام: (1/266) .
وقد قدمنا القول عن فقهاء المالكية في مثل هذه القرائن أنها توجب القسامة، ولم أعثر على من يقول بقول ابن فرحون بإيجاب القصاص بالقرائن من غير قسامة، اللهم إلا ما يستنتج من قول الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير بصدد قول الدردير: إن تعدد اللوث لا يمنع القسامة بل هي واجبة رغم تعدد اللوث، يقول الدسوقي:(إن تعدد اللوث لا يغني عن القسامة ففيه نظر) ، فنستنتج من هذا التعليق أن الدسوقي يريد أن يجعل تعدد اللوث أي كثرة القرائن دليلا على الجريمة دون الحاجة إلى القسامة، فيوافق بذلك ما ذهب إليه ابن فرحون.
وقد نسب الدكتور عبد المنعم البهي في كتابه من طرق الإثبات في الشريعة والقانون إلى الإمام ابن القيم أنه يقول بما قال به ابن الغرس (1) . ويرى إثبات القصاص بالقرينة من غير قسامة، ولكني لم أجد للإمام ابن القيم فيما اطلعت عليه من كتبه نصا يدل على ذلك، بل الذي رأيته عنه يدل على أنه يتفق مع جمهور الفقهاء في إعمال القرائن لإثبات القسامة فقط (2) .
(1) من طرق الإثبات في الشريعة والقانون، ص99.
(2)
من طرق الإثبات في الشريعة والقانون، ص99.
ومن هنا يتضح أن القول باثبات القتل على المتهم بالقرائن المجردة هو من رأى ابن الغرس الحنفي وهو ما يميل إليه ابن عابدين ولكن لا يثبت بها القصاص.
وهو رأى ابن فرحون والدسوقي من المالكية ووجهة نظرهم أن القرائن هي الأثر المتبقي من الحادث وتدل على الاحتمالات الضعيفة لا يؤبه لها.
أما جمهور الفقهاء فإن حجتهم تختلف باختلاف مذاهبهم في إثبات الدماء عند تخلف الطريق الأصلي لإثباتها وهو إما الإقرار أو البينة، فالمالكية والشافعية والحنابلة يرون أنه لما تخلف هذا الطريق الأصلي للإثبات شرعت القسامة عندما تشير القرائن القوية إلى المتهم، فإذا حلف الأولياء على المتهم استحقوا دمه أو الدية على ما بيناه عنهم. فالقرائن من غير قسامة لا تكفي إذن على إثبات القتل عندهم.
أما فقهاء الحنفية فيقولون: إن القرائن تحوطها احتمالات كثيرة ودعاوى الدماء مما يجب الاحتياط فيها فلا يعتمد على القرائن في إثباتها، والقسامة تجب على المدعى عليهم إذا وجد القتيل بين أظهرهم.
رأينا في الموضوع:
بعد هذا العرض لآراء الفقهاء ظهر أنا أن هناك ثلاثة اتجاهات عند تخلف أدلة الإثبات الأصلية في القتل ودلالة القرائن:
أولا: فريق يرى الحكم بهذه القرائن لوضوح دلالتها وهم: ابن الغرس وابن فرحون، والدسوقي عند تكاثر القرائن، وابن عابدين على ألا توجب القصاص.
ثانيا: فريق يرى أن القرائن بمجردها لا يحكم بها ولكن إذا عضدتها يمين المدعين وهي أيمان القسامة يحكم بها وهو رأى الجمهور.
ثالثا: فريق يرى وجوب الاحتياط وألا يحكم بالقرائن للاحتمالات التي تكتنفها والقرينة الوحيدة عندهم أي الحنفية هي تواجد القتيل في محلة قوم فهؤلاء عليهم دية القتيل بعد حلف أيمان القسامة.
وفي نظري أن قول الجمهور من حيث توجيه اليمين إلى المدعين في القسامة إذا ظهرت أمارات الاتهام أقرب للصواب من قول الحنفية، لأن القسامة قد شرعت تقوية للإثبات عند ظهور دلائل القتل ولم تكتمل الأدلة الأصلية لإثباته، فجاءت اليمين تقوية للادعاء ولذا جعلها الشارع خمسين يمينا تغليظا لشأن الدماء.
ولا شك أن ذكر ابن الغرس وابن عابدين لهذه القرائن فلحاجة المذهب إلى مثل هذا النص، إذ أن مذهب الحنفية بتقييده ليمين القسامة وجعلها على المدعى عليهم وقصرهم علي أهل المحلة التي وجد بها القتيل تمشيا مع قاعدة اليمين على المنكر، يكون قد ضيق مجال العمل بالقسامة، وتبع ذلك ظهور حالات كثيرة لا يمكن فيها توجيه اليمين إلى أهل المحلة منها تلك الحالة التي ذكرها ابن الغرس فقد دلت القرينة على مرتكب الجريمة، فلا يكون هناك ثمة ما يدعو إلى تحليف أهل المحلة لظهور التهمة في غيرهم، ثم إن المذهب لا يترتب على هذا المتهم شيئا، وقد رأينا قول محمد والخير الرملي أنهما لا يضمناه شيئا للشك والاحتمال.
ومذهب الحنفية بمنطقه هذا وأقيسته هذه وإن كان قريبا من المعاني الاجتماعية من حيث إنه جعل المسؤولية على أهل المنطقة أو الدائرة التي وجد فيها القتيل لتقصيرهم في المحافظة على الدماء في دائرتهم، إلا أنه قد يعجز عن الوفاء بما تتطلبه حماية الدماء وصيانتها من محاولة التعرف على الجاني وحصر التهمة بقدر الإمكان.
ففكرة حصر التهمة على أهل المحلة إذا صلحت على أهل القرى والبادية حيث إنهم لا يستطيعون معرفة القاتل أو في إمكانهم ذلك، فإنها لا تصلح في مجتمع الحضر والمدن إلا في حدود ضيقة، ومع تعقيد الحياة وتطور أساليب الجريمة تقل جدوى حصر التهمة على أهل المحلة- وإلا فكيف نفعل بالقتلى الذين يوجدون في الطرقات أو في دور الحكومة أو في الدور الجديدة أو العمارات التي لم تسكن بعد، فهل ضمان كل ذلك في بيت المال؟.
فليس أرجح من ذلك إلا القول بأنه إذا دلت أمارات الاتهام على شخص أو أشخاص جاز للأولياء أن يحلفوا أيمان القسامة طالما أن ظنهم قد وصل أغلبه أو تيقنوا من أنه القاتل.
أما إذا لم يكن هناك أولياء، أو وجدوا ولم يرضوا بالحلف تورعا أو قصدا وعلم القاضي أن المتهم بما تدل عليه حاله وبشهادة القرائن التي لم يستطع المتهم أن يدحضها وقد حاصرته من كل وجه، كما لم يستطع أن يقدم أسبابا معقولة تلقي ظلالا من الشك على ارتكابه الجناية - وهذا ما يحدث كثيرا في الجرائم في عصرنا الحاضر.
أقول: فإن قول المجيزين بالأخذ بالقرائن أوجه وأولى بالقبول. وفرق كبير بين قولنا أن القرائن لا تصلح دليلا للإثبات وبين عدها دليلا مع فسح المجال للمتهم كي يضعف دلالتها أو يشكك في قوتها.
ومن ثم فإن القرائن تأتي في مرحلة متأخرة في نظام إثبات جرائم القصاص في الفقه الإسلامي، إذ إن الأدلة الأصلية- أعني الإقرار والبينة- مقدمة، ثم توجه أيمان القسامة عند نقصان الأدلة أو شهادة القرائن بحضور الأولياء، ثم القرائن عند انعدام الطريقين المتقدمين.
الفصل الرابع
أثر القرينة في إثبات الجرائم التعزيرية
ويتضمن:
المبحث الأول: أثر القرينة في الكشف على الجناة وإظهار الحق.
المبحث الثاني: توقيع العقوبة التعزيرية بدلالة القرائن
المبحث الأول
أثر القرينة في الكشف على الجناة وإظهار الحق
هنالك من الجرائم ما لا يدخل في نطاق الحدود، وكما لا يدخل في نطاق القصاص، إما لكونه يختلف عنها من حيث نوع الجريمة، أو لأنه قد فقد ركنا أو شرطا من أركان أو شروط الحدود والقصاص وأخرج عن نطاقها، ومع ذلك لم ينتف عنه وصف الجريمة (1) .
هذا النوع من الجرائم يسمى جرائم التعزير، حيث ترك المشرع أمر تقدير عقوبتها لولي الأمر الذي يتوخى في هذا التقدير مقدار الجريمة المقترفة ومصلحة المجتمع الإسلامي.. ولذلك يعرف الفقهاء التعزير بأنه:(عقوبة غير مقدرة تجب حقا لله أو لآدمي لكل معصية ليس فيها حد ولا كفارة)(2) .
وعقوبة التعزير- كما يظهر من تعريف الفقهاء- قد تكون حقا لله تعالى كالإفطار في شهر رمضان، وقد تكون حقا للعباد كسرقة مال شخص من غير حرز، والاختلاس والانتهاب وعدم الوفاء بالدين وغيرها.
والدعوى في التعزير دعوى عادية تتطلب طرق الإثبات المعروفة في الفقه الإسلامي من إقرار وبينة، والقرائن من الأدلة التي يرى الفقهاء جواز العمل والتعزير بموجيها.. ويتضح ذلك من مسلكهم في إعمال القرائن في الكشف عن الجناة وإظهار الحقوق مستندين في ذلك على بعض الدلائل نذكر منها:
1-
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن معاوية بن حيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة (3) .
ورواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة يوما وليلة استظهارا واحتياطا (4) .
2-
ما رواه أبو داود عن أزهر بن عبد الله الحرازي أن قوما سرق لهم متاع فاتهموا أناسا من الحاكة فأتوا النعمان بن بشير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم أياما ثم خلى سبيلهم فأتوه، وقالوا: خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان.. فقال: ما شئتم أن أضربهم فإن خرج متاعكم فذاك وإلا أخذت من ظهوركم مثل الذي أخذت من ظهورهم فقالوا: هذا حكمك قال: حكم الله وحكم رسول الله. (5) .
3-
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الزبير رضي الله عنه أن يمس بشيء من العذاب – أي ضرب – ابن أبي الحقيق عندما غيب ماله وادعى نفاذه وقال: أذهبته النفقات والحروب.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المال كثير والعهد قريب. (6) .
(1) السرقة من غير حرز فقدت ركنا من أركان جريمة السرقة التي يثبت بها الحد ولم ينتف بذلك عنها وصف الجريمة.. التعزير؛ عبد العزيز عامر، ص30.
(2)
بدائع الصنائع:7/ التعزير، عبد العزيز عامر، ص36.
(3)
رواه الترمذي وقال حسن صحيح؛ انظر الترمذي مع شرح ابن العربي:6/88.
(4)
المستدرك للحاكم: 4/102، قال الذهبي في تلخيص المستدرك: فيه إبراهيم بن هيثم وهو متروك.
(5)
سنن أبي داود: /235؛ وانظر زاد المعاد: 3/211
(6)
السيرة النبوية لابن هشام: 3/337؛ وقال في فتح الباري: أخرجه البيهقي بإسناد رجاله ثقلت؛ فتح الباري:7/386.
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث – كما يستفاد من نصوص الفقهاء – أنه على القاضي ألا يهمل القرائن وشواهد الحال، وأنه لابد من حبس المتهم حتى تنكشف الحقيقة، وأنه إذا ظهرت أمارات الريبة على المتهم يجوز ضربه ليتوصل القاضي إلى الحق (1) .
بيد أن الفقهاء قد قسما الناس في الدعوى إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول:
أن يكون المتهم في الدعوى معروفا بين الناس بالدين والورع والتقوى، أي أنه ليس ممن يتهم بما وجه إليه في الدعوى
…
فهذا لا يقوم القاضي بحبسه أو ضربه ولا يضيق عليه بشيء.. بل قالوا لابد من تعزير من اتهمه صيانة لأعراض البرآء والصلحاء من تسلط أهل الشر والعدوان، وهذا القول مروي عن أبي حنيفة (2) .
الصنف الثاني:
أن يكون المتهم مجهول الحال بين الناس، فهذا يقوم القاضي بحبسه حتى يكشف أمره، ومدة الحبس مختلف فيها بينهم، قيل ثلاثة أيام، وقيل شهرا، وقيل: يترك ذلك لاجتهاد ولي الأمر، وأجاز بعض الفقهاء ضرب مجهول الحال وامتحانه بغرض إقراره وإظهار الحق (3) .
الصنف الثالث:
أن يكون المتهم معروفا بالفجور والتعدي كأن يكون معروفا بالسرقة قبل ذلك أو تكررت منه المفاسد، أو عرف بأسباب السرقة مثل أن يكون معروفا بالقمار، والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال وليس له مال، فهذه قرائن تدل على مناسبة التهمة له.. فهذا يضربه الوالي أو القاضي بغية التوصل إلى إقراره أو إظهار المال منه.
هذا الحبس أو الضرب الذي هو من باب الوصول إلى الحق يسميه البعض سياسة، ويسميه الآخرون تعزيرا، وذلك لاختلافهم هل هو من عمل الوالي أو من عمل القاضي؟ (4)
(1) زاد المعاد: 3/213؛ معين الحكام، ص217.
(2)
معين الحكام، ص317؛ عدة أرباب الفتوى، ص82؛ الطرق الحكمية، ص118.
(3)
الحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار وإظهار المال لابن الديري، ص16.
(4)
الفتاوى الكبرى لابن تيمية:4/190.
فمن الواضح أن القرينة قد عملت على النحو المتقدم على إطلاق المعروف بالصلاح، ومنعت من تعويقه وتعطيله بالحبس.. بل إن مثل هذه الدعوى قد تؤدي إلى تعزير ومعاقبة من يقوم بها.. كما عملت القرينة كذلك على ضرب المتهم وحبسه حتى يقر بما ادعي عليه أو يظهر المال الذي أخفاه أو سرقه، وذلك لأن التهمة تناسبه وحاله بين الناس يغلب الظن على أنه فعل ما ادعي عليه يقول ابن الديري الحنفي:(والتهمة إذا قام دليلها عند المبتلى بالحادثة فأوجب ذلك غلبة الظن منه على أنه محل ما اتهم به فلا يستبعد أن يعتبر غالب الظن في ذلك.. يدل على هذا الأصل من السنة المأثورة وقول الفقهاء وإنما أعد السجن لذلك وما شاكله)(1)
هذا خلاصة ما تقوم به القرائن في الكشف على الجناة وإظهار الحق، ولم يعترض على ذلك غير ابن حزم الظاهري حيث لم يجز حبس المتهم
…
والفقهاء حينما نصوا على هذه الأحكام – وهي مس المتهم الذي تعددت سوابقه واشتهر بالفساد ونقب الدور والسرقات بشيء من الضرب بقصد التوصل إلى إقراره – كان هدفهم حماية الأمن ومنع الفوضى وإظهار قوة الحاكم وهيبته (2) حتى لا يعتدي الأشرار على أموال ونفوس الآمنين- بيد أنه يجب النظر والتثبت في ذلك، فلا ينبغي أن يؤخذ كل منهم إذ أنهم حصروه في متعدد السوابق ومشتهر الفساد، كما أنهم استبعدوا من ذلك جرائم الحدود والقصاص، فلا يحق للقاضي أن يتوصل إلى ثبوتها عن طريق ضرب المتهمين وتنكيلهم ثم أن الفقهاء قد أبطلوا إقرار الشخص بما لم يرتكبه دفعا لما يقع عليه من إكراه، كما هو معروف في باب الإكراه في الشريعة.. هذا وقد أبى النعمان بن بشير رضي الله عنه – صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب المتهمين بالسرقة حينما لم تكن أدلة التهمة قوية – وقيد ابن القيم الضرب بظهور أمارات الريبة على المتهم.
ولذا فإننا نقول يجب الاحتياط في موضوع ضرب المتهمين، حتى لا يحدث ما نراه في أقسام البوليس في وقتنا الحاضر من ضرب المتهمين ضربا عنيفا مما يؤدي إلى إقرار الشخص بما لم يجن تخلصا من التعذيب.. وإذا كان الاستقراء قد أظهر أن كثيرا من المتهمين من السراق وغيرهم يقرون تحت التهديد ويعترفون بوقائع الجريمة، إلا أننا نرى أن تكون هناك ضوابط للجوء إلى هذه الوسيلة حتى لا نكون أمام إقرار باطل شرعا.. وأهم هذه الضوابط في نظري:
1-
أن يكون المتهم من متعددي السوابق المشتهرين بارتكاب مثل هذه الجريمة التي اتهم فيها.
2-
أن تقوم القرائن وأمارات الاتهام على أنه ارتكب هذه الجريمة.
3-
ألا يكون الضرب ضربا مؤذيا يؤدى إلى الجراح أو الكسر أو الإتلاف.
4-
ألا يلجأ المحقق إلى الضرب إلا بعض محاصرة المتهم بالأدلة التي تدينه، أو بعد استنفاد الوسائل الأخرى التي تؤدي إلى إقراره.
5-
أن يحقق القاضي من إقراره الذي صدر من المتهم إثر التهديد فإن تبين له أنه أقر ليتخلص من الضرب الذي وقع عليه رفضه، وإن كان إقرارا صحيحا مطابقا للقرائن أخذ به.
(1) الحبس في التهمة والامتحان، ص16.
(2)
معين الحكام، ص215؛الحبس في التهمة والامتحان، ص16؛ الفتاوى الكبرى:4/190.
المبحث الثاني
توقيع العقوبة التعزيرية بدلالة القرائن
بينا أن الفقهاء قد عولوا على القرائن في الكشف عن الجناة، وأنهم طلبوا من القاضي أن يتحرى ويحاول التوصل إلى إقرار المتهم طالما أن القرائن تشير إليه.. هذا الإقرار قد يحصل عليه القاضي كثيرا في الدعاوى المالية، كما إذا ادعى المتهم الإعسار وأخفى ماله مانعا الوفاء، ولكن هناك بعض الجنايات التي يمتنع الجاني فيها عن الإقرار، فهل يخلي القاضي سبيله أو يعزره مع وجود القرائن الدالة على ارتكابه الجريمة؟.
أجاز الفقهاء عقوبة الجاني بالقرائن وتعزيره إذا كانت قوية الدلالة في الدعوى، على وجه الخصوص إذا كان المتهم من أهل التهمة ومعروفا بالتعدي والفساد وقد جاءت عبارات الفقهاء حافلة بالأمثلة على ذلك ننقل هنا قطوفا منها:
جاء في عدة أرباب الفتوى في جواب له عن مسألة، حيث كان الرجل متهما ووجد بعض المتاع المسروق عنده بعد الثبوت فللحاكم الشرعي أن يأمر حاكم العرف بحبسه بل وضربه، قال مولانا فخر الدين قاضيخان: ومن يتهم بالقتل والسرقة وضرب الناس يحبس في السجن إلا أن يظهر التوبة (1) .
وجاء في معين الحكام: (وقع في الأصل أن المدعى عليه إذا أنكر السرقة قال عامة المشايخ: الإمام يعزره، إذا وجد في موضع التهمة بأن رآه الإمام يمشي مع السراق أو رآه مع الفساد جالسا لا يشرب الخمر لكنه معهم في مجلس الفسق)(2) .
(1) عدة أرباب الفتوى، ص83.
(2)
معين الحكام، ص215.
ومن القائلين بذلك الإمام ابن تيميه حيث يرى أنه لا سبيل إلى ردع المجرمين حتى يأمن الناس على أنفسهم وأموالهم إلا بعقوبة هؤلاء وزجرهم، يقول ابن تيميه:(وأمر اللصوص وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة، فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء ولا يزجرهم أن يحلف كل واحد منهم)(1) .
ويقول ابن القيم: (فمن أطلق كل متهم وخلى سبيله أو حلفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ونقب الدور وتواتر السرقات ولاسيما مع وجود المسروق معه، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل أو إقرار اختيار وطوع فقوله مخالف للسياسة الشريعة)(2) .
وقد أيد ابن فرحون قول ابن القيم بإنزال العقوبة التعزيرية على المتهم الذي دلت القرائن على ارتكابه الجناية فقال: (فهل للقضاة أن يتعاطوا الحكم بما يرفع إليهم من اتهام اللصوص وأهل الشر والتعدي؟ وهل لهم الكشف عن أصحاب الجرائم وهل لهم الحكم بالقرائن التي يظهر بها الحق ولا يقف على مجرد الإقرار وقيام البينات؟ وهل لهم أن يهددوا الخصم إذ ظهر أنه مبطل أو ضربه أو سأله عن أشياء تدل على صورة الحال؟ فالجواب ما ذكره ابن قيم الجوزية الحنبلي من أن عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف وليس لذلك حد في الشرع)(3) .
وتأييد مسلك ابن القيم في هذا الشأن هو ما صرح به كذلك صاحب معين الحكام الحنفي وقد ذكر نفس القول الذي نقلناه عن ابن فرحون (4) .
(1) الفتاوى الكبرى:4/191.
(2)
إعلام الموقعين: 4/310.
(3)
تبصرة الحكام:2/109.
(4)
معين الحكام، ص212.
مبدأ (من أين لك هذا؟) يعتمد على القرائن:
ومن أهم الدعاوى التي تعمل القرائن على إظهار الحق فيها دعاوى الكسب غير المشروع كما إذا ظهرت الأموال الطائلة للموظف العام بحيث لا تتناسب هذه الأموال مع ما يتقاضاه من مرتب
…
فيكون ظهور الثروة الطائلة مع عدم مناسبتها لمرتبه قرائن تدل على أن هذا الموظف قد أستغل سلطة وظيفته وتقاضى كسبا غير مشروع.. إما عن طريق ما يتلقاه من رشاوى، وإما عن طريق اختلاس المال العام فكان للقاضي أن يتحقق عن مصادر هذه الثروة وهذا هو ما عرف بمبدأ من أين لك هذا؟.
وقد سبق الفقه الإسلامي كل المذاهب والنظريات والقوانين في سن مثل هذا القانون لما عرفه من ضعف النفس البشرية أمام المال وفتنته.. فوضع بذلك أسس الرقابة على الأجهزة الحاكمة والمسؤولة حفاظا على المال العام
…
فقد ذكرت كتب التاريخ أن الخليفة العبقري عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تمسك بهذا المبدأ مع ولاته واتخذ من تكاثر أموالهم وزيادتها بصورة لا تتناسب مع ما يعطيه لهم من رواتب دليلا على أنهم أخذوا من مال المسلمين، فحاسبهم على ذلك وأخذ جزءا منها وأودعه بيت المال، بل ولم يقبل منهم الاحتجاج بأن هذه الزيادة ناتجة عن تجارة أو سهام أو غير ذلك.
حكى البلاذري في فتوح البلدان قوله: (حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن سيرين عن أبي هريرة أنه لما قدم من البحرين قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله، قال لست عدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما ولم أسرق مال الله.. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف درهم؟.. قال: خيل تناسلت وعطاء تلاحق وسهام اجتمعت فقبضها منه)(1) .
(1) فتوح البلدان لأبي الحسن البلاذري، ص93.
وحكى أيضا عن أبي الحسن المدائني عن عبد الله بن المبارك قال: كان عمر بن الخطاب يكتب أموال عماله إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك وربما أخذه منهم، فكتب إلى عمرو بن العاص: أنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن لك حين وليت مصر، فكتب إليه عمرو: أرضنا أرض مزدرع ومتجر فنحن نصيب فضلا عما نحتاج إليه لنفقتنا، فكتب إليه إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى، وكتابك إلى كتاب من قد أقلقه الأخذ بالحق.. وقد سؤت بنا ظنا، وقد وحهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك فاطلعه طلعة، وأخرج إليه ما يطالبك بها وأعفه من الغلظة عليك فإنه برح الخفاء فقاسمه ماله (1) .
ويؤيد هذا عن عمر ما حكاه ابن كثير في البداية والنهاية أنه تكاثرت أموال خالد بن الوليد وتطاولت ثروته وكان واليا على الصائفة وحمص، حتى أنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة ألاف درهم.. فلما كان ذلك وسمع عمر بن الخطاب بعث إليه أبا عبيدة وأمره أن يقيم خالدا ويكشف عمامته وينزع عنه قلنسوته ويعزله عن عمله.. فلما عاد خالد إلى المدينة أخذ عمر من ماله عشرين ألف درهم لبيت المال وأبقى له الباقي (2) .
ولا شك أن هذه القرينة قوية الدلالة فيما ترمي إليه حتى إن عمر بن الخطاب أعطاها قوة القرينة الشرعية القاطعة التي لا تقبل إثبات ما يناقضها، إذ لم يقبل منهم الدفع بأن هذه الأموال من تجارة أو غير ذلك بل عزل من عزل من الولاة، وصادر الأموال وردها إلى بيت المال.
(1) المصدر السابق نفسه، ص221؛ وقد أورده أيضا صاحب كنز العمال:5/853، حديث رقم:1455.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير:7/80؛ وانظر كذلك نظام الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية لعلي علي منصور، ص258.
التعزير يثبت باقتناع القاضي بالجريمة:
يتضح مما تقدم أن عقوبة التعزير تثبت زيادة على الأدلة المرعية في الإثبات في الفقه الإسلامي، تثبت كذلك القرائن التي تقنع القاضي بدلالتها على الدعوى، فإذا دلت القرائن وقامت الشواهد على المهتم ووصل إلى اعتقاد القاضي أنه قد اقترف الجريمة، لابد له من تعزيره ولا يقف منتظرا إقرارا أو إتمام البينة، وإلا لأفلت المجرمون والمفسدون من العقاب، ولعمت الفوضى واضطرب الأمن، ولتعذر إثبات كثير من الجرائم يعمد المجرمون إليها في حين غفلة وبعيدا عن نظر الشهود.
فإذا كان الشارع في الفقه الإسلامي قد تشدد في إثبات العقوبة المقدرة في الحدود وتشدد في إثبات العقوبة المقدرة في الدماء فإنه قد أفسح المجال في إثبات عقوبة التعزير ليكمل بذلك ما بقي من عقوبات لجرائم لم ينص عليها أو نص عليها ودرئت العقوبة المقدرة لسبب اقتضى ذلك، فخرج بهذا التشريع الجنائي الإسلامي متزنا ومطردا
…
ومتناسقا بالنظر إلى الجريمة والعقوبة وطريقة إثباتها.. نظر إلى جرائم الحدود والدماء وإلى آثارها الخطيرة في المجتمع فعمد إلى بيان عقوباته فشدد فيها ردعا لمقترفيها ثم بين طرق إثباتها حتى لا تكون هناك توسعة في إثباتها.. ثم لما تناقضت هذه الآثار الخطيرة للجريمة ترك أمر تقدير عقوباتها لولاة الأمر حتى يضع العقوبة المناسبة لكل جريمة في كل عصر في كل عصر، ولم يسلك في إثباتها ذلك المسلك الذي سلكه في غيرها حتى لا تضيق مسالك الإثبات فتكثر الجرائم ويتعذر الوصول إلى الجناة.
ثم أننا قدمنا أن التعزير يمكن أن يكون عقوبة للجريمة التي نص الشارع على عقوباتها ولكن درء الحد فيها لعدم كفاية الأدلة التي تثبت الحد ولا شك أن هذا هو الصواب حتى لا تكون هناك جريمة لا عقوبة.
وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام هي أن مجال التعزير مجال رحب لكي نستفيد من التجارب العلمية الحديثة في الوصول إلى الجناة، فقد استحدثت أساليب الكشف الجنائي كثيرا من هذه الوسائل بالطرق العلمية والعملية وجعلت منها قرائن واضحة الدلالة على الجناة كقرينة بصمات الأصابع وقرائن تحليل الدم وغيرها.. نرى أن الفقه الإسلامي لإيمانه في الأخذ بها وسنبين وجهة النظر في ذلك عند المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون، وبعد أن نذكر جانبا من هذه القرائن العملية في فصل القانون.
الفصل الخامس
القرينة في القانون والمقارنة مع الفقه الإسلامي
ويتضمن:
• المبحث الأول: القرينة في القانون الجنائي الوضعي
• المبحث الثاني: مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون
المبحث الأول
القرينة في القانون الجنائي الوضعي
تحتل القرائن في المواد الجنائية مقاما أكثر أهمية منه في المواد المدنية التي أصبح الدليل الكتابي فيها هو الأصل، وفي المقام الأول، وفي حين أن الشهادة والقرائن هي الدليل الاعتيادي في المواد العقابية، ذلك أن طبيعة الجرائم بوصفها أعمالا بشرية مادية تضر بالغير تتنافى مع الحصول معها على الدليل الكتابي إذ لا يتصور أن يعطى من يقع منه أو بسببه عمل مضر بالغير مستندا لمن وقع عليه الضرر، أو بمسؤوليته عنه بعد حصوله، ولذلك لم يبق مناص من إثباتها بالشهادة أو القرائن.
هذا وقد يكون دور القرائن في الإثبات رئيسيا خاصة في الجرائم الغامضة التي تتسم بالسرية مثل جرائم القتل وجرائم الجاسوسية والمؤامرات والخيانة العظمى (1) .
(1) القانون الجنائي، إجراءاته في التشريعين المصري والسوداني، د. محمد محيي الدين عوض، ص526.
طبقا لهذه فقد استقر القضاء على اعتبار القرائن من الأدلة الأصلية في الدعاوى الجنائية، قضت بذلك محكمة النقض المصرية وأجازت للقاضي الاعتماد على القرائن وحدها إن لم يكن هناك دليل آخر.. وهو أيضا ما استقر عليه القضاء في السودان وعملت به محاكم الجنايات حتى التعديل الأخير للقوانين بما يوافق الشريعة الإسلامية (1) ، ومع أن القاعدة الأساسية للإثبات في المواد الجنائية هي حرية القاضي في تكوين عقيدته واقتناعه بالأدلة إلا أن القانون قد يتدخل في بعض الأحيان ويقرر مقدما أن بعض الوقائع تعتبر دائما قرينة على أمور معينة ولا يجوز للقاضي أن يرى غير ذلك، فمتى ما ثبتت تلك الوقائع يجب على القاضي أن يقرر ما قرره القانون، ومن هنا كانت القرائن في المواد الجزائية تنقسم إلى قسمين:
1-
قرائن قانونية.
2-
قرائن إقناعية.
أولا- القرائن القانونية:
وهي القرائن التي نص عليها القانون وأوجب على القاضي العمل بها وهي على نوعين، قرائن قاطعة لا تقبل إثبات عكسها، وقرائن غير قاطعة أو بسيطة يجوز إثبات ما يناقضها.
(1) مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض- الدائرة الجنائية-: 1/83، بند 525-528؛ وانظر قضية حكومة السودان ضد يولى لويا، مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1959م) ، ص69، وقضية حكومة السودان ضد عبد الله محمد، مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1972م) ،ص226.
ومن أمثلة القرائن القانونية القاطعة:
1-
يعتبر عدم بلوغ سن السابعة قرينة على عدم التمييز، وبالتالي قرينة على عدم وجود التصور الإجرامي لدي الصغير، فلا يعد فعله جريمة، وبناء على ذلك ليس للقاضي أن يقدر التمييز من عدمه في المتهم الذي لم يبلغ سن السابعة، حتى ولو كان لديه فعلا نوايا إجرامية في الواقعة المطروحة (1) .
2-
يعتبر علم الشخص بالقانون ولا يجوز له الاعتذار بجهله بعد نشره بالطرق القانونية، فلا يقبل دعواه أنه كان يجهل وجود قانون يعاقب على الفعل الذي وقع منه.
3-
ما نصت عليه المادة (42) من قانون العقوبات السابق من أنه يفترض في الشخص الذي يرتكب الفعل وهو في حالة سكر أن لديه نفس العلم الذي يكون له وهو في غير حالة السكر.
وفحوى هذه المادة هو أن العمل الذي يأتيه السكران أثناء سكره يعد إراديا أي مقترنا بعملية عقلية فلا يقبل منه الدفع بأنه عمل آلي غير واع، وذلك إذا كان السكر باختياره، أما إن كان ناشئا عن تعاطي مادة مسكرة رغم إرادته فلا يعد فعله كذلك.
4-
ومن القرائن القانونية التي لا تقبل إثبات العكس صحة الأحكام النهائية فتعد الأحكام النهائية صحيحة بحيث لا يجوز إثبات خطئها.
(1) د. محمد محيي الدين عوض، القانون الجنائي وإجراءته، ص521، وجعلها القانون السوداني السابعة لسنة (1974م) عشر سنوات بدلا من سبع م49/أ.
ومن أمثلة القرائن القانونية البسيطة:
1-
نصت المادة (30) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على أنه:
(تكون الجريمة متلبسا بها إذا تبع المجني عليه مرتكبها أو تبعه العامة بالصياح إثر وقوعها، أو إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملا آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراقا أو أشياء أخرى يستدل منها أنه فاعل أو شريك فيها، أو إذا وجدت به في ذلك الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك) .
جعلت هذه المادة التلبس على نوعين: تلبس حقيقي وهو رؤية الجاني حال ارتكاب الجريمة بالفعل أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة
…
وتلبس اعتباري وهو مشاهدته عقب ارتكابها بزمن قريب وقد تبعه المجني عليه، أو تبعته العامة بالصياح، أو وجدت منه أشياء يستدل منها أنه مرتكب الجريمة.
ولا شك أن القرائن المذكورة في التلبس الاعتباري قوية الدلالة مما جعل القانون يعطيها حكم التلبس إلا أن هذه القرائن تقبل النقض بالدليل العكسي (1) .
2-
ومن القرائن التي تعد تلبسا بالجريمة ما نصت عليه المادة (276) عقوبات مصري، من اعتبار شريك الزوجة الزانية متلبسا إذا ضبطت مكاتيب أو أوراق أخرى تفيد ذلك أو وجود المتهم في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم، فإذا توفرت هذه القرائن كان شريك الزوجة متلبسا بالجريمة أي يعد مرتكبا للزنا ما لم يبرهن أن وجوده كان لسبب آخر أو يأتي من الدليل ما ينقص هذه النتيجة التي رتبها القانون.
(1) شرح قانون الإجراءات الجنائية، محمد محمود مصطفى، فقرة (177) .
وجدير بالذكر أن القانون سواء أكان المصري أو السوداني السابق يحصر الزنا في حدود ضيقة، فلا زنا إذا كانت المواقعة في امرأة غير متزوجة تبلغ من العمر ثمانية عشر سنة وكانت المواقعة برضاها، ومواقعة المرأة في القانون السوداني الملغي لا تعد زنا إذا رضي بها الزوج أو تغاضى عنها.
ويعلل شراح هذه القوانين بأن هذه الأحكام جاءت لحماية عقد الزوجية من الخيانة إذ أنه رباط مقدس يجب صيانته، ولما يترتب على خيانة الزوجة من إلحاق نسب أولاد غير شرعيين للزوج، ولذا كان الإثبات بالنسبة لشريك الزوجة يختلف عن إثبات الزنا عموما (1) .
3-
الصغير الذي تتراوح سنه بين سبع واثنتي عشر سنة فإن هناك قرينة قانونية على أنه ليست لديه نوايا إجرامية لعدم معرفته كنه أفعاله ونتائجها، ولكن هذه القرينة قابلة لإثبات العكس، فإذا ثبت فعلا أنه يعلم كنه فعله محيطا بالواقعة كما نص عليها القانون، فإن للقاضي أن يدينه في الجريمة وتوقيع العقوبة التأديبية عليه (2) .
4-
ومن القرائن القانونية غير القاطعة في قانون العقوبات السوداني الملغى قرينة توفر القصد الجنائي في المواد التالية: (م22) إذا جعل شخص شيئا شبه شيئا آخر، وكانت هذه المشابهة بحيث تخدع الغير فيفترض- إلى أن يثبت العكس – أن ذلك الشخص قصد من المشابهة خدع الغير
…
و (م418) أن كل من يستعمل علامة ملكية كاذبة يفترض أنه فعل ذلك بقصد الغش والإضرار إلى أن يثبت العكس
…
و (م422) فيمن وضع علامة كاذبة على صندوق أو طرد يوهم بأنه يحتوي على بضائع معينة، وكذلك (م362) الخاصة بتزييف الوصف.
(1) المصدر السابق، فقرة (177) وما بعدها أصول العقوبات، أحمد فتحي سرور، ص322؛ قانون العقوبات السوداني معلقا عليه د. محمد محيي الدين عوض، ص593.
(2)
العقوبات التأديبية كالإرسال للإصلاحية أو التسليم للوالدين وغيرها.
هذه القرائن جميعها قرائن قانونية متعلقة بالقصد الجنائي، وتنقل عبء الإثبات عدم وجوده على المتهم لأن القاعدة في القانون الإنجليزي الذي أخذ منه القانون السوداني السابق هي افتراض أن الشخص يقصد إلى وقوع نتائج فعله الطبيعة والمرجحة.
وقد سلك القانون المصري هذا المسلك في جريمة القذف (م203) عقوبات وافترض وجود القصد الجنائي عند القائل لعبارة القذف، ولابد لتبرئته من إثبات حسن النية أو صحة الوقائع الواردة في عبارة القذف، وكذلك المادة (63) وفحواها اعتبار القصد الجنائي لدى الموظف العام عند وقوع الفعل المخالف للقانون فيما يتعلق بعمله إلا إذا ثبت عكس ذلك، وأيضا (م195) التي تقرر مسؤولية رئيس تحرير الجريدة مفترضا توافر القصد الجنائي لديه فيما ينشر فيها إذا جاء مخالفا للقانون.
وهذه الافتراضات في القانون المصري جاءت استثناء من القواعد العامة التي تقضي بأن على الادعاء إثبات القصد الجنائي حيث يجب على المحكمة استظهار حقيقة القصد ولا تقول به لمجرد ثبوت الواقعة (1) .
(1) د. محمد محمود مصطفى، الإثبات في المواد الجنائية فقرة (53) ، قانون العقوبات معلقات عليه بالأحكام والمذكرات الإيضاحية، د. حسن صادق المرصفاوي شرح المادة (302) .
قرينة البراءة ومدى موافقتها للقول بأن الشخص يقصد النتائج الطبيعية لنشاطه:
المقصود بقرينة البراءة هو أن الأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت إدانته بحكم بات
…
وأهم نتائج هذا القول هو وقوع عبء الإثبات على سلطة الاتهام ومعاملة المتهم على أنه برئ في المراحل التي تمر بها التهمة، وإذا حكم بإدانته فيجب أن يبنى الحكم على الجزم واليقين، وبالتالي يفسر الشك لصالح المتهم (1) .
فإلى أي مدى يتفق هذا القول وما ذهب إليه القانون السوداني السابق المستمد من القانون الإنجليزي من أن الشخص البالغ العاقل يقصد النتيجة الطبيعية والمرجحة لنشاطه؟ فاعتبر بذلك وقوع النشاط الإجرامي قرينة على توافر القصد الجنائي كما عده كذلك القانون المصري في بعض المواد وجعله استثناء من القاعدة العامة.
يرى بعض القانونيين أن الأخذ بقاعدة افتراض وجود القصد الجنائي وغيرها قرينة عامة أو قرينة في بعض الجرائم فيه خرق لقاعدة: أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، كما أن فيه خرقا لقاعدة أخرى هي أن: على المدعي أن يثبت الجريمة في حق المتهم تطبيقا لمبدأ البينة على المدعي (2) .
(1) نص على ذلك الدستور المصري الصادر في سنة (1971م) في المادة (67) كما نص عليه الدستور السوداني الصادر سنة (1973م) في المادة (69)، ونص المادة (67) دستور مصري:(المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه) ونص المادة (69) دستور سوداني: (أي شخص يلقى القبض عليه متهما في جريمة يجب الافتراض إدانته، ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه بل المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته دون ما شك معقول) .
(2)
الإثبات بين الازدواج والوحدة في التشريعين الجنائي والمدني في السودان، د. محمد محيي الدين عوض، ص33.
إلا أن شراح القانون يرون أنه لا تناقض بين هذا القول وقرينة البراءة.. والمقصود هو نقل عبء الإثبات في بعض مراحل المحاكمة من الادعاء إلى المتهم لإثبات براءته، لأنه قد ثبت أن فعل المتهم الإرادي هو الذي تسبب في إدانته ومع ذلك فإن للمتهم أن يدحض هذا الدليل كلية فيثبت براءته، أو أن يبين أن القتل لم يحصل عمدا، وإنما حصل الخطأ، أو لسبب عارض، أو دفاعا عن النفس أو غير ذلك من الظروف التي تجعله غير متعمد، كما أن للمتهم أن يدخل الشك علي دليل إدانته بما يبديه من دفاع وحجج، ومتى ما نجح في إلقاء ظلال من الشك على أدلة الادعاء، فيكون من حقه البراءة لأنها الأصل (1) .
فإذا قدم الاتهام أدلته التي يرى أنها تدين المتهم وتجرم فعله، وأن هذه الدلائل مسندة إلى المتهم، وهذا ما تقرره قرينة البراءة انتقل عبء دحض هذه الأدلة إلى المتهم، وبنجاحه في ذلك تثبت براءته، لا تعارض إذن بين قرينة البراءة وقاعدة أن الإنسان يقصد النتائج الطبيعية والمرجحة لفعله، فكل من قام بفعل ينبغي أن يفترض أنه قصد إتيان هذا الفعل، ويقع عليه عبء إثبات عدم القصد.
(1) د. محمد محيي الدين عوض، القانون الجنائي- إجراءته في التشريعين المصري والسوداني، ص525، وله أيضا القانون الجنائي مبادئه الأساسية، ص618، وله أيضا الإثبات بين الأزواج والوحدة، ص33.
ثانيا: القرائن الإقناعية:
القرائن الإقناعية هي الظروف والملابسات التي تكشف الواقعة، والتي يستنتج منها القاضي ما يطابق عقله ويرتاح إليه ضميره، وتسمى أيضا بالقرائن الموضوعية، وقد ذكرنا أن القاعدة في الإثبات في المواد الجزائية هي حرية القاضي في تكوين اقتناعه وما يشترط في الإثبات بالقرائن الإقناعية هو أن يكون ما بنى عليه الحكم يؤدي عقلا إلى صحة ما انتهى إليه القاضي، وأن يكون القاضي قد ألم به إلماما شاملا يهيئ له أن يمنحه التمحيص الكافي، الذي يدل على أنه قام بما ينبغي عليه من تدقيق البحث لمعرفة الحقيقة كما يشترط أن يكون لهذا الدليل أصل في أوراق الدعوى (1) .
(1) أصول الإجراءات الجزائية. د. حسن المرصفاوي، فقرة (286) ، قانون الإجراءات الجنائية، د. عمر السعيد رمضان، فقرة (284) .
ومن أمثلة القرائن الإقناعية:
بضبط ورقة مع المتهم بها رائحة الأفيون كقرينة على ارتكابه لجريمة إحراز مخدر (1) ، أو مشاهدة عدة أشخاص يسيرون في الطريق مع من يحمل المسروقات ودخولهم معه في منزله واختفاؤهم فيه كقرينة على اشتراكهم في جريمة السرقة (2) ، أو وجود بصمة أصبع المتهم أو آثار قدميه في مكان الجريمة كقرينة على مساهمته فيها (3) ، أو العثور عند تفتيشه على ذخيرة أو سلاح ناري من النوع الذي استخدم في جريمة القتل، أو ظهور علامات الثراء عليه كقرينة على اختلاسه المال، أو تعدد سوابقه في نوع معين من الجرائم كقرينة تكميلية على ارتكاب الجريمة الجديدة (4) .
والقرائن الإقناعية كثيرة لا تدخل تحت حصر وليس فيها شيء يمكن عده قاطعا، ومن تطبيقات الحكم بالقرائن في القضاء السوداني ما قضت به المحكمة في قضية حكومة السودان ضد (توماس باركر نيكول) ، التي تتلخص وقائعها في أن المتهم والمجني عليه وزوجة المجني عليه من الرعايا الأجانب المقيمين بالسودان، وكان للمتهم علاقة عاطفية بزوجة المجني عليه التي كانت تستعد للسفر مع زوجها لمغادرة السودان.
(1) نقض مصري (8) فبراير (1943م) .، مجموعة القواعد القانونية:(6/148) رقم (103) .
(2)
نقض مصري (19) مارس (1945م) ، مجموعة القواعد القانونية (6/665) رقم (527) .
(3)
نقض مصري (12) يونيو (1939م) ، المجموعة الرسمية سنة (1941م) رقم (75) ، ص 195.
(4)
نقض مصري (23) أبريل (1972م) ، مجموعة أحكام النقض رقم (133) ص569، س23.
توصلت المحكمة إلى أن المتهم أراد أن يعطل السفر بغية استمرار تلك العلاقة مع زوجة المجني عليه فقام بإرسال طرد وقد وضع بداخله مادة مفرقعة، فانفجرت المادة عند فتحها مما أدى إلى إصابة المجني عليه بجروح شديدة، وأهم القرائن التي بنت عليها المحكمة حكمها بإدانة المتهم ما يلي:
1-
خبرة المتهم ومعرفته بعمل المفرقعات.
2-
معرفة المتهم للطباعة على الآلة الكاتبة وقد كان الرد مكتوبا بالآلة الكاتبة.
3-
وجد مع المتهم ظرفان من نوع الظرف الذي وجد بداخله الطرد.
4-
وجد مع المتهم ورقة طباعة وورق إلصاق وسلك نحاس وسلك حديدي أثبت التحليل أنها من النوع المستخدم في الطرد والمفرقع.
5-
وجد بحيازة المتهم عيارات نارية أثبت التحليل أن المفرقع كان يحتوي على نوعها.
6-
شهادة الخادمة على أن العلاقة بين المتهم وزوج المجني عليه كانت أكثر من علاقة عادية أو صداقة (1) .
(1) مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1961م) ، ص59.
ومن القضايا التي اعتمدت عليها محكمة الجنايات على القرائن في إدانتها للمتهم قضية حكومة السودان ضد (عبد الرحيم شرف الدين عبد الله)، والتي حكمت فيها على المتهم بالقتل تحت المادة (251) عقوبات سوداني (السابق) مؤسسة الحكم على القرائن الآتية:
1-
اعتراف المتهم بأن القميص الذي وجد المجني عليه ممسكا به هو قميصه وكان يرتديه يوم الحادث.
2-
أثبت التحليل المعملي أن بالقميص دم آدمي مما يدل على أن القميص تلطخ بدم القتيل أثناء المشاجرة بينهما.
3-
تعرف الكلب البوليسي على المتهم دون تردد أو جهد (1) .
بعض القرائن التي استحدثتها العلوم الحديثة:
أدخل العلم الحديث- في سبيل مكافحته للجريمة صورا من القرائن خاصة في مجال الإثبات في المواد العقابية، ولقد علق القضاء عليها أهمية كبيرة في حصر التهمة والتوصل إلى الجاني ونذكر من هذه القرائن العلمية:
(1) مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1967م) ، ص76؛ وانظر مجلة الاحكام القضائية السودانية (1972م) ، ص227، قضية السودان ضد يوسف عبد الله محمد، حيث رأت المحكمة أن بكاء الطفل وشكواه الصارخة لخالته ثم لوالدته فور مقابلتها له أن المتهم اعتدى على شرفه، وشهادة الطبيب بوجود جروح بشرج المجني عليه يوم الحادث، فكل هذه قرائن يستخلص منها استخلاصا سائغا إدانه المتهم وارتكابه للجريمة.
1-
بصمات الأصابع:
من الحقائق الثابتة أن شكل بصمة أي أصبع من أصابع الإنسان لا يتغير رسمها على الإطلاق ومدى الحياة، فقد يتغير حجم البصمة بنمو الجسم، ولكن شكل خطوطها ورسمها وما بها من مميزات يبقى ثابتا، كما أنه قد ثبت أنه لا يوجد بين ملايين البشر شخصان تتماثل بصمات أصابعهما، وهذه هي الحقيقة التي تضفي على البصمات أهميتها.
هذه الخطوط البارزة تكون دائما في حالة رطوبة لما تفرزه غدد العرق المنتشرة بسطحها من مواد دهنية تحوي الماء وبعض الأملاح، فإذا ما وضع الإنسان يداه أو أصبعه على جسم آخر فإن أثره ما بالخطوط من إفرازات يبقى على سطح هذا الجسم متخذا شكل الخطوط بالتحديد فيقوم المعمل الجنائي برفع هذه البصمات ومضاهاتها مع بصمات أصابع المتهم.
وقد عمل القضاء على اعتبار أثر البصمة في مكان الجريمة قرينة على مساهمة الشخص في الجريمة، فلا تثريب على القاضي إن هو اعتبر البصمة دليلا لإدانة المتهم وذلك إذا لم يستطع تفسير وجود بصمته في مكان الجريمة تفسيرا معقولا يقتنع القاضي باستبعاده كدليل (1) .
وبالرغم من أن القاضي في المواد الجنائية له الحرية الكافية في تكوين قناعته إلا أن محكمة الاستئناف في السودان قد قضت بأن اعتبار البصمة وحدها في إدانة المتهم من غير وجود أدلة أخرى تعضدها لا يجوز وقد ذكرت المحكمة في قضية حكومة السودان ضد (فخري فتحي) تعليلا لهذا القول: إن المحكمة لا تنكر أهمية البصمة وموافقتها لبصمة المتهم، ولكن الشك يدور حول ما إذا كان المتهم هو الذي قام بكسر المنزل، وقام بارتكاب جريمة السرقة، فهذه أشياء تحتاج إلى دليل آخر (2) .
(1) التحقيق والبحث الجنائي، عبد الكريم درويش، ص184؛ مبادئ الإجراءات الجنائية، رؤوف عبيد، ص61.
(2)
مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1967م) ، ص108.
2-
التحليل المعملي:
يكاد إجماع القانونيين ينعقد على مشروعية الإجراءات المعملية، مثل تعرف نتائج تحليل الدم والبول والمني والشعر والأتربة والسموم، وكذلك الكشف على جسم الإنسان وما به من حروق وما عليه من آثار أو تورم أو جروح، وكذلك فحص الأسلحة النارية والمقذوفات والملابس وفحص المعادن الثمينة وغيرها، وكذلك فحص لوحات السيارات وأرقامها والعدد المزورة والمطموسة والأجهزة وغيرها.
وترجع أهمية هذه التحاليل إلى أن نتائجها صحيحة ومؤكدة طبقا للأساليب العلمية الحديثة، وقد أظهرت فوائد عظيمة وقدمت خدمات جليلة في مجال الإثبات الجنائي، ومن ثم كان القول بأن اللجوء إليها نوع من التعدي على الحرية الفردية ضعيفا أمام هذه المصلحة الجماعية (1) .
3-
تعرف الكلب البوليسي:
لقد دلت التجارب على أن الكلب يمكن أن يتعرف على الجاني وذلك بما لديه من حاسة شم قوية، وقد تزداد مهارة الكلب وخبرته بتدريبه والعناية به، ولقد درجت الشرطة على أخذ الكلب البوليسي إلى محل الجريمة ويدعوه يشم أثر من آثارها، كقميص المتهم أو أثره على الأرض، ثم يؤخذ إلى طابور يضم المتهم وغيره من الناس الذين لا صلة لهم بالجريمة فيتعرف على المتهم من بينهم.
والثابت أنه متى ما كان الكلب قوي حاسة الشم، على جانب من الذكاء مدربا تدريبا حسنا، كانت نتائجه أفضل، كما أن لاعتدال الجو وعدم الضباب وعدم اختلاط محل الجريمة بغيره أثر في نتيجته، وتكون النتيجة أفضل أيضا إذا كانت القطعة التي أعطيت أكثر التصاقا بجسم صاحب الأثر (2) .
وقد قضت محكمة النقض المصرية أن لمحكمة الموضوع الحرية في تقدير تعرف الكلب والاستدلال به على ارتكاب المتهمين للجريمة (3) ، ولكن لا يؤخذ بها إلا كقرينة معززة للأدلة القائمة في الدعوى (4) .
وهذا القول هو ما عنته محكمة الاستئناف السودانية في قضية حكومة السودان ضد عبد الرحيم شرف الدين بقولها: (وإن قرينة تعرف الكلب البوليسي ليست وحدها دليلا قاطعا يعتمد عليه، ولكن للقاضي أن يأخذ بها كجزء من الأدلة يعزز بها قرائن أخرى للتوصل إلى الجاني وفي تضييق دائرة الاتهام)(5) .
(1) المرصفاوي في المحقق الجنائي، ص56؛ نظرية الإثبات حسين المؤمن:(4/63) .
(2)
حسين المؤمن، نظرية الإثبات:(4/64) .
(3)
مجموعة القواعد القانونية (23/6/1953) بند (532) طعن رقم (836) .
(4)
مجموعة القواعد القانونية (29/3/194) بند (233) ؛ وانظر قضاء محكمة النقض (13/12/ 1967م) رقم (538) .
(5)
مجلة الأحكام القضائية السودانية (1967) ، ص76.
4-
التسجيل الصوتي:
تناولت الحلقات الدراسية التي عقدتها هيئة الأمم المتحدة مسألة الاعتماد على التسجيل الصوتي عن طريق المكالمات التليفونية أو بواسطة المسجلات الصغيرة المخفاة أو الأجهزة الحديثة، وقد كان رأي الباحثين ينتهي في كل مرة إلى عدم اللجوء إلى مثل هذه الوسيلة لما يؤديه من فقدان الثقة في الأعمال التليفونية مع أهميتها في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولما فيه من الاعتداء على الحرية الفردية والمساس بحياة الإنسان الخاصة.
غير أن الأعضاء قد أقروا بوجود أحوال يستعان فيها بهذه الوسيلة لمصلحة المجتمع، إذ كثيرا ما يسهل الاتصال التليفوني في الإعداد لارتكاب الجرائم وأن حرمان الشرطة من استخدام هذه الوسيلة يسفر عن الحرمان عن فائدتها.
وقد ثار نقاش بعد هذا حول ما إذا كان يمكن الاعتماد على التسجيل الصوتي في الدعوى، فرأى البعض إمكان قبولها إلا إذا قررت المحكمة عدم مشروعيتها أو عدم فائدتها، بينما منع البعض الآخر قبولها مطلقا لسهولة تزويرها ولعدم مشروعيتها.
ويرى بعض شراح القانون المصري إمكان أخذها بشروط خلاصتها:
أ - ينبغي ألا يباشر هذا الإجراء إلا في مواجهة متهم معين فلا يتخذ في مواجهة الغير، فليس من المعقول أن تنتهك حياة الإنسان الخاصة لمجرد وجوده على علاقة بالمتهم.
ب- ألا يأمر بهذا الإجراء إلا السلطات القضائية دون سلطات الضبط مع جواز الطعن فيه (1) .
جـ- لا ينبغي أن يتخذ هذا الإجراء إلا بالنسبة للجرائم الخطيرة التي ينبغي تحديدها سلفا، غير أن الأغلب من شراح القانون المصري يمانعون في الأخذ بهذه الوسيلة لمساسها بالحرية الفردية ولسهولة تزويرها (2) .
هذه خلاصة موجزة لدورة القرائن في الإثبات في القانون الجنائي الوضعي وقد رأينا أنها تعد دليلا أصليا إذ لا عتب على القاضي إن هو بنى حكمه على القرائن ما دام استدلاله بها مقبولا عقلا، كما أن القانون قد تدخل في بعض القرائن ونص عليها وأوجب للقاضي الحكم بمقتضاها.
(1) المرصفاوي في المحقق الجنائي، ص75.
(2)
نظرية الإثبات، حسين المؤمن:(4/94) ؛ والمرصفاوي في المحقق الجنائي، ص75.
المبحث الثاني
مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون
بعد هذا العرض لأثر القرينة الجنائية في كل من الفقه الإسلامي والقانون نلاحظ أن القانون قد جعل القرينة من الأدلة الأصلية في الدعوى الجنائية وجعل للقاضي مطلق الحرية في تكوين اقتناعه، ولا جناح عليه إذا بنى حكمه على مجرد القرائن مهما كان نوع الجريمة. بينما نجد الأمر في الفقه الإسلامي يختلف عن ذلك. فقد قسم الفقه الإسلامي الجرائم إلى طوائف ثلاثة:
الأولى- جرائم الحدود:
وهذه قيد الإثبات فيها وجعله محدودا في طريق معينة وليست القرائن من بينها ولا تصلح دليلا لإثباتها في الأعم الأغلب وعند الجمهور، ثم إن من أجاز الإثبات بها لم يقل بمطلق القرائن، إنما قيده بقرائن معينة ترى فيها وضوح الدلالة على الجريمة ولم يقل إن الأمر متروك لاقتناع القاضي.
الثانية- جرائم القصاص:
وهذه أيضا لم يترك الفقهاء الأمر فيها لاقتناع القاضي كما فعل القانونيين، إنما عولوا فيها على طرق معينة، والقرائن المجردة ليست من بين هذه الطرق إلا عند قليل من الفقهاء وهؤلاء جعلوا القرينة في المرتبة الثالثة في ترتيب أدلة إثبات جرائم القصاص. غير أن القرينة تصلح لإثبات القصاص عند مجموع الفقهاء إذا عضدتها أيمان القسامة، وهذا طريق من طرق إثبات الدماء ينفرد الفقه الإسلامي به.
الثالثة- وهي الجرائم التي تكون عقوبتها التعزير:
وهذه يمكن القول فيها إنها متروكة لاقتناع القاضي، ولو تولد هذا الاقتناع من دلالة القرائن.
وقد تقدم أن كثيرا من الفقهاء رأى أن على القاضي أن يسعى للتوصل إلى إقرار المتهم أو تقديم البينة عليه، ولكن إذا تعذر وكانت القرائن ظاهرة الدلالة قضى بموجبها، وأوقع على الجاني عقوبة التعزير، والفقه الإسلامي إن كان قد تشدد في إثبات جرائم الحدود والقصاص إلا أنه قد جعل في إثبات الجرائم التعزيرية متسعا حتى لا تكون هناك جريمة بلا عقوبة، خصوصا وأن جرائم الحدود والقصاص قليلة ومحصورة، ثم إن الشك إذا سرى ودرئ الحد أو القصاص فإنه لا يمنع من إبداله بالعقوبة التعزيرية.
الفقه الإسلامي يقرر قرينة البراءة ونتائجها:
نلاحظ كذلك سبق الفقه الإسلامي إلى تقرير قرينة البراءة وذلك بالقاعدة المعروفة (الأصل في الإنسان البراءة) والتي تعني كما نصت القوانين أخيرا أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته بحكم بات (أو دونما شك معقول) .
كما سبق الفقه الإسلامي إلى تقرير أهم نتائج قرينة البراءة بقاعدة (درء الحدود بالشبهات) . والتي تقضي بأن الحكم الجنائي يجب أن يبنى على الجزم واليقين لا على الاحتمالات والشكوك وبالتالي يفسر الشك لصالح المتهم.
غير أن التزام الفقهاء بهذه القاعدة أعني قاعدة درء الحدود بالشبهات - جعل الجمهور من الفقهاء يتوقف عن الاعتداد بالقرائن وإن كانت ظاهرة واضحة وظل التزام القاعدة عندهم متمسكا به في جميع مراحل المحاكمة وهو ما رأينا العدول عنه بحيث ينتقل عبء الإثبات في بعض مراحله إلى المتهم لينفي الدلائل الواضحة والقرائن الجلية التي تدينه، فإذا استطاع أن يشكك القاضي وينجح في دحض دلالة القرائن برئ، وهذا ما قال به القانونيون في الدعوى الجنائية عندما تشير أصابع الاتهام إلى المتهم.
ولعل ما ذهب إليه الفقه الإنجليزي من افتراض توفر القصد الجنائي إذا وقع النشاط الإجرامي بناء على أن العاقل يقصد نتائج عمل هذا القول في نظري مشابه لحد كبير رأي الإمام مالك الذي يقول إن وقوع العدوان يعتبر قرينة على القصد، فيثبت القصاص على القاتل بعدوانه ولا يتوقف على إثبات القصد الجنائي كما فعل القانون المصري.
القرائن في جريمة الزنا:
بينا أن الفقه الإسلامي قسم الجرائم بالنسبة إلى عقوبتها إلى جرائم حدود، وتعزير، نظرا إلى خطورة الجريمة وأثرها في المجتمع، والقانون بالرغم من أنه فرق الجرائم بالنسبة للعقوبة أيضا وجعلها جنايات وجنحا ومخالفات، إلا أن المعايير التي وضعها أساسا لهذه التفرقة تختلف عما كان عليه الفقه الإسلامي، ومن ثم يتقرر لنا موقف القانون بالنسبة للجرائم التي تمس العرض والاعتبار كجريمة الزنا.. فبينما تحرم الشريعة الإسلامية المواقعة في غير ما أحل الله تعالى والزنا بجميع صوره نجد أن القانون لا ينظر إلى الزنا إلا من حيث أنه تدنيس لفراش الزوجية وخيانة لعقدها، وغير ذلك لا يعده القانون زنا ولا يعاقب عليه.. فغير المتزوج لا يؤخذ بزناه في القانون إلا إذا كان شريكا لمتزوجة، وفي هذه الحالة لا يعاقب على أنه زان بل باعتباره شريكاً لمتزوجة، وأكثر من ذلك لا يعاقب على ذلك أيضا في القانون الوضعي متى كان الزوج راضيا بهذه المواقعة أو متغاضيا عنها (1) .
ولا شك أن هذه الأحكام تخالف أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه مهما قيل في نصوص القانون من أنها مجموعة من قواعد الآداب والأخلاق فلا جدال في أنها تضمنت نصوصا تخالف الآداب والأخلاق منها ما تقدم ومنها حلية المواقعة بعد سن معينة مع الرضا ومنها ما لا يسع البحث لذكره. بينما لا نجد في الشريعة الإسلامية نصا واحدا يخالف الأخلاق والآداب والفضيلة، بل إن الشريعة الإسلامية هي مصدر الأخلاق والفضيلة لأنها جاءت متممة لمكارمها ولأنها تشريع من لدن حكيم خبير، وإنه لأمر مؤسف حقا أن ينقل فقهاء القوانين عندنا بلا روية ولا نظر هذه الأحكام كما جاءت عند أهلها من الفرنس والإنجليز مع ما تخالف به أحكام ديننا وشريعتنا وتنبذها أعرافنا وتقاليدنا.
(1) وفي القانون المصري إذا لم يقدم الزوج الشكوى أو تنازل عنها أو طلب عدم الاستمرار في التحقيق أو المحاكمة يترتب على ذلك انقضاء الدعوى.. انظر مادة (260) إجراءات جنائية مصر وانظر أحمد فتحي سرور، أصول قانون العقوبات، القسم العام، ص322- 323.
ولما اختلفت نظرة القانون لهذه الجريمة التي تعد من جرائم الحدود في الشريعة الإسلامية، اختلفت العقوبة المقدرة لها فلم تبلغ ما بلغته من شدة في الشريعة الإسلامية كما اختلفت كذلك طرق إثباتها بين التشريعيين، فبينما نجد الفقه الإسلامي قد تشدد في إثباتها ومع هذا التشدد يسوى بين المتهمين فيها، متزوجا أو غير متزوج رجلا كان أو امرأة، شريكا أو غير شريك، نجد القانون قد اضطرب الأمر فيه وفرق في الإثبات تفرقة غير مفهومة. فهو يجعل الزنا خاضعا لقواعد الإثبات العامة في الفقه الجنائي يتمتع القاضي فيه بحرية كاملة في تكوين عقيدته، لا قيود عليه في الاقتناع بأي دليل يعرض عليه في الدعوى، شهادة شهود أو قرينة أو غيرها. ولكنه قيد الإثبات بالنسبة لشريك الزوجة الزانية كما نصت عليه المادة (276) عقوبات مصري بطرق ذكرتها على سبيل الحصر بحجة حماية الأعراض من التشهير بها والنيل منها بكذب الشهود أو اختلاف الحوادث أو إثبات الزنا بالقرائن التي كثيرا ما تخالف الواقع أو تحوطها الاحتمالات.
ولا شك أن هذه التفرقة لا مبرر لها وقد انتقدها كثير من القانونيين (1) .
وقد رأينا أن الفقه الإسلامي قد وحد في طرق الإثبات بالنسبة للجميع في جريمة الزنا، كما أنه لم يترك إثباتها لاقتناع القاضي، وأن القرائن لا تصلح بصفة عام لإثبات الزنا. حتى إن من قال بها ذكر قرينة واحدة وهي قرينة الحمل لأن الحمل عادة يكون نتيجة للمواقعة، فإذا ظهر في امرأة متحررة من قيود الزوجية أو الملك كان هذا قرينة على زناها، ومع ذلك فإن جمهور الفقهاء لم يقل بهذه القرينة، لا إنكارا في هذه النتيجة إنما لما يكتنفها من شبهة وقد ذكرنا هذه الشبهات مع ذلك وبالرغم من درء الحد فإن هذه القرينة تكون موجبا للعقوبة بالتعزير.
ثم إن القرائن التي ذكرتها المادة (276) عقوبات مصري وجعلتها في حكم التلبس بالجريمة إن لم يثبت بها الحد في الفقه الإسلامي، فإن ما ثبت بها أعمال مخلة بالآداب ومخالفة للمروءة يستحق فاعلها العقوبة التعزيرية.
(1) الدكتور محمود محمود مصطفى، الإثبات في المواد الجنائية، فقرة (76) ، ص94؛ أحمد فتحي بهنسي، الجرائم في الفقه الإسلامي، ص146.
تقسيم القرائن:
قسم فقهاء القانون القرائن في المواد الجنائية إلى قرائن قانونية وقرائن إقناعية، أما الفقه الإسلامي، وإن لم يذكر فيه هذا التقسيم، إلا أن ما ذكره الفقهاء يسع هذا القول ونمثل له بما يلي:
1-
الصغير الذي لم يبلغ السابعة من عمره لا يسئل جنائيا في الفقه الإسلامي، لأن الصغر قرينة على عدم توفر القصد الجنائي وذلك لعدم التمييز، فقد اعتبر الفقهاء بلوغ سن السابعة شرطا للتمييز، فإذا ارتكب الصغير أية جريمة قبل بلوغه سن السابعة لا يسأل جنائيا عنها، فلا يقام عليه حد ولا قصاص ولا تعزير. غير أن الفقه الإسلامي بتقريره قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أسس أحكاما من نتائجها أن الصغير وإن لم يسأل جنائيا إلا أنه مسؤول مدنيا عن الأضرار التي يحدثها لأن القاعدة في الشريعة الإسلامية أن الدماء والأموال معصومة شرعا، فالأعذار الشرعية لا تنافي العصمة أي لا تهدر الضمان ولو سقطت العقوبة، فيقوم ولي الصغير بأداء الضمان من مال الصغير، أما إذا بلغ الصغير مميزا ولم يصل إلى سن البلوغ فإن الفقهاء قالوا: إنه لا يوقع عليه عقوبات جنائية وإنما يسئل مسؤولية تأديبية فلا يقام عليه حد ولا قصاص ولا يعزر إلا بما يعتبر تأديبا كالضرب والتوبيخ (1) . مع اختلاف بينهم في سن البلوغ، منهم من قال خمسة عشر كالإمام الشافعي ومنهم من قال ثمانية عشر، وبعض أصحاب أبي حنيفة يقولون إنها تسعة عشر عاما (2) .
(1) المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي لأحمد فتحي بهنسي، ص223 وما بعدها. من الفقه الجنائي المقارن للمستشار أحمد موافي، ص179.
(2)
الأم للإمام الشافعي: 3/191؛ والمسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي لأحمد بهنسي؛ ص223 وما بعدها.
ويتضح من هذا القول أن القوانين الحديثة أخذت فكرة المسؤولية التأديبية من الشريعة الإسلامية.
2-
قرينة استعمال الآلات القاتلة في جريمة القتل تدل على توفر القصد الجنائي وقد مر أن الأئمة أبا حنيفة والشافعي وأحمد يقولون إن القاتل إذا استعمل في جريمته ما يقتل غالبا كان هذا قرينة على وجود نية القتل عنده. وهذا يؤخذ بجريمة القتل العمد. أما إذا لم يستخدم من الآلات ما يقتل غالبا بالرغم من ذلك مات المجني عليه. كما إذا استخدم سوطا أو عصا خفيفة أو اللطمة أو اللكزة فإنه يسري الشك في قصده القتل وتثور الشبهة هل أراد الجاني إزهاق روح المجني عليه أم لا؟ وإذا قامت الشبهة درئ القصاص وكان قتلا شبيها بالعمد وليس قتلا عمدا.
أما الإمام مالك فيرى أن وقوع العدوان قرينة على القصد لأن القصد أمر خفي لا يمكن الإطلاع عليه فإذا وقع العمل الإجرامي وكانت نتيجته أن قتل المجني عليه أخذ به واقتص منه.
وقد ذكرنا اتفاق القانون الإنجليزي مع ما ذهب إليه الإمام مالك أما القانون المصري فإن القاعدة العامة أنه لا بد من إثبات القصد الجنائي فلا يعد وقوع النشاط الإجرامي قرينة على وجود القصد بل يجب على المحكمة أن تتحقق من توفر القصد الجنائي ولكنه يتفق مع ما ذهب إليه الإمام مالك من عدم اشتراط الوسيلة المستخدمة في القتل كقرينة على وجود القصد الجنائي، فلا يهم أن تكون الأداة المستخدمة في القتل قاتلة أم غير قاتلة مادامت المحكمة قد تحققت من وجود نية القتل عند الجاني.
3-
يفترض العلم بأحكام الشريعة ولا يقبل الاعتذار بالجهل بها ولا يعد الجهل عذرا مسوغا لمخالفتها مادام الشخص مقيما في دار الإسلام، وإقامة الشخص في دار الإسلام يعد قرينة على علمه بالأحكام الشرعية ولهذا لا يقبل قول الحربي إذا أسلم في دار الإسلام وارتكب ما يوجب الحد وادعى الجهل، غير أنهم استثنوا من هذه القاعدة استثناءات يعذر فيها من يجهل الأحكام وهي:
أولا: إذا كان إمكان العلم راجعا إلى طبيعة الحكم نفسه كأن يكون من الفروع التي لا يعرفها إلا الخاصة.
ثانيا: إذا كان عدم إمكان العلم راجعا إلى البيئة التي يعيش فيها كأن كمن عاش في شاهق أو بين قوم جهال مثله (1) .
القرائن الإقناعية:
وهذه لا تقع تحت حصر لأنها تختلف من دعوى لأخرى، وقد وردت لها أمثلة كثيرة في كل من الفقه الإسلامي والقانون، نذكر من ذلك:
1-
قرينة تعدد السوابق بالنسبة للمتهم جعلها القانون قرينة تكميلية لا جناح على القاضي إن هو عدها في إثبات التهمة على المتهم، وفي الفقه الإسلامي إذا كان المتهم من أرباب السوابق يحبس ويمتحنه القاضي بالضرب ليتوصل منه القاضي إلى إقرار بالحق أو الجناية لينبني الحكم على الاعتراف وكانت القرائن تدل على أنه ارتكب الجريمة قضى عليه القاضي بموجب القرائن الدالة على جريمته، ويعاقبه القاضي بما يناسب الجريمة.
2-
قرينة ظهور الثراء عند الموظف العام أو الثراء المفاجئ ودلالتها على اختلاسه للمال أو الكسب غير المشروع، وقد تقدم أن الخليفة الفذ عمر بن الخطاب أول من سبق إلى إصدار مثل هذا القانون ورأينا كيف حاسب عماله وولاته عليه وصادر من أموالهم تقريرا لهذا المبدأ.
3-
قرينة وجود المال المسروق عند المتهم أو رؤيته وهو يسير مع السراق ودلالة ذلك على مساهمته في السرقة. وقد نص على ذلك الفقهاء أيضا لا سيما ابن قيم الجوزية وصاحب عدة أرباب الفتوى وابن فرحون وغيرهم واتفقوا على عقوبته لدلالة القرينة عليه بل وإن ابن القيم قال لابد أن يقيم عليه الحد.
أما القرائن التي استحدثتها الأساليب العلمية الحديثة لكشف الجريمة فهذا ما نحاول الآن إبراز وجهة نظر الفقه الإسلامي فيه.
(1) انظر أصول البردوي وكشف الأسرار: (4/345) ؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين: (3/196) ؛ القواعد لابن رجب، ص371.
وجهة نظر الفقه الإسلامي في القرائن المستحدثة:
من المؤكد أن الشريعة الإسلامية تحترم العلم والعلماء وتجعل لهم مكانتهم الخاصة واللائقة بهم لتهيئ لهم قيادة الأمة وتبصيرها ورفع جهلها، كما أنها تشجع البحوث العلمية التي تهدف إلى إسعاد البشرية واستقرارها وتنظيم نشاطها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. كل ذلك مما علم من الدين بالضرورة وكتبت البحوث والمقالات التي أثرت المكتبة الإسلامية.
والذي يعنينا هو إظهار وجهة نظر الفقه الإسلامي بقدر المستطاع في القرائن التي استحدثتها العلوم الحديثة ومدى موافقة نتائج هذه البحوث لمقصود الشريعة الإسلامية ومنهجها.
فإذا تناولنا موضوع بصمات الأصابع وما وصل إليه من دلالة على المجرمين وذلك بعد رفع البصمة التي تكون في محل الجريمة ومقارنتها مع بصمة المتهم، فمما لا شك فيه أن هذه الطريقة من الطرق الحديثة التي لا نجد لها أثرا في كتب قدامى الفقهاء، ولكن العلماء المعاصرين الذين عنوا بعرض ما يجد من مسائل أصول الفقه الإسلامي وإبداء ما يرونه من رأي إما بالموافقة وإما بالاعتراض تناولوها في بحوثهم. فمن الذين تناولوا موضوع البصمة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره للقرآن الكريم.
يقول الشيخ جوهري في تفسيره قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 20- 22] . يقول (ومن باهر الصنع ودلائل الاتفاق وبواهر الرحمة والحب أن الله تعالى لما احتجب عنا، فلم نعرف كيف يتكلم بلا حرف ولا صوت، وكان رؤوفا بالعباد أراد أن يضرب مثلا بالمخلوقات، فلما عرفنا علمه وقدرته بضرب مثل بما نحس به من علمنا وقدرتنا، وإن تكن النسبة مفقودة بين صفاتنا وصفاته تعالى هكذا عرفنا كون كلامه ليس بحرف ولا صوت كما نشاهد هذه الشهادات من الدلالات الصادقة على حكمته وقدرته وعظمته ومعرفة الجانبين بالطرق العلمية في بحث خطوط اليدين والرجلين)(1) .
ويقول في موضع آخر: (فقد أجمع علماء الإسلام قاطبة أن حكم القاضي مبني على الظن والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر؛ لأننا لا نزال في الأرض فإذا وجدنا أن الظن جاء معه يقين ظاهر ألقينا هذا الظن. ألم يقل الله تعالى في سورة النجم: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فإذا سمع رجل يقول: إن الشمس لم تطلع مع أنها طالعة فهذه الشهادة لا تقبل لأنها خالفت الحق، هكذا إذا دلت أصابع المجرم على أنه القاتل وأن آثار الأصابع ظهرت على صنجة السيف، والسيف وجد على رقبة القتيل، وجاءت شواهد أخرى على ذلك، فإذا شاهد ينفي هذا نقول له: كذبت أيها الشاهد إن هذه الآيات أيها الصديق نزلت في القرآن ليتضح لنا بها في القضاء باب كان مقفلا إلا قليلا)(2) .
(1) الجواهر في تفسير القرآن: (19/152) .
(2)
المصدر السابق نفسه.
خلاصة هذا القول أن المرحوم طنطاوي جوهري يرى أن قرينة البصمة صادقة الدلالة على الجاني إذ أن النتيجة المستفادة منها مبنية على أسس علمية مؤكدة النتائج؛ ولذلك يجب على القاضي التعويل عليها بل ويذهب إلى الاعتماد عليها أكثر مما يعتمد على الشهود لأن مقال الشاهد إخبار ظني يحتمل الكذب، وشهادة البصمة يقنية لا تكذب ويؤيد ذلك قوله في موضع آخر:(فقال صديق: لقد فهمت من مقالتكم أن هذه العوالم صوادق في دلالاتها والإنسان قد يكذب، وأن هذه الأيدي وهذه الأرجل دلائلها صادقات، وفيها علامات مثبتات جرائم أصحابها، وليست كاذبة بخلاف ألسنة الإنسان في الأرض فهي كاذبة، ولكن هل علم الله تعالى بأعمالنا في حاجة إلى أمثال الأيدي والأرجل؟ فقلت: كلا هو يعلم ذلك، ولكن هذه الآيات موجهات لإصلاح نفوسنا ولهما دلالتان؛ أولا: أن الله عليم بأعمالنا، وثانيا: أنه ضرب لنا مثلا بأيدينا وأرجلنا فيها علامات ولصدق هذه العلامات الدالات على أفعالنا نسب إليها أن تخاطب بلا حرف ولا صوت من كلامه ليس بحرف ولا صوت: وإذا سمع الله منها أفلا يسمع القضاة نطق هذه الأيدي فيحكمون بما تدل عليه؟)(1) .
(1) المصدر السابق نفسه؛ وانظر أيضا تفسيره على قوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4] .
ولا شك أن الأخذ بقرينة مطابقة البصمة هو القول السديد مما ظهر من الاستنباط المتقدم وهو الذي ذهب إليه كثير من الفقهاء المعاصرين (1) . وهو الذي يتمشى مع نظر الفقه الإسلامي في الحد من الجريمة والمجرمين والتوصل إليهم ما أمكن بدلالة الدلائل لما يؤدي ذلك إلى استقرار وأمن المجتمع الإسلامي.
ولكن القول بالاعتداد بهذه القرينة والاعتماد عليها لأنها مؤكدة ويقينية لابتنائها على أسس علمية صحيحة وإسناد التهمة إلى المتهم من غير دليل آخر يؤيدها من قرائن وغيرها أو بالرغم مما يعارضها من شهادة الشهود والقرائن الأخرى على ما فهم من قول المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري. هذا القول لم يقل به أحد من الفقهاء فيما اطلعت، ولا يتفق في نظري مع تعويل الفقه الإسلامي على الشهادة كدليل أصلي في الإثبات. ويتعارض أيضا مع قاعدة درأ الحد بالشبهة.
وليس معنى هذا القول إنكار الفائدة العلمية المستفادة من البصمة إنما نعني الأخذ بها ما لم تعارضها شهادة الشهود أو قرائن أخرى أقوى منها. وذلك لأن وجود البصمة في محل لا يعني دائما أن صاحب البصمة هو الجاني لاحتمال أن يكون القاتل غيره كما إذا وجده مقتولا فأراد أن يتبين فصار لامسا له أو كان حاملا له أو ممسكا به حين قتل من غير أن يكون مشاركا أو قاصدا للقتل، أو ربما كان مدافعا عن نفسه وكثير من الاحتمالات والشبهات التي يجب النظر إليها في كل دعوى. ومع ذلك وبالرغم من أننا نرى الأخذ بقرينة مطابقة البصمة فإننا لا نرى ألا يقام بها حد للشبهة الواضحة ولا يقاد بها في القصاص إلا إذا عضدتها أيمان القسامة. إنما يعزر الجاني بدلالتها بعقوبة تلائم الجريمة المقترفة إذا لم يذكر المتهم سببا وجيها لوجود بصمته في محل الجريمة.
(1) طرق القضاء للمرحوم أحمد إبراهيم، ص44.
التحليل المعملي:
وما يقال عن البصمة يمكن أن ينصرف إلى التحليلات المعملية التي بنيت نتائجها على أسس علمية صحيحة. فلا غبار على حكم القاضي إن هو استعان في إثبات التهمة بنتائج تحاليل الدم أو البول أو المني أو غير ذلك ولعل لهذا التعويل أصل في الفقه الإسلامي. فإنه زيادة على ما ذكره الفقهاء من الأخذ بشهادة أهل الخبرة والعمل بالقافة (1) فقد أورد ابن القيم الجوزية آثار تدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم قد عولوا على اعتبار التحليل المعملي في دعاوى الجنايات وإن لم يسموه تحليلا فوجهة النظر واحدة.
جاء في الطرق الحكمية: (قال جعفر بن محمد: أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة قد تعلقت بشاب من الأنصار، فلما لم يساعدها احتالت عليه فأخذت بيضة فألقت صفارها وصبت بياضها على ثوبها وبين فخذيها، ثم جاءت إلى عمر صارخة فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله، فسأل عمر النساء فقلن له: إن ببدنها وثوبها أثر المني، فهم بعقوبة الشاب فجعل يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين تثبت في أمري فوالله ما أتيت فاحشة وما هممت بها، فلقد روادتني عن نفسي فاعتصمت، فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما؟ فنظر علي إلى ما على الثوب ثم دعا بماء حار شديد الغليان فصب على الثوب فجمد ذلك البياض ثم أخذه واشتمه وذاقه، فعرف طعم البيض وزجر المرأة فاعترفت) .
قلت: ويشبه هذا قول الخرقي وغيره عن أحمد أن المرأة إذا ادعت أن زوجها عنين وأنكر ذلك وهي ثيب فإنه يخلى معها في بيت ويقال له: أخرج ماءك على شيء فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على النار، فإن ذاب فهو مني وبطل قولها، وهذا مذهب عطاء بن رباح، وهذا حكم بالأمارات الظاهرة فإن المني إذا جعل على النار ذاب واضمحل، وإن كان بياض بيض تجمع ويبس (2) .
ويقول ابن القيم في موضع آخر: (ورفع إلى بعض القضاة رجل ضرب رجلا على هامته فادعى المضروب أنه أزال بصره وشمه، فقال يمتحن، بأن يرفع عينيه إلى قرص الشمس فإن كان صحيحا لم تثبت عيناه لها وينحدر منها الدمع، وتحرق خرقة، وتقدم إلى أنفه فإن كان صحيح الشم: بلغت الرائحة خيشومه ودمعت عيناه.
(1) والقافة جمع قائف، وهو من يعرف النسب بالشبه وأصل العمل بها ما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سر من القائف حينما رأى أسامة وزيدا وقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وكان المشركون يشككون في نسب أسامة من زيد. صحيح البخاري كتاب الفرائض:(3/139) ؛ وصحيح مسلم: (1/42) .
(2)
الطرق الحكمية، ص55.
ورأيت في أقضية علي رضي الله عنه نظير هذه القضية، وأن المضروب ادعى أنه أخرس، وأمر أن يخرج لسانه وينخس بإبرة، فإن خرج الدم أحمر فهو صحيح اللسان وإن خرج أسود فهو أخرس) (1) .
فإذا كان التحليل المعملي يهدف إلى معرفة خصائص الأشياء وما ينطوي عليه جسم الإنسان ومكوناته من خصائص، ثم التوصل إلى معرفة الجريمة عن طريق استخلاص هذه الخصائص ومعرفتها، فإن هذا المسلك الذي نقله ابن القيم عن علي رضي الله عنه والفقهاء رحمهم الله يدل على أنهم اعتبروا هذه القرائن وعولوا عليها في دعاوى الجنايات وهذا يقودنا إلى أن الفقه الإسلامي لا يأبى استخدام الأساليب العلمية والتحاليل المعملية في معرفة الجريمة.
(1) المصدر السابق، ص57.
التسجيل الصوتي:
أما موضوع الاعتماد على أجهزة التسجيل في إثبات التهمة فإذا كان القانونيون يحترزون في هذه الوسيلة لما تنطوي عليه من تقييد للحرية الشخصية وهتك للحياة الخاصة ومن ثم يكون الدليل المأخوذ منها غير مشروع، وأيضا لاتساع باب الشك فيها إذ أنها سهلة التزوير، فمن باب أولى أن يتوقف الفقه الإسلامي (في نظري) في هذه الوسيلة، وذلك لما انجلى لنا من موقف الفقهاء الذي يحترز من الدليل الذي تتسع فيه دائرة الشك، فطلبوا من القاضي ألا يبني حكمه إلا على يقين بعيد عن الشبهات، وطلبوا منه أن يسعى للتوصل إلى إقرار الجاني، ولا يحكم بالقرائن إلا بعد ظهورها ظهورا جليا.
أما اعتداء هذا الدليل على الحرية الشخصية فلعله يكون أيضا سببا في منع الاعتداد به في الفقه الإسلامي، إذ أن الشريعة تمنع التجسس على الناس في حياتها الخاصة فيقول الله تعالى:{وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، كما توجب الستر وعدم مضايقة الناس وتهديد حريتهم الشخصية، كما أن الدليل المأخوذ بطريق غير مشروع أي بأحد هذه الطرق يجب عدم الالتفات إليه.
ويدل على ذلك ما روي عن الصحابي الجليل عمر بن الخطاب، فقد ذكر البيهقي أن عبد الرحمن بن عوف حرس مع عمر ليلة بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذ باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر رضي الله عنه وأخذ بيد عبد الرحمن فقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت: لا. قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى قد أتينا ما نهى الله عنه (لا تجسسوا) فقد تجسسنا فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم (1) .
(1) السنن الكبرى: (8/333) ؛ ورواه الحاكم في المستدرك (4/377) ؛ وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: (صحيح) .
وأوضح من ذلك الرواية التي جاء فيها أن عمر رضي الله عنه كان يمر ليلة في المدينة فسمع صوتا في بيت فارتاب في أن صاحب الدار يرتكب محرما فتسلق المنزل، وتسور الحائط ورأى رجلا وامرأة معهما زق خمر، فقال: يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصية، وأراد أن يقيم عليه الحد، فقال الرجل: لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت أنت في ثلاث قال الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} وأنت تجسست، وقال تعالى:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وأنت تسورت وصعدت الجدار ونزلت منه، قال تعالى:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وأنت لم تسلم فخجل عمر وبكى وقال للرجل: هل عندك من خير إن عفوت عنك قال: نعم. قال: اذهب فقد عفوت عنك (1) .
معنى ذلك أن صاحب الدار- إن صحت هذه الرواية دفع بعدم مشروعية الدليل، فقد ضبط بالفعل متلبسا بجريمة شرب الخمر ولكن هذا الضبط كان وليد إجراءات غير مشروعة وهي التجسس وتسور الحائط وعدم الاستئناس والسلام، وقد أخذ عمر واقتنع بصحة الدفع وترك الرجل، وليس المسألة أن عمر أراد أن يجري مقاصة بين ما ارتكبه صاحب الدار وما ارتكبه هو وعفا عنه لذلك لأنه لا يملك العفو عن الحد، بل إنه أسقط الدليل المستمد من الواقعة بعد تبينه من أنه الحق وليد إجراءات غير صحيحة.
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد:(13/84) ، طبعة إحياء الكتب العربية، وتاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) :(5/20) ، المطبعة الحسنية المصرية، الطبعة الأولى.
تعريف الكلب البوليسي:
أما قرينة الكلب البوليسي فما من شك أنها من الاكتشافات المعاصرة التي لا نجد لها في كتب السابقين أثراً ولا خبراً. وإذا أردنا أن نعرف موضعها من القبول أو الرد في الفقه الإسلامي فلابد من نظرة للإطار العام لنظام الإثبات في الفقه الإسلامي، فإننا قد رأينا أن الفقه الإسلامي كان أكثر تشدداً واحتياطاً من النظام القانوني في مجال إثبات الجنايات وذلك بتضييقه لمجال أعمال القرائن في طائفتين من الجرائم وهما جرائم الحدود والقصاص وأجازه في الطائفة الثالثة وهي جرائم التعازير، فإذا سلمنا بالأخذ بقرينة الكلب البوليسي فإن مجال أعمالها لا يدخل إلا في الطائفة الثالثة.
ولكنا نقول: إن القانونيين وهم الذين توسعوا في اعتبار القرائن لم يجعلوا لقرينة تعرف الكلب البوليسي معولاً كبيراً، إذ منعوا القضاة من الاعتماد عليها وحدها كدليل في الدعوى ولا يؤخذ بها إلا إذا عضدتها قرائن أخرى يعني أن المدار على غيرها من القرائن وما هي إلا زيادة في الاطمئنان، فإذا كانوا قد احتاطوا فيها فمن باب أولى ألا يأخذ بها الفقه الإسلامي الذي كان أكثر احتياطاً في مجال إثبات الجنايات.
ومن ناحية أخرى فقد ذكرنا أن الفقه الإسلامي قد تشدد حتى في قبول شهادة النساء في الحدود والدماء فمن باب أولى ألا يتقبل شهادة الحيوان، فإن قيل: إن شهادة النساء مبنية على المعاينة ولخطورة هذه الجرائم وما يترتب عليها من إزهاق روح لم تقبل شهادة النساء، أما قرينة استعراف الكلب مبنية على أساس علمي صحيح، نقول: إن رجال تحقيق الجنايات يقولون إن الكلاب البوليسية أنواع متنوعة، كما تحقق نجاحا كبيرا إذا كان تدريبها أكثر إتقانا، فمن هنا يدخل الشك في يقينية النتائج المستفادة منها: فقد يكون التدريب ناقصا أو الكلب من غير النوع الذكي من الكلاب ولهذا احتاط رجال القانون. ومن ثم نحتاط للفقه الإسلامي فلا ننسب له الأخذ بقرينة تختل فيها النتيجة العلمية أو تكون غير مؤكدة أو يقينية.
كما أنه لا يؤمن نسيان الكلب للرائحة التي أعطيت له ليتعرف بها على الجاني كما لا تؤمن وحشيته وافتراسه مما يؤدي إلى الإكره وبطلان الدليل.
خاتمة
يتضح من هذا العرض أن الفقه الإسلامي لم يهمل القرائن وإن كان قد بدا أزورار أخذ الفقهاء بها في الجرائم التي تدرأ عقوباتها بالشبهات- أي جرائم الحدود والقصاص - فقد رأينا أن الجمهور من الفقهاء لم يثبت الحد بالقرائن لما تحوطها من الاحتمالات التي تكفي لتكون شبهة دارئة للحد، ولكن هناك من قال بإعمال القرائن في الحدود وهو مذهب المالكية وابن الغرس من الحنفية ورواية عن أحمد وقول ابن تيمية وابن القيم، والقرائن التي أخذوا بها هي قرينة الحمل في الزنا والتعريض مع دلالة الحال بإرادة القذف، والرائحة والسكر والقيء في حد الخمر ووجود المسروق مع السارق.
وقد رجحنا هذا القول لكونه وجيها ومناسبا لوقتنا الحاضر ولعدم منافاته لمقاصد الشرع الحكيم، خصوصا عند إفساح المجال للمتهم لينفي الشبهة عنه ببرهان أن هذه القرائن الواضحة لا تنطبق على حالته مع إبداء سبب معقول.
أما في مجال جرائم القصاص فقد رأينا إعمال الجمهور للقرائن مع القسامة وقلة منهم قالوا بثبوت الجريمة مع القرائن المجردة وقد بينا إمكان التعويل على هذا القول ولكن في المرتبة الثالثة أي بعد تقديم الأدلة الأصلية لثبوت الجريمة وهي الإقرار والبينة ثم يمين القسامة ثم القرائن المجردة عن تعذر القسامة.
أما جرائم التعزير فلا خوف في إثباتها بالقرائن والنصوص، وأقوال الفقهاء واضحة في هذا المجال.
أما في القانون فقد رأينا أن القرينة من الأدلة الأصلية في المواد الجنائية بل وإن القانون قد تدخل في بعض القرائن ورتب عليها أحكاما لا يجوز للقاضي إلا العمل بها عند توافر شروطها.
ولعلنا بإبراز وجهة نظر الفقه الإسلامي في القرائن التي استحدثتها العلوم الحديثة، وبيان أن الفقه الإسلامي لا يمانع من الأخذ بقرينة تقوم على نتيجة علمية مؤكدة لا على نتيجة واهية لا تسندها حقيقة علمية، نكون قد وضحنا جانبا مهما لم تنحل معالمه من قبل.
والله أسأله أن يجنبنا الزلل وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أهم مراجع البحث
أولا: تفسير الجواهر: الشيخ طنطاوي جوهري- فرغ من تأليفه (1933م) البابي الحلبي (1350هـ) .
ثانيا: كتب الحديث وشروحه:
1-
الموطأ، مطبوع مع شرح الزرقاني على الموطأ، مالك بن أنس الأصبحي (179هـ) المطبعة الخيرية.
2-
مسند الإمام أحمد، مطبوع مع شرح بلوغ الأماني، أحمد بن حنبل (241هـ) مطبعة الإخوان المسلمين.
3-
صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري (256هـ) دار الطباعة العامرة.
4-
صحيح مسلم، مطبوع مع شرح النووي، مسلم بن الحجاج النيسابوري (261هـ) المطبعة المصرية (1349هـ) .
5-
سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (275هـ) مطبعة الصاوي مصر (1353هـ) .
6-
سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (275هـ) مطبعة هندية.
7-
سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني بن ماجة (275هـ) دار إحياء الكتب العربية (1372هـ) .
8-
سنن الدراقطني، علي بن عمر الدارقطني (395هـ) دار المحاسن للطباعة (1386هـ) .
9-
السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي (485هـ) دائرة المعارف العثمانية (1344هـ) .
10-
المنتقى شرح الموطأ، سليمان بن خلف الباجي (494هـ) مطبعة السعادة (1322هـ) .
11-
شرح النووي على صحيح مسلم، يحيى بن شرف الدين النووي (676هـ) .
12-
بلوغ المرام من أدلة الأحكام، أحمد بن محمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) مطبعة صبيح.
13-
فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني (852هـ) المطبعة البهية.
14-
شرح الزرقاني على موطأ مالك، محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، ط: الخيرية.
15-
نيل الأوطار، محمد بن علي الشوكاني (1255هـ) العثمانية (1357هـ) .
16-
حاشية عون المعبود على سنن أبي داود، أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (1320هـ) دار المحاسن.
17-
التعليق المغني على سنن الدارقطني، أبو العلي محمد المباركفوري (1353هـ) دار الكتاب العربي.
ثالثا- كتب الفقه الإسلامي:
أ - الفقه الحنفي:
18-
المبسوط، أحمد بن محمد بن سهل السرخسي (438هـ) ، السعادة مصر (1324هـ) .
19-
تحفة الفقهاء، علاء الدين السمرقندي (359هـ) ، جامعة دمشق (1377هـ) .
20-
بدائع الصنائع، علاء الدين مسعود الكاساني (587هـ) ، شركة المطبوعات العلمية مصر (1327هـ) .
21-
الهداية، مع فتح القدير، علي بن أبي بكر المرغيناني (593هـ) ، الأميرية مصر (1315هـ) .
22-
تبيين الحقائق، فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي (742هـ) ، الأميرية مصر (1376هـ) .
23-
معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، علاء الدين الطرابلسي (844هـ) ، الأميرية (1300هـ) .
24-
فتح القدير، كمال الدين بن الهمام (861هـ) ، الأميرية.
25-
الحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار وإظهار المال، سعد الدين بن الديري (866هـ) .
26-
واقعات المفتين، عبد القادر بن يوسف الشهير بقدري أفندي (959هـ) ، الأميرية (1300هـ) .
27-
البحر الرائق شرح كنز الرقائق، إبراهيم بن نجيم المصري (970هـ) ، دار المعرفة بيروت.
28-
حاشية الشبلي، هامش تبيين الحقائق، أحمد الشلبي (1000هـ) ، الأميرية.
29-
الدر المختار شرح تنوير الأبصار، إبراهيم بن أحمد الحصكفي (1088هـ) ، مطابع الأستانة (1299هـ) .
30-
عدة أرباب الفتوى، عبد الله أسعد (1147هـ) ، الأميرية (1304هـ) .
31-
حاشية ابن عابدين، محمد أمين الشهير بابن عابدين (1252هـ) ، الأستانة.
32-
مجموعة رسائل ابن عابدين، محمد أمين عابدين (1252هـ) ، العثمانية (1325هـ) .
33-
مجلة الأحكام العدلية، جماعة من العلماء (1298هـ) ، العثمانية.
ب- الفقه المالكي:
34-
بداية المجتهد، أبو الوليد محمد بن رشد (الحفيد)(595هـ) ، البابي الحلبي (1379هـ) .
35-
قوانين الأحكام الشرعية، محمد بن جزئ (741هـ) ، دار العلم للملايين (1974هـ) .
36-
مختصر خليل، خليل بن إسحاق (766هـ) .
37-
تبصرة الحكام، إبراهيم شمس الدين بن فرحون (799هـ) ، المطبعة البهية مصر.
38-
التاج والإكليل، هامش الحطاب، محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق (897هـ) ، السعادة (1329هـ) .
39-
مواهب الجليل، محمد بن محمد الحطاب (954هـ) ، السعادة.
40-
شرح مختصر خليل، أبو عبد الله الخرشي (1101هـ) ، الأميرية (1317هـ) .
41-
حاشية العدوي، هامش الخرشي، علي العدوي الصعيدي (1198هـ) الأميرية.
42-
الشرح الكبير، أحمد بن محمد الدردير (1201هـ) ، السعادة (1329هـ) .
43-
حاشية الدسوقي، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي (1230هـ) ، السعادة.
44-
البهجة شرح التحفة، أبو الحسن عبد السلام التسولي، فرغ منه (1256هـ) ، البابي الحلبي (1370هـ) .
جـ الفقه الشافعي:
45-
المهذب، إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (476هـ) ، البابي الحلبي (1343هـ) .
46-
المنهاج، مع مغني المحتاج، أبو زكريا محيى الدين بن شرف النووي (676هـ) .
47-
تحفة الطلاب شرح تحرير تنقيح اللباب، أبو يحيى زكريا بن محمد الأنصاري (926هـ) .
48-
تحفة المحتاج، شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي (974هـ) .
49-
مغني المحتاج، محمد الشربيني الخطيب (977هـ) ، البابي الحلبي (1377هـ) .
50-
حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب، عبد الله بن حجازي الشرقاوي (1327هـ) ، البابي الحلبي (1360هـ) .
د- الفقه الحنبلي:
51-
المغني، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (620هـ) ، دار المنار (1367هـ) .
52-
السياسة الشرعية، تقي الدين أبو العباس بن تيمية الحراني (728هـ) ، دار الكتاب العربي (1951م) .
53-
مجموعة الفتاوى، تقي الدين أبو العباس بن تيمية (728هـ) ، كردستان (1329هـ) .
54-
إعلام الموقعين، أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزيه (751هـ) ، دار الجيل بيروت.
55-
الطرق الحكمية، أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية (751هـ) ، مطبعة مصر (1960م) .
56-
القواعد، أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب (795هـ) ، مطبعة الكليات الأزهرية.
57-
كشاف القناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (1051هـ) .
هـ- الفقه الظاهري:
58-
المحلى، أبو عبد الله علي بن أحمد بن أحمد بن حزم الظاهري (456هـ) ، مطبعة الإمام مصر.
و مؤلفات حديثة في الفقه الإسلامي:
59-
النظام العقابي الإسلامي، أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح، دار الأنصار مصر (1979م) .
60-
طرق القضاء في الشريعة الإسلامية، أحمد إبراهيم إبراهيم، السلفية مصر (1347هـ) .
61-
المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي، أحمد فتحي بهنسي، مكتبة الوعي العربي (1967م) .
62-
من الفقه الجنائي المقارن، أحمد موافي، مطابع الشعب (1965م) .
63-
التعزير في الشريعة الإسلامية، عبد العزيز عامر.
64-
التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مطبعة المدني (1965م) .
65-
من طريق الإثبات في الشريعة والقانون، عبد المنعم أحمد البهي، دار الفكر العربي (1965م) .
66-
نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية، علي علي منصور، مطبعة مخير (1965م) .
67-
الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، محمد أبو زهرة، مطبعة مخير.
رابعا: كتب أصول الفقه الإسلامي:
68-
المستصفى من علم الأصول، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (505هـ) .
69-
الوصول إلى علم الأصول، أحمد بن علي بن برهان البغدادي (518هـ) ، الرياض (1404هـ) .
70-
روضة الناظر، أبو محمد بن قدامة المقدسي (620هـ) ، البابي الحلبي.
71-
الإبهاج شرح المنهاج، علي بن عبد الكافي السبكي (756هـ) .
72-
كشف الأسرار عن أصول البزدوي، عبد العزيز البخاري (730هـ) ، العثمانية (1308هـ) .
73-
الموافقات، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (790هـ) ، السلفية مصر.
خامسا- كتب اللغة والتراجم والبلدان:
74-
فتوح البلدان، أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري (279هـ) ، المطبعة المصرية (350هـ) .
75-
لسان العرب، محمد بن مكرم جمال الدين بن منظور (711هـ) .
76-
التعريفات، علي بن محمد بن السيد الجرجاني (816هـ) ، البابي الحلبي (1349هـ) .
سادسا- كتب القانون:
أ - القانون السوداني:
77-
قانون العقوبات لسنة (1974م) ، طبع ديوان النائب العام السوداني.
78-
قانون الإجراءات الجنائية لسنة (1974م) ، طبع ديوان النائب العام السوداني.
79-
مجلة الأحكام القضائية السودانية، للسنوات:1959، 1961، 1967، 1971، 1972م.
80-
قانون العقوبات السوداني، معلقا عليه محمد محيي الدين عوض، العالمية مصر.
81-
القانون الجنائي مبادؤه الأساسية ونظرياته العامة في التشريعين المصري والسوداني، محمد محيي الدين عوض.
82-
القانون الجنائي وإجراءاته في التشريعين المصري والسوداني، محمد محيي الدين عوض العالمية.
ب- القانون المصري:
83-
مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض، الدائرة الجنائية، المكتب الفني.
84-
مجموعة أحكام محكمة النقض، منشورات المكتب الفني.
85-
أصول الإجراءات الجزائية، د. حسن صادق المرصفاوي، دار المعارف.
86-
قانون العقوبات، معلقا عليه د. حسن صادق المرصفاوي.
87-
المحقق الجنائي، د. حسن صادق المرصفاوي، مطبعة الوادي.
88-
نظرية الإثبات، حسين المؤمن، مطبعة الفجر بيروت (1979م) .
89-
مبادىء قانون الإجراءات الجنائية، د. رؤوف عبيد، الطبعة الثامنة (1970م) .
90-
التحقيق والبحث الجنائي، عبد الكريم درويش.
91-
مبادىء قانون الإجراءات الجنائية، د. عمر السعيد رمضان، دار النهضة العربية (1967) .
92-
شرح القانون الإجراءات الجنائية، محمد محمود مصطفى، دار النهضة العربية (1970م) .
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلي آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم:112 (6/12)
بشأن موضوع
الإثبات بالقرائن أوالأمارات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمةالمؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة بخصوص موضوع (الإثبات بالقرائن أو الأمارات) .
قرر المجمع أن هذا الموضوع يؤجل إلى دورة قادمة لقصر بحثه على المستجدات وحصرها وبيان حكمها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.