المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقود التوريد والمناقصةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ١٢

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثاني عشر

- ‌استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)إعدادأ. د. خليفة بابكر الحسن

- ‌استثمار موارد الأوقافإعدادالدكتور إدريس خليفة

- ‌استثمار موارد الأحباسإعدادالشيخ كمال الدين جعيط

- ‌أثر المصلحة في الوقفإعدادالشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

- ‌صور استثمار الأراضي الوقفية فقهاً وتطبيقاًوبخاصة في المملكة الأردنية الهاشميةإعدادالدكتور عبد السلام العبادي

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد المختار السلامي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكوصكوك الأعيان المؤجرةإعدادالدكتور منذر قحف

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة(الإجارة المنتهية بالتمليك)دراسة فقهية مقارنةإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الإجارة المنتهية بالتمليكدراسة اقتصادية وفقهيةإعداد الدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌الإيجار المنتهي بالتمليكوصكوك التأجيرإعدادالدكتور محمد جبر الألفي

- ‌الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الشرط الجزائيإعدادالدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌الشرط الجزائيإعدادالأستاذ الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الشرط الجزائي في العقودإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الشرط الجزائي في الفقه الإسلاميإعدادالدكتور ناجي شفيق عج

- ‌الشرط الجزائيدراسة معمقة حول الشرط الجزائي فقها وقانوناإعدادالقاضي محمود شمام

- ‌عقود التوريد والمناقصةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌عقد التوريددراسة فقهية تحليليةإعدادالدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌عقود التوريد والمناقصاتإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ مجتبى المحمودوالشيخ محمد على التسخيري

- ‌الإثبات بالقرائن والأماراتإعدادالدكتور عكرمة سعيد صبري

- ‌القرائن في الفقه الإسلاميعلى ضوء الدراسات القانونية المعاصرةإعدادالمستشار محمد بدر المنياوي

- ‌الإثبات بالقرائن أو الأماراتإعدادالشيخ محمد الحاج الناصر

- ‌الطرق الحكمية في القرائنكوسيلة إثبات شرعيةإعدادالدكتور حسن بن محمد سفر

- ‌دور القرائن والأمارات في الإثباتإعدادالدكتور عوض عبد الله أبو بكر

- ‌بطاقات الائتمانتصورها، والحكم الشرعي عليهاإعدادالدكتور عبد الستار أبو غدة

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور نزيه كمال حماد

- ‌بطاقات الائتمان غير المغطاةإعدادالدكتور محمد العلي القري

- ‌بحث خاصبالبطاقات البنكيةإعدادالدكتور محمد بالوالي

- ‌بطاقة الائتمانإعدادالبروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بطاقة الائتمان غير المغطاةإعدادالشيخ علي عندليبوالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌التضخم وعلاجهعلى ضوء القواعد العامةمن الكتاب والسنة وأقوال العلماءإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌الصلح الواجب لحل قضية التضخمإعدادأ. د. علي محيي الدين القره داغي

- ‌تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويضومسؤولية الحكومة في تطبيقه

- ‌مسألة تغير قيمة العملة الورقيةوأثرها على الأموال المؤجلةإعدادالشيخ محمد على التسخيري

- ‌التأصيل الشرعي للحلول المقترحةلعلاج آثار التضخم

- ‌التضخم وتغير قيمة العملةدراسة فقهية اقتصاديةإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌نسبة التضخم المعتبرة في الديونإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

- ‌حقيقة التضخم النقدي: مسبباته – أنواعه – آثاره

- ‌التضخم وآثاره على المجتمعات

- ‌ضبط الحلول المطروحة لمعالجة آثار التضخم على الديون

- ‌حقوق الأطفال والمسنينإعدادالأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي

- ‌حقوق الشيوخ والمسنين وواجباتهمفي الإسلامإعدادالأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور

- ‌حول حقوق المسنينإعدادالشيخ محمد علي التسخيري

- ‌حقوق الطفلالوضع العالمي اليومإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌الشيخوخةمصير. . . وتحدياتإعدادالدكتور حسان شمسي باشا

- ‌البيان الختامي والتوصياتالصادرة عنالندوة الفقهية الطبية الثانية عشرة

- ‌(حقول المسنين من منظور إسلامي)

الفصل: ‌عقود التوريد والمناقصةإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

‌عقود التوريد والمناقصة

إعداد

القاضي محمد تقي العثماني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن عقد التوريد عبارة عن اتفاقية بين الجهة المشترية والجهة البائعة، على أن الجهة البائعة تورد إلى الجهة المشترية سلعًا أو مواد محددة الأوصاف في تواريخ مستقبلة معينة لقاء ثمن معلوم متفق عليه بين الفريقين.

وبما أن الاتفاقية تنص على أن الجهة البائعة تسلم المبيع في تاريخ لاحق، وأن الجهة المشترية تدفع الثمن بعد التسليم، فالبدلان في هذه الاتفاقية مؤجلان وإنما تحتاج المؤسسات التجارية إلى مثل هذه العقود ليمكن لها تخطيط نشاطاتها التجارية، فإن ذلك لا يتيسر إلا بالتزام تعاقدي غير قابل للنقض، يتم به الحصول على المواد الخام أو المواد المطلوبة الأخرى في أوقات محددة في المستقبل. وبما أن البديلين في هذا العقد مؤجل كلاهما، فقد يستشكل هذا العقد من الناحية الشرعية بأنه بيع كالئ بكالئ، أو أنه بيع ما لا يملكه الإنسان. ومن هذه الناحية يجب دراسة هذا الموضوع بدقة.

فإن كل محل عقد التوريد شيء يحتاج إلى صناعة، فيمكن تقعيده على أساس الاستصناع، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي بجوازه (1) .

(1) قرار رقم 66 (3/7) من الدورة السابعة للمجمع المنعقدة في جدة سنة (1412هـ) .

ص: 672

أما إذا كان محل التوريد شيء لا يحتاج إلى صنعة، فهو محل البحث، ويتأتى فيه الإشكال من الجهات الآتية:

1-

هو عقد مضاف إلى المستقبل، ومنعه جمهور الفقهاء.

2-

هو عقد يتأجل فيه البدلان، فيصير بيع الكالئ بالكالئ، وقد ورد في منعه حديث عمل به جمهور الفقهاء.

3-

إن محل التوريد في كثير من الأحوال لا يملكه البائع عند العقد، فيصير بيعًا لما لا يملكه الإنسان، وهو ممنوع بنص الحديث.

4-

إن محل التوريد قد يكون معدومًا، فيصير بيعًا للمعدوم، وقد منعه جمهور الفقهاء.

وقد رأى بعض المعاصرين أن يفتى بجواز هذا العقد، بالرغم من كونه مخالفًا للأصول المذكورة، وذلك على أساس الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة، ولأنه ليس في هذا العقد ما يؤدي إلى الربا أو القمار أو الغرر الفاحش الذي هو علة لمنع بيع الكالئ بالكالئ وبيع المعدوم وغيره.

ولكن هذا الرأي فيه نظر من وجوه، ولو فتحنا باب غض النظر عن هذه المبادئ التي استمر عليها الفقه الإسلامي عبر القرون، فإن ذلك يفتح المجال لإباحة كثير من العقود الفاسدة التي ابتدعها السوق الرأسمالية، مثل المستقبليات وغيرها.

ص: 673

والواقع في نظري أن اتفاقية التوريد لا تعدو من الناحية الشرعية أن تكون تفاهمًا ومواعدة من الطرفين، أما البيع الفعلي فلا ينعقد إلا عند تسليم المبيعات، فالإشكال الوحيد إذن هو في جعل هذه المواعدة لازمة، والحكم عند أكثر الفقهاء أن المواعدة لا تكون لازمة في القضاء، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي في موضوع لزوم الوعد على هذا الأساس بأن الوعد إنما يجوز الإلزام به إذا كان من طرف واحد. أما إذا كان المواعدة من الطرفين، فإنها لا تلزم (1) ولكن يوجد عند بعض الفقهاء القول بلزوم المواعدة عند الحاجة ولذلك نظائر في الفقه:

أما النظير الأول: فهو بيع الوفاء، وقال فيه قاضي خان من الحنفية

" اختلفوا في البيع الذي يسميه الناس بيع الوفاء أو بيع الجائز قال أكثر المشايخ منهم السيد الإمام أبو شجاع والقاضي الإمام أبو الحسن السغدي: حكمه حكم الرهن. . . والصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع، لا يكون رهنًا ثم ينظر إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع. . . وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس (2) .

وبمثله أفتى بعض علماء المالكية في بيع الوفاء الذي يسمى عندهم بيع الثنيا أو بيع الثنايا، فإنه لا يجوز عندهم في الأصل، ولكن إذا وقع البيع مطلقًا من هذا الشرط، ثم وعد المشتري البائع بأنه سوف يبيعه إذا جاءه بالثمن، فإن هذا الوعد صحيح لازم، قال الحطاب رحمه الله:

" قال في معين الحكام: ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاءه بالثمن إلى أجل كذا، فالمبيع له. ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضاءه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أوهبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع ورد إليه "(3) .

(1) راجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس: 2 / 1599، قرار رقم (2، 3) من الدورة الخامسة المنعقدة بالكويت سنة (1409هـ) .

(2)

التفاوي الخانية، بهامش الفتاوي الهندية، 2 / 165، فصل في الشروط المفسدة في البيع.

(3)

تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب، ص 233.

ص: 674

وقد يستشكل هذا القياس بأن الوعد في بيع الوفاء لازم على طرف واحد، وهو المشتري الأول، وليس على البائع، فإنه يسع للبائع الأول أن لا يشتريه حتى يمضي الأجل، ولكن المقصود من هذا التنظير أن الفقهاء اعتبروا حاجات الناس في إلزام ما لم يكن لازمًا في الأصل.

وإن عبارة قاضي خان – رحمه الله تعالى – بصفة خاصة صريحة في أن المواعدة يمكن أن تجعل لازمة لحاجة الناس، والمواعدة إنما تكون من الطرفين، فتبين أنه لا بأس بجعلها لازمة عند الحنفية لحاجة الناس.

ولا شك أن الحاجة في إلزام المواعدة ظاهرة، ليس في عقود التوريد فقط، بل في كثير من أنواع التجارة المعاصرية، ولاسيما في التجارة الدولية، فإنه لا يمكن في كثير من الحالات أن يقع البيع على سلع موجودة متعينة عند إبرام اتفاقية البيع، فكثيرًا ما تريد جهة أن تشتري كمية كبيرة من سلعة، يحتاج البائع لتوفيرها إلى وقت ولكن من صالح الطرفين أن تكون بينهما اتفاقية ملزمة للطرفين غير قابلة للنقض، لأنه لو ترك الأمر بيد كل فريق أن يمتنع من إبرام البيع كلما شاء، لتضرر به الفريق الآخر ضررًا بينًا، فمثلًا أبدى المشتري رغبة في شراء ألف طن من القمح وإن البائع لا يوجد عنده القمح بهذه الكمية، فاتفق مع المشتري أنه سوف يوفره لتاريخ معين بعد أسبوع مثلًا، ووعد المشتري بأنه سوف يشتريه في ذلك التاريخ، وإن البائع – اعتمادًا على وعده – أنفق مبالغ باهظة للحصول على هذه الكمية من القمح، وصرف جهده ووقته. وإنه استطاع بعد هذا الجهد أن يوفر القمح في التاريخ المتفق عليه، فلما عرضه على المشتري، امتنع المشتري من إبرام الشراء، فلو لم يكن وعد المشتري ملزمًا، تضرر به البائع ضررًا بينًا، فإنه لم يتكبد هذا الجهد، ولم ينفق هذه المبالغ الخطيرة إلا لهذا المشتري، وربما لا يوجد من يشتري منه ذلك النوع من القمح بهذه الكمية الكبيرة، فرفض المشتري شراءه يضيع ماله ووقته وجهده، ويسبب له خسائر لا تتحمل.

ص: 675

وفي جانب آخر لو لم يكن وعد البائع ببيع هذا القمح ملزمًا، ربما يتضرر به المشتري، وذلك أنه لما وعده البائع بتوفير هذه الكمية من القمح، فإنه يمسك عن طلبها من تاجر آخر اعتمادًا على وعد البائع، في حين أنه يحتاج إليه في التاريخ المتفق عليه، فلو أخل البائع بوعده، وامتنع من توفير القمح في ذلك التاريخ، فإن المشتري لا يمكن له أن يحصل على هذه الكمية في ذلك التاريخ، وإنه يحتاج إلى أن يطلب تاجرًا آخر يتفق معه لتوفير الكمية المطلوبة خلال الأسبوع القادم، مع أنه يحتاج إليها في هذا الأسبوع، ثم عدم إلزام الوعد يجري على التاجر الجديد أيضًا، فيمكن أن يمتنع هو عن إبرام البيع، كما امتنع البائع الأول، فلا سبيل إلى اطمئنان المشتري بتوفير الكمية المطلوبة في أي تاريخ مستقبل إلا بأن يكون الوعد ملزمًا على البائع، فمن صالح كلتا الجهتين أن يكون وعد كل منهما وعدًا ملزمًا، وفي جعل هذه المواعدة غير ملزمة لأحد من الطرفين حرج بين كما أسلفنا.

وقد ذكر الإمام أبو بكر الجصاص في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ما نصه:

" يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة، وأوجب على نفسه عقدًا لزمه الوفاء به، إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلًا ما لا يفعل، وقد ذم الله فاعل ذلك، وهذا فيما لم يكن معصية، فأما المعصية فإن إيجابها في القول لا يلزمه الوفاء بها. . . وإنما يلزم ذلك فيما عقده على نفسه مما يتقرب إلى الله عز وجل، مثل النذور، وفي حقوق الآدميين، العقود التي يتعاقدونها "(1) .

وظاهر آخر هذه العبارة يدل على أن الوعود يجب إيفاءها إذا كانت متعلقة بالعقود التي يتعاقد بها الناس، وإن كانت الوعود من الطرفين.

وقد يستشكل هذا بأنه إذا جعلنا المواعدة من الطرفين لازمة فلا يبقى هناك فرق بين هذه المواعدة اللازمة على الطرفين وبين البيع المضاف إلى المستقبل الذي اتفق الأئمة الأربعة على عدة جوازه.

(1) أحكام القرآن، للجصاص: 3 / 442.

ص: 676

والجواب أن المواعدة ليست عقدًا باتًا، وإنما هي موافقة الطرفين على إنجاز العقد في تاريخ لاحق وهو يحتاج إلى الإيجاب والقبول في ذلك التاريخ اللاحق، والفرق أن إنجاز العقد ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة، فمن أنجز الشراء فإنه جعل الثمن دينًا في ذمته، ومن أنجز البيع، فإنه نقل ملكية المبيع إلى المشتري، أو جعل المبيع دينًا في ذمته إن كان البيع سلمًا، وإن هذا الانتقال من ذمة إلى ذمة يحدث فور ما يتم الإيجاب والقبول، ولذلك من اشترى دارًا لسكناه، ولم يدفع الثمن إلى بائعها، فإنه صار مدينًا للبائع بمقدار الثمن، وتجري عليه سائر أحكام المديون، فلا تجب عليه الزكاة بمقدار هذا الدين على قول من يجعل الدين مانعًا لوجوب الزكاة حالًا كان أو مؤجلًا (1) ، وإذا أفلس المشتري فإن البائع أسوة للغرماء على قول الحنفية، وكذلك من باع الحنطة سلمًا، فإنه أصبح مدينًا للمشتري بذلك المقدار من الحنطة، فتسقط عنه الزكاة بذلك المقدار، لكونه دينًا عليه. ولا يسقط هذا الدين بموت المسلم إليه، فيؤخذ المسلم فيه من تركته حالًا (2) .

أما المواعدة فلا تنشئ دينًا على أحد من الطرفين، فلا تحدث بها هذه النتائج، فإذا تواعدا على بيع الشيء في تاريخ لاحق، لم يكن الثمن دينًا في ذمة الواعد بالشراء فلا تسقط عنه الزكاة بمقدار الثمن، ولم يكن المبيع دينًا في ذمة الواعد بالبيع، فلا تسقط عنه زكاته، ولا يحق للواعد بالشراء أن يأخذ الشيء الموعود بيعه من تركه الواعد بالبيع بعد موته، أو بعد إفلاسه، فظهر أن المواعدة ليست عقدًا ولا تنتج عنها آثار العقد ولا المديونية إلا في التاريخ الموعود، ولا تحدث هذه النتائج بصفة تلقائية، حتى في التاريخ الموعود، بل يجب عند ذلك أن يتم الإيجاب والقبول من الطرفين على أنه إن عرض لأحد الطرفين في المواعدة عذر حقيقي مقبول منعه من إنجاز الوعد، فإنه يعد معذورًا ولا يجبر على إنجاز العقد، ولا على دفع التعويض. أما في البيع المضاف إلى المستقبل فعجز أحد الطرفين من تنفيذ مسؤولياته العقدية لا يسبب فسخ البيع تلقائيًّا، وإنما يحتاج إلى الإقالة بالتراضي.

(1) راجع بدائع الصنائع، للكاساني: 2 / 83، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت 1417 هـ

(2)

راجع رد المختار: 4 / 23، باب السلم.

ص: 677

أما أثر كون المواعدة لازمًا، فلا يتجاوز من أن يجبر الحاكم الفريقين بإنجاز العقد في التاريخ الموعود. وإن أخل أحدهما بالوفاء بوعده، حمله الحاكم ما تضرر به الآخر من الضرر المالي الفعلي الذي حدث بسبب تخلفه عن الوفاء (1) وهذه النتيجة مختلفة تمامًا عن نتائج إنجاز العقد الذي ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة.

ولا شك أن هذه الفروق بين المواعدة وبين إنجاز العقد فروق دقيقة، وإذا وقعت المواعدة الملزمة من الطرفين، فإنها تشابه العقد ولو لم تكن عقدًا، فلا ينبغي في عامة الأحوال أن تجعل المواعدة ملزمة في القضاء، تفاديًّا لشبهة العقد في تاريخ مستقبل، كما صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي. ولكن بما أن المواعدة الملزمة ليست عقدًا باتًا في حقيقة الأمر لفوارق ذكرناها، فإنها يمكن أن يصار إليها في مواقع الحاجة العامة، وهو الذي نص عليه قاضي خان – رحمه الله – بقوله:" لا أن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس "(2) .

والحاجة العامة في عقود التوريد واردة بلا شك لما قدمناه فتجعل اتفاقيات التوريد مواعدة ملزمة على الطرفين بإنشاء عقد في المستقبل، ثم يتم العقد في حينه على أساس الإيجاب والقبول، أو على أساس التعاطي والاستجرار (3) .

وهذا هو التكييف الفقهي السليم عندي لاتفاقيات التوريد، دون أن نجعلها عقودًا باتة مضافة إلى تاريخ مستقبل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولكن لا تكون هذه المواعدة ملزمة للطرفين إلا إذا كانت الاتفاقية واضحة محددة لقدر المبيع، ومواصفاته، وثمنه، أو على أساس معلوم محدد لتحديد الثمن بما ينافي الجهالة عن المبيع وثمنه كليهما. أما إذا كانت الاتفاقية فيها جهالة في مثل هذه الأمور، فلا تعد المواعدة ملزمة.

(1) وهذا ما صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي في إخلاف الوعد من طرف واحد، في دورة مؤتمره الخامس بالكويت سنة 1409 هـ) ، قرار رقم (2، 3) ، مجمع الفقه الإسلامي، عدد (5) : 2 / 1599.

(2)

الفتاوى الخانية بهامش الهندية: 2 / 165.

(3)

وقد درست عقود التعاطي والاستجرار في كتابي (بحوث في قضايا فقهية معاصرة) ، ص 53- 68 طبع دار القلم بدمشق.

ص: 678

وقد يطالب المشتري في اتفاقيات التوريد بمبلغ عند التوقيع على الاتفاقية، وذلك ضمانًا لجديته في الشراء، وتيسيرًا على البائع للحصول على المبيعات المطلوبة، وإن هذا المبلغ ليس عربونًا على أساس التكييف الفقهي الذي ذكرناه وذلك لأن اتفاقية التوريد ليست عقدًا باتًا، وإنما هي مواعدة لإنجاز العقد في المستقبل. أما العربون فإنه (عند من يقول بجوازه) بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، فإذا أمضى البيع اعتبر مبلغ العربون جزء من الثمن، وإن رد البيع كان مبلغ العربون للمالك، يقول ابن قدامة – رحمه الله تعالى -:

" والعربون في البيع: هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهمًا أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع (1)

فتبين أن بيع العربون بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، يقابله شيء من المال في حالة رد البيع فقط، وحيث إن اتفاقية التوريد ليست عقدًا للبيع أو الشراء، وإنما هي مواعدة فقط، فلا يمكن أن نجعل هذا المبلغ عربونًا، ولا مانع من أن يطالب به المشتري ضمانًا لجديته في الموضوع، ولكنه يكون أمانة عند البائع وإن خلطه بماله أو صرفه، فإنه يكون مضمونًا عليه بكامله. نعم إذا تخلف الواعد بالشراء عن وعده بدون عذر مقبول، وحمله الحاكم تعويضًا عن الضرر الفعلي الذي أصاب الفريق الآخر بتخلفه، فإنه يجوز أن تقع المقاصة بين ضمان الجدية وبين التعويض المفروض على الواعد بالشراء، فإن كان التعويض المفروض من الحاكم أقل من المبلغ المدفوع ضمانًا للجدية، رد الواعد بالبيع ما بقي، وإن كان التعويض المفروض أكثر، دفع الواعد بالشراء ما زاد على ضمان الجدية.

وخلاصة ما وصلنا إليه في اتفاقيات التوريد ما يلي:

1-

إن كان محل التوريد شيء يقتضي صناعة، فإن عقد التوريد يخرج على أساس الاستصناع، ويكون عقدًا باتًا، وتجري عليه أحكام الاستصناع.

2-

وإن كان محل التوريد شيء لا يقتضي صناعة، فإنه لا يكون عقدًا باتًا، وإنما يكون مواعدة لإنجاز العقد في تاريخ لاحق، ثم يتم العقد في حينه بإيجاب وقبول.

3-

يجوز أن تجعل هذه المواعدة ملزمة للطرفين للحاجة العامة.

4-

إن أثر إلزام هذه المواعدة، أن يجبر كل واحد من الطرفين على إنجاز وعده من قبل الحاكم، وإن امتنع أحد منهما عن الوفاء بوعده، وتضرر به الآخر ضررًا فعليًّا. فإن المتخلف يعوضه عن الضرر الفعلي الحقيقي.

5-

يجوز أن يطالب الواعد بالبيع ممن وعد بالشراء مبلغًا لضمان جديته، وإن هذا المبلغ ليس عربونًا، ولكنه أمانة بيد الواعد بالبيع، وإن خلطه بماله أو تصرف فيه صار ضامنًا له، والله أعلم بالصواب.

(1) المغنى، لابن قدامة مع الشرح الكبير: 4 / 289

ص: 679

عقود المناقصة

المناقصة طريقة تتبعها جهات تريد شراء سلع أو خدمات بأقل ما يعرض عليهم من سعر، وهو في حقيقته ضد المزايدة أو بيع من يزيد، فالمزايدة يجريها البائعون، فيريدون أن يعقدوا البيع بأكثر ما يعرض عليهم من ثمن، فيطلبون العروض من المشترين، ويعقدون في الأخير مع من يقدم أعلى عطاء.

والمناقصة يجريها المشترون، ويطلبون العروض من البائعين، ويرسون العطاء على من يتقدم إليهم بأقل الأسعار.

وإن المناقصات في عصرنا تجري إما في عقود المقاولات، أو في عقود التوريد. والطريقة المتبعة لإجراء المناقصة أن الجهة التي تريد أن تعقد مع مقاول لبناء عمارة مثلًا، وتريد أن يتقدم إليها المقاولون بعروض مختلفة، فإنها تدون تفاصيل البناء ومواصفاتها وشروط العقد في دفتر، ثم تدعوا المقاولين إلى المناقصة عن طريق الإعلان في الجرائد أو الصحف، ويحدد في الإعلان العمل المطلوب وبعض تفاصيله، أما دفتر الشروط الذي يحتوي على تفاصيل العمل بكاملها، وعلى الشروط الأخيرة للعقد، فإنما يعطى للمشاركين في المناقصة بثمن يحدد في الإعلان المنشور في الجرائد أو الصحف، كما أن الإعلان يحدد آخر موعد لتقديم العروض، وتاريخ فض العروض، وفي بعض الحالات يطالب المقاولون بتقديم ضمان ابتدائي ينبئ عن جديتهم في تقديم العرض.

ص: 680

وعلى أساس هذا الإعلان يتقدم المقاولون بعروضهم في ظروف مختومة مع مبلغ الضمان الابتدائي، ثم إن الجهة الطالبة للمناقصة تفتح الظروف المختومة في موعد محدد بحضور المشاركين في المناقصة أو ممثليهم، ويعلن اسم كل صاحب عرض، وسعره، ويسجل ثم يتم فحص العروض للتأكد من توافر الشروط ومطابقة العروض للمواصفات المطلوبة، وموافقتها للإجراءات القانونية، ثم تختار الجهة الطالبة للمناقصة العرض الأقل سعرًا إلا إذا كان ذلك السعر – بالرغم من كونه أقل بالنسبة لسائر العروض – أغلى بالنسبة إلى سعر السوق، حينئذ تفاوض الجهة الطالبة مع صاحب العرض الأقل لتخفيض سعره ليكون موافقًا لسعر السوق، وكذلك إذا تساوت بعض العروض في أسعارها، ربما يلجأ إلى إجراء مفاوضة علنية بين أصحاب هذه العروض لاختيار الأصلح، أو يقسم العمل بينهم حسبما تقتضيه مصلحة الجهة الطالبة.

وبعد هذه الإجراءات يرسى العطاء لمن قبل عرضه، ومثل هذه الإجراءات تتخذ أيضًا في المناقصات التي تطلب فيها عقود التوريد، فإعلان طلب المناقصة يحتوي على مواصفات الأشياء المطلوبة وكمياتها، ويتقدم التجار بعروضهم لبيع هذه الأشياء، ويرسى العطاء لأقلها سعرًا بالطريقة التي ذكرناها في المقاولة سواء بسواء.

وإن في البلاد المختلفة قوانين مختلفة تخضع لها المناقصات، وإجراءات لا داعي لذكر تفاصيلها في هذه العجالة، لأنها أمور إدارية لا يتعلق بها حكم فقهي، ولكننا نريد أن ندرس هنا الأسئلة الفقهية التي تتعلق بالمناقصات، وهي ما يلي:

1-

تكييف عقود المناقصة من الناحية الفقهية.

2-

إن كانت المناقصة عقدًا، فمتى يتم الإيجاب والقبول؟

3-

هل يختلف الحكم باختلاف أنواع المناقصة؟

4-

حكم أخذ عوض على دفتر الشروط.

5-

حكم المطالبة بالضمان الابتدائي الذي يطلب من المشاركين في المناقصة، أو الضمان الانتهائي الذي يطلب ممن يرسو له العطاء.

6-

حكم تقديم نسبة من الثمن من قبل الجهة الطالبة للمناقصة.

7-

هل يجب على الجهة الطالبة للعروض أن تقبل عرض من تقدم إليها بالسعر الأقل؟

ص: 681

التكييف الفقهي للمناقصات:

لا يوجد ذكر للمناقصات في الكتب الفقهية، مع وجود ذكر المزايدات.

لأن المناقصات ظاهرة جديدة أوجدتها حاجات المشاريع الكبيرة من التجارة والصناعة، ولكن ليس معنى ذلك أن لا تكون المناقصة مقبولة شرعًا، ما لم يكن فيها ما هو محظور من الناحية الشرعية، ويمكن قياسها في بعض الأمور على المزايدة أو بيع من يزيد.

أما تكييفها الفقهي، فيختلف عندنا باختلاف موضوع المناقصة، فإن كان موضوع المناقصة عقدًا يجوز إنجازه على الفور شرعًا، مثل عقد البيع للمبيعات الموجودة عند البائع، أو عقد الإجارة، أو عقد الاستصناع أو المقاولة، فالدعوة إلى المناقصة في هذه العقود دعوة إلى هذه العقود. وقد يزعم بعض الناس أن الدعوى إلى المناقصة عن طريق الإعلان الصحفي إيجاب من قبل الجهة الطالبة، وإرساء العطاء قبول من قبل صاحب العرض، وليس الأمر كذلك، لأن الإيجاب الفقهي لا بد له من تحديد السعر، أما الإعلان الصحفي فلا يتحدد فيه السعر من قبل الجهة الطالبة للمناقصة، ولأن العقد لا يتم بمجرد فتح العرض الأقل، فقد يحق للجهة الطالبة أن تجري مفاوضة مع صاحب العرض الأقل إذا كان سعره المعروض أكثر من سعر السوق، وفي بعض الحالات الأخرى أيضًا. فالصحيح أن الإعلان الصحفي ليس إلا دعوة للدخول في العقد، والإيجاب الفقهي هو تقدم صاحب العرض بعرضه، ويتوقف قبوله على إرساء العطاء، فكلما أرسى العطاء، ولو بعد إجراء المفاوضة، تحقق القبول، وتم العقد إذا كان الموضوع بيعًا منجزًا، أو إجارة أو استصناعًا.

وهذا هو الموقف المختار عند الفقهاء في بيع المزايدة، ويقول الحطاب رحمه الله تعالى:

" أما بيع المزايدة فالحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له ". (1)

فقوله: " إن أراد صاحبها أن يمضيها له " صريح في أن العرض الزائد يحتاج إلى القبول.

(1) مواهب الجليل للحطاب: 4/237

ص: 682

ومن هنا قال الدكتور عبد الرازق السنهوري.

" ويعنينا في العقود التي تتم بالمزايدة أن نعرف متى يتم الإيجاب ومتى يتم القبول، فقد يظن أن طرح الصفقة في المزاد هو الإيجاب، والتقدم بالعطاء هو القبول. وليس هذا صحيحًا، فإن طرح الصفقة في المزاد لا يعدو أن يكون دعوة إلى التعاقد عن طريق التقديم بعطاء، والتقدم بعطاء هو الإيجاب، أما القبول فلا يتم إلا برسو المزاد، ويكون هو إرساء المزاد على من يرسو عليه، وهذا هو الذي جرى عليه القضاء المصري في ظل القانون القديم "(1) .

ولما كان التقدم بعطاء إيجابي فالظاهر من ضوابط الإيجاب الفقهية أن يجوز للموجب الرجوع عن إيجابه قبل رسول العطاء الذي يعتبر قبولًا في بيع المزايدة وعلى هذا جرى القانون المصري، كما ذكره الدكتور السنهوري حيث يقول:

" فقد كان يعتبر التقدم بالعطاء إيجابًا لا قبول، ويرتب على ذلك جواز الرجوع فيه قبل إرساء المزاد "(2) .

وقد ذكر في الحاشية على أن على هذا الأساس صدر الحكم من محكمة الاستئناف المصرية، وهذا هو القياس، وإن لم يتعرض لبيانه معظم فقهاء الحنفية، ولكن يظهر من كتب المالكية أن الذي يتقدم بالعطاء في المزايدة – وهو الموجب – لا يحق له الرجوع من إيجابه إلى أن يرسو العطاء. قال ابن رشد – رحمه الله تعالى -:

والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطى فيها ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة " (3) .

(1) الوسيط: 1 / 226، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

(2)

المصدر السابق نفسه.

(3)

البيان والتحصيل: 8 / 476، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت (1404 هـ) .

ص: 683

وقال الحطاب –رحمه الله تعالى –:

" إذا تبين له أنه يصيح عليهم ثلاثة أيام للزيادة، فكل من أعطاه شيئًا لزمه الشراء على أن البائع بالخيار ما لم تنقض أيام الصياح، فلصاحب العبيد أن يلزم المشتري الشراء وإن انقضت أيام الصياح ما لم يتباعد ذلك، وقد قيل: إنه ليس للمشتري أن يرد السلعة بعد مضي أيام الخيار، فعلى هذا القول ليس له أن يلزمه الشراء بعد انقضاء أيام الصياح، ولو كان الذي يصاح عليه في بيع المزايدة مما العرف فيه أن يمضي أو يرد في المجلس، ولم يشترط أن يصيح عليه أياما، لم يلزمه الشراء بعد أن ينقلب بالسلعة عن المجلس "(1) .

وقال بعد ذلك:

" فتحصل من كلام ابن رشد والمازري وابن عرفة في بيع المزايدة أن كل من زاد في السلعة، فلربها أن يلزمه إياها بما زاد، إلا أن يسترد البائع سلعته، ويبيع بعدها أخرى، أو يمسكها حتى ينقطع مجلس المناداة، إلا أن يكون العرف اللزوم بعد الافتراق أو يشترط ذلك البائع، فيلزم المشتري البيع بعد الافتراق في مسألة العرف بمقدار ما جرى به العرف وفي مسألة الشرط في الأيام المشروطة وبعدها بقرب ذلك على مذهب المدونة، فإن شرط المشتري أنه لا يلزم البيع إلا ما دام في المجلس فله شرط ولو كان العرف بخلافه "(2) .

وهذه النصوص صريحة في أن المتقدم بالعطاء في المزايدة ليس له الرجوع عن إيجابه إلى أن يرسو العطاء أو تلغى المزايدة، فإن كان العرف على امتداد هذا اللزوم على المشتري حتى بعد مجلس المناداة، عمل به، إلا أن يشترط المشتري أنه لا يلزمه الشراء إلا ما دام في المجلس، فالشرط يقضي على العرف فظهر بهذا أن المالكية فرقوا بين بيوع المساومة العامة وبين المزايدات، حيث يحق للمشتري في المساومة أن يرجع عن إيجابه متى شاء قبل قبول البائع، ولا يحق له ذلك في بيوع المزايدة.

ولا شك أنه لا فرق بين المزايدة والمناقصة في هذا الموضوع، فينطبق عليها جميع أحكام المزايدة من هذه الجهة، فمقتضى القواعد العامة أنه يجوز لمن تقدم في المناقصة بعطاء أن يرجع عن إيجابه قبل رسو العطاء، ولكن مقتضى ما ذكره المالكية أنه لا يجوز له الرجوع بعد تقدمه بالعرض، وعلى هذا الأخير جرت معظم قوانين المناقصة المعاصرة، وبما أن المسألة اجتهادية، فهناك سعة بأخذ ما فيه مصلحة، ولكن الذي يظهر لي أن القول بإعطاء صاحب العرض الحق في الرجوع أعدل وأقيس، لأننا متى جعلنا عرضه إيجابًا، فلا وجه لحرمانه من الحقوق التي يستحقها الموجب في البيوع الأخرى.

(1) مواهب الجليل، للحطاب، 4 / 238، طبع (1398هـ) .

(2)

المصدر السابق: 4 / 239.

ص: 684

ثم إن الفقهاء المالكية إنما ألزموا الإيجاب على الموجب في المزاد العلني، الذي يتقدم فيه كل أحد بعطائه عن بصيرة تامة وعن علم بما تقدم به الآخرون، ويرسو العطاء فيه فورًا، أما المناقصات فمعظمها تجري على أساس السرية ويقع البت فيها بعد مدة، وحينئذ قد يضطر فيها صاحب العرض إلى سحب عرضه لتقلبات الأسعار في السوق أو لأعذار أخرى حقيقية، فلا تقاس المناقصة السرية على المزاد العلني الذي يقع فيه البت في المجلس.

هل العرض الأقل لازم على صاحب المناقصة؟ !

ومن النتائج المنطقية لجعل العرض إيجابًا، أن يحق لصاحب المناقصة أن يقبل ما شاء من عطاء ويرفض ما شاء، وبهذا صرح الفقهاء المالكية في المزايدة، فقال ابن رشد رحمه الله:

" وهو (أي البائع في المزايدة) مخير في أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها ثمنًا وإن كان غيره قد زاد عليه، هذا الذي أحفظ في هذا من قول الشيخ أبي جعفر بن رزق رحمه الله، وهو صحيح في المعنى، لأن حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه إن أبى من التزامها، وقال له بع سلعتك من الذي زاد علي فيها لأنك إنما طلبت الزيادة وقد وجدتها: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك، وليس طلبي الزيادة فيها "(1)

فلو أجرينا المناقصة على أساس هذا القول، جاز لصاحب المناقصة أن يقبل أي عرض شاء، سواء كان أقل أو أكثر، وربما تضطر الجهة الطالبة للمناقصة إلى قبول عرض سعره أكثر لمصالح أخرى، مثل كون صاحب العرض أتقن وأوثق بالنسبة لمن عرض سعر أقل، ولكن بما أن المناقصات تجري عمومًا من قبل الجهات الحكومية أو المؤسسات الكبرى التي تمر فيها العملية من خلال أيدي كثير من الناس، فإن قبول السعر الأكثر معرض لتهمة التواطؤ، والرشوة وغيرها، فينبغي أن تكون مثل هذه المناقصات خاضعة لتشريعات تضمن شفافية العملية، ويؤمن معها من التواطؤ والرشوة.

هذا كله بالنسبة للمناقصات التي موضوعها عقد بات، كالبيع أو الإجارة، أو المقاولة والاستصناع. أما إذا كان موضوعه توريد أشياء غير مملوكة للبائع، فقد ذكرنا فيما سبق أن اتفاقية التوريد في هذه الحالة مواعدة لإنجاز العقد في المستقبل. فليس هناك إيجاب وقبول لإنجاز العقد في هذه المرحلة، وإنما الإعلان الصحفي لمثل هذه المناقصة دعوة للتجار للدخول في مواعدة أو التفاهم العام، ولكن لا بأس أن تتخذ لها جميع الإجراءات التي ذكرناها، بشرط أن لا يظن أن إرساء العطاء عقد بات للبيع مضاف إلى المستقبل، بل يرسو العطاء على أنه مواعدة من الطرفين ملزمة عليهما، لإنجاز البيع في تاريخ مستقبل. وقد فصلنا الفرق بين الأمرين عندما تكلمنا عن التوريد.

(1) البيان والتحصيل، لابن رشد، ص 476.

ص: 685

الأنواع المختلفة للمناقصة:

وللمناقصة أنواع مختلفة، فمعظم المناقصات مناقصات عامة تتجه دعوة المشاركة فيها على كل من يريد ذلك، ولذلك تنشر الدعوة في الجرائد والصحف، وبعضها مناقصات خاصة لا تعلن في الصحف، وإنما توجه فيها الدعوة إلى عدد محدود من المشاركين بتوجيه الرسائل إليهم، ولا فرق بين النوعين من الناحية الشرعية، فكل ما ذكرنا من تكييف المناقصة وأحكامها ينطبق على النوعين سواء بسواء.

وكذلك تنقسم المناقصات إلى مناقصات محلية تقتصر محلية تقتصر الدعوة فيها إلي التجار والمقاولين في داخل البلد، وإلى مناقصات دولية يشترك فيها التجار من خارج البلد أيضًا، ولا فرق بينهما أيضًا من حيث أحكام الشريعة.

وهناك مناقصات علنية تكون عروض الأسعار فيها مكشوفة لكل واحد ومناقصات سرية تقدم فيها العروض في ظروف مختومة، ولا يطلع أحد من المشاركين على تفاصيل عرض الآخر إلى أن يرسو العطاء. والمعهود في الفقه الإسلامي هو المزاد العلني، وما وجدت للمزاد السري ذكرًا في كتب الفقه، ولكن ليس معنى ذلك أن المزاد السري ممنوع شرعًا، لأنه لا يلزم بسرية العروض محظور شرعي، بل العروض السرية أبعد عن شبهة النجش وغيره، فلا مانع من كونها سرية، وكذلك المناقصة والتكييف الفقهي والأحكام المتعلقة به في كلا من النوعين سواء.

ص: 686

قيمة دفتر الشروط:

والمعمول به في المناقصات عمومًا أن الجهة الإدارية التي تريد أن تجري المناقصة تسجل تفاصيل العقد ومواصفاته في دفتر، وهذا الدفتر يعطى للمشاركين بعوض مالي، فالسؤال الفقهي: هل يجوز للجهة الإدارية أخذ عوض مقابل دفتر الشروط؟ فإذا نظرنا إلى أن هذا الدفتر إنما يرجع نفعه إلى الجهة الإدارية، حيث إنها هي التي تريد أن تجري المناقصة لصالحها، لم يكن هناك مبرر لها في أخذ عوض مقابل هذا الدفتر. ولكن هناك ناحية أخرى لا يمكن غض النظر عنها، وهي أن إعداد دفتر الشروط ربما يحتاج إلى دراسات فنية، ورسم خرائط دقيقة، مما يتطلب جهدًا ومالًا، ومن ناحية أخرى، إن هذا الدفتر يخفف مؤونة المقاولين أو التجار، لأنه لولا هذا الدفتر لاحتاج كل عارض إلى أن يجرى هذه الدراسات الفنية بنفسه، ويتكبد في ذلك جهدًا، ويبذل لأجله مالًا، ومن هذه الجهة يبدو أن الجهة الإدارية تستحق أن تطالب عوضًا مقابل هذا الدفتر.

والذي يظهر لهذا العبد الضعيف – عفا الله عنه – أنه لو كان دفتر الشروط لا يتضمن دراسات فنية، وكان مشتملًا على مجرد شروط العقد، فلا يجوز للجهة الإدارية أن تتقاضى عليه ثمنًا، لأنه بمنزلة بيان شروط العقد من أحد العاقدين، ولا يجوز أخذ العوض على ذلك. إما إذا كان هذا الدفتر مشتملًا على دراسات فنية يحتاج إليها المشاركون في المناقصة لإعداد عروضهم، فيجوز للجهة الإدارية أن تأخذ على دفعه عوضًا يغطي تكاليف الجهة الإدارية في إعداده.

وهذا قريب مما صدر به قرار من مجمع الفقه الإسلامي في موضوع بيع المزايدة، ونصه ما يلي:

(لا مانع شرعًا من استيفاء رسم الدخول – قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية – لكونه ثمنًا له " (1) .

(1) قرار رقم (73) : 4/8، للدورة الثامنة للمجمع المنعقدة في بروناي، دار السلام سنة (1414هـ) ، وراجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثامن: 2: 25، فقرة (5) .

ص: 687

طلب الضمان من المشاركين:

وإن الجهة الإدارية صاحبة المناقصة تطالب المشاركين بتقديم ضمان، وهذا الضمان على قسمين.

القسم الأول، هو الضمان الابتدائي الذي يطالب بتقديمه مصحوبًا بتقديم العرض، والغرض منه التأكد من جدية العارض في تقديم عرضه، ويكون مبلغ هذا الضمان نسبة من قيمة العرض عمومًا، والمعمول به أن هذا المبلغ يصادر عليه إذا سحب العارض عرضه قبل موعد إرساء العطاء ويرد هذا المبلغ إلى أصحاب العروض الذين لم يفوزوا بالصفقة.

والقسم الثاني، هو الضمان النهائي: ويطالب به من رسا عطاؤه وفاز بالصفقة، والمقصود من مطالبة هذا الضمان إلزام من نجح في المناقصة بتنفيذ العقد بشروطه ومواصفاته ومواعيده الزمنية، فهو ضمان يقدمه المتعاقد لتوثيق التزاماته وأنه سوف يقوم بمسؤولياته العقدية في وقتها الموعود.

حكم الضمان الابتدائي:

فأما الضمان الابتدائي، فحكمه أنه لا يظهر هناك مانع من المطالبة به للتأكد من جدية العارض مادام أنه لا يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وهذا إنما يحصل إذا بقي مبلغ الضمان كأمانة عند الجهة الإدارية، ولو وقع خلطه بالأموال الأخرى، فيكون مضمونًا عليه، وإن وقع استثماره، فيجب أن يرجع ربحه إلى صاحب العرض الذي قدمه، وإن لم يفز هذا العارض بالصفقة، بمعنى أنه لم يقبل عرضه، فإنه يرد عليه كامل المبلغ، مع ربحه إذا أودع في وعاء استثماري مقبول شرعًا (1) .

(1) البيان والتحصيل: 8/486، وقد سبق تفصيله.

ص: 688

وما يعمل به عمومً من مصادرة هذا المبلغ إذا سحب العارض عرضه قبل موعد إرساء العطاء، غير مقبول من الناحية الشرعية إطلاقًا، وهو من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، لأننا حققنا فيما سبق أن التقدم بالعرض إيجاب من قبل العارض. ويحق شرعًا لكل من يتقدم بالإيجاب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فلا وجه لمصادرة ما تقدم به من الضمان الابتدائي، وكثيرًا ما تقع حالات يضطر فيها العارض لسحب عرضه، فكيف يجوز معاقبته في مثل هذه الحالات؟ حتى لو أخذنا بقول المالكية الذين يرون التقدم بالعرض في المزايدة ملزمًا على الموجب / العارض، ولا يعترفون بحقه في الرجوع، فإن غاية هذا الإلزام أن يجبر على العقد قضاء، أو يحمل الضرر المالي الذي تضررت به الجهة صاحبة المناقصة فعلًا، وإلا صارت هذه المصادرة عقوبة مالية لا يجوز لأحد أن ينفذها إلا القاضي على قول من يجوز الغرامة المالية كعقوبة مشروعة، وخاصة في حين أن المالكية إنما ألزموا الإيجاب على العارض في المزاد العلني الذي يرسو فيه العطاء في مجلس المزاد، ولا ينطبق ذلك تمامًا على المناقصات السرية التي يتم البت فيها بعد مدة تحتمل فيها تقلبات الأسعار بصفة غير متوقعة.

فلا يجوز شرعًا مصادرة الضمان الابتدائي إذا سحب العارض عرضه قبل إرساء العطاء. وقد يستشكل هذا بأنه لا تظهر هناك فائدة لهذا الضمان إذا وجب رد مبلغه إلى العارض في جميع الحالات، والجواب عن هذا الإشكال أن هذا المبلغ ليس إلا للتأكد من جدية صاحب العرض، وليس ضمانًا في مفهومه الفقهي، فإن الضمان إنما تسبقه مديونية، وإن مجرد التقدم بالعرض لا ينشئ دينًا على صاحب العرض ولا شك أن من يتقدم بهذا المبلغ عند تقديم عرضه، فإنه ينبئ عن جديته في الاشتراك، لأنه لا يتنازل أحد عن سيولته، ولو لمدة قصيرة، إلا من يريد أن يدخل في العقد حقيقة، وهذه الفائدة حاصلة، والله سبحانه أعلم.

ص: 689

حكم الضمان النهائي:

أما الضمان النهائي، فإنه يطالب به من يفوز بالصفقة من بين العارضين وإنما يطالب به لتوثيق أن الفائز بالصفقة يلتزم بمسؤولياته التعاقدية، وقد زعم بعض الناس أنه من قبيل العربون، وليس الأمر كذلك، لأن العربون الذي أجازه الحنابلة إنما يقدمه المشتري، وصاحب العرض في المناقصات هو البائع إذا كان موضوع المناقصة توريدًا، أو استصناعًا، والمؤجر إن كانت المناقصة موضوعها تقديم بعض الخدمات، والواقع أنه لا يوجد هناك نظير في الفقه الإسلامي بمطالبة شيء من البائع أو المؤجر إلا مطالبة الرهن من المسلم إليه الذي جوزه بعض الفقهاء ومنعه آخرون. ولكن ذلك إنما يمكن إذا كان البيع باتًا، كما في السلم أو الاستصناع، أما في عقود التوريد فلا. وغاية ما يمكن أن يبرر به هذا الضمان هو على أساس (ضمان الجدية) فينطبق عليه كل ما ذكرنا في الضمان الابتدائي من أنه أمانة ابتداء، وإن خلط بمال آخر، فإنه مضمون على صاحب المناقصة، وإن وقع استثماره فإنه يرجع ربحه إلى المتقدم به، ويجب رده، مع ربحه (إذا كان مستثمرًا في جهة مقبولة شرعًا) على صاحبه عند تمام تنفيذ العقد. ولا يجوز مصادرته إلا إذا تخلف صاحبه من أداء واجبه، وحصل بالتخلف ضرر مالي لصاحب المناقصة فعلًا، فيمكن أن تقع المقاصة بين هذا المبلغ وبين ما يجب على المتعاقد من تعويض مالي:

وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي بشأن الضمان في بيوع المزايدة بما نصه:

" طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعًا، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة "(1) .

وبما أن هذا القرار كان موضوعه المزايدة، ويطلب فيه الضمان من المشتري، فيمكن تخريجه على أساس العربون، وليس الأمر كذلك في المناقصات التي يطلب فيها الضمان من البائع أو المقاول، فلابد من رد هذا المبلغ بعد تنفيذ العقد مع سائر واجبات المتعاقد الأخرى، ولا يصادر هذا المبلغ إلا في الصورة التي ذكرناها من تخلف المتعاقد عن تنفيذ العقد، وتحميله الضرر الفعلي المالي الذي أصاب صاحب المناقصة، حينئذ تقع المقاصة بين المالين، والله سبحانه وتعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

(1) قرار رقم (73) : 4/8، في الدورة الثامنة للمجمع المنعقدة في بروناي سنة (1414هـ)، مطبوعًا في مجلة المجمع (العدد الثامن) : 2 / 25، فقرة (4) .

ص: 690