الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامه
إعداد
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
ممثل المملكة المغربية في عضوية المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرط الجزائي
ومختلف أحكامه وصوره
تقديم هذا الموضوع من بين العناوين الكثيرة التي أحسن المجمع صنعًا بتقديمها للدراسة، بسبب كثرة تناولها في الحياة العملية، وقلة اطلاع الكثير على استحواذ الشريعة الإسلامية على أحكام كثير من صورها، وتأثير تلك الأحكام على نظريات التشريعات الوضعية إليها.
والذي ينبغي أن يلفت إليه الانتباه بادئ ذي بدء هو: أن هذا الموضوع اهتمت به الدراسات الأصولية غاية الاهتمام فعرفته، وبينت مختلف صوره، وحللت حسب أسلوب دراستها مختلف جوانبه، على أن كلمة (شرط) من حيث مكانتها اللغوية، تبدو حديثة نسبيًّا، إذا لم تجر على الألسنة كثيرًا إلا من عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولذا تلفى قليلة في شعر الجاهلية، وورث تلك الندرة عنه معاجم اللغة، فلم تستعمل إلا بالقدر اليسير الذي يمكن من التعريف بها فقط.
هذا وإن الشرط بصفة عامة يرتبط ببعض الوقائع أو المواضيع الأخرى مثل السبب والمانع والعلة، ارتباطا يتأثر به وضعه في الالتزام، مما يحتم تبين ذلك لتنجلي خصائصه، ومستلزماته ضمن مجرى أية دراسة مخصصة له، فيبرز من خلال ذلك كيف تعاملت معه أمهات الفقه الإسلامية عبر مختلف المذاهب، وما نتج عن ذلك من تداخل بين ذلك التعامل وبين دراساته من وجهة نظر القوانين الوضعية، ليسوق كل ذلك إلى وضع السؤال التالي وهو: كيف نتعامل مع الشرط الجزائي؟ وما هي النتائج التي يمكن أن نخرج بها من خلال المقدمات والعرض الذي يمكن أن نخصص له؟ هذه التصورات تدفعنا إلى دراسة هذا الموضوع ضمن تقسيم ضمناه للمباحث الآتية:
المبحث الأول: تعريف الشرط الجزائي ومختلف صوره.
المبحث الثاني: الأوضاع التي تترتب على الشرط الجزائي.
المبحث الثالث: الشرط بين الشريعة والقانون.
المبحث الأول
تعريف الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامه
هذا المبحث يظهر من خلال عنوانه أنه هو الأساس في هذه الدراسة إذن يكون من الأفيد استعراض ما مكن من التعاريف لتنجلي بها حقائق الموضوع ونتمكن من خلالها من رصد جميع تداخلاته من غيره من أوصاف الالتزام الأخرى.
تعريف الشرط:
الشرط معروف وكذلك الشريطة والجمع شروط وشرائط، والشرط إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه، والجمع شروط، وفي الحديث:((لا يجوز شرطان في بيع)) ، ثم عقب عليه أنه لا فرق عند أكثر الفقهاء بين شرط واحد أو شرطين، وفرق بينهما أحمد، عملًا بظاهر الحديث الآخر وهو:((نهى عن بيع وشرط)) ، وهي أن يكون الشرط ملازمًا للعقد لا قبله ولا بعده، ومنه حديث بريرة: شرط الله يريد ما أظهره وبينه من حكم الله بقوله: ((الولاء لمن أعتق)) وقيل وهو إشارة لقول الله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] وقد شرط له وعليه، والأشراط العلامة، ومنه قول الله تعالى:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، والشرط من الإبل: ما يحلب للبيع، وأشراط الأشياء أوائلها كأشراطها وأنشد ابن الأعرابي:
تشابه أعناق الأمور وتلتوي مشاريط ما الأوراد عنه صوادر
[انتهى من لسان العرب لابن منظور] أما حكمًا فقد تعرض إليه علماء الأصول بكثير من التفصيل والتعاريف نقتصر منها على التعريفات الآتية:
يراد بالشرط عند الأصولين: ما كان وصفًا مكملًا لمشروط، وهذا الوصف يطلق سواء كان مكملًا للسبب، أو للعلة، أو المسبب، أو المعلول ويستلزم أن يكون الشرط من غير ماهية المشروط، وتنقسم الشروط إلى ثلاثة أقسام:
1) شرط عقلي كالفهم في التكليف.
2) شرط عادي كملاصقة النار للجسم المحرق.
3) الشروط الشرعية أي تلك التي أوقف عليها الشارع مشروطات كالطهارة للعبادة، وسلامة العقد من الربا في المعاملات الصحيحة.
وهذا الشرط الثالث هو الذي يعني به هذا البحث، من حيث تعلقه بخطاب الوضع، أو خطاب التكليف، وهو يعتبر مثل الصفة من الموصوف بالنسبة لصلته بالمشروط.
واصطلاحًا عرفه الشاطبي بأنه: ما كان وصفًا مكملًا لمشروطه، فيما اقتضاه ذلك المشروط أو فيما اقتضاه الحكم فيه.
وعن التقسيم الثلاثي أعلاه علق كل قسم بالواقعة التي صاحبها، فالعقلي للتكليف، والعادي لحصول الأمر، والثالث هو الذي ترتب عليه الأحكام وعبر عنه بالعادي لعدم طلب الشارع لتحقيقه أو الكف عنه، ويرتبط الشرط بالسبب عند المالكية ارتباطًا وثيقًا يشير إليه الشاطبي بقوله:(الأصل المعلوم أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط فلا يصح أن يقع السبب دونه ويستوي في ذلك شرط الكمال وشرط الإجزاء، فلا يمكن الحكم مع توقفه على شرط) وسنتعرض لمزيد من التفصيل عند تحليلنا للشرط بصفة أكثر.
وأثناء تعريفه للشرط ميز القرافي بين الشروط اللغوية والعقلية والشرعية والعادية قائلًا بأن الشروط اللغوية قاعدة مباينة لقاعدة الشروط الأخرى، ولا يظهر الفرق بين القاعدتين إلا بيان حقيقة الشرط، والسبب، والمانع، أما السبب فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، أما القيد الأول فاحتراز من الشرط، فإنه لا يلزم من وجوده شيء إنما يؤثر عدمه في العدم، والقيد الثاني: احتراز من المانع، إن المانع لا يلزم من عدمه شيء، إنما يؤثر وجوده في العدم، والقيد الثالث احتراز من مقارنة وجود السبب وعدم الشرط فهو الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، ولا يشتمل على شيء من المناسبة في ذاته، بل غيره، إذا تقرر ذلك: يظهر أن المعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه، ومن السبب وجوده وعدمه، والثلاثة تصلح الزكاة مثالًا لها: فالسبب النصاب، والحول شرط وجوبها، والدين مانع من أدائها.
وإذا ظهرت حقيقة كل واحد من السبب والشرط والمانع، تبين أن الشروط اللغوية أسباب، خلاف غيرها من الشروط العقلية كالحياة مع العلم، أو الشرعية كالطهارة مع الصلاة، أو العادية كالسلم مع الصعود للسطح، فإن هذه الشروط يلزم من عدمها العدم في المشروط، ولا يلزم من وجودها وجود، ولا عدم والمثال السابق في الزكاة صالح لفهمها، وناقش محمد بن حزم الظاهري بعض تعريفات الشرط نقاشًا نقتبس منه ما يلي:
لقد عزا للغزالي القول بأنه ما لم يوجد المشروط دونه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده، وقال بفساد هذا الرأي قائلًا بأن فيه تعريف الشرط بالمشروط، والمشروط مشتق من الشرط، وأخفى منه، وتعريف الشيء بما هو أخفى منه، يزيده غموضًا.
ثم قال: إنه يلزم عليه جزء السبب، إذا اتحدا فإنه لا يوجد الحكم دونه، ولا يلزم من وجود الحكم عند وجوده، وليس بشرط، ثم ناقش تعريفًا آخر قائلًا بأن الشرط هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر في تأثيره لا في ذاته، وأيضًا أفسد هذا التعريف، معترضًا بأن الحياة القديمة شرط في وجود علم الباري وكونه عالمًا ولا تأثير ولا مؤثر.
ويمكن أن توجه عدة ملاحظات لهذا المثل أهمها أن علم الباري لا يتوقف على شرط فعلمه يجب الإيمان به غير موقوف على شيء، وأيضًا لأن التناسب بين علم الباري وعلاقة الشرط بالالتزام متباينان جدًا، فالشرط الذي يتكلم عنه ابن حزم هنا، هو ذلك الذي رتبه البشر على تعامله وبإمكانه إلغاؤه أو تعديله، وأيضًا يمكن أن تعتريه الاختلالات الكثيرة، ومداره الاحتمالات الظنية في مختلف الأحكام التي توقفت عليه، من حيث التحقيق أو عدمه، وهذا غير جائز أن توصف به الذات العلية، ثم انحاز ابن حزم بعد هذا كله إلى قريب من تعريف الشاطبي السابق وذلك بقوله: والحق في ذلك أن الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما، على وجه لا يكون سببًا لوجوده، ولا داخلًا في السبب، وهذا يعني شرط إبرام العقد وما يترتب عليه من إجراءات وأحكام، ويخرج بذلك شرط السبب لأن الشرط يلزم من انتفائه السبب، وانتفاء السبب ينتج عنه انتفاء الالتزام لأن السبب داخل في العقد ويعتبر جزءًا منه بينما الشرط يعتبر خارجًا عنه أي خارجًا عن الالتزام وليس جزءًا منه، وقسمه إلى ثلاثة أقسام هي:
1) شرط عقلي كالحياة للعلم والإرادة.
2) شرط شرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم.
3) شرط لغوي وصيغه كثير منها (إن) الخفيفة، وإذا، ومن، ومهما، وحيثما، وإذ ما، وأصل هذه الصيغ (إن) الشرطية لأنها حرف وما عداها من أدوات الشرط أسماء والأصل في أدوات المعاني للأسماء: الحروف، وفي جميع الصور إما أن يتحد الشرط والمشروط أو العكس، أو يتعددان فاتحاد الشرط والمشروط مثاله: أكرم بني النبي صلى الله عليه وسلم إن وجدتهم، هذا الكلام يعني التخصيص بالشرط، وفي موسوعة فقه عبد الله بن عمر تأليف الدكتور محمد قلعة جي عزي لابن عمر تعريفًا للشرط هو:(تعليق وجود شيء على شيء آخر)، وقسمه أيضًا إلى الأنواع الثلاثة وهي:
1) شروط اشترطها الشرع، فليس لأحد التسامح فيها، ويجب تحقيقها حسب وصف الشارع لها، كالصفات التي اشترطها في الوارث حتى يتحقق الإرث.
2) الشروط التي يشترطها العباد بعضهم على بعض وهي تهم جميع مجالات التعامل، وهذه معتبرة بحسب الصيغة والوضع الذي تم الاتفاق عليه، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ولذلك أعتق ابن عمر غلامًا واشترط عليه أن له عمله ثلاث سنين، ولما انتهى جزء من السنة الأولى تنازل عن بقية شرطه وأعتقه، وهذا أخذ منه الفقهاء مبدأ وقف تحرير الرقبة على شرط ومبدأ التنازل عن الشرط بصفة عامة.
3) الشروط التي ترد على المعاملات، ونسب إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يصح شيء منها إلا إذا كان ملائمًا لطبيعة العقد، كاشتراط تعجيل الثمن أو تأجيله، واشتراط أخذ كفيل بالثمن واشتراط رب المال على المضارب ضمان ما نقص من رأس المال أو هلك، أما إذا كان الشرط يناقض طبيعة تكوين العقد أو نفاذه فالشرط فاسد، ومن التعاريف العامة: ما أوقفه مصنف ابن ابي شيبة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه قال: " إن مقاطع الحقوق عند الشروط "(1) .
وهذه الجملة يمكن أن نستخرج منها أحكام الشرط وعلاقته بالمعاملات، وللمالكية تعريف رائع للشرط نقتبسه من كتاب الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، تأليف العلامة محمد بن أحمد الدردير، فقد قال: وشرط شيء: ما كان خارجًا عن حقيقته وركنه ما كان جزءًا من حقيقته، والشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم (2) .
وفي معرض كلامه عن الموضوع ألمح إلى بعض الأحكام العامة للشرط، وذلك بقوله:" ومراده بالشرط ما يتوقف عليه الشيء من صحة ووجود، أو هما معًا، فيشمل السبب كدخول الوقت "(3) .
وأشار المحقق في التعليق إلى أن مراده باشتراط الوجود ما تعمر به الذمة، ولا يجب على المكلف تحصيله.
ثم ألمح إلى أن حقيقة شرط الوجود تناقض حقيقة شرط الصحة، فكيف يجتمعان؟ إذ شرط الوجود ما تعمر به الذمة، ولا يجب على المكلف تحصيله، وشرط الصحة ما تبرأ به الذمة ويجب على المكلف تحصيله، فأجاب بقوله:" مراده أنهما إذا اجتمعا يعرفان بما ذكر ".
(1) مصنف ابن أبي شيبة
(2)
أقرب المسالك: 2 / 258
(3)
المصدر السابق: 2 / 131
المبحث الثاني
الأحكام التي يمكن أن تطبق
على الشرط بصفة عامة
إن قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، بأن الشرط مقاطع الحقوق يبين لنا أهمية الشرط في جملة المعاملات التي يوقفها أصحابها على شرط ما، ومنه يمكن أن تستخرج أحكام كثيرة، وبالرجوع إلى كتاب أقرب المسالك: نراه في باب البيوع تعرض لعدة مواضيع تجعلنا ندرك الحالات التي اعتمدها المالكية في الشرط والخلافات بينهم في شأنه، من ذلك:
" لو شرط إن لم يأت بالثمن لكذا، نحو لآخر الشهر أو لعشرة أيام (فلا بيع) بيننا، فألغى الشرط، ويصح البيع وغرم الثمن الذي اشترى به، قاله في المدونة، فهذه الحالات يصح فيها البيع بعد الوقوع ويبطل الشرط ".
فمنهم من أفسد البيع من أصله لخلل علق بشرط من الشروط، وقسم يفسد البيع ما دام المشترط متمسكًا بشرطه، كشرط بيع وسلف، وقسم يجوز فيه البيع والشرط، إذا كان الشرط جائزًا لا يؤدي لفساد ولا حرام، وقسم يمضي فيه البيع ويبطل الشرط، وهو ما كان الشرط فيه حرامًا إلا أنه خفيف لم يقع عليه حصة من الثمن.
هذه الصور الثلاثة عالج بها المالكية الشرط، وملخصها أنهم أجازوا البيع وأفسدوا الشرط، وأفسدوا البيع وأجازوا الشرط، وأفسدوا الشرط والبيع معًا.
وهذا يعطي انطباعًا أساسيًّا يسوق إلى الجزم بأن فقهاء الإسلام اعتادوا التساهل في كل معاملة لم تهدم حقًا من حقوق الله أو حقوق أحد من عباده، وهي مرونة تشريعية تكسب الفقه الإسلامية إمكانية استنباط الأحكام العادلة، لكل مستجد من صلب مشاكل الحياة المتجددة.
فإذا كان الشرط تتوقف عليه أوضاع كثيرة بالنسبة للتصرفات، فإن أهم ما يميز حالاته هي الصفة الجزائية التي تصاحب إحدى صوره، وهي تصاحب الشرط، إما باختبار طرفيه، أو تبني أحدهما لها، وقوبل الطرف الآخر بها في الصفات البعيدة عن الإذعان، وإما بإملاءات الطرف: المذعن بكسر العين وقبول الطرف المذعن بفتحها، وإما بإرادة الشارع في بعض الأحكام التكليفية، والتي إن تخلف شرط صحتها بطلبات وردها الشارع على فاعلها لتخلف شرط صحتها.
وهذا النوع من الشرط تعرض الشاطبي إلى التعريف به وتحليل كثير من أحكامه، التي يستخلص منها أن الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف، وليس بجزء من العقد، والمستند فيه - الاستقراء في الشروط الشرعية، كالحلول للحول بالنسبة للنصاب والحنث في اليمن وزهوق الروح بالنسبة للقتل، فتوفر هذه الشروط اعتبر ضروريا لتطبيق الحكم الشرعي، جزاء على تصرف من أخل بواحد منها – وسوى الشاطبي في هذا الصدد بين شرط الكمال وشرط الإجزاء، عندما يكون السبب متوقف التأثير على شرط لا يصح أن يقع السبب بدونه، فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط.
وهذه الأحكام التي اتبعها علماء الأصول هي التي اعتمدها أصحاب القوانين الوضعية، كما سيتضح من المحور الثالث من هذا البحث، حتى إن عبارة وصف الالتزام التي يدرس تحتها الشرط والأجل هي نفسها التي كانت سائدة قبلهم في بحوث الشاطبي لهذا الموضوع، إذ قال بأن اصطلاح الشرط هو ما كان وصفًا مكملًا لمشروطه، فيما اقتضاه ذلك المشروط، وفيما اقتضاه الحكم فيه.
وهذه العبارة تستخلص منها عدة مبادئ منها أن عبارة الشرط الواردة في العقد، والتي اتفق عليها الطرفان، بمحض إرادتيهما، أو وردت في جملة إملاءات صاحب عقد الإذعان، وقبل بها الزبون بإرادته أيضًا، كل هذه الحالات يجب تطبيقها، مع الجزاء المنصوص عليه في العقد عند حالة الإخلال بالالتزام بما اشترط عليه الطرف الآخر، أو ما يراه القاضي من جزاء له على الإخلال بشرطه كالتوقف أو عدم النفاذ.
وقسم الشرط بحسب الواقعة التي صاحبها أو أنشئ من أجلها إلى ثلاثة أقسام هي: شرط العقل للتكليف، والثاني شرط ملاصقة النار للجسم لتحقق واقعة الحرق، والثالث الشروط الشرعية، كالطهارة في الصلاة والحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، وهذا النوع الثالث هو الذي تهتم به دراسات فقه المعاملات، على أن تعلق الحكم الشرعي بأية واقعة يستلزم تصنيفها في أحد أوجه الخطاب الشرعي كخطاب الوضع، أو التكليف، لأن ذلك يسهل التكييف الشرعي المساعد على إصدار الحكم، وهذا النوع من الشروط يرتبط بالسبب ارتباطًا وثيقًا، وهذا يقتضي القول بأن في المسألة رأيين: الرأي الأول: ذهب أصحابه إلى أن السبب مقتضى لمسببه، فغلبوا اقتضاءه، ولم يراعوا توقفه على شرط، أما أصحاب الرأي الثاني، فقد راعوا الشرط، ورأوا بأن توقف السبب عليه مانع من وقوع مسببه، فلم يراعوا حضور السبب بمجرده بل لابد أن يحضر الشرط.
ولا شك أن هذا التلازم بين الشرط والسبب دقيق إلى درجة تحتم دراسة كل واحد منهما عند التعرض لدراسة الآخر وهي شكلية سنها علماء الشريعة الإسلامية أيضًا بقرون قبل أن يحذو حذوهم فيها علماء القانون، مع طمس آثار البحوث الإسلامية في هذا المجال، حتى لا يشد اهتمام الباحثين بأسبقيات الإسلام، فيكسبه ذلك حضورًا في مجال الساحات القانونية، ومن الأوائل الذين تعرضوا لهذه المسألة، الشاطبي فقد استعرض جملة من الوقائع التي يظهر في كل واحدة منها تداخل بين الشرط والسبب، وضرب لذلك عدة أمثلة سبقت الإشارة إليها.
هذه الحالات بينت لنا كيف يحصل سبب الواقعة حتى يكون ذلك مدعاة لوجودها ثم رأينا كيف تترتب عليها أحكام لتوفر الشرط، وأيضًا تبين لنا أن الشارع رتب الجزاء على الإخلال بالشرط، سواء تعلق بمصاحبته للأحكام التكليفية. أو الوضعية، ومثل الزكاة المتقدم صالح لتوضيح هذه التلازمات، إذ حصول النصاب سبب في وجوبها، ودوران الحول شرطه، وحرمة المال وعذاب الآخرة جزاؤه، واليمين سبب في الكفارة، والحنث شطرها، والصوم أو الإطعام جزاء الإخلال بشرطه وإصابة المقتل سبب القصاص عند العمد والموت شرطه وقتل الجاني جزاؤه، أو الدية في حالة الخطأ، ومفارقة الحياة شرطه.
وأرجع الأصوليون الشروط المعتبرة شرعًا إلى ضربين:
1) ما كان راجعًا إلى خطاب التكليف وهو إما أمر الشارع بتحصيله، كالطهارة للصلاة أو نكاح المحلل دون نية التحلل والمفارقة العادية، وما يترتب عليه من إمكانية رجوع الزوجة لزوجها الأول، فإذا وقع بنية التحليل كان جزاؤه الفساد على المحلل والمحلل له.
2) خطاب الوضع، وهذا الذي نظم الشارع أحكامه، أزال عنه صفة الإلزام إذا لم يتداول الطرفان في شأن طبيعة ذلك الإلزام، ثم منح صاحب الإرادة المنفردة حق الاختيار بين بعض الحالات، التي لم تخل بدأ الشرط ذاته، قال الشاطبي في هذا المجال ما مضمونه:
فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط، ولا في عدم تحصيله، فإبقاء النصاب حولًا حتى تجب الزكاة، ليس بمطلوب الفعل حتى يقال يجب على صاحبه إمساكه لتجب عليه الزكاة فيه، ولا مطلوب الترك، حتى يقال عليه إنفاقه خوفًا أن تجب فيه الزكاة، ولذا فإذا كان الشرط داخلًا في خطاب التكليف، وجب عليه الفعل، وترتب عليه الجزاء بمجرد الإخلال بالشرط بدون عذر، إن كان داخلًا في خطاب الوضع، كان الخيار ما لم يلتزم تحت نص شرط محدد، فعندئذ يكون الإخلال به سببًا في الجزاء الذي يمكن من تنفيذ الالتزام وفق وصف الشرط الذي أبرمت المعاملة تحت طائلته، وعادة يحمل العقد نفسه صفة الجزاء التي يجب الحكم بها عند الإخلال بالشرط، الذي توقف عليه تنفيذ العقد، وعندها ينحصر دور القاضي في الحكم بضرورة تنفيذ الإرادة السلمية للمتعاقدين، وإلى هذا المبدأ أشار الحديث الشريف:((لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) .
وكذلك الحديث الآخر: ((البيعان بالخيار حتى يفترقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله)) ، وقال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
ثم حدد الشاطبي دورا أساسيًّا لتوفر شرط الجزاء، وذلك في أحد أمرين:
1) أن ينص المتعاقدان على توفر شرط معين ليتم تنفيذ الاتفاق أو التعهد وفق مقتضياته، فقد يشترط أحد المتعاقدين على الآخر أن هذا العقد لن يكون ساري المفعول إلا أذا تم إجراء معين، وهو ما يعبر عنه باقتران العقد بشرط واقف، فإذا تعمد أحد المتعاقدين العمل على تخلف هذا الشرط، ترتب الجزاء على المتسبب في تعطيل التنفيذ بسبب العمل على تخلف الشرط، ليتهرب من فعل الواجب (1) ، وإليه أشار ابن السبكي والشاطبي قائلين بأن انعقاد السبب احيانًا لا يكفي لسريان المعاملة، إن كانت تم وقفها على شرط، وهذا ما يفسر كون الشارع لم يسن السبب لذاته وإنما ترتب على قصد الشارع للإيقاع أو عدمه حين ارتباطه بالشرط، وعلى الافتراض بني ما قال اللخمي فيمن تصدق بجزء ماله لتسقط عنه الزكاة، أو سافر في رمضان للإفطار، أو أخر الصلاة ليصليها قصرًا، قال فجميع هذه الحالات مكروهة، وإن كان الواجب سقط عنه، ثم إن الشرط الواقف بحكم الممارسات المتكررة، طبقت في شأنه حيل كثيرة أخرجته من الجزاء المادي وإن كان العلماء أجمعوا على أن جزاء الآخرة على الإخلال بالشرط الذي التزم به أو أوقف عليه الشارع صحة بعض التكاليف، وهذا يفهمنا بكنه التعريف الذي أطلقه الأصوليون على الشرط بكونه: وصفًا مكملًا لمشروط، سواء كان مكملًا للسبب أو للعلة، أو المسبب (المعلول) داخل فيه ملحوظ باستقلاله عن الذي توقف عليه.
وقد نستخلص من جميع المراجع التي تعاملنا معها في هذا الشأن، أن الشرط واقعة شرعية، اعترتها بعض الأحكام من جواز أو منع وأن الجواز والمنع يتعلقان بطريقة الشرط نفسه، فيعلق به الفساد أحيانًا بسبب ما حمله من شبهة إما من الربا وإما ببعض المعاملات الداخلة تحت حكم نهي الشارع: كصفقتين في بيعة واحدة، ويكون الشرط مباحًا إن أتى توثيقًا لحق أي من المتعاقدين إذا سلم من شائبة المعاملات التي نهى الشارع عنها، كأن يشترط عليه أن يدفع له مبلغًا زائدًا عن أصل الدين وهو حرام إجماعًا اعتبارًا للمدة التي تأخر فيها عن وقت الأداء، لأن هذا الشرط نوع من ربا الفائدة.
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 186.
ويستنتج من هذه الأقوال: أن الشرط اصطلاحًا هو كل أمر ربط به غيره عدما لا وجودًا، وهو خارج عن ماهية المشروط، ولذا فعدم الشرط يستلزم عدم الأمر المشروط، أما وجود الشرط فلا يستلزم عدم المشروط له، ويتشابه الشرط والسبب في بعض الصور، ولكنهما يختلفان من حيث إن الارتباط بين الشرط ومشروطه، إنما هو العدم، أما الارتباط بين السبب ومسببه فهو الوجود، والعدم إذا ترتبط به الواقعة الشرعية عدمًا ووجودًا، ولذلك فالسبب متى وجد، وكان مستوفي الشرائط منتفى الموانع، لابد أن ينتج الحكم المسبب عنه بخلاف الشرط، فإن وجوده لا يوجب وجود المشروط، والشروط بوجه عام إنما هي مكملات للأمور المشروطة في نظر الشارع، كتكميل الصفة للموصوف، بحيث إن عدمها يخل بالمقاصد الشرعية للأحكام، فالقدرة على تسليم المبيع مكملة للبيع الذي هو سبب التملك، ولذا كانت القدرة شرطًا في كمال البيع.
ومن خلال تحليلنا لأحكام الشرط نرى القرافي في كتابه (الفروق) تعرض لهذا الموضوع، بما أزال كثيرًا من الغموض الذي يمكن أن يتسرب إلى ذهن القارئ، فوضح القرافي في (الذخيرة) الفرق الحاصل بين الشرط اللغوي وغيره، قائلًا بأن الشروط اللغوية قاعدة مباينة للشروط الأخرى، وتتجلى تلك الفروق إذا نظرنا تحليله للشرط من خلال بارتباطه بالسبب والمانع، والمقارنة بين هذه المعاني توضح الفرق الشاسع بنيها ضمن ملازمتها للعقد، وطبيعة ارتباط كل واحد منها به ارتباطًا مغايرًا سبق أن أشير إلى تعريفه، وأما الشروط اللغوية عند القرافي فهي التي ينجم عنها الجزاء المقترن بتحقيقها، كقول الزوج لزوجته، إن دخلت الدار فأنت طالق، فيلزم من الدخول الجزاء الذي هو الطلاق، ومن عدم الدخول عدمه، إلا أن يخلفه سبب آخر، كالإنشاء بعد التعليق، وهذا هو شأن السبب إذا ينشأ من عدمه العدم، إلا أن يخلفه سبب آخر.
وغاية القرافي من هذه الأمثلة التي أوجزناها هنا هو أن الترابط في بعض الحالات بين الموضوعين يمكن أن يتم عن طريق الاشتراك لأنه مستعمل فيهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة، ويمكن أن يتم عن طريق المجاز في أحدهما وهو أرجح عنده من الاشتراك، ويمكن أن يتم بطريق التواطؤ باعتبار قدر مشترك بينهما وهو توقف الوجود على الوجود مع قطع النظر عما عدا ذلك.
ثم إن الشرط اللغوي يمكن التعويض عنه، والإخلاف والبدل، كما إذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا، ثم يقول لها: أنت طالق ثلاثًا فيقع الثلاث بالإنشاء بدلا من الثلاث المعلقة، فيمكن إبطال شرطيته، كما إذا أنجز الأمر، دون توقف على حصول الشرط.
ووقع خلاف داخل أعلام المذهب المالكي حول الوقت الذي يعتبر بداية للعمل الموقوف على شرط، فقال اللخمي بلزوم تقديم الحكم على شرطه، ولابن يونس أنه إذا قال: أنت طالق اليوم إن كلمت فلانًا، فإن فئة قالوا باللزوم عند كلامها لمحل الشرط في الوقت الذي حصل فيه الكلام، وقال آخرون بوقوع الطلاق من وقت صدور الشرط من المشترط، ومن هذه الصور عند المالكية أنه إن قال لها:" إن تزوجتك فأنت طالق غدًا، فإن تزوجها قبل الغد طلقت عليه، وإن تزوجها بعد الغد لم تطلق "(1) .
وهذا الحكم وجيه من حيث المبرر الشرعي، فزواجه بها اليوم على شرط طلاقها غدًا، فيه أنه عقد الزواج عليها بما يخالف طبيعته، التي هي نية الاستمرار، وعقده بنية الطلاق غير جائز لدى جميع فقهاء الشريعة، مع أن فوات الوقت الذي أوقف عليه الطلاق وعقده عليها بعده دليل على تراجعه عن شرطه.
ومن الأحكام التي قال بها القرافي هي أن المقدرات لا تنافي المحققات بل تجتمعان، وتثبت مع كل واحدة لوازمها وأحكامها، ويشهد لذلك مسائل:
أحدها: أن الأمة إذا اشتراها شراء صحيحًا أبيح له وطؤها، حتى يظهر العيب، الذي يجب الرد، وعند المالكية الرد بالعيب نقض للعقد من أصله، كما هو الحال بالنسبة لإبطال العقد القابل للإبطال عند أصحاب القوانين المدنية فإذا تم نقضه، ارتفعت الإباحة المترتبة عليه وجميع آثاره في حكم العدم، وإن كانت موجودة ولا تنافي بين وجود الشيء حقيقة، وعدمه حكمًا، كقربات الكفار والمرتدين، إنها موجودة حقيقة ومعدومة حكمًا، والنية في الصلاة من بدايتها إلى آخرها، موجودة حكمًا ومعدومة حقيقة عكس الأول، وكذلك الإيمان والإخلاص وغيرها يحكم بوجودها، إن عدما عدما حقيقيًّا.
النقطة الثانية: من هذه الصور التي درس القرافي تحتها أحكام شرط الجزاء هي: إثبات الشيء يؤدي إلى نفيه، وضرب لذلك مثلًا بمن قال لزوجته: إن طلقت فأنت طالق قبل ذلك ثلاثًا، فالجمهور على أنه يلزمه طلاق الثلاث وذهب الغزالي إلى أنه لا شيء عليه، إذ نسب لابن الحداد أنه لو وقع لوقع مشروطه، وهو تقدم الثلاث ولوقع مشروطه لمنع وقوعه، لأن الثلاث تمنع ما بعدها فيؤدي إثباته إلى نفيه، فلا يقع، وقال أبو زيد: يقع المنجز، ولا يقع المعلق، لأنه علق على محال، وقيل: يقع في المدخول بها، وهذه تسمى مسألة الدور، ويستخلص منها إمكانية شرط الشرط مع حصول السبب لأن حكمة السبب في ذاته، وحكمة الشرط في غيره، فإذا لم يمكن اجتماعه معه لم تحصل فيه حكمته.
(1) الفروق للقرافي: 1 / 70.
القاعدة الثانية: أن اللفظ إذا دار بين المعهود في الشرع، وبين غيره حمل على المعهود في الشرع، لأنه ظاهر كما لو قال: إن صليت فأنتِ طالق فإنا نحمله على الصلاة الشرعية دون الدعاء، وكذلك نظائره.
القاعدة الثالث: أن من تصرف فيما يملك وفيما لا يملك نفذ تصرفه فيما يملك دون ما لا يملك، وعلى هذا فقوله إن طلقتك إما أن يحمل على اللفظ أو على المعنى الذي هو التحريم، فإن حمل على اللفظ فهو خلاف الظاهر والمعهود والشرع وهو مخالف للقاعدة الثانية، وإن حمل على التحريم، وأبقينا التعليق على صورته تعذر اجتماع الشرط مع مشروطه، فيلزم مخالفة القاعدة الأولى، فيسقط الثلاثة التي هي المشروط وما به وقع التباين، إلا أن الجمهور على إبطال هذه التوليدات المعروفة بالسريجية، قال القاضي عز الدين بن عبد السلام: هذه المسألة لا يصح فيها التقليد وإن وقع فهو فسوق، ومن هذه القواعد التي استخلصها القرافي من أنواع الشروط، استعمال المدلول العرفي للكلمة، فإذا قال عليه الصلاة والسلام:((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) حمل على عرفه صلى الله عليه وسلم دون الدعاء.
القاعدة الرابعة: الشرط وجوابه لا يتعلقان إلا بمعدوم مستقبل؛ فإن دخلت الدار فأنت طالق، يحمل على دخول مستقبل، وطلاق لم يقع قبل التعليق إجماعا، فالمشيئة هي التي جعلت شرطًا ولابد لها من مفعول، والتقدير: إن شاء الله طلاقك فأنت طالق، فمفعولها إما أن يكون الطلاق الذي صدر منه في الحال أو طلاق في المستقبل، فإن كان الأول فنحن نقطع أن الله تعالى أراده في الأول، وهذه الشروط أسباب يلزم من وجودها الوجود، فيلزم أن تطلق في وقت الإمكان، وقبول المحل عند أول النكاح، فيكون طلاقك إن شاء الله في المستقبل (1) .
والنتيجة من هذا التحليل أن الشرط لا يتعلق إلا بأمر معدوم، مستقل عن ماهية العقد، وأن جزاءه كذلك لابد أن يكون خاضعًا لنفس الحالات والسبل التي يسلكها الشرط نفسه.
(1) انظر الذخيرة للقرافي في الصفحات التي ذكرت قبل.
وذهب القرافي في الذخيرة إلى التسوية بين بعض أنواع الشرط وبين السبب، وذلك عندما قال:" النظر الأول في الأسباب، فأردف قائلًا: السبب الأول الشرط وهو الأصل لأنه صريح، وما عداه ملحق به، تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال، ثم قال: " مهما شرط وصفًا يتعلق بفواته نقصان مالية ثبت الخيار بفواته، وإن شرط ما لا غرض فيه ولا مالية فيه ولا يثبت الخيار لعدم الفائدة، فيلغى الشرط ويخرج من الخلاف في التزام الوفاء بشرط ".
ووضع ابن السبكي الطريقة التي يترتب بها الجزاء عند تخلف الشرط، من خلال تقسيمه للشرط إلى نوعين:
1) شرط يفرضه أحد أطراف المعاملة فيجعل تحقيقه لازمًا لتحقيق أمر آخر ربط به عدمًا بحيث إذا لم يتحقق الشرط، لم يتحقق ذلك الأمر، ومن ثم يتعطل الالتزام المعلق عليه، ومثل لذلك: بتعليق الكفالة على أمر جائز شرعًا، كأن يقول للدائن: إن سافر مدينك فلان بتاريخ كذا فإن كفالتي تصبح لاغية، فقال: بأن هذا الجزاء جائز، وهذا النوع أطلق عليه بعض الفقهاء الشرط الشرعي.
2) شرط مصدره إرادة شخص واحد ويسمى في اصطلاح فقهاء الشريعة الإسلامية جعلًا، بينما يطلق عليه علماء القانون الإرادة المنفردة، وعن تتبع أحكام الجزاء المضروب على الواقعة عند تخلف شرطها أعطى ابن السبكي في كتابه (الإبهاج في شرح المنهاج) المثل بقول الله عزل وجل:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فإن المشروط ينتفي بانتفائه قبل تسميته ولأن الشرط دل عليه، ثم تكلم عن مفهوم الشرط الذي هو أقوى من مفهوم الصفة لأن سياق النص في الآية الكريمة:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] ، لا ينبغي أن يفهم منه العدول عن تحريم الفعل إن لم يردن تحصنًا، بل المقصود هو بقاء الحرمة مفهومًا من فحوى الخطاب والنص على التشديد.
وتغليظ الجرم لمن تتبع سبل إكراههن على ذلك وعلى من لا يقول بمفهوم الصفة كابن سريج، بالغ إمام الحرمين الجويني في الرد على أولئك، وبين عدم صحة آرائهم.
نستنتج من هذه الأقوال الأهمية التي أعطاها علماء الأصول للشرط الجزائي، إذ تناولوا مختلف صوره بالتحليل والدرس واستخرجوا الأحكام الملائمة لجميع صوره، وعرفوا كل شرط بحسب موقعه في صياغ عبارات حكمه ويعزز هذا ما أشار إليه ابن السبكي بما يدرك منه الخلاف في مفهوم الشرط ليستخدم بحسب دور تلك الدلالة، فإن دلت على العدم اعتبر وقف عدم سريان الالتزام جاريًّا عند تحقق الشرط.
ثم عارضتهم جماعة أخرى حسب تحليلات ابن السبكي محتجة بثلاثة حجج نلخصها فيما يلي:
1) تسمية حرف الشرط من التسميات المجازية، كتسمية الحركات المخصوصة بالرفع والجر والنصب.
2) لا يسلم أنه يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط على الإطلاق، وإنما يلزم ذلك إذا لم يكن للشرط بدل يقوم مقامه، أما إذا كان بدل فلا يلزم ذلك كالوضوء، فإنه شرط في الصلاة ولا يلزم من انتفائه انتفاؤها لجواز أن تؤدي بالتيمم (1) .
3) لو كان مفهوم الشرط حجة لكان قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} دالًا على أنهن إذا لم يردن التحصن يجوز لهن البغاء، ولا يمكن أن يقبل بذلك أي مسلم، وفي سرد أحكم الشرط بصفة عامة وما يترتب عليها من جزاء قال الكاساني: وأما شرائط الصحة فأنواع بعضها يعم المبيعات كلها، وبعضها يخص البعض، أما الشرائط العامة فمنها:
1) شرائط الانعقاد، فكل شرط تعلق بالانعقاد والنفاذ فهو من شرائط الصحة، مع العلم أنه ليس لزامًا أن يكون كل شرط صحة شرط نفاذ، لأن البيع الفاسد عند الحنفية ينعقد وينفذ عند اتصال القبض به، وإن لم يكن صحيحًا.
2) أن يكون البيع معلومًا، وثمنه معلومًا علمًا يمنع المنازعة، فإن كان أحدهما مجهولًا جهالة مفضية إلى المنازعة فسد البيع، وإن كان مجهولًا جهالة لا تفضي إلى المنازعة لا يفسد، لأن الجهالة إذا كانت مفضية إلى المنازعة نتج عن ذلك عند التسليم، وعدم التسليم يفسد البيع، ومعنى هذا أنه إذا اشترى أحد أصنافًا معينة من جنس واحد دون تعيين أي منها عند العقد ففيه خلاف عند الحنفية فمنهم من أفسده، فإذا اشترى مثلًا أحدى الشياه من الغنم ولم يعين أفسد للتفاوت بين شاة وأخرى، لأن الرضا شرط البيع، والرضا لا يتعلق إلا بمعلوم، وحصر الكلام في هذه الحالة في موضعين: أحدهما أن العلم بالمبيع والثمن علمًا مانعًا من المنازعة شرط صحة البيع، والثاني في بيان ما يحصل به العلم بيعًا، فإن كان المعقود عليه مجهولًا فهذا ممنوع إلا أن يكون في شرط خيار، فيقول: خذ أيهما شئت (يعني الشياه) ثم تساءل: وهل يشترط بيان المدة في هذا الخيار؟ فمحمد لم ينص على مدة منحه خيار ثلاثة أيام، وقال بعضهم: لا يجوز هذا البيع إلا بذكر مدة خيار الشرط، وهو ثلاثة أيام وما دونها عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين الثلاثة وما زاد عليها بعد أن يكون معلومًا، وهو قول الكرخي، والطحاوي، وقال بعضهم يصح من غير ذكر المدة.
(1) الإبهاج في شرح المنهاج لعبد الله الكافي السبكي، ص 380.
3) احترام الشروط في مجال الشفعة ونسب لأبي حنيفة أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الثمرة للبائع إلا أن يشترطها المبتاع.
4) شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو المشتري أو للمبيع إن كان من بني آدم، كالرقيق وليس ملائمًا للعقد ولا مما جرى به التعامل كأن يبيع الدار ويشترط أن يسكن فيها شهرًا، ثم يسلمها إليه، أو أرضا على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهرًا أو ثوبًا على أن يلبسه أسبوعًا، لقد أفسد الحنفية حسب رأي الكاساني البيع في جميع هذه الصور، لأن فيه زيادة منفعة مشروطة في البيع، وذلك يعتبر من حالات الربا، بصفتها زيادة لا يقابلها عوض، لأن الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولا جرى به عرف المعاملات، يكون مفسدًا عند الحنفية حسب قول الكاساني.
وعن الشروط الجائزة أورد قائمة طويلة بالحالات التي يشترط فيها شرط لا يناقض تنفيذ الالتزام ومن تلك الحالات:
أ- إذا اشترط أجلًا لتسلم العين المبيعة قبل تسلم الثمن الذي يبعث به فهو جائز قياسًا على أصل جواز التأجيل.
ب- وعنده أن الشرط الموقوف على ثلاثة أيام أو ما دونها ليس بمفسد.
ج- وإن علق البيع على شرط مجهول التحقيق بطل العقد، كأن يعلق على هبوب الريح أو نزول المطر، فهذا لا يجوز لما فيه من الغرر، وهذا مجمع عليه من فقهاء المذاهب.
ومن هذه الحالات بيع العقار قبل القبض فهو جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانًا، وعند محمد وزفر والشافعي رحمهم الله لا يجوز، واحتجوا بأن القدرة على القبض عند العقد شرط صحة هذا العقد.
د- ومن تلك الحالات بيع الدين قبل القبض، وفرقه إلى حالات جوز بيعه في بعضها، وأفسد بيعه في البعض الآخر حسبما يلي:
فأما الذي لا يجوز قبل القبض فمثل رأس مال السلم لعموم النهي الوارد في ذلك، ولأن قبضه في المجلس شرط والبيع يفوت القبض حقيقة.
- وأيضًا لو باع رأس مال السلم بعد الإقالة، قبل القبض، لا يجوز استحسانًا، والقياس أنه يجوز ووجه هذا القياس أن عقد السلم نسخ بالإقالة، لأنها فسخ، وفسخ العقد رفعه من الأصل.
أما عدم الجواز استحسانًا فبناء على ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرب السلم: ((لا تأخذ إلا سلمك، أو رأس مالك)) ، فاستمسكوا استحسانًا بأصل النهي.
وبعدما تكلم الكاساني عن الشرط بصفة عامة في ركن البيع، بين مختلف أنواع الشروط ثم قال تحت عنوان: وأما شرائط جريان الربا فمنها: أن يكون البدلان معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق الربا عندنا، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط، ويتحقق عنده الربا وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرًا فباع حربيًّا درهمًا بدرهمين أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة، في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجوز، وعلى هذا الخلاف المسلم الأسير في دار الحرب، أو الحربي الذي أسلم هنالك ولم يهاجر إلينا، فبايع أحداً من أهل الحرب ببعض الصفقات المتداولة عندهم، وفيه شبهة ظنية اعتبر مما ألجأته إليه الضرورة.
ووجه قول أبي يوسف أن حرمة الربا، كما هي ثابتة في حق المسلمين، فهي ثابتة في حق النصارى، لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال فاشتراطه في البيع يوجب فساده، كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام، ولهما - يعني أبا حنيفة ومحمد – أن مال الحربي ليس بمعصوم بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا أبدله باختياره ورضاه، فقد زال هذا المعنى، فكأن الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك، وإنه مشروع مفيد بالملك كالاستيلاء على الحطب والحشيش، وبه يتبين أن العقد ليس بتملك بل هو تحصيل شرط التملك.
وأنا أرى أن هذا التصور غير صحيح لأن النص في حرمة الربا ورد على عمومه، ولم يخصص فيه حكم ولم يرد عليه استثناء، ولذا فلا يباح للمسلم لا الخمر ولا الخنزير إذا كان في دار الحرب بل إن واجبات الدين وأخلاقيات الإسلام تحتم تجنب المحرمات في كل مكان، وفي أي ظرف وجد فيه المسلم لتجنب النهي من جهة، وليكون قدوة من جهة أخرى، ولا نجاري الكاساني في هذه الأقوال، وفي قوله: إن ملك الحربي لا يزول بدونه، وإذا لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكًا، لكنه إذا زال فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء، لا بالعقد، فلا يتحقق الربا لأن الربا اسم للفضل، يستفاد بالعقد، بخلاف المسلم إذا باع حربيًّا داخل دار الإسلام بأمان، لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان، والمال المعصوم لا يكون محلًا للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد وشرط الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيًّا درهما بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام، فهو على هذا الخلاف الذي ذكرنا لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة ويبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم، إلا الخمر والخنزير.
وذهب أبو حنيفة إلى أبعد من ذلك إذ قال في الذي نسب إليه الكاساني أنه إذا باع مسلم لمسلم آخر أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهمًا بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام فإن يجوز، وخالفه الصاحبان فقالا: لا يجوز، لأن كل واحد منهما لا يملك عصمة نفسه، ولا سبيل إلى تطبيق أحكام الإسلام، وعندهما أن نفس المسلم وماله معصومان متقومان، ونحن نؤيد قول الصاحبين، لأن مال المسلم ونفسه معصومان بالإسلام مهما كان الظرف الذي يوجد فيه، وفي حاشية عبد الله الشهير بالشرقاوي على تحفة الطلاب، تحرير تنقيح اللباب لشيخ الإسلام في زمنه يحيى بن زكريا الأنصاري قال: مدة الشرط في العقود التخييرية تتم بمدة معلومة يبقى الالتزام فيها مرتبطًا بشرطه متصلًا بمشروطه خلال مدة متوالية، في المصراة ثلاثة أيام متوالية تبدأ من وقت إبرام العقد، ثم قال بأنه إذا زاد عن ذلك بطل العقد في هذا النوع من المعاملات لأن الأصل منع الخيار في العقد، إلا ما أذن فيه الشارع، وهذا يسوق إلى القول بأن الخيارات منصوصة وليست اجتهادية وفرق السيوطي بين الشرط والتعليق بقوله: التعليق ما دخل على أصل الفعل فيه بأداته: كإن، وإذا والشرط ما جزم فيه بالأول وشرط فيه أمرًا آخر، واستنبط قاعدة هي:
الشرط إنما يتعلق بالأمور المستقبلية، أما الماضية فلا مدخل له فيها، ولذا لا يصح تعليق الإقرار بالشرط لأنه خبر عن ماض ونص عليه، ثم حدد من الشريعة أربعة أقسام: بعضها لا يقبل الشرط ولا التعليق: كالإيمان بالله والطهارة والصلاة والصوم، والضمان، والنكاح، والاختيار والفسوخ. (1) .
والثاني: ما يقبلها؛ كالعتق، والتدبير، والحجر.
والثالث: ما لا يقبل التعليق: ويقبل الشرط؛ كالاعتكاف والبيع في الجملة.
والرابع: عكسه كالطلاق والإيلاء، والظهار والخلع (2) .
واستنتج من هذا أن التعليق لا فرق فيه بين الماضي والمستقبل إلا في مسألة واحدة وهي، إن كان زيد محرمًا أحرمت فإنه يصح، لأنه ليس لنا خروج عن عبادة بشرط، إلا في الاعتكاف والحج، ثم إن الشروط الفاسدة، تفسد البيع، إلا بشرط البراءة من العيوب، والقرض بشرط رد مكسور عن صحيح، أو أن يقرضه شيئًا آخر على الأصح فيهما (3) .
وفي كتاب الجمل على شرح المنهج قال بأن انصراف أثر الشرط لأجنبي جائز، بعكس صدور الشرط منه وذلك بقوله ليس لشارطه للأجنبي خيار، ثم ركز على أن أثر شرط الخيار يمكن أن ينصرف إلى الأجنبي على المعاملة (4) .
(1) كتاب بدائع الصنائع للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني: 5/192
(2)
حاشية الشيخ عبد الله الأنصاري: 1 / 40
(3)
الأشباه والنظائر للسيوطي، 376.
(4)
الجمل على شرح المنهج للشيخ سليمان: 2 / 85.
المبحث الثالث
الشرط الجزائي بين الشريعة الإسلامية والقانون
تعرفنا في المبحثين السابقين على تعريف الشرط بصفة عامة، والصيغ التي يرد عليها، كما رأينا أن المتعاقدين يمكن أن يختارا صيغة مباحة لتنفيذ اتفاقهما عليهما، كما يمكن في ظل دائرة المباح أن ينصا على تعويض يناله من جعل الشرط لصالحه حتى في حالة ما إذا أخل الطرف الآخر بمقتضيات الشرط، وحتى نتمكن من تسجيل سابقة البحوث الإسلامية في هذا الموضوع سننظر في الشرط الجزائي هنا من وجهة نظر القوانين الوضعية، معتمدين أساسًا على النظريات التي كتبها عبد الرزاق السنهوري لكونه تبنى طريقة مقارنة القوانين العربية مع التشريع الفرنسي، علمًا بأن المبادئ العامة تكاد تكون موحدة في مختلف القوانين الوضعية، وخصوصًا فيما يرجع لمصادر الالتزام، والتي اعتبرت الشرط وصفًا من أوصافها.
إن الشرط الجزائي يأتي نتيجة إرادة مشتركة تولد لدى أطراف العقد يهدفان من خلالها إلى جعل مراحل تنفيذ العقد لا تنتظر حكم القاضي عند الاختلاف حتى في التعويض الذي يمكن أن يطالب به الدائن إذا لم يف المدين بالتزامه، ويطلق عليه التعويض عن عدم التنفيذ، ثم أطلق عليه الشرط الجزائي لمصاحبته لتكوين العقد فتوضع شروطه ضمن التداول العام لتكوين العقد، فيستحق التعويض على هذا الأساس وضرب السنهوري أمثلة لهذا الإجراء منها:
1) يتفق مالك أرض مع مقاول على إنجاز بناء عليها خلال فترة محددة، وإذا تقاعس عن إتمام البناء في تاريخ معين، حتم عليه أن يدفع له تعويضًا بمبلغ كراء ذلك البناء، وقد عرفت حالات كثيرة وقعت في الدول الإسلامية فأيد القضاء فيها هذا الإجراء، في غالب أحواله.
وعلى هذا الإجراء نصت المواد 233 مصري و224 من التقنين العراقي و170 و226 من قانون الموجبات والعقود اللبناني و108 مغربي.
ندرك من هذا أن الشرط الجزائي يتولد عن التزام تبعي يقدر من خلاله التعويض بمبلغ معين، ثم إن شروط استحقاقه هي نفس شروط الالتزام الأصلي وسبب استحقاق هذا التعويض هو خطأ من المدين، وعدم قيامه بالتزامه الناشئ عن العقد الأصلي، ويترتب على الشرط الجزائي تعويض اتفق عليه المتعاقدان عند إبرام العقد الذي نشأ عن الالتزام بالشرط الجزائي، ولابد لكي يكون هذا الجزاء مستحقًا من حصول خطأ من المدين وضرر نتج عن هذا الخطأ للدائن، وبما أن جل القوانين العربية استندت في كثير من أحكامها على القانوني الفرنسي حتى في المعاملات التي تبرز أحكامها جلية في كتب الفقه الإسلامي، فيجدر بنا أن نذكر أن القانون الفرنسي نص في المادة 1152 على أنه إذا ذكر في الاتفاق أن الطرف الذي يقصر في تنفيذه يدفع مبلغًا معينًا من النقود على المثال، فلا يجوز أن يعطي الطرف الآخر مبلغًا أكثر أو أقل من المبلغ الذي نص عليه العقد.
أيضًا من الشروط الأساسية لاستحقاق التعويض الذي نص عليه الشرط الجزائي هو أن تتم العلاقة السببية بين الخطأ والضرر على أن يتم إعذار المدين بضرورة التنفيذ وإلا فأن الشرط الجزائي سيطبق عليه.
وعند محاولة تكييفه للشرط جعله تابعًا تبعية تامة للعقد الأصلي ومعنى هذا أن الشرط الجزائي ليس هو السبب في استحقاقه التعويض، ولذا فلا يتولد عنه التزام بالتعويض، فالذي يتولد عنه هو التزام تبعي بتقرير التعويض بمبلغ معين مع أن شروط هذا الاستحقاق هي نفس شروط الالتزام الأصلي.
شروط استحقاق الشرط الجزائي: هذه الشروط أهمها أنه لا يثبت استحقاق التعويض الناجم عن تحقق الشرط الجزائي إلا إذا وقع خطأ من المدين نتج عنه ضرر يصيب الدائن وعلاقة سببية بين الضرر والخطأ، كما لا يثبت استحقاقه إلا بعد إعذار المدين، وهذه هي الشروط التي حددها القانون على مختلف نصوصه للشرط الجزائي، فإذا لم يتم كل واحد من هذه الشروط لم يمكن الحكم باستحقاق التعويض الناجم عن الشرط الجزائي وهذا التعويض عادة لا يترك السلطة التقديرية للقاضي، إذ في الغالب يتم النص عليه أثناء إبرام العقد وربطه بالشرط الجزائي، وبما أن الالتزام بين الاثنين ناشئ عن العقد الأصلي، فلا يستطيع الدائن مطالبة المدين إلا بما نص عليه الالتزام الأصلي، وهذا يجعل الشرط الجزائي يسري عليه كل ما يسري على الالتزام الأصلي من بطلان وإبطال، وينشأ عن هذا أن الشرط الجزائي – كالتعويض – لا يعتبر التزامًا تخييريًّا، ولا التزامًا بديلا فكونه ليس التزامًا تخييريًّا يفوت على الدائن فرصة المطالبة بتنفيذ أي الالتزامين أراد، بل لا يمكن أن يطالب إلا بتنفيذ الالتزام الأصلي، ما دام ذلك ممكنا، ونفس الشيء أيضًا يقال في حق المدين الذي لا يملك هو أيضًا حق هذا الاختيار.
ثم إن بطلان الالتزام الأصلي ينتج عنه بطلان الشرط الجزائي، فلو أن شخصًا تعاقد مع فاقد الأهلية على ارتكاب جريمة، أو تعهد شخص بارتكاب جريمة، على أن يدفع قسطًا من المال إن لم ينفذ ما تعهد به، فإن لهذا الالتزام يعتبر باطلًا، وبطلانه يجر إلى بطلان الشرط الجزائي، في حين إذا أبطل الشرط الجزائي فلا يجر إلى إبطال الالتزام الأصلي، وكذلك إذا وقع اتفاق الطرفين على فسخ العقد عند الأداء أدى ذلك إلى نهاية الشرط الجزائي بالتبعية التي هي ميزته الأساسية.
وشبه السنهوري الشرط الجزائي ببعض الصور القانونية الأخرى مثل العربون، والتهديد المالي، فإذا كان كل واحد منهما يعتبر تعويضًا ماليًّا يأخذه الدائن عند عدم وفاء المدين بالتزامه، وعدم استحقاق له عند تنفيذ العقد حسب الصيغة التي أبرم عليها، فإنهما مختلفان في كون:
1) العربون هو المبلغ الذي يأخذه الدائن بسبب عدول المدين عن إتمام إبرام العقد الذي تم الاتفاق في شأنه، علمًا بأن العربون يستحقه من دفع إليه عند عدم إتمام الطرف الآخر لما اتفق عليه حتى ولو لم يقع أي ضرر بمن استلم العربون، أما الشرط الجزائي فلا يستحق إلا إذا وقع ضرر نتج عن خطأ، وتوفرت علاقة سببية بين الخطأ والضرر.
2) يمكن اعتبار العربون مصاحبًا لبديل ذلك أن من دفع العربون إذا شاء نفذ العقد ودفع بقية الثمن، وإذا شاء عدل عن الالتزام مقابل السكوت عن العربون، وليست هذه البدلية متوفرة لصاحب الشرط الجزائي، إذ لا يستحق التعويض الناشئ عنه إلا إذا توفرت شروطه السالفة، ولا يستطيع استبداله بغيره.
3) ويختلف الشرط الجزائي مع التهديد المالي من مفارقة أساسية هي أن التهديد المالي يحكم به القاضي، أما الشرط الجزائي، فيتفق عليه الطرفان يحددان المبلغ الناجم عنه ومهمة القاضي هي إلزام من ثبت عليه الشرط الجزائي بأن ينفذ ما التزم به.
آثار الشرط الجزائي:
1) لا يكون التعويض المستحق بسبب الشرط الجزائي مستحقًّا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر.
2) يجوز للقاضي تخفيض مبالغ هذا التعويض إذا أثبت المدين أن تقرير التعويض كان مبالغًا فيه بالنسبة لقيمة الالتزام الأصلي، فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من قيمة الالتزام الأصلي.
ويمكن للقاضي أن يخفض قيمة التعويض إذا تبين أن المدين نفذ جزءًا من التزامه، والثاني كما سلف إذا أثبت المدين أن المبلغ الأصلي كان مبالغًا فيه.
وتجوز زيادة الشرط الجزائي في الآتي:
1) حالة زيادة الضرر على التعويض المقرر بسبب ارتكاب المدين خطأ أو غشًّا جسيمًا تسبب في ضرر لا يمكن أن يستجيب لتخفيف عبء التعويض المنصوص عليه في الشرط الجزائي المادة 217 مصري، والفصل 119 من قانون الالتزامات والعقود المغربي.
2) يجوز للمدين أن يشترط عدم مساءلته عن الغش أو التدليس الذي يقع من أشخاص يستخدمهم على شرط أن لا يكون على أي علم بأي إجراء من هذا القبيل.
3) يقع باطلًا كل شرط جزائي أتى تحايلا على النظام العام، ولا يعفى صاحبه من المسؤولية.
يتبين من هذه الإشارات القانونية الموجزة جدًا أن الشرط الجزائي، في القوانين المدنية أتى موافقًا إن لم يكن مقتبسًا من صلب نظريات الشريعة الإسلامية، خصوصًا هذه الفقرات الأخيرة التي نصت عليها المادة: 271 من القانون المصري بقولها: يبطل كل شرط جزائي أتى تحايلا على النظام العام، ومعنى هذا أن كل شرط جزائي في قانون أية دولة من الدول الإسلامية وقع فيه تحايل على أحكام الشريعة يعتبر بحكم القانون باطلًا لأن الإسلام هو النظام العام بالنسبة لكل هذه الدول وعبر عن هذا الحكم الفصل 108 من القانون المدني المغربي بنصه على بطلان كل شرط يعلق على أمر مستحيل أو مخالف للأخلاق (1) .
(1) انظر الوسيط لعبد الرزاق السنهوري: 2 / 751 وما بعدها.
وعلى هذا الأساس لا ينقص قوانين الدول الإسلامية والعربية على الخصوص، إلا أن تصرح بأن نصوص الشرط الجزائي تبقى متقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية، ولا ضير مع ذلك في التمسك بطريقة التقنين المتبعة في هذا المجال، ما دامت لم تتمرد على أحكام الشريعة الإسلامية، ومن الرجوع إلى تاريخ كل من التشريعين يتبين للقارئ المنصف أن نفس المبادئ التي أتت بها القوانين الوضعية، هي نفسها التي قالت بها مصادر الشريعة الإسلامية من بداية عهدها، فكون الشرط وصفًا من أوصاف الالتزام وليس داخلًا فيه، وكونه يضم اتفاقًا مستقلًا عن العقد، وتباعًا له، ويهتم أساسًا بتعويض اتفق عليه المتعاقدان، ليدفعه من تحمل بخطأ في عدم تنفيذ التعويض الذي أطلق عليه جزاء الشرط، ولا يتم إلا إذا توفر خطأ نتج عنه ضرر وثبتت علاقة سببية بين الخطأ والضرر، وأيضًا نصت القوانين المدنية على أن الشرط الجزائي ليس هو السبب، مما يجعله لايتولد عنه التزام تبعي يتطلب تحديد تعويض جديد، وإنما دور القاضي ينحصر في الحكم بتطبيق إرادة المتعاقدين، وكون بطلان الالتزام الأصلي يتسبب في بطلان الالتزام بالشرط الجزائي، وأيضًا كونه يشبه شكلًا العربون والتهديد المالي، من كون كل واد منهما مبلغًا معينًا يستحقه الدائن بسبب عدم وفاء المدين بالتزامه، مع تسجيل النقط التي يختلفان فيها، كالتهديد المالي الذي يفرضه القاضي على الطرف الذي تمادى في ارتكاب ضرر ضد الطرف الثاني في الالتزام، كل هذه المبادئ هي نفسها التي أشير إليها في المبحثين السابقين، ولتتميم الفائدة فسننظر في المسألة من وجهة نظر كتب الفروع، والفقهاء المعاصرين في الفقرات القادمة لندرك مدى تأثير النظريات الإسلامية في شأن هذا الوضع القانوني تأثيرًا يجعل تنظيم جمعها وتلخيصه في فصول قانونية لم يتمكن من إخراجه عن أصله الذي عالجته الشريعة من خلاله، ولعل النظريات الفقهية التالية تقربنا من هذا التشابه بصفة أكثر بروزًا.
مر معنا في الفقرات السابقة التشابه التام في المبحثين السابقين بين تعريف الفقه الإسلامي للشرط بصفة عامة والشرط الجزائي بصفة خاصة، وهذا الأخير أطلق عليه فقهاء القانون، الشرط الواقف، ثم رأينا كيف أتى التطابق شاملًا بين الفقهيين، فيما يرجع لملاءمة الشرط للعقد، وعدم تمرده على الطريقة التي تمكن من مصاحبة الشرط الجزائي للالتزام وتوقف التصرف على تحقيق الشرط، كما رأينا أن التكييف القانوني للشرط لا يعدو سوى ترتيب دراسة كتب الأصول لهذا الموضوع، وإعطائها تنظيمًا يبعد شكلها عن الأصل الإسلامي، دون إضافة جديد على قواعده.
فإذا قارنا بين التعاريف نجد أنها تمسكت بتعاريف الفقه، فكتب القانون عرفت الشرط بأنه أمر يعلق عليه الالتزام وجودًا أو زوالًا ويكون مستقبلًا وغير محقق الوقوع، المادة 265 مدني مصري، وأيضًا إلى ذلك إشارة المادة 107 من قانون العقود والالتزامات المغربي بقولها: الشرط تعبير عن الإرادة يعلق على أمر مستقبل وغير محقق الوقوع، إما وجود الالتزام أو زواله.
والأمر الذي وقع في الماضي أو الواقع حالًا لا يصلح أن يكون شرطًا وإن كان مجهولًا من الطرفين.
ثم أتى نص الفصل 108 فوضع الصيغ التي لا يصلح الشرط إذا علقت به إحداها، فأبطل تعليق الالتزام على شيء مستحيل، فمثلًا إذا قلت لشخص: أهبك دارًا إذا لمست الشمس بيدك، أو أطلعتها من المغرب، فهذا التزام باطل بحكم هذا النص، لأن الشرط علق بأمر مستحيل وغير قابل للوقوع، وأيضًا كل شرط يخالف أخلاق الإسلام ونصوصه في المغرب يعتبر باطلًا، ويبطل الالتزام الذي علق عليه، لأن الأخلاق العامة والآداب في البلاد الإسلامية لابد أن تراعي مقتضيات الشريعة الإسلامية، ثم أبطل التشريع المغربي جميع الشروط التي تحول بين الإنسان وبين ممارسة حريته في تعاطي الأشياء المباحة كاشتراط عدم الزواج، أو اشتراط عدم ممارسة الحقوق المدنية، فأي شرط من هذا القبيل منعته القوانين المدنية العربية وغيرها من القوانين الأوروبية، وإلى ذلك أشار قانون الالتزامات المغربي في المواد 109 و110 فالشرط في سياق الدراسات القانونية له مقومات لابد أن ينظر إليه من خلالها وهي:
1) لابد أن يكون الشرط أمرًا مستقبلًا ورأينا القانون المغربي استبعد الأمر الحاضر من أن يبني عليه الشرط، إذن يتضح من هذا أن الشرط أمر يعلق عليه الالتزام، ويتحتم أن يترك للزمن القادم فإذا قلت لولدي أمنحك دارًا إن نجحت بتفوق في امتحان الإجازة، فيكون التزامي له علق على شرط واقف حسب التعبير القانوني، وجزائي حسب التعبير الفقهي المعاصر.
2) يجب أن يكون الشرط غير محقق الوقوع وهذه هي الميزة الفاصلة بين الشرط والأجل، فهذا الأخير لا يترتب إلا على أشياء محققة الوقوع، فإذا قلت لشخص: التزم لك بأداء مبلغ من النقود إذا مات فلان، أو إذا حل شهر رمضان فإن هذا التزامًا يكون مربوطًا بأجل لحتمية وقوع ما علق عليه، أما إذا قلت له: اشتري داري على أن أسكن فيها إلى أن ينزل المطر، فإننا نكون أمام أمر مستقبل غير محقق الوقوع، ولكنه غير مستحيل وليس محدد الوقت.
واستعرض السنهوري في كتابه: مصادر الحق في الفقه الإسلامي، كثيرًا من الصور للشرط الجائز وغير الجائز واستند إلى كتاب البدائع مبينًا رأي الحنفية فيها مثل: شرط ثلاثة أيام لإنجاز الثمن، فعلى قول زفر جائز ويقول في شأنه الكاساني:" ومنها شرط الأجل في المبيع العين، والثمن العين، وهو أن يضرب لتسليمها أجل ثلاثة أيام، لأن القياس يأبى جواز التأجيل أصلًا، لأنه تغيير مقتضى العقد ".
وهناك شرط التعليق وهو أمر غير محقق الوقوع يتوقف على حصوله وجود الالتزام أو زواله " وأيضًا شرط الإسقاط كشرط البراءة من العيب، ويفارق شرط الاقتران في أنه إسقاط من مقتضى العقد، بينما شرط الاقتران زيادة فيه، ومن ثم يستبعد شرط الإسقاط أيضًا من دائرة البحث ".
وعزا الرملي بأن الشرط هو شيء مستقل عن العين المبيعة، وهذا سبق أن رأيناه في تحليلات القرافي والشاطبي، وهو الذي نصت عليه مواد القوانين الوضعية التي تعرضنا لها، تنقسم الشروط إلى صحيحة وفاسدة، فالصحيحة هي التي يعبر عنها أصحاب القوانين بأنها لا تخالف الأخلاق العامة والآداب، ولا تخالف طبيعة تكوين العقد والغاية من إنشائه، وتتابعت كتب مختلف المذاهب على وصفها، ونقتفي أثر السنهوري في المصادر المختلفة التي تكلمت عنها ذلك لأنه تناولها بتجرد وشمولية، وحول الشروط الصحيحة قال صاحب البدائع:" وأما الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده " جزء 5 ص 171 وقال الشوكاني في فتح القدير: " الشرط الذي يقتضيه موجب العقد يجوز لأنه مؤكد لموجب هذا العقد " جزء 5 ص215. وللخرشي: " الشرط من الذي يقتضيه العقد " واضح الصحة جزء 5 ص80، وأكد المغني هذا المبدأ جزء 4 ص 280 كاشتراط التسليم وخيار المجلس.
إذن فالشرط الذي يقتضيه العقد جائز، وذلك الذي يلائم تكوين العقد، هذه المبادئ الثلاثة جائزة، وجرى عمل المسلمين بالتعاقد على وقف العقد على أحدها، وقد شاهدنا في المبادئ القانونية الأخذ بها، إما تأثرًا بنظريات الفقه الإسلامي أو تأسيسًا بالقانون الفرنسي الذي تأثر هو في كثير من فصوله بأقوال جل فقهاء الشريعة الإسلامية، وإن كان ذلك التأثر أخفى عن سوء نية، حتى لا يعلق طلبة الجامعات بالفقه الإسلامي، الذي يترجم عطاء حضارة قادرة على الاستحواذ على جميع تطلعات جهات التشريع مهما كانت الظروف الاجتماعية التي أملت عليهم ضرورة البحث عن سن قواعد تشريعية، وإذا ما استعرضنا أقوال مجموعة من أعلام فقهاء المذاهب لتبين لنا أن جميع صنوف الشرط الجزائي التي لا تصطدم بنص إسلامي ولا تبيح محرمًا، ما هي إلا تطبيق من تطبيقات المباح ما لم يرد نص بالنهي عنها.
فعند الحنفية أسهب السرخسي في كتابه المبسوط في جواز التعامل بناء على شرط إذا كان هذا الشرط مما يقتضيه العقد، فهو جائز وتعرض لجميع الحالات المباحة التي يمكن أن يوقف فيها الالتزام على شرط جزائي، ونص البدائع كما سلف على أن الشرط الذي يقتضيه العقد، لا يتأتى عنه فساد العقد، وتضمن الخرشي على مختصر خليل بن إسحاق المالكي أن كل شرط يقتضيه العقد فلا خلاف في صحته، كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب، وقسم ابن قدامة الشروط إلى أربعة أقسام أحدها من مقتضى العقد كتسليم المبيع والرد بالعيب، وخيار المجلس.
هذه النصوص لم نتوسع في سردها هنا لأن المهم أن مبادئ الشرط الجزائي مدرجة في كتب الفقه الإسلامي من قديم، وأن كتب القوانين وتبعًا لها التقنينات الإسلامية نصت عليها، وأن تتبع الأحكام الواردة عليها والشروط التي تتطلبها يبدو فيها كثير من التطابق بين أحكام الشريعة، وبين أحكام القوانين المدنية الوضعية، لذا فإن الشرط الجزائي يجب أن يقدم إلى المجامع اليوم على أصله الإسلامي، إذا كان يلائم طبيعة العقد، ولا يخالف النصوص الشرعية، ولا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، ولا يتضمن وقف الالتزام على مستحيل، ويلاحظ أن كثيرًا من تطبيقاته في جل القوانين العربية تنسجم وروح الشريعة، فلا يخصها إلا إعلان أصلها الإسلامي.
ومن أحسن ما قيل في الشرط الواقف ما أتى به مصطفى شلبي في كتابه، التعريف بالفقه الإسلامي حيث قال:" العقد المعلق: هو ما كانت صيغته دالة على إنشائه وإمضائه من وقت صدورها، ولكن بأداة من أدوات التعليق، على تعليق هذا الإنشاء، وربط وجوده بوجود أمر مستقبل بحيث إن وجد الأمر المستقبل وجد العقد حين وجوده، وإن لم يتم ذلك فلا يوجد العقد ". وذهب علي حسب الله في كتابه أصول التشريع الإسلامي إلى أن الشرط الجعلي يأتي مكملًا للسبب، ثم إنه يتوقف نفاذ العقد على تحققه وقد عبر عنه رجال القانون بالشرط الواقف، وإليه أشار القانون المغربي في المادة 107 بقوله:" الشرط تعبير عن الإرادة يعلق على أمر مستقبل وغير محقق الوقوع، إما وجود الالتزام، أو زواله: " وهذا التعريف ينسجم مع تعريف الشيخ مصطفى الزرقاء بقوله: " ربط حصول أمر بحصول أمر " وهو عكس التنزيل الذي يكون فيه العقد مطلقًا ساري الحكم منذ صدوره (1) .
(1) المدخل للتعريف بالفقه الإسلامي، لمحمد مصطفى شلبي 573.
وركز على ضرورة جهالة حدوث الأمر، وعدم استحالته فلابد أن يكون محتمل الوقوع، ولا ينفذ الالتزام إلا إذا تحقق الشرط، وبعد سرد عدة أمثلة قال:(فالمقيد هنا هو حكم العقد المنشأ، والقيد هو الشرط الذي التزم به العاقد إذا التزم علاوة على العقد الأصلي) .
ونختم بملخص من كلام ابن رشد في بداية المجتهد، إذ تعرض للخلافات التي تمت بين مختلف جميع المذاهب بطريقة تكرس التساهل في أحكام الشرط، وبالأخص تلك التي لا تصطدم بالمباح في أحكام الفقه الإسلامي، ويمكن أن نستنتج من كلامه أن الشرط ينظر إليه من خلال الواقعة التي صاحبها، فالأحاديث التي رأى بعض الفقهاء أنها متضاربة، ليست كذلك حسب نظرنا، وإنما ورد كل حديث منها للحكم على سبب معين بذاته، فيطبق حكمه على ما شبهها اعتبار للقاعدة العامة، ولعلنا سنتبين ذلك من كلام المرجع المذكور (1) فيما يلي:
أحدها حديث جابر قال: (ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا وشرط ظهره إلى المدينة)، أما الحديث الثاني فهو حديث بريرة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط)) ، والثالث حديث جابر قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا، ورخص في العرايا)) ثم استعرض قول أبي حنيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، ثم استشهد باختلاف العلماء بسبب ما يتبين لأول نظرة مما يمكن أن يفهم أنه تعارض بين هذه الأحاديث حول البيع والشرط، فأبو حنيفة والشافعي أفسدا البيع وأجازا الشرط، وأجاز ابن شبرمة البيع والشرط معًا، أما ابن أبي ليلى فعنده أن البيع جائز والشرط فاسد، وقال أحمد: البيع جائز مع شرط واحد، وأما مع شرطين فلا.
(1) بداية المجتهد: 2 / 160.
فإبطال البيع والشرط من قال به أخذ بعموم النهي عن البيع والشرط في صيغة واحدة، والذين أجازوهما معًا أخذوا بظاهر حديث عمر الذي أجاز فيه البيع والشرط، ومن أجاز البيع وأبطل الشرط، أخذ بعموم حديث بريرة، واعتماد الشرط الواحد ثم اعتمد أصحاب هذا القول على الحديث الذي رواه أبو داود عن عمرو بن العاص القائل:(لا يحل سلف وبيع، ولا يجوز شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك) .
أما المالكية، فلهم أحكام عدة في هذا المضمار ومن ذلك: شروط تبطل هي والبيع إذا اشتملت على نسبة عالية من صور الفساد مثل الربا والغرر، وشروط تجوز هي والبيع، وشروط تبطل ويثبت البيع، ومحاولة المالكية التعامل مع الشرط بحسب تأثير ما تضمنته مقتضيات العقد، فإذا كان دخول هذه الأشياء فيه كثير من قبل الشرط أبطله، وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه، ،أجاز الشرط فيه، وما كان متوسطًا أبطل الشرط وأجاز البيع.
ومن خلال هذا التطابق الذي تظهره هذه الاستنباطات التي قال بها المالكية هنا، نتمكن من استنتاج نخرج به من هذا البحث، وهو أن الشرط الجزائي دونت كتب الشريعة الإسلامية أحكامه، ودرستها تحت مسميات متعددة، تارة تحت اسم الشرط الواقف، وأخرى تحت الخيار بشرط، وآونة تحت الأحكام العامة لمختلف الشروط، وكل الحالات التي تم تناول أحكام هذا المبدأ تحتها، فإنها تثبت اتساع دائرة أحكامه، وتعدد المجالات التي يمكن أن يطبق فيها، كما تمكننا هذه الدولة في المراجع الإسلامية من حكم لا يقبل البينة المعاكسة بأن القوانين الوضعية ظلت حبيسة نتائج العطاء الإسلامي في هذا المجال، فلم تستطع في جميع صور الشرط الجزائي المتفقة مع ما تفرضه الأخلاق والنظام العام حسب تعبير مصطلحات ذلك الفقه القانوني، لم تستطع أن تخرج عن تراث الفقه الإسلامي، كما يلاحظ أن هذا الموضوع متسع المضامين قابل للاستحواذ على استقطاب جميع المستجدات العلمية للعصر، من خلال أحكام إسلامية في هذا المضمار واختم بأن أحكام القوانين المدنية العربية في شأن الشرط الجزائي تتفق تمامًا مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، إذ لا ينقصها إلا الإعلان عن تمسكها بأصلها الإسلامي.
ونشير إلى أن جل الأحكام التي اعتمدها قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية الشقيقة بتاريخ 22 / 8 / 1394، قد تضمن كثيرًا من الأقوال والآراء والفتاوي الشاملة لكثير من أحكام الشرط الجزائي، ثم إن القرار الصادر عن تلك الهيئة في هذا المجال اعتمد الحكم لصالح شرع الله دون تحيز ولا تأثر برأي غير البحث عن وجه الحقيقة الشرعية وعليه فالشرط الجزائي إجراء شرعي يرتبط أحيانًا بالمعاملات وليس فيه حرج ولا شبهة، ما دام لم يخرج عن مقتضى قواعد المباح الواسع في الشريعة الإسلامية الغراء، فهو شرط صحيح كلما احترم استبعاد المعاملات المنهي عنها، وبذلك فكل المستجدات التي يمكن أن تعرفها الساحة الإسلامية يمكن أن يستخدم فيها هذا الإجراء.
والله ولي التوفيق