الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطرق الحكمية في القرائن
كوسيلة إثبات شرعية
إعداد
الدكتور حسن بن محمد سفر
أستاذ نظم الحكم الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز
قسم الدراسات الإسلامية
والمشرف العام على مكتب وزير الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي قضى بالحق وهو العليم الحكيم، أقام سمواته وأرضه بالعدل، وأنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، حكيم في قضائه، عدل في جزائه. والصلاة والسلام على من أنزل عليه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد:
فإن الحكم بين الناس وفصل القضاء مقامه عظيم وشأنه كبير ومنزلته عالية، ففيه تحصيل المصالح والمنافع للأمة، وفيه قضاء على الفوضى والتظالم، حيث يحسم الحكم التنازع بين الخصوم وفي ذلك رضاء للخالق والخلق. لذلك نجد أن الشريعة الإسلامية اهتمت بأمر الحكم وولاية القضاء وما يتصل بها من آداب وأحكام كما اهتمت بوسائل إثبات الحق وطرقه. وإن من طرق الإثبات الشرعية، أو طرق الحكم التي يعتمد عليها القضاة في النظام الإسلامي ويعول عليها، وسائل الإثبات الشرعية التي يستقرى في التنظيم القضائي في الدولة الإسلامية طرقها لمعرفة الحق، وإبطال الباطل، وإن منها وسيلة (القرائن) .
وهذا البحث الفقهي المتواضع المقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثانية عشرة يتطرق بالبحث والاستقراء إلى وسيلة القرينة كوسيلة شرعية لإثبات الحق، سميته:(الطرق الحكمية في القرينة كوسيلة إثبات شرعية) ..وقد اقتضت طبيعة البحث أن أقسمه إلى خمسة أمور:
الأمر الأول
في
تعريف القرينة
تعريف القرينة:
من المسلم به أنه لكل شيء حقيقة يقوم عليها..وطبيعة يتميز بها عن غيره، حتى يأخذ شكله العام.
وبهذه الحقيقة تتباين الأشياء وتتميز
…
وتظهر الخصائص
…
وهذا يقتضي منا تعريف القرينة عند علماء اللغة وفقهاء الشريعة.
1-
تعريف القرينة لغة:
القرينة في اللغة مأخوذة من المقارنة، وهي المصاحبة، يقال: فلان قرين لفلان، أي مصاحب له، ويقال: اقترن الشيء بغيره أي صاحبه، ويقال: قرنت الشيء بالشيء وصلته به. ويقال: قرينة الرجل أي زوجته، لمصاحبتها له.
وسميت القرينة بهذا الاسم، لأن لها نوعا من الصلة بالشيء. أو الأمر الذي يستدل بها عليه (1) .
وجاء في غريب القرآن (2) : الاقتران كالازدواج في كونه اجتماع شيئين، أو أشياء في معنى من المعاني. قال تعالى:{أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53] .
(1) انظر لسان العرب لابن منظور: 3/336؛ ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس: 5/76.
(2)
للراغب الأصفهاني، ص 11.
2-
تعريف القرينة في الاصطلاح:
عرّف الفقهاء القدامى القرينة بأنها: الأمارة.. أو العلامة.. وهذا تعريف بالمراد، ولعل السبب في تعريفها هو وضوح معناها وعدم خفائها.. وبناء على ذلك نستطيع أن نقول: عرّفوها بأنها الأمارة المعلومة التي تدل على أمر مجهول على سبيل الظن.
وعرفها المتأخرون من الفقهاء بتعريفات مختلفة:
فعرفها الشريف الجرجاني (1) بأنها أمر يشير إلى المطلوب.
وعرفها الأستاذ مصطفى الزرقاء (2) بأنها كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا وتدل عليه. وهذان التعريفان غير جامعين، لأنه يدخل فيهما القرينة عند الفقهاء وعند غيرهم.. وشرط التعريف أن يكون جامعا مانعا، ومن ثم نستبعد هذين التعريفين.
كما عرفها الشيخ فتح الله زيد بقوله: هي الأمارة التي نص عليها الشارع أو استنبطها أئمة الشريعة باجتهادهم واستنتجها القاضي من الحادثة وظروفها وما يكتنفها من أحوال (3) .
وهذا التعريف أيضا لا يصلح لاقتصاره على بيان طرق ثبوتها وسبيل وجودها، فبقي معناها خفيا غير مبين.
ونستطيع أن نقول بأن القرينة هي: الأمارة التي نص عليها الشارع أو استنبطها الفقهاء باجتهادهم، أو استنتجها القاضي (4) من وقائع الدعوى وأقوال الخصوم.
(1) التعريفات، ص152.
(2)
المدخل الفقهي العام: 1/918.
(3)
وسائل الإثبات للزحيلي، ص489
(4)
القرائن للدكتور دبور، ص9؛ الإثبات بالقرائن لإبراهيم الفائز، ص63
الأمر الثاني
في
أقسام القرينة
أقسام القرينة:
تنقسم القرينة إلى عدة أقسام باعتبارات شتي.. كل قسم منها يقوم على اعتبار خاص. وسنقوم بإيراد هذه الأقسام موجزة حسب طبيعة البحث، ثم نقوم بعد ذلك بتوضيح ما أجملناه.
فهي تنقسم إجمالا بالاعتبارات الآتية:
أ - تقسيمها باعتبار مصدرها
ب- تقسيمها باعتبار علاقتها بمدلولاتها.
ج- تقسيمها باعتبار قوة أدلتها وضعفها.
أ- أقسام القرينة باعتبار المصدر:
تنقسم القرينة بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أنواع:
1-
قرائن منصوص عليها في الكتاب والسنة.. وقد وردت قرائن متعددة فيها. وسنذكر بعض الأمثلة:
أولا- ما ورد في القرآن الكريم:
- قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26-27] .
فقد ادعت امرأة العزيز أن يوسف عليه السلام راودها عن نفسها، وأنه حاول جذبها إليه وهي حاولت الفرار من أمامه، وحاول الإمساك بها، فقطعت قميصه، نتيجة دفعها وعدم الوصول إلى ما يبتغيه ويريده منها. وحيث لا بينة لأحدهما على صدق دعواه حيث كذبها يوسف في ادعائها، فجعل شق القميص وتمزيقه قرينة على صدق أحدهما بحيث لو كان من الأمام تكون هي صادقة في ادعائها. لأنه يكون قد طلبها فامتنعت منه وحاولت إبعاده عنها والدفاع عن نفسها وشرفها وعفتها.. وإن كان من الخلف تكون كاذبة في ادعائها، لأنه حاول الهرب والفرار فأمسكته من الخلف فحاول التخلص منها فقطعت قميصه.. ولما تبين أن القد من الخلف صدر الحكم بأن يوسف صادق فيما ادعاه وهي كاذبة في ادعائها (1)
(1) أحكام القرآن للإمام الجصاص: (2/171)
ثانيا بعض الأمثلة التي وردت في السنة:
- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر)) (1)
فقد جعل صلى الله عليه وسلم الفراش قرينة لإثبات نسب الولد من الزوج صاحب الفراش، فإذا أنجبت المرأة المتزوجة يكون الولد لزوجها، أما التي لا زوج لها فيكون مصيرها إقامة الحد عليها، لأن عدم وجود زوج لها قرينة على زناها لأن الحمل لابد له من رجل في حياتها، إلا إذا ادعت الإكراه أو غيره.
- قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن..)) قالوا: وكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) (2)
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل السكوت من جانب البكر دليلا على رضاها، واعتمد على قرينة السكوت في الرضا.
ثالثا – قرائن منصوص عليها في كتب الفقه:
من اجتهاد الفقهاء (القرائن الفقهية) أن الفقهاء رضوان الله عليهم قد استخرجوا بعض القرائن نتيجة اجتهادهم، وسجلت في كتب الفقه والمؤلفات الخاصة بوسائل الإثبات.
ومن أمثلتها (3) :
- إبطال بيع المريض مرض الموت لوارثه إلا إذا أجازه بقية الورثة، لأن هذا التصرف قرين على الإضرار ببقية الورثة، وإلحاق الخير بالمشتري، لأنه خصه بشيء وقد يكون حاباه في الثمن فأضر بقية الورثة.
- قبول قول الصبيان في الهدايا التي يرسلها بعض الناس معهم.
رابعا- القرائن القضائية:
وهي التي يستنبطها القاضي بحكم ممارسته القضاء ومعرفته لأحكام الشريعة الغراء.
وهذا النوع من القرائن لا يسير على منهج واحد، ولكنه يختلف من قاض لآخر نتيجة قدرة القاضي على الاستنباط، واختلاف القضايا وظروفها وملابستها.
مثال هذا النوع ما أخرجه البخاري (4) ومسلم (5) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى)) .
(1) رواه البخاري: انظر فتح الباري: 12/25؛ والترمذي وأبو داود والنسائي، التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف:2/266.
(2)
رواه البخاري ومسلم.
(3)
راجع الطرق الحكمية للشيخ ابن القيم، ص19 وما بعدها حيث ذكر كثيرا من القرائن الفقهية.
(4)
البخاري مع فتح الباري: (12/5) .
(5)
صحيح مسلم بشرح النووي: (12/8) .
قال الإمام النووي: (ولم يكن مراده أن يقطعة حقيقة، وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكرت عرفها)(1) . لأنه وجد عندها الشفقة والخوف على الصغير فعلم أنها أمه، لأن الأم كل الذي يهمها أن يعيش ولدها، بصرف النظر في يد من يكون في يدها أم في يد غيرها.
ب - أقسام القرائن باعتبار علاقتها بمدلولها:
إن القرائن تنقسم باعتبار العلاقة بينها وبين ما تدل عليه إلى نوعين:
النوع الأول- قرائن عقلية:
وهي التي تكون العلاقة بينها وبين مدلولاتها ثابتة ومستقرة، والتي يقوم العقل باستنتاجها في جميع الظروف كالعثور على وجود رماد في مكان، فإنه يكون قرينة على سبق وجود النار في هذا المكان، لأن النار دائما تخلف الرماد. فجعل الرماد قرينة على وجود النار.
النوع الثاني- قرائن عرفية:
وهي التي تقوم العلاقة بينها وبين ما تدل عليه على العرف فالعرف هو الذي يدل.
ومثال ذلك:
امرأة ادعت إكراها على الزنى وقامت القرائن على صدقها، كأن تكون بكرا وجاءت تدمي فإن حد الزنى يسقط (2) ولا يقام عليها، لوجود قرينة على صدقها، كما أن الحدود تدرأ بالشبهات.
(1) شرح النووي على صحيح مسلم: 12/18.
(2)
انظر الموطأ: 2/828.
جـ- أقسام القرينة باعتبار قوة دلالتها:
النوع الأول- قرائن ذات دلالة قوية: (القرائن القطعية) :
والمقصود بها القرائن الواضحة التي تجعل الأمر في حيز المقطوع به.
ونصت المادة (1741) من مجلة الأحكام أن (القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حد اليقين، أي التي لا تحمل الشك بل يقطع بها)(1) .
مثال ذلك:
إذا خرج أحد من دار خالية خائفا مدهوشا، وفي يده سكين ملوثة بالدم، فدخل في الدار ورؤي فيها شخص مذبوح في ذلك الوقت، فإنه يشتبه في كونه قاتل ذلك الشخص، ولا يلتفت إلى الاحتمالات الوهمية الصرفة كأن يكن الشخص المذكور ربما قتل نفسه أو قتله آخر وهرب، لأن وجود السكين بيده، ويداه ملطختان بالدم قرينة قوية على أنه هو القاتل، فكل ذلك قرائن تؤيد ارتكابه لجريمة القتل.
النوع الثاني- قرائن ذات دلالات ضعيفة:
والمقصود هو ما يحتمل الشيء وغيره احتمالا ليس ببعيد ويختص بترجيح إحدى اليدين المتنازعتين، فالقرينة تحتمل شيئين لا مرجح لأحدهما على الآخر.
ففي تلك الحالة تكون دلالة القرينة ضعيفة مشكوك فيها.
مثال ذلك:
أن يقع نزاع بين الزوجين على متاع البيت، فيقضى فيه للرجل بما يناسب الرجال وللمرأة بما يناسب النساء (2) مع العلم أنه قد يكون كله ملكا للزوج أو للزوجة، ولكن لما انعدم الدليل عملنا بالقرينة الضعيفة، فما يحتمل أنه للرجل ألحقناه به، وما يحتمل أنه للمرأة ألحقناه بها.
النوع الثالث- قرائن ذات دلالة ملغاة:
وهي أن تتعارض قرينتان وتكون إحداهما أقوى من الأخرى، وبالتالي تكون القرينة المرجوحة منهما ملغاة لا يعتد بها ولا يلتفت إليها.
كأن يتنازع مالك الدار مع خياط يعمل في داره على آلة خياطة فإنه يحكم بها للخياط. ولا يلتفت إلى المالك، لأن قرينة اليد عورضت بقرينة أقوى وهي أن هذه الأشياء غالبا تكون مملوكة للخياط، فألغينا القرينة الضعيفة وهي قرينة اليد وطرحناها ولم نعمل بها.
(1) انظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام، علي حيدر: 12، 16/431، دار الكتب العلمية.
(2)
كتاب القناع، للبهوتي: 6/383.
الأمر الثالث
في
حجية القرائن
حجية القرائن:
إن المطلع والباحث في كتب فقه المذاهب الأربعة يتضح له بكل جلاء ووضوح أن الفقهاء رضوان الله عليهم لم يذكروا القرائن صراحة في باب البينات، ولم يفردوا بحثا مستقلا كبقية وسائل الإثبات (الإقرار- الشهادة - اليمين) . لكنهم بالرغم من ذك أخذوا بها في مسائل كثيرة.. وإن وقف منها بعض الفقهاء موقفا حذرا، أو صرحوا بعدم الأخذ بها، وبعدم اعتبارها دليلا من أدلة الإثبات التي يعتمد عليها ويعمل بمقتضاها.
وعلى ذلك نستطيع القول بأن الفقهاء اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول:
أن القرائن تعتبر طريقا من طرق الإثبات، ويجوز الاعتماد عليها واعتبارها حجة ودليلا من أدلة الإثبات المعتمدة، ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء (1) .
وقد استدلوا على ذلك بالقرآن والسنة والمعقول.
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 3/299؛ مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/128؛ تبصرة الحكام: 2/105؛ قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/115؛ معين الحكام، ص161م الطرق الحكمية، ص19.
ففي القرآن آيات كثيرة منها:
1-
قال الله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] فلقد نص ابن فرحون على اعتبار القرينة حجة في الإثبات (1) .
فقد دلت هذه الآية الكريمة أن سيدنا يعقوب عليه السلام لم يقتنع بدعوى أولاده أن الذئب افترس يوسف وقضى عليه، وأنه لا ذنب لهم في ذلك، بل اتهمهم بأن أنفسهم سولت لهم أمرا آخر. وأن دعوى الذئب كاذبة لا أساس لها من الصحة، وذلك لوجود قرائن تدل على كذبهم وهي (2) :
أنه لما تفحص القميص لم يجد تمزيقا ولا أثر لأنياب الذئب، فاستدل بذلك على كذبهم وأن دعواهم باطلة لا أساس لها من الصحة، ولا من الواقع، لأنه لو أكله الذئب لخرق قميصه ومزقه تمزيقا ظاهرا لا خفاء ولا غموض فيه، لأنه لم يصل إلى اللحم إلا بتمزيق الثياب.
أ - أن يعقوب عليه السلام لما أنكر قصة الذئب تناقضوا في كلامهم، فقال بعضهم لقد قتله اللصوص..فأنكر عليهم هذا القول، لأن اللصوص ما قتلوه إلا لأخذ ملابسه وما معه، فكيف يتركوا القميص الذي هو الأساس الأول للسرقة.
2-
قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26- 28] .
ففي هذه الآية دليل واضح على العمل بالأمارات، حيث إن الشاهد قد استدل بقرينة قد القميص من قبل أو دبر على صدق أحدهما وكذب الآخر.
3-
قال تعالى: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] .
(1) انظر تبصرة الحكام.
(2)
راجع تفسير الألوسي: 12/179؛ تفسير ابن حبان: 5/289، الفخر الرازي: 5/113.
فهذه الآية الكريمة تفيد بأن أخوة يوسف عليهم السلام علقوا الجزاء على ما تثبت به التهمة، فحين سئلوا عن جزاء من تثبت السرقة في حقه..ردوا بأن جزاءه كجزائه عندنا وهو أن يؤخذ رقيقا (1) . كما علقوا هذا الجزاء على ثبوت التهمة، وثبوت التهمة يكون بوجود الصواع داخل الرحل، لأن وجوده في الرحل قرينة وعلامة على أن السارق هو الذي أخفاه في رحله..وهذا دليل على مشروعية العمل بالقرائن.
4-
قال الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] .
فهذه الأدلة المستفادة من القرآن الكريم تفيد العمل بالقرائن واعتبارها حجة يعمل بها ودليلا من أدلة الإثبات التي يعتمد عليها، ويبني عليها القاضي حكمه.
أما السنة فأحاديث متعددة منها على سبيل المثال:
1-
ما رواه البخاري ومسلم (2) أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر. فقال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم ((هل مسحتما سيفكما..؟)) قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال ((كلاكما قتله)) ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
فنظره صلى الله عليه وسلم في السيفين إنما هو ليرجح القاتل بما يراه من أثر الطعان، وصبغ الدم وإنما خص أحدهما بسلبه.. حيث أنه بفحص السيفين ترجح عنده أن صاحب هذا السيف هو الذي قتله، لأن سيفه أنفذ من سيف الآخر وعليه يكون قوله كلاهما قتله تطيبا لنفس الآخر من حيث إن له بعض المشاركة.. وبذلك يثبت جواز الاعتماد على القرائن في الحكم بين الناس حيث دل الدم على السيفين بأنهما اشتركا في قتله وإنما خص معاذ بن الجموح بالسلب، لأن سيفه كان أعمق في جسم أبي جهل بدليل الدم الزائد. فالنبي صلى الله عليه وسلم عمل بالقرينة هنا وهو أن غور سيف أحدهما أكثر من الآخر قرينة على أنه القاتل، لأن سيفه أنفذ وهو الذي يتحقق به القتل غالبا.
(1) تفسير الطبري: 13/13؛ أحكام القرآن للجصاص: 13/391، لأنه كان من عادتهم أن يسترقوا السارق.
(2)
انظر صحيح البخاري، وصحيح مسلم.
2-
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم)) (1) حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن.. فقالوا: يا رسول الله، وكيف أذنها..؟ قال:((أن تسكت)) (2) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل سكوتها قرينة على الرضى، لأن حياءها يمنعها من التصريح بالقبول، وتجوز الشهادة عليها بانها رضيت.. وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن (3) .
وأما المعقول: فقد استدلوا على حجية القرائن بالمعقول من وجوه:
أ- إن ترك العمل بالقرائن يؤدي إلى تضيع الحقوق، ويعطي الفرصة للمجرمين لتحقيق مصالحهم ومآربهم الفاسدة، وهذا لا يتمشى مع قصد الشارع من المحافظة على حقوق وردع المجرمين؛ لأن عدم العمل بها يؤدي إلى إضاعة الحقوق، وتعطيل كثير من الأحكام، والإسلام يرفض ذلك.
جاء في الطرق الحكمية (4) : (فمن أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية، فقد عطل كثيرا من الأحكام، وضيع كثيرا من الحقوق..) .
ب_ إنه من غير المعقول أن يلغي الشارع اعتبار القرائن مع أنه أقر ما هو أقل منها دلالة في الإثبات لاسيما إذا علمنا أن مقصود الشارع تحقيق العدل بين الناس. وهو لا يتحقق إلا إذا اعتمد على القرائن وغيرها من طرق الإثبات الأخرى في الإثبات حتى لا تضيع الحقوق، وينتصر الظلم.
كما ثبتت القرائن بأقوال الصحابة وأفعالهم من ذلك.
(1) المراد بالأيم في هذا الحديث هي الثيب لأنها المقابل للبكر.
(2)
نصب الرايه: 3/194
(3)
التبصرة لابن فرحون: 3/96.
(4)
لابن القيم، ص99.
قال ابن القيم (1) وقد حكم عمر رضي الله عنه والصحابة معه برجم المرأة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال (2) : يا أيها الناس إن الزنا زنيان. زنا سر، وزنا علانية، وزنا السر أن يشهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي، وزنا العلانية أن يظهر الحمل أو الاعتراف.
فعلي رضي الله عنه جعل ظهور الحمل قرينة على الزنا، وهذا دليل على مشروعية القضاء بالقرائن. وأنه حجة ووسيلة يتوصل بها إلى إثبات الحقوق لأصحابها ومعاقبة الظالمين (3)
القول الثاني:
إن القرائن لا تعتبر حجة، ولا تصلح دليلا من أدلة الإثبات، ولا يجوز الاعتداد بها شرعا ولا العمل بمقتضها، وبالتالي لا يثبت بها أي حق من الحقوق ولا تكون وسيلة من وسائل الإثبات. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية كالجصاص (4) ، وبعض المالكية كالقرافي، وبعض المعاصرين كالشيخ علي قراعة رحمه الله.
(1) الطرق الحكمية، ص8.
(2)
التشريع الجنائي للشهيد عبد القادر عودة: 2/44.
(3)
انظر الادعاء العام والمحاكمة الجنائية وتطبيقها في المملكة العربية السعودية، د. عماد عبد الحميد النجار، ص236، الرياض، معهد الإدارة العامة (1417هـ) .
(4)
فقد جاء في أحكام القرآن:3/171 ما نصه: (ومن الناس من يحتج بهذه الآية {وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل} [يوسف26] ، في الحكم بالعلامة في اللقطة إذا ادعاها مدع ووصفها، وقد اختلف الفقهاء في مدعي اللقطة إذا وصف علامة فيها، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف وزفر ومحمد الشافعي: لا يستحقها بالعلامة حتى يقيم البينة، ولا يجبر الملتقط على دفعها إليها، ويسعه أن يدفعها وأن لم يجبر عليه في القضاء. وقال ابن القاسم في قياس قول مالك: يستحقها بالعلامة ويجبر على دفعها إليه، فإذا جاء مستحق فاستحقها ببينة لم يضمن الملتقط شيئا، وقال مالك: وكذلك اللصوص إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم في ذلك فإن لم يأت غيرهم دفعه إليهم) .
فقد جاء في الفروق (1) للقرافي: (كما أن قرائن الأحوال لا تثبت بها الأحكام والفتاوى) ، وإن حصلت ظناً أكثر من البينات والأقيسة وأخبار الآحاد، لأن الشرع لم يجعلها كالفتوى والقضاء.
وقال خير الدين الرملي من فقهاء الحنفية: (حجج الشرع ثلاثة وهي البينة أو الإقرار أو النكول) .. ثم قال: (إن الحكم بغير واحد منها لا يجوز)(2) .
وقد استدلوا على ذلك بالسنة والمعقول.
فالسنة أحاديث منها:
1-
ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها)) (3) .
2-
فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأنه لو كان يجوز العمل بالقرائن واعتبارها دليلا مشروعا من أدلة الإثبات، لأقام الحد على هذه المرأة لما ثبت عنده من أمارات على زناها. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر هذه القرائن ولم يعمل بها، فدل ذلك على عدم مشروعية القرائن، وعدم العمل بها، والاعتداد بها كدليل من أدلة الإثبات، لأنه لو كان يجوز الإثبات بالقرائن ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم عليها بالحد.
(1) الفروق: 3/65.
(2)
الفتاوى الخيرية:2/13.
(3)
سنن ابن ماجه:2/855، وجاء في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات؛ نيل الأوطار: 7/109.
واعترض على هذا الاستدلال بأننا لا نسلم بأن الرسول لم يعمل بالقرائن في جميع الأحوال بل استبعدها هنا ولم يحكم بها، لأنها كانت ضعيفة وليست بالقوية التي يحتج بها، وبما أنها قرينة ضعيفة فتكون شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، وشتان ما بين أنه استبعد قرينة ضعيفة وبين أنه لم يعمل بها.
وإن سلمنا بجواز الاستدلال بالحديث فهذا خاص بإثبات الزنا دون بقية المعاملات فيجوز الاحتجاج بالقرائن فيما عدا الحدود، لأن طبيعة الحدود أنها تسقط بالشبهة، أما المعاملات وغيرها فلا يطبق عليها هذا المبدأ.
وأما المعقول: فقالوا بأن القرائن ليست مطردة ولا منضبطة لاختلافها قوة وضعفا، ومن كان على هذا الشكل لا يصح الاحتجاج به.
كما أن القرائن قد تبدو قوية ثم يعتريها الضعف.
وكذلك فإنها تقوم على الظن والتخمين، والظن ليس دليلا، والقرآن ندد باتباع الظن فقال تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23]، وقال تعالى:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) (1) .
الرأي الراجح:
بعد استعراض أدلة القائلين بحجية القرائن، وأدلة المانعين يظهر لنا بكل جلاء ووضوح بأن الرأي القائل بحجية القرائن، والعمل بها وأنها طريق من طرق الإثبات هو الرأي الراجح الذي تطمئن إليه النفس، ويرتاح له الضمير، ويشعر الإنسان معه بالاطمئنان حيث يستطيع بها إقامة العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلى أصحابها، وذلك لما يلي:
1-
إن أدلة المانعين أدلة ضعيفة واهية لا تصلح للاستدلال، بخلاف أدلة القائلين بالحجية فإنها أدلة قوية، ولم يوجه إليها من النقد ما يوهنها أو يضعف شأنها.
2-
أن القول بحجية القرائن هو الأرجح حتى لا تضيع الحقوق ويتمادى المعتدون في سلبها، وبذلك يتفشى الظلم وييأس الناس من أخذ حقوقهم أو رد الظلم الواقع عليهم.
(1) انظر سنن أبي داود:5/217.
الأمر الرابع
في
أهمية الأخذ بالقرائن
أهمية الأخذ بالقرائن:
(بعد أن ظهر لنا أن القضاء بالقرائن أصل من أصول الشريعة، سواء في حالة وجود البينة أو الإقرار أم في حال فقد أي دليل من دلائل الإثبات. فقد تمنع القرينة سماع الدعوى كادعاء فقير معسر إقراض غني مؤسر، وقد ترد البينة أو الإقرار في حال وجود التهمة مثل قرابة الشاهد للمشهود له، أو كون الإقرار في مرض الموت، وقد تستخدم القرينة دليلا مرجحا أثناء تعارض البينات مثل وضع اليد ونحوه.. وقد تعتبر القرينة دليلا وحيدا مستقلا إذا لم يوجد دليل سواها، مثل رد دعوى الزوجة القاطنة مع زوجها بعدم الإنفاق عليها في رأي المالكية والحنابلة)(1) .اهـ
فمن ذلك نستخلص أن القرائن تفيد في حالات عدة منها:
1-
القرينة تمنع سماع الدعوى.
2-
القرينة ترد البينة أو الإقرار حال وجود تهمة.
3-
تستخدم القرينة كدليل مرجح أثناء تعارض البينات.
4-
تعتبر القرينة دليلا وحيدا مستقلا إذا لم يوجد دليل سواها.
ذكر ابن القيم في الطرق الحكمية:
أن من أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية فقد عطل كثيرا من الأحكام وضيع كثيرا من الحقوق.
ومن توسع وجعل اعتماده عليها دون الأوضاع الشرعية وقع في أنواع من الظلم والفساد (2) .
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 6/644.
(2)
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، ص100، ط4/1969،دار المعرفة، بيروت.
الأمر الخامس
في
الإثبات بالقرائن المستحدثة
ومواقف الفقه الإسلامي منها
الإثبات بالقرائن المستحدثة:
من المعلوم بالضرورة أن المتبع للجريمة في العصور المختلفة يعلم أن المجرمين كانوا في العصور الأولى يرتكبون جرائمهم بوسائل بسيطة يسهل على رجال المباحث والأمن اكتشافها بسهولة ودون تعب ونصب
…
ونتيجة للتطور الهائل والثورة العلمية التي وصلت إليها المعرفة تفنن المجرمون في طرق مختلفة لارتكاب جرائمهم. وكذلك رجال الأمن تفننوا في طريقة معرفة الجناة بوسائل حديثة تتناسب مع تطور الجريمة والمجرمين.
وهذا موضوع متشعب الجوانب، متعدد الأطراف، والذي يهمنا منه هو معرفة حكم الفقه الإسلامي في القرائن المستحدثة التي نشأت مع تطور الجريمة ولم تكن معروفة عند سلفنا الصالح من الفقهاء، ولم تعرف إلا في هذا القرن، وسنحاول بيان الحكم الشرعي في القرائن الآتية:
1-
البصمات.
2-
آثار الأقدام.
3-
الكلاب البوليسية.
4-
تحليل الدم والبول.
5-
التصوير الفوتوغرافي.
6-
تسجيل الصوت.
أولا- آثار البصمات:
البصمات: هي عبارة عن خطوط بارزة دقيقة يتخللها فراغ، وتوجد فوق باطن اليد، وأطراف الأكف والأصابع.
ولقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن لكل إنسان بصمة خاصة به. وهذه البصمات لا يمكن أن تتطابق مع شخصين حتى ولو كانا توأمين (1) . وهذه معجزة إلهية تدل على قدرته عز وجل وأنه الخالق فقد قال الله عز وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:3-4] .
قيمة البصمات في الأثبات من الناحية الشرعية:
بالطبع لم يتعرض سلفنا الصالح للإثبات بطريق البصمات، لأنها لم تعرف في عصرهم وإنما عرفت في دول أوروبة سنة (1890م) .. ولكن يمكن القول بأن موقفهم من بقية القرائن ينسحب على البصمات فنقول:
1-
جرائم الحدود لا تثبت بهذه القرينة، وإن كان يجوز القبض على صاحبها والتحقيق معه، لأنه ربما تظهر الحقيقة ويعرف الجاني، وتقام عليه العقوبة.
2-
جرائم غير الحدود والدماء فيمكن معرفة رأيهم بما ذكروه في القرائن المعروفة في عصرهم وقد توسعوا في الأخذ بها، وبعض العلماء في عصرنا قال: تعتبر دليلا من أدلة الإثبات.
(1) جاء في كتاب التحقيق الجنائي العلمي والعملي للأستاذ محمد شعير، ص280:(إنه لم يعثر من الناحية العلمية على بصمتين متطابقتين من وقت أن بدأ بوركتجي أبحاثه على البصمات حتى اليوم) .
ثانيا- آثار الأقدام:
إن من أهم الوسائل التي يستطيع بها رجال الأمن القبض على الجناة ومعرفتهم لاسيما في جرائم السرقة والقتل وجود آثار لأقدام الجناة في مكان الجريمة وهذه القرينة كانت معروفة عند العرب قديما، وكانت تسمى بالقيافة كما أن لها أصل في الشريعة الإسلامية فقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه الله عنه أنه قال:(إن نفر من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوا على الإسلام فاستوخموا الأرض فسقمت أجسامهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أفلا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من ألبانها وأبوالها)) قالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحوا فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واطردوا النعم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهم فأدركوا فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا) (1) .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد آثار الأقدام في البحث عن الجناة حتى جيء بهم إليه، فلو لم تكن آثار الأقدام دليلا لتركه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قيمة آثار الأقدام في الإثبات:
ما سبق ذكره في البصمات يقال هنا.. كما أن وجود آثار أقدام شخص في محل وقوع الجريمة لا يلزم منه ارتكابه لهذه الجريمة، لجواز أن يكون وجوده لسبب آخر.. بل يمكن أن يكون قرينة تخول لرجال الأمن القبض على صاحبها والتحقيق معه.
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري:12/195؛ صحيح مسلم:6/168؛ دار أبي حيان، انظر أحكام الجناية على النفس عند ابن قيم الجوزية، د. بكر أبو زيد، ص94، مؤسسة الرسالة.
ثالثا - الكلاب البوليسية:
من القرائن الحديثة ما توصل إليه رجال الأمن أنه بالمستطاع التعرف على المجرمين بواسطة الكلاب البوليسية عن طريق حاسة الشم القوية التي تمتاز بها الكلاب المدربة تدريبا قويا..
ولقد دلت التجارب على فاعليتها في التعرف على الجناية، ولذلك اعتبرها رجال القانون وسيلة للتعرف على الجناة (1) .
أما في الشريعة الإسلامية:
من المعروف أن الشريعة الإسلامية شددت في الإثبات في مجالي الحدود والقصاص.. وعلى ذلك فإنها لا تعتبر دليلا للإثبات ولكنها قرينة تسوغ لرجل الأمن القبض على الجاني والتحقيق معه.
رابعا- تحليل الدم والبول:
إذا وجد على ملابس المتهم أو في محل الجريمة بقعة دم أو بول في مكان الجريمة، فيمكن تحليلها وتعتبر قرينة على إدانة المتهم، ومن ثم يمكن التحقيق مع المتهم، والقبض عليه.
ولكن بالرغم من ذلك لا يجوز التعويل عليها وحدها لتوقيع العقاب على المتهم وإن كان الفقه الإسلامي لا يمانع في التعويل على التحاليل الطبية في الدلالة على شخصية الجاني.. وقد وجدت آثار كثيرة مروية عن الصحابة في ذلك (2) .
(1) أصول القانون الاجراءات القانونية للدكتور أحمد فتحي سرور، ص165
(2)
الطرق الحكمية، ص45 وما بعدها.
خامسا-التصوير (الفوتوغرافي) :
والمقصود التقاط الصورة أثناء ارتكاب الجريمة، وتصور المسألة هي فيما لو أقام شخص دعوى على شخص بأنه قد سرق حانوته وليس هناك بينة ولا اعتراف إلا صورة يدعي المدعي أنه التقطها للمتهم وهو يقترف جريمة السرقة، فهل تؤخذ هذه الصورة كقرينة لإدانته؟ للإجابة على هذا التساؤل نقول بأن الفقهاء أبانوا أن دلالة الصورة على أن صاحبها قد سرق دلالة ضعيفة واهية لا تقوم عليها حجة ولا تصلح أساسا يعتمد عليه القضاة في إثبات حد السرقة على المصور. ذلك أنه يحتمل أن تدبلج الصورة وتستخدم لأغراض كثيرة كما هو معمول به اليوم في دور المسارح والسينما، وفي هذا تزوير وتمويه يدل دلالة واضحة على نسفها كدليل أو قرينة، ومن ثم لا يمكن الاستدلال بها أو الأخذ بها في القضاء الإسلامي كوسيلة شرعية (1) ، إضافة إلى أن فيها تجسس وكشف للعورات.
سادسا- تسجيل الصوت:
والمقصود به استخدام الأجهزة في تسجيل الصوت على شرائط تحفظ ثم يبرزها المدعي كقرينة لإدانة المدعى عليه. ففقهاء الشريعة أبانوا أن هذه قرينة واهية وضعيفة وذلك لوجود تقليد في الأصوات وتشابه وتماثل وهذا ما أثبتته دور المسارح والتمثيليات فقد يزور ويقلد الصوت إضافة إلى ما فيه من استراق السمع وجريمة التجسس وهو ما نهى عنه الشارع الحكيم.
وخلاصة القول في ذلك أنها قرائن ضعيفة لا يعتد بها ولا تعتبر حجة فالمعتبر ما وافق روح الشريعة ومقاصدها في المحافظة على استقرار العباد وأمنهم والمحافظة على أعراضهم وحرماتهم.. قال الشيخ ابن القيم رحمه الله: (إن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المنكر والخداع)(2)، وبعد أن ذكر أمثلة عديدة لما أغنانا الله به عن غيره مما هو غير مشروع قال:(وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق المكر والاحتيال)(3) ، فهو بهذا يرى أن الاعتبار هو للطرق التي رسمها الشرع لا لطرق أهل المكر والتزوير والتدليس والاحتيال والتقليد والتمويه.
(1) انظر حجية القرائن في الشريعة الإسلامية، ص207، دار عمار.
(2)
الطرق الحكمية، ص4،3.
(3)
إغاثة اللهفان:2/65-66؛ نظام إثبات الدعوى وأدلته في الفقه الإسلامي، علي رسلان، ص89، دار الدعوة، الإسكندرية، 1417هـ.
خاتمة
بعد استعراض أقوال الفقهاء وأدلتهم، وذكر نماذج عملهم بالقرائن يتضح لنا ما يلي:
1-
إن الفقهاء مجمعون على الأخذ بالقرائن في الجملة، وإن اختلفوا في التفصيل..فمنهم من ذكرها صراحة واعتبرها وسيلة من وسائل الإثبات ومنهم من ذكرها في مسألة.. وفي هذا يقول الشيخ محمود شلتوت (1) :(ومما ينبغي المسارعة إليه أن الناظر في كتب الأئمة يجد أنهم مجمعون على مبدأ الأخذ بالقرائن في الحكم والقضاء وأن أوسع المذاهب في الأخذ بها هو مذهب المالكية ثم الحنابلة ثم الشافعية ثم الحنفية، ولا يكاد مذهب من المذاهب الإسلامية يخلو من العمل بالقرائن حتى بالنسبة لمن أنكرها) .
2-
إن القرائن في النظام القضائي الإسلامي ليست مقصورة على القرائن الشرعية بل تشمل كل أمارة يمكن استنباطها.
3-
إن القرائن أصل مستقل جاء الدليل الشرعي بتقريرها وإثباتها.
4-
إن العمل بالقرائن له أهمية عظمى لا يستطيع أحد إنكاره، خصوصا عندما لا يثير دليل آخر فنكون في أمس الحاجة إليها، لأنها توصلنا إلى الحقيقة وإنصاف المظلوم.
5-
إن القرائن منها ما نص الشارع عليها، وفي تلك الحالة يجب على القاضي العمل بمقتضاها كقرينة للفراش في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش.
6-
إن العمل بالقرائن يحتاج إلى رجحان العقل وصفاء الذهن، والتثبت فيها وعدم التعجل في الحكم بها.
7-
إن القرائن دليل من أدلة الإثبات التي لا يجوز إهمالها، بل اعتبرها الشارع الحكيم، وعمل بها الرسول وصحابته.
8-
إن العمل بالقرائن فيه إثراء للفقه الإسلامي، وإعطاء الدليل العملي على صلاحية الفقه الإسلامي لأن تستنبط منه الأدلة.
هذا ما حاولت إيضاحه وبيانه، أسأل الله التوفيق والسداد.. إنه ولي ذلك والقادر عليه..
وكتبه
الدكتور حسن بن محمد سفر
(1) الإسلام عقيدة وشريعة، ص211 وما بعدها.
المراجع والمصادر
أولا- المعاجم والمصطلحات الفقهية:
1-
الكليات لأبي البقاء. دمشق -إحياء التراث العربي. 1982م.
2-
دستور العلماء: لعبد النبي تكري- بيروت – مؤسسة الأعظمي.
3-
التعريفات: للشريف الجرجاني- بيروت – دار الكتب العلمية.
4-
طلبة الطلبة: للإمام النسفي –بيروت – دار القلم.
5-
المطلع على أبواب المقنع: لأبي عبد الله شمس الدين الفتح البعلي الحنبلي - بيروت – المكتب الإسلامي.
6-
مقدمة في بيان المصطلحات الفقهية على المذهب الحنبلي. علي بن محمد الهندي – مكة – مطابع قريش.
7-
التعريفات الفقهية: للإمام المفتي محمد عميم الإحسان المجددي – حيدر آباد كراتشي.
8-
الدر النقي من شرح ألفاظ الخرقي: للإمام أبي المحاسن يوسف الحنبلي – جدة - دار المجتمع.
9-
معجم المصطلحات الفقهية في الفقه القضائي الإسلامي: حسن بن محمد سفر. 1418هـ.
ثانيا- الفقه الإسلامي:
1-
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: للإمام ابن القيم الجوزية، المطبعة السلفية.
2-
كشف القناع على متن الإقناع: للإمام البهوتي – مكة المكرمة. 1394هـ.
3-
المغني: للإمام ابن قدامة.
4-
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: للإمام الرملي مع حاشية أبي الضياء علي الشبراملسي.
5-
الأحكام السلطانية: للإمام الماوردي.
6-
الاختيار لتعليل المختار: للإمام الموصلي.
7-
البحر الرائق شرح كنز الدقائق: للإمام ابن نجيم.
8-
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: للإمام الكاساني.
9-
شرح غرر الأحكام: للإمام ملا خسرو الحفني مع حاشية الشرنبلالي- إستنبول.
10-
الفتاوى الهندية.. لمحمد أدرنك، دار المعرفة بيروت.
11-
معين الحكام فيما يتردد بين الخصوم من الأحكام: للإمام الطرابلسي- مصر ط2.
12-
شرح ميارة تحفة الحكام: للإمام محمد بن أحمد ميارة، المكتبة التجارية.
13-
البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: للإمام المرتضى، المكتبة الخانجية.
14-
حاشية رد المحتار وتكملتها على الدر المختار: للإمام ابن عابدين، دار الفكر- بيروت.
15-
رسائل ابن نجيم الحنفي. تحقيق خليل الميس، دار الكتب العلمية- بيروت.
16-
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: للإمام ابن فرحون، دار الكتب العلمية- بيروت.
17-
العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام: للإمام الكناني مطبوع على هامش تبصرة الحكام.
18-
وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد مصطفى الزحيلي، دار البيان – دمشق ط1، 1982م.
19-
نظرية الدعوى بين الشريعة وقانون المرافعات: محمد نعيم ياسين، مطبوعات وزارة الأوقاف الأردنية – عمان.
20-
طرق القضاء في الشريعة الإسلامية لأحمد إبراهيم، المكتبة السلفية.
21-
الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي لإبراهيم الفائز- بيروت، المكتب الإسلامي1403هـ.
22-
القرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي: للدكتور أنور محمود دبور، دار الثقافة العربية، 1405هـ- القاهرة.
23-
نظام القضاء وطرق الإثبات والمرافعات الشرعية للدكتور حسن بن محمد سفر،1419هـ
24-
نظام إثبات الدعوى وأدلته في الفقه الإسلامي والقانون: للمستشار علي رسلان- الإسكندرية، دار الدعوة، 1417هـ.
25-
أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية، دراسة وموازنة: للعلامة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد – بيروت، مؤسسة الرسالة، 1416هـ، ط. الأولى.
26-
درر الحكام شرح مجلة الأحكام: علي حيدر- بيروت، دار الكتب العلمية، 1411هـ، ط. الأولى.
27-
الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية على مذهب المالكية: تأليف العلامة سيدى محمد عبد العزيز جعيط- تونس، مكتبة الاستقامة، ط. الثانية.
28-
تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام: لمحمد بن عيسى بن المناصف- تونس، دار التركي للنشر، 1988م.
29-
القضاء ونظام الإثبات في الفقه الإسلامي، والأنظمة الوضعية: د. محمود محمد هاشم، جامعة الملك سعود- الرياض، 1408هـ.
30-
أصول المحاكمات الشرعية والمدنية: أستاذنا محمد مصطفى الزحيلي- دمشق. دار الكتاب، 1412هـ.
31-
قانون المرافعات وإجراءات التقاضي: د. أحمد عبد العزيز الألفي- الرياض، معهد الإدارة العامة، 1393هـ.
32-
الادعاء العام والمحاكمة الجنائية وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية: د. عمار النجار، معهد الإدراة العامة- الرياض، 1417هـ.