الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإثبات بالقرائن أو الأمارات
إعداد
الشيخ مجتبى المحمود
والشيخ محمد على التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم القرينة والأمارة:
القرينة من الاقتران والمصاحبة. اقترن الشيء بغيره، صاحبه، ويقصد بها: كل أمر يدل على المطلوب. وأما الأمارة فهي العلامة. (لسان العرب، أقرب الموارد) .
أقسام القرائن:
القرائن قسمان: قرائن قانونية، يقررها القانون بنص فيه، وقرائن قضائية يستنبطها القاضي من وقائع الدعوى وظروفها، وله حرية واسعة في تقديرها (1) .
وجوه الفرق بين القرينة القضائية والقانونية:
أ - القرائن القضائية أدلة إيجابية، أما القرائن القانونية فأدلة سلبية، أي أنها تعفي من تقديم الدليل.
ب - لما كانت القرائن القضائية يستنبطها القاضي والقرائن القانونية يستنبطها المشرع فإنه يترتب على ذلك أن القرائن القضائية لا يمكن حصرها، لأنها تستنبط من ظروف كل قضية، أما القرائن القانونية فمذكورة على سبيل الحصر في نصوص التشريع.
ج- القرائن القضائية كلها غير قاطعة فهي قابلة دائما لإثبات العكس ويجوز دحضها بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن، أما القرائن القانونية فبعضها يجوز نقضه بإثبات العكس وبعضها قاطع لا يقبل الدليل العكسي (2) .
د- وتتميز القرينة القانونية بدلالتها المعينة بالذات وبثبوتها وعموميتها، حيث يحتج بها على الكافة في جميع الحالات، بينما تكون القرينة القضائية مقتصرة على طرفي الدعوى المعروضة فقط (3) .
(1) السنهوري، الوسيط:(2/91) .
(2)
الوسيط: (2/339) .
(3)
محمد على الصوري، التعليق المقارن على مواد قانون الإثبات: 3/95.
مهمة القرينة القانونية:
إن القرينة القانونية تغني من تقررت لمصلحته عن أي دليل آخر من أدلة الإثبات. فالمشرع قد استهدف بها مراعاة المصلحة العامة، وتخفيف عبء الإثبات (عندما يكون عسيرا أو صعبا على المكلف به) ، والتحفظ لمنع الالتفاف على القانون، مع مسايرة ما هو مألوف ومتعارف عليه بين الناس في تعاملهم، والأمثلة كثيرة (1) .
مهمة القرينة القضائية:
القرينة القضائية لها مهمتان: الأولى الإثبات، وشأنها شأن الشهادة.
الثانية: الطعن بها في التصرف القانوني، فإن لهذه القرائن دلالة خاصة في إثبات وجود الغش والاحتيال في التصرف أو في التعامل، فصلة القربى كالأبوة والبنوة الزوجية قرينة مسلم بها لجر مغنم عندما ينقل المدين ملكية شيء من أمواله إليهم فيتضرر الدائن. ويجوز للدائن أن يستند إلى هذه القرينة المستنبطة من صلة القربى ويطعن في تصرف مدينه بتهريب أمواله ونقل ملكيتها إلى أقربائه للحيلولة دون تسديد الدين (2) .
(1) مهدي صالح أمين، الإثبات بالقرائن أمام القضاء، القسم الأول، مجلة القضاء، السنة (42) - العدد (49) .
(2)
المصدر السابق، ص 148
عناصر القرينة القضائية:
تقوم القرينة القضائية على عنصرين أساسيين:
الأول: عنصر مادي، وهو الواقعة الثابتة التي يختارها القاضي بحرية واسعة.
الثاني: عنصر معنوي، وهو عملية استنباط يقوم بها القاضي ليتوصل عن طريق هذه الواقعة الثابتة إلى الواقعة الأخرى المجهولة المراد إثباتها.
ويختلف استنباط القضاة باختلاف مداركهم وسلامة تقديرهم للوقائع. فمنهم من كان استنباطه سليما، فيستقيم الدليل معه، ومنهم من يتجافى في استنباطه عن منطق الواقع (1) .
مذاهب ثلاثة في الإثبات: يرى السنهوري أن هناك مذاهب ثلاثة في الإثبات تختلف فيما بينها بشأن الأخذ بالقرائن والأمارات، وهي كما يلي:
1-
المذهب الحر أو المطلق، وفيه لا يرسم القانون طرقا محددة للإثبات يقيد بها القاضي بل يترك الخصوم أحرارا يقدمون الأدلة التي يستطيعون إقناع القاضي بها ويترك القاضي حرا في تكوين اعتقاده من أي دليل يقدم إليه.
2-
المذهب القانوني أو المقيد، وفيه يرسم القانون طرقا محددة تحديدا دقيقا لإثبات المصادر المختلفة للروابط القانونية، ويجعل لكل طريق قيمته، ويتقيد بكل ذلك الخصوم والقاضي
…
وقد يغلب في الفقه الإسلامي المذهب القانوني في الإثبات، فيجب في الإثبات بالبينة شهادة شاهدين ولا يكتفي بشهادة واحد إلا في حالات استثنائية.
3-
المذهب المختلط، وهو يجمع بين الإثبات المطلق والإثبات المقيد. وأشد ما يكون إطلاقا في المسائل الجنائية، ففيها يكون الإثبات حرا يلتمس القاضي فيه وسائل الإقناع من أي دليل يقدم إليه
…
ثم يتقيد الإثبات بعض التقيد في المسائل المدنية فلا يسمح فيها إلا بطرق محددة الإثبات
…
وهذا المذهب الثالث هو خير المذاهب جميعا (2) .
وسوف نلاحظ أن الذي يتغلب على الفقه الإسلامي هو المذهب المختلط وليس المذهب المقيد حسب ما أورده السنهوري.
(1) محمد علي الصوري، التعليق المقارن على مواد قانون الإثبات:(3/992) .
(2)
الوسيط: (2/28) .
الإثبات بالقرائن القضائية:
وهي التي يستنبطها القاضي من ظروف الدعوى ووقائعها.
نقول أن هذه القرائن لا تخلو عن إحدى حالتين، فهي إما أن تفيد العلم والاطمئنان للقاضي- كما هو الغالب الراجح - وإما لا تفيد إلا الظن.
أ - القرائن القضائية المفيدة للعلم:
هذه القرائن حجة في الإثبات، لحجية علم القاضي في القضاء.
أدلة حجية علم القاضي:
يقول صاحب الجواهر:
يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله تعالى على أصح القولين (1) .
ويقول الشيخ الأنصاري - بعد القول بجواز قضاء الإمام بعلمه-: وأما غير الإمام فالأقوى أنه كذلك يقضي بعلمه مطلقا في حقوق الله تعالى وحقوق الناس (2) .
واستدل على ذلك. بـ:
1-
الإجماع (3) .
2-
الآيات الدالة على وجوب الحكم بالعدل، مثل قوله تعالى:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، والحديث المروي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة
…
إلى قوله: ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة (4) ، حيث إن المستفاد من الآيات والروايات (أن موضوع جواز القضاء هو العدل والحق والقسط) ، فالعلم بذلك يكون علما بموضوع الحكم ومؤديا إلى العلم بالحكم، أي العلم بجواز القضاء (5) .
3-
إن العلم أقوى من الشاهدين اللذين لا يفيد قولهما عند الحاكم إلا مجرد الظن إن كان، فيكون القضاء به ثابتا بطريق أولى (6) .
4-
بعدما ثبتت أحكام مختلفة للموضوعات الواقعية بالخطابات التفصيلية، وقد خوطب بها الحكام على ما هو المفروض كقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، إلى غير ذلك، وفرض علمهم بتحقق تلك الموضوعات على ما هو المفروض فيجب عليهم ترتيب آثار تلك الموضوعات، وإلا لم تكن الآثار آثارا لتلك الموضوعات
(1) الجواهر: (40/88) .
(2)
القضاء والشهادات، ص94.
(3)
الجواهر: (40/88) .
(4)
الوسائل: (18/11) .
(5)
السيد كاظم الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي، ص201.
(6)
المسالك: (13/385) .
4-
(1) .
وهناك روايات استند إليها بعض الفقهاء في إثبات جواز قضاء القاضي بعلمه (2) .
ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان)) (3) ، لأن تلك الأخبار لا تدل على الحصر، حتى بالنسبة إلى العلم، بل غاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هو الحصر بالإضافة إلى غير العلم، وذلك إما من جهة كون الحصر فيها بملاحظة الغالب، من حيث عدم حصول الظن غالبا على خلافهما، وإما من جهة كون المراد منها إنا لا نتفحص عن الواقع ولا يجب علينا الفحص عن الواقع بل نحكم بالبينة والأيمان. لا أنه إذا حصل العلم لنا لا نعمل به بل نأخذ بالظاهر (4) .
أضف إلى ذلك ما قد يقال من أن البينة في الرواية ليست بالمعنى المصطلح بل يقصد بها كل ما يوضح الحق ويبينه (5) .
ثم إنه قد صرح صاحب الجواهر بأن الظاهر إرادة الأعم من اليقين والاعتماد القاطع من العلم ولو من تكثير الأمارات، لكون الجميع من الحكم بالحق والعدل والقسط عنده، ولغير ذلك من الأدلة (6) .
والمقصود بالاعتماد القاطع: هو الاطمئنان الذي يبقى احتمال الخلاف معه ضئيلا.
(1) محمد حسن الأشتياني، القضاء والشهادات، ص52.
(2)
راجع القضاء في الفقه الإسلامي، ص215 وما بعدها.
(3)
الوسائل: (18/169) .
(4)
محمد حسن الأشتياني، القضاء والشهادات، ص50.
(5)
الشيخ جواد التبريزي، أسس القضاء والشهادة، ص78.
(6)
الجواهر: (40/92) .
العلم الحسي والحدسي:
ومن الضروري التركيز على أن العلم الناشيء عن القرائن قد يكون حسيا أو قريبا من الحس، بمعنى أن القرائن والأمارات تكون محسوسة أو قريبة من الحس. وقد يكون حدسيا غير مستند إلى الحس. والمتيقن من أدلة حجية علم القاضي هو العلم الحسي أو القريب من الحس، فإن حجيته مرتكزة عند العقلاء، أما العلم الحدسي فلا ارتكاز لحجيته، إذ من المعقول عند العرف والعقلاء افتراض عدم السماح للقاضي بالقضاء، لأنه يكثر فيه الخطأ (1) .
القيافة:
ومن هنا نقول أن لا اعتبار بالقيافة وقول القائف (والقائف هو الذي يعرف الآثار ويلحق الولد بالوالد والأخ بأخيه، من قولهم قفت أثره، إذا تبعته)(2) ، لأنه لا يؤدي- على أفضل التقادير- إلا إلى علم حدسي للقاضي.
قال صاحب الجواهر في الاختلاف في الولد: ولا عبرة بالقيافة في مذهبنا. عن أمير المؤمنين عليه السلام لا يؤخذ بقول عراف وقائف: بل عنه عليه السلام أيضا أنه لم يكن يقبل شهادة أحد منهما، وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام من سمع قول قائف أو كاهن أو ساحر فصدقه أكبه الله على منخريه في النار.
وما في بعض النصوص من الدلالة على قبولهم عليهم السلام قول القائف محمول على خصوص الواقعة التي طابق فيه قوله الواقع، ومنه خبر المدلجي الذي بشر النبي صلى الله عليه وسلم أن أقدام أسامة وزيد بعضها من بعض، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن في شك من ذلك، وإنما سر بذلك لطعن المنافقين بينهما إغاظة لهم، وكان اعتمادهم على قول القائف (3) .
والحكم في الاختلاف في الولد هو القرعة بين الواطيين كما حكم بذلك أمير المؤمنين عليه السلام في حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في صحيحه، وقال ابن حزم: هذا خبر مستقيم السند نقلته كلهم ثقات (4) .
(1) السيد كاظم الحائري، القضاء، ص241.
(2)
مجمع البحرين: قوف.
(3)
الجواهر: (40/516) .
(4)
ابن القيم، الطرق الحكمية، ص220.
الفراسة:
وكذلك لا عبرة بالفراسة، فإنه- على ما قيل- نوعان: أحدهما ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون بعض أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الحدس والظن، وهو ما دل عليه ظاهر الحديث: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وثانيهما نوع يعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس (1) ، وهذا الثاني هو الذي يقال عادة في تعريف الفراسة بأنه المهارة في تعريف بواطن الأمور من ظواهرها (2) .
إذ النوع الأول وإن أفاد علماً مصيباً لكنة من العلوم الغيبية التي صرح الفقهاء بعدم جواز استناد القضاء إلى هذه العلوم (3) .
وأما النوع الثاني: فإن كان مستنداً إلى القرائن الحسية فهو حجة لحجية العلم الحسي، وأما إن كان مستنداً إلى مقدمات حدسية ونظرية فلا يكون حجة، لعدم حجية العلم الحدسي، وكثرة وقوع الخطأ فيه.
(1) النهاية ومجمع البحرين، مادة: فرس.
(2)
المعجم الوسيط.
(3)
المولى على الكني، القضاء، ص255.
لفت نظر:
قد يقال: إن منع القاضي عن القضاء بعلمه هو الأوفق بمقاييس الحق والعدل، وذلك نظراً لضعف الوازع الديني وفساد الضمير في كثير من الناس وطغيان حب المادة على النفوس، حتى أصبح علم القاضي الشخصي مكتنفا بالظنون والريب، حتى قال الفقيه الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه (1) .
وقيل أيضا: إن من مصاديق قاعدة سد الذرائع هو منع القاضي عن القضاء بعلمه، سدا لتسليط بعض قضاة السوء على قضاء باطل (2) .
لكن الفقه الشيعي الذي اشترط العدالة في القاضي يرى جواز قضاء القاضي بعلمه- كما تقدم-، ويرى أن علم القاضي- في فرض عدالته- كاشف أمين عن الواقع في غالب الأحيان (3) .
(1) دليل القضاء الشرعي، محمد صادق بحر العلوم:(2/34) .
(2)
القواعد والفوائد: (2/83) نقلا عن القرافي في الفروق: (2/32) .
(3)
راجع القضاء في الفقه الإسلامي.
ب- القرائن القضائية غير المفيدة للعلم:
لا يجوز التعويل على الظن في باب القضاء، ومن هنا فإن القرائن القضائية التي لا تفيد العلم للقاضي لا يعتمد عليها، وذلك للأدلة الناهية عن اتباع الظن.
كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقوله عز من قائل:{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] .
وقد قال الصادق عليه السلام في عد القضاة الذين هم من أهل النار: ((ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم)) (1) .
وقد ادعى الوحيد البهبهاني أن عدم جواز العمل بالظن بديهي عند العوام فضلا عن العلماء (2) .
نعم يمكن أن يقال: إن الظن والقرائن قد يوهن الدليل أو يرجحه على الدليل الآخر. فإن القرينة الظنية قد تفيد أقربية بينة أو دليل إلى الواقع أو أبعديتها عنه، والذي يعرف من بناء الفقهاء هو الأخذ بكل دليل اشتمل على ما يوجب أقربيته إلى الصواب، سواء كان لأمر راجع إلى نفسه، أو لاحتفافه بأمارة أجنبية توجب قوة مضمونها (3) .
(1) الوسائل: (18/11) الباب (4) من أبواب صفات القاضي الحديث (6) .
(2)
الوسائل: 1/659.
(3)
الوسائل، ص610.
الإثبات بالقرائن القانونية:
وهي القرائن التي نص الشارع على اعتبارها والأخذ بها، أفادت العلم أم لا، وبديهي أن للقاضي الاستناد إلى هذه القرائن إلا إذا ما علم خلافها، وذلك استنادا إلى شرعية هذه القرائن.
ولذا سبق وأن قلنا إن مهمة القرائن القانونية هي إعفاء من تقررت لمصلحته من تقديم أي دليل آخر للمحكمة.
أقسام القرائن القانونية:
وقد قسم العلماء القرائن القانونية إلى قسمين:
1-
القرينة القانونية القاطعة أو المطلقة، وسميت قاطعة لأنها لا تقبل إثبات العكس، كالقرينة القانونية التي تنص على أن: كل تبرع صادر لعدم الأهلية يكون باطلا، سواء ستر في صورة عقد معاوضة أو صدر لشخص مسخر، ولكن ليس معنى ذلك أن القرينة قاطعة لا تدحض أبدا، فهي لا تستعصي على أن تدحض بالإقرار واليمين، فإن المسؤولية عن الحيوان وعن الأشياء قرينة قاطعة لا يمكن للمسؤول إثبات عكسها ولكنه يستطيع دحضها بقرار يصدر من خصمه أو بيمين يوجهها إلى هذا الخصم فينكل (1) .
2-
القرينة القانونية غير المقاطعة أو البسيطة: وهي القرينة التي يمكن إثبات عكسها ونقضها بأدلة أعلى، فإن وجود سند الدين في حوزة المدين قرينة على براءة ذمته من الدين، وهذه قرينة قانونية غير قاطعة، إذ للدائن أن يثبت خلاف ذلك، كأن يدعي بأن السند مفقود أو سرق منه أو أنه مغتصب منه وعند ثبوت صحة ذلك تنقض قرينة الوفاء (2) .
(1) الوسيط: 2/614.
(2)
مهدي صالح محمد أمين: الإثبات بالقرائن، مجلة القضاء السنة (42)، العدد:(3/56) .
تقسيم آخر للقرائن القانونية:
ويمكن تقسيم القرائن القانونية بالنظر إلى القوانين الشرعية الإسلامية وذلك كالتالي:
1-
الأصول الشرعية:
ونقصد بالأصل هو الذي يبنى عليه في الحالات المشكوكة البدائية إلى أن يثبت خلافها. ونذكر على سبيل المثال:
- أصالة براءة الذمة، والتي استند الفقهاء إليها في كثير من الموارد لإثبات براءة ذمة المنكر.
- أصالة الصحة في فعل المسلم وقوله.
- أصالة الصحة في العقود والإيقاعات.
- الاستصحاب بجميع تطبيقاته.
2-
القواعد الشرعية:
وهي كثيرة متناثرة في الأبواب الفقهية، ونذكر علي سبيل المثال:
- كل شيء لا يعلم إلا من قبل مدعيه يسمع قوله فيه.
- اليد أو التصرف أمارة الملكية.
- على اليد ما أخذت حتى تؤدي (قاعدة الضمان) .
- الحيازة سبب للملكية.
- المشقة موجبة للتخفيف.
- العارية لا تضمن إلا بالشرط.
- الولد للفراش وللعاهر الحجر.
- الضرورات تبيح المحظورات.
- قاعدة الإحسان (نفي الضمان عن المحسن) .
وتطبيقا لبعض القواعد التي مر ذكرها نذكر التطبيقات التالية:
• لو ادعت الزوجة أن عدتها قد انقضت وأنكر الزوج ذلك، فيقدم قول الزوجة، استنادا إلى قاعدة: إن كل شيء لا يعلم إلا من قبل مدعيه يسمع قوله فيه، وكذلك تطبيقاتها الروائية، كقول الباقر عليه السلام: العدة والحيض للنساء، إذا ادعت صدقت (1) .
• من ادعى مالا لا يد لأحد عليه قضي له به من دون بينة ويمين بلا خلاف، لأصالة صحة قول المسلم وفعله، بل كل مدع ولا معارض له (2) .
• لو ادعى المستودع رد الوديعة بعد مطالبة المودع إياها، فقد ذهب المشهور من فقهاء الإمامية إلى قبول دعوى المستودع من دون بينة، وذلك استنادا إلى قاعدة الإحسان (ما على المحسنين من سبيل)(3) .
• وقال الشهيد الأول: لا يكلف المدعي ببينة في مواضع
…
وتقديم قول الأمناء في دعوى التلف لئلا يقل قبول الأمانة مع إمساس الضرورة إليها، سواء كانت أمانتهم من جهة مستحق الأمان أو من قبل الشرع. كالوصي والملتقط ومن ألقت الريح ثوبا إلى داره
…
ودعوى الودعي في الرد، لئلا يزهد الناس في قبول الوديعة (4) .
ولا بد من الالتفات إلى أن غالبية القواعد الشرعية ليست طرفا للإثبات ولا هي من القرائن بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما هي حقائق ثابتة تتعلق بالنظام، قررها الشارع لكي تطبق في كل المجالات وليس في مجال القضاء فحسب، ولذلك نجد أن علماء القانون عبروا عن هذه القواعد بالقواعد الموضوعية وذكروا الفروق بينها وبين القرائن القانونية (5) .
ولكن نحن لم نفصل القواعد الموضوعية عن القرائن القانونية، نظرا للتشابه الكبير والصلة الوثيقة بينهما.
(1) الوسائل: (15/441) .
(2)
الجواهر: (40/398) .
(3)
أدلة إثبات الدعوى، ص129.
(4)
القواعد والفوائد: (2/188) .
(5)
راجع الوسيط: (2/616) .
3-
العرف:
للعادة تأثير في تعيين الشيء الذي تنازع عليه المتخاصمان، ولو تغيرت العادة وزال هذا العرف مع الزمن، يزول معه هذا الأثر.
ولذلك أمثلة كثيرة مذكورة في الكتب الفقهية، نشير إلى بعضها:
• قال الشهيد الأول: يجوز تغير الأحكام بتغير العادات
…
ومنه الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق، فالمروي تقديم قول الزوج، عملا بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول، ومنه: إذا قدم شيئا قبل الدخول كان مهرا إذا لم يسم غيره، تبعا لتلك العادة، فالآن ينبغي تقديم قول الزوجة (1) .
• إذا تداعى الزوجان متاع البيت فالمعتمد أن نقول إنه كان هناك قضاء عرفي يرجع إليه ويحكم به بعد اليمين، ويدل عليه حكم الإمام في بعض الروايات: أن العادة قاضية بأن المرأة تأتي بالجهاز من بيتها، فحكم لها به، وأن العادة قاضية بأن ما يصلح للمرأة خاصة فإنه يكون من مقتضياتها دون مقتضيات الرجل، والمشترك يكون للمرأة قضاء لحق العادة الشائعة، ولو فرض خلاف هذه العادة في وقت من الأوقات أو صقع من الأصقاع لم يحكم لها (2) .
ونقل المحقق الرشتي الأقوال في اختلاف الزوجين في متاع البيت، وقال فيما قال:
(ثالثها: أنها للمرأة ويطالب الرجل بالبينة وهذا مصرح به في غير واحد من الروايات معللا بأنه لو سئل من بين لابتيها- أي بين جبلي منى - لأخبروك أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل فيعطى التي جاءت به، والعمل بهذه الرواية يقضي بالتفصيل بين البلدان والأقاليم والعمل في كل بلد بموجب ما جرت عليه عادته، فقد يكون كما أخبر به الإمام من كون الجهاز والمتاع من المرأة وقد يكون بالعكس)(3) .
(1) القواعد والفوائد: (1/152) .
(2)
الجواهر: (40/496) .
(3)
الشيخ حبيب الله الرشتي، القضاء، ص300.
4-
القرائن الطبيعية:
أي القرائن التي تعرف من خلال الأمور التكوينية والقوانين الطبيعية وهذه وإن لم ينص الشارع على اعتبارها بالخصوص، إلا أن المعلوم من مذاق الشرع لزوم الأخذ بها وعدم الاعتداد بما يخالفها.
* قال المحقق الحلي: لو شهد للمدعي بأن الدابة ملكه منذ مدة، فدلت سنها على أقل من ذلك قطعا، أو أكثر، سقطت البينة، لتحقق كذبها (1) .
وليس سقوط البينة هنا إلا أنها تخالف أمرا ووضعا من أوضاع التكوين.
• وقد قسم الشهيد الأول الدعوى إلى أقسام، منها: الكاذبة، وقال في توضيحها:
أما الكاذبة، فدعوى معاملة ميت أو جنايته بعد موته، أو ادعى وهو بمكة أنه تزوج فلانة أمس بالكوفة (2) .
ويمكن إلحاق القرائن والمعلومات التاريخية إلى القرائن الطبيعية إذ هي أيضا تعكس بدورها الوقائع الثابتة المحققة، والتي يجب أن يؤخذ بها في الأحكام القضائية.
(1) شرائع الإسلام: (4/118) .
(2)
القواعد والفوائد: (1/410) .
5-
القرائن الحالية (ظاهر الحال) :
ويمكن عد القرائن الحالية أو ظاهر الحال من القرائن القانونية، لأنها قرائن منصوص عليها في الكتب الفقهية، وهي التي تستفاد من ظاهر حال الإنسان بصفته المعينة، ولها مصاديق متنوعة وكثيرة.
• يقول الشهيد الأول: يجوز الاعتماد على القرائن في مواضع
…
ومعظم هذه المواضع فيها ظن غالب لا غير، كالقبول من المميز في الهدية، وفتح الباب (في الإذن بالدخول) وجواز أكل الضيف بتقديم الطعام من غير إذن
…
والشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع، والعري في الخلوة وشبهه (1) .
وذكر في مورد آخر أن من جملة الأسباب الفعلية لجواز التصرف هي:
تقديم الطعام إلى الضيف فإنه مغن عن الإذن على الأصح، وتسليم الهدية إلى المهدي إليه (2) .
فإن كل هذه المواد هي قرائن وظهورات حالية تدل على ثبوت أمر آخر كإباحة الأكل أو جواز التصرف والدخول.
• وقال أيضا في تعارض الأصل والظاهر: لو تنازع الراكب والمالك في الإجارة والعارية مدة لمثلها أجرة، ففيه الوجهان، وترجيح قول المالك أولى، لأن الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن فكذا في صفته (3) .
أي أن ظاهر الحال يقتضي أن يعتمد على قول المالك في أصل الإذن في التصرف في ملكه فكذا يجب الاعتماد على قوله في خصوصية الإذن من أنه أذن مجانا أو بعوض.
ويمكن أن يقال إن الظهورات الحالية العامة هي من القرائن القانونية، وأما الظهورات الحالية الخاصة بكل دعوى من الدعاوي والتي يستند إليها القاضي في حكمه فهي القرائن القضائية، فتصرف المدين في نقل أمواله إلى قريبه، قد يكون قرينة حالية للطعن في تصرفه، لكنها قرينة حالية خاصة بالموضوع. وأما فتح الباب فهو قرينة حالية عامة في الإذن (4) .
(1) المصدر السابق: (1/222) .
(2)
القواعد والفوائد: (1/178) .
(3)
المصدر السابق، ص138.
(4)
في الحقيقة إن هذا الموضوع يشير إلى قضية عامة وهي أن القرائن القانونية ترجع في أصلها ونشرها إلى القرائن القضائية، فالقرينة القانونية ليست في الأصل إلا قرينة قضائية تواترت واطرد وقوعها، فاستقر عليها القضاء، ومن ثم لم تصبح هذه القرينة متغيرة الدلالة من قضية أخرى، فرأى المشرع في اطرادها واستقرارها ما يجعلها جديرة بأن ينص على توحيد دلالتها فتصبح بذلك قرينة قانونية، الوسيط:(2/338) .
التطبيقات المعاصرة للقرائن:
وهناك وسائل وطرق حديثة يستخدمها المعنيون بكشف الجرائم وإثبات مسؤولية التقصير ولحوق النسب وغير ذلك، وذلك كالمعاينة والتقاط البصمات، وتحليل الدم والمني والشعر وتحديد نوع السلاح والرصاص، وكذا ما يقوم به المختصون بهندسة الوراثة في مختبراتهم لإلحاق الولد وتعيين الخبراء من قبل المحكمة وتقارير شرطة المرور في حوادث السير وما شابه ذلك.
والواقع أن هذه الطرق لا تستدعي العلم القاطع للشك والريب في كل ما يقدمه ويرسمه، بل فيها ما يفيد العلم كفحص بصمات الإبهام التي تعين شخصية المتهم وهويته، بعد أن أثبتت التجارب أن لكل إنسان بصمة خاصة، وفيها ما لا يفيد العلم ولكنه يزود الحاكم بحلقة جديدة من سلسلة الأدلة، أو يقوي ويدعم حلقة ضعيفة منها، وليس من شك أن العلم الحاصل بهذه الطرق إن كان حسيا أو حاصلا بمقدمات قريبة من الحس فهو حجة متبعة. أما إذا لم يحصل العلم منها فيترك الأمر إلى تقدير القاضي ومدى اقتناعه بدم القرينة لدليل من أدلة الإثبات أو تضعيفه (1) .
(1) راجع فقه الإمام الصادق: (6/136) .
حصيلة البحث
1-
إن القرائن القضائية التي يستنبطها القاضي من ظروف الدعوى حجة في الإثبات إذا كانت مفيدة للعلم والاطمئنان، وإن لم يفد إلا الظن بالواقع فلا تصلح للإثبات، إلا أنها صالحة لدعم الدليل أو نقضه.
2-
وأما القرائن القانونية فهي حجة شرعية في القضاء، وذلك لتنصيص الشارع على اعتبارها في مختلف مجالات الحياة.
3-
وأما الطرق والوسائل الحديثة للإثبات، فهي حجة بشرط إفادتها العلم الحسي، وأما غير المفيدة للعلم فليست حجة وإن جازت الاستعانة بها في دعم الدليل أو تضعيفه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مجتبى المحمودي- محمد علي التسخيري