الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقد التوريد
دراسة فقهية تحليلية
إعداد
الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص بحث
(عقد التوريد)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمه للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن (عقد التوريد) من العقود التجارية التي تمخض عنها العصر الحديث، وما نتج عنه من تطور صناعي في النتاج الكمي والنوعي، وتطور وسائل النقل، وحفظ البضائع وتأمينها، وتطور وسائل الاتصال الهاتفي والإلكتروني، وقيام المؤسسات الاقتصادية المختلفة.
كان هذا أوجد مناخات تجارية، وعقودًا مالية واقتصادية تختلف تمامًا كما وكيفًا عن التجارة في القرون الماضية.
عقد التوريد بمفهومه التجاري المتداول:
هو إحضار سلع من خارج حدود البلاد السياسية، وتربتها الوطنية للراغبين فيها، يتكفل بها مكاتب متخصصة، أصحابها ذو خبرة واسعة بمواقع السلع ومصادرها يبرمون عقودًا في داخل بلادهم مع التجار الراغبين فيها، يقومون بهذا الأمر إما بصفتهم وكلاء عن المصانع والشركات الخارجية حينًا، أو أنهم يمثلون الطرف الأول (بائعًا) في العقد، والتجار المحليين (مشترين) طرفًا ثانيًّا حينًا آخر.
يبرم العقد بين الطرفين على أحد هذين الوجهين مع وصف دقيق للسلعة بما يكون له أثر في اختلاف الأسعار، أو تقديم عينة وأنموذج لها، وتعيين الزمان والمكان لتسليمها للمشتري حسب المتفق عليه في العقد، واتخاذ إجراءات تعاقدية لتأمين وصولها سليمة مع إحدى شركات التأمين، على أن يتم دفع الثمن مؤجلًا، أو على أقساط.
في ضوء هذه العناصر الرئيسية لهذا العقد يمكن تعريف (عقد التوريد) تعريفًا فقهيًّا بأنه: " عقد على عين موصوفة في الذمة بثمن مؤجل معلوم، إلى أجل معلوم في مكان معين ".
العناصر المؤثرة في صحة هذا العقد أو عدمها:
1-
السلعة غير موجودة في مجلس العقد، وقد تكون معدومة في البلد المصدر لها لأنها مما يصنع حسب الطلب، وهذا هو الغالب.
2-
أن العقد يتم على أساس الوصف، أو مشاهدة عينة لها.
3-
أن المشتري لا يدفع الثمن حالًا، ولكن يدفعه لدى تسلمه السلعة إما دفعة واحدة، أو على أقساط.
يمكن أن ينظر إلى مشروعية هذا العقد من عدمها من خلال أصلين شرعيين، وتنزيله على أحدهما، أو على كليهما إن أمكن هذا.
الأصل الأول: تنزيله على عقد هو أكثر شبهًا به، واتفاقًا معه في حقيقته، وأخص صفاته.
الأصل الثاني: أن يعد عقدًا جديدًا في ذاته، وصفاته، يخضع أولًا لقاعدة (الأصل في المعاملات الإباحة) والقواعد الشرعية الأخرى مثل قاعدة (المقتضي والمانع) وغيرها مما له علاقة موضوعية بهذا الأصل.
هذا ما يتم عرضه ملخصًا من كتابه البحث.
أما بالنسبة للأصل الأول وهو تنزيله على عقد من العقود المسماة الأكثر شبهًا به فهو (عقد البيع على الصفة) ، أو ما يسمى (بيع الصفات)، يجتمع معه في صفات رئيسة منها:
1-
أن العقد في كليهما قائم على أساس التوصيف الكامل للسلعة أو رؤية سابقة، أو مشاهدة عينة لها، وأنموذج منها.
2-
غياب السلعة عن مجلس العقد في كلا العقدين، وينفرد عقد التوريد بعدم وجودها في الخارج حال العقد، ولكنها تصنع، أو تستنبت بعد تمام العقد، وقد تكون موجودة ولكن في بلد ناء بمئات بل بآلاف الكيلو مترات، غير أن البائع، أو الوكيل يضمن حضورها سليمة في المكان والزمان والمواصفات المتفق عليها.
3-
موضوع العقدين هو عموم السلع الضرورية، والحاجية والتكميلية والتحسينية.
4-
القصد الأساسي من العقدين هو التبادل الفعلي للسلع بحصول المشتري على السلعة المطلوبة لتلبية احتياجاته أن أو احتياجات السوق، وحصول البائع على الربح لتسويق منتجاته، واطمئنان كل منهما على حصوله على ما يتم عليه العقد بالصفات، وفي الزمان، والمكان المحددين في العقد.
5-
كلا العقدين يحققان مفهوم عقد البيع شرعًا فهمًا من (بيوع الصفات) لا (الأعيان) .
6-
لا حضور للعوضين الثمن والمثمن أثناء العقد، وإنما يتم تسليم الثمن كله، أو دفعه على أقساط بعد استلام المشتري للبضاعة.
المحظور والمحاذير التي رآها الفقهاء القائلون بجواز البيع على الصفة وهم الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والقول المرجوح عند الشافعية في المبيع الغائب على الصفة أمور:
الأول: أن البعد المكاني يؤدي إلى تغير الصفات، ويعرض السلعة للهلاك.
الثاني: أن العدول عن الرؤية إلى الوصف غرر ومخاطرة، ويفضي إلى المنازعة.
ما من شك أن التحوط للأمر الأول وجيه، ووضعه في الاعتبار الفقهي في الماضي منطقي ومنسجم مع الوضع الاجتماعي، والتجاري، والأمني السابق، أما وقد زالت أسبابه في الوقت الحاضر بسب التطور في وسائل النقل، وأساليب الحفظ، ووجود مؤسسات التأمين لضمان سلامة البضائع، فقد أصبح اعتبار هذا وافتراضه غير وارد، وغير مؤثر في صحة العقد إذا انتفى وجوده، بل إنه مرتفع عن كلا العقدين (عقد البيع على الصفات) و (عقد التوريد) في العصر الحديث.
أما الأمر الآخر: الغرر والمخاطرة بسبب عدم الرؤية واللجوء إلى الوصف، وعدم وجود أحد العوضين في مجلس العقد فقد ذكر الفقهاء من الشروط والقيود، والآثار المترتبة على عدم الرؤية للمبيع ما يحفظ حق الطرفين ويمنع أسباب النزاع بينهما، وهو ما يحاول الفقه الإسلامي أن يتفاداه المتعاقدان في جميع الأحوال والأزمان.
ولا يشكل على الفقيه انعدام السلعة، ولا يؤثر هذا على صحة العقد ما دام الوصف في العقد يمنع الجهالة والغرر، ويسد باب المنازعة بين الطرفين يقول العلامة ابن القيم رحمه الله:" ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، ولا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع لا العدم، ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا، أو معدومًا "(1) .
من خلال هذه القاعدة الفقهية التي قررها العلامة ابن القيم يتوجه النظر إلى (عقد التوريد) ليتم تنزيله متساويًّا مع نظيره في العقد على (المبيع الغائب) .
وفيما يلي عرض ملخص لبعض النصوص الفقهية من المذاهب تقدم تصورًا لتوقي الغرر والمخاطرة في البيع على الصفات، وتقطع دابر المنازعة بين الطرفين، وقد نبه العلامة ابن تيمية رحمه الله:" أن من البيوع ما لا يقع فيه النزاع فتكون جائزة "(2) .
(1) إعلام الموقعين: 2 / 9.
(2)
أبو غدة، عبد الفتاح، تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي، ص 60.
المذهب الحنفي:
جاء في الاختيار لتعليل المختار للعلامة عبد الله الموصلي: " ولابد من معرفة المبيع معرفة نافية للجهالة " قطعًا للمنازعة، فإن كان حاضرًا فيكتفى بالمباشرة لأنها موجبة للتفريق، قاطعة للمنازعة، وإن كان غائبًا فإن كان مما يعرف بالأنموذج كالكيلي والوزني، والعدد المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع، إلا أن يختلف فيكون له خيار العيب، فإن كان مما لا يعرف بالأنموذج كالثياب، والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف قطعًا للمنازعة، ويكون له خيار الرؤية " (1) .
ولا يلزم دفع الثمن قبل استلام السلعة وهو ما ورد به النص: " فإن كان المبيع غائبًا عن حضرتهما فللمشتري أن يمتنع عن التسليم حتى يحضر المبيع؛ وإذا كان المبيع غائبًا لا تتحقق المساواة بالتقديم "(2) .
المذهب المالكي:
" باب بيع الصفات والبرامج: ولا بأس بيع الأعيان الغائبة على الصفة، فإن وافقت الصفة لزم البيع فيها، ولم يكن للمشتري خيار الرؤية، وإن خالفت الصفة فالمشتري بالخيار في إجازة البيع، أورده. . . وإن كانت السلعة المبيعة على الصفة مأمونة فلا بأس بنقد ثمنها، وإن كانت غير مأمونة فلا ينقد ثمنها قبل قبضها. ولا بأس ببيع البرنامج إذا كانت فيه الصفات التي تكون في السلعة. . . "(3) .
(1) الاختيار لتعليل المختار، الطبعة الثالثة، تعليقات محمود أبو دقيقة، بيروت، دار المعرفة للطابعة والنشر، عام 1395 هـ، 1975 م: 2 / 5.
(2)
الكاساني، إعلاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 5 / 237.
(3)
ابن الجلاب، أبو القاسم عبد الله، التفريع: 2 / 170؛ انظر البحث، ص 372.
المذهب الحنبلي:
" (ويصح) البيع (بصفة) تضبط ما يصح السلم فيه: لأنها تقوم مقام الرؤية في تمييزه (وهو) أي البيع بالصفة (نوعان: أحدهما: بيع عين معينة سواء كانت العين المعينة غائبة. . . أو كانت العين المبيعة بالصفة حاضرة مستورة كجارية منتقبة، وأمتعة في ظروفها. . . والنوع الثاني) من نوعي البيع بالصفة: (بيع موصوف غير معين، ويصفه بصفة تكفي في السلم، إن صح السلم فيه) بأن انضبطت صفاته. . "(1) .
أما بالنسبة للنوع الأول: " فيجوز التفريق قبل قبض الثمن، وقبل قبض المبيع ".
وأما بالنسبة للنوع الثاني: فإنه يجب دفع الثمن قبل مغادرة المجلس وأجاز القاضي أبو يعلى التفريق من مجلس العقد قبل قبض المبيع والثمن دون تفرقة " (2) .
المذهب الشافعي:
" الأظهر أنه لا يصح بيع الغائب (الثمن، أو المثمن) بأن لم يره أحد المتعاقدين، وإن كان حاضرًا في مجلس البيع "، بأن بالغ في وصفه أو سمعه بطريق التواتر.
والثاني وبه قال الأئمة الثلاثة يصح البيع إن ذكر جنسه، وإن لم يرياه، ويثبت الخيار للمشتري، وكذا البائع على خلاف فيه عند الرؤية
…
" (3) .
أما تنزيله على الأصل الثاني قاعدة (المقتضى والمانع) وذلك بحسبه عقدًا جديدًا بذاته، فإنه يدخل دخولًا أوليًّا تحت قاعدة (الأصل في المعاملات الإباحة) .
أما المقتضى لهذا العقد فإنه في صورته الشائعة الآنفة الذكر، وصيغته السليمة الخالية من المحظورات يحقق مصالح متعددة لأطراف متعددين: البائع، المشتري، المصدر، المستورد، والمجتمع.
الحاجة إلى عقد التوريد ليست خاصة بأمة دون أمة بل أصبح حاجة الأمم والشعوب في كافة أقطار الدنيا مهمًا كان مستواها الحضاري والاجتماعي متقدمة، أو متخلفة، والقاعدة (أن الحاجة إذا عمت كانت كالضرورة) .
(1) البهوتي، كشاف القناع: 3 / 164 – 165.
(2)
انظر البحث، ص 383.
(3)
تحفة المحتاج بشرح المنهاج، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر: 4 / 263.
تمثل هذه الأمور مجتمعة (المقتضى) للإباحة، إذا افترض سلامة العقد وتمامه وفق الأحكام الشرعية المطلوبة في العاقدين، والحال التي وقع عليها العقد ثمت أمور يحرمها الشرع وترجع إلى صفة العقد وهي ضرورة: الربا ووجوهه، الغرر وأبوابه، تقتضي فساد عقد التوريد مثل غيره من العقود، فإذا خلا من الربا ووجوه وأقسامه، ومن الغرر (1) وأبوابه.
الوصفان الأوليان: (تعذر التسليم والجهل) منتفيان في عقود التوريد؛ حيث من ضرورياته اطمئنان المشتري من قدرة البائع على تسليم المبيع، وحرصه على التأكد من ذلك بأخذ ضمانات مالية للوفاء عن طريق مؤسسة تأمينية في أبسط عقود التجارة.
أما الجهل بالجنس، أو الصفات فهو ما لا يحدث في أي عقد تجاري بل يحرص كل من الطرفين أن يبين أخص الصفات ومقدارها وموعد التسليم دون تأجيل، أو مماطلة.
أما الخطر والمقامرة ببيع وشراء ما لا ترجى سلامته فإن التاجر في الوقت الحاضر مصدرًا، أو مستوردًا لا يقدم على إبرام عقد على توريد بضاعة حتى يضمن سلامة وصول السلعة وتأمين وصولها إلى أصحابها سليمة.
وإذا توافر المقتضى في هذا العقد، وانتفى المانع فقد خلص البحث في خاتمته إلى مشروعية عقد التوريد بمعناه الفقهي الآنف الذكر، استنادًا على النصوص الفقهية المعتمدة، والقواعد الفقهية والأصولية الإجمالية، بشرط خلوه من المحظورات الشرعية فيما يتعلق بالعاقدين، والعوضين، وصفة العقد، يخضع في جميع مراحله للمبادئ والقواعد الشرعية المقررة، وعدم المعارضة لقاعدة أو ضابط شرعي، فضلًا عن معارضة نص من الكتاب والسنة.
هذا العقد في تفاصيله وخصوصياته هو البديل السليم المناسب للبنوك الإسلامية عن بيع (المرابحة للآمر بالشراء) الذي طال فيه الخلاف بين الفقهاء المعاصرين بسبب الوعد للآمر بالشراء، ومدى لزومه شرعًا للمشتري.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الدائمان الأتمان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) الغرر إذا أطلق فقهًا يقصد منه: تعذر التسليم، الجهل، الخطر، والقمار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خيرته من خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
القسم الأول
عقد التوريد (1)
(1) يصنف (عقد التوريد) في القانون بين العقود الإدارية تارة فيعرف بأنه: " اتفاق بين شخص معنوي من أشخاص القانون العام، وفرد، أو شركة يتعهد بمقتضاه الفرد، أو الشركة بتوريد منقولات معينة للشخص المعنوي لازمة لمرفق عام مقابل ثمن معين ". الطماوي، سليمان محمد، الأسس العامة للعقود الإدارية، دراسة مقارنة، الطبعة الرابعة، مصر: مطبعة عين شمس، عام 1984 م، ص 121. كما يصنف في القانون المدني والتجاري عندما يكون أطرافه أفرادًا أو مؤسسات وشركات، تمثل أنفسها ليست لها علاقة بشخصيات القانون العام، والمرافق العامة، وإنما يبرم بتمثيل عادي ولمصلحة خاصة، وانظر الطماوي، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 52، 55 / 123؛ وانظر: اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، مصطلحات قانونية، العراق: مطبعة المجمع العلمي العراقي، عام 1394 هـ - 1974 م، ص 176. وبحسب الأطراف والأهداف في العقد يكون عقد التوريد من العقود التي قد تكون إدارية، أو مدنية وفقًا لخصائصها الذاتية، انظر: الطماوي: الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 52، 55 / 123؛ وانظر: اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، مصطلحات قانونية، العراق: مطبعة المجمع العلمي العراقي، عام 1394 هـ - 1974 م، ص 176.
التوصيف والتعريف
المبحث الأول
التوصيف
تقديم:
إن تطور الصناعة وتقدمها أوجد مناخات تجارية واقتصادية متباينة تمامًا عما كان في الماضي، فقد انتقلت التجارة من القلة والندرة إلى الكثرة والوفرة، ومن التعامل البسيط إلى التعامل المعقد، وأصبح لوسائل النقل السريعة والاتصال الهاتفي الأثر الكبير على تطور التجارة، وتنوع أساليبها وصيغها فأفرزت عقودًا من المعاملات لم يكن لأمم بها سابق عهد، ومن أبرز هذه العقود، وأوسعها انتشارًا (عقد التوريد) ، يمارسه التجار في كل بلاد العالم على مختلف المستويات، على المستوي المحلي، والمستوى الدولي، وعلى المستوي الفردي، والمستوى الرسمي.
وفرة السلع في الأسواق العالمية ومراكز التجارة ظاهرة من مظاهر العصر الحديث بسبب التقنيات المتقدمة، والآلات ذات النتاج الغزير صناعيًّا وزراعيًّا، حسب مواصفات معينة، ودرجات متفاوتة؛ إذ أصبح لكل نوع منها وبخاصة الغذائية والاستهلاكية أسواق عالمية، فأصبحت معظم السلع متوافرة في جميع الأوقات والفصول على مدار العام.
يبيع التاجر سلعة من السلع في بلدة قد يملكها في مخازنه ومستودعاته، وقد يكون وكيلًا لمنتجها الذي يقيم في بلد ناء عنه، وقد يكون صاحب مكتب لاستيراد السلع متنوعة بما يسمى في المصطلح التجاري (Commission Agent) الدليل التجاري، وهو في الغالب لا يملكها ولكنه ذو خبرة بمواقعها ومصادرها، يبرم عقود البيع لها، مع الراغبين فيها كما لو كانت ملكه وتحت يده، دون أن يثير هذا اعتراضًا من مشتر بدعوى أنه يبيع ما لا يملكه، وفي معظم الحالات يتم تسلم السلعة للمشتري حسب المواصفات والكميات المطلوبة في الزمان والمكان المحددين حسبما تم الاتفاق عليه في العقد في حضور عينة وأنموذج لدى البائع، أو وصف دقيق بما ينفي الجهالة عنها.
أصبح هذا عرفًا خاصًا وعامًا، محليًّا وعالميًّا فمن ثم يمكن تصنيف المبيع الغائب إلى نوعين:
الأول: مبيع معين موجود غير أنه غائب عن مجلس العقد، يتم العقد عليه بذكر صفاته التي تتباين بها الأسعار، وتتفاوت من أجلها الرغبات، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي (البيع بالصفة) ، أو (البيع على الصفة) .
يتميز هذا النوع من البيع بتأجيل العوضين الثمن والسلعة عن مجلس العقد، المبيع موجود ولكنه غائب عن مجلس العقد، والثمن مؤجل كله أو بعضه حتى يتسلم المشتري البضاعة جملة، أو أقساطًا.
النوع الثاني: مبيع معدوم ولكنه موصوف في الذمة: يختص هذا النوع بعدم وجود المبيع في الوجود الخارجي أصلًا، يصفه الطرفان بصفات تكفي في السلم.
هذا النوع يختص بتعجيل الثمن في مجلس العقد وتأجيل المبيع إلى وقت معلوم، وهو السلم في الذمة.
في جميع الحالات: قد تكون السلعة المبيعة على الصفة ملكًا للبائع، وقد لا تكون ملكًا له ولكن لديه القدرة على امتلاكها وتسليمها للمشتري في الزمان والمكان المعينين.
البحث هنا يركز بصفة خاصة على ما هو متملك للبائع فعلًا، أو حكمًا، يقصد بهذا الصور والصيغ التي تبرم فيها العقود على بضاعة لا يملكها البائع ولكن لديه الثقة واليقين على القدرة على إحضارها وتسليمها في الزمان والمكان المعينين في العقد، كما هو غالب عقود التجارات في عالمنا المعاصر.
وفيما يلي عرض للطريقة والصور التي يتم بها عقد التوريد في النشاط التجاري اليومي:
الطريقة التي يتم بها عقد التوريد:
الخطوة الأولى التي يرتبط بها من خلالها المتعاقدان بمثل هذا العقد تبدأ بعرض البائع في البلد المصدر بيع سلعته على أساس عينة، أو نموذج، أو على أساس مواصفات معيرة (standardized) معروفة ليسلم الكمية التي يتعاقد عليها في المستقبل على أن يدفع ثمنها عند التسليم (أو قبله، أو بعده إذا كانت العملية تتضمن تمويلًا من واحد منهما للآخر) .
ولتوثيق هذا الاتفاق المستقبلي نشأت الاعتمادات المستندية التي تتوسط فيها البنوك لتضمن تنفيذ هذا الاتفاق المستقبلي بدفع الثمن عند تسليم البضاعة (مرموزًا له بتسليم الأوراق التي تدل على أنها أصبحت في حوزة الشركة الناقلة) .
فالاعتماد المستندي يقوم توطيدًا وترسيخًا للعقد بين المصدر والمستورد على بضاعة تسلم في المستقبل، ويدفع ثمنها في المستقبل أيضًا (1) .
هكذا تتم عملية توريد البضاعة بداءً وانتهاء من اتخاذ كافة الوسائل والسبل المجدية لضمان حقوق المتعاقدين وتوثيقها حسبما يتم عليه التعاقد.
" قد يتضمن التسليم المتفق عليه تسليم الكمية دفعة واحدة، أو على دفعات محددة، كمية كل دفعة معروفة، ومحدد ميعاد تسليمها "(2) .
(1) د. منذر قحف، عقد التوريد، دراسة اقتصادية مقدمة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، ص 3 / 5.
(2)
المصدر السابق نفسه.
موضوع العقد:
عموم السلع الغذائية والدوائية، والصناعية من الأثاث، والملبوسات، والأدوات والآلات، والمواد الأولية والمصنوعة وغيرها من المتطلبات الضرورية، والحاجية والكمالية، الموجودة أعيانها، المملوكة لبائعيها، أو ما يكون للبائع القدرة على إحضارها في الزمان والمكان المعينين.
صور عقد التوريد:
يمكن عرض أهم الصور الشائعة التي يتم بها عقد التوريد في المعاملات التجارية في العصر الحاضر.
أولًا: دفع الثمن مؤجلًا بحيث يتزامن وتسليم السلعة، أو يتقدم أحدهما على الآخر في التأجيل حسب شروط العقد.
ثانيًّا: يدفع المشتري عربونًا، أو تأمينًا، أو ضمانًا يحسب من ثمن السلعة المؤجل تسليمها.
ثالثًا: يدفع كل من المتعاقدين مبلغًا من المال يحسب على أساس نسبة الثمن لضمان الالتزام لكل منهما بالعقد وتنفيذه، ويودع لدى طرف ثالث، أو إدارة السوق كي تضمن تنفيذ العقد من الطرفين، يعاد للبائع ما دفعه عند التنفيذ، ويحسب ما دفعه المشتري جزءاً من الثمن الكلي.
القصد الأساسي من إبرام العقد في صوره السابقة التبادل الفعلي للسلع، وحصول المشتري على السلعة المطلوبة لتلبية احتياجاته، والبائع على الربح وتسويق منتجاته هو الباعث لكلا المتعاقدين.
رابعًا: تسليم السلعة على دفعات متفاوتة ودفع الثمن مؤجلًا.
خامسًا: بعض من صور عقود التوريد يحتاج فيها العاقد السلعة على فترات متفاوتة منتظمة حسب احتياجه على أن يتم دفع الثمن كله، أو بعضه مؤجلًا في وقت محدد بعد استيفاء كامل للدفعات المطلوبة، كما هو الحال في عقود التغذية في الملاجئ، والمستشفيات، والمطارات، وغيرها من العقود المشابهة يستوفى لها كافة الصفات، والنوعيات، والمستويات المطلوبة، وتسليمها حسب جدول زمني معين.
الغرض من إبرام هذا العقد:
" إن يطمئن المشتري إلى حصوله على السلعة التي يريدها في الميعاد الذي يريده في المستقبل، وأن يطمئن البائع إلى أن ما سينتجه من بضاعة قد بيع فعلًا، وسيتم تسليمه إلى المشتري في الميعاد المضروب.. . . "(1) .
التكييف الفقهي لعقد التوريد:
عقد التوريد في جوهره ومضمونه عقد من عقود المعاوضات ينتهي بتمليك السلعة للمشتري، والثمن للبائع بصورة مؤبدة.
بهذا المعنى يحقق مفهوم البيع شرعًا، وهو من قبيل (بيوع الصفات) لا (بيوع الأعيان) حيث إن الوصف غالبًا أو العينة أو الأنموذج أو الرؤية السابقة هو وسيلة التعريف بالمبيع، لا الرؤية والمشاهدة الآنية.
(1) د. منذر قحف، عقد التوريد، ص 5.
المبحث الثاني
تعريف عقد التوريد
التوريد لغة: مصدر ورد بتشديد الراء.
قال أبو الحسين أحمد بن فارس: " الواو والراء والدال أصلان: أحدهما: الموافاة إلى الشيء، والثاني: لون من الألوان "(1) .
وقال الجوهري، إسماعيل بن حماد:" ورد فلان ورودًا: حضر، وأورده غيره، واستورده: أي أحضره "(2) .
وقال: ". . . ابن سيده: تورده، واستورده كورده، وتوردت الخيل البلدة: إذا دخلتها قليلًا، قطعة قطعة "(3) .
يقال: أورد فلان الشيء أحضره، واستورد السلعة ونحوها: جلبها من خارج البلد (4) .
التعريف الفقهي:
يمكن أن يستنبط في ضوء العناصر الماضية، ومن خلال الممارسة اليومية للتجار، وإبرامهم لهذا النوع من العقود التجارية تعريف يوضح أهم خصائصه على النحو التالي:
(عقد على عين موصوفة في الذمة بثمن مؤجل معلوم إلى أجل معلوم) .
يتبين من هذا التعريف أن عقد التوريد يشترك مع أنواع البيوع في بعض الشروط وينفرد عنها في أخرى.
أما ما يشترك معها فمن أهمها:
1-
وصف المبيع وصفًا دقيقًا يميزه عما عداه بما يمثل فارق الثمن، وتختلف به الأغراض.
2-
تحديد مكان التسليم، وزمانه، وإجراءاته.
3-
توضيح مقدار كمية المبيع وتسليمه جملة، أو على دفعات وأقساط.
4-
تحديد الثمن، وتعيين وقت الدفع مستقبلًا جملة، أو على أقساط.
5-
قدرة البائع (المورد) على تسليم المبيع حسب الشروط والمواصفات المتفق عليها، وفي الموعد المحدد.
أما التي ينفرد بها فهي:
1-
غياب المبيع عن مجلس العقد، والاكتفاء برؤية متقدمة له، أو نموذج منه، أو وصفه حسبما تقدم سابقًا في الخصائص المشتركة.
2-
تأجيل الثمن كله حتى استلام المبيع كاملًا، أو تقسيطه حسب دفعات تسليم المبيع.
3-
يظل العقد غير لازم حتى يوفي البائع بكافة الصفات المشروطة في المبيع.
(1) معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، كلمة (ورد) : 6/105.
(2)
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، الطبعة الأولى، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، بيروت: دار العلم للملايين، 1376 هـ - 1956 م، (ورد) ، باب الدال، فصل الواو.
(3)
ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، بيروت: دار صادر، (ورد) ، باب الدال، فصل الواو.
(4)
الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مادة (ورد) ، باب الدال، فصل الواو.
إشكالية البحث:
تتمثل إشكالية عقد التوريد في غياب العوضين عن مجلس العقد: المبيع والثمن؛ إذ لا يود بين أنواع البيع الجائزة ما يماثله بينها.
حصر الجائز منها في الفقه الإسلامي وصفًا وعنوانًا كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواس المعروف بابن الهمام بقول: (البيع جائز، وغير جائز ".
" والجائز ثلاثة أنواع: بيع الدين بالعين وهو السلم وبيع العين بالعين وهو المقايضة، وبيع العين بالدين وهو البيع المطلق، وغير الجائز ثلاثة أنواع: باطل وفساد: وهو بيع ما ليس بمال: الخمر، والمدبر، والمعدوم كالسمن في اللبن، وغير مقدور التسليم كالآبق، وموقوف، حصره في الخلاصة في خمسة عشر. . . "(1) .
كما عد في المذهب الحنبلي غياب العوضين عن مجلس العقد من قبيل بيع الدين بالدين. يقول منصور بن إدريس البهوتي: " ولا يصح بيع ما لا يملكه البائع، ولا إذن له فيه، لحديث حكيم بن حزام مرفوعًا (لا تبع ما ليس عندك) رواه ابن ماجة، والترمذي وصححه (إلا موصوفاً) بصفات سلم (لم يعين) فيصح، لقبول ذمته للتصرف (إذا قبض) المبيع (أو) قبض (ثمنه بمجلس العقد) فإن لم يقبض أحدهما فيه لم يصح: لأنه بيع دين بدين، وقد نهى عنه "(2) .
هذه هي إشكالية البحث التي يستعرض لها في القسمين التاليين بالدراسة والتفصيل.
* * *
(1) فتح القدير على الهداية شرح بداية المبتدئ، الطبعة الأولى، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1389 هـ 1970 م: 6 / 400.
(2)
شرح منتهى الإرادات، المدينة المنورة، المكتبة السلفية: 2 / 144.
القسم الثاني
الدراسة الفقهية التحليلية
المبحث الأول: العقد على المبيع الغائب في المذهب الحنفي.
المبحث الثاني: العقد على المبيع الغائب في المذهب المالكي.
المبحث الثالث: العقد على المبيع الغائب في المذهب الحنبلي.
المبحث الرابع: العقد على المبيع الغائب في المذهب الشافعي.
المبحث الأول
العقد على المبيع الغائب على الصفة في المذهب الحنفي
شروطه:
المعتمد من مذهب الحنفية صحة العقد على المبيع الغائب عن مجلس العقد بشرطين:
الأول: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، أو مقدورًا على تسليمه في الموعد المحدد.
وردت العبارة الأولى تفسيرًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه منه؟ قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) . رواه الترمذي رحمه الله، وغيره، وفي رواية النسائي: أبيعه منه ثم ابتاعه له من السوق؟ فقال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (1) .
قال الكمال بن الهمام: " أما النهي عن بيع ما ليس عندك فالمراد منه: ما ليس في الملك اتفاقًا لا ما ليس في حضرتك، ونحن شرطنا في هذا البيع كون المبيع مملوكًا للبائع فقضينا عهدته "(2) .
أما (القدرة على التسليم في الموعد المحدد) فقد وردت عند الإمام بدر الدين العيني في صدر الاحتجاج لصحة العقد على المبيع الغائب بقوله: " وفي نوادر الفقهاء لابن بنت نعيم: أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز بيع الغائب المقدور على تسليمه، وأن لمشتريه خيار الرؤية إذا رآه "(3) .
الثاني: ذكر صفات المبيع التي ترتفع بها الجهالة الفاحشة عنه.
بين هذا بشكل مفصل العلامة عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي بقوله: " (ولابد من معرفة المبيع معرفة نافية للجهالة) ، قطعًا للمنازعة، فإن كان حاضرًا فيكتفي بالمباشرة، لأنها موجبة للتفريق، قاطعة للمنازعة.
وإن كان غائبًا فإن كان مما يعرف بالأنموذج كالكيلي، والوزني، والعددي المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع، إلا أن يختلف فيكون له خيار العيب، فإن كان مما لا يعرف بالأنموذج كالثياب، والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف قطعًا للمنازعة، ويكون له خيار الرؤية " (4) .
بل ذهب بعض المحققين في المذهب إلى الاكتفاء بذكر جنس المبيع، وهو ما جرى تقريره في عبارة العلامة حسن بن عمار الشرنبلاني مبينًا السبب في الاكتفاء بذكر جنس المبيع قائلًا:" إن المبيع المسمى جنسه لا حاجة فيه إلى بيان قدره ولا وصفه، ولو غير مشار إليه، أو إلى مكانه؛ لأن الجهالة المانعة من الصحة تنتفي بثبوت خيار الرؤية؛ لأنه إذا لم يوافقه يرده فلم تكن الجهالة مفضية إلى المنازعة. . . "(5) .
(1) العيني، أبو محمد محمود بن أحمد، البناية في شرح الهداية، الطبعة الأولى، تصحيح الأولى محمد عمر الشهير بناصر الإسلام الرامفوري، بيروت، دار الفكر، عام 1401 هـ 1981 م: 6 / 302.
(2)
فتح القدير، الطبعة الأولى، مصر: مكتبة مصطفى البابي الحلبي: 6 / 336.
(3)
البناية في شرح الهداية: 6 / 302
(4)
الاختيار لتعليل المختار، الطبعة الثالثة، تعليقات محمود أبو دقيقة، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، عام 1395 هـ - 1975 م: 2 / 5.
(5)
ابن عابدين، محمد أمين، رد المختار على الدر المختار، بيروت، دار الكتب العلمية: 4 / 21.
الاستدلال:
استدل الحنفية لصحة العقد على المبيع الغائب بأدلة منها:
أولًا: العمومات المجوزة للبيع مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275](1) .
ثانيًّا: الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شيئًا فلم يره فهو بالخيار إذا رآه)) .
قال الإمام بدر الدين العيني في تخريج الحديث: " الحديث روي مرسلًا ومسندًا، فالمسند أخرجه الدارقطني في سننه. . وأما المرسل فرواه ابن أبي شيبة في مصنفه، والدارقطني رحمه الله، ثم البيهقي في سننهما. . . عن مكحول رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى. . . إلى آخره، وزاد: (إن شاء أخذه، وإن شاء تركه
…
) قلت: أما حديث أبي هريرة فإن أبا حنيفة ومحمدًا رحمهما الله روياه بإسنادهما، ذكره صاحب المبسوط وغيره من أصحابنا، وهم ثقات، وذكر في المبسوط أيضًا: أن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن البصري، وسلمة بن الحسين (2) رحمهم الله رووه مرسلًا، وهو حجة عندنا، والحديث الذي رواه العلماء الكبار رحمهم الله إذا كان في طريق من طرقه منهما لا يترك، مع أن الطعن بهم لا يقبل، وعمل بهذا الحديث كثير من العلماء رحمهم الله مثل مالك وأحمد وغيرهما " (3) .
قال الإمام شمس الدين السرخسي في بيان معنى الحديث: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه)) : الهاء في قوله (لم يره) كناية فينصرف إلى المكني السابق وهو الشيء المشتري، والمراد خيار لا يثبت إلا بعد تقدم الشراء، وذلك الخيار بين فسخ العقد وإلزامه دون خيار الشراء ابتداء، وتصريحه بإثبات هذا الخيار له تنصيص على جواز شرائه
…
) (4) .
(1) القاري، ملا علي، شرح مختصر الوقاية، الطبعة الثانية، قازان: خاريطوف، مطبعة سي، عام 1324: 2 / 3.
(2)
ورد اسمه في المبسوط: سلمة بن المجير، السرخسي، شمس الدين، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة السعادة: 13 / 69.
(3)
البناية في شرح الهداية: 6 / 301 – 302؛ وانظر لتخريجه: القاري، ملا علي، شرح مختصر الوقاية: 2 / 13.
(4)
المبسوط: 13/ 70.
أبان الحنفية أن المقصود من حديث النهي عن الغرر وحديث: ((لا تبع ما ليس عندك)) إنما هو في البيع البات الذي لا مجال للرجوع فيه، أما وأن الخيار حق ثابت للمشتري فليس النهي فيهما واردًا عليه، في قولهم:" فوجب أن يحمل الحديث على البيع البات الذي لا خيار فيه؛ لأنه هو الذي يوجب ضرر المشتري، والنهي قطعًا ليس إلا لذلك، فظهر أن كلًا من الحديثين لم ينف ما أجزناه، فكان نفيه قولًا بلا دليل، وكفانا في إثباته المعنى: وهو أنه مال مقدور التسليم لا ضرر في بيعه على الوجه المذكور فكان جائزًا، ويبقى الحديث الذي ذكره المصنف زيادة في الخبر. . . "(1) .
اعترض على هذا بدعوى الغرر في هذا النوع من البيوع، والاستدلال له بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والغرر مستور العاقبة، وذلك موجود فيما لم يره (2) .
أجاب عنه الحنفية بقولهم: " إن النهي عن بيع الغرر ينصرف إلى ما لا يكون معلوم العين "(3) . كما أن لفظ الحديث يفيد أنه غير المبيع على الصفة، فالغرر " ليس إلا بأن يظهر له ما ليس في الواقع فيبني عليه فيكون مغرورًا بذلك فيظهر له خلافه فيتضرر به، وكيف كان فلا شك بعد القطع، ونحن نقطع بأن النهي عن ذلك لما يلزم الضرر فيه "(4) .
(1) ابن الهمام: فتح القدير: 6 / 336.
(2)
انظر: السرخسي، شمس الدين، المبسوط: 13 / 68.
(3)
السرخسي، شمس الدين، المبسوط: 13 / 70.
(4)
ابن الهمام، الكمال، فتح القدير: 6 / 336.
الآثار الشرعية التي تترتب على صحة العقد على المبيع الغائب عند الحنفية:
يترتب على صحة العقد على المبيع الغائب الموصوف عند الحنفية آثار شرعية عديدة منها:
أولًا – عدم لزوم البيع في جميع الحالات حتى إعلان للمشتري موافقته:
ذلك أن " شرط لزوم البيع بعد انعقاده ونفاذه وصحته أن يكون خاليًّا عن خيارات أربعة: خيار التعيين، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية "(1) ، وهذا الأخير ثابت حكمًا في المبيع الغائب الموصوف فهو مانع تمام الحكم، وهو لزوم الملك (2) .
يوضح العلامة أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي العلة الشرعية لعدم لزوم العقد مع خيار الرؤية قائلًا: " والعقد هنا قبل الرؤية غير لازم لتمكن الخلل في الرضا؛ إذ هو استحسان، واستحسان الشيء مع الجهل بأوصافه لا يتحقق، واللزوم يعتمد الرضا، وتمامه بأوصاف هي مقصودة، وإنما تصير معلومة بالرؤية، فكذا لا يعتبر قوله: رضيت قبل الرؤية؛ لأنه لو لزم العقد بالرضا قبل الرؤية يلزم امتناع الخيار بتقدير الرؤية، والخيار ثابت بتقديرها، فما أدى إلى إبطاله يكون باطلاً. . . "(3)
والمقرر فقهًا أن (العقد الذي ليس بلازم يجوز فسخه " (4) .
(1) الكاساني، علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الطبعة الثانية، بيروت: دار الكتاب العربي، عام 1394 هـ - 1974 م: 5 / 228.
(2)
انظر: الشرنبلاني، حسن بن عمار، غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام، حاشية على كتاب درر الحكام في شرح غرر الأحكام، دار الخلافة: مطبعة أحمد كامل، عام 1330: 2 / 156.
(3)
الكافي على الوافي، مخطوط، مكة المكرمة: مكتبة مكة المكرمة، فقه حنفي رقم (56) ، ورقة (339)
(4)
قدري، عبد القادر يوسف، واقعات المفتين، باكستان: آسيا آباد، مكران، ص 91.
ثانيًّا - خيار الرؤية:
يثبت للمشتري للمبيع الغائب الموصوف خيار الرؤية حكمًا بدون شرط؛ إذا يصبح الخيار لازمًا من لوازم البيع بالصفة، فقد " ثبت حكمًا لا بالشرط، وهو مانع تمام الحكم، وهو لزوم الملك.. . . "(1) .
مقتضى هذا العقد أن يثبت الخيار للمشتري في جميع الحالات سواء أحضر المبيع مطابقًا ومتفقًا مع الصفات المشروطة، أو لم يكن مطابقًا بل هذا أولى بحق الخيار، قال في الهداية:" من اشترى شيئًا لم يره فالبيع جائز وله الخيار: إن شاء أخذه، وإن شاء رده "(2) .
وقال أبو البركات حافظ الدين النسفي رحمه الله: " شراء ما لم يره جائز، وله أن يرده إذا رآه وإن رضي قبله "(3) .
يعلق على هذا شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته قائلًا: " وله الخيار إذا رآه إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء رده، سواء رآه على الصفة التي وصفت له، أو على خلافها. . . "(4) .
يتضح من النصوص السابقة: أن عدم اشتراط المشتري خيار الرؤية في العقد لا يبطل حقه فيه؛ إذ الخيار مقتضى من مقتضيات هذا النوع من العقود يستحقه المشتري تلقائيًّا ولهذا وضع الفقهاء الضوابط التالية لبدء وقت هذا الخيار وانتهائه:
" وقت ثبوت خيار الرؤية عند رؤية المشتري لا قبلها، حتى لو أجاز البيع قبل الرؤية لا يلزم البيع، ولا يسقط الخيار، وهل يملك الفسخ قبل الرؤية؟ لا رواية في هذا ".
واختلف المشايخ فيه: قال بعضهم لا يملك؛ لأنه لا يلمك الإجازة قبل الرؤية فلا يملك الفسخ، لأن الخيار لم يثبت، وبعضهم قال يملك الفسخ لا بسبب الخيار؛ لأنه غير ثابت، ولكنه شراء ما لم يره المشتري غير لازم، والعقد الذي ليس بلازم يجوز فسخه كالعارية والوديعة كذا في التحفة، وذكر في شرح الطحاوي مطلقًا بقوله: ويجوز الرد قبل الرؤية؛ لأن الرد بخيار الرؤية فسخ، وقبل الرؤية أقرب إلى الفسخ (5) .
(1) الشرنبلاني، حسن بن عمار: 2 / 156.
(2)
المرغياني، برهان الدين علي بن أبي بكر، الهداية شرح بداية المبتدي، الطبعة الأخيرة، مصر: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي: 3 / 32.
(3)
الزيلعي، فخر الدين عثمان، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، بيروت: دار المعرفة للطباعة النشر: 4 / 24؛ بهامشه حاشية شهاب الدين الشلبي: 4 / 24.
(4)
المصدر السابق نفسه.
(5)
قدري أفندي، عبد القادر بن يوسف، واقعات المفتين، ص 91.
استدل الحنفية لثبوت خيار الرؤية في هذا النوع من العقود بالأدلة الآتية:
1-
الحديث السابق الذي رواه أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهم مسندًا ومرسلًا من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه)) (نص في الباب فلا يترك بلا معارض)(1) .
أما حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) الذي يبدو أنه معارض للحديث السابق فقد أجاب الحنفية عنه بأن " المراد النهي عن بيع ما ليس في ملكه بدليل قصة الحديث فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الرجل يطلب مني سلعة لست عندي فأبيعها منه، ثم أدخل السوق فأستجيدها، فأشتريها، فأسلمها إليه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، وقد أجمعنا على أنه لو باع عينًا مرئيًّا لم يملكه ثم ملكه لم يجز وذلك دليل واضح على أن المراد ما ليس في ملكه. . "(2) .
2-
ما روي أن عثمان رضي الله تعالى عنه باع أرضًا له بالبصرة من طلحة بن عبد الله رضي الله عنه فقيل لطلحة: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره، وقيل لعثمان رضي الله عنه: إنك قد غبنت. فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره، فحكمًا جبير بن مطعم فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين (3) .
3-
انتفاء الضرر قطعًا:
إن إعطاء المشتري الخيار وحق الفسخ للعقد لدى عدم مطابقة المبيع للمواصفات المشروطة في العقد يحميه من لحوق أي ضرر يلحق به بسبب غياب المبيع عن مجلس العقد. يقول الكمال بن الهمام رحمه الله: " ونقطع أن لا ضرر فيما أجزنا من ذلك، إنما يلزم الضرر لو لم يثبت له الخيار إذا رآه، فأما إذا أوجبنا له الخيار إذا رآه فلا ضرر فيه أصلًا، بل فيه محض مصلحة. . "(4) .
(1) البابرتي، أكمل الدين محمد بن محمود، العناية على الهداية، بهامش فتح القدير، الطبعة الأولى، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1989 – 1970 م: 6 / 336.
(2)
البابري، أكمل الدين محمد، العناية على الهداية: 6 / 236.
(3)
ملا خسرو، محمد بن فراموز، درر الحكام في شرح غرر الأحكام، دار الخلافة: مطبعة أحمد كامل، عام 1330 هـ: 2 / 156.
(4)
فتح القدير: 6 / 336.
4-
ثبوت مصلحة محققة:
إن في إجازة المبيع الغائب والحكم بصحته مصلحة محققة للمكلفين ذلك هو: " إدراك حاجة كل من البائع والمشتري؛ فإنه لو كان له به حاجة وهو غائب وأوقفت جواز البيع على حضوره ورؤيته ربما تفوت بأن يذهب فيساومه فيه آخر رآه فيشتريه منه، فكان في شرع هذا البيع على الوجه الذي ذكرناه من إثبات الخيار عند رؤيته محض مصلحة لكل من العاقدين من غير لحوق شيء من الضرر فأنى يتناوله النهي عن بيع الغرر، والأحكام لم تشرع إلا لمصالح العباد قطعًا فكان مشروعًا قطعًا "(1) .
5-
انتفاء الجهالة الفاحشة وما ينتج عنها من شقاق:
" إن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي إلى المنازعة مع وجود الخيار، فإنه إذا لم يوافقه رده، ولا نزاع ثمة يقتضي خياره، وإنما أفضت إليها لو قلنا بإبرام العقد، ولم يقل به، فصار ذلك كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه بأن اشترى ثوبًا مشارًا إليه غير معلوم عدد ذرعانه فإنه يجوز لكونه معلوم العين، وإن كان ثمة جهالة لكونها لا تفضي إلى المنازعة "(2)
يؤكد هذا الرأي العلامة العيني بقوله: " وإنما يفضي إلى المنازعة لو قلنا بانبرام العقد ولم نقل به، (فصار كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه) بأن اشترى ثوبًا مشارًا إليه غير معلوم عدد ذرعانه، يجوز لكونه معلوم العين وإن لم يكن ثمة جهالة لا تفضي إلى النزاع (3) .
(1) ابن الهمام، فتح القدير: 6 / 336.
(2)
البابرتي، أكمل الدين محمد، شرح العناية، على الهداية، بهامش فتح القدير: 6 / 336.
(3)
البناية في شرح الهداية: 6 / 302.
انتهاء خيار الرؤية:
الصحيح أن خيار الرؤية ليست نهايته محدودة بزمان، إنما تثبت النهاية ويصبح العقد لازمًا إذا صرح المشتري بموافقته على المبيع، أو بدا منه ما يدل على ذلك، قال العلامة محمد علاء الدين الحصكفي رحمه الله:" (ويثبت الخيار) للرؤية (مطلقًا غير مؤقت) بمدة، وهو الأصح * عناية * لإطلاق النص ما لم يوجد مبطله، وهو مبطل خيار الشرط مطلقًا، ومفيد الرضا بعد الرؤية لا قبلها * درر * "(1) .
يقول العلامة فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي رحمه الله: " والصحيح أنه مطلق غير مقيد بالزمان فيكون له الفسخ في جميع عمره ما لم يسقط بالقول، أو بفعل يدل على الرضا به، نص عليه ابن رستم، وكذا ذكره محمد في الأصل؛ لأن النص ورد بإثبات الخيار مطلقًا "(2) .
ثالثا – تأجيل الثمن:
تمام عقد البيع في المبيع الغائب متوقف على رؤية المشتري التي يكون بها تمامه وإذا لم يتم البيع شرعًا فلا يحق للبائع مطالبة المشتري بالثمن، ذلك أن " البيع عقد معاوضة، والمساواة في المعاوضات مطلوبة المتعاوضين عادة. . . فإن كان المبيع غائبًا عن حضرتهما فللمشتري أن يمتنع عن التسليم حتى يحضر المبيع، لأن تقديم تسليم الثمن لتحقق المساواة، وإذا كان المبيع غائبًا لا تتحقق المساواة بالتقديم. . . "(3) .
(1) شرح الدر المختار، مصر: مطبعة صبيح وأولاده: 2 / 52.
(2)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4 / 25.
(3)
الكاساني، علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 5/ 237.
كما ذكر هذا صريحًا العلامة محمد علاء الدين الحصكفي في العبارة التالية: " شرى شيئًا لم يره ليس للبائع مطالبته بالثمن قبل الرؤية ". (1) .
قال ابن عابدين رحمه الله تعليلًا له بقوله: " لعدم تمام العقد قبلها "(2) .
أصبح هذا مقررًا عند فقهاء الحنفية ومسلمًا به.
ذكر شهاب الدين أحمد شلبي قوله: " وليس للبائع أن يطالب المشتري بالثمن ما لم يسقط خيار الرؤية منه "(3) .
على هذا انعقدت فتاوى الحنفية؛ جاء في الفتاوى الكبرى: " من اشترى شيئًا لم يره جاز، وله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء رده، وإن رضي قبله، يعني لو قال: رضيت ثم رآه، له أن يرده فليس له أن يطالبه بالثمن قبل الرؤية "(4) .
(1) شرح الدر المختار، مصر: مطبعة صبيح وأولاده: 2 / 54.
(2)
رد المحتار على الدر المختار: 4 / 70.
(3)
حاشية علي تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4 / 24.
(4)
الصدر الشهيد، حسام الدين عمر بن عبد العزيز، مخطوط، مكة المكرمة، مكتبة مكة المكرمة، حنفي رقم (25) ، ورقة (54) .
المبحث الثاني
العقد على المبيع الغائب على الصفة في المذهب المالكي
أقسام المبيع من حيث الحضور:
يقسم المالكية المبيعات من حيث حضورها في مجلس العقد وعدمه إلى ثلاثة أنواع: " عين حاضرة مرئية، وعين غائبة عن المتعاقدين، والنوع الثالث: هو السلم في الذمة ".
وفيما يتصل بالنوع الثاني: العين الغائبة عن المتعاقدين يجيز المالكية بيعها بالصفة التي تنبئ عن ذاتها، وأخص صفاتها بما ينفي الجهالة عنه، ويحول دون حدوث نزاع بين المتبايعين.
" فيجوز بيعها بالصفة، ويجب أن تحصر بالصفات المقصودة التي تختلف الأثمان باختلافها، وتقل الرغبة وتكثر لأجلها، ولا يكتفي بذكر الجنس والنوع فقط. . . "(1) .
كما يذهب المالكية أيضًا إلى صحة المبيع الغائب ولو بلا وصف إذا تم العقد بشرط الخيار للمشتري.
قرر هذه الحقائق الفقهية العلامة الفقيه الشيخ خليل بن إسحاق في المعتمد من المذهب وأيده الشارحون له في العبارات التالية حيث يعدد الحالات التي يجوز فيها بيع الغائب في قوله: " وبقاء الصفة إن شك، وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية، أو على يوم، أو وصفه غير بائعة إن لم يبعد كخراسان من إفريقية، ولم تمكن رؤيته بلا مشقة. . . "(2)
يقول أبو عبد الله محمد بن محمد الحطاب تعليقًا على هذه الجملة " (وغائب ولو بلا وصف على خيار الرؤية) ش: يعني أنه يجوز بيع الغائب ولو بلا وصف لكن بشرط أن يجعل للمشتري الخيار إذا رآه، وأما إذا انعقد البيع على الإلزام، أو سكتا عن شرط الخيار فالبيع فاسد، نقله ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح، ويفهم هذا من قول المصنف (على خياره) .
وأشار بـ (لو) إلى القول الثاني: إن الغائب لا يباع إلا على الصفة، أو رؤية متقدمة، قال في المقدمات: وهو الصحيح " (3) .
هذا ما أثبته سيدي عبد الباقي الزرقاني بقوله: " (و) جاز بيع (غائب ولو بلا وصف) لنوعه أو جنسه. . . وقيد جواز بيع غير الموصوف بما إذا بيع (علي) شرط (خياره) أي خيار المشتري، لا الخيار المبوب له فلا يشترط، (بالرؤية) للمبيع ليخف غرره، لا على اللزوم، أو السكوت فيفسد "(4) .
(1) البغدادي، القاضي عبد الوهاب، التلقين في الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى، المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1413 هـ 1993م، ص 106.
(2)
متن خليل على هامشه جواهر الإكليل لصالح عبد السميع الآبي الأزهري، مصر: دار إحياء الكتب العربية: 2 / 9 –10.
(3)
مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء سيدي خليل، الطبعة الأولى، مصر، مطبعة السعادة، عام 1329: 4 / 296.
(4)
شرح الزرقاني على مختصر خليل، بيروت، دار الفكر، عام 1398 هـ ـ - 1978 م: 5 / 38.
إذا تحقق الضبط لصفات المبيع الغائب بما تقدم انتفى عنه الغرر، يقول أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد رحمه الله:" وبيع السلعة الغائبة على الصفة خارج مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر في مذهب مالك وجميع أصحابه "(1) .
ويصح في المرجوح من مذهب المالكية العقد على المبيع الغائب بلا وصف إذا اشترط المشتري الخيار.
الاستدلال:
استدل المالكية على صحة العقد على المبيع الغائب على الصفة بدليلين عام وخاص:
الأول – الدليل العام:
إن الشريعة الإسلامية المطهرة أثبتت أحكامًا كثيرة في عقود عديدة مختلفة اعتمدت فيها الوصف للغائب، ونزلته منزلة المحسوس، وأثبتت له أحكامه ليس في البيع فقط بل فيما هو أهم منه، ذلك لأن الأوصاف الدقيقة المميزة للشيء عن غيره تقوم مقام رؤية الموصوف، من هذه الأدلة:(الحديث الذي رواه الإمام البخاري، وأبو داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنعت المرأة للزوج حتى كأنه ينظر إليها)) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم فشبه صلى الله عليه وسلم المبالغة في الصفة بالنظر.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] .
وجه الدليل من هذه الآية أن اليهود كانوا يجدون في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، فكانوا يحدثون بذلك، ويستفتحون به على الذين كفروا. . . {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} وهم لم يعرفون إلا بصفته التي وجدوها في التوراة، دل ذلك على أن المعرفة بالصفة معرفة يعين الشيء الموصوف.
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الواقع في الكتاب: ((لا ينظرون إليها، ولا يخبرون عنها)) دليل بين على أن الخبر عنها بمنزلة النظر إليها " (2) .
(1) المقدمات الممهدات، الطبعة الأولى، تحقيق سعيد أحمد أعراب، وعبد الله الأنصاري، بيروت، دار الغرب الإسلامي، عام 1408 هـ - 1988 م: 2 / 76.
(2)
ابن رشد، المقدمات الممهدات: 2 / 77- 78.
الثاني – الاستدلال الخاص للمبيع الغائب على الصفة:
استدل الملكية لهذا النوع من البيع بالأدلة الآتية:
1-
من القرآن الكريم:
عموم الحكم في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] إذا الحل هنا يشمل البيع الحاضر عن رؤية والمبيع الغائب بالصفة دون تفرقة بينهما.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، والحكم بالإباحة للتجارة عام مشروط بالتراضي بين العاقدين دون تخصيص بكونها موجودة، أو غائبة.
2 -
من السنة النبوية الشريفة:
القياس على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه)) (1) فإذا جاز بيع الحب في أكمامه وهو غير مرئي على صفة ما فرك عنه إن كان حاضرًا جاز أن يشتري منه إذا كان غائبًا على صفة، إذ لا فرق إذا غاب المبيع بين أن يبيعه على الصفة، أو على مثال يريه إياه (2) .
ثالثاُ – من المعقول:
قدم القاضي عبد الوهاب البغدادي أدلة عديدة من المعقول استدلالًا على صحة المبيع الغائب على الصفة تنتظم الفقرات التالية:
أ- إذا جاز أن يسلم الرجل إلى الرجل في ثوب أو عبد على صفة، ولم يكن ذلك غررًا صح أن تقوم الصفة مقام الرؤية في غيره عند تعذرها، ونفي الغرر بها، إذ لا فرق بين الموضعين.
ب- إن بيع الغائب على الصفة معلوم للمتبايعين مقدور على تسليمه غالبًا فصح بيعه كالمرئي.
ج- البيع بالصفة أحد حالات العين فجاز بيعها معها كحال المشاهدة.
د- لو كانت الرؤية شرطًا في بيوع الأعيان لم يجز ألا يوجد في المقصود من المبيع، وأن يشترط فيما ليس بمقصود منه كالصفة في السلم.
ويوضح القاضي عبد الوهاب المقصود من هذا الاستدلال قائلًا: " ثبت أن بيع الجوز واللوز في قشرهما جائز وإن اشترى المقصود بالبيع على الرؤية فدل على أنها ليست شرطًا فيه، ولأن ما كان شرطًا في صحة عقد وجب مقارنته له، ولا يكتفي برؤيته له إذا لم يوجد في ذلك معنى العقد على التسليم، فلما اتفقا على جواز بيع العين الغائبة إذا تقدمتها الرؤية دل على أنه ليست بشرط فيه، ولأنه عقد معاوضة فلم يبطله عدم رؤية المعقود عليه كالنكاح "(3) .
(1) ورد معنى هذا الحديث بلفظ آخر في سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن من العاهة، نهي البائع والمشتري "، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، تعليق محيي الدين عبد الحميد، مصر: دار إحياء السنة النبوية: 3 / 252؛ وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يزهو، والحب حتى يفرك، وعن الثمار حتى تطعم "، باب النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها الساعاتي، أحمد عبد الرحمن البنا، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة الإخوان المسلمين، عام 1370: 14 / 43.
(2)
ابن رشد، المقدمات الممهدات: 2 / 78.
(3)
المعونة على مذهب عالم المدينة، تحقيق ودراسة حميش عبد الحق رسالة دكتوراه منسوخة على الآلة عام 1413 هـ -1993 م، مكة المكرمة: جامعة أم القرى: 2 / 734.
الآثار الشرعية المترتبة على صحة العقد على المبيع الغائب بالصفة عند المالكية:
يترتب على صحة العقد على المبيع الغائب الموصوف عند المالكية آثار عديدة منها:
أولًا لزوم البيع، أو عدم لزومه:
يصبح العقد المذكور لازما إذا وفى البائع بكافة الصفات المشروطة في المبيع، ولا يحق للمشتري الفسخ في هذه الحالة؛ حيث لم يحدث من البائع تخلف في المطلوب منه.
ويقع العقد غير لازم للمشتري إذا لم تتوافر في المبيع الصفات المشروطة في المبيع، وحينئذ فمن حقه فسخ العقد.
يقول أبو القاسم عبيد الله بن الحسين بن الجلاب البصري: " ولا بأس ببيع الأعيان الغائبة على الصفة، فإن وافقت الصفة لزم البيع فيها (ولم يكن للمشتري خيار الرؤية) (1) . وهذا هو المذهب، حكاه العلامة الحطاب قائلًا: " فرع: فإن وجد الغائب على الصفة المشترطة بموافقة المشتري أو شهدت بذلك بينة لزوم البيع وإلا فلا " (2) .
يشترط المالكية شرطين ليكون العقد لازمًا في المبيع الغائب على الصفة هما:
1-
إن لا يؤدي بعده المكاني إلى تغير صفاته، أو تعريضه للهلاك.
2-
أن تحصل رؤيته بشدة ومشقة كما ورد النص بهما في العبارة التالية:
" وشرط ما بيع غائبًا على اللزوم بوصف أمران: أشار إلى الأول بقوله (إن لم يبعد) جدًا بحيث يعلم، أو يظن أن المبيع يدرك على ما وصف، فإن بعد جدًا (كخراسان من إفريقية) من كل ما ظهر فيه التغير قبل إدراكه لم يجز، ويجري هذا الشرط أيضًا فيما بيع على رؤية سابقة، ومفهوم قولنا (على اللزوم) أن ما بيع على الخيار لا يشترط فيه ذلك، وهو كذلك.
وإلى الثاني بقوله: (ولم تمكن رؤيته بلا مشقة) بأن أمكنت بمشقة، فإن أمكنت بدونها بأن كان على أقل من يوم فلا يجوز بالوصف، لأن العدول عن الرؤية إلى الوصف غرر ومخاطرة، فهو شرط في الغائب المبيع على الصفة باللزوم فقط. . . " (3) .
(1) التفريع، الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق حسين بن سالم الدهماني، بيروت، دار الغرب الإسلامي: 2 / 170.
(2)
مواهب الجليل شرح مختصر أبي الضياء خليل: 4 / 297.
(3)
الدردير، سيد أحمد، الشرح الكبير علي خليل، بيروت: دار الفكر: 3 / 27.
ولا شك أن شرط المالكية (عدم البعد جدًا) في المبيع الغائب الموصوف له أسبابه الوجيهة ومبرراته المعقولة في الماضي حيث الاعتماد في النقل والترحال على الدواب في البر، أو البواخر الشراعية في البحر تمضي الأيام الطويلة أو الشهور العديدة لقطع المسافات البعيدة جدًا، سلامتها غير مأمونة ولا مضمونة، والتمثيل في البعد بين خراسان وإفريقية واضح في المعنى المقصود، إذ مثل هذا البعد يؤدي في الغالب إلى تغير المبيع على غير ما وصف، وهذا وارد ومتوقع.
أما في الوقت الحاضر مع اختراع المواد الحافظة ووسائل الحفظ المتنوعة، وتوافر النقل السريع التي تطوي المسافات البعيدة جدًا في سويعات ما كان يطوي منها في شهور يبقى من الشرط الأول علته، وهو (إدراك المبيع على ما وصف) بصرف النظر عن البعد المكاني والزماني.
وليكون العقد على المبيع الغائب الموصوف لازمًا أن تكون مشقة وصعوبة في رؤيته، وهو ما يبرر العقد عليه بالوصف، وهو شرط معقول في لزوم العقد، حيث لا مجال لفسخ العقد.
أما إذا كان البيع مشروطًا بالخيار للمشتري فلا يشترط فيه شيء من ذلك.
ثانيًّا – خيار النقيصة (الخيار الحكمي) :
هو " ما كان موجبه ظهور عيب في المبيع أو استحقاق فهو خيار النقيصة، ويسمى الخيار الحكمي "(1) .
يعرفه فقهاء المالكية بأنه: " ما ثبت بسبب نقص يخالف ما التزم البائع شرطًا أو عرفًا، في زمان ضمانه "(2)، وهو قسمان:
أحدهما: " ما ثبت بفوات أمر مظنون نشأ الظن فيه من التزام شرط، أو قضاء عرفي، أو تغرير فعلي.
ثانيهما: ما ثبت عن غبن " (3)
يثبت هذا النوع من الخيار شرعًا للمشتري وفق عقد البيع على المبيع الغائب بالصفة، من دون شرط من قبل، بل يقتضيه العقد حكمًا إذا تبين له أن المبيع مخالف للشروط والصفات المطلوبة " فالمشتري بالخيار في إجازة البيع، أو رده "(4) .
يقرر القاضي عبد الوهاب البغدادي هذا الحكم بأنه مقتضى العقد في النص التالي:
" والخيار يثبت في البيع بأمرين:
أحدهما: بمقتضى العقد، والآخر بالشرط، فالأول ضربان: أحدهما: أن يخرج المبيع على خلاف ما دخل عليه، وذلك بأن يخالف ما شرطه من الصفة، أو بأن يوجد به عيب.
والآخر: مختلف فيه، وهو أن تكون في مغبانة خارجة عن حد ما يتغابن الناس بمثله، فقيل: إن البيع لازم ولا خيار، وقيل: للمغبون الخيار إذا دخل على بيع الناس المعتاد.
(1) الحطاب، مواهب الجليل: 4 / 409.
(2)
الحطاب، مواهب الجليل: 4 /427؛ انظر: الرصاع، أبو عبد الله محمد الأنصاري، شرح حدود ابن عرفة الهداية الكافية الشافية، الطبعة الأولى، تحقيق محمد أبو الأجفان والطاهر المعموري، بيروت، دار الغرب الإسلامي، عام 1993 م: 1 / 368.
(3)
المواق، أبو عبد الله سيدي محمد بن يوسف، التاج والإكليل لمختصر خليل بهامش الحطاب، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة السعادة، عام 1328: 4 /427.
(4)
ابن الجلاب، التفريع: 2 / 170.
فأما خيار الشرط فلا يثبت بمقتضى العقد، وإنما يثبت بالشرط.. . . " (1) .
وللمشتري حسبما تقرر فقهًا أن يمارس حقه في القبول، أو الرد كما هو المعتمد في المذهب في النص التالي:
" (ورد) المبيع. . . أي ثبت الخيار في رده (بعدم) وجود وصف (مشروط) ذلك الوصف للمبتاع، وله (فيه غرض) كان فيه مالية. . .، أو لا مالية ". ((2)
ثالثًا: تأجيل الثمن:
يعد المالكية تأجيل الثمن في (الخيار) واحد من خمسة أمور لا يجوز فيه النقد عاجلًا بل لابد من تأجيله حتى استلام المبيع والتأكد من سلامته، وقد جرى النص على البيع بالخيار في العبارة التالية:
" ولا يجوز النقد في الخيار "(3) .
في أثناء شرح هذه العبارة يعد العلامة الفقيه أحمد بن محمد البرنسي المعروف بزروق هذه الأمور الخمسة بقوله: " يعني أن من شرط الخيار أن لا يشترط فيه النقد، وكذلك المواصفة (4) ، وعهدة الثلاث (5) ، وزاد بعد هذا بيع الغائب على الصفة، والأرض غير المأمونة قبل أن تروي، فهي إذا خمس لا يجوز فيها النقد بشرط.. . . ".
حكى العلامة الفقيه قاسم بن ناجي رحمه الله الاتفاق على هذا الحكم قائلًا: " إن شرط النقد فيما ذكر لا يجوز اتفاقًا "(6) .
(1) البغدادي، القاضي عبد الوهاب التلقين، ص 107.
(2)
الزرقاني، شرح الزرقاني على مختصر خليل: 5 / 127.
(3)
ابن أبي زيد القيرواني، الرسالة الفقهية، الطبعة الأولى، تحقيق الهادي حمودة وزميله، بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1406 هـ ـ 1986 م، ص 214.
(4)
المواصفة: " جعل الأمة على يد أمين إلى أن تظهر براءة رحمتها فيبرم بيعها "، زروق، شرح الرسالة، بيروت: دار الفكر: 2 / 118.
(5)
عهدة الثلاثة: " الرجوع بكل ما يحدث في الرقيق من العيوب في ثلاثة أيام بعد عقد البيع "، زروق، شرح الرسالة: 2 / 118.
(6)
شرح الرسالة بهامش شرح زروق، بيروت: دار الفكر: 2 / 118.
أما إن دفعه المشتري تطوعًا من عنده فلا بأس به، قال العلامة قاسم بن ناجي رحمه الله:" ظاهر كلام الشيخ أن التطوع بالنقد جائز، وهو كذلك "(1) .
ورد التصريح بجملة هذه الأحكام في كتب المذهب المعتمدة.
قال العلامة الزرقاني في شرحه على خليل: " (و) فسد بيع الخيار (بشرط نقد) لثمنه، وإن لم يحصل بالفعل على المعتمد لتردده مع حصوله بشرط بين السلفية والثمنية، ولكون الغالب مع شرطه حصوله، فنزل الغالب – وإن لم ينقد فيه حتى مضى زمن الخيار – منزلة الموجود المحقق، وظاهر المصنف الفساد ولو أسقط الشرط، وهو كذلك. . . "(2) .
هذا موضع اتفاق بينهم، تواترت بهذا نصوص المتقدمين والمتأخرين من هذا ما ذكره أبو عبد الله محمد بن أبي زيد القيرواني بقوله:" ولا بأس ببيع الشيء الغائب على الصفة، ولا ينقد فيه بشرط إلا أن يقرب مكانه، أو يكون مما يؤمن تغيره من دار، أو أرض، أو شجر فيجوز النقد فيه "(3) .
يستشهد المالكية لصحة هذا الحكم بما ورد في المدونة في مواطن عديدة بعناوين متعددة منها:
" في اشتراء سلعة غائبة، أو وصفت له فيريد أن ينقد فيها، أو يبيعها من صاحبها قبل أن يستوفيها، أو من غيره ".
جاء التمثيل والتوضيح للموضوع الأول في هذا العنوان بقوله: " قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة، أو حيوانًا قد رأيت ذلك قبل أن أشتريه، أو اشتريت ذلك على صفة وهم في موضع بعيد مثل المدينة من مصر، أو برقة من مصر أو من إفريقية أيصلح لي فيه النقد في قول مالك؟ قال: لا "(4) .
يعلل المالكية عدم جواز نقد الثمن في مثل هذا العقد لما يتوقع من تغير المبيع، أو هلاكه بسبب غيبته وبعده.
(1) المصدر السابق: 2 / 134.
(2)
شرح الزرقاني على متن سيدي خليل، 5 / 114.
(3)
الرسالة الفقهية، ص 216
(4)
الإمام مالك بن أنس، المدونة الكبرى رواية سحنون عن ابن القاسم، الطبعة الأولى، بيروت: دار الفكر، عام 1398 هـ - 1978 م: 3 / 259.
وهذا بدوره يؤثر تأثيرًا مباشرًا على لزوم العقد وتمامه، ذلك أن العقد في هذه الفترة (فترة الخيار) يظل مترددًا بين أن يكون العقد عقد بيع في حالة سلامة المبيع، وتوافر الصفات المشروطة فيه، أو سلفًا إذا تبين عدمها، ولا يعلم هذا إلا عند حضور المبيع، كل هذه الاحتمالات والتوقعات تجعل نقد الثمن من عدم معرفة واقع المبيع من سلامة وعدمها نوعًا من الغرر، وهو ممنوع منهي عنه شرعًا، نصوا على هذه العلة والأحكام في العبارة التالية:
" ولم يجز النقد فيه [بعيد الغيبة] لغلبة الغرر فيه من تغيير، أو هلاك فيصير النقد فيه تارة ثمنًا، وتارة سلفًا وكذلك النقد فيما بيع على خيار، أو مواضعة إلا أن يتطوع، فالنقد بعد العقد في ذلك كله يجوز. . . "(1) .
يستثنى المالكية مما تقدم إذا كان المبيع الغائب عقارًا فإنهم يجيزون دفع النقد بشرط، ويكون البيع لازمًا إذا بيع جزافًا، وأن يكون وصف المبيع من غير بائعه، وأما إذا بيع مزارعة لم يجز النقد فيه إذا كان البائع هو الواصف له، وأما إن كان غيره فالنقد جائز، معللين لهذا الاستثناء بعدم سرعة تغير العقار، أما عن الشرط الثاني، ففي الموازية والعتبية:" لا يجوز أن يباع الشيء بوصف بائعه؛ لأنه لا يوثق بوصفه؛ إذ قد يقصد الزيادة في الصفة لإنفاق سلعته، جرى النص على هذا في المعتمد من المذهب بقولهم: وجاز النقد 0 مع الشرط في العقار المبيع على اللزوم بوصف غير البائع، وإن بعد؛ لأنه مأمون لا يسرع إليه التغير بخلاف غيره، وأما بوصف البائع فلا يجوز النقد فيه ولو تطوعًا لتردده بين السلفية والثمن، ولابد من ذكر ذرع الدار في وصفها فقط دون وصف غيرها من الأرض البيضاء.. . . "(2) .
ثالثًا – الضمان:
خص المالكية العقار الغائب المباع على الصفة بأحكام تختلف عما سواه، ذلك أن العقار لا يخاف سرعة تغيره مما يجعل العقد فيه لازمًا منذ إبرامه، فمن ثم يدخل في ضمان المشتري حال تمام العقد إذا عرفت سلامته وقت عقد الصفقة.
أما غير العقار فهو من ضمان البائع حتى يتسلمه المشتري خاليًّا من النقص والعيوب، ولا يكون من ضمانه إلا إذا شرطه البائع عليه أثناء العقد، نص على هذا العلامة خليل بن إسحاق وأقره عليه علماء المذهب كما جاء في شرح الزرقاني بقوله:" (وضمنه) أي العقار المبيع غائبًا جزافًا، وأدركته الصفقة سليمًا (المشتري) أي دخل في ضمانه بمجرد العقد، بيع بشرط النقد أم لا، سواء اشترط الضمان على البائع أم لا، كما هو ظاهر الموازية. . . (وضمنه) غير العقار بيع بشرط النقد أم لا (بائع إلا لشرط) من بائع غير العقار أن ضمانه على المشتري فلا يضمنه البائع. . . "(3) .
(1) المواق، التاج والإكليل لمختصر خليل: 4 / 299.
(2)
الزرقاني، شرح الزرقاني على مختصر خليل: 5 / 39؛ وانظر: لبعض التفاصيل في العقار: الحطاب، مواهب الجليل: 4 / 299؛ الدردير؛ سيد أحمد، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: 3 / 27 – 28.
(3)
الزرقاني، شرح على مختصر سيدي خليل: 5 / 40.
المبحث الثالث
العقد على المبيع الغائب على الصفة في المذهب الحنبلي
يذهب الحنابلة إلى جواز العقد على المبيع الغائب على الصفة، ويقسمونه إلى نوعين:
الأول: مبيع معين موجود ولكنه غائب عن مجلس العقد قريبًا، أو بعيدًا. يمثل لهذا ببضائع التجار المودعة في مستودعاتهم ومخازنهم المحلية، أو الخارجية، أو لدى وكالاتهم في البلاد الخارجية، يبيعون أصنافًا معينة من البضائع، أو المصنوعات لماركات مخصوصة معلومة.
الثاني: بيع موصوف غير معين: يصفه البائع بصفاته المميزة عن صنفه ونوعه بما يمثل اختلاف الأسعار بذكر جنسه ونوعه، وبلده، ومستوى جودته، وقدره وزنًا، أو كيلًا، أو عددا، وبعبارة فقهية مختصرة " بصفة تضبط ما يصح السلم فيه "(1) .
يشترط لصحة العقد على هذا النوع من البيع الشروط التالية:
1-
أن يكون " (فيما يمكن ضبط صفاته) ؛ لأن ما لا تنضبط صفاته يختلف كثيرًا فيفضي إلى المنازعة، والمطلوب عدمها. . . من المكيل والموزون. . . "(2) ، أما المعدود المختلف فيصح فيما يأتي ضبطه (3) ، هذا هو المعبر عنه فقهًا في الجملة الشرطية " إن صح السلم فيه "(4) .
(1) البهوتي، كشاف القناع، راجعه وعلق عليه هلال مصيلحي مصطفى هلال، الرياض: مكتبة النصر الحديثة: 3 / 63.
(2)
البهوتي، كشاف القناع: 3 / 291.
(3)
المصدر السابق نفسه.
(4)
البهوتي، كشاف القناع: 3 / 164.
2-
أن تحصل معرفة المبيع للمشتري برؤية متقدمة، ويتم القبض في فترة يؤمن تغيره فيها، والمهم هو قدرة البائع على إحضاره سالمًا وقت حلول العقد دون اعتبار لبعد المسافة، أو قربها، وكذلك الزمن، نظرًا لاختلاف طبيعة المبيعات والسلع، نص على هذا الشرط في العبارة التالية:
" (و) يحصل العلم بمعرفة المبيع (برؤية متقدمة) على العقد (بزمن لا يتغير فيه المبيع يقينًا، أو) لا يتغير فيها ظاهًرا، لأن شرط الصحة العلم، وقد حصل بطريقة، وهي الرؤية المتقدمة، والمبيع منه ما يسرع فساده كالفاكهة وما يتوسط كالحيوان، وما يتباعد كالعقارات، فيعتبر كل نوع بحسبه، ولو (مع غيبة المبيع، ولو في مكان بعيد لا يقدر) البائع (على تسليمه في الحال، ولكن يقدر على استحضاره....) "(1) .
3-
أن يبرم العقد في هذا النوع على أنه بيع، وليس سلفًا أو سلما، كما نص عليه في المذهب ضمن الشروط السابقة في العبارة التالية:
" ويشترط أيضًا أن لا يكون بلفظ سلم أو سلف "(2) .
جرى النص على صحة هذا البيع وأنواعه في العبارة التالية:
" (ويصح) البيع (بصفة) تضبط ما يصح السلم فيه؛ لأنها تقوم مقام الرؤية في تمييزه (وهو) أي البيع بالصفة (نوعان: أحدهما بيع عين معينة، سواء كانت العين المعينة غائبة مثل أن يقول: بعتك عبدي التركي، ويذكر صفاته) التي تضبط. . . (أو) كانت العين المبيعة بالصفة (حاضرة مستورة، كجارية منتقبة، وأمتعة في ظروفها. . . والنوع الثاني) من نوعي البيع بالصفة: (بيع موصوف غير معين، ويصفه بصفة تكفي في السلم، إن صح السلم فيه) بأن انضبطت صفاته (مثل أن يقول: بعتك عبدًا تركيًّا ثم يستقصى صفات السلم فيه
…
) " (3) .
(1) المصدر السابق نفسه
(2)
المصدر السابق نفسه
(3)
البهوتي كشف القناع:3/164 -165
الآثار الشرعية المترتبة على صحة العقد على المبيع الغائب على الصفة عند الحنابلة:
يترتب على هذا التفصيل في التفصيل في التقسيم عند الحنابلة آثار فقهية متفقة بين النوعين السابقين حينا ومختلفة حينا آخر وفيما يلي عرض مفصل لها حسب الترتيب التالي:
أولا ينعقد البيع لازما وغير لازم:
ينعقد البيع لازما إذا وفى البائع بالصفات المطلوبة في المبيع لأنه وجده وفق الصفات المشروطة فلا يحق له الفسخ " ولأنه مبيع موصوف فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم"(1) .
ويكون غير لازم إذا لم يستوف المبيع الصفات المطلوبة.
احتج للزوم العقد لدى مطابقة المبيع للصفات المشروطة بما يأتي:
" أنه سلم له [للمشتري] المعقود عليه بصفاته فلم يكن له الخيار كالمسلم فيه ولأنه مبيع موصوف فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم ".
يذكر موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة في الرد على القائلين بالخيار بكل حال وأنه يسمى بيع خيار الرؤية كالإمامين الثوري وأبي حنيفة قائلا: " وقولهم إنه يسمى بيع خيار الرؤية لا نعرف صحته فإن ثبت فيحتمل أن يسميه من يرى ثبوت الخيار ولا يحتج به على غيره فأما إن وجده بخلاف الصفة فله الخيار ويسمى خيار الخلف في الصفة لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة فلم يلزمه كالسلم "(2) .
(1) ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد، المغنى، الطبعة الثالثة، علق على بعض الهوامش السيد محمد رشيد رضا، مصر: دار المنار، عام 1368: 3 / 582.
(2)
المغنى: 3 / 582.
ثانيًّا – الضمان:
يعد المبيع الغائب على الصفة من ضمان البائع في كلا النوعين كما ورد النص بهذا: " والمبيع بصفة " معينا كان أو في الذمة (أو برؤية سابقة) بزمن يتغير فيه المبيع غالبا (من ضمان البائع حتى يقبضه مشتر) ، لأنه تعلق به حق توفية، أِشبه المبيع بكيل، أو نحوه.. . . وإن تلف المكيل ونحوه) أي الموزون، والمعدود، والمذروع المبيع بالكيل ونحوه، (أو) تلف (بعضه بآفة) أي عاهة (سماوية) لا صنع لآدمي فيها (قبل قبضه) أي قبل قبض المشتري له (فـ) هو (من مال بائع) ، لأنه صلى الله عليه وسلم (نهي عن ربح ما لم يضمن) ، والمراد ربح ما بيع قبل القبض، قال في المبدع: لكن إن عرض البائع المبيع على المشتري فامتنع من قبضه، ثم تلف كان من ضمان المشتري
…
(وينفسخ العقد فيما تلف) بآفة سماوية مما بيع بكيل، أو نحوه قبل قبضه سواء كان التالف الكل، أو البعض، لأنه من ضمان بائعه، (ويخير مشتر) إذا تلف بعضه وبقى بعضه (في الباقي بين أخذه بقسطه من الثمن وبين رده وأخذ الثمن كله لتفريق الصفة...." (1) .
ثالثا – التصرف في المبيع الغائب الموصوف قبل القبض:
المبيع الغائب على الصفة في كلا النوعين من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري لا يصح للمشتري التصرف فيه قبل قبضه، وهو المنصوص عليه في العبارة التالية:
" ولا يجوز للمشتري التصرف فيه، أي فيما بيع بصفة أو رؤية سابقة (قبل قبضه) ظاهره ولو بعتق، أو جعله مهرا ونحوه.... (ولو غير مكيل ونحوه) من موزون ومعدود ومذروع
…
" (2) .
(1) البهوتي، كشاف القناع: 3/242-243.
(2)
المصدر السابق: 3/242.
الثاني – الآثار الفقهية المختلفة بين نوعي المبيع الغائب على الصفة: من هذه الآثار:
أولا – دفع الثمن مؤجلا:
يختلف حكم دفع الثمن بين النوعين السابقين، إذا يجوز تأجيله إلى حين قبض المبيع في النوع الأول (المبيع الغائب المعين الموصوف) .
يقول العلامة شرف الدين موسى الحجاوي فيما يخص هذا النوع: " ويجوز التفريق قبل قبض الثمن، وقبل قبض المبيع كحاضر "(1) .
أما بالنسبة للنوع الثاني (المبيع الموصوف وغير المعين) فإنه يجب دفع الثمن قبل مغادرة المجلس، ذلك لأن الحنابلة عدوا هذا النوع في معنى السلم. قال شرف الدين موسى الحجاوي فيما يخص هذا النوع من أحكام: " ويشترط في هذا النوع قبض المبيع، أو قبض ثمنه في مجلس العقد
…
" (2) ، ويعلل لهذا بقوله: " لأنه في معنى السلم " (3) .
واختار القاضي أبو يعلى الحنبلي من المتقدمين جواز التفرق من مجلس العقد قبل قبض المبيع، والثمن دون تفرقه بين النوعين.
قال في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد: " فعلى المذهب لا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبل قبض المبيع، أو قبض ثمنه على الصحيح من المذهب، وقدمه في المغني، والشرح، والرعاية الكبرى، وجزم به في الوجيز، وقال القاضي: يجوز، وهو ظاهر ما جزم به في المستوعب في باب السلم...."(4) .
(1) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، تصحيح وتعليق عبد اللطيف محمد موسى السبكي، مصر: المطبعة الأميرية: 2/65.
(2)
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: 2/65.
(3)
كشاف القناع: 3/164.
(4)
المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد، الطبعة الأولى ، صححه وحققه محمد حامد الفقي. مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1375هـ - 1956م: 4/300.
ثانيا – موجبات العيب والنقص والتلف في نوعي البيع على الصفة:
إذا ظهر في (البيع المعين الموصوف) حاضرا كان أو غائبا عيب، أو نقص، أو تلف قبل قبض المشتري فللمشتري أخذ قسط ما نقص من الثمن في العيب والنقص، وقيمته في حالة التلف، وليس له طلب بدل عنه، لأن العقد كان على عين معينة، ولا يصح الانتقال بالعقد إلى غيره، فإذا لم يرض بذلك فليس أمامه إلا فسخ العقد.
قال في كشاف القناع: " وإن وقع العقد على معين رد البائع قسط ما نقص من الثمن.."(1) .
وقال بالنسبة لحالة اختيار رد المبيع في هذا النوع وما يترتب عليه من أحكام: " فهذا " النوع (بيع عين معينة) ينفسخ العقد عليه برده على البائع بنحو عيب أو نقص صفة، وليس للمشتري طلب بدله لوقوع العقد على عينة كحاضر، فإن شرط ذلك في عقد البيع بأن قال: إن فاتك شيء من هذه الصفات أعطيتك ما هذه صفاته لم يصح العقد، قال في المستوعب، وينفسخ العقد عليه أيضا بـ (تلفه قبل قبضه) لزوال محل العقد. . . " (2) .
في حين تختلف الأحكام الفقهية تماما بالنسبة للنوع الثاني الموصوف غير المعين: فإن وجده المشتري متغيرا عما رآه، أو على غير ما وصف له فله الفسخ على التراخي، ويسمى هذا الخيار (خيار الخلف في الصفة) ، لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة.
قال في كشاف القناع: " وإن وجد (المبيع الموصوف غير المعين) متغيرا فله الفسخ على التراخي، كخيار العيب، وكذا لو وجد بالصفة ناقصا صفة (ويسمى) هذا الخيار (خيار الخلف في الصفة) .. . . إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضا بالمبيع. . . (وإن زاد) كثيرا (أو نقص كثيرا مما لا يتغابن بمثله) عادة (فالزيادة للبائع، والنقصان عليه) أي على البائع، فإن كان المبيع قفيزا من صبرة مثلا تممه البائع منها...."(3) .
ولما كان المقصود من هذا النوع (المبيع الموصوف غير المعين) هو الصفات التي يتحراها المشتري في المبيع دون تحديد عين معينة جاز استبدال آخر عنه من جنسه تتوافر فيه الصفات المطلوبة دون أن يؤثر هذا على صحة العقد، أو يوجب فسخ العقد، ورد النص على هذا في العبارة التالية:
" (فمتى سلم) البائع (إليه عبدا على غير ما وصفه، فرده) المشتري عليه (أو) سلم إليه عبدا على ما وصف له فأبدله المشتري لنحو عيب (لم يفسد العقد) برده، لأن العقد لم يقع على عينه، بخلاف النوع الأول "(4) .
(1) البهوتي: 3/242.
(2)
المصدر السابق: 3/163.
(3)
البهوتي، منصور إدريس: 3/242.
(4)
البهوتي، كشاف القناع: 3/164.
المبحث الرابع
العقد على المبيع الغائب على الصفة في المذهب الشافعي
المفهوم صراحة من كلام الإمام الشافعي في كتابه (الأم) جواز العقد على المبيع الغائب الموصوف من تأجيل الثمن، وذلك في بابين:
الأول في بيع العروض، ذكر فيه المسائل التالية:
" ولو أنه اشتراه على صفة مضمونة إلى أجل معلوم فجاءه بالصفة لزمت المشتري أحب، أو كره، وذلك أن شراءه ليس بعين، ولو وجد تلك الصفة في يد البائع فأراد أن يأخذها كان للبائع أن يمنعه إياها إذا أعطاه صفة غيرها، وهذا فرق بين شراء الأعيان والصفات.
الأعيان لا يجوز أن يحول الشراء منها في غيرها إلا أن يرضى المبتاع، والصفات يجوز أن تحول صفة في غيرها إذا أوفي أدنى صفة.
ويجوز النقد في الشيء الغائب، وفي الشيء الحاضر بالخيار، وليس هذا من بيع وسلف بسبيل. ولا بأس أن يشتري الشيء الغالب بدين إلى أجل معلوم، والأجل من يوم تقع الصفقة.
وفي (باب في بيع الغائب إلى أجل) ذكر الآتي: " ولا بأس بشراء الدار حاضرة وغائبة ونقد ثمنها ومذارعة وغير مذارعة (قال) ولا بأس بالنقد في بيع الخيار "(1) .
يتبين من المسائل السابقة المدونة في كتاب الأم وهو يمثل القول الجديد للإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
أولا: إجازته للعقد على المبيع الغائب الموصوف.
ثانيا: إثبات خيار الرؤية للمشتري إذا لم يأت على الصفات المشروطة في العقد.
ثالثا: دفع القيمة مؤجلة لدى تسليم المبيع.
رابعا: إن تعبيره في بعض تلك المسائل (ولا بأس بالنقد في بيع الخيار) يدل مفهوما أن الأصل عدم النقد في المبيع الغائب المؤجل. الأمر الذي يجعله يتفق عموما مع المذاهب الثلاثة السابقة.
(1) الأم: الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهري النجار، مصر: مكتبة الكليات الأزهرية 3/40.
لكن الذي تقرر في المذهب الشافعي في هذه المسألة هو القول القديم، وأصبح الرأي في المذهب كالآتي:
1-
بيع العين الغائبة غير الموصوفة باطل.
2-
بيع العين الغائبة الموصوفة بذكر جنسها ونوعها على قولين: الجواز، وعدم الجواز هو الأظهر، وعليه المذهب.
هذا ما حكاه الإمام الماوردي بعد الاستدلال على بطلان المبيع الغائب بقوله: " فإذا ثبت أن العين الغائبة باطل إذا لم توصف ففي جواز بيعها إذا وصفت قولان:
أحدهما: يجوز، نص عليه في ستة كتب: في القديم، والإملاء، والصلح، والصداق، والصرف، والمزارعة، وبه قال جمهور أصحابنا.
والقول الثاني: أنه لا يجوز، وهو أظهرهما نص عليه في ستة كتب: في الرسالة، والسنن، والإجارة، والغصب، والاستبراء، والصرف في باب العروض، وبه قال حماد بن أبي سليمان، والحكم بن عتبة، وهو اختيار المزني، والربيع، والبويطي " (1) .
(1) الحاوي، كتاب البيوع، دراسة وتحقيق محمد مفضل مصلح الدين، رسالة دكتوراه منسوخة على الآلة، مكة المكرمة: جامعة أم القرى، عام 1408هـ -1988م: 1/129.
الاستدلال:
ذكر الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماوردي أدلة المذهب الشافعي لبطلان العقد على المبيع الغائب غير الموصوف تفصيلا، تم تنسيقها في الفقرات التالية:
أولا: الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)) . وحقيقة الغرر: ما تردد بين جائزين أخوفهما أغلبهما.
وبيع خيار الرؤية غرر من وجهين:
أحدهما: أنه لا يعلم هل المبيع سالم، أو هالك؟
الثاني: أنه لا يعلم هل يصل إليه، أم لا يصل؟.
ثانيا: ما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع غائب يناجز "، ولم يفصل بين صرف وغيره فهو على عمومه.
ثالثا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الملامسة، والملامسة: بيع الثوب المطوي، فإذا نهى عن الملامسة لجهله بالمبيع وإن كان ثوبا حاضرا كان بطلانه أولى إذا كان غائبا.
رابعا: أن بيع الصفة إذا علق بالعين بطل، كذلك بيع العين إذا علق بالصفة بطل، وتحريره قياسا: أنه بيع عين بصفة موجب أن يكون باطلا كالسلم في الأعيان.
خامسا: أن الاعتماد في السلم على الصفة، والاعتماد في الأعيان على الرؤية، لأن السلم يصير معلوما بالصفة، كما أن العين تصير معلومة بالرؤية، فلما تقرر أن السلم إذا لم يوصف حتى يصير المسلم فيه معلوما بطل العقد، وجب إذا لم تر العين حتى تصير معلومة بالرؤية يبطل العقد، إذ الإخلال بالرؤية في المرئيات كالإخلال بالصفة في الموصوفات.
وتحرير ذلك قياسا: أن جهل المشتري بصفات المبيع تمنع صحة العقد كالسلم إذا لم يوصف، ولأنه مبيع مجهول الصفة عند المتعاقدين فوجب أن يكون باطلا كقوله بعتك ثوبا، أو عبدا.
سادسا: لأنه بيع عين لم ير شيئا منها، فوجب أن لا يصح كالسمك في الماء، والطير في الهواء.
سابعا: ولأنه خيار ممتد بعد المجلس غير موضوع لاستدراك الغبن، فوجب أن يمنع صحة العقد أصلا إذا اشترط خيارا مطلقا (1) .
(1) الحاوي، كتاب البيوع: 1/122- 125
القول المعتمد في المذهب:
وفي مجال الترجيح بين الأقوال، وتنقيح المعتمد في المذهب بالنسبة للمبيع الغائب على الصفة ذهب المتأخرون من الشافعية إلى أن: الأصح والمعتمد مذهبا عدم صحة بيع المبيع الغائب مطلقا موصوفا وغير موصوف.
هذا ما نص عليه في المنهاج، واتفق عليه شارحاه العلامة الفقيه شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي وشمس الدين الرملي.
قال ابن حجر الهيتمي: " (والأظهر أنه لا يصح بيع الغائب) الثمن، أو المثمن بأن لم يره أحد العاقدين، وإن كان حاضرا في مجلس البيع، وبالغا في وصفه، أو سمعه بطريق التواتر....
(والثاني) وبه قال الأئمة الثلاثة (يصح) البيع إن ذكر جنسه، وإن لم يرياه، (ويثبت الخيار) للمشتري، وكذا البائع على خلاف فيه (عند الرؤية) لحديث فيه ضعيف، بل قال الدارقطني باطل...." (1) .
يتفق معه في هذا العلامة شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي جملة وتفصيلا (2) ، وكلاهما يكتفي لصحة هذا القول اشتراط التعريف والتوصيف بالجنس.
يضيف العلامة جلال الدين المحلي جواز ذكر الجنس أو النوع لإباحة المبيع الغائب وفق القول الثاني، ويثبت الخيار للمشتري على الرغم من توافر الصفات المطلوبة فيقول:" (والأظهر أنه لا يصح بيع الغائب) وهو ما لم يره المتعاقدان، أو أحدهما، (والثاني يصح) اعتمادا على الوصف بذكر جنسه، ونوعه (3) . كأن يقول: بعتك عبدي التركي، وفرسي العربي، ولا يفتقر بعد ذلك إلى ذكر صفات أخر، نعم لو كان له عبدان من نوع فلابد من زيادة يقع بها التمييز كالتعرض للسن، أو غيره، (ويثبت الخيار) للمشتري (عند الرؤية) وإن وجده كما وصف.. . . "(4) .
ويعتمد الخطيب الشربيني القول بصحة العقد على خلاف الأظهر في المذهب " إذا وصف بذكر جنسه ونوعه اعتمادا على الوصف فيقول: بعتك عبدي التركي، أو فرسي العربي. . . "(5) .
* * *
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر: 4/263.
(2)
انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده: 3/415.
(3)
هذا هو المثبت في النسخة المطبوعة. ذكر العلامة أبو الضياء علي بن علي الشبراملسي: أن الواو هنا بمعنى (أو) ، حاشية على نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مصر: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي: 3/416
(4)
شرح جلال الدين محمد بن أحمد المحلي علي منهاج الطالبين، الطبعة الرابعة، بيروت، دار الفكر: 2 / 164.
(5)
الشربيني، محمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام 1398 هـ - 1978 م: 2 / 18.
القسم الثالث
المقتضي والمانع وتمام الاستدلال في عقد التوريد
المبحث الأول
المقتضي
من أسباب الإباحة الشرعية وجود (المقتضي) لها. عقد التوريد في صيغته السليمة التي تتفق مع قواعد الشريعة ومقاصدها يحقق مصالح متعددة لأطراف متعددين: للبائع، والمشتري، والمجتمع كلًا، تمثل مجموعة:(المقتضي) للإباحة، واحدًا من أسبابها، وفيما يلي بيان ذلك:
1-
بالنسبة للبائع: يهدف البائع من إبرام عقد التوريد إلى أمور ضرورية من أهمها:
أ- التأكد والاطمئنان من تسويق السلعة التي يتاجر فيها، أو ينتجها، يتفادى بذلك كساد السوق، وبوار السلعة.
ب- ضمان تشغيل الأيدي العاملة فيما يمتهنه من تجارة أو صناعة دون عجز أو تقصير في دفع الأجور.
ج- القدرة على الاستمرار بمعدل ومستوى معين دون انخفاض في التجارة إن كانت تجارة، والنتاج إن كانت صناعة، أو زراعة.
2-
بالنسبة للمشتري: يتمكن المشتري عن طريق (عقد التوريد) إلى تحقيق الأغراض والأهداف التالية:
أ- حصوله على السلعة التي يريدها في الموعد المحدد مستقبلًا دون تأخير.
وقد أصبح هذا مهمًا جدًا في العقود والمعاملات للوفاء بالالتزامات مع الأفراد، وهو مهم أيضًا بالنسبة لهؤلاء عندما يمثلون طرف (المشتري) بأشخاصهم أو شخصياتهم المعنوية الاعتبارية لتنفيذ مشروع خاص، أو تأمين احتياج معين.
الحاجة إلى عقد التوريد ليست خاصة بأمة دون أمة بل أصبح حاجة الأمم والشعوب في كافة أقطار الدنيا مهما كان مستواها الحضاري والاجتماعي متقدمة أو متخلفة، الإسلامية وغير الإسلامية على مختلف الديانات والمذاهب، فقيرة، أو غنية، ولهذا الأمر تقديره عند فقهاء الإسلام في تكييف الحكم ومناسبته.
يقول إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني: ". . . المرعى في حق الآحاد حقيقة الضرورة، وقد ذكرنا أنه لا يراعى فيما يعم الكافة الضرورة، بل يكتفي بحاجة عامة "(1) .
وما قرره إمام الحرمين هنا هو التوجه الذي أخذ به جمهور الفقهاء أعربوا عنه بصياغته في قواعد محكمة تنير للفقيه طريق الاجتهاد وفيما سبيله كذلك، منها قولهم:" الحاجة إذا عمت كانت كالضرورة "(2) .
وقولهم: " الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت، أو خاصة "(3) ، " وفي المنع مما يحتاج إليه الناس ضرر أعظم مما لو كان تخلله شيء من المخاطر، فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما، بل قاعدة الشريعة ضد ذلك وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما "(4) .
وضح الدكتور منذر قحف مدى الحاجة إلى عقد التوريد في عالمنا المعاصر بصورة تفصيلية، وأهميته للنواحي الاقتصادية والصناعية، والاجتماعية، وأثره على تنمية الحياة وتطوير مرافقها في كافة المجالات العملية النتاجية للمصنوعات التي تكتظ بها مستودعات التجار قائلًا: " تقوم الحياة الاقتصادية في جميع المجتمعات على الترتيب، والتحضير المسبقين لعمليات الإنتاج، ينطبق ذلك على الصناعة والتجارة، والنقل، والزراعة، والتعليم، وسائر الأنشطة، وإن تفاوتت الدرجات.
(1) الغياثي، غياث الأمم في التياث الظلم، الطبعة الأولى، تحقيق ودراسة عبد العظيم الديب، قطر: الشؤون الدينية، عام 1400 هـ، ص 485.
(2)
السيوطي، جلال الدين، الأشباه والنظائر، ضبط وتعليق الشيخ علي مالكي، مصر: مطبعة مصطفى محمد، ص 79؛ ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم، الأشباه والنظائر، مصر: مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، عام 1387 – 1968 م، ص 91.
(3)
المصدر السابق نفسه.
(4)
ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، إعلام الموقعين، الطبعة الأولى، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر: مطبعة السعادة: 2 / 7.
فالصناعات الاستخراجية تستخرج من الأرض الأتربة والصخور والسوائل الحاملة للمعادن، وتقوم بفصل المعدن منها عن الشوائب لتقوم ببيعه لأصحاب الصناعات الأخرى، وهي في عملها هذا تحتاج إلى آلات ومواد كثيرة إضافة إلى الأيدي العاملة.
وهي تقوم بعملياتها الإنتاجية حسب برنامج عمل، لابد له من تنسيق وتوافق بحيث تصلها الآلة، أو السلعة في الوقت المناسب، من أجل ذلك لابد لها من إجراء عقود توريد مع منتجي، أو بائعي الآلات والمواد، التي تحتاجها حتى تطمئن إلى وصولها في الوقت المناسب. وكذلك لابد لها من التعاقد المسبق مع اليد العاملة التي تحتاج إليها بحيث تبدأ عملها في الوقت المطلوب تمامًا. يضاف إلى ذلك أن ظروف السوق من منافسة ورغبة في ضغط للنفقات، ومفاهيم الربحية والسعي لها والكفاءة في الإنتاج، والظروف المادية للنقل والتخزين، كل ذلك يستدعي الارتباط بعقود توريد تتعلق بإنتاجها، بحيث يكون لديها برنامج تسليم للمنتوج معروف لديها مسبقًا، ومن جهة أخرى فإن هذه الحاجات؛ بل الضرورات التي تضطر الصانع للارتباط بعقود توريد للأشياء وعقود إجارة مستقبلية للعاملين، لها انعكاسات مالية تتعلق ببرنامج إيراداتها المالية ومصروفاته، وتقتضي مبادئ الكفاءة وتعظيم الربحية أن يعمد الصانع إلى ترتيب مصروفاته مع إيراداته بحيث يدفع نفقاته من الإيرادات دون تعطيل أو تجميد للمال، ودون الحاجة إلى اللجوء إلى التمويل الخارجي إلا إذا كان أقل كلفة من التمويل الذاتي، والصانع عندما يلجأ للتمويل يفاضل بين مصادره وأدواته ويختار الأقل كلفة فيما بينها. فحاجات الصناعات الاستخراجية لعقود التوريد ولعقود الإجارة المستقبلية هي حاجات حقيقية من دون تلبيتها لا تستطيع الصناعة أن تعمل بكفاءة، وبالتالي تخرجها المنافسة من السوق، أي أنها تخسر أموالها، فضلًا عن أن في العمل دون مستوى الكفاءة الأعلى خسارة للأفراد وللمجتمع وإضاعة لموارده النادرة.
وهذه الحاجات ليست حاجات تمويلية، بل هي حاجات مادية مباشرة تقوم عليها الصناعة الاستخراجية.
ومثل الصناعة الاستخراجية الصناعات الوسيطة التي تنتج مواد وآلات تستعمل في صناعات أخرى، وكذلك الصناعات التحويلية بكل أنواعها. كل ذلك يضطر إلى الدخول في عقود توريد للحصول على الآلات والمواد الداخلة في الإنتاج ولتسويق المنتجات التي تقوم بصناعتها.
والزراعة أيضًا قد وصلت إليها الثورة الصناعية وصيغ العلاقات الاقتصادية الجديدة التي نشأت عنها. فصارت تقوم على الآلات والمدخلات الزراعية الكثيرة والوقود. وكل ذلك يحتاج إلى عقود توريد تحدد مواعيد استلامها ودخولها في عملية الإنتاج. وكذلك فإن الزراعة المعاصرة صارت تحتاج إلى التعاقد على بيع محاصيلها على طريقة عقد التوريد، لأنه لابد في الزراعة أيضًا من تخطيط للمبيعات حتى يتمكن الزارع من تحقيق الكفاءة في استخدام أمواله وموجوداته ويعظم ربحه.
ومثل الصناعة والزراعة سائر القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، فالتعليم يحتاج إلى المباني والأجهزة والمخابر، كما يحتاج إلى التعاقد مع المعلمين والموظفين كل ذلك يقوم على عقود التوريد بالنسبة للسلع والمواد والإجارة المستقبلية بالنسبة لليد العاملة. والمستشفيات والخدمات الصحية مثل ذلك، ومثلها أيضًا قطاع النقل والمواصلات والاتصالات والفنادق، حتى الإدارة الحكومية نفسها تحتاج إلى حاجات كثيرة أساسية إلى عقود التوريد بعد دخول الآلة والمواد المصنوعة في الإدارة الحكومية إلى حدود بعيدة. هذا إلى جانب المشاريع الإنمائية والإنشائية التي هي أكثر اعتمادًا في العادة على عقود التوريد (1) .
* * *
(1) عقد التوريد، دراسة اقتصادية مقدمة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، ص 10 – 13.
المبحث الثاني
انتفاء المانع
من القواعد الأصولية للإباحة (انتفاء المانع) ؛ إذ لا يكفي (وجود المقتضي) بل لابد من انتفاء المانع، وهو كل ما يتعارض مع القواعد الشرعية، ومقاصدها.
والمانع في عقود المعاملات ضروب متعددة، وأنواع مختلفة بحسب أركان العقد، منها ما يرجع إلى العاقدين، ومنها ما يرجع إلى العوضين، ومنها ما يرجع إلى صفة العقد، ومنها ما يرجع إلى الحال التي وقع عليها العقد. فإذا افترضنا سلامة العقد وتمامه وفق الأحكام الشرعية المطلوبة في العاقدين، والعوضين والحال التي وقع عليها العقد، والمقصود منه أن لا يكون بيع نجش، أو بيع الإنسان على بيع أخيه، أو تلقى السلع قبل ورود الأسواق، أو بيع الحاضر للباد، أو البيع يوم الجمعة بعد النداء ممن يلزمهما، أو أحدهما الجمعة، فالاحتمال الكبير أن يكون المانع من إباحة عقد التوريد هو من جهة ما يرجع إلى صفة العقد، وهذا ضروب وأنواع أتى بتفصيلها وتحليلها القاضي عبد الوهاب البغدادي رحمه الله بقوله:
" وما يرجع إلى صفة العقد ضروب منها: الربا ووجوهه، ومنها الغرر وأبوابه، ومنها المزابنة والبيع والسلف، وغير ذلك. . . "(1) .
إذا افترض خلو (عقد التوريد 9 من الربا بأقسامه فالاحتمال الأكبر هو وجود الغرر وأبوابه، وهو ما قد يتذرع به من لا يرى إباحة هذا العقد حسب الصيغة التي نزل عليها وكيف بها وهو: البيع على الصفة بشروطه. حينئذ لابد من تحديد المقصود من الغرر، وهو " ما يجمع ثلاثة أوصاف: أحدها، تعذر التسليم، والثاني: الجهل، والثالث: الخطر والقمار.... . .
فأما ما يرجع على تعذر التسليم فكالآبق، والضالة، والمغصوب، والطير في الهواء، والسمك في الماء، وبيع الأجنة، واستثنائها، وحبل الحبلة، وهو نتاج ما تنتج الناقة، والمضامين وهي ما في ظهر الفحول.
(1) التلقين الطبعة الأولى، المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1413 هـ- 1993 م، ص 106.
وأما ما يرجع إلى الجهل فيتنوع؛ فمنه الجهل بجنس المبيع كقوله: بعتك في كمي (أو في يدي) ، أو ما في صندوقي، ومنه ما يرجع إلى الجهل بصفاته كقوله: بعتك ثوبًا في بيتي، أو فرسًا في اصطبلي، ومنه الجهل بالثمن في جنسه أو مقدراه أو أجله، مثل أن يقول بعتك بما يخرج به سعر اليوم، أو بما يبيع به فلان متاعه، أو بما يحكم به زيد. ومنه البيعتان في بيعة وهو قوله: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدًا، أو بخمسة عشر إلى أجل، على أنه قد وجب بأحد الثمنين، ومنه بيع اللحم في جلده، والحنطة في تبنها، ومنه شرط الخيار الممتد والأجل المجهول نحو قدوم زيد، وموت فلان وما أشبه ذلك.
وأما الخطر فبيع ما لا ترجى سلامته كالمريض في السياق، وما لا يدرى أيسلم أو يتلف، ولا ظاهر، ولا أمارة تغلب على الظن معه سلامه كبيع الثمر قبل بدو صلاحها، وأما القمار فكبيع الملامسة وهو أن يلمس الرجل الثوب فيلزمه البيع بلمسه وإن لم يتبينه، وبيع المنابذة، وهو أن ينبذ أحدهما ثوبه إلى الآخر فيلزمه الآخر ثوبه إليه فيجب البيع بذلك. ومنه بيع الحصاة، وصفته أن تكون بيده حصاة فيقول: إذا سقطت من يدي فقد وجب البيع، وقيل: تكون ثياب عدة فيقول: على أيها سقطت الحصاة فقد وجب. ومن المزابنة – وقد ذكرناها – فهذه كلها بيوع الجاهلية، وكثير منها يتداخل فيجمعه الجهل وتعذر التسليم كالآبق والشارد، فإن انضم إلى ذلك جهل الثمن الأول الأجل تأكد الغرر لكثرة أسبابه " (1) .
لدى تطبيق هذه القاعدة الفقهية للغرر على عقد التوريد في صيغته الجائزة (البيع على الصفة) من خلال عرض عناصره يتجلى التالي:
1 -
ما يرجع إلى تعذر التسليم:
من ضروريات عقد التوريد اطمئنان المشتري من قدرة البائع على تسليم المبيع في الوقت المحدد، وحرصه على التأكد من ذلك، وأخذ ضمانات قد تكون مالية أحيانًا للوفاء بالعقد كالعربون أو التأمين.
أما البائع في مقابل الضمانات المالية والقانونية التي يضعها المشتري عليه فإنها تملي عليه أن يبرم العقد ويوقعه متأكدا من إنجازه، وتسمح إمكاناته المادية به، وبهذا ينتفي هذا العنصر منه، يبلغ الأمر أحيانًا بالمشتري في العقود التجارية الحديثة أن يضع شرطًا جزائيًّا وغرامة مالية في حالة تخلف البائع (المستورد) عن التسليم في الموعد المحدد.
(1) البغدادي، القاضي عبد الوهاب، التلقين، ص 112 – 113؛ انظر تعريف الغرر عند الحنفية، ص 360 من هذا البحث.
2-
ما يرجع إلى الجهل بجنس المبيع، أو صفته، أو الجهل بالثمن في جنسه ومقداره، او شرط الخيار الممتد والأجل المجهول:
مثل هذا لا يجري في عقود التوريد بحال، بل كان من المتعاقدين حريص أن يحدد مسؤولية الآخر وبيان جنس المبيع، وموعد استلامه، وكذلك المشتري حريص كل الحرص أن يبين جنس المبيع وصفته ومقداره وموعد استلامه دون تأجيل، أو مماطلة من البائع، فمن ثم يضع للتحقق من تنفيذ كل ذلك شروطًا جزائية، وعقوبات مالية مرهقة في غالب الأحيان (1)
3-
الخطر ببيع مالا ترجى سلامته:
إن التاجر في الوقت الحاضر بائعًا أو مشتريًّا، مصدرًا، أو موردًا لا يقدم على إبرام عقد التوريد أو غيره ما لم يكن متأكدا من سلامة وصول البضاعة، وتأمين تسليمها إلى أصحابها.
يعطي التجار في بلاد العالم الاعتبار الأول والأهم لضمان وصول بضائعهم سليمة إلى أيدي المشترين، بل أضحى من غير الممكن في الوقت الحاضر أن يتم عقد توريد من دون تأمين يضمن سلامة وصول السلع إلى أصحابها.
أصبح أمن التجارة الدولية والمحلية وسلامة انتقالها من بلد إلى آخر هاجس الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية، وعنصرًا مهمًا فيها، أسست من أجلها شركات التأمين ، وجندت الدول لحمايتها إمكاناتها المادية والبشرية، ووضعت لها الأنظمة والقوانين في السلم والحرب.
وفي جميع الظروف والحالات يتحرى التاجر في عقد التوريد وغيره اتخاذ كافة الإجراءات لسلامة وصول السلعة إلى صاحبها قدر الجهد والإمكان كما هو الواقع المشاهد في العقود، وسير التجارة في معظم أجزاء العالم.
بانتفاء عناصر الغرر السابقة ينتفي مانع إباحة عقد التوريد، ولو فرضنا – جدلًا – وجود غرر يسير فإنه مما يتسامح فيه، ولا يؤثر على صحة العقد، ولو قيل بغير ذلك لأصاب الأمة حرج ومشقة تنأى عنه الشريعة السمحة.
تأكيدًا لما سبق من وجود المقتضى وانتفاء المانع في عقد التوريد وتأييدًا لصحته يقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: " والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها الحاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية. . . فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب، أو فعل محرم لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد "(2) .
(1) انظر لمعرفة الشرط الجزائي: أبو سليمان، عبد الوهاب، فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، الطبعة الأولى، جدة: البنك الإسلامي للتنمية، معهد البحوث والتدريب، عام 1414 هـ - 1994 م، ص 142.
(2)
القواعد النورانية، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1370هـ- 1951م، ص 133 – 143.
المبحث الثالث
تمام الاستدلال
تمام الاستدلال لأحكام النوازل والواقعات والعقود الجديدة يقتضي سلامتها وخلوها من معارضة نص صريح، أو قاعدة شرعية ثابتة، أو مقصد من مقاصد الشريعة.
إذا سلم الاستدلال لإباحة عقد التوريد في الصيغة والصور المقبولة شرعًا فتمامه خلوه من معارضة نص صريح.
والذي يبدو ظاهرًا أن القول بصحة عقد التوريد وإباحته تعارض مع نصين صريحين قررا مبدأين ثابتين في الشريعة الإسلامية:
أحدهما: أنه يتضمن بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعًا في حديث رواه ابن عمر ورافع بن خديج رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) ، وفي رواية ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وقال: ((هو النسيئة بالنسيئة)) ، قال الحاكم، حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "(1) .
وعقد التوريد في صيغته وصوره يتضمن ظاهرًا بيع الدين بالدين: البائع يبيع سلعته بثمن مؤجل، يمثل دائنية الثمن في ذمة المشتري، والمشتري يشتري السلعة لا يدفع الثمن، يمثل دائنية المبيع في ذمة البائع، كلاهما مدين ودائن للآخر باعتبارات مختلفة.
ثانيهما: بيع المعدوم الذي ورد النهي عنه في حديث الصحابي الجليل حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي " رواه الترمذي في رواية له (2)، ولأبي داود والنسائي: " قال: قلت يا رسول الله: يأتيني الرجل فيريد مني البيع وليس عندي، فأبتاع له من السوق؟ قال:((لا تبع ما ليس عندك)) (3) .
(1) الزيلعي، جمال الدين أبو محمد عبد الله، نصب الراية لأحاديث الهداية، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة دار المأمون، عام 1357 هـ 1938 م: 4 / 39 – 40.
(2)
جامع الترمذي مع عارضة الأحوذي، الطبعة الأولى، مصر: المطبعة المصرية الأزهرية، عام 1350 هـ - 1931م، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك: 3 / 541.
(3)
سنن أبي داود، مراجعة وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار إحياء التراث العربي: 3 / 283.
التأمل الدقيق لفقه الحديثين، وتفهم معناهما في ضوء ما كتبه المحدثون الفقهاء سوف يكشف الحقيقة، ويميط اللثام عن العلاقة بينهما وبين عقد التوريد إما بالتوافق والانسجام، وإما بالتعارض والتضاد، وهو ما يتبين خلال المناقشة والعرض التاليين:
1-
بالنسبة للحديث الأول الذي يتضمن النهي عن بيع الدين بالدين يجانب عنه:
أ- أن عقد التوريد ليس من قبيل بيع الدين بالدين؛ ذلك أن الدين شغل ذمة أحد المتتابعين للآخر بدين، وليس هذا في عقد التوريد من الدين بشيء، وإنما هو في حدود الاتفاق والوعد لا يتجاوزهما العقد، فمن ثم يظل العقد جائزًا قابلًا للفسخ حتى يتم تسليم المبيع، ومقتضى هذا العقد (عقد التوريد) تأجيل دفع الثمن حتى يتم تسليم البضاعة إلا أن يكون المشتري متطوعًا بتقديمه اختيارًا.
ب- (النهي عن بيع الكالئ بالكالئ) : معناه، كما ذكره المحدث الفقيه علي بن سلطان محمد القاري نقلًا عن النهاية: " وذلك أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض،
…
. . وقيل: هو أن يبيع الرجل دينه على المشتري بدين آخر للمشتري على ثالث. ذكره الطيبي.. . . " (1) .
قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ يعني الدين بالدين ":
" وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع، والكالئ من كلأ الدين كلوءًا فهو كالئ إذا تأخر، وكلأته إذا أنسأته، وقد لا يهمز تخفيفًا، قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه، ولا يجري بينهما تقابض، والحديث دل على تحريم ذلك، وإذا وقع كان باطلا"(2)
اتضح من النصوص السابقة أن هذا الحديث له معنى معين تناقله المحدثون وأقروه، ولا يندرج ضمن معناه (عقد التوريد) ولا يدل عليه منطوقًا ولا مفهومًا حسبما تقدم.
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، قدم له خليل الميس، مكة المكرمة: المكتبة التجارية: 6 / 86.
(2)
سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، مصر: مطبعة الاستقامة، عام 1357 هـ: 3/18.
جـ- كون العوضين غير موجودين أثناء العقد هنا في عقد التوريد لا يصح حمله على الصورة التي ذكرها بعض المحدثين والفقهاء تفسيرًا لمعناه؛ فليس وجود مجرد شبه في جانب معين بين أمرين يقضي بإعطاء حكم أحدهما للآخر، على أن الفقهاء رحمهم الله توسعوا في معناه والتمثيل له تورعًا واحتياطًا، فمن ثم اختلفت آراؤهم في تحديده والتمثيل له.
يقول ابن القيم رحمه الله: " ومن سوى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود، وهذا من أعظم الغلط، والقياس الفاسد الذي ذمه السلف "(1) .
2-
تضمنه لبيع المعدوم المنهي عنه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) .
وموافقة لهذا الحديث نص الفقهاء أنه " لا يصح بيع مال لا يملكه البائع، ولا إذن له فيه لحديث حكيم بن حزام مرفوعًا: لا تبع ما ليس عندك "(2) .
هذا الحديث قيده علماء الحديث وفقهاء الشريعة ببيع الأعيان دون البيع على الصفة والعقد الذي بصدد هذا البحث قد تم تكييفه على البيع على الصفة وفي ضوئه تم تخريجه.
يقتصر هذا البحث على النقل من ثلاثة من المحدثين الفقهاء فيما يخص هذا التقييد في معنى حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
* الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي قائلًا: (قوله: ((لا تبع ما ليس عندك)) يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عنده في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر) (3) .
(1) إعلام الموقعين: 2/ 8.
(2)
البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 2 / 144.
(3)
معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، تحقيق محمد حامد الفقي، مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1368 هـ 1949 م: 5 / 143.
* العلامة المحدث الفقيه ملا على القاري ينقل من شرح السنة للبغوي فيقول: " ((لا تبع ما ليس عندك)) أي شيئًا ليس في ملك حال العقد، في شرح السنة: هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات، فلذا قيل: السلم في شيء موصوف عام الوجود عند المحل المشروط يجوز وإن لم يكن في ملكه حال العقد.. . . "(1) .
* العلامة ابن القيم يقدم تحليلًا موضوعيًّا بقوله: " وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم ابن حزام ((لا تبع ما ليس عندك)) فيحمل على معنيين:
أحدهما: أن يبيع عينًا معينة وليست عنده بل ملك للغير، فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها للمشتري.
والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة، وهذا أشبه فليس عنده حسًا ولا معنى فيكون قد باعه شيئًا لا يدري هل يحصل له أم لا؟ وهذا يتناول أمورًا:
أحدها: بيع عين معينة ليست عنده.
الثاني: السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه.
الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته عادة. . . " (2) .
وقسم في موضع آخر المعدوم إلى ثلاثة أقسام مبينًا القسم الذي يعنيه النهي في الحديث بقوله: " والمعدوم ثلاثة أقسام:
معدوم موصوف في الذمة: فهذا يجوز بيعه اتفاقًا.
والثاني: معدوم تبع للموجود، وإن كان أكثر منه، وهو نوعان: نوع متفق عليه، ونوع مختلف فيه، فالمتفق عليه بيع الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها فاتفق الناس على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاح واحدة منه، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومة وقت العقد، ولكن جاز بيعها تبعًا للموجود، وقد يكون المعدوم متصلًا بالموجود، وقد يكون أعيانًا أخر منفصلة عن الوجود لم تخلق بعد.
والنوع المختلف فيه كبيع المقاثي، والمباطخ إذا طابت فهذا فيه قولان: أنه يجوز بيعها جملة ويأخذها المشتري شيئًا بعد شيء كما جرت به العادة، ويجري مجرى بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، وهذا هو الصحيح من القولين الذي استقر عليه عمل الأمة.. . .
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 6 / 88.
(2)
إعلام الموقعين: 1 / 399.
الثالث: بيع معدوم لا يدري يحصل، أو لا يحصل، فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدومًا بل لكونه غررًا، فمنه صورة النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه، ولا قدرة له على تسليمه، لذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيهًا بالقمار والمخاطرة من غير حاجة إلى هذا العقد، ولا تتوقف مصلحتهما عليه. . . " (1) .
يؤكد ابن القيم رحمه الله أن ". . . ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع لا العدم، ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا، أو معدوماً. . . "(2) .
يتبين من النصوص السابقة أن موضوع النهي في هذا الحديث هو بيع الأعيان، وهو المخصوص به، وأن معناه: أن البائع الذي يختص به هذا النهي بين واحد من أمرين: إما أن لا يقدر على تحصيل السلعة وتسليمها، أو لا يدري إذا كان يستطيع تحصيلها أو لا؟.
كلا المعنيين منتفيان في عقد التوريد؛ لأنه أولًا: من قبيل البيع على الصفة، وثانيًّا: أن البائع يبرم العقد عندما تكون لديه الثقة من الحصول على المبيع في الوقت المحدد.
يؤيد هذا المعنى ويؤكده العلامة أبو الوليد سليمان الباجي حيث يخص النهي الوارد في الحديث بالمبيع المعين ثم يذكر سبب النهي في العبارة التالية:
". . . المبيع على ضربين معين وهو الذي ينطلق عليه اسم المبيع فلا يجوز إلا أن يكون معينًا كالثوب، أو الدابة، أو العبد، أو معينًا بالجملة مثل أن يكون قفيزًا من هذه الصبرة، وأما ما كان في الذمة فاسم السلم أخص به، فإنه يتعلق بالذمة، ولا يجوز أن يكون معينًا، ولا حالاً. . . ويتعلق المنع ببيع ما ليس عنده بالوجهين جميعًا.
(1) زاد المعاد في هدى خير العباد، الطبعة الأولى، تحيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، عام 1399 هـ - 1979 م: 5 / 808- 810.
(2)
إعلام الموقعين: 2 / 9.
وأما البيع فإنه أيضًا ممنوع من تعلقه بما ليس عنده؛ لأننا قد قلنا إنه يجب أن يكون معينًا، ويكون في ملكه، فإن لم يكن في ملكه وكان معينًا لم يصح لما فيه من الغرر؛ لأنه لا يمكنه تخليصه، وإذا لم يقدر على تخليصه لم يمكنه تسليمه، وما لا يمكنه تسليمه لا يصح بيعه، ولذلك لم يجز بيع العبد الآبق، والجمل الشارد، والطائر في الهواء، والسمك في البحر، وغير ذلك مما لا يمكن تسليمه....." (1)
اتجه الإمام الباجي هذا الاتجاه في تخصيص معنى الحديث بالأعيان المعينة في البيع الحال البات وأيده الأستاذ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير بقوله: " وأرى أن عدم جواز بيع ما ليس عند البائع خاص فيما كان فيه البيع حالًا كما يستفاد من قصة الحديث، ولأن هذه هي الحالة التي يتصور فيها النزاع، أما لو تم البيع على أن يسلم البائع المبيع بعد مدة من الزمن فإن هذا ينطبق عليه حكم تأجيل المبيع. . . "(2) .
ثم خلص من هذا إلى النتيجة التالية: " ولهذا فلا ينبغي أن يقال: إن بيع الاستيراد المتعارف عليه عند التجاريين يتناوله النهي عن بيع ما ليس عند البائع؛ لأن بيع الاستيراد مدخول فيه على تأجيل المبيع، وبيع ما ليس عند البائع المنهي عنه مدخول فيه على تسليم المبيع في الحال ". (3)
يتضح من كل ما تقدم: أن عقد التوريد في صيغته المقبولة شرعًا لا يتعارض مع الحديثين السابقين بوجه من الوجوه.
بهذا يتم الاستدلال، ويخلص القول إلى إباحة عقد التوريد إذا لم يخالف الأركان والشروط المعتبرة في عقد البيع؛ إذا هو نوع منه، وفرد من أفراده.
(1) المنتقى شرح موطأ مالك، مصورة عن الطبعة الأولى عام (1332 هـ) بيروت: دار الكتاب العربي: 4 / 286.
(2)
الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة دار نشر الثقافة، عام 1386 هـ - 1967 م، ص 320.
(3)
الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، ص 320.
الخاتمة
كشف البحث في عرضه وتحليلاته السابقة أن عقد التوريد لا يعدو أن يكون نوعًا من أنواع البيع على الصفة في الفقه الإسلامي، إذ يتفق معه في الأهداف والوسائل، في الطريقة بدءًا وتمامًا، من أهم ذلك.
أولًا: الهدف في العقدين تأبيد الملكية في المبيع للمشتري، والثمن للبائع.
ثانيًّا: غياب العوضين (المبيع والثمن) عن مجلس العقد، وتأجيلهما جملة، أو أقساطًا إلى زمن المستقبل.
ثالثا: وصف المبيع وصفًا يحدد جنسه، ونوعه، ويضبط مقداره، ومستوى جودته، وكل ما يحصل به تفاوت السعر.
رابعًا: انتفاء الغرر، وكل ما يلحق الضرر.
بالإضافة إلى الجوانب الأخرى المشتركة مع شروط وأركان عقد البيع، تخلص الدراسة الفقهية التحليلية في البحث إلى أن المذهب المالكي أكثر ملاءمة ومناسبة من بين المذاهب الأخرى لما يتم إنجازه من عقود التوريد في الوقت الحاضر؛ لما اشتمل عليه من مميزات وخصائص فقهية مجتمعة من دون تلفيق لم تتوافر مجتمعة في بقية المذاهب، من الأمثلة على ذلك:
أولًا: عدم لزوم العقد:
المذهب الحنفي يجيز بيع الغائب المجهول الصفة، والمعلوم الصفة على السواء، يعطي للمشتري حق الخيار ولو كان المبيع مطابقًا للمواصفات المشروطة، فله حق الفسخ في جميع الحالات.
فإذا كان البيع على الصفة معلومة، أو مجهولة يحقق مرونة فقهية في العقد يبررها ثبوت الخيار للمشتري، غير أن إعطاء حق الفسخ في جميع الحالات حتى ولو أحضر البائع المبيع، متوافر الصفات المطلوبة المشروطة في العقد يتسبب بلا شك في زعزعة الثقة بين المتبايعين، ويؤثر على العقد وحركة السوق بعدم الاستقرار. فالعقد في مثل هذه الحالة غير لازم في جميع الأحوال حتى يعلن المشتري رضاه، الأمر الذي لا يتفق وطبيعة العقود في المعاملات، بل هو أمر مرفوض في أسواق المال.
في حين أن المالكية، وشاركهم في هذا الحنابلة وفقوًا في سد هذه الثغرة فحكموا بلزوم العقد إذا أحضر البائع المبيع متفقًا ومتطابقًا مع الصفات المشروطة في العقد، لا يحق المشتري الفسخ بحال، وإنما له الخيار فقط حين يفتقد الصفات المطلوبة في المبيع، ومن حقه أيضًا فسخ العقد، أو المطالبة بالبديل، أو أرش النقص.
يحقق هذا المبدأ الفقهي، والقانون الشرعي إنصاف المتعاقدين على حد سواء. يبث الثقة والاطمئنان في نفس البائع من نفاق مبيعاته، كما يدفعه على الحرص على تنفيذ المواصفات المطلوبة في المبيع حتى يضمن لزوم العقد.
كما يحقق هذا المبدأ استقرار الأسواق وإيجاد الثقة بين التجار، وازدهار التجارة.
ثانيًّا: الأصل عند المالكية عدم نقد الثمن في بيع الخيار بعامة، وفي المبيع الغائب على الصفة بخاصة، يصبح العقد فاسدًا باشتراط دفعه، ولا بأس بدفعه من قبل المشتري تطوعًا.
يتفق في هذا الحنفية والمالكية، وموقف المالكية فيه أصرح وأوضح وأكثر بيانًا.
في حين يذهب الحنابلة إلى جواز تأجيل الثمن في حالة واحدة إذا كان المبيع الغائب معينًا موصوفًا، أما إذا كان موصوفًا غير معين فلابد من دفع الثمن، معللين هذا بأنه في معنى السلم.
ثالثًا: لم يقيد المالكية جواز البيع الغائب على الصفة بنوع معين من السلع، كل ما في الأمر أنه لابد من ذكر الصفات المميزة التي تختلف بها الأسعار، يوافقهم في هذا الحنفية.
في حين يخص الحنابلة الجواز بالمبيعات التي يصح السلم فيها وهي:
المكيلات، والموزونات، والمعدودات التي لا تختلف آحادها.
إلى غير ذلك من المسائل التي يترجح فيها الأخذ بمذهب المالكية بخصوص هذا العقد.
يندرج ضمن عقد التوريد بمعناه وأحكامه الشرعية المقررة للبيع على الصفة الصورة التالية:
الصورة الأولى: دفع الثمن مؤجلًا متزامنًا مع تسليم البضاعة.
الصورة الثانية: دفع الثمن أو بعضه مقدمًا على تسليم البضاعة من دون شرط من البائع.
الصورة الثالثة: دفع المشتري عربونًا، أو تأمينًا، أو ضمانًا ماليًّا يحسب من ثمن السلعة.
الصورة الرابعة: دفع نسبة من المال من قبل المتعاقدين على أساس نسبة الثمن لضمان التزام كل منهما وتنفيذه يودع لدى طرف ثالث لضمان تنفيذ العقد؛ إذ أن هذا وما سبقه في الصورة الثالثة يعد في مصلحة العقد.
كل هذا فيما يقصد به أساسًا التبادل الفعلي للسلع والأثمان، أما ما كان من قبيل المستقبليات والخيارات في مصطلح المعاملات الحديثة التي يقصد منها الاسترباح بفروق الأسعار، فليست تندرج تحت عقد التوريد، ولا يمكن إلحاقها بالمبيع الغائب على الصفة حيث تختلف عنه في الأغراض، والوسائل، وتوافر الشروط والأركان للعقد الأساس:(عقد التوريد) .
الصورة الخامسة: عقود الإعاشة والتغذية للمدارس، وشركات الطيران والمستشفيات التي تعقدها الدولة، أو المؤسسات.
طبيعة هذه العقود أن يتم التسليم على دفعات يومية، أو شهرية لفترات طويلة ممتدة على مدى عام أو أكثر، أو أقل، يتم دفع الثمن في نهاية العقد، أو أثناء التنفيذ على أقساط، يبدأ غالبًا في تسليم الدفعات اليومية، أو الشهرية مباشرة مما يملكه البائع ويحتفظ بمواده في مستودعاته.
هذا النوع من العقود هو عقد البيع على الصفة وهو نفسه فيما يسمى اليوم بعقد الإعاشة والتغذية، وهو عقد توريد في مدلوله ومضمونه، ولا يخرج في أحكامه عما يجري تقريره في البيع على الصفة.
وهو أشبه ما يكون بما هو معروف في المذهب المالكي بـ (بيعة أهل المدينة) ورد النص عليها في المدونة، واعتمد صحتها فقهاء المذهب:
" قال: وقد كان الناس يبتاعون في اللحم بسعر معلوم فيأخذ كل يوم وزنا معلومًا، والثمن إلى العطاء، فلم ير الناس بذلك بأسا، واللحم وكل ما يباع في الأسواق مما يتبايع الناس به فهو كذلك لا يكون إلا بأمر معروف، ويبين ما يأخذ كل يوم، وإن كان الثمن إلى أجل معلوم، أو إلى العطاء، إذا كان ذلك العطاء معلومًا مأمونًا، إذا كان يشرع في أخر ما اشترى، ولم يره مالك من الدين بالدين.
قال مالك، ولقد حدثني عبد الرحمن بن المجبر عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلًا بدينار يأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء فلم ير أحد ذلك دينًا بدين، ولم يروا به بأسًا " (1) .
قال العلامة أبو عبد الله محمد الرعيني الحطاب: " هذه تسمى بيعة أهل المدينة لاشتهارها بينهم. . . وليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله. . . وإجازة ذلك مع تسميته الأرطال التي يأخذ منه في كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين [هما: الشروع في قبض أوله، وأن يكون أصله عند البائع] هو المشهور في المذهب ".
(1) المدونة: 3 / 290.
يضيف العلامة الحطاب تأييده لهذا البيع بقوله: " وأنا أراه حسنًا معناه، وأنا أجيز ذلك استحسانًا اتباعًا لعمل أهل لمدينة، وإن كان القياس يخالفه "(1) .
وقد نص على هذا في المعتمد من المذهب، قال العلامة الزرقاني في شرحه على خليل بقوله:" وجاز الشراء من دائم العمل كالخباز وهو بيع. . . (و) جاز (الشراء من دائم العمل) حقيقة، وهو من لا يفتر عنه غالبًا، أو حكمًا ككون البائع من أهل حرفة ذلك الشيء لتيسره عنده فيشبه تعيين المعقود عليه حكمًا في الصورتين، فعلم أنه لابد من وجود المبيع عنده، أو كونه من أهل حرفته، والشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام، أو يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددًا معينًا، وليس لأحدهما الفسخ في الأولى دون الثانية، وشملهما تمثيله بقوله (كالخباز) والجزار بنقد وبغيره، لقول سالم بن عمر: كنا نبتاع اللحم من الجزارين، أي بالمدينة المنورة، بسعر معلوم كل يوم رطلين، أو ثلاثة بشرط أن ندفع الثمن من العطاء معروفًا، أي ومأمونًا، ولا يضرب فيه أجل لأنه بيع كما قال (وهو بيع) فلا يشترط فيه تعجيل رأس المال، ولا تأجيل الثمن فيخالف السلم في هذين، وفي فسخ العقد بموت البائع في الصورة الثانية لا الأولى، وفي كيفية الشراء، وفي أنه يشترط هنا الشروع في الأخذ ولو حكمًا كتأخيره خمسة عشر يومًا، واستخفوا ذلك للضرورة، فليس فيه ابتداء دين بدين. . . "(2) .
هذه جملة الصورة الشائعة في عقد التوريد في الوقت الحاضر، وهي التي تندرج تحت تعريفه وأحكامه.
وجود السلعة في (المبيع الغائب على الصفة) شرط في صحة العقد لدى المذهب المالكي بخاصة والمذاهب الموافقة له بعامة، غير أن العلامة ابن القيم رحمه الله لا يرى الإلزام بهذا الشرط إذا خلا العقد من الغرر – كما سبق عرضه (3) في النص التالي:
" ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي، عن بعض الأشياء الموجودة فليس العلة في المنع لا العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا أو معدومًا "(4) .
وإن خلو عقد التوريد من الغرر بمعانيه المتعددة السابقة واللاحقة ومن الجهالة، ومن المحظورات الشرعية الأخرى كالربا والميسر ينفي عن أسباب الفساد والبطلان، وهو ما ينسجم مع القواعد الكلية الأصولية. يقول العلامة محمد علي بن حسين المالكي المكي:
" قسم مالك رحمه الله تعالى التصرفات إلى ثلاثة أقسام:
أحدهما: معاوضة صرفة يقصد بها تنمية المال، فاقتضت حكمة الشرع أن يجتنب فيها من الغرر والجهالة ما إذا فات المبيع به ضاع المال المبذول في مقابلته، إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام: أحدهما: مالا يحصل معه المعقود عليه أصلًا، والثاني: ما يحصل معه ذلك دينًا ونزرًا، والثالث: ما يحصل معه غالب المعقود عليه، فيجتنب الأولان، ويغتفر الثالث.
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء خليل: 4 / 538.
(2)
شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل: 5 / 221.
(3)
ص 406 من هذا البحث.
(4)
إعلام الموقعين: 2 / 8.
وقسم أبو الوليد الغرر إلى ثلاثة أقسام: كثير وقليل ووسط، وجعل الكثير عبارة عن القسمين الأولين في هذا التقسيم، فقال في بداية المجتهد: وبالجملة فالفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز، وأن القليل يجوز، ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر.. . . " (1) .
يؤكد هذا ويعضده ثبوت الخيار للمشتري بمقتضى العقد إذا لم تطابق السلعة الشروط والمواصفات المذكورة في العقد.
أخيرًا يخلص البحث في نهاية الدراسة والمقارنة إلى النتائج الشرعية التالية:
مشروعية عقد التوريد بمعناه الفقهي وصوره الآنفة الذكر وما جرى مجراها استنادًا على النصوص الفقهية المعتمدة، والقواعد الأصولية والإجمالية بشرط خلوه من المحظورات الشرعية فيما يتعلق بالعاقدين، والعوضين، وصفة العقد، خاضعًا في جميع مراحله للمبادئ والقوانين الشرعية، وعدم المعارضة لقاعدة أو ضابط شرعي فضلًا عن نص صريح من الكتاب والسنة.
عقد التوريد في تفاصيله وخصوصياته هو البديل السليم المناسب للبنوك الإسلامية عن بيع (المرابحة للآمر بالشراء) الذي طال فيه الخلاف بين الفقهاء المعاصرين بسبب الوعد للآمر بالشراء ومدى لزومه شرعا للمشتري.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلامًا دائمين على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) تهذيب الفروق والقواعد السنية، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة عيسى البابي الحلبي، عام 1344 هـ: 1 / 170؛ وانظر: ابن رشد، محمد بن أحمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مصر: مطبعة الاستقامة، عام 1951 – 1952: 2 / 153.
عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
مصادر بحث عقد التوريد
* القرآن الكريم.
* إتحاد المجامع اللغوية العلمية.
- مصطلحات قانونية. العراق: مطبعة المجمع العلمي العراقي، عام 1394 هـ / 1974 م.
* إمام الحرمين، عبد الملك الجويني.
- الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم) . الطبعة الأولى، تحقيق ودراسة عبد العظيم الديب، قطر: الشؤون الدينية، عام 1400هـ.
* أنيس إبراهيم، وعبد الحليم منتصر، وعطية الصوالحي، ومحمد خلف أحمد.
- المعجم الوسيط، الطبعة الثانية.
- معلومات النشر، بدون.
* البابرتي، أكمل الدين.
- العناية على الهداية بهامش فتح القدير. الطبعة الأولى. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1389 هـ / 1970 م.
* الحجاوي، شرف الدين موسى.
- الإقناع في فقه الإمام أحمد، تصحيح وتعليق عبد اللطيف محمد موسى السبكي. مصر: المطبعة المصرية.
* الحطاب، أبو عبد الله محمد بن محمد.
- مواهب الجليل شرح مختصر أبي الضياء خليل. مصر: مطبعة السعادة، عام 1329 م.
* الخطابي، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم.
- معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري. تحقيق محمد حامد الفقي. مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1368 هـ ـ / 1949 م.
* البغدادي، القاضي عبد الوهاب.
- التلقين في الفقه المالكي، الطبعة الأولى. المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1413 هـ / 1993 م.
- المعونة على مذهب عالم المدينة، تحقيق ودراسة حميش عبد الحق. رسالة دكتوراه منسوخة على الآلة. مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1413هـ / 1993 م.
- الإشراف على مسائل الخلاف. مصر: مطبعة الإدارة.
* البهوتي، منصور بن إدريس.
* شرح منتهى الإرادات، المدينة المنورة: المكتبة السلفية.
-كشاف القناع. راجعه وعلق عليه هلال مصيلحي مصطفى هلال. الرياض: مكتبة النصر الحديث.
* الترمذي، أبو عيسى محمد بن سورة.
- صحيح الترمذي بشرح ابن العربي. الطبعة الأولى. مصر: المطبعة المصرية، عام 1350 هـ / 1931 م.
* ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم.
- القواعد النورانية، الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1370 هـ / 1951 م.
* ابن الجلاب، أبو القاسم عبيد الله بن الحسين.
- التفريع، الطبعة الأولى، تحقيق ودراسة حسين بن سالم الدهماني، بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1408 هـ / 1987 م.
* خليل بن إسحاق.
- متن خليل في الفقه المالكي على هامشه جواهر الإكليل، مصر: دار إحياء الكتب العربية.
* أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني.
- سنن أبي داود، ضبط أحاديثه محمد محيي الدين عبد الحميد. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
* الدردير، سيدي أحمد.
- الشرح الكبير على خليل. بيروت: دار الفكر.
* ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد.
- المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، الطبعة الأولى. تحقيق سعيد أحمد أعراب، وعبد الله الأنصاري. بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام1408 هـ / 1988 م.
* ابن رشد، محمد بن أحمد محمد بن أحمد.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. مصر: مطبعة الاستقامة، عام 1371 هـ / 1952م.
* الرصاع، أبو عبد الله محمد الأنصاري.
- شرح حدود ابن عرفة (الهداية الكافية الشافية) . الطبعة الأولى، تحقيق محمد أبو الأجفان والطاهر المعموري، بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1993م.
* الزرقاني، سيدي عبد الباقي.
- شرح الزرقاني على مختصر خليل. بيروت: دار الفكر، عام 1398 هـ/ 1978 م.
* زروق أحمد بن محمد البرنسي.
- شرح الرسالة. بيروت: دار الفكر.
* الزيلعي، فخر الدين عثمان.
- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق. بيروت: دار المعرفة للطابعة والنشر.
- نصب الراية لأحاديث الهداية. الطبعة الأولى. مصر: دار المأمون، عام 1357 هـ / 1938 م.
* الرملي، شمس الدين محمد بن أبى العباس.
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
* ابن أبي زيد، أبو عبد الله محمد القيرواني.
- الرسالة الفقهية. الطبعة الأولى. تحقيق الهادي حمود، ومحمد أبو الأجفان بيروت، دار الغرب الإسلامي، عام 1406 هـ / 1986 م.
* السرخسي، شمس الدين.
- المبسوط، الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السعادة.
* أبو سليمان، عبد الوهاب إبراهيم.
- فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة. الطبعة الأولى. جدة: معهد البحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، عام 1414 هـ / 1994 م.
* السيوطي، جلال الدين.
- الأشباه والنظائر. ضبط وتعليق الشيخ علي مالكي، مصر: مطبعة مصطفى محمد علي.
* الشافعي، محمد بن إدريس.
- الرسالة: الطبعة الأولى. تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1358 هـ ـ / 1940 م.
- الأم. الطبعة الأولى. تصحيح محمد زهري النجاري. مصر: مكتبة الكليات الأزهرية.
* الشربيني، محمد الخطيب.
- مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج. بيروت: دار الفكر للطابعة والنشر والتوزيع، عام 1398 هـ / 1978م.
* الشرنبلاني، حسن بن عمار.
- غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام، حاشية على درر الحكام في شرح غرر الأحكام، دار الخلافة، مطبعة أحمد كامل، عام 1330 هـ.
* الشلبي، شهاب الدين
- حاشية تبيين الحقائق، بهامش تبيين الحقائق للزيلعي، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.
* الصدر الشهيد، حسام الدين عمر بن عبد العزيز.
- الفتاوى الكبرى، مخطوط، مكة المكرمة: مكتبة مكة المكرمة. فقه حنفي رقم (25) .
* الصنعاني، محمد بن إسماعيل.
- سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام. مصر: مطبعة الاستقامة، عام 1357 هـ.
* الضرير، الصديق محمد الأمين.
- الغرر في العقود وآثاره في التطبيقات المعاصرة، الطبعة الأولى. جدة: المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، عام 1414 هـ / 1993م.
* الطماوي، سليمان محمد.
- الأسس العامة للعقود الإدارية، دراسة مقارنة، الطبعة الرابعة، مصر: مطبعة عين شمس، عام 1984 م.
* ابن عابدين، محمد أمين.
-رد المحتار على الدر المختار. بيروت: دار الكتب العلمية.
* عبد الله، أحمد علي.
- المرابحة أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية، الطبعة الأولى. السودان: الدار السودانية للكتب، عام 1407 هـ ـ / 1987 م.
* الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب.
-القاموس المحيط، الطبعة الأولى. بيروت، مؤسسة الرسالة، عام 1406 هـ / 1986 م.
* القاري، ملا علي.
- شرح مختصر الوقاية (فتح باب العناية في شرح النقاية) . الطبعة الثانية قازان: خاريطوف مطبعة سي، عام 1324 هـ ـ
- البناية في شرح الهداية. الطبعة الأولى. تصحيح المولى محمد عمر الشهير بناصر الإسلام الرامفوري. بيروت: دار الفكر، عام 1401 هـ / 1981م.
* ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد.
- المغنى، الطبعة الثالثة. علق على بعض الهوامش السيد محمد رشيد رضا. مصر: دار المنار، عام 1368 م.
* قدري أفندي، عبد القادر بن يوسف.
- واقعات المفتين. باكستان: آسياآباد، مكران.
* ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر.
- إعلام الموقعين، الطبعة الأولى. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. مصر: المكتبة التجارية الكبرى.
- زاد المعاد في هدى خير العباد. تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط. بيروت: مؤسسة الرسالة. عام 1399 هـ / 1979 م.
* الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الطبعة الثانية. بيروت: دار الكتاب العربي، عام 1394 هـ / 1974م.
* مالك بن أنس، الإمام.
- المدونة الكبرى رواية سحنون عن ابن القاسم. الطبعة الأولى. بيروت: دار الفكر، عام 1398 هـ / 1978 م.
* المالكي المكي، محمد علي بن حسين.
- تهذيب الفروق والقواعد السنية. الطبعة الأولى. مصر: مطبعة عيسى البابي الحلبي، عام 1344 هـ
* الماوردي، أبو الحسن علي بن حبيب.
- الحاوي. (قسم البيوع) . دراسة وتحقيق محمد مفضل مصلح الدين، رسالة دكتوراه منسوخة على الآلة. مكة المكرمة: جامعة أم القرى، عام 1408 هـ / 1988م.
* المحلي، جلال الدين محمد بن أحمد.
- المحلي على منهاج الطالبين. الطبعة الرابعة. بيروت دار الفكر.
* المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام. الطبعة الأولى صححه محمد حامد الفقي. مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1375هـ / 1956 م.
* المرغياني، برهان الدين علي بن أبي بكر.
- الهداية شرح بداية المبتدي. الطبعة الأخيرة. مصر: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
* ملا خسرو، محمد بن فراموزا.
- درر الحكام في شرح غرر الأحكام، دار الخلافة: مطبعة أحمد كامل، عام 1330هـ.
* المواق،أبو عبد الله سيدي محمد بن يوسف.
- التاج والإكليل لمختصر خليل. الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السعادة، عام 1328 هـ.
* الموصلي، عبد الله بن محمود بن مودود.
- الاختيار لتعليل المختار. الطبعة الثالثة. تعليق محمود أبو دقيقة. بيروت: دار المعرفة للطابعة والنشر، عام1395 هـ / 1975 م.
* منذر قحف.
- عقد التوريد، دارسة اقتصادية مقدمة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، عام 1414 هـ / 1994 م، منسوخ على الآلة.
* ابن ناجي، قاسم.
- شرح الرسالة بهامش زروق، بيروت: دار الفكر.
* ابن نجيم، زين العابدين ابن إبراهيم.
- الأشباه والنظائر. مصر: مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، عام 1387هـ / 1968 م.
* النسفي أبو البركات عبد الله بن أحمد.
- الكافي علي الوافي. مخطوط مكة المكرمة: مكتبة مكة المكرمة، فقه حنفي.
* ابن الهمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواس.
- فتح القدير على الهداية شرح المبتدي. الطبعة الأولى. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1389 هـ / 1970 م.
* الهيتمي، شهاب الدين أحمد بن حجر.
- تحفة المحتاج بشرح المنهاج. بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر.