الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرائن في الفقه الإسلامي
على ضوء الدراسات القانونية المعاصرة
إعداد
المستشار محمد بدر المنياوي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
تحتل القرائن في العصر الحاضر منزلة متميزة عما كان لها في الماضي، يوم أن كان ينظر إليها على أنها لا تصلح للاستدلال: لا بسبب تطرق الاحتمال إلى دلالتها، فحسب، ولكن لأنها كذلك ليست من الأدلة الجديرة بالاعتبار، والتي يحق أن تبنى عليها الأحكام.
غير أن هذه النظرة الظالمة تبدلت، فاعترف القضاء بأن القرائن لا تومئ إلى الأمر المستهدف من الإثبات، فحسب، وإنما إذا توافرت لها مقوماتها، فإنها تصلح لأن تكون دليلا قائما بذاته، يغني عن سواها من الأدلة الأخرى.
ثم تطور الأمر لصالح القرائن، فاشتد التمسك بها، وكان من دوافع ذلك ما ران على الذمم من فساد، وما ابتليت به الشعوب من ضعف في الوازع الديني، مما أصاب الأدلة التقليدية المباشرة في مقتل، فأفقدها الكثير من صدق الواقع، وألبس الإقرارات وأقوال الشهود ثوب الكذب والخديعة في حالات عديدة، ونزع عن الحلف هيبته، فأصبح الحالفون لا يبالون بجرم اليمين الغموس في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد واكب ذلك ما تحقق من طفرات علمية، كانت سلاحا ذا حدين: منحت بأحد الحدين للجناة الوسيلة التي تتيح لهم الهروب من العدالة، ومنحت بالحد الثاني للحاكم المكنة في التعرف على العصاة وتتبعهم وإنزال القصاص العادل بهم.
ومن ثم فقد أصبحت دراسة القرائن أمرا تستوجبه التطورات الاجتماعية والنفسية والأمنية، كما أصبحت ضرورة لمجابهة متطلبات العصر ومستحدثاته.
غير أن هذه الدراسة- في تشعبها ودقة عناصرها- لا يحتملها مثل هذا البحث المحدود، وبالتالي فلا مناص من الاقتصار على بعض جوانبها وترك الجوانب الأخرى لما أفاض فيه الباحثون المحدثون في رسائلهم ومقالاتهم العلمية، الأمر الذي دفع بالباحث إلى إيجاز الإشارة إلى بعض النقاط التي قد تبدو رئيسية، كتعريف القرينة، وتفصيل أدلة مشروعيتها، على أمل أن يتيح ذلك الفرصة للاستفادة بالدراسات القانونية التي تعمقت في فهم القرائن، وتطورت معها على ضوء ما جد في الساحة من أبحاث علمية واجتماعية ونفسية وجنائية.
وقد تشكل هذا البحث من أربعة مطالب وخاتمة:
- تناول المطلب الأول موقع القرائن بين أدلة الإثبات.
- وتناول المطلب الثاني التعريف بالقرائن (لا تعريفها) وتمييزها عما يشتبه بها.
- وتتناول المطلب الثالث تقسيمات القرائن.
- وتناول المطلب الرابع الإشارة إلى حجية القرائن ومجالات العمل بها.
- أما الخاتمة فقد تركزت في بعض ما خلصت إليه الدراسة مشيرة إلى ما قد يصلح نواة للتوصيات.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا التوفيق والسداد.
المستشار محمد بدر المنياوي
ربيع الآخر سنة 1420هـ
يوليو سنة 1999م
المطلب الأول
موقع القرائن بين أدلة الإثبات
1-
لا ريب أن العدالة تعد من أسمى الطرق لنشر الإسلام بين الناس، كما لا ريب أيضا في أن القضاء هو الوسيلة الأولى لهذه العدالة في الفصل بين المتخاصمين، وأن البحث عن الحقيقة وإقرارها هو رسالة هذا القضاء: في طرقه وفي غاياته.
فتلك أمورا اجتمعت عليها البشرية قاطبة منذ أن ترك الإنسان البداوة وانتظم في مجتمعات، فلا تكاد تخرج عليها أي شريعة من الشرائع، وإن كانت قد تختلف مع بعضها البعض في الوسائل، بسبب اختلافها في الفلسفات التي تتحكم فيها، وفي القيم التي تسعى لتحقيقها، وفي المبادئ التي تقيد مسيرتها.
وقد كان لهذا الاختلاف أثره على الطرق التي اتبعها القضاء في الإثبات فتعددت وتباينت، غير أن التقاءها في الهدف نحو الوصول إلى الحقيقة، جمع بينها في اتجاهات متقاربة، تبلورت في نظم ثلاثة للإثبات:
أولها نظام الإثبات المقيد، وفيه يحدد النظام للقاضي، سلفا، الأدلة التي يجوز أن يستند إليها في حكمه، والشروط التي يجب أن يخضع لها كل دليل، وقيمته الإقناعية، دون أن يأبه كثيرا باقتناع القاضي أو وزنه للأمور المعروضة عليه.
فإذا جعل النظام الشهادة دليلا على دعوى معينة، ووضع لها نصابا، ولم يتوافر هذا النصاب، فلا يحق للقاضي أن يجيب المدعي إلى دعواه، ولو كان مؤمنا بصدق هذه الدعوى لأدلة أخرى.
وثانيهما: هو نظام الإثبات المطلق، وفيه يتحرر الخصوم من كل القيود التي تحدد طريقهم في الإثبات، فيكون لهم حق الالتجاء إلى أي دليل يمكنهم من إثبات دعواهم، كما يتحرر القاضي من التقيد بأي أدلة محددة قد تدفعه إلى الحكم بغير ما يقتنع به، بل إنه لا يتقيد بأن يكون الدليل مباشرا، وإنما يجوز له أن يعتمد على دليل غير مباشر: لا يكون شاهدا بذاته على الحقيقة التي ينشدها، وإنما يحتاج في دلالته عليها إلى وسائط تؤدي دور المعالم على طريق العدالة، فترشد إليها، أو تتفاعل مع غيرها في هذا السبيل، تفاعلا يمليه العقل الراجح والمنطق السليم.
أما ثالث الأنظمة فهو النظام المختلط، الذي يقوم على التوفيق بين النظامين الآخرين، بمحاولة تفادي عيوبهما، وذلك بالبعد عما قد يسمح للقاضي بفرض سيطرته على الدعوى بما ينحرف بها عن جادة الصواب، والبعد كذلك عن فرض أدلة محددة قد يؤدي الالتزام بها إلى أن يحكم القاضي بغير ما يمليه اقتناعه، وإن كان ذلك لا يمنع- في نطاق محدد- من تحديد القوة المؤكدة لبعض الأدلة: كترجيح دليل على آخر، أو إضفاء قوة متميزة على وسيلة بعينها، كما لا يمنع من تحديد منطقة الإثبات ذاتها: بتعيين وسيلة للإثبات لا يجوز قبول غيرها، كالالتزام بالكتابة في إثبات بعض التصرفات، أو تحديد محل الإثبات نفسه، سواء بمفرده أو مع تحديد وسيلته: كما في إنشاء قرينة تنطوي على قرار مانع يحجب كل دليل عكسي، مما قد تتلاشى معه منطقة الإثبات إلى حد العدم، ويختفي ذات الحق في الإثبات. (1)
(1) المستشار الدكتور عوض محمد المر- القرينة والقاعدة الموضوعية- مقال في مجلة إدارة قضايا الحكومة- السنة الخامسة، عدد يناير- مارس سنة (1960م) ، ص23.
وفي الفقه الإسلامي، اختلف الرأي بين علمائه في استخلاص مذهبه في الإثبات، فذهب الجمهور إلى القول بحصر طرق القضاء في الشريعة الإسلامية في عدد معين، ثم اختلفوا في هذا العدد، نتيجة اختلافهم في أمور من أهمها المعيار الذي يحدد معنى الدليل كطريق يعتمد عليه الحكم، ولذلك قال بعض علمائنا بعدم اعتبار الإقرار دليلا، لأنه ليس طريقا للحكم وإن كان يعد موجبا للحق نفسه، وقال آخرون بأن القرائن لا تعد دليلا، لأن الاحتمال يتطرق إلى دلالتها بما لا يمكن معه الاعتماد عليها كطريق للحكم، بينما اتفقت كلمة الجمهور على اعتبار البينة دليلا، بوصف أنها تمثل الطريق السوي للوصول إلى الحقيقة، أما الكتابة فإنها لم تلق من الأقدمين العناية الكافية، لقابليتها- عندهم- للمشابهة والمحاكاة، مع أن القرآن الكريم قد نبه إلى أهميتها وإلي أولوية الاعتماد عليها بما تلتقي فيه أرقى مبادئ الإثبات في العصر الحديث، ولم يتغير الوضع كثيرا في العصور المتأخرة بعد أن تقدم علم الخطوط، وذلك لوقوف التقليد عقبة في سبيل إضفاء القيمة الحقيقية على الكتابة كوسيلة من وسائل الإثبات. (1)
2-
(1) الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد دار النشر للجامعات المصرية- الطبعة الأولى- الجزء الثاني، ص356، هامش1. -والأستاذ عبد القادر عودة- التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي- دار الطباعة الحديثة- سنة (1984م) - الجزء الأول، ص33، 34، 56 وما بعدها.
وعلى خلاف الجمهور، ذهب فريق من علمائنا الأجلاء، على رأسهم الإمامان ابن تيمية وابن القيم، إلى أن طرق القضاء في الشريعة الإسلامية لا تدخل تحت حصر، فكل أمر يترجح عند القاضي أنه دليل على إثبات الحق هو طريق من طرق الحكم، وعلى القاضي أن يحكم به.
ولعل أساس الخلاف بين فقهائنا الأفذاذ، يكمن في تفسير معنى (البينة)، التي وردت في الشرع كدليل من أدلة الإثبات:
فالجمهور يرون أنها إذا أطلقت انصرفت إلى الشهادة وحدها، ويستدلون على ذلك بتطبيقات وردت في السنة الشريفة، فسرت البينة بأنها الشهادة.
بينما يرى الإمامان ابن تيمية وابن القيم (أن البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد، لن يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان، مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ((البينة على المدعي)) المراد منه أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له، والشاهدان من البينة ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهدين) . (1)
(1) الإمام ابن القيم الجوزية- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية- تحقيق الأستاذ محمد جميل أحمد سنة (1961م) – مطبعة المدني، ص13.
وما يقوله ابن تيمية وابن القيم من اعتماد الشريعة الإسلامية- بحسب الأصل لمبدأ الإثبات المطلق والتسليم بسلطة القاضي الواسعة في تقدير الأدلة التي تطرح أمامه، سواء أكانت من الأدلة التقليدية كالإقرار والشهادة واليمين، أم من غيرها مما يتولد عن الاستنباط العقلي والمنطقي كالقرائن، هذا الذي يقوله الإمامان العظيمان، هو ما يكاد (1) يجمع عليه الفقهاء المعاصرون ويؤكدونه بما هو ثابت قطعا من أن الشريعة الإسلامية تمنع القاضي أن يأخذ باعتراف قام الدليل على كذبه، أو أن يأخذ بأقوال شهود، تبين له بطريق آخر أن ما شهدوا عليه لم يقع، كما تمنعه من أن يرفض الحكم على مقتضى ما قطعت به الأدلة العقلية، مادام ذلك لا يصطدم بنص ثابت، ولا بدليل أقوى، ولا يعارض ما حرصت عليه هذه الشريعة الغراء من تضييق في إثبات الجرائم، وما احتاطت بشأنه من درء للحدود بالشبهات، وما انتهجته من عدم التقيد بطرق محددة في التحقق من صحة ما شهد به الشهود في الدعوى أو نفي ما قالوه، وما اتبعته دائما من تيسير على الناس في إثبات حقوقهم، في نطاق ما تقتضيه العدالة القضائية، مما جعلها تسيغ أن تبني الأحكام على إقرار المدعي عليه أو شهادة الشهود، مع احتمال أن يكون ذلك قد وقع استجابة لاعتبارات دفعت بالمقر إلى الإقرار بحق لا يلزمه، أو حملت الشهود على مجافاة الحقيقة بقصد أو بغير قصد. بل إن هذه الشريعة السمحة سارت في الحرص على مصالح الناس شوطا أبعد، فبعد أن أجازت بناء القضاء على الحجة الظنية كشهادة الشهود المبنية على المعاينة والمشاهدة، تنزلت عن ذلك، فأجازت الشهادة بالتسامع والشهادة على الشهادة، وشهادة المرأة الواحدة في الحالات التي توجبها الضرورة أو تستلزمها الحاجة. (2)
(1) الشيخ علي قراعة- الأصول القضائية في المرافعات الشرعية- مطبعة النهضة- الطبعة الثانية سنة (1344هـ/ 1925م) ، ص275- وفيه نسب إلى الإمام ابن الغرس- من فقهاء الحنفية- أنه وحده الذي انفرد بذكر القرينة القاطعة، ولم تعرف نسبتها إلى إمام في المذهب الحنفي أو كتاب معتمد فيه.
(2)
الشيخ أحمد إبراهيم- طرق القضاء في الشريعة الإسلامية- المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة سنة (1347هـ/ 1928م) ، ص6، 424. والدكتور محمد سليم العوا- أصول النظام الجنائي الإسلامي- دراسة مقارنة- دار المعارف- القاهرة- الطبعة الثانية- مايو سنة (1983م) ،ص315، 316- فقرة 134. والدكتور محمد سلام مدكور- القضاء في الإسلام- دار النهضة العربية القاهرة سنة (1964م) ، ص78، 79. والدكتور أحمد عبد المنعم البهي- من طرق الإثبات في الشريعة والقانون، دار الفكر العربي- الطبعة الأولى سنة (1965م) ، ص 75. والدكتور أنور محمد يوسف دبور - القرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي - رسالة دكتوراة - دار الثقافة العربية سنة (1985م) ، ص25 وما بعدها.
3-
على أنه أيا كان الرأي الراجح في استخلاص اتجاه الشريعة الإسلامية في الإثبات، فإن الخلاف في هذا الشأن قد ترك ظلاله الواضحة على نوع متميز من الأدلة، هو القرائن.
فمع أن بعض علماء الشريعة قد نصوا على اعتبار القرائن من أدلة الإثبات، فإن الغالبية العظمى منهم لم تحفل بها على استقلال عند دراستهم التفصيلية لوسائل الإثبات، ومع ذلك فمن المقطوع به عند مطالعة كتبهم والتعمق فيها، أنهم يأخذون بالقرائن في الجملة، وأن ما حدث بينهم من خلاف إنما هو في بعض الجزئيات. (1)
وقد كان لإغفال علمائنا القدامى دراسة القرائن تفصيليا آثاره الخطيرة في تطبيقات الفقه الإسلامي على مستحدثات العصر وفي الانتفاع بما يبتكره العلم الحديث من أمور تسهم- بلا شك- في الوصول إلى الحقيقة التي ينشدها القضاء، مما قد يظهر أساسا بوضوح في نقطتين:
(1) الشيخان محمود شلتوت، ومحمد علي السايس- مقارنة المذاهب في الفقه- ص137، الدكتور أحمد عبد المنعم البهي- مرجع سابق، ص73.
4-
أولاهما: أن الأخذ بالقرائن ليس بالأمر السهل، وبالتالي فقد كان الفقه الحديث في أشد الحاجة إلى الاستعانة بالدراسات المتعمقة التي عودنا عليها علماؤنا القدامى.
فالأخذ بالقرائن- هو في طبيعته- صورة من صور الإثبات غير المباشر، إذ لا ينصب، في المسائل الجنائية- على أركان الجريمة ذاتها أو إسنادها إلى فاعلها، كما أنه لا ينصب في المسائل المدنية على مصدر الحق المدني المدعى به نفسه، وإنما يستنبط الدليل في هذه القرائن من واقعة أخرى، تقوم علامة أو أمارة على الواقعة المراد إثباتها، وذلك بسبب الرابطة التي تربط بين الواقعتين.
واعتماد الاستدلال على استنباط أمر مجهول من واقعة معلومة، يتطلب فضلا عن الحذق والملكة- أن توضع القواعد التي تنير الطريق السوي أمام العقل، ليتسنى له الوصول إلى النتائج السليمة حين ينتقل من المعلوم إلى المجهول، وذلك على نحو ما جهد فيه علماؤنا الأفاضل عند دراستهم لعلم أصول الفقه وسائر العلوم العقلية الأخرى.
5-
ثانيهما: أن إغفال الاهتمام الكافي بدراسة القرائن كان له أثره على الإثبات القضائي عامة ونظرا لما تحتله القرائن من أهمية بالغة فيه.
فالقرائن لا يمكن الاستغناء عنها في إثبات الوقائع المادية التي تمثل جانبا هاما ومؤثرا في الدعاوى القضائية، سواء أكانت وقائع طبيعية مجردة، كمرور الزمن والحريق، أم كانت من فعل الجماد أو النبات أو الحيوان كالجوار ونضوج الثمر وإنتاج الماشية، أم كانت وقائع مادية تتداخل فيها الإرادة البشرية على نحو أو آخر كالأعمال غير المشروعة والجرائم الجنائية (1) .
(1) الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- النظرية العامة للقرائن في الإثبات الجنائي في التشريع المصري والمقارن- رسالة دكتوراه، لجامعة عين شمس سنة (1987) ، ص226 وما بعدها.
ولا ريب أن هذه الوقائع المادية مما يتعذر إعداد الدليل بشأنها مسبقا، وقد يتعذر الدليل المباشر عليها، أو يتعسر، لاسيما حين يعمد مرتكبو الوقائع الجنائية إلى الإمعان في التخفي فلا يشهد جرمهم أحد، أو الإمعان في الجرأة على الحق فلا يعترف الجاني الحقيقي بما اقترفته يداه، مما لا يكون معه أمام القاضي، للوصول إلى الحقيقة التي يتغياها، إلا أن يعمد إلى الوقائع المرتبطة في محاولة لاستنطاقها، والاستدلال بها على ما قد يكون لازما أو مرتبطا بها، مما قد يغفل عنه الجاني أو لا يدرك ما تدل عليه.
وفضلا عن ذلك، فإن التقدم العلمي في العصر الحاضر قد زاد القرائن أهمية بالنسبة للوقائع المادية: ذلك لأن الإجرام أسبق دائما إلى الاستفادة بالتطورات العلمية، لاسيما مع اتجاه الجريمة إلى العالمية والدولية، والانتظام في عصابات دقيقة التنظيم جيدة التدريب حريصة كل الحرص على أن تفوز بالغنيمة دون أن تترك ما ينم عنها أو يكشف عن أفرادها، ومن ثم فقد أصبح من الضروري مجابهة العلم بالعلم واستخدام وسائل الكشف المعدة سلفا أو المصاحبة للجريمة أو اللاحقة عليها، ليتسنى بهذا دحض الأساليب الإجرامية المبتكرة، ولن يكون ذلك إلا عن طريق الاستعانة بالقرائن في الإثبات.
ذلك كله عن الوقائع المادية وأهمية القرائن في إثباتها.
أما الوقائع المبنية على التصرفات، فإننا وإن كنا قد أمرنا بإعداد الدليل المسبق عليها- كما تشير إلى ذلك آية المداينة في سورة البقرة، إلا أن العرف أو الملابسات كثيرا ما يتجاوز هذا الإثبات المعد من قبل، لاسيما مع عدم تمسك الشريعة الإسلامية بالشكل كركن في الإثبات، ونصها على عدم وجوب الإثبات الكتابي في المسائل التجارية، كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى في ذات الآية سالفة الذكر:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] وحرصها على استثناء حالة الضرورة، على نحو ما تشير إليها الآية التالية لآية المداينة بقولها:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، نقول إنه حتى في هذه التصرفات، فإن القرائن تظل لها سلطانها في الإثبات إذا لم يتوافر الدليل المعد من قبل، لاسيما والفقه الإسلامي لا يعطي للإثبات بالبينة والقرائن قوة محدودة إذا تجاوزت قيمة التصرف قدرا معينا، كما تجنح لذلك أغلب التشريعات المعاصرة.
وبذلك تكون أهمية القرائن واضحة في الاستدلال بجميع صوره سواء اتصل بالوقائع الجنائية أم بسواها من الوقائع المادية أم بالتصرفات المدنية، ويكون لإهمال دراستها دراسة موسعة آثاره الخطيرة على الإثبات القضائي عامة.
على أن هذه الأهمية لا يحق أن تصل بنا إلى إغفال حقيقيتين هامتين:
6-
أولاهما: أن الاهتمام بالقرائن لا يعني التقليل من خطورة الأدلة المباشرة كالإقرار والشهادة واليمين، إذ تبقى لهذه الأدلة أهميتها القصوى إذا توافرت، وكانت مقنعة في الكشف عن الحقيقة، وهو أمر يفتقد كثيرا في الدعاوى القضائية في عصرنا الحاضر.
فالإقرار كثيرا ما لا يطابق الواقع، ونادرا ما يتم بوازع من الندم وتأنيب الضمير، والشهادة- كما يقول علماء النفس والتحقيق الجنائي-: هي حاصل عملية بالغة التعقيد تتفاعل فيها حواس الشاهد مع عواطفه وأعصابه وتفكيره، وتتشكل نتيجة لذلك صورة خاصة بالشاهد ترتسم في مخيلته فلا يتذكر سواها، فالشاهد ليس دائما مجرد آلة تصوير تنقل ما هو ماثل أمامها دون تفاعل أو إضافة أو تعديل، هذا إلى جانب أن النسيان وارد، كما أن تعارض الشهادات الصادرة عن شخص واحد مع بعضها وارد كذلك إذا تراخى الفصل في الدعاوى مما هو سمة العصر في كثير من البلدان، ناهيك باحتمال الكذب والتلفيق، واحتمال الكتمان والعزوف عن الشهادة وغير ذلك مما قد يعتور الشهادة (1) .
أما اليمين، فإن نقص الوازع الديني، يجعل منه أداة غير صالحة لأن تقود وحدها إلى الحقيقة المبتغاة.
ولذلك فإنه مع أهمية هذه الأدلة، وخطورتها تظل القرائن مرشدا قضائيا هاما يعين على تصديق الدليل المباشر، أو يحمل على إهداره حين يتعارض مع الوقائع المادية أو العلمية التي لا تكذب.
(1) الدكتور عبد الوهاب العشماوي- شهادة الشهود دليل محفوف بالمخاطر- مقالة بمجلة الأمن العام سنة (28) عدد (110) يوليو سنة (1985م)، ص7 وما بعدها. القانون المدني (المصري) - مجموعة الأعمال التحضيرية - مطبعة دار الكتاب العربي: 3/394-395
7-
والحقيقة الثانية أن الاهتمام بالقرائن لا يعني أن الشريعة الإسلامية تمنحها القوة المطلقة دائما في جميع الحالات، فهناك من الوقائع ما لا تقبل فيه الشريعة إلا دليلا معينا هو غير القرائن، وقد توجب أن ينصب الإثبات على أمر محدد أو ألا يعارض الظاهر إلا وسيلة معينة.
فجريمة الزنا مثلا، لا يجوز إثباتها في غير حالة الإقرار- إلا بأربعة شهود، يشهدون بأنهم رأوا المرود في المكحلة، ولا يجوز الاستدلال عليها شرعا بالقرينة المستفادة من مجرد وجود الرجل والمرأة عرايا في غرفة النوم- وإذا أراد الزوج أن ينفي الولد الذي جاء على فراشه فلا يكون أمامه إلا اللعان.
فإعطاء القوة للقرائن في الاستدلال لا يكون إلا حين لا يقيد الشرع الإثبات بدليل غيرها، أو يتطلب في الواقعة الواجب إثباتها أمورا معينة لا تقوى القرينة على القيام بإثباتها وحدها.
المطلب الثاني
التعريف بالقرائن وتمييزها عما يشتبه بها
8-
القرينة مشتقة في اللغة من الاقتران، بمعنى المصاحبة، ومنه قول الله تعالى في سورة الزخرف:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] .
أما في الاصطلاح، فقد اختلفت فيها التعاريف، وإن التقت كلها حول معنى واحد هو أنها: استنباط واقعة مجهولة، ومن واقعة معلومة، لعلاقة تربط بينهما.
فالفرض أن هناك واقعة يراد إثباتها: كتلك التي تشكل أركان الجريمة الجنائية أو تشهد بنسبتها إلى فاعلها، أو التي هي مصدر الحق المدعى به في الإثبات المدني.
والفرض كذلك أن هذه الواقعة مجهولة، بمعنى أنه لم يقم عليها دليل مباشر، فلم يصدر بها إقرار أو اعتراف، ولم يرد عليها شهود، ولم تثبتها يمين، أو قام عليها شيء من ذلك، ولكن دون القدر الكافي لإثباتها، وليس أمامـ القاضي مناص من أن يقضي في أمر ثبوت هذه الواقعة المجهولة أو عدم ثبوتها، وذلك ليفصل في الخصومة المرفوعة إليه بما يتفق مع الحقيقة القضائية، وبالتالي، فإنه وقد عز الدليل المباشر الكافي، فقد تعين البحث عن دليل غير مباشر، يتمثل في واقعة أخرى ترشد عن الواقعة الأصلية بوصفها أمارة لها أو علامة عليها.
فالاستدلال بالقرائن، إذن يقوم على عمادين اثنين، أولهما التقاط واقعة قريبة من الواقعة المراد إثباتها، وثانيهما، استنباط الدليل على وجود الواقعة الأصلية من ثبوت هذه الواقعة القريبة.
وعبء الكشف عن هذين الأمرين كليهما، هو بلا ريب، واقع في جانب منه على الخصوم أنفسهم، وعلى معاوني القضاء الجنائي من خلال التحري عن الجرائم أو تحقيقها، كما أن القواعد الشرعية قد تسهم إسهاما مباشرا في هذا الشأن بما تقدمه من استخلاصات لنتائج قد تكون قاطعة ملزمة أحيانا، وقد تقبل إثبات العكس أحيانا أخرى.
غير أن العبء الأكبر في هذه القرائن: إنما يقع على القاضي نفسه سواء فيما يتعلق بالواقعة القريبة أو بالاستنباط منها، وقيامه بهذه المهمة الشاقة لايستقيم إلا إذا أطلقت يده في اتجاه الهدف الذي يسعى إليه.
9-
ومن ثم فإن من المسلم به أن للقاضي أن يلتقط ما يشاء من وقائع يراها معينة له على طريق الوصول إلى الواقعة المراد إثباتها سواء أكانت شخصية، كما لو كانت تصم المتهم بأنه من أرباب السوابق أو على خصومه ثأرية مع المجني عليه، أو كانت موضوعية: سابقة أو معاصرة أو لاحقة، داخلة في صميم الدعوى أم خارجة عنها.
وللقاضي كذلك أن يختار هذه الواقعة من أي مصدر يراه، سواء أكان معاينة أم أعمال خبرة، أم تقارير فنية أم غير ذلك بل إن له أن يختارها من دليل مباشر يقدم إليه في الدعوى، كأن يستشف من أقوال الشهود أن المتهم كان يحوم حول مكان الحادث قبيل وقوع الجريمة، أو يأخذ من الإقرار ما يشهد للمقر بعدم التزامه بأكثر مما أقر به، وذلك على نحو ما كان يطبقه إياس بن معاوية من أنه إذا اقر الخصم بشيء ليس عليه بينة فالقول كما قال لا يزاد عليه (1) .
بل إن القاضي ليستطيع أن يختار أمارته من دليل لم يستكمل شروط صحته فلا بأس عليه أن يستند إلى ما كشف عنه تجسس منهي عنه شرعا، للقضاء ببراءة المتهم مما نسب إليه.
(1) ابن القيم- الطرق الحكمية- مرجع سابق، ص35، 36.
وليس بلازم أن يكون مصدر الأمارة واقعة واحدة ذات مدلول واحد يقطع في الدلالة عليه، كوجود بصمة للمتهم في مكان الحادث، وإنما يجوز أن تكون جملة وقائع لا تكفي واحدة منها بمفردها لاستنباط القرينة، وإنما يتحقق ذلك منها مجتمعه، وذلك على نحو ما مثل به الإمام الغزالي في (المستصفى) من قوله:(إنا نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى؛ فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لأنه مستور، ولا عند خروجه فإنه مستور بالفم، ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما، مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن، ولكن ينضم إليه أن المرأة شابة لا يخلو ثديها عن لبن، ولا تخلو حلمته من ثقب، ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج اللبن، وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا، وإن لم يكن غالبا، لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه، مع أنه لم يتناول طعاما آخر، صار قرينة، ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله، ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم تشاهده، وإن كنا نلازمه في أكثر الأوقات، ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتوافرها، وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال، كقول كل مخبر على حياله، وينشأ من الاجتماع العلم)(1) .
على أنه مع إطلاق يد القاضي في التقاط الأمارة، فإن عليه أن يتحقق من استيفائها للشروط اللازمة لأدائها للمهمة التي استخرجت من أجلها وعلى الأخص ما يتصل بثبوتها وصحتها، إذ القرينة دليل، وهو لا يبنى على غير ما هو ثابت يقينا، وصحيح قطعا: فواقعه ضبط المسروقات في حوزة المتهم لا تصلح أمارة إلا إذا كانت قطعية الثبوت مطابقة للواقع الحقيقي، فإذا قام شك في افتعالها أو في مطابقتها للحقيقة التي وقعت فعلا، فإنها لا تصلح أساسا للقرينة، كما حدث مع بنيامين أخ يوسف عليه السلام من وضع السقاية في رحله دون علم منه، أو ما حدث في قصة طعمة بن أبيرق، حين ألقى بالدرع المسروق في بيت رجل بريء (2) .
(1) الإمام أبو حامد الغزالي- المستصفى من علم الأصول المطبعة الأميرية ببولاق- الطبعة الأولى- المجلد الأول، ص135، 136.
(2)
تفسير القرآن العظيم- لابن كثير- مطبعة الشعب- المجلد الثاني، ص12 عند تفسير الآية (105) من سورة النساء.
10-
وإذا كان التقاط واقعة (الأمارة) من بين أوراق الدعوى وظروفها وملابساتها يحتاج إلى صبر القاضي وخبرته، فإن استنباط الواقعة المراد إثباتها من الأمارة يستلزم دقته البالغة:
فصلة الأمارات بالوقائع المراد إثباتها ليست دائما على درجة واحدة من القوة، فمنها القوي الذي يؤكد معنى محددا لا يحيد عنه، ومنها الضعيف الذي يوهم بدلالة لا يحق الالتفات إليها: فمجرد بكاء المتهم لا يصح أن يكون له أثر في الاستنباط العقلي، فقد سبق أن بكى إخوة يوسف عليه السلام يوم أن جاؤوا على قميصه بدم كذب، كما سبق لإبراهيم عليه السلام أن أعطى نموذجا لدلالة موهومة، تشير إلى أن كبير الأصنام التي يعبدها قومه يملك من أمرهم شيئا، وذلك بأن كسر هو عليه السلام الأصنام كلها ما عدا هذا الكبير الذي علق في عنقه الفأس، حتى إذا رأى القوم ذلك، ثم اكتشفوا أن الصنم لا ينطق، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ثابوا إلى رشدهم وأقلعوا عن عبادة الأصنام (1) .
واصطدام الواقعة المختارة، فيما قد تومئ إليه، بدليل آخر أو بقرينة غيرها يقتضي إعمال أسس الترجيح بينها والأخذ بما هو أقوى وأكثر قبولا، فقد سبق أن تعارض الشبه مع الفراش، في قصة سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة فغلبت قرينة الولد للفراش (2) ، كما سبق أن تعارضت الدلالة المستفادة من وجود دماء على قميص يوسف مع عدم تمزق هذا القميص، فرجحت القرينة الثانية بما تدل عليه من عدم صدق ما قيل من أكل الذئب يوسف عليه السلام.
(1) الآيات من 51 حتى 67 من سورة الأنبياء- التفسير الوسيط للقرآن الكريم- تأليف لجنة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية- الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية سنة (1983م) - المجلد الثاني، ص1126 وما بعدها.
(2)
ابن القيم- الطرق الحكمية- مرجع سابق ص240.
ولا شك أن الأمر قبل ذلك وبعده مرجعه إلى إعمال الفكر على هدي الاستعداد الفطري والخبرات العملية مما تتفاوت فيها الأفهام وتختلف عليه العقول، كما يدل على ذلك ما ساقه الإمام الحنفي ابن الغرس من مثال لقرينة قوية تدل على نسبة القتل إلى شخص معين، فقال: إذا خرج إنسان من دار مضطربا خائفا، وملابسه ملوثة بالدماء، ويحمل سكينا كذلك ملوثة بالدماء، فدخل الناس الدار فور خروجه، فوجدوا شخصا مذبوحا مضرجا بدمائه، ولم يجدوا في الدار غير هذا الذي خرج بهذه الهيئة، فهذه الأوصاف قرينة قوية على أن هذا الذي خرج هو الذي قتل، واحتمال أن يكون قد قتل نفسه أو أن يكون آخر قتله وتسور الجدار وفر هاربا، احتمال لا يلتفت إليه، لأنه احتمال غير ناشيء عن دليل.
فهذا الاستخلاص الذي رآه الإمام ابن الغرس كان محل جدل عقلي بين علمائنا الأفاضل، فصادقه عليه بعضهم وناقضه آخرون، وما ذلك إلا بسبب الاختلاف في الاعتداد ببعض الاحتمالات أو إهدارها لافتقادها الدليل (1) .
(1) جاء مثال ابن الغرس (محمد بن محمد بن خليل) في كتابه الفواكه البدرية المطبوع مع المجاني الزهرية لمحمد بن عبد الفتاح بن محمد بن الجارم مطبعة النيل وغير موضح الطبعة أو السنة، ص83، 84. - وقد لخص الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في كتابه النظام القضائي في الفقه الإسلامي (دار البيان- بمدينة نصر- الطبعة الثانية (1994م) ، ص449 وما بعدها،وص 456) لخص فيه آراء من اتفق من العلماء مع ابن الغرس في قوة دلالة القرينة في المثال الذي ذكره، ومن عارضه في ذلك بما فيهم صاحب تكملة ابن عابدين.
11-
فالاستنباط كما سبقت الإشارة، لا يعدو أن يكون أمرا عقليا يقوم على استخلاص نتيجة يقينية مؤكدة من مقدمات قطعية، بحيث تتسلسل النتائج ويترتب بعضها على بعض ليكون آخرها متوقفا على أولها (1) .
وليس المقصود بالنتيجة اليقينية المؤكدة ما يكون قطعيا لا يتطرق إليه الاحتمال قط، فذلك لا يكون، في غير العلوم الطبيعية والنظريات الحسابية، إلا نادرا، والأحكام الشرعية لا تبنى على الحالات النادرة، وإنما المقصود هو العلم الذي قد يوجد مع احتمال نقيضه احتمالا غير ناشيء عن دليل، فاليقين أو القطع هنا شامل للظن الغالب، لأن وسائل الإثبات مهما كانت قوتها لا تخلو دلالتها من ظن.
12-
على أن معيار القطع في الإثبات الجنائي- يختلف عنه في الإثبات المدني مما يقتضي حرصا على التطبيق:
فمع أن القضاء ينشد الحقيقة في كلا المجالين، إلا أن الإثبات في المجال المدني محدود في منهجه وفي وسائله، فهو يقوم أساسا على الموازنة بين حجج الطرفين، والقضاء لمن تكون حجته ألحن من حجة خصمه، ومن ثم فإن الحقيقة الظنية الغالبة هي المطلوبة في هذا الإثبات.
(1) الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- مرجع سابق، ص134- 140.
أما في الإثبات الجنائي فالحقيقة المطلوبة هي الحقيقة التي لا يلابسها أي شك وبالذات في مجال الإدانة، فإذا وجد شك لدى القاضي تعين عليه الحكم بالبراءة.
ويترتب على ذلك أن القرينة في المجال المدني تقوم على الغالب الراجح، وهي فكرة تتسم بالمرونة لقابليتها لإثبات العكس، كما تتسم بالواقعية لأنها تستند على أساس عملي مما غلب وقوعه وتعارف عليه الناس في صورة ظاهرة ملموسة، بل إنه على ما يقوله الإمام القرافي: هو شأن الشريعة الإسلامية التي تقدم الغالب على النادر، فتمنع مثلا شهادة الأعداء والخصوم، لأن الغالب منهم الحيف
…
وتقول بأنه إذا دار الشيء بين النادر والغالب فإنه يلحق بالغالب
…
وقد أجمع الناس على تقديم الغالب على النادر في أمر البينة، فإن الغالب صدقها والأصل براءة الذمة ومع ذلك تقدم البينة إجماعا (1) .
(1) الإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي- الفروق- عالم الكتب- بيروت- الجزء الرابع من ص104- 111 ويلاحظ في فهم العبارات المتناثرة المنقولة عن القرافي- أنه رحمه الله ليس من أنصار القرائن، فهو يرى أن (قرائن الأحوال لا تثبت بها الأحكام والفتاوى وإن حصلت ظنا أكثر من البينات والأقيسة وأخبار الآحاد، لأن الشرع لم يجعلها مدركا للفتوى والقضاء) ، ص65 من ذات المرجع.
وليس معنى أن القرينة تعتمد في المجال المدني على الغالب الراجح، أن الإثبات الجنائي يتنافى مع هذه الفكرة، بل إنها تقوم فيه أيضا، ولكن كمرحلة من مراحل الوصول إلى الحقيقة، وقد تعين على الحكم بالبراءة، أما في الإدانة فلا تكفي وحدها، إذ لابد أن يرقى الدليل إلى مرحلة القطع، ولا يغني فيها- كقاعدة عامة- مجرد أن يكون من حق المتهم أن يثبت العكس، إذ ذلك، فضلا عما فيه من قلب لعبء الإثبات وإلقائه على عاتق المتهم على خلاف ما يوجبه الأصل الذي يقضي بأن المتهم برئ حتى يثبت إدانته، فإنه لا يصل بالقاضي- ضرورة - إلى ثبوت التهمة بحكم اللزوم العقلي، وهو أمر حتمي دفع بعض الشراح إلى عدم الاكتفاء في تعريف القرينة في المسائل الجنائية بأنها مجرد استنباط واقعة مجهولة من واقعة معلومة، لوجود رابطة بينهما، فاشتراط أن يكون هذا الاستنباط، ومن واقع التعريف ذاته، مبناه اللزوم العقلي الذي لا يقبل تحرر أي من الواقعتين من الرابطة التي تجمع بينهما (1) .
وتطبيقا لذلك فإنه إذا وضعت الزوجة ولدا على فراش الزوجية الصحيحة، فإن ذلك يعد قرينة على بنوة الابن لصاحب الفراش أخذا بالغالب الراجح، الذي يدل على أن الزوجة غالبا ما تكون قد حملت بهذا الولد من زوجها، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود القرينة، بأن تكون قد حملت من غيره، ولذلك فإن الزوج يستطيع- مدنيا- أن يثبت عكس القرينة عن طريق الملاعنة، فإذا لاعنها وانتفى نسب الولد، فإن ذلك لا يستتبع حتما الحكم عليها بالزنى إذ يدرأ عنها العذاب (الحد) أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
(1) الدكتور مأمون محمد سلامة- قانون الإجراءات الجنائية معلقا عليه بالفقه وأحكام النقض- دار الفكر العربي- الطبعة الأولى سنة (1980م) ، ص795- 799.
13-
هذه هي المعالم التي تميز القرائن وتكشف عن طبيعتها، ومصدرها وشروطها وطريقا في الاستدلال على الواقعة المراد أصلا- إثباتها.
ولعل مما يلقي الضوء بصورة أكثر إشراقا، هو محاولة التمييز بين هذه القرائن وما يشتبه بها من أمور.
14-
فقد سبقت الإشارة إلى أن القرينة تختلف عن الأمارة، فالأخيرة هي التي تشكل الواقعة التي يستخلص من ثبوتها القرينة الدالة على الواقعة المجهولة، فهي سابقة في الوجود العقلي على استخلاص القرينة، وهي لا تثبت الواقعة المدعى بها بذاتها، ولكن يستعان بالتخريج العقلي للوصول إلى هذا الإثبات (1) .
15-
وقد ترد العلامة بمعنى الأمارة مرادفة لها، وإن كانت في اللغة تستعمل فيما لا ينفك عن الشيء، أما الأمارة فهي التي يلزم من العلم بها الظن بوجود المدلول، كالسحاب بالنسبة للمطر فإنه يلزم من العلم بالسحاب الظن بوقوع المطر (2) .
16-
أما الفراسة فإنها تقوم على الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية على سبيل الظن والتخمين، وتستند إلى ما يفيض الله به على عباده من نور البصيرة، وقد تعتمد على وحي الضمير والإلهام النفسي وقوة الحدس، أكثر مما تعتمد على الماديات، ومن ثم فهي لا تصلح دليلا للقضاء لأنها كما تصيب أحيانا فقد تخطئ أحيانا أخرى، ومن أمثلتها الاستدلال باتساع الجبين على الذكاء وبعرض القفا على الغباء، والقول بالرأي اعتمادا على ما يشبه الإلهام دون أن يكون هناك سند ما يظاهر هذا القول (3) .
(1) المستشار الدكتور عوض محمد المر- المرجع السابق، ص14.
(2)
الدكتور محمد رأفت عثمان- المرجع السابق ص446 والمراجع المشار إليها فيه- الدكتور حميدة السقا- في الحكم بالقرائن والفراسة والقافة وعلم القاضي- رسالة دكتوراه مقدمة لكلية الشريعة مخطوطة ومحفوظة بمكتبة كلية الشريعة، ص85 وما بعدها.
(3)
الدكتور أنور محمد يوسف دبور- القرائن ودورها في الإثبات الجنائي- مرجع سابق، ص14- 15ت. - والقاضي برهان الدين إبراهيم بن على بن فرحون- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهاج الأحكام- مطبعة مصطفى الحلبي سنة (1378هـ/ 1985م) :(2/202- 203) .
17-
وتختلف القرائن أيضا عن الافتراض والحيل التي تقوم على إسباغ حكم لا شأن له بالواقع الحقيقي، على وضع معين، توصلا لترتيب غايات عملية، مستهدفة، فهو لا يقوم على الاحتمالات الغالبة الراجحة، كما تقوم القرائن، بل يؤسس على تصور يفترض فرضا، لكي تبنى عليه أحكام خاصة، ما كانت لتبنى لولا هذا التصور الافتراضي، وهو يستعصي بحكم طبيعته- على قبول إثبات العكس، بينما القرائن- بحسب الأصل- تقبل إثبات العكس.
ويمثلون له في الدراسات القانونية بافتراض العلم بأحكام القانون بعد نشره بمدة محددة تحديدا تحكميا، لا تلتقي مع العلم الواقعي الذي يتخلف عنها في الغالب الأعم من الحالات، ويبررون ذلك الفرض التحكمي باعتبارات الضرورة الاجتماعية متمثلة في العدالة والمصلحة، فأما العدالة فلأن إثبات العلم بأحكام كل قانون أمر عكسي، وأما المصلحة فلأنها تقتضي أن يؤخذ الجميع بالقانون سواء علموا به أو لم يعلموا، وإلا ترتبت نتائج شاذة، وانطوى الأمر على دعوة صريحة لعدم العلم بالقانون مادام الجهل به سوف يعفي من تطبيقه (1) .
(1) الدكتور هلالي عبد الله أحمد- النظرية العامة للإثبات في المواد الجنائية رسالة دكتوراه- دار النهضة العربية- الطبعة الأولى سنة (1987م) ، ص415 وما بعدها. الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- مرجع سابق، ص389 وما بعدها.
وقد نجد في الفقه الإسلامي تطبيقا لفكرة الحيلة الافتراضية حين يفترض العلم بأصل التحريم المجمع عليه لمن يقيم في دار الإسلام، فلا يعذر بادعاء الجهل بحرمة السرقة مثلا، ولو كان حقيقة لا يعلم، فالجهل بذلك إثم والإثم لا يبرر الجرائم (1) .
18-
على أن ما يلتبس حقيقة بالقرائن ويختلط بها هو القواعد الموضوعية المتصلة بالإثبات، وليست في الواقع منه، وإنما تمس موضوع الحق أو الدعوى التي تحميه سوء اتصلت بأسباب وجوده أو انتقاله أو انقضائه، وهي التي وإن كانت تستند في أصلها على الراجح الغالب من الوقائع إلا أنها لم تلبث أن تبرأت من تبعاته.
(1) الشيخ أحمد إبراهيم- مرجع سابق- ص430. الشيخ محمد أبو زهرة - العقوبة - دار الفكر العربي، ص210 وما بعدها.
فتحديد سن الرشد بسن معين إنما ينظر فيه إلى السن التي يصل فيها أواسط الناس وغالبيتهم إلى قدر معقول من الإدراك يعينهم على وزن التصرفات بروية وأناة وعلى تقدير تبعاتها في غير هوى وطيش، ولكن القاعدة التي تحدد هذه السن تكتفي بذكر النتيجة دون أن تشير فيها إلى العلة التي اقتضتها، وهي لا تقبل فيها إثباتا للعكس، فلا تقبل أن يقوم الدليل على أن الخصم، في واقعة محددة، قد رشد فعلا ونضج قبل هذه السن.
ومن ثم فإنها وإن اتفقت مع القرائن في أن الغالب الراجح له شأن معها، إلا أن هذا الشأن يطويه تاريخها فلا يظهر له أثر في تطبيقها، أما القرائن فالغالب الراجح له أثره الخطير في إعمالها، ويترتب على ذلك أن القاعدة الموضوعية لا تقبل إثبات أن الحالة المعروضة هي من الحالات النادرة التي يتخلف فيها الغالب الراجح، كما أنها لا تقبل النقض بالإقرار واليمين، لأنها ليست من قواعد الإثبات، حتى يعتبر الإقرار واليمين تنازلا ممن شرعت لمصلحته عن الإعفاء من الإثبات، بخلاف القرينة- حتى القاطعة منها- فإنها لا تخرج عن كونها من قواعد الإثبات، وبالتالي فإن الإقرار واليمين ينقضها (1) .
وتطبيقا على ذلك فقد أوضح فقهاء الشريعة الإسلامية القواعد الشرعية الموضوعية التي تحكم أهلية الأداء، وقالوا إن مرحلة انعدام الإدراك بولادة الصبي وتنتهي ببلوغ السابعة، وإن التمييز وإن لم يكن له سن معينة يظهر فيها أو يتكامل بتمامها، إلا أنه يتعين ربطها بالسنوات حتى يكون الحكم واحدا للجميع، ويسهل التعرف على التمييز لارتباطه بوصف محسوس يسهل ضبطه فلا تضطرب الأحكام: فالصبي يعتبر غير مميز مادام لم يبلغ سنه سبع سنوات ولو كان أكثر تمييزا ممن بلغ هذه السن، لأن الحكم للغالب وليس الأفراد (2) .
(1) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط الجزء الثاني- مرجع سابق، ص326، 619، 622، 782. الدكتور محمد عوض المر- المرجع السابق، ص44 وما بعدها. الدكتور عطية علي عطية مهنا- المرجع السابق، ص133- 134.
(2)
الأستاذ عبد القادر عودة المرجع السابق- الجزء الأول، ص610 بند 431 وقارن الدكتور عبد الحافط عبد الهادي عابد- الإثبات الجنائي بالقرائن رسالة دكتوراه- دار النهضة العربية، ص120 حيث أشار إلى أن تحديد سن الرشد هو قرينة قانونية قاطعة.
المطلب الثالث
أقسام القرائن
19-
إن تتبع الفقه الإسلامي في تطبيقاته المتناثرة للقرائن يكشف عن منهج محدد وطريق واضح المعالم، يسترشد به القاضي حين يعز الدليل المباشر أو يقصر عن حد الكفاية.
فقد سوغ الفقه الإسلامي، في هذه الحالة، للقاضي أن يكتفي في التدليل على وجود الواقعة المراد إثباتها، بالتحقق من ثبوت واقعة أخرى تقترن بها أو ترتبط معها، بحكم الغالب الراجح من الأمور، دون اعتداد في هذه الشأن بالحالات النادرة التي يتخلف فيها هذا الغالب، طالما أن من حق من يضيره هذا الاستنتاج أن يثبت عدم مطابقته للواقع في الحالة المعروضة على القضاء، بوصفها من الحالات النادرة.
ثم سار هذا الفقه العظيم في طريق القرائن شوطا أبعد، فأوضح أن المشرع قد يكشف للقاضي عن بعض القرائن: فيقضي في حالات معينة بأن وقائع محددة فيها تقوم شاهدا على الواقعة المراد إثباتها بحكم الغالب الراجح، ويرشد القاضي إلى أن يحكم بوجود الواقعة الأصلية عند تحقق أمارتها، ولكنه لا يجعل من هذا حتما مقضيا، وإنما يجيز للمتضرر من القرينة التي كشف عنها أن يثبت عكسها، تطبيقا في هذا للقواعد العامة التي تجري في شأن أدلة الإثبات جميعها، والتي تقضي بأن الدليل لا يحق أن يستعصي على مقارعة سائر الأدلة له.
فإذا رأى المشرع الحكيم لاعتبارات يتغياها، أن يبعد بالقرينة التي استخلصها عن أصل اشتقاقها من الراجح الغالب، فإنه يحكم بعدم قابليتها لإثبات العكس، وبذلك يصل إلى تقرير قطعية القرينة، دون أن يخرجها في الوقت ذاته عن دائرة الإثبات، ليكون في استطاعة من تقررت لمصلحته- بحسب الأصل- أن يتنازل عن قوتها بالإقرار أو اليمين، مما يعتبر نقضا للقرينة، وإن كان لا يعد إثباتا لعكسها إذ الإقرار يصدر ممن جعلت القرينة لإعفائه من الإثبات، بخلاف إثبات العكس فإنه ينصرف إلى من تقررت ضده القرينة، أما اليمين فهو احتكام إلى ذمة من تقررت لصالحه القرينة، فنكوله عن حلفها إقرار ضمني بحق خصمه واعتراف بالواقعة المدعى بها والتي أعفته القرينة من إثباتها (1) .
(1) المستشار الدكتور عوض محمد المر- المرجع السابق، ص24، 25. الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري - الوسيط - المرجع السابق - جزء أول ص688.
20-
وقد نصل من كل ما تقدم إلى أن القرائن في الفقه الإسلامي، قد يستخلصها القاضي بنفسه دون معونة مباشرة من المشرع، وقد يتولى ذلك عنه الشرع فيقوم بالاستخلاص، ويجيز للخصوم أن يثبتوا- في الحالة المعروضة- عكس ما استخلصه أو يمنعهم من ذلك، وإن كان لا يحول بينهم وبين الاحتكام إلى ذمتهم بالإقرار أو اليمين.
وهذا التدرج في القرائن المشار إليه هو ذاته مبنى التقسيم الذي سارت عليه الدراسات القانونية، حتى قسمت القرائن قضائية وقرائن قانونية، ثم قسمت الأخيرة إلى قرائن بسيطة تقبل إثبات العكس وقرائن قاطعة لا تقبله.
على أن بعض رجال القانون قد نازع في وجود القرائن القانونية القاطعة بدعوى أن طبيعة القرينة كدليل، يناقض أن تتحصن ضد مقارعة الأدلة الأخرى إياها، لأنها إن فعلت ذلك خرجت من حظيرة الإثبات لتدخل في عدد القواعد الموضوعية التي تخفي وراءها العلة من تشريعها، ولا يراعى في تطبيقاتها ابتناؤها على الغالب الراجح، فهي مفروضة على المتقاضين فرضا لا فكاك لهم منه، وليست صلتها بالغالب الراجح إلا صلة تاريخية اندثرت بتقريرها، وإن أفادت هذه الصلة فقهيا في شرحها والكشف عن مبرراتها في المرحلة السابقة على تشريعها (1) .
غير أن ما يقوله هؤلاء البعض من رجال القانون في شأن القرينة القانونية القاطعة، وإن سانده تأصيل علمي نظري سليم، إلا أنه لا يلتقي مع الحاجات العملية، ولا يدع الفروق بين القرائن والقواعد الموضوعية واضحة المعالم، مما أدى إلى كثير من الخلط بينهما، ودفع فريق من شيوخ القانونيين إلى الإقامة على موقفهم من تقسيم القرائن القانونية إلى قرائن قاطعة، وقرائن غير قاطعة، ومثلوا للأولى منها- في المجال المدني- بما قالوا أنه لا يحتمل الجدل، من مثل ما نص عليه القانون المدني المصري من قرينة قانونية قاطعة على ثبوت الخطأ في المسؤولية عن حارس الحيوان، وفي المسؤولية عن الأشياء، وفي المسؤولية العقدية في الالتزام بتحقيق غاية، وفي مسؤولية المستأجر عن الحريق (المواد 176، 178، 215، 584)(2) .
(1) الدكتور عبد المنعم فرج الصدة- الإثبات في المواد المدنية – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي- طبعة ثانية (1954م) ، ص296 فقرة 227 وما بعدها.
(2)
الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط، المرجع السابق:(2/612) .
أما في المجال الجنائي فقد مثل لها البعض بقرينة قوة الأمر المقضي في الأحكام الجنائية، ورأى آخرون أن كثيرا من القوانين الجنائية، ومنها القانون المصري، تفتقد أمثلة صحيحة للقرائن القانونية القاطعة (1) .
ذلك كله في الدراسات القانونية، أما دراسات الفقه الإسلامي فإن بعض الأقلام قد جرت فيه على استعمال مصطلح القرائن القضائية لما يستنبطه القاضي بنفسه، والقرائن الشرعية، لما تدل عليه النصوص الشرعية أو يرشد إليه أئمة الفقه، مع تقسيم هذه القرائن إلى قاطعة وغير قاطعة حسب قابليتها لإثبات العكس أو عدم قبولها ذلك، دون اهتمام واضح بالتفرقة بين القرائن الشرعية القاطعة والقواعد الموضوعية التي قامت في أصلها على الغالب الراجح، مما قد يكون معه من الأوفق، في المرحلة الماثلة، أن نسير على ذات النهج حتى لا تضطرب الاصطلاحات، وتتناقض المفاهيم، فضلا عن أن القرائن الشرعية القاطعة قد تجد أمثلة لها في المجال الجنائي باعتبار أنه لا يتحتم أن تستند جميعها إلى نصوص صريحة حتى يقال إنها تفتقد النص على الواقعتين اللتين يجتمعان حتما في القرينة وهما الواقعة الثابتة التي تقوم أمارة على القرينة والواقعة المستنبطة، فبعض هذه القرائن الشرعية يقوم على قواعد قال بها أئمة الفقه استنادا إلى قواعد عامة، ومن السهل صبها في قالب القرينة القاطعة، إن كانت الأحكام المقررة لها شرعا تسمح بنقض ما تدل عليه بطريق الإقرار أو اليمين، وإلا تعين صبها في قاعدة موضوعية، تنأى بها عن القرائن جميعها، إذ الأمر في ذلك كله مرجعه إلى الشرع، ولا تثريب على من يستنبط من قواعده، بطريق مباشر أو غير مباشر، أنه يرى جعل أمر معين قرينة قاطعة أو غير قاطعة أو أنه يخرج هذا الأمر من دائرة قواعد الإثبات ليدخله في القواعد الموضعية، فالمشرع هو وحده الذي يضع القرائن والقواعد وهو وحده الذي يقدر مدى قوتها (2) .
(1) الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- مرجع سابق- حيث يقول في ص343: (أكاد أجزم بأنه لا توجد قرائن قانونية قاطعة في القانون الجنائي المصري) ، ثم يقول في ص362 أن الشراح يجمعون (على أن قاعدة امتناع المسؤولية الجنائية لصغر السن تتضمن قرينة قانونية قاطعة
…
ولو أن المشرع قد نص على أن صغير السن أقل من سبع سنوات يعتبر غير مميز لسلمنا يقينا بأنها قرينة قانونية) .
(2)
الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، المرجع السابق:(1/640- 641) ، (2/600، 610، 712، 713) .
21-
وإذا كان المشرع هو وحده الذي يستقل بتقدير الاعتبارات التي تقتضي وضع القرائن الشرعية، القاطعة منها وغير القاطعة، إلا أنه قد يكون من المفيد أن نستعرض بعضا من هذه الاعتبارات لإلقاء الضوء على ما قد يعتبر منهجا للمشرع الحكيم:
فبعض هذه القرائن يكون تجاوبا مع المصلحة العامة، كتلك التي تهدف إلى استقرار المعاملات وحسم المنازعات من أمثال قرينة قوة الشيء المحكوم فيه التي تقتضي- في حدود معينة نص عليها الفقه الإسلامي- بعدم سماع الدعوى عن ذات النزاع مرة أخرى (1)
وقد يهدف إنشاء القرينة إلى الوقوف في وجه التحايل على بعض الأحكام الشرعية كالأحكام الخاصة بتوزيع التركة وتحديد الورثة وأنصابهم، التي تحميها قرينة تقضي بأن كل التبرعات المنجزة كالهبة المقبوضة والصدقة والوقف والإبراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبة للمال، إن كانت في مرض مخوف اتصل بالموت، فهي وصية تخرج من الثلث (2) .
وقد يتغيا المشرع من القرينة الشرعية مصالح الأفراد، كما لو كانت تمس منطقة يتعذر فيها الإثبات مع توقف مصالح خطيرة للأفراد عليها، وذلك كما في قرينة (الولد للفراش) ، فهي تستند إلى أمور خفية قد لا يتيسر إثباتها مع مساسها بمصالح خطيرة يتعرض لها الولد إن لم تطبق في شأنه هذه القرينة.
ومن ذلك أيضا ما يراه الحنابلة من اعتبار المفقود ميتا بعد مضي أربع سنوات من فقده في ظروف يغلب فيها الهلاك، كمن يفقد في قتال أو غرق مركب ولم يمكن الوقوف على حاله، ففي مثل ذلك قد يتعذر إثبات الوفاة الحقيقية مما تتعطل معه مصالح عديدة للمفقود وزوجه وأولاده وبعض أقربائه.
(1) الشيخ أحمد بن إبراهيم- مرجع سابق، ص429- 430. الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري- الوسيط المرجع السابق الجزء الثاني، ص640 هامش رقم 3.
(2)
موفق الدين ابن قدامة- المغني (المطبوع مع الشرح الكبير) دار الكتاب العربي سنة (1403هـ/ 1983م) : (6/491) . أبو بكر بن مسعود الكاساني- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع مطبعة الجمالية- الطبعة الأولى ت سنة (1910م) : (7/224- 228) .
22-
على أنه يتعين أن يوضع في الحسبان أن إنشاء القرينة الشرعية- أيا كان الباعث عليه0 لا يهدف أن تكون طريقا إيجابيا للإثبات، إذ أن مهمتها ليس الإثبات، وإنما الإعفاء من الإثبات، فالخصم الذي تقوم لمصلحته قرينة شرعية يسقط عن كاهل عبء الإثبات ويعتبر أنه قدم إثباتا كاملا على مدعاه، بعد أن قضى الشرع باعتبار أن الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة.
وليس الحال كذلك في القرائن القضائية، إذ هي طريق إيجابي للإثبات، يتوصل به الخصم إلى إثبات دعواه، ويقع عليه العبء في تقديمها، كما يقع على القاضي عبء التحقق من قيامها، بثبوت الواقعة التي هي أمارة، وسلامة استخلاص الواقعة الأصلية منها.
فوجود سند الدين تحت يد المدين قرينة قضائية ظاهرة على إيفاء الدين، وعلى القضاء أن يستوثق من وجود هذا السند في يد المدين وأن يستخلص من ذلك الوجود قرينة على الوفاء (1) .
(1) الشيخ أحمد إبراهيم- طرق القضاء- مرجع سابق، ص129. - ابن فرحون- مرجع سابق:(2/113) .
ووجود بصمات للمتهم في مكان الجريمة قرينة قضائية على ارتكابه إياها وعلى القاضي عند الاستدلال بها أن يتحقق من صحتها ومطابقتها لبصمات المتهم، ومن عدم وجود مبرر مقبول يشفع لوجودها في مكان العثور عليها، ثم عليه أن يستشف ما يقوده إلى استنباط ثبوت جريمة السرقة من هذه الواقعة الظاهرة، أو عدم ثبوتها.
وليس الأمر على هذا النحو في القرائن الشرعية، فالقرينة التي تدل على الإذن بالتزويج، المستقاة من سكوت البكر حين يستأذنها وليها، ليس على القاضي أن يستشف دلالة هذا السكوت على الإذن، فقد تكفل عنه المشرع بذلك لقوله صلي الله عليه وسلم:((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال: أن تسكت)) (1) .
والقرينة الشرعية التي تدل على عدم أحقية الناكل عن اليمين، تكفل الشارع ببيان أثر هذا النكول، فلا حاجة للخوض فيه من القاضي أو من الخصوم. (2)
(1) روي هذا الحديث بطرق مختلفة في صحيح مسلم وفي صحيح البخاري ومن ذلك ما أورده صحيح البخاري طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية- الطبعة الأولى سنة (1400هـ/ 1980م) الجزء الثامن، ص157 رقم 4488 ورقم 4489- وما أورده كتاب المعلم بفوائد مسلم- طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية أيضا تحقيق متولي خليل عوض الله وموسى السيد شريف- الجزء الأول، ص401.
(2)
ابن القيم- الطرق الحكمية مرجع سابق، ص25.
23-
غير أن إعفاء الخصم من الإثبات في حالة القرينة الشرعية لا يعني إعفاءه تماما من كل إثبات، إذ مازال عليه أن يثبت الواقعة التي تقوم عليها القرينة، والتي يعتبر الشرع أن إثباتها هو إثبات للواقعة الأصلية.
فالقرينة الشرعية القائمة على أن الولد للفراش، وإن أغنت عن إثبات أثر ولادة الولد على الفراش، وأغنت عن إثبات قوة الدليل، فإن على من يريد التمسك بها أن يثبت أن الولد قد ولد على فراش الزوجية بالمعنى المقرر شرعا، فعليه وفقا للرأي الراجح في الفقه- أن يثبت حصول الزواج مع إمكانية الدخول ومضي أقل مدة للحمل، وكون المولود ممن يولد لمثل من يراد نسبته إليه.
فإذا جحد الزوج الولادة، فإنه يجب إثباتها أولا، بالطريق التي يحق إثباتها به شرعا، فيجوز فيها- مثلا- الاكتفاء بشهادة امرأة واحدة لأن شهادتها هنا لتعيين الولد، أما النسب فثابت بالفراش ضرورة كونه مولودا في فراشه (1) .
(1) الشيخ محمد أبو زهرة- الأحوال الشخصية- دار الفكر العربي الطبعة الثالثة، ص387- 388. والدكتور عبد العزيز أبو عامر- الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية- دار الكتاب العربي- الطبعة الأولى (1381هـ/ 1961م) ،ص24، 129، 130.
24-
وإذا كان من واجب القاضي في استنباطه للقرائن القضائية أن يرعى التناسق بين الأدلة في الدعوى دون قيود شرعية محددة، على نحو ما سبق بيانه، فإن قبوله للدليل المثبت لعكس القرينة الشرعية غير مقيد- هو الآخر- بقيود خاصة، ما لم يقيده المشرع في ذلك، فهذا أو ذاك يستمد أصوله من مبدأ حرية القاضي في الاقتناع وسلطته في أن يمنح كل دليل القوة الموائمة له في حدود ما فرضه الشارع من قواعد.
ففي القرينة المستفادة من موت المفقود بموت أقرانه- على نحو ما يراه الحنفية، يجوز للقاضي أن يقبل إثبات عكس هذه القرينة بأي دليل يؤكد حياة المفقود مع موت أقرانه، ذلك لأن المفقود كانت حياته متيقنة عند فقده، فتظل معتبرة كذلك باستصحاب الحال، إلى أن يقوم الدليل على موته، (فإذا لم يظهر خبره، فظاهر المذهب أنه إذا لم يبق أحد من أقرانه حيا، فإنه يحكم بموته، لأن ما تقع الحاجة إلى معرفته فطريقه في الشرع الرجوع إلى أمثاله كقيم المتلفات ومهر النساء، وبقاؤه بعد موت جميع أقرانه نادر، وبناء الأحكام الشرعية على الظاهر دون النادر)(1)
فحياة المفقود ثابتة بالاستصحاب، وهو كما يقول الأصوليون: آخر مدار الفتوى، فيقوى على إثبات عكسه أي دليل آخر يناقضه.
وعلى خلاف ذلك أمر قرينة (الولد للفراش) ، فإن المشرع لم يجز إثبات عكسها إلا بوسيلة واحدة هي اللعان، وبذلك لا يجوز للقاضي أن يقبل غيرها في هذا الصدد.
ومثل ذلك أيضا ما جاء في الأشباه والنظائر (ص119) في شأن قرينة قوة الأمر المقضي من أن (المقضي عليه في حادثة لا تسمع دعواه ولا بينته إلا إذا ادعى تلقي الملك من المدعي أو ادعى النتاج أو برهن على إبطال القضاء
…
والدفع بعد القضاء بواحد مما ذكر صحيح وينقض القضاء، فكما يسمع الدفع قبله يسمع بعده ولكن بهذه الثلاثة) (2) .
(1) أبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي- المبسوط- دار المعرفة- بيروت سنة (1414هـ/ 1993م) الجزء الحادي عشر، ص35.
(2)
أورد هذا المثال وناقشه الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري في الوسيط المرجع السابق: (2/640) هامش 3.
المطلب الرابع
حجية القرائن، ومجال العمل بها
25-
قد لا يكون من المناسب- في مثل هذا البحث المحدود- أن نقف طويلا أمام حجية القرائن في الفقه الإسلامي، فالأمر مفصل فيما كتب من رسائل ومؤلفات والقول باعتبارها وسيلة صالحة للإثبات هو رأي الجمهور، وقد ترسموا فيما قالوه ما أقره النبي صلي الله عليه وسلم من استدلال بالقرائن في المسائل المدنية كاللقطة والقافة، أو في المسائل الجنائية كالقسامة، كما استوحوا فيما انتهى إليه ما ورد في القرآن الكريم من لوث في دعوى العرض، كما في قصة يوسف عليه السلام أو لوث في دعوى المال كما في شهادة أهل الذمة على المسلمين بالوصية في السفر، أو لوث في الأموال كما في سورة المائدة (الآيات 106، 107، 108)(1) .
ومن ثم، وقد وضح الحق على هذا النحو، فإنه لا يتصور أن يكون جدال بعض علمائنا الأفاضل في أمر القرائن، هو إنكار حقيقي للعمل بها، وإنما هو الخلاف في بعض الجزئيات أو على بعض التطبيقات.
وليس أدل على ذلك من الفقه الإسلامي- في جملته- يقر الاستدلال بالنكول عن اليمين، ويقدمه على أصل براءة الذمة مع أنه ليس إلا قرينة ظاهرة (2) ويأخذ فيما يشبه الإجماع (3) ، بوجود المسروقات في حوزة المتهم، كقرينة على ارتكابه الجريمة، إذا لم يبرر وجودها لديه ولو بمجرد الادعاء بالملكية (4) .
بل إن البعض ممن قال بعدم الأخذ بالقرائن، كالخير الرملي، من فقهاء الحنفية، أخذ بها في بعض الجزئيات، كما في منع سماع الدعوى إذا خالفت شاهد الحال، فقد صادق فيها على رأي الولوالجي، وهو قائم على القرائن (5) .
(1) ابن القيم - الطرق الحكمية - مرجع سابق، ص6-7.
(2)
ابن القيم- الطرق الحكمية- المرجع السابق، ص70، الشيخ أحمد إبراهيم - طرق القضاء مرجع سابق، ص430.
(3)
ابن القيم- الطرق الحكمية- المرجع السابق، ص7. - عبد القادر عودة- المرجع السابق:(2/599- 600) - البدائع للكاساني- المرجع السابق: (2/230) .
(4)
قارن الشيخ أحمد الدردير- الشرح الصغير- طبعة دولة الإمارات العربية المتحدة، السنة (1410هـ/ 1989م) الجزء الرابع، ص486.
(5)
الدكتور أحمد عبد المنعم البهي- من طرق الإثبات في الشريعة والقانون- المرجع السابق، ص85- 86. - الدكتور محمد رأفت عثمان- المرجع السابق، ص471- 472.
26-
وقد يكون من المفيد في الكشف عن حقيقة رأي علمائنا الأفاضل في شأن الاستدلال بالقرائن أن نشير إلى نماذج مختلفة توضح موقفهم منه، ونختار لذلك ثلاثة: هي الحدود والقصاص، والقافة.
27-
ففي الحدود يرى المالكية- بصفة عامة- اعتبار القرائن في الإثبات استنادا في هذا إلى وقائع مروية عن الصحابة رضوان الله عليهم ولم يثبت فيها نكير من أحد، ومن ذلك ظهور الحمل على امرأة غير متزوجة، أو شم رائحة الخمر من فم إنسان (1) ، بينما يرى الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة أن القرائن المشار إليها لا توجب الحد، لأن إثبات الجرائم الحدية لا يكون إلا بالإقرار أو الشهادة، ولم يستثنوا من ذلك سوى ضبط المسروقات في حوزة المتهم بسرقتها، إذا لم يدفع التهمة بأي دفاع ولم يدع ملكيته لها، وأضاف الشافعي، في جريمة القذف، أنه إذا لم يكن لدى المقذوف دليل آخر، كان له أن يستحلف القاذف، فإن نكل، ثبت القذف في حقه بالنكول (2) .
(1) شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقي- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير- مطبعة مصطفى محمد- المكتبة التجارية الكبرى سنة (1355هـ/ 1936م) الجزء الرابع، ص315- 352. - ومحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. - مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة (1371هـ/ 1952م) الجزء الثاني، ص429- 431. - وللحنابلة في الرائحة رأيان أحدهما أنه لا يحد، والثاني أنه يحد إذا لم يدع الشبهة. - يراجع في ذلك: علاء الدين أبو الحسن على بن سليمان المرداوي- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل- مؤسسة التاريخ العربي ودار إحياء التراث العربي- الطبعة الأولى: (10/223) .
(2)
الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- النظرية العامة للقرائن في الإثبات الجنائي- المرجع السابق، ص108 والمراجع المشار إليها فيه.
والمتتبع لثنايا أقوال الجمهور في رفضهم الأخذ بالقرائن في الحدود، يجد أنها تستند إلى حجة راجحة، ذلك لأنه في الحالات التي يقول بها المالكية وأمثالها، يتطرق الاحتمال إليها، مما لا يمكن معه القطع في دلالتها، فالحمل قد يكون بسبب آخر غير الزنى لا تعرفه المرأة أو لا تريد أن تفصح عنه، والرائحة التي تنبعث من الفم قد تكون للشراب أو طعام آخر له مثل رائحة الخمر، وإذا كانت لها فقد يكون مكرها أو لم يعلم أنها مسكر، وما دامت الشبهة قائمة لم تحسمها القرينة فلا يجوز توقيع الحد، عملا بما رواه الترمذي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال:((ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)) ، وهو حديث وإن كان فيه مقال، إلا أنه روي من طرق أخرى تعضده، وقد روي موقوفا ومرفوعا وتلقاه العلماء بالقبول (1) .
(1) محمد بن على بن محمد (الشوكاني) - نيل الأوطار- طبعة شركة الطباعة الفنية المتحدة: (7/118) . - وقد أخرج الحديث ابن ماجة من حديث أبي هريرة، وأخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي من حديث عائشة وأخرجه البيهقي أيضا عن عمر وعقبة بن عامر ومعاذ بن جبل موقوفا وأخرجه من حديث علي مرفوعا ادرؤوا الحدود فقط وأخرجه الطبراني موقوفا (الأشباه والنظائر للسيوطي طبعة مصطفى البابي الحلبي سنة (1959م) ، ص122) .
29-
وأما القافة، فقد فصل فيها القول الإمام ابن القيم، وأوضح أن سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم قد دلت عليها، وأن خلفاءه الراشدين وصحابته قد عملوا بها من بعده، وأن القياس وأصول الشريعة تشهد لها
…
وبذلك يكون ما قاله أبو حنيفة وأصحابه إليها، من عدم اعتبارها مخالفاً لجمهور الأمة، وفيه تفويت لمصالح يحرص الشارع على الحكم بها، إذ القافة إنما يحتاج إليها (عند التنازع في الولد نفيا وإثباتا، وحينئذ فإما أن يرجح أحدهما بلا مرجح، ولا سبيل إليه، وإما أن تلغى دعواهما فلا يلحق بواحد منهما،وهو باطل أيضا، فإنهما معترفان بسب اللحوق وليس هنا سبب غيرهما، أو أن يلحق بهما مع ظهور الشبه البين بأحدهما، وهو أيضا باطل شرعا وعرفا وقياسا، وإما أن يقدم أحدهما بوصفه لعلامات الولد، كما يقدم واصف اللقطة، والفرق بينهما ظاهر، فإن اطلاع غير الأب على بدن الطفل وعلاماته غير مستبعد، بل هو واقع كثيرا، فإن الطفل بارز ظاهر لوالديه وغيرهما، أما اطلاع غير مالك اللقطة على عددها وعفاصها ووعائها ووكائها، فأمر غاية في الندرة، فإن العادة جارية بإخفائها وكتمانها، فإلحاق إحدى الصورتين بالأخرى ممتنع (1)) .
ومن ثم فإن اعتبار الشبه في لحوق النسب لا مناص منه، طالما لم يقاومه سبب أقوى منه، كالفراش الذي يحكم به وإن كان شبه الولد لغير صاحبه، وكاللعان الذي لا يحكم معه بالإلحاق لأنه أقوى من الشبه قاطع للنسب.
(1) ابن القيم- الطرق الحكمية- المرجع السابق، ص11، 234 وما بعدها، ص244.
وقد نخلص مما تقدم أن الفقه الإسلامي يعطي للقرائن حقها في الإثبات، لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، فهو يهمل دلالتها إذا كانت موهومة ويعتبرها إذا كانت متفقة مع الغالب الراجح ولم يقم دليل على عكسها، فإذا اتصلت بإثبات الجرائم فإنه يتطلب أن تبرأ من الشبهات وعلى الأخص إن كانت دليل إدانة في الحدود والقصاص.
30-
وهذا الفقه الرائد- في شأن القرائن الذي يكل إلى القاضي التقاط الوقائع التي تعتبر أمارة عليها واستنباط الدليل المستفاد منها- لا يحدد مصادر معينة وإنما يترك التقدير للقاضي، مما يسمح له بأن يستفيد من خبرات البشرية ومنجزات العلم، وتطور المعرفة، وهي أمور أعانت القضاء كثيرا في الوصول إلى الحقيقة، وعلى الأخص عندما يعز لديه الدليل المباشر، بحكم طبيعة الأمر المعروض في الدعوى، كما في بعض المسائل المتصلة بالنسب، أو بحكم ما يعمد إليه الجناة أو الخصوم من طمس للحقائق أو تضليل وتعمية في الطرق الموصلة لها.
31-
وقد يكون من المناسب في هذا الصدد أن نكشف عن نماذج مما كشفت عنه التطورات العلمية الحديثة:
أ- ففي مجال البصمات كشف العلم عن إمكانية تحديد شخصية الفرد عن طريق مضاهاة بصمات أصابع اليد، أو راحة اليد، أو آثار الأقدام أو بصمة الأسنان، أو الأذن، أو بصمات فتحات العرق، أو بصمة الركبة أو الشفتين.
بل إن العلم، في تقدمه المتلاحق، أثبت أنه من الممكن إثبات نسب الولد عن طريق الشيفرة الجينية التي تنتقل من الأبوين إلى الجنين، وتستمر معه طوال حياته وفي خلاياه بعد موته.
ب - وفي مجال الفحص البيولوجي والفني، أثبت العلم أن في الإمكان الاستدلال على الشخص من شعرة واحدة، تجري عليها المضاهاة باستخدام التحليل الإشعاعي.
كما أن بالإمكان تحديد فصيلة الدم ومقارنتها بفصائل دم الوالدين للوصول إلى مدى صحة النسب، أو بمقارنتها بدماء المجني عليه أو المتهم، أو تحليل البقع الدموية عن طريق الأشعة فوق البنفسجية أو بالفحص الميكروسكوبي للاستفادة بذلك في الإثبات الجنائي أو المدني.
جـ- وفي مجال فحص الآلات والأجسام، أمكن للعلم أن يصل- عن طريق فحص الأتربة العالقة- إلى قرائن تفيد في إثبات الجريمة أو في إسنادها إلى فاعل محدد، وذلك تطبيقا لنظرية التبادل بين المواد المتلاصقة عن طريق المقارنة بن نوع التراب العالق بجسم المجني عليه أو المتهم أو ملابسهما أو متعلقاتهما، وبين الأتربة الموجودة بمكان الحادث، أو في الأماكن التي تعتبر مصدرا للأتربة موضوع المقارنة.
د- وفي مجال التصوير والتسجيل، أثبت العلم أن في الإمكان مضاهاة بصمة الصوت، أو القيام بالتسجيل عن بعد، أو تصوير الحوادث بعد وقوعها، أو التصوير عن طريق الأشعة غير المرئية (1) .
والعلم في ذلك كله- وفي غيره يقدم عناصر رائعة لقرائن تصل إلى اليقين أو ما يقرب منه، وتورث لدى القاضي طمأنينة تسمح له بالحكم في المسائل الجنائية والمدنية التي ترفع إليه، وإن كان ذلك لا يعفيه من ضرورة عرض الوسيلة المستخدمة على بساط البحث في الفقه الإسلامي للتحقق من مشروعيتها، وشرعية الحصول عليها قبل تطبيقها قضاء (2) .
(1) من بين المراجع التي اهتمت بالتطورات العلمية في مجال الإثبات: - الدكتور أبو اليزيد على المتيت- البحث العلمي عن الجريمة- دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية- طبعة أولى سنة (1976م) . - الدكتور أحمد ضياء الدين خليل- مشروعية الدليل في المواد الجنائية رسالة دكتوراه مقدمة لحقوق عين شمس سنة (1983م) . - الدكتور حسن ربيع- حقوق الإنسان والوسائل المستحدثة للتحقيق الجنائي- رسالة دكتوراه مقدمة لحقوق الإسكندرية سنة (1982م) والدكتور حسن على السمني- شرعية الأدلة المستحدثة من الوسائل العلمية رسالة دكتوراه مقدمة لحقوق القاهرة سنة (1983م) . - والمقالات المنشورة في مجلة الأمن العام أعداد: 3، 4، 7، 11، 13، 30، 40، 45، 47، 57، 60. - والمجلة الدولية للشرطة الجنائية- العددين: 330، 332.
(2)
من البحوث التطبيقية الرائدة في هذا المجال، بحثان عن البصمة الوراثية مقدمان في ندوة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالكويت المنعقدة في 13، 15 أكتوبر سنة (1998م) وأحدهما من فضيلة الشيخ محمد مختار السلامي، والثاني من الأستاذ الدكتور محمد سليمان الأشقر.
الخاتمة
32-
لا جدل في أن منهج الشريعة الإسلامية في الإثبات القضائي هو التيسير على الناس، بتنويع الدليل، وتوفير البديل لما يتعذر الحصول عليه عند الضرورة أو الحاجة: فإذا تعذرت الشهادة المبنية على المعاينة والمشاهدة، أمكن في نطاق ما تسمح به العدالة - أن يكتفى بالشهادة بالتسامع أو الشهادة على الشهادة- وإن تعذر نصاب الشهادة، أمكن الاكتفاء بأقل منه، كشهادة المرأة الواحدة في الحالات التي لا يطلع عليها غير النساء، وإن تعذر الدليل المباشر كله، أمكن الالتجاء إلى القرائن ليستعان بثبوت واقعة يمكن الوصول إليها، في إثبات الواقعة المنتجة في الدعوى، اعتمادا على الرابطة الوثيقة التي تربط بين الواقعتين والتي تجعل من الواقعة الأولى أمارة على وجود الواقعة الثانية.
وجريا على ذلك النهج، فإن الشريعة الغراء- وفقا للرأي الراجح - لا تحصر الأدلة في نطاق محدود لا يجوز للقاضي ولا للخصوم تجاوزه، فالبينة المطلوبة من المدعي تشمل كل ما يبين الحق ويظهره، والحقيقة التي يتعين عليه إثباتها هي الحقيقة القضائية التي يساندها الظاهر ولا تناقضها شواهد الحال التي تنقص من قوتها: فليس على القاضي بأس من أن يأخذ بأقوال الشهود العدول المزكين، إذا اطمأن، إلى شهادتهم، وإن كان العقل لا يمنع من احتمال كذبهم أو خطئهم، لسبب أو لآخر، كذلك ليس عليه حرج في أن يستند إلى الغالب الراجح الذي تعارف عليه الناس في صورة ظاهرة ملموسة، إذا تعذر الوصول إلى اليقين المطلق، طالما كان من حق المتضرر أن يثبت أن الحالة المعروضة هي من الحالات النادرة، التي لا تخضع- استثناء- لهذا الغالب الراجح، ولا يحال بين القاضي وبين هذا الطريق، إلا حين يتجه إلى الإدانة في المسائل الجنائية، إذ عليه في هذه الحالة أن يستخلص وجود الواقعة التي تثبت أركان الجريمة الجنائية ونسبتها إلى فاعلها، من أدلة لا يرقى إليها أي شك، ولو كان شكا لا يسانده دليل، أما الغالب الراجح، فإنه وإن كان يمكن أن يستند إليه مرحليا، فإنه لا يحق له الاستناد إليه وحده، اعتمادا على مجرد عجز المتهم عن تقديم الدليل العكسي، لما في ذلك من قلب لعبء الإثبات وإلقائه على عاتق المتهم الذي يشهد له أصل البراءة، فضلا عما فيه من مخالفة للقاعدة التي تقضي بأن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.
والاستناد إلى الغالب الراجح، هو ضرب من الاعتماد على القرائن، وهو لخطورته وخطورة آثاره، أحاطه الفقه الإسلامي بالضوابط التي تكفل له أن يعطي الثمار المطلوبة، فالقاضي وإن كان حرا في التقاط الأمارة من أي مصدر يراه، إلا أنه ملزم بأن يتحقق من ثبوت هذه الأمارة ومن صحتها، إذ هي مبنى الدليل، وهو لا يبنى على غير ما هو ثابت يقينا وصحيح قطعا، ثم إن عليه في استنباط ما تدل عليه الواقعة الملتقطة، أن يعمل فكره، وتجاربه القضائية وإن يخضع استنتاجاته للعقل والمنطق، حتى لا يخلص إلى دلالة موهومة، أو ضعيفة أو مناقضة لغيرها، وهي أمور تتطلب خبرة ورؤية لا مناص منها في القرائن القضائية، أما في القرائن الشرعية، فإن الشارع الحكيم يسر الأمر على القاضي حين أرشده عن القرينة التي تدل عليها الأمارة، وأعفى الخصم من إثبات ذلك، وإثبات القوة التي تعطيها هذه القرينة، وإن لم يعفه من إثبات الأمارة ذاتها، التي اعتبر الشارع أن إثباتها هو للواقعة الأصلية.
ولهذه المعاني المشار إليها غاير الفقه الإسلامي- في تطبيقاته- بين نوعي القرينة، فاعتبر القرينة القضائية وسيلة إيجابية للإثبات، بينما اعتبر القرينة الشرعية سندا للإعفاء من هذا الإثبات، أما القابلية لإثبات العكس، فإنها بحكم اشتقاقها من طبيعة الدليل التي تجعله لا يستعصي على مقارعة الأدلة الأخرى له، فإنها بحسب الأصل يجب أن تتوافر للقرائن جميعها، قضائية أو شرعية، إلا أن بعض الكتابات القانونية الحديثة جرت على تقسيم القرائن القانونية (الشرعية) إلى قرائن بسيطة تقبل إثبات العكس، وقرائن قاطعة لا تقبله، وقد لا تقبل أيضا النقض بالإقرار واليمين ومن ثم ولما كانت عدم قابلية القرينة للنقض بالإقرار باليمين من شأنها أن تخرجها من نطاق قواعد الإثبات لتدخلها في نطاق القواعد الموضوعية، فإنه قد يكون من الملائم، اعتبار تحصين المشرع لما وضعه من قواعد ضد القابلية لإثبات العكس والنقض كليهما هو إخراج له من عداد القرائن، وجعله بين القواعد الموضوعية دون نظر لأصل اشتقاقه من الغالب الراجح، أما حين يعتبره غير قابل لإثبات العكس، وإن قبل النقض بالإقرار واليمين احتكاما لضمير من يشهد له، فإنه يكون قد كشف عن بقاء القاعدة بين القرائن وعن استمرار عدها قاعدة من قواعد الإثبات بوصفها قرينة شرعية قاطعة.
وبذلك نبرأ من جدل يثيره القانونيون، لا جدوى منه في نظرنا، ونخضع لما هو مسلم من أن الأمر كله للمشرع فهو صاحب الحق وحده في أن يضفي على قاعدة معينة عدم القابلية لإثبات العكس أو النقض أن يجعلها قابلة لهما معا أو لأحدهما فقط.
على أنه أيا كان نوع القرينة، وسواء أكانت قضائية أم شرعية بسيطة قابلة لإثبات العكس والنقض، أم قاطعة غير قابلة لإثبات العكس، وإن قبلت النقض، فإن أهميتها- في أي نوع منها- لا تدخل تحت حصر، إذ هي إلى جانب ما يمكن أن تؤديه من تعزيز للأدلة المباشرة، فإنها قد تشكل دليلا قائما بذاته لاسيما في الوقائع المادية التي تمثل جانبا هاما ومؤثرا في الدعاوى القضائية، سواء أكانت وقائع طبيعية، أم إرادية كالأعمال غير المشروعة والجرائم الجنائية، بل إن أهميتها تتعدى- في الفقه الإسلامي- إلى إثبات التصرفات التجارية أو المدنية التي لا يعد لها وقت إنشائها الدليل الذي يكفي أصحابها شر التنكر لحقوقهم مستقبلا.
وبذلك ينفتح المجال أمام القرائن لاستخدامها في الاستدلال في المنازعات المختلفة، فلا تتأبى طبيعتها على أي نوع منها، وإن كانت بعض المنازعات، لا يستعان فيها بالقرائن لأمر خارج عنها، كتقييد المشرع الحكيم الإثبات بدليل غيرها، أو السماح لإثبات العكس بوسيلة سواها، أو التضييق من سلطة القاضي في الاقتناع بإلزامه بأن يبرئ هذا الاقتناع من أي شبهة ترد عليه، كما في الحدود والقصاص، التي يجب أن تدرأ الإدانة فيهما بأي شبهة.
وتبقى القرائن- بعد ذلك ملاذا يتجاوب مع ما تغرزه المجتمعات من تطورات، وما يستحدثه العلم من حقائق تصلح أساسا لوقائع الأمارات، أو هاديا لاستنباط القرائن، أو كاشفا عن قوة الدليل المستفاد من بعض الأمور، على أن يراعى في شأنها ما قرره المجمع الموقر في دورة مؤتمره العاشر بجدة، من تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، ودعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا وتجنب توظيفها بما يناقض الإسلام، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف استجابة لقول الله تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
وقد تخلص مما تقدم جميعه إلى اقتراح التوصيات التالية:
أولا: إن الفقه الإسلامي لا يأبى على المدعي أن يقدم- إثباتا لدعواه- أي دليل يثبت الحق أو يظهره، دون أن يحصره في دليل بذاته أو في طريق بعينه، إلا في حدود ما أوجبه الشارع الحكيم بالنسبة لبعض الواقعات.
ثانيا: إن الأحكام القضائية يجب أن تبنى على القطع، وأن تكون في نطاق ما فرضه الفقه الإسلامي من قواعد تتصل بالمشروعية وترعى حقوق المتقاضين، وتوفر لهم ضماناتهم.
ثالثا: إن على القاضي حين يستند إلى قرينة قضائية أن يتحقق من ثبوت الأمارة التي ترشد إليها، وصحتها، وقوة دلالتها، وله الاستعانة في هذا الشأن- بالغالب الراجح من الأمور بشرط أن يكون من حق من تشهد ضده القرينة أن يثبت عكسها في الواقعة المعروضة.
فإذا كان الإثبات جنائيا بالإدانة، فيجب أن يبرأ من أي شك، وأن يدرأ بالشبه، ولو أدى ذلك إلى إفلات المجرم الذي لا يقوم عليه الدليل القاطع، إذ الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.
رابعا: إن القرائن الشرعية التي ينص عليه الشارع الحكيم أو يستخلصها الفقه الإسلامي، تعفي من تشهد لمصلحته من إثبات الواقعة المراد- بحسب الأصل- إثباتها، غير أنه مع ذلك يجوز دحضها بالإقرار أو اليمين، كما يجوز إثبات العكس بأي طريق، إلا إذا منع المشرع من ذلك منعا مطلقا، أو حدد طريقا معينا لإثباته.
خامسا: إن الاستفادة من القرائن في الإثبات القضائي تتطلب مواكبة لتطورات العلم ومنجزاته المتلاحقة، على أن يراعى: في هذا الشأن ما قرره المجمع في مؤتمره العاشر من تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، وتجنيب توظيفها بما يناقض الإسلام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.