الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التضخم وعلاجه
على ضوء القواعد العامة
من الكتاب والسنة وأقوال العلماء
إعداد
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول
بكلية الشريعة والقانون – جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين. . وبعد:
فلا شك أن النقود تعتبر العمود الفقري للاقتصاد العالمي اليوم، فهي الوسيلة للتداول والتقييم، والمعيار للسلع والبضائع، ومن خلالها تعرف قوة الدولة الاقتصادية، أو ضعفها. .
وحينما كانت النقود معدنية (ذهبًا وفضة) لم تكن هناك المشاكل التي يعاني منها العالم اليوم سواء كانت على مستوى الأفراد، أم على مستوى الحكومات؛ وذلك لأنها كانت تحمل في طياتها قيمتها، حتى لو ألغيت قيمتها النقدية لظلت لها قيمتها الذاتية كمعدن نفيس يستعمل في التزيين وغيره، أما نقودنا الورقية فلو ألغيت، أو انهارت لم تبق لها أي قيمة تذكر، بل حتى لا يستفاد منها كورق يستعمل للكتابة ونحوها..
وخلال مسيرة النقود الورقية حدثت أزمات اقتصادية عالمية، ومشاكل كبرى كان لها دورها الكبير فيها، وخسر معها الكثيرون، بل تحول الغني فقيرًا في كثير من الأحوال، ومن سوء الحظ أن نصيب العالم الإسلامي من التضخم وانهيار النقود كان كبيرًا، فالليرة اللبنانية كانت في عام 1970م تساوي نصف دولار تقريبًا، واليوم يساوي ألف وخمسمائة منها دولارًا واحدًا، والليرة التركية نسبة التضخم فيها أكثر من ثلاثين مرة خلال (15) سنة، وكذلك الليرة السورية، والجنيه السوداني، وأما الدينار العراقي فكان سعره الرسمي عام 1990م - قبل الاحتلال - يساوي أكثر من ثلاثة دولارات، حيث الدولار يساوي (310 فلوس) أما اليوم فالدولار الواحد يساوي ألفًا وخمسمائة دينار.
فعلى سبيل المثال - حتى تتضح الصورة - كان الشخص الذي يملك (30.000) دينار عراقي عام 1990م كان غنيًا، حيث كان يساوي أكثر من (90.000) دولار، وكان بإمكانه أن يشتري به منزلًا وسيارة، أما اليوم فهو يساوي عشرين دولار فقط، وهو لا يكفي لاستضافة شخصين من الأكل العادي.
وأمام هذه الهزات العنيفة للنقود الورقية، والمشاكل الكبرى التي تحدث بين حين وآخر حاول مجمع الفقه الموقر التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي الوصول إلى حلول ناجحة لحماية أصحاب الحقوق منذ فترة مبكرة، ولخطورة الموضوع ظلت هذه المسألة تناقش في المجمع الموقر عدة مرات في دورته الخامسة، ثم السادسة والسابعة والثامنة، وقد كان القرار الصادر الذي صدر من المجمع الموقر في دورته الخامسة، والذي ينص على مثلية النقود؛ قرارًا صدر بالأكثرية، ولم يكن بالإجماع، ولذلك ظل مثار نقاش وعرض وطلب، حيث قدمت مذكرة إلى مجمع الفقه في دورته السادسة، وهكذا،
ثم عقد المجمع الموقر عدة ندوات لتعديل هذا القرار، ولا نزال ننتظر ذلك لتحقيق العدالة المطلوبة، وغرضنا جميعًا الوصول إلى الحق.
وفي هذا البحث سأتحدث في الفصل الأول عن التضخم في الاقتصاد الحديث بإيجاز شديد، ثم أتحدث في الفصل الثاني عن العلاج الفقهي على ضوء الكتاب والسنة والمبادئ العامة للشريعة وأقوال الفقهاء، والله نسأل أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل.
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
جامعة قطر – كلية الشريعة
الفصل الأول
التعريف بالتضخم وأسبابه وآثاره
(بإيجاز شديد)
التعريف بالتضخم والكساد:
التضخم في اللغة مصدر باب تفعّل يعني قبول الشيء للضخامة، وجاء في المعجم الوسيط " ضخُم – بضم الخاء – ضخامةً: عظم وغلظ..، التضخم:(في الاقتصاد) زيادة النقود، أو وسائل الدفع الأخرى على حاجة المعاملات " (مج)(1)
وفي الاقتصاد الحديث نرى أن أولى النظريات التي حاولت تفسير التضخم وربطه بالنقود هي نظرية البروفيسور (إفنج فشر) في مطلع القرن الحالى، حيث ربطت بين كمية النقود في المجتمع، وسرعة تداول النقود، وحجم الناتج القومى، والمستوى العام للأسعار (2) وذلك بأن تصدر الدولة قدرًا زائدًا من النقود الورقية لتغطية بعض نفقاتها، حينما لا تكفي الموارد العادية لذلك، وهذا يعني وجود عجز بسب عدم كفاية الموارد الاقتصادية لتغطية النفقات العامة، وهذا المعنى ينشغل به علم المالية العامة، بينما ينشغل علم الاقتصاد السياسى بالتضخم من ناحية ارتفاع متواصل للأسعار بسبب زيادة الطلب، فيؤدى إلى إصدار النقود بكميات أكبر (3)
(1) المعجم الوسيط، ط. قطر (1 / 536) ويراجع القاموس المحيط، ولسان العرب، مادة (ضخم) .
(2)
إفنج فشر: كتابه حول قوة النقود، ط. نيويورك (1911) ، ص8 المشار إليه في بحث د. محمود عبد الفضيل، مشكلة التضخم في الاقتصاد العربى، ط. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص 12.
(3)
د. محمود عبد الفضيل، المصدر السابق، ص12.
غير أن هذه النظرية قد وجهت إليها عدة انتقادات؛ لأنها تقوم على علاقة ميكانيكية لتأثير التغير في كمية النقود على مستوى الأسعار في الاقتصاد القومى، مع أن هذا التلازم بينهما غير مسلم، حيث قد ترتفع الأسعار لأسباب لا دخل لتغير كمية النقود فيها، لذلك لا يمكن أن ينظر فيها على أنها ظاهرة نقدية بحتة (1) ، فالمشكلة أكبر من أن تكون أحادية الظاهرة والسبب والتفسير، فهي متعددة الأبعاد، وأسبابها تتوزع على الجوانب النقدية والاجتماعية والدولية، وهيكلة النظام الرأسمالي، ولكن آثار هذه المشكلة تظهر مباشرة على النقود من حيث القوة والضعف والقدرة الشرائية، فتزداد الأسعار زيادة كبيرة، تستتبعها زيادة مماثلة في الأجور وزيادة نفقات الإنتاج وخفض معدل الربح.
ومن جانب آخر فإنه قد يكون هناك فعلًا تضخم، ولكن الدولة تتدخل فتمنع زيادة الأسعار من خلال الدعم ونحوه، ويسمى هذا النوع (التضخم المكبوت) .
(1) د. محمد خالد الحريري، قضايا اقتصادية معاصرة، ط. دمشق، ص 28.
أسباب التضخم:
ودراستنا هذه وإن لم تكن مخصصة لبيان أسباب التضخم ومعالمه، وكيفية علاجه، ولكننا نوجز القول في هذه المسائل حتى تكون على تصور متكامل للوصول إلى حكم مناسب؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فللتضخم أسباب كثيرة يمكن حصرها في تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يعيش منذ عدة عقود أزمة هيكلية حادة أدت إلى تدهور معدلات النمو الاقتصادي، وتعايش البطالة مع التضخم، وتزايد العجز في موازين المدفوعات، وركود التجارة الدولية، وانهيار نظام النقد الدولي، وبروز أزمة الطاقة، وتفاقم مشكلة الديون الخارجية وتقلبات أسعار المواد الاستهلاكية والإنتاجية، وتقلبات الإنتاج نفسه والعجز في ميزان المدفوعات، وارتفاع المديونية الخارجية الأمريكية لتصل على سبيل المثال في عام 1980م إلى رقم (175) مليار دولار.
كما أن نظام النقد الدولي الحالي يتحمل كثيرًا من أسباب هذا التضخم؛ وذلك لأن النظام النقدي الدولي الحالي قد أرسيت دعائمه في اتفاقية بريتون وودز عام 1944م على أساس المشروع الأمريكي الذي قدمه ريتشارد هوايت، مندوب أميركا بعد أن فشل مشروع اللورد كينز، واستطاعت أميركا أن تلعب دور القائد في صياغة نظام النقد الدولي الجديد، وتجديد قواعد اللعبة فيه طبقًا لمصالحها الخاصة، نظرًا لما كانت عليه حينئذ من قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية، حيث كانت الدولة الأولى، إضافة إلى أنها كانت تملك (80 %) من حجم الذهب في العالم، لذلك تمكنت من أن تجعل الدولار العملة الدولية في النظام في مقابل التزامها بقابلية تحويله إلى ذهب على أساس (35) دولار للأوقية من الذهب الخالص دون أية عوائق، ولذلك اكتسب الدولار ميزة لم تتحقق لغيره من العملات، حيث أصبح الدولار يعني الذهب الخالص، حتى حرصت البنوك المركزية في مختلف دول العالم على اقتنائه ضمن احتياطياتها النقدية جنبًا إلى جنب مع الذهب، بل إن حيازته تجلب لحائزه دخلًا في صورة فائدة ما كانت تعطى على الذهب، وهكذا غدا الدولار الورقي هو الصورة الرئيسة المجسدة للاحتياطيات الدولية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي (1)
وكانت اتفاقية (بريتون وودز) تتجه إلى تحقيق هدفين:
1-
تحديد قابلية العملات للتحويل على أساس الذهب.
2-
عدم لجوء أية دولة عضو إلى تخفيض سعر الصرف إلا بعد موافقة الصندوق.
(1) د. رمزي زكي، المرجع، ص 74.
والخلاصة: أن النظام النقدي الدولي قد صيغ بما يضمن مصالح أميركا، وأصبح يتوقف استقراره على الطريقة التي تحدد بها أميركا سياستها النقدية وأحوالها الاقتصادية، أو على حد قول ميلتون فريدمان:" إنه في ظل النظام القائم على الدولار، تتحدد السياسات النقدية في العالم بالسياسة النقدية التي يرسمها بنك الاحتياط الفيدرالي في واشنطون "(1) .
ولذلك لما أصبحت أميركا عاجزة عن توفير الغطاء الذهبي للدولار، أعلن الرئيس الأميركي نيكسون في أغسطس عام 1971م إيقاف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وهكذا، وبقرار منفرد سقطت أهم دعامه كان يقوم عليها نظام بريتون وودز، حيث تلاه تخفيض في الدولار في عام 1971م نفسه، فتلاه الإفراط في حجم السيولة النقدية، بل ظهرت السوق الأوروبية للدولارات التي بلغ حجم الموارد التي استخدمتها في هذه السوق عام 1980م حوالي (575) بليون دولار، حيث أصبحت أحد مصادر التضخم العالمي، وعائقًا ضد السياسات النقدية الداخلية التي تستهدف محاربة التضخم، إضافة إلى العجز في ميزان المدفوعات الأميركي.
ثم انعكست آثار هذا التضخم على معظم البلاد الإسلامية (والعالم الثالث) بسبب تبعتها اقتصاديًا للنظام الرأسمالي العالمي، حتى ولو كانت بعض هذه الدول لها مواردها الكثيرة، فإن ظاهرة التضخم تعتبر أحد المحاور الهامة التي يستند إليها الاقتصاد الرأسمالي الغربي في نهب خيرات بلادنا، وزيادة في تخلفها وتعميق تبعتها. (2)
(1) د. رمزي زكي، المصدر السابق، ص 76، ود. إسماعيل صبري عبد الله، بحثه المقدَّم إلى المؤتمر العلمي السنوي التاسع للاقتصاديين المصريين، القاهرة، (1984م) بعنوان: انهيار نظام بريتون وودز الإمبريالية النقدية الأميريكية.
(2)
د. رمزي زكي: التضخم المستورد، ". دار المستقبل العربي (1986م) ، ص 7، 8؛ ود. هشام مهروسة: بحثه في الأزمة الراهنة والوجه الآخر المنشور في دراسات عربية العدد 3 ص 21.
ويمكن أن نفصل أسباب التضخم في بلادنا، حيث إنها تعود إلى ما يأتي:
1-
الحروب الطاحنة التي وقعت في العالم الإسلامي، التي أكلت الأخضر واليابس، وحطمت البنية الاقتصادية من أساسها، كما في الصومال ولبنان وأفغانستان وغيرها، بل إن الحرب الخليجية الأولى (بين إيران والعراق لمدة ثمان سنوات) ، والثانية (الاحتلال العراقي للكويت) وما تبع ذلك، قد كلفت المسلمين تريليون وأربعمائة مليار دولار، كما في بعض الإحصائيات الأخيرة، ولذلك انهارت نقود بعض هذه الدول انهيارًا كاملًا.
2-
قلة الإنتاج، بل عدم الإنتاج في بعض الأحيان.
3-
خفض معدلات استغلال الطاقة الإنتاجية.
4-
الازدياد في الاستهلاك الحكومي والنفقات الاستهلاكية، ناهيك عن السرقات والاختلاسات في بعض الدول.
5-
الديون الخارجية وفوائدها المتراكمة دون استغلالها الاستغلالَ المطلوب.
6-
زيادة إصدار أوراق البنكنوت، وتخفيض سعر الصرف للعملة الوطنية، وتدخل صندوق النقد الدولي في هذا المجال.
7-
التضخم المستورد وبالأخص في الدول المصدرة للبترول، حيث يعود جزء كبير للتضخم إلى العوامل الخارجية.
من المتضرر؟ :
لا شك أن المتضرر على مستوى الأفراد:
1-
أصحاب الدخول الثابتة مثل الموظفين والعمال.
2-
مؤجرو الدور والعمارات والمحلات لمدة طويلة الأجل.
3-
أصحاب الديون المؤجلة الذين تتآكل حقوقهم على مدى الزمن البعيد.
مقدمات ضرورية:
قبل أن نخوض في غمار البحث، أرى من الضروري أن نذكر بعض مبادئ تكون ممهدات له وهي:
المبدأ الأول:
إن ما ورد فيه النص الثابت من الكتاب والسنة، الخالي من المعارض المعتبر، لا يجوز الاجتهاد بخلافه تحت أي غطاء، " فلا اجتهاد مع النص " لأنه الأصل وما عداه الفرع، فلا ينبغي أن يُعارَض الأصل بالفرع، ولكن ذلك لا يمنع من الاجتهاد في النص من حيث الدلالات والمعاني والعلل المعتبرات.
ولما كانت النقود الورقية حديثة العهد، لم تكن موجودة في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة والتابعين والفقهاء، وإنما ظهرت في عصرنا الحاضر، لذلك فباب الاجتهاد فيه مفتوح على ضوء القواعد العامة في فقهنا الإسلامي العظيم، ومن هنا فوجود الآراء السائدة فيها، سواء أكانت على شكل رأي فردي، أم رأي بعض مجامع فقهية، لا يمنع من طرح هذه القضية مرة أخرى، لاسيما إذا صاحبتها ظروف وملابسات جديدة لم تكن موجودة، أو لم تظهر بشكلها الحالي من قبل، للوصول إلى تأصيل الرأي المختار من خلال الأطر العامة والقواعد الكلية للشريعة الغراء، مع ملاحظة ما جَدّ فيها من أمور لم تكن موجودة من قبل.
المبدأ الثاني:
إن الاجتهادات المبنية على المصلحة تدور معها وجودًا وعدمًا، وقد عقد ابن القيم لها فصلًا في كتابه القيم: إعلام الموقعين، وسرد لذلك أمثلة كثيرة.
المبدأ الثالث:
رعاية المقاصد والمبادئ الأساسية والقواعد الكلية التي انبثقت من الشريعة الغراء مقدمة على رعاية الجزئيات والفروع، ولاسيما إذا كانت اجتهادية، فمن هذه المبادئ: مبدأ العدل وعدم الظلم، الذي جاء لأجله الإسلام، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب.. والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم، وعن الميسر لما فيه من الظلم "(1) ، والإسلام هو العدل المطلق في كل الاعتبارات والأحوال، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، ولذلك أمر بتحقيق العدالة حتى مع المرابين:{لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فكيف لا يطبق هذا المبدأ على الدائنين؟
ومن هذه المبادئ والقواعد العامة قاعدة: ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) التي هي حديث نبوي شريف تلقته الأمة بالقبول، وأصبح من الكليات التي عليها مدار الفقه الإسلامي.
(1) مجموع الفتاوى: 20 / 510.
(2)
رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، ص 64؛ وأحمد في مسنده: 5 / 327؛ والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه المطبوع مع المستدرك 2 / 57.
المبدأ الرابع:
مراعاة حقيقة الشئ دون الشكل والاسم فقط، ومن هنا لابد من رعاية الجانب التاريخي، والمراحل التي مرت بها النقود الورقية، والظروف التي أحاطت بكيفية ظهورها، حيث كانت في البداية بمثابة ورقة توثيق وسند بالذهب المودع عند الصراف أو البنك، ثم تبنتها الدولة بغطاء كامل، ثم بغطاء ناقص، ثم ألغت هذا الغطاء – كما سيتضح فيما بعد – ومن هنا، فما قاله العلماء حولها لابد من رعاية هذا الجانب التاريخي، فلا نحمل قولهم في فترة زمنية محددة بخصوص النقد الورقي على إطلاقه وعمومه، بل لابد من ملاحظة هذا البعد التاريخي والظروف التي لابسته.
فعلى ضوء هذه المبادئ العامة، والمقاصد العامة للشريعة، والنصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نسير في إلقاء المزيد من الضوء على هذه المسألة المهمة التي تمس حياتنا المعاصرة، باحثين عن كل مسألة فقهية تتعلق بها في بطون الكتب الفقهية، مهما كانت متناثرة؛ كي تكون تأصيلًا لها، وبمثابة جذور تعتمد عليها.
السياسية النقدية في الإسلام على ضوء الكتاب والسنة:
عني العلماء المسلمون بالسياسة النقدية وأولوها عناية كبيرة، وناطوها بالإمام ضمن وظائفه السلطانية، قال الإمام أحمد:" لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان؛ لأن الناس إن رُخص لهم ركبوا العظائم، فقد منع من الضرب بغير إذن السلطان؛ لما فيه من الافتيات عليه ". (1) ولما فيه من المخاطر العظيمة، كما أوجبوا على الدولة الإسلامية أن توفر للنقود جوًا من الاستقرار والثبات، وتبعد عنها كل الوسائل المؤدية إلى اضطرابها وتذبذبها، ولذلك حُرِّم الغش فيها، وشُدِّدَ في ذلك أكثر من غيره، باعتبار أن النقود معايير للأشياء، فأضرار الغش فيها أكثر خطورة، وأشد ضررا وإضرارا، يقول ابن خلدون:" ولفظ السكة كان اسما للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها، وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك، والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه، وهي الوظيفة، فصار عَلَمًا عليها في عرف الدولة، وهي وظيفة ضرورية للملك، إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان "(2)
وقد نهى القرآن الكريم عن الغش في الكيل والميزان وبخس النقود فقال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85]، وقال تعالى على لسان شعيب أيضا:{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] . وقد ذكر المفسرون أن المراد بالبخس هو قطع الدراهم والدنانير والإنقاص منها والغش فيها، يقول القاضي أبو بكر: " قال ابن وهب: قال مالك: كانوا – أي قوم شعيب – يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماع من المفسرين المتقدمين، وكسر الدنانير والدراهم ذنب عظيم؛ لأنها الواسطة في تقدير قيم الأشياء، والسبيل إلى معرفة كمية الأموال، وتنزيلها في المعاوضات حتى عبر عنها بعض العلماء بأنها القاضى بين الأموال عند اختلاف المقادير، أو جهلها، وإن حبسها ولم يصرفها، فكأنه حبس القاضي وحجبه عن الناس، والدراهم والدنانير إذا كانت صحاحا قام معناها، وظهرت فائدتها، فإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت الفائدة فيها، فأضر ذلك بالناس، فلأجله حرم. وقد قال ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض، وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية، وفسرها به، ومثلها عن يحيى بن سعيد من رواية مالك عنهم كلهم.
وقد قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] .
(1) الأحكام السلطانية للقاضى أبي يعلى، ط. مصطفى الحلبى، ص 181؛ وراجع المجموع للنووى.
(2)
المقدمة، ط. عبد السلام بن شقرون بمصر، ص 229.
قال زيد بن أسلم: " كانوا يكسرون الدراهم والدنانير"(1) ، وقد شدد العلماء في عقوبة الغش في النقود، فقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه جعله من الفساد في الأرض (2)، ولذلك نرى مجيء النهي عن الإفساد في الأرض بعد قوله تعالى:{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} في الآيتين السابقتين، بل إن بعض العلماء ذهبوا إلى عدم قبول شهادته، قال ابن العربي: " قال أصبغ: قال عبد الرحمن بن القاسم: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهاله لم يعذر
…
" ثم قال القاضي: " إذا كان هذا معصية وفسادا يرد الشهادة، فإنه يعاقب من فعل ذلك، واختلف في عقوبته على ثلاثة أقول:
الأول:
قال مالك: يعاقبه السلطان على ذلك هكذا مطلقا، (أي يناط الأمر في عقوبته باجتهاد الإمام، حسب الظروف والملابسات التي تحيط بكل قضية) .
الثانى:
قال ابن المسيب – ونحوه عن سفيان: إنه مر برجل قد جلد، فقال ابن المسيب: ما هذا؟ فقالوا: رجل كان يقطع الدراهم، قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض، ولم ينكر جلده.
الثالث:
قال أبو عبد الرحمن التجيبى: كنت عند عمر بن عبد العزيز قاعدا، وهو إذ ذاك أمير المدينة، فأتي برجل يقطع الدراهم، وقد شُهِد عليه، فضربه وحلقه، فَأَمَرَ فطيف به.. ثم قال له: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن قد تُقُدِّمْتُ في ذلك قبل اليوم، فقد تَقَدَّمْتُ في ذلك فمن شاء فليقطع. قال ابن العربى معلقا على هذا:" وأما قطع يده، فإنما أخذ ذلك عمر – والله أعلم – من فصل السرقة، وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص القدر، فهو أخذ مالا على جهة الاختفاء.. وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدراهم والدنانير " ثم قال: " وأرى القطع في قرضها دون كسرها، وقد كنتُ أفعل ذلك أيام توليتي الحكمَ "(3) .
وقد اعتبره أحمد أيضا في رواية من الفساد في الأرض، حيث سئل عن كسر الدراهم؟ فقال:" هو عندى من الفساد في الأرض "(4) ، وذكر القاضي أبو يعلى أن مروان بن الحكم قطع يد رجل قطع درهما من دراهم فارس، وروى ابن منصور أنه قال لأحمد:" إن ابن الزبير قدِم مكة فوجد بها رجلا يقرض الدراهم فقطع يده "(5)
كل ذلك يدل على مدى الأهمية، والمخاطر التي تنجم عن التلاعب بالنقود الذي يترتب عليه الظلم، وهضم الحقوق، واضطراب الأحوال والأسواق.
(1) أحكام القرآن لابن العربي، دار المعرفة (3 / 1063) .
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
أحكام القرآن: 3 / 1065 – 1066.
(4)
الأحكام السلطانية للقاضى أبي يعلى، ص 182 – 183.
(5)
المصدر السابق نفسه.
قال الشيخ رشيد رضا: " والبخس أعم من نقص المكيل والموزون؛ فإنه يشمل غيرهما من المبيعات كالمواشى والمعدودات، ويشمل البخس في المساومة، والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وكذا بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل "(1)
وإذا تدبرنا في الآيات الخاصة بمنع البخس نرى أنها تضمنت في المكانين النهي عن الإفساد، والتأكيد على أن التوحيد وعدم البخس هو الخير، ففي سورة الأعراف:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85] .
وفي سورة هود: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85 – 86] ، حيث يدلان بوضوح على مدى العلاقة الوثيقة بين الإفساد والبخس وعدم الوفاء بالكيل والميزان بالقسط، ثم التأكيد فيهما على أن التوحيد والالتزام بالعدالة وعدم بخس الأشياء والنقود، يعود بالنفع والخير على المجتمع وعلى الإنسانية جميعا، وما نراه الآن من مشاكل التضخم والديون يؤكد ذلك، ويبرهن على أن إصلاح المجتمع وسعادته، لا يتمان إلا من خلال العدالة والحفاظ على الاستقرار والتوازن المطلوب، هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى القرآن الكريم أمر البشر بعبادة الله وحده، ثم دعاهم إلى العدالة وعدم الغش، مما يدل على أن القدرة على الإصلاح لا تتأتى إلا إذا كانت قد سبقها الإعداد الروحي الإيمانى، يقول الأستاذ رشيد رضا:" فالتحقيق الذي ثبت بالدلائل العقلية والنقلية والتجارب الدقيقة؛ أن ملكات الفضائل لا تطبع في الأنفس إلا بالتربية الدينية "(2)
(1) تفسير المنار، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب: 8 / 468.
(2)
المصدر السابق: 8 / 473.
ويقول ابن رشد: " الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير الدائمة التي تجوز عددا بغير وزن، فإذا قطعت، فردت ناقصة، غش بها الناس، فكان ذلك من الفساد في الأرض، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] : أنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم؛ لأنه كان قد نهاهم عن ذلك.. "(1)
وقد حرم الإسلام الغش في كل شيء، ومنه النقود، فقال صلى الله عليه وسلم:((من غشنا فليس منا)) (2) ، كما دلت السنة المشرفة على حرمة كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا إذا كان فيها أمر يقتضي ذلك، فقد روى أحمد والحاكم وأبو داود وابن ماجة بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. (3)
قال الشوكانى: " وفي معنى كسر الدراهم.. كسر الفلوس التي عليها سكة الإمام، ولا سيما إذا كان التعامل بها جاريا بين المسلمين كثيرا. والحكمة في النهي: ما في الكسر من الضرر بإضاعة المال، لما يحصل من النقصان في الدراهم ونحوها إذا كسرت، وأبطلت المعاملة بها، ولا يخفى أن الشارع لم يأذن في الكسر إلا إذا كان بها بأس، ومجرد الإبدال لنفع البعض ربما أفضى إلى الضرر بالكثير من الناس، وقال أبو العباس بن سريج: إنهم كانوا يقرضون أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض، ويخرجونهما عن السعر الذي يأخذونهما به، ويجمعون من تلك القراضة شيئًا كثيرًا بالسبك، كما هو معهود في المملكة الشامية وغيرها، وهذه الفعلة هي التي نهى الله عنها قوم شعيب بقوله: "{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} ، فقالوا:{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} يعني الدراهم والدنانير {مَا نَشَاءُ} [هود: 87] من القرض – أي القطع – ولم ينتهوا عن ذلك، فأخذتهم الصيحة" (4)
(1) البيان والتحصيل، ط. دار إحياء التراث الإسلامي: 6 / 474.
(2)
رواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه: 1 / 99؛ وأحمد في مسنده: 2 / 50، 142، 417؛ وابن ماجة: 2 / 749؛ والترمذي – مع التحفة: 4 / 544؛ وأبو داود – مع العيون، ص 321/9؛ والدارمي: 2 / 164.
(3)
انظر سنن أبي داود مع عون المعبود: 9 / 318؛ ومسند الإمام أحمد: 2 / 419؛ وسنن ابن ماجة: 2 / 761؛ ، (سكة) بكسر السين هي الدراهم والدنانير المضروبة على السكة الحديد المنقوشة، انظر: نيل الأوطار: 6 / 384.
(4)
نيل الأوطار: 6 / 384، 385؛ وعون المعبود: 9 / 318، 319.
وقد تكلم الفقهاء عن واجبات الإمام نحو إصدار النقود، حيث حصروه عليه، ولم يسمحوا لغيره من المؤسسات الخاصة بإصدارها، وترتب على ذلك أن يكون حجم النقود بالقدر المطلوب، بحيث لا يؤدي إلى تضخم أو انكماش، بالإضافة إلى أن الطلب على النقود في إطار الإسلام ليس في اكتنازها واختزانها، ولا لاستخدامها في إحداث التلاعب في أسعار السلع، وإنما هو ينصرف إلى دافع المعاملات، الأمر الذي يُحدث قدرًا كبيرًا من التوازن بين الكمية المعروضة، والكمية المطلوبة من النقود، ويدل على ذلك تحريم الاكتناز، بل إن فرض الزكاة على النقود، يجعل صاحبها لا يفكر في الاختزان المجرد، وإلا فتأكلها الصدقة والنفقة؛ وذلك لأن مهمة النقود أن تتحرك وتتداول، لا أن تكتنز وتحبس، فتؤدي إلى كساد الأعمال وانتشار البطالة، وركود الأسواق، وانكماش الحركة الاقتصادية (1) ، ولذلك اقترح بعض علماء الاقتصاد الغربيين أن يحدد للنقود تاريخ للإصدار والانتهاء، بحيث تفقد قيمتها بعد مضي مدتها، فحينئذ لا تكون قابلة للاكتناز والادخار. (2)
ولم يكتف الفقهاء بمجرد إناطة إصدار النقود إلى الإمام بل قالوا: " ينبغي ألا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة ومخالطة بالنحاس، بأن يشتد فيها، ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظَفر به أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق، لينكله ويشرد به من خلفه، لعلهم يتقون عظيم ما نزل من العقوبة، ويحبسه بعد على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق، حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم، فإنَّ هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه، ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم (3)
(1) د. شوقي دنيا، تقلبات القوة الشرائية للنقود، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر، العدد (41) ، ص 55.
(2)
أ. د. يوسف القرضاوي، فقه الزكاة: 1 / 242.
(3)
المعيار المعرب: 6 / 407.
وقد حذر شيخ الإسلام ابن تيمية من المخاطر الناجمة عن شيوع العملات الزائفة، مبينًا مسؤولية الإمام نحوها، فقال: " ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسًا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلًا. . . ولا بأن يُحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموال الناس بالباطل، فإنه إذا حرّم المعاملة بها، حتى صارت عرضًا، وضرب لهم فلوسًا أخرى؛ أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها، فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.
وأيضًا فإذا اختلفت مقادير الفلوس، صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارًا فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس " (1)
وقد ذكر فقهاؤنا الأجلاء أن فساد النقود دليل على فساد السياسة، قال القاضي أبو يعلى:" وقد كان الفُرس عند فساد أمورهم، فسدت نقودهم"، ولذلك لم يُجوّز الحنابلة – في الرواية الراجحة – إنفاق المغشوشة، فقال أحمد في رواية محمد بن إبراهيم، وقد سأله عن المزيفة فقال:" لا يحلٌُّ "، قيل له: إنه يراها ويدري أي شيء هي؟ قال: " الغش حرام وإن بيّن " هذا إذا كان الغش بيّنًا، أما إذا كان الغش لا يظهر فلا يجوز، رواية واحدة " (2)
(1) مجموع الفتاوى: 29 / 469.
(2)
الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى، ص 179 – 180؛ ويراجع المغني: 4 / 57؛ وراجع الأحكام السلطانية للماوردي، ص 176؛ والروضة: 2 / 258.
ويقول السيوطي: يكره للإمام إبطال المعاملة الجارية بين الناس، وقال الشافعي والأصحاب: يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة؛ للحديث الصحيح: ((من غشنا فليس منا)) ؛ ولأن فيه إفسادًا للنقود وإضرارًا بذوي الحقوق وغلاء الأسعار، وغير ذلك من المفاسد، ومن ملك دراهم مغشوشة، كُرِهَ له إمساكها، بل يسكبها ويصفيها (1)
وقد اتخذ الفقهاء عدة وسائل علمية، لمنع تداول العملات المغشوشة، إضافة إلى تحريمها، وفرض العقوبات على من يقوم بصنعها وتداولها، والترهيب بالعذاب الأخروي عليها. . من هذه الوسائل أن العملات المضروبة الصحيحة السالمة الكاملة، هي التي يقع عليها العقود والحقوق عند ذكرها مطلقة، ومنها امتناع العاملين على الخراج والصدقات والجبايات من أخذ المغشوشة، يقول الماوردي، وأبو يعلى:" وإذا خلص العين والورق من غش كان هو المعتبر في النقود المستحقة، والمطبوع منها بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعها، المأمون من تبديلها وتلبيسها، هي المستحقة، ولذلك كان هو الثابت في الذمم فيما يطلق من أثمان المبيعات وقيم المتلفات، فأما مكسور الدراهم والدنانير فلا يلزم آخذه في الخراج؛ لالتباسه وجواز اختلاطه، ولذلك نقصت قيمتها عن المضروب الصحيح"(2)
(1) قطع المجادلة عند تغيير المعالمة – مخطوطة – وراجع المجموع: 6 / 10.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردي، ص 176؛ والأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 181.
الفصل الثاني
العلاج الفقهي
1 -
المبادئ العامة.
2-
التأصيل الفقهي للمسألة.
العلاج عن طريق المبادئ العامة
أولًا – مبدأ العدالة وعدم الظلم:
لا أحد يستطيع أن ينكر الأضرار الناجمة من التضخم، والمظالم التي تقع على الدائنين، وأصحاب الدخول الثابتة، والمؤجرين ونحوهم – كما سبق – ولكن بعض الباحثين يلقون بالملامة على الحكومات والأزمات، غير أن ذلك - مع التسليم بصحته في بعض الأحيان - لا يُجيز إبقاء المظالم والأضرار على هؤلاء المتضررين، ولا يعفي الفقهاء من البحث عن الحلول الوقتية الواقعية، فالفقه هو علاج الواقع على ضوء قواعد الشريعة الإسلامية الغراء ومبادئها السامية؛ وذلك لأن إصلاح النظام النقدي الدولي أو الإقليمي ليس بأيدينا، بل يحتاج إلى سياسات دولية اقتصادية ناجحة تشترك فيها جميع الدول المؤثرة، وهذا ما نتمناه، وندعو إليه، ونحمّلها المسؤولية، لكن هل يعني ذلك أن نترك علاج الواقع لعشرات السنين، وهل نقول لهؤلاء المتضررين الذين أعيدت إليهم نسبة قليلة من حقوقهم بسبب التضخم: عليكم بالصبر إلى ذلك اليوم الموعود حينما ينصلح النظام النقدي!
فإذا كان الظلم مرفوعًا عن أحكام هذه الشريعة حتى في باب الربا عندما يتوب المرابي {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فكيف يُقرَّر الظلم في باب القروض والديون التي مبناها على الإحسان، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:((خياركم أحسنكم قضاءً)) (1) .
وإذا كانت القاعدة العامة في هذه الشريعة أن الضرر يُزال، فيجب أن تزال الأضرار الواقعة على الدائنين - ومَنْ في حكمهم - من خلال حل عادل لا يضار فيه دائن ولا مدين.
(1) جاء في الصحيحين أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أعطوه)) فقالوا: لا نجد إلا سنًا أفضل من سنه. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) . انظر: صحيح البخاري – مع فتح الباري -: 5 /56 – 59؛ ومسلم: 3 / 1224؛ والترمذي – مع تحفة الأحوذي -: 4 / 544؛ والنسائي: 7 / 256؛ وسنن أبي داود مع عون المعبود: 9 / 1996؛ والموطأ، ص 422؛ والرسالة، الفقرة (1606) ؛ ويراجع تلخيص الحبير:(3 / 34) .
الأدلة من الكتاب والسنة:
أولًا: إن الآيات الواردة بخصوص حرمة الظلم وتحقيق العدالة، وكذلك الأحاديث الواردة في ذلك أكثر من أن تحصى، يكفي أن نذكر آية الربا حيث تقول:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} [البقرة: 279] قال الجصاص: " يعني أن إبطال ما بقي من الربا لا يبطل رأس المال، بل هو دين عليه يجب أداؤه"(1)، بل إن المفسرين قالوا: إنه إذا أبطل الربا بين المتعاملين يجب على المدين الإسراع بدفع رأس المال فورًا ما دام قادرًا (2) ، وأن الدائن له الحق أن يأخذ حقه دون رضا المدين، قال الجصاص:" قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه؛ لأنه تعالى جعل اقتضاءه ومطالبته من غير شرط رضا المطلوب، وقوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} يعني - والله أعلم -: لا تَظْلِمُونَ بأخذ الزيادة، ولا تُظْلَمُونَ بالنقصان من رأس المال، فدل ذلك على أنه مَن امتنع من أداء جميع رأس المال إليه كان ظالمًا له مستحقًا للعقوبة"(3)
فهذه الشريعة تقوم أساسًا على العدل والميزان، كما أن السماوات والأرض تقوم على ذلك، يقول ابن القيم:" فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه "(4)، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب "(5) .
(1) أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر: 1 / 473.
(2)
المحرر الوجيز، ط. قطر: 2 / 490.
(3)
أحكام القرآن للجصاص: 1 / 474؛ ويراجع أحكام القرآن لابن العربي، ط. دار المعرفة: 1/ 245؛ وتفسير الماوردي، ط. الكويت: 1 / 292.
(4)
إعلام الموقعين، ط. النهضة المصرية 1968: 3 / 3.
(5)
مجموع الفتاوى، ط. السعودية: 20 / 510.
ثانيًا: مبدأ عدم الإضرار الذي تدل عليه الآيات الكثيرة، والأحاديث النبوية الشريفة حتى أصبح قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا ضرر ولا ضرار)) (1) قاعدةً فقهية كلية، نالت القبول عند جميع الفقهاء، بل جعله الشاطبي من القطعيات التي تزاحمت عليها أدلة الشرع من الكتاب والسنة (2) مثل قوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقوله تعالى:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .
إلى غير ذلك من الآيات التي منعت الضرر إطلاقًا حتى بين الوالد وولده، وأما السنة فقد أكدت هذا الجانب بما لا يمكن إحصاؤه في هذا المجال، منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه أن يقلع شجرة شخص؛ لأنها كانت تضره وعَلّل ذلك بالضرر، حيث روى أبو داود بسنده أن سمرة بن جندب كانت له شجرة نخل في حائط – أي بستان – رجل من الأنصار مع أهله، فكان سمرة يدخل إلى نخله، فيتأذى به الأنصاري ويشق عليه. فطلب إليه أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا، فأبى، فقال:((أنت مضار)) فقال صلى الله عليه وسلم للأنصاري: ((اذهب فاقلع نخله)) (3) وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: ((من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه)) (4)
ومن هذا المنطلق، فلا يمكن أن تكون الجزئيات مخالفة للقواعد العامة الشرعية، ولا التطبيقات مناقضة للأصول العامة المقررة، يقرر القرافي أن الكليات المقررة في الشريعة هي أصولها، وأن الجزئيات مستمدة من هذه الأصول الكلية، شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلًا في جزئي معرضًا عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه، فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه (5) .
فعلى ضوء ذلك، فالقول بمثلية النقود الورقية واعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، أو حتى في أكثرها ما دام يترتب عليه هذه المظالم لأصحاب الحقوق، وهضم حقوقهم لا يتفق مع هذه المبادئ العامة التي ذكرناها.
(1) رواه مالك في الموطأ، ص 464؛ وأحمد في مسنده: 1 / 313؛ وابن ماجة في سننه: 2 /784.
(2)
الموافقات: 3 / 9 – 10.
(3)
رواه أبو داود في سننه – مع العون – كتاب الأقضية: 10 / 64.
(4)
المصدر السابق نفسه.
(5)
الموافقات: 3/ 8.
الحلول الفقهية لآثار التضخم
لعلاج آثار التضخم عدة حلول، نذكر أهمها مع تأصيلها الفقهي وأدلته المعتبرة، وهي: رعاية مبدأ الجوائح (نظرية الظروف الطارئة) والأخذ بمبدأ الصلح الواجب عند التضخم، ورعاية قاعدة المثلي والقيمي.
أولًا – مبدأ الجوائح (نظرية الظروف الطارئة) :
والمراد بمبدأ الجوائح أنه إذا وقعت جائحة خارجة عن إرادة العاقدين فإنها تؤثر على العقد وآثاره، وهو مبدأ قائم على استثناء حالة الجائحة من قاعدة ضمان المبيعات بعد قبضها من المشتري، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة، منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وأصحاب السنن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو بعتَ من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا. بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) . (1)، وفي رواية أخرى بلفظ:((أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح)) (2) حيث الحديث ظاهر في رعاية الظروف الطارئة، على الرغم من وجود العقد الذي مقتضاه أن البائع بعد تسليمه المبيع إلى المشتري؛ قد خرج من ضمانه، في حين أن هذا الحديث يدل على أنه في حالة حدوث جائحة فإن البائع يظل ضامنًا، بحيث لا يجوز له أخذ الثمن.
(1) صحيح مسلم، مع شرحه للنووي، ط. دار أبي حيان: 5 / 481؛ ومسند أحمد: 3 / 477، 5/ 60؛ وسنن أبي داود: 3 / 3470؛ والنسائي: 7 / 264؛ وابن ماجة: 2 / 2219.
(2)
صحيح مسلم مع شرح النووي: 5 / 482، والمصادر السابقة.
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين:
الرأي الأول: للحنفية، والشافعي في الجديد: حيث يرون أن وضع الجوائح ليس من الواجبات، وإنما هو مستحب، وأن المشتري هو الضامن بعد تسلمه المبيع (1)
الرأي الثاني: لمالك وأحمد والشافعي في القديم وأكثر أهل المدينة، وجماعة من أهل الحديث يذهبون إلى أن ما تهلكه الجائحة من الثمار يكون من ضمان البائع.
لكن هؤلاء اختلفوا على رأيين فذهب جماعة منهم: أحمد في ظاهر المذهب إلى عدم التفرقة بين قليل الجائحة وكثيرها، في حين ذهب مالك، والشافعي في القديم، وأحمد في رواية أخرى إلى أن المعيار في ذلك هو الثلث (2)
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة هذه الآراء، ولكن الذي يدعمه الحديث السابق، ومقاصد الشريعة هو القول بوضع الجائحة، ثم إن وضع الجائحة نفسها لابد من وضع معيار لها، فأرى أن تقديرها بثلث المبلغ أو بما هو خارج عن العادة والعرف؛ مطلوب ومحقق الغرض المنشود.
وعلى ضوء ذلك فإنه إذا حدث تضخم كبير – في حدود الثلث – للنقد، فإن المدين يتحمله، قياسًا على مسألة الجوائح في الثمار، اعتبارًا بأن الانخفاض الكبير – في حدود الثلث – مصيبة نزلت بالدائن دون تسبب منه ولا من المدين.
(1) يراجع: تحفة الفقهاء، ط. قطر: 2 / 56؛ وبداية المجتهد: 2 / 186؛ وشرح صحيح مسلم للنووي: 5 / 483؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 118 – 120؛ ومجموع الفتاوى؛ 30 / 279.
(2)
المصادر السابقة نفسها.
وقد تبنى الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى الزرقاء هذا الرأي، في حالة " هبوط العملة هبوطًا فاحشًا تجاوز ثلثي قيمة النقد وقوته الشرائية عند العقد في البيع وعند القبض في القرض، وبقي من قيمته أقل من الثلث، فإنه حينئذ يعتبر فاحشًا، ويوجب توزيع الفرق على الطرفين أخذًا من الأدلة الشرعية، والآراء الفقهية التي تحدد حدّ الكثرة بالثلث"(1)
ويلاحظ على هذا الرأي أن تحديده للهبوط بتجاوز الثلثين كبير، كما أنه لم يسبق برأي سابق من القائلين بوضع الجوائح، ولذلك فالتحديد بما قاله المالكية ومن معهم بالثلث معقول جدًا، ومناسب لكثير من المسائل الشرعية، قال ابن قدامة:" والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع، منها الوصية، وعطايا المريض. قال الأثرم: قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية: ((الثلث والثلث كثير)) (2) فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة، فلهذا قدر به "(3) . كما أنه يلاحظ عليه أنه قال بتوزيع الفرق على الدائن والمدين، بينما الحديث يدل على وضع الجائحة جميعها.
(1) بحثه المقدم إلى الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ص 7.
(2)
الحديث رواه البخاري في صحيحه، مع الفتح: 5 / 363، 369؛ ومسلم في صحيحه: 3 / 1250؛ والترمذي – مع تحفة الأحوذي -: 6 / 301؛ وابن ماجة في سننه: 2 / 904؛ والنسائي في سننه: 6 / 201؛ ومالك في الموطأ، ص 476.
(3)
المغني لابن قدامة: 4 / 119 – 120.
هذا وقد صدر قرار من مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة المنعقدة بمكة في عام (1402هـ) ، قرار بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية نذكره لأهميته، وهذا نصه:
" ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفًا، في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور، إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1-
في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلًا غيّر الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييرًا كبيرًا، بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يُلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طريق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب؛ تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لو يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يُجبر له جانبا معقولا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد، بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعا رأىَ أهل الخبرة الثقات.
2 – ويحق للقاضى أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقا للعدل الواجب بين طرفى العقد، ومنعا للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يدَ له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعى الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها
…
".
الحل الثانى:الأخذ بمبدأ الصلح الواجب بعد تقدير أضرار الطرفين (الدائن والمدين) .
وهذا المبدأ يمكن تأصيله على أساس مسألة فقهية ذكرها فقهاء الحنفية، وهي مسألة التعامل دون تحديد عملة معينة مع وجود عملات مختلفة القيمة بالاسم نفسه، كالدينار مثلا، فهذه المسألة صالحة للاستئناس بها في تحقيق هذا المبدأ، ووجه التشبيه " أن تغير قيمة العملة يؤدي إلى وجود عملتين (حكما) بقيمة مختلفة. ويحدث من هذا ضرر بأحد الطرفين، يشبه الضرر الناشئ من اختيار أحدهما الوفاء بإحدى العملتين في حال اتحاد الاسم دون القيمة، قال ابن عابدين في آخر رسالته (تنبيه الرقود) (1) :
" أما الثانى (إذ لم يعين المتبايعان نوعًا، والخيار فيه للدافع حسبما استقر عليه الحال) فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعضه، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له. . وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم (يقصد: الشيخ سعيد الحلبي) فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا؛ لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد. . ولاسيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار كما قلنا، وفي الحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . فإن ألزمنا بالبائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وإن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح على الأوسط "(2) .
(1) تنبيه الرقود ضمن رسائل أبن عابدين: 2 / 66 – 67.
(2)
د. عبد الستار أبو غدة في بحثه المقدم.
الحل الثالث: هو رعاية قاعدة المثلي والقيمي في النقود، مع التأصيل والترجيح: وهو حل يقوم على اعتبار أن الأصل في النقود الورقية هو رعاية المثل، ولكن إذا وجد انهيار لعملة ما، أو غبن فاحش أو هبوط حاد في قيمته، فإن المثلية تنتهي لتحل محلها رعاية القيمة، وقد وجدنا لذلك نصوصًا للفقهاء في أن معيار المثلية هو تحقيق العدالة، ولذلك قمنا بالتعرف على ما قاله الفقهاء في معظم أبواب الفقه، فوجدنا أن ديدنهم هو تحقيق العدالة، ولذلك يختلف المثل من باب إلى آخر، وكذلك وجدنا أن الفقهاء ينصون على أن الذهب إذا دخلته صنعة رفعت من قيمتها، فلا يرد بالمثل عند هلاكها في أيدي من يضمن، بل يرد بقيمته، وكذلك الأمر في حالة التعييب ونحوه، كما أن هذا الرأي يلاحظ حقيقة النقود الورقية ويأخذ بالوسط، فلا هو يلغي نقديتها – ولذلك تجب فيها الزكاة، ويجري فيها الربا – ولا هو يجعلها مثل الذهب والفضة في كل الأمور.
ويقول الدكتور أحمد عبده: " كذلك يعتبر الكثيرون أن الوظيفتين الأوليين للنقود (وهما وسيط للتبادل ومقياس للقيم) وظائف أصلية، أما الوظيفتان الأخيرتان (أي مخزن للقيم ومعيار للمدفوعات الآجلة) ، فتعدان وظائف مشتقة "(1)
ثم إن مفهوم النقود اليوم واسع جدًا، حيث يشمل النقود السلعية، والمعدنية، والمساعدة، والورقية، والمصرفية، وظهرت الآن في أوروبا نقود أخرى مثل نقود البلاستيك، فكلها نقود مع أن أكثرها لا تؤدي جميع الوظائف التي كانت تؤديها النقود المعدنية (2)
يقول الأستاذ حمدي عبد العظيم: " إن النقود المعدنية (الذهب والفضة) لا تستخدم فقط كوسيلة للتبادل، وإنما تستخدم كذلك كمخزن للقيمة، وكمعيار للمدفوعات الآجلة، وذلك خلافًا لما هو عليه الحال في الاقتصاديات غير الإسلامية التي أدت فيها النتائج السيئة المترتبة على عدم وجود غطاء للعملة، وما يتبعه من حدوث أزمات مختلفة إلى مجرد الاقتصار على وظيفة واحدة للنقود، وهي كونها وسيلة للتبادل "(3)
(1) د. أحمد عبده، الموجز في النقود والبنوك، ص 21.
(2)
المصادر السابقة نفسها.
(3)
د. حمدي عبد العظيم، السياسات المالية والنقدية في الميزان، ص 342.
وفي نظري أن نظام النقود اليوم – ولاسيما النقود الورقية – نظام خاص لا يمكن إجراء جميع الأحكام الخاصة بالنقود المعدنية (الذهب والفضة) حتى ولا الفلوس عليها – كما ذكرنا – فهو نظام خاص جديد، لابد من أن نتعامل معه على ضوء نشأته وتطوره وغطائه، وما جرى عليه، ومن هنا فما المانع من أن نقره كوسيط للتبادل التجاري، ولكنه مع ذلك نلاحظ فيه قيمته، ولا سيما عند تذبذبه وانهياره، ونربطه إما بالذهب، أو بسلة السلع – كما نذكر فيما بعد – وبذلك أخذنا بإيجابياته، وطرحنا سلبياته، وهذا الحل هو الحل الأمثل في نظري إلى أن يعود نظام النقدين، الذهب والفضة، أو يصلح نظام النقد الدولي.
فقدْ فَقَدَ النقد الورقي الحالي كثيرًا من وظائفه الأساسية، فلم يعد – مثل السابق – مقياسًا للقيم، حتى في الغرب الذي نشأ فيه، ولا مخزونًا للثروة، حيث إن الكثيرين يخزنون ثرواتهم بغيره، أو بالعقارات ونحوها، ولذلك حينما تظهر بادرة حرب، أو مشكلة سياسة خطيرة يقدم الناس – ولاسيما في الغرب – على شراء الذهب، فترتفع أسعاره (1)
فقيمة نقودنا الحالية تكمن في قدرتها الشرائية – كما ذكرنا – ولذلك يقول الإمام السرخسي قبل عدة قرون: " إنما المقصود المالية، وهي باعتبار الزواج في الأسواق "(2)
وقد أكد ذلك بعض الاقتصاديين المعاصرين، يقول أحدهم:" النقود حق مالي تتحد قيمتها بالقيمة الاقتصادية لموضوع هذا الحق، وتزيد قيمتها حسب قوتها الشرائية التي تتبع الإنتاج القومي، وهكذا فإن قيمة النقود هي قيمة مشتقة من قوة الاقتصاد وحجم الإنتاج، ولذلك فالنقود هي حقوق على اقتصاد الدولة التي تصدرها، وهي حقوق ومديونية من نوع خاص تتميز بقابليتها للتداول (السيولة) "، ثم انتهى الباحث إلى أن النقود ليست مثلية، " وأن من يسترد نقوده بعد فترة فإنه لا يسترد نفسي الشيء، وإنما يتعلق حقه باقتصاد وإنتاج جديد"(3)
(1) المصادر السابقة نفسها.
(2)
المبسوط: 14 / 16.
(3)
د. حازم الببلاوي في بحثه حول النقود. ونحن لسنا معه في حكمه العام على النقود بأنها ليست مثلية.
والخلاصة:
إن الرأي الذي يطمئن إليه القلب هو رعاية القيمة في نقودنا الورقية في جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض، أو مهر، أو بيع، أو إجارة أو غيرها، ما دام قد حصل انهيار، وغبن فاحش بين قيمة النقد الذي تم عليه الاتفاق وقدرته الشرائية في الوقتين – أي وقت العقد ووقت الوفاء - وسواء كان المتضرر دائنًا أو مدينًا، والذي نريده هو تحقيق المبدأ الذي يقضي برعاية العدل وعدم الظلم، ودفع الضرر والضرار، ولاسيما أن النقود الورقية لم يرد فيها نص خاص في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذن فينبغي أن نطبق القواعد العامة والمبادئ التي تحقق العدالة.
ثانيًا: بعض مسائل فقهية سابقة يمكن أن تكون لنا أرضية صالحة للقياس عليها، مثل القضايا التي ذكرها فقهاؤنا السابقون بخصوص الفلوس، والدراهم والدنانير المغشوشة، حيث كانت تقدر قيمتها حسب نسبة التعادل بينها وبين الذهب، أو الفضة، أو على أساس رواجها في السوق، وأن القيمة ملاحظة فيها عند إلغائها، أو رخصها، أو غلائها عند بعض الفقهاء، كما نجد أصولًا صالحة في هذه المسألة بخصوص ما ذكرناه في القيمي والمثلي على ضوء ما يأتي:
1-
الرد في القيمي يكون بالقيمة عند جمهور من قال بقرض القيمي من الفقهاء كما سبق، وعلى ضوء المعايير التي ذكرناها، وجدنا أن إدخال النقود الورقية في المثلي ليس من السهل قبوله، ولاسيما إذا انهارت قيمتها، كما سبق.
فإذا لم تدخل النقود الورقية في المثلي عند انهيارها، أو تذبذب كبير لها، فهي من القيميات، فيكون الرد فيها في الحقوق والالتزامات الآجلة بالقيمة، وحينئذ لا يكون هناك أي إشكال في رعاية القيمة، وقد ذهب وجه للشافعية وغيرهم إلى اعتبار النقود المغشوشة والفلوس من القيميمات (1) .
2-
رعاية القيمة عند رخص الفلوس والدراهم المغشوشة:
لا خلاف بين الفقهاء عند إعواز المثلي يرجع إلى قيمته، غير أنهم اختلفوا في الفلوس والنقود المغشوشة، هل يجب الرد فيها بالمثل أم بالقيمة عند غلائها أو رخصها أو كسادها أو انقطاعها؟ (2)
(1) قطع المجادلة ورقة (2) .
(2)
المراد بكساد النقود هو ترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد تكون في حكم العينة إذ تروج في سوق التعاقد. ومعنى الانقطاع ألا يوجد في السوق، وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت. انظر رسالة النقود لابن عابدين: 2 / 60.
هذا ما ثار فيه الفقهاء:
أ- اتجاه يعتد بالمثلية
فذهب جماعة منهم المالكية – في المشهور – والشافعية والحنابلة وأبو حنيفة إلى رعاية المثلية في هذه الصور، على التفصيل الآتي: يقول خليل: " وإن بطلت فلوس، فالمثل، وإن عدمت، فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم " وعلق عليه الخرشي بقوله: " يعني أن الشخص إذا ترتب له على آخر فلوس، أو نقد من قرض أو غيره، ثم قطع التعامل بها، أو تغيرت من حالة إلى أخرى فإن كانت باقية، فالواجب على من ترتبت عليه المثل في ذمته قبل قطع التعامل بها، أو التغير على المشهور، وإن عدمت، فالواجب عليه قيمتها مما تجدد وظهر. . "(1) فعلى ضوء ذلك، إن هذه المسألة ليست خاصة بالفلوس، وإنما هي تضم جميع النقود في جميع العقود الآجلة، وقد جاء في المعيار المعرب: تحت عنوان: " ما الحكم فيمن أقرض غيره مالًا من سكة ألغى التعامل بها؟ سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟
أجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حيٌّ ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن مهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، أفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدَّيْن إلا السكة القديمة، وأفتى ابن عتاب بأن يُرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب " (2)
(1) شرح الخرشي على خليل: 5 / 55؛ وبلغة السالك: 2 / 286.
(2)
المعيار المعرب: 6 / 461 – 462.
وقد نص الشافعي على أن: " من سلف فلوسًا أو دراهم، أو باع بها ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف، أو باع بها "(1)
ويقول النووي: " ويرد المثل في المثلي " ثم يعلق عليه شارحه ابن حجر بقوله: " ولو نقدًا أبطله السلطان؛ لأنه أقرب إلى حقه " ثم يزيد المحشي في التعليق: "فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد، ثم إبطالها، وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدًا (2) ، ونص الحنابلة أيضًا على أن القرض إذا كان فلوسًا، أو مكسرة فحرمها السلطان، وتُركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتُها، ولم يلزمه قبولها، سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها؛ لأنها تعيّبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، أما الغلاء والرخص فلا يؤثران في المثل، والمسألة تعم جميع العقود الواردة على الذمة"(3)
وذهب أبو حنيفة أيضًا إلى وجوب المثل في جميع الحالات، بالنسبة للقرض، أما البيع فيبطل إذا كسد الثمن قبل القبض أو انقطع، وعند الصاحبين لا يبطل البيع، بل يلاحظ القيمة، أما في القرض، فيرى محمد وجوب المثل عند تغير القيمة، ووجوب القيمة في حالتي الكساد والانقطاع، وأما أبو يوسف، فيرى اعتبار القيمة في الحالات الثلاث (4)
(1) الأم: 3 / 28.
(2)
المنهاج مع تحفة المحتاج، مع حاشية الشيرواني: 5 / 44.
(3)
المغني: 4 / 360؛ وفي مطالب أولي النهى: 3 / 340 – 341، أن هذا الحكم ليس خاصًا بالقرض، بل يشمل أجرة الصداق، وعوض الخلع ونحوهما إذا كانت بفلوس، أو نقود مغشوشة آجلة، ثم حرمها السلطان، فيكون الوفاء بالقيمة.
(4)
رسالة النقود لابن عابدين: 2 / 59 – 62؛ وفتح القدير: 7 / 154.
ب- اتجاهٌ يعتبر القيمة:
وذهب جماعة – منهم أبو يوسف، ومحمد في بعض الأحوال، وبعض فقهاء المالكية، ووجه للشافعية، وبعض الحنابلة – إلى اعتبار القيمة على التفصيل الآتي:
يقول ابن عابدين: " قال في الولوالجية. . رجل اشتري ثوبًا بدراهم نقد البلدة، فلم ينقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلًا فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد؛ لأنه لم يهلك، وليس له إلا ذلك، وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها. . " ثم قال: " يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل، وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس، قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. انتهى ".
قال التمرتاشي: " اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها، أو بالفلوس، وكان كل منهما نافقًا حتى جاز البيع، لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن، ولم يسلمها المشتري للبائع، ثم كسدت؛ بطل البيع، والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد، وحكم الدراهم كذلك، فإذا اشترى بالدراهم، ثم كسدت، أو انقطعت، بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، ومثله إن كان هالكًا، وكان مثليًا، وإلا فقيمته، وإن لم يكن مقبوضًا، فلا حكم لهذا البيع أصلًا، وهذا عند الإمام الأعظم، وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد؛ لاحتمال الزوال بالرواج، كما لو اشترى شيئًا بالرطبة، ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه، وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها، وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي المحيط والتتمة والحقائق بقول محمد يفتى؛ رفقًا بالناس، ولأبي حنيفة أن الثمنية بالاصطلاح فيبطل لزوال الموجب، فيبقى البيع بلا ثمن. والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت، بخلاف انقطاع الرطب، فإنه يعود غالبًا في العام القابل، بخلاف النحاس، فإنه بالكساد رجع إلى أصله، وكان الغالب عدم العود"(1) أما إذا لم يكن كسادٌ بل كانت تروج في بعض البلاد دون بعض، وكان التعاقد في البلد الذي ذهب رواج النقد المعقود عليه فيه، فحينئذ لا يبطل العقد بل يتخير البائع أو نحوه، إن شاء أخذ قيمته، وإن شاء أخذ مثل النقد الذي وقع عليه العقد.
وأما إذا انقطع النقد بحيث لم يبق في السوق، فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع. أما إذا غلت الدراهم أو الفلوس أو رخصت قبل القبض، لا يبطل العقد، ولكن له ما وقع عليه العقد عند أبي حنيفة، وله قيمتها عند أبي يوسف من الدراهم يوم البيع والقبض. قال العلامة الغزي: وعليه الفتوى. وهكذا في الذخيرة والخلاصة، فيجب أن يعول عليه إفتاءً وقضاءً "، ثم قال: " وقد تتبعت كثيرًا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة، فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة، بل جعلوا الفتوى على قول أبي يوسف في كثير من المعتبرات، فليكن المعوّل عليه " (2) ، ثم علق عليه ابن عابدين بأن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها (3) ، غير أنه ذكر أن بعض الحنفية عمموا الحكم في المغشوشة وغيرها (4) .
(1) رسالة النقود: 2 / 59.
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
المصدر السابق: 2 / 60 – 61؛ والهداية وفتح القدير: 7 / 155.
(4)
النقود: 2 / 62؛ وفتح القدير: 7 / 154 – 158.
ثم ذكر ابن عابدين مسألة مما وقعت في عصره، رجح القول فيها بناءً على العدالة، لا على الشكل والتقليد، فقال:" ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد، لو كان معينًا، كما لو اشترى بمائة ريال إفرنجي، أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعيّن المتبايعان نوعًا. والخيار فيه لدافع، كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعًا أو قرضًا، بناء على ما قدمناه، وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا أو أضر للبائع، فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع، يحسب عليه قرشًا آخر، نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في جوازه ". ثم قال: " وكنت قد تكلمت مع شيخي، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا؛ لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح، حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد"، ثم علل: كيف أن القضية تدور مع علتها فقال: " فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت، ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر، كي لا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري"(1) .
وهذا ما نحن نؤكد عليه هنا، وهو أنه ما دامت النقود الورقية غير منصوص عليها إذن فلابد من رعاية ما يحقق العدالة ويرفع الحيف والضرر والضرار دون النظر إلى الشكل.
(1) النقود: 2 / 66؛ ويراجع فتح القدير: 7 / 154 – 158.
ويقول ابن عابدين في حاشيته أيضًا مبينًا أهمية القيمة والمالية: " وحاصله أنه إذا اشترى بدرهم فله درهم كامل، أو دفع درهم مكسر قطعتين أو ثلاثة، حيث يتساوى الكل في المالية والرواج. . " ثم قال في حكم القروش: " ومنه يعلم حكم ما تعورف في زماننا من الشراء بالقروش. . بقي هنا شيء وهو أنا قدمنا أنه على قول أبي يوسف المفتى به: لا فرق بين الكساد والانقطاع، والرخص والغلاء، في أنه تجب قيمتها يوم وقع البيع، أو القرض إذا كانت فلوسًا أو غالبة الغش، أما إذا اشترى بالقروش، ثم رخص بعض أنواع العملة أو كلها واختلفت في الرخص، كما وقع مرارًا في زماننا ففيه اشتباه " ثم وصل إلى وجوب دفع الضرر عن الطرفين، ورعاية ما يحقق العدالة دون التقيد بمثلية العملة " (1) .
وفي المذهب المالكي نجد القاضي ابن عتاب، وابن دحون، وغيرهما، يقولون بالقيمة في بعض المسائل، حيث جاء في المعيار المعرب:" سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟ أجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة، أيام نظري فيها في الأحكام – ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء – فانقطعت سكة ابن مهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، قال: وأرسل إليَّ ابن عتاب، فنهضتُ إليه فذكر المسألة، وقال لي: والصواب فيها فتواي فاحكم بها. . وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض "(2) . وقيد الرهوني رد المثل بالمثل بما إذا لم يكن تغيرًا لسعر كبير، فقال:" وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدًا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه؛ لوجود العلة التي علل بها المخالف، حيث إن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به، لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينفع به "(3) .
(1) حاشية ابن عابدين: 4 / 26.
(2)
المعيار المعرب: 6 / 461 – 462.
(3)
نقلًا عن د. شوقي أحمد دنيا: بحثه القيم في مجلة المسلم المعاصر، العدد 041) ، ص 61.
وقد اعتنى المالكية في باب الزكاة عناية كبيرة بالقيمة، حيث ذهبوا إلى أن عشرين دينارًا من الذهب تجب فيها الزكاة، حتى ولو كان فيها نقص من حيث الوزن ما دامت مثل الكاملة في الرواج، وعلل ذلك الدسوقي بقوله:" لا يخفى أن القيمة تابعة للجودة والرداءة، فالالتفات لأحدهما التفات إلى الآخر "(1) خلافًا للشافعية وغيرهم في اعتبارهم الوزن (2) .
ثم إن القاعدة العامة لدى الشافعية هي أن المثلي إذا عدم أو عز، فلم يحصل إلا بزيادة، لا يجب تحصيله، كما صححه النووي، بل يرجع إلى قيمته (3) ، وقد فصل السيوطي في رسالته عن الفلوس وتغيراتها (4) هذه المسألة، كما ذكر وجهًا للشافعية يقضي بأن الفلوس والدراهم والدنانير المغشوشة من المتقومات، فعلى هذا يكون الرد فيها بالقيمة.
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1 / 455.
(2)
الروضة: 2 / 257؛ والمجموع: 6 / 1904.
(3)
المصدر السابق نفسه.
(4)
قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ورقة (1) .
والحنابلة – كما ذكرنا – يقولون بوجوب القيمة في حالة إلغاء السلطان الفلوس، أو الدراهم المكسرة (1) ، ولكن هل تجب القيمة عند الغلاء أو الرخص؟ المنصوص عن أحمد وأصحابه هو عدم اعتبارها، وقد بيّن ابن قدامة السبب في هذه التفرقة بين الحالتين فقال معللًا وجوب القيمة في حالة الكساد دون حالة تغير القيمة:" إن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها أو تلف أجزائها. وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيرًا أو قليلًا؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت "(2) .
ولو دققنا النظر في هذا التعليل، لوجدناه قائمًا على أمرين:
الأمر الأول:
الاعتماد على أن الكساد عيب، ولكن الرخص الفاحش ليس بعيب، مع أن ابن قدامة نفسه حينما عرف بالعيوب قال:" هي النقائص الموجبة لنقص المالية ". ثم ذكر عدة تطبيقات في إثبات الخيار فيها قائلًا: "ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته "(3)، وقال أيضًا في عدم الخيار في مسألة:" ولنا أنه لا ينقص عينها ولا قيمتها. . "(4) .
فعلى ضوء ذلك كان الأجدى رعاية القيمة أيضًا في النقود الاصطلاحية؛ لأن القيمة عنصر أساسي في العيوب كما رأينا.
الأمر الثاني:
الاعتماد على القياس على الحنطة إذا رخصت، ويمكننا أن نقول: إن قياس النقود المغشوشة والفلوس على الحنطة قياس مع الفارق؛ لأن الحنطة ذات قيمة ذاتية لا تختلف باختلاف قيمتها، في حين أن النقود الاصطلاحية قيمتها في رواجها وقيمتها، حتى لو سلمنا هذا القياس في النقود التي ذكروها، فالتسليم بقياس نقودنا الورقية على ما ذكروه لا يمكن قبوله بسهولة.
ولذلك جعل شيخ الإسلام ابن تيمية – كما نقل عنه صاحب الدور السنية (5) - اختلاف الأسعار مانعًا من التماثل، وقاس مسألة تغير القيمة على كسادها، بناء على أن كون الكساد عيبًا يكمن في كونه نقصًا في القيمة؛ لأنه ليس عيبًا في ذات النقد من حيث النقص في عينه، حيث إن القدر لم يتغير، وإنما هو باعتبار أن الكساد يترتب عليه نقصان في القيمة لا غير، ثم عقب صاحب الدور على ذلك بقوله:" إن كثيرًا من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي – أي ابن تيمية – في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضًا، وهو الأقوى "(6) .
وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية جدير بالقبول وحري بالترجيح، وهو يسعفنا في الموضوع الذي نحن بصدد بحثه، وهو رعاية القيمة.
فعلى ضوء هذا الرأي، والآراء التي سبقته لأبي يوسف وبعض علماء المالكية نكون قد وجدنا أرضية ثابتة ومنطلقًا للرأي الذي نرجحه، وهو اعتبار القيمة في نقودنا الورقية بالضوابط السابقة.
(1) المغني: 4 / 360.
(2)
المصدر السابق نفسه.
(3)
المصدر السابق نفسه.
(4)
المغني لابن قدامة: 4 / 168.
(5)
يراجع: الدور السنية في الأجوبة النجدية، ط. دار الإفتاء بالرياض: 5 / 110.
(6)
المصدر السابق نفسه.
الأمر الثالث:
رجوع الفقهاء في كثير من الأمور المثلية إلى القيمة حينما لا يحقق المثل العدالة، كما في حالة اقتراض الماء عند ندرته، وفي حالة الحلي المصوغ من الذهب ولكن داخلته الصنعة، وغير ذلك مما ذكرناه عند كلامنا عن المثلي والقيمي.
الأمر الرابع:
وحتى نختم هذا بختام المسك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أهمية القيمة، حيث قال:((من أعتق عبدًا بين اثنين فإن كان موسرًا قوّم عليه، ثم يعتق)) ، وفي رواية صحيحة أخرى:((من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) ، في رواية لمسلم:((في ماله قيمة عدل، لا وكس ولا شطط)) (1) .
يقول العلامة ابن القيم: " ومعلوم أن المماثلة مطلوبة بحسب الإمكان " ثم نقل عن جمهور العلماء قولهم: " الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمّن معتق الشقص إذا كان موسرًا بقيمته، ولم يضمّنه نصيب شريكه بمثله، فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون "(2) .
(1) صحيح البخاري، مع الفتح، كتاب العتق: 5 / 150 – 151؛ ومسلم: 2 / 1140؛ وسنن أبي داود، مع العون: 10 / 472؛ والترمذي، مع تحفة الأحوذي: 4 / 281؛ والنسائي: 7 /281؛ وابن ماجه: 2 / 844.
(2)
شرح سنن أبي داود لابن القيم، مع عون المعبود: 12 / 272 – 274.
على أي معيار نعتمد في التقويم؟ :
سبق أن ذكرنا أننا لا نلجأ إلى القيمة إلا عند انهيارها، أو وجود الغبن الفاحش جدًا، وفي حالة رجوعنا إلى القيمة، لابد من أن نضع موازين دقيقة ومعايير معقولة للتقويم، حتى يتبين لنا الفرق بين قيمتي العملة الورقية في الوقتين: وقت القبض، ووقت إرادة الرد. ولنا لمعرفة ذلك معياران:
المعيار الأول:
الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز، بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد: كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء، والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولاسيما في الرواتب والأجور، ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الإنسان – وهو أغلى ما في الوجود – الإبل مع وجود النقدين – الدراهم والدنانير – في عصره.
ويقال: إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب.
وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قومها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذكر العلماء أن الإبل قد عزت عندهم، ومع ذلك لم يجعل الذهب أو الفضة أصلًا في الدية، ومن هنا زاد القدر حسب قيمة الإبل، فقد روى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:((كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم، فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت. قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا)) (1) .
(1) سنن أبي داود، مع العون، كتاب الديات: 12 / 284؛ ورواه مالك بلاغًا في الموطأ: 2 / 530.
قال الخطابي: " وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى؛ لكون الإبل قد عزت عندهم، فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثمانمائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم، فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإبل في زمانه، فبلغ قيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألفًا "(1) .
والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقرارًا تامًا، وإنما كانت تابعة لغلاء الإبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم:((أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا)) (2) .
كما روى الدارمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذهب ألف دينار (3) .
وروى النسائي: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، أو عدلها من الورق)) (4) ، وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر، قال ابن جريج عن عطاء وغيره، عن جابر:((أخذته بأربعة دنانير)) ، وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم (5) .
كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية أعتبار السلع الأساسية وجعلها معيارًا يرجع إليها عند التقويم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع، ونقيس من خلالها قيمة النقود – كما ذكرنا – ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثير تساؤلًا حول ما إذا هبطت قيمة الذهب أيضًا: فهل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: " وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأونصة الأخرى الثابتة بالنص" ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأٍساسية، مثل الإبل والغنم والزروع والثمار، ثم رجح كون الإبل والغنم المعيار الثابت، حيث إن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد.
(1) عون المعبود: 12 / 285.
(2)
سنن أبي داود، مع العون، كتاب الديات: 12 / 290؛ والترمذي، مع التحفة، كتاب الديات: 4 / 464؛ قال الشوكاني في النيل: 8 / 271: وكثرة طرقه تشهد بصحته.
(3)
سنن الدارمي كتاب الديات: 2 / 113؛ وراجع نيل الأوطار: 8 / 271.
(4)
سنن النسائي، كتاب القسامة: 8 / 43.
(5)
صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الشروط: 5 / 314.
المعيار الثاني:
الاعتماد على الذهب واعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذه الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد، كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد – وفي جميع الحقوق والالتزامات – قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلًا لو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف ريال ويشترى به عشرون جرامًا من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب؛ وذلك لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتًا واستقرارًا، وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره حتى الفضة (1) . ولذلك رجح مجمع البحوث الإسلامية الاقتصار – في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية – على معيار الذهب فقط؛ لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات (2)، ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم: أن الذهب لم يقوم بغيره في حين أن الفضة قد قومت به في مسألة نصاب السرقة.
يقول السيوطي: "الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض النسبة إليه " نص عليه الشافعي في الأم، وقال:" لا أعرف موضعًا تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة"(3) .
ثم إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة فبها ونعمت، وإلا فيرجع الأمر فيها إلى القضاء أو إلى التحكيم، وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعاوى والبينات والقضاء.
الجمع بين المعيارين:
ويمكن لقاضي الموضوع،أو المحكم أن يجمع بين المعيارين، بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد.
(1) فقه الزكاة: 1 / 265 – 269.
(2)
مقررات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة (1965م) القرار (2) ص 204؛ ويراجع فقه الزكاة: 1 / 264، وذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة في الزكاة هو ما اختاره الشيوخ الأجلاء أبو زهرة، وخلاف، وحسن رحمهم الله.
(3)
الأشباه والنظائر، ص 398.
متى نلجأ إلى التقويم؟
لا شك أننا لا نلجأ إلى التقويم في كل الأحوال، ولا عند وجود التراضي بين الأطراف، وإنما نلجأ إليه عند وجود الغبن الفاحش الذي يلحق بأحد العاقدين، سواء كان في عقد القرض، أم البيع بالأجل، أم المهر، أم غير ذلك من العقود التي تتعلق بالذمة ويكون محلها نقدًا آجلًا ثم تتغير قيمته من خلال الفترتين: فترة الإنشاء وفترة الرد والوفاء، تغييرًا فاحشًا، وبعبارة أخرى: نلجأ إلى القيمة عند انهيار النقد، كما حدث لليرة اللبنانية والدينار العراقي والدينار الكويتي فترة الاحتلال، حيث لم تبق لها قيمة تذكر، فأصبحت – كما قال البهوتي – أشياء لا ينتفع بها الانتفاع المطلوب، وكذلك عند وجود الارتفاع الحاد، كما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، ويستأنس لذلك بما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من اعتبار الغبن الفاحش حتى في البيوع التي مبناها على المساومة (1) ، كما ذكر بعض العلماء مثل الرهوني أن التغيير الكثير لا بد من ملاحظته حتى في المثليات، فيجعلها من القيميات، وكذلك قال الرافعي وغيره في مسائل كثيرة، كما سبق.
(1) يراجع في تفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر الإسلامية، بيروت: 1 / 735.
معيار التغير الفاحش أو الانهيار:
قبل أن نذكر هذا المعيار، نرى فقهاءنا الكرام قد وضعوا عدة معايير لمقدار الغبن الفاحش الذي يعطي الخيار في الفسخ عندما يقع في البيع ونحوه.
يقول القاضي ابن العربي، والقرطبي وغيرهما:"استدل علماؤنا بقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] على أنه لا يجوز الغبن في معاملة الدنيا؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة، وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، حيث أفتيا برعاية القيمة في مسألة السكة يوم القرض "(1) .
بل إن كثيرًا من العلماء ذهبوا إلى اعتبار القيمة يوم العقد، ونشأة سبب الضمان في مسائل كثيرة، فقد ذكر لنا ابن نجيم منها المقبوض على يوم الشراء، فالاعتبار لقيمته يوم القبض أو التلف، ومنها المغصوب القيمي إذا هلك، فالمعتبر قيمته يوم غصبه اتفاقًا، وكذلك المغصوب المثلي إذا انقطع عند أبي يوسف، ومنها المقبوض بعقد فاسد تعتبر قيمته يوم القبض؛ لأنه بدهًا دخل في ضمانه، ومنها العبد المجني عليه، تعتبر قيمته يوم الجناية، ومنها: ما لو أخذ من الأرز والعدس ونحوها، وكان قد دفع إليه دينارًا مثلًا، لينفق عليه، ثم اختصما بعد ذلك في قيمة المأخوذ، قال في اليتيمة: تعتبر قيمته يوم الأخذ (2) .
وذكر السيوطي أمثلة كثيرة جدًا، روعيت فيها القيمة يوم القبض، منها مسألة ماء التيمم، في موضع عزّ فيه الماء، حيث تراعى قيمته في ذلك الموضع في تلك الحالة على الصحيح عند جمهور الأصحاب، وكذلك الطعام والشراب حالة المخمصة، ومنها مسألة المبيع إذا تخالفا وفسخ وكان تالفًا، يرجع إلى قيمته يوم التلف على رأي؛ لأنه مورد الفسخ، ويوم القبض على رأي آخر؛ لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرض بعد ذلك من زيادة أو نقصان فهو ملكه، ومنها المستعار إذا تلف تعتبر قيمته يوم القبض على وجه، وكذلك المقبوض على جهة السوء، إذا تلف (3) .
(1) المعيار المعرب: 6 / 461 – 462.
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 362 – 364.
(3)
الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 368 – 377.
قال النووي في مسألة رد القيمي في القرض بالقيمة: " يرد القيمة يوم القبض، إن قلنا: يملك به "(1) .
وقال السيوطي: "إذا قلنا: إنه يرد في المتقوم القيمة، فالمعتبر قيمة يوم القبض إن قلنا: يملك به، وكذا إن قلنا: يملك بالتصرف في وجه "(2) .
وقد نص الإمام أحمد في الدراهم المكسورة بعد كسادها على أنه يقومها: كم تساوي يوم أخذها (3) قال صاحب المطالب: "ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض"(4)، وقال ابن قدامة:"تجب القيمة حين القرض؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته"(5) ، وقد نص إمام الحرمين والغزالي، وغيرهما من فقهاء المذهب الشافعي على أن العبرة في حالة تغيير النقد، هو النقد الذي كان سائدًا يوم العقد، ولا ينظر لنقد يوم الحلول، وكذلك الثمن المؤجل إذا حل (6) وقال مالك:" لا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهمًا، ثم يأخذ منه بربع أو ثلث أو بكسر معلوم، سلعةً معلومةً، فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم، وقال الرجل: آخذ منك بسعر كل يوم، فهذا لا يحل؛ لأنه غرر يقلُّ مرة، ويكثر مرة، ولم يفترقا على بيع معلوم "(7) وهذا الكلام يدل على اعتبار سعر معلوم عند بداية التصرف.
(1) الروضة: 4/ 37.
(2)
الأشباه والنظائر، ص 371.
(3)
المغني لابن قدامة: 4 / 360.
(4)
مطالب أولي النهى: 3 / 243.
(5)
المغني: 4 / 353.
(6)
النهاية لإمام الحرمين – مخطوطة: 7 / 288 نقلًا عن الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب في كتابه القيم: فقه إمام الحرمين، ص 420؛ وراجع الوسيط للغزالي مخطوطة طلعت: 2 /148.
(7)
الموطأ، ص 403.
الراجح:
وبعد هذا العرض والتأصيل يظهر لنا رجحان ما ذهبنا إليه، وهو اعتبار القيمة يوم العقد والقبض، وهو أدنى إلى تحقيق العدالة وأقرب إلى القسط، وأيسر؛ وذلك لأن المقرض أو البائع قد خرج المال من عهدته في ذلك الوقت، ودخل في ذمة المدين والمشتري، وحينئذ يكون له الحق في أن يشتري به شيئًا آخر، ولذلك قال أحد الفلاحين المصريين بفطرته: دفعت لك ثمن جاموسة، فرجّع إليّ ما أشتري به مثلها، ويكفي أنك استفدت به كل هذا الوقت. قال ذلك عندما جاء إليه شخص من أقربائه وطلب منه دينًا، فباع الفلاح جاموسته بمبلغ ودفعه إليه بالكامل، ثم بعد عشر سنوات جاء الرجل، ورد عليه المبلغ الذي ما كان يشتري به الآن ربع جاموسة، فأنطقته فطرته السليمة هذا القول (1) .
(1) حكى لنا هذه القصة أستاذنا القرضاوي حفظه الله.
حل آخر:
بالإضافة إلى هذا الحل الذي ذكرنا، فإنه يمكن للمتعاقد، الذي تثبت له نقود في ذمة الآخر آجلًا أن يتعهد أن يكون الرد بما يساويه من أية بضاعة، مثل أن يدفع أحمد مثلًا عشرة آلاف جنيه قرضًا لخالد، أو أن يبيع له أرضًا بها، ثم يقدروها بما يساويها من سلع أساسية، فيعرفوا القيمة الشرائية للدين حتى يرجعوا إليها عند التنازع، فيأخذ الدائن حقه دون وكس ولا شطط، أو أن يتفقا على تثبيت قيمة الدين عند التعاقد، وذلك بأن يتفقا على أن يكون المعمول عليه عند الأداء هو القوة الشرائية الحالية للنقد الذي تم به العقد، سواء كان قرضًا أو غيره، فإذا كانت قيمة النقد هي (800) وحدة شرائية، فعند السداد يدفع المدين نفس هذه القيمة، بغضِ النظر عما إذا كان مبلغ الدين عند السداد له هذه القيمة، أو أقل أو أكثر (1) .
وهذا التعهد، أو الوعد ليس فيه – حسب نظري – أي مخالفة للشريعة الغراء، وذلك ليس شرطًا جر منفعة للدائن، بل هو يحقق العدالة للطرفين، وليس ممنوعًا في حد ذاته، بل كل ما يقتضيه هو رد المثلي بالقيمة – إذا قلنا: إن نقودنا الورقية مثلية، وإذا قلنا: إنها قيمية، فيكون هذا الشرط من الشروط الموافقة لمقتضى العقد.
وهذا التعهد مهما دققنا النظر فيه لن يتجاوز اشتراط ما يضمن رد حقه دون شطط ولا وكس، فهو مثل من يشترط رد قرضه في بلد آخر ضمانًا له من مخاطر الطريق، وهو ما يسمى بالسَُفْتَجة، وهي جائزة عند جمهور الفقهاء، يقول شيخ الإسلام:" والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم"(2) . والشرط الذي معنا ليس فيه غرر، ولا يؤدي إلى جهالة، ولا ربا، ولا منازعة، بل يؤدي إلى أداء الحقوق كاملة إلى أصحابها، في وقت أصبحت التقلبات الكبيرة سمة عصرنا، فحينئذ يكون كل واحد يعرف ما له وما عليه. بالإضافة إلى أن الأصل في الشروط هو الإباحة عند جمهور الفقهاء (3) .
(1) د. شوقي دنيا، بحثه السابق، ص 70 وما بعدها.
(2)
مجموع الفتاوى: 29 / 455 – 456.
(3)
يراجع: مبدأ الرضا في العقود، ومصادره: 2 / 1186.
باب التراضي مفتوح:
كل ما قلناه: إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما عند سداد الدين أو الوفاء بالثمن أو المهر أو نحو ذلك؛ تراضيا بالمعروف على الزيادة أو النقصان، فإن أحدًا من الفقهاء لم يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك، فقد روى البخاري، ومسلم، وغيرهما بسندهم: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرًا، فقال:((أعطوه)) ، فقالوا: لا نجد إلا سِنًا أفضل من سِنه، فقال:((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) (1) .
فعلى هذا إذا حلّ الأجلُ وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الآن لا يساوي شيئًا بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه وقدرته الشرائية، فطيّبَ خاطرَ الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار، أو بسلعة أخرى؛ فقد فعلَ الحسنَ، وطبق السنة، بل إننى أعتقد أنه لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد، إلا بإرضاء صاحب الحق؛ لأن مبنى الأموال وانتقالها في الإسلام على التراضي، وطيب النفس بنص القرآن الكريم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29](2) .
فكيف تطيب نفسه عندما يقع الظلم عليه، ويرجع إليه ماله وقد اقتطع منه أجزاء، وأفرغ من كثير من محتواه؟ صحيحٌ أن مبنى القرض على التطور والتبرع، ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أمهله دون مقابل محتسبًا أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون ردّ العين المستقرضة إلى المقرض ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته، أما إذا تعييبت فلا يصح ردها (3) ، فكذلك الأمر هنا.
وقد ذكر الإمام ابن السبكي جوازَ أخذ القيمة في المثلي، إذا رضي الطرفان، فقال:" لو تراضيا على أخذ قيمة المثلي مع وجوده، وجهان أصحهما عند الوالد رحمه الله: الجوازُ " ثم ذكر أنه يعلل الجواز بأنه اعتياض عما يثبت في الذمة من المثلي" (4) .
فلا شك في أن مسألة التراضي تحل كثيرًا من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإحسان والإيثار، مثل المجتمع الإسلامي الذي يقوم على معيار دقيق، وهو:" أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك"(5) .
فهل يرضى الإنسان أن يعود إليه دَينه، أو يعطي لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة، فهل يرضى أحد أن يعود إليه ليراته اللبنانية أو السورية أو التركية الآن، مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟ هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط، بل يعتني أيضًا بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب فيه ليس دنيويًا فقط، بل هو في الدنيا والآخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحِل والحرمة. والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الآخرة أكثر من العذاب الدنيوي.
(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5 / 56 – 59؛ ومسلم: 3 / 1224.
(2)
وراجع مبدأ الرضا في العقود؛ وراجع للأستاذ الدكتور شوقي دنيا بحثه السابق، ص 68.
(3)
الروضة: 4 / 35؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 360.
(4)
القواعد والأشباه والنظائر لابن السبكي مخطوطة الإسكندرية ورقة (80) .
(5)
روى البخاري بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ورواه غيره بألفاظ وطرق كثيرة، يراجع صحيح البخاري، مع الفتح، كتاب الإيمان: 1 / 57؛ وأحمد: 2 / 31 – 3 / 473 – 4 / 70؛ وسنن ابن ماجة: 2 / 1410.
اعتراضات ودفعها:
الاعتراض الأول:
إن هذا القول يؤدي إلى زيادة في بعض الأموال، وهي ربا، وهو حرام بنص القرآن، مثل أن يقرض شخص قبل عشر سنوات عشرة آلاف ليرة، فلو قدّرنا القيمة يكون يساوي مائة ألف ليرة، وهذا عين الربا.
الجواب عن ذلك: أن ذلك ليس زيادة ولا ربا؛ لما يأتي:
أولًا: إن الربا هو الزيادة دون مقابل، والزيادات الموجودة هنا ليست في الواقع إلا زيادة من حيث الشكل والعدد، وهذا ليس له أثر، فالزيادة التي وقعت عند التقويم وهي ليست زيادة، وإنما المبلغ المذكور أخيرًا هو قيمة المبلغ السابق، وبالتالي فالمبلغان متساويان من حيث الواقع والحقيقة والقيمة.
ثانيًا: إن الربا هو الزيادة المشروطة، وهنا لم يشترط الدائن مثلًا أية زيادة، وإنما اشترط قيمة ماله الذي دفعه، ولذلك قد تنقص في حالة ما إذا ارتفع سعر النقد الذي أقرضه مثلًا، وأصبحت قوته الشرائية أكثر من وقت العقد والقبض.
ثالثًا: إنه يمكن أن يشترط أن يكون الرد بغير العملة التي بها العقد في حالة الزيادة، وهذا هو الراجح عندي ، فمثلًا لو كان محل العقد ليرة لبنانية، فليكن الرد عند الزيادة، أو النقص بالريال، أو بالدولار، أو بالجنيه وهكذا، فاستيفاء الدراهم بدلًا من الدنانير، وبالعكس أمر معترف به عند جمهور الفقهاء – ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة – واستدلوا على جوازه بأدلة، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال:((كنت أبيع الإبل بالنقيع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (1)، قال الخطابي:" ذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، ومنع من ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلا بسعر يومه، ولم يعتبر غيره السعر، ولم يبالوا ذلك بأغلى أو أرخص من سعر اليوم. . "(2)، قال الحافظ السندي:" والتقيد بسعر اليوم على طريق الاستحباب "(3) ، وقد روى النسائي عن بعض التابعين أنهم لا يرون بأسًا في قبض الدراهم مكان الدنانير، وبالعكس، في جميع العقود الآجلة بما فيها القرض (4) .
قال ابن قدامة معلقًا على حديث ابن عمر: " ولأن هذا جرى مجرى القضاء، فقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس، والتماثل ههنا من حيث القيمة؛ لتعذر التماثل من حيث الصورة "(5) .
ثم إن هذه المسألة ليست بدعًا في الأمر، ولا هي من المسائل التي لا نجد فيها نصًا لفقهائنا السابقين في أشباهها، بل نجد لها مثيلات كثيرة في فقهنا الإسلامي نذكر بعضها هنا:
يقول الإمام الرافعي: " وإذا أتلف حليًا وزنه عشرة، وقيمته عشرون، فقد نقل أصحابنا وجهين فيما يلزمه:
أحدهما: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها، سواء كان ذلك نقد البلد أو لم يكن؛ لأنه لو ضمنا الكل بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا.
وأصحهما عندهم: أنه يضمن الجميع بنقد البلد، وإن كان من جنسه " (6) .
(1) رواه أحمد في مسنده: 2 / 82، 154؛ وأبو داود في سننه – مع العون – كتاب البيع: 9 / 203؛ وابن ماجه في سننه دون (سعر يومها (كتاب التجارات: 2 / 760؛ والدارمي في سننه: 2 / 174؛ والنسائي في سننه، كتاب البيوع: 7 / 282، وقد ضعف هذا الحديث؛ لأن سماك بن حرب قد انفرد به، وقد قال فيه سفيان: إنه ضعيف، وقال أحمد: هو مضطرب الحديث، قال الحافظ في التقريب: 1 / 332: "صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره، فكان ربما يلقن "؛ وراجع ميزان الاعتدال: 2 / 232.
(2)
عون المعبود: 9 / 204.
(3)
حاشية السندي على النسائي: 7 / 282.
(4)
سنن النسائي: 7 / 282 – 283.
(5)
المغني: 4 / 55.
(6)
فتح العزيز: 11/ 279 – 280؛ والروضة: 5 / 23.
ونجد أمثلة كثيرة في كل المذاهب الفقهية في باب ضمان المتلفات – كما سبق – ونجد كذلك في باب العقود عند مالك، حيث أجاز أن يعطي الإنسان مثقالًا وزيادة في مقابل دينار مضروب، وكذلك أجاز بدل الدينار الناقص بالوزن أو الدينارين، وروي مثل ذلك عن معاوية رضي الله عنه. يقول ابن رشد:"وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلًا؛ لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا معاوية، فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ، لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما وري عن مالك أنه سُئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك، فأرجو ألا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه"(1) .
والمقصود بهذا النص أن الزيادة مادام لها مقابل لا تعتبر ربا؛ لأن الربا هو: " الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي عن عوضٍ شُرِطَ فيه "(2) .
(1) بداية المجتهد: 2 / 196.
(2)
فتح القدير: 7 / 8.
الاعتراض الثاني:
إن القول برعاية القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود كنقد، وبالتالي ترتب عليه مشاكل لا عدَّ لها ولا حصر.
الجواب عن ذلك: إننا لا نسلم أن ذلك يؤدي إلى تحطيم النقود، وإنما يؤدي إلى أن يكون دورها محصورًا بحيث لا تؤدي جميع وظائفها الأربع المعروفة وهذا لا يضر، حيث اعترف كثير من الاقتصاديين بأن نقودنا لا تؤدي هذه الوظائف جميعها، أولا تؤديها على شكل مقبول، كما أنهم الآن وسعوا مفهوم النقود، ليشمل أنواعًا كثيرة لا يؤدي بعضها إلا وظيفة واحدة – كما سبق – مع أن ذلك لا يتعارض مع نقديتها، وسبق أن الفقهاء الذين قالوا بأن الفلوس ثمن، ومع ذلك لم يثبتوا لها جميع الأحكام الخاصة بالذهب أو الفضة.
ومن جانب آخر أن ذلك إنما يحصل إذا لم توضع معايير دقيقة، ولكننا ما دمنا نعترف بالنقود الورقية بأنها نقود – وإن كانت لا تؤدي جميع الوظائف – تربط إما بمعيار الذهب أو معيار السلعة، فإنه في الحقيقة لا تحدث أية مشكلة تذكر، بل هي تحقق العدالة، بالإضافة إلى أننا لا نلجأ إلى عملية التقويم دائمًا، فلا نلجأ إليه في جميع العقود التي يتم فيها قبض الثمن مباشرة، وكذلك لا نلجأ إلى التقويم في العقود التي يكون فيها الثمن مؤجلًا، إلا في حالة الغبن الفاحش أو انهيار قيمة النقد، كما سبق.
الاعتراض الثالث:
لماذا لا نعتد بالرخص والغلاء في الذهب والفضة، والحنطة والشعير ونحوهما، في الوقت الذي نعتد بهما في النقود الورقية؟
الجواب عن ذلك: أن هذه القضية تتعلق بالمثلي والقيمي، حيث لا ينظر في المثلي إلى القيمة،أما القيمي فيلاحظ فيه القيمة - كما سبق – ونحن قلنا: إن النقود الورقية لا يمكن اعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ولا إلغاء نقديتها، وإنما الحل الوسط هو ما ذكرناه.
ومن هنا فهي وإن كانت مثلية – كقاعدة عامة – لكنها عند وجود الفرق الشاسع يلاحظ فيها القيمة، كالماء الذي أخذه الإنسان في الصحراء، فلا يرجع له الماء، وإنما عليه قيمته في ذلك المكان.
وهذا الحل ليس خاصًّا بردِّ القرض، بل هو عام في جميع الحقوق التي تؤدى بالعملات الورقية، فنرى ضرورة ملاحظة القيمة في الإجارات والرواتب والأجور ونحوها، وهذا ما تلاحظه الدور المتقدمة عندما يكون التخضم كبيرًا، فليس من العدالة أنك لو استأجرت بيتًا بألف ليرة لبنانية – أو نحوها – عام سبعين أن تدفع نفس المبلغ اليوم، فألف في (1970م) كان يساوي (500) دولار تقريبًا، وألف اليوم يساوي دولارين فقط، وكذلك الرواتب والأجور والله أعلم.
وفي الختام
هذا ما اطمأنت إليه نفسي، وأدى إليه اجتهادي المتواضع، فإن كنت قد أصبت فمن الله، وإلا فعذري أنني بذلت كل ما في وسعي، ولم أرد به إلا وجه الله تعالى.
ومع ذلك فما أقوله عرضٌ لوجهة نظري، أرجو أن تنال من الباحثين الكرام النقد والتحليل، للوصول إلى حل جذري أمام هذه المشكلة.
وكلمة أخيرة أكررها هي أنه ليس هناك محيص للخروج من هذه الأزمات الجادة إلا بالرجوع إلى النقدين الذاتيين، أو على الأقل ربط نقودنا الورقية بالغطاء الذهبي، وهذا ما يدعو إليه كثير من الاقتصاديين، بل بعض المؤتمرات – كما سبق – فلا شك في أن ربط النقد الورقي بالذهب إنما هو إعادة إلى أصله الذي تأصل عليه، فإلى أن نعود إلى هذا النظام فلابد من أن نلاحظ القيمة في نقودنا عندما تقتضيه الضرورة والحاجة، حتى تتحقق العدالة (دون وكس ولا شطط) .
والله الموفق وهو من وراء القصد، والهادي إلى سواء السبيل.