الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التضخم وتغير قيمة العملة
دراسة فقهية اقتصادية
إعداد
الدكتور شوقي أحمد دنيا
أستاذ الاقتصاد – جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لسنا في حاجة إلى التذكير بما سبق أن قدم في هذا الموضوع لدورات المجمع وندواته العلمية من أبحاث عديدة على مدار فترة زمنية طويلة ومتتابعة من رجال الفقه ورجال الاقتصاد، دارت حولها مناقشات مطولة تناولت موضوع التضخم من جوانبه المختلفة؛ أهميته وأسبابه وآثاره وطرق علاجه، وموضحة موقف الإسلام من هذه الظاهرة المرضية، ومن الحلول المطروحة لعلاجها.
وعند كتابة هذه الورقة يمكننا أن نحدد أين نحن هذه اللحظة في هذا الطريق، لقد تمّ التعرف الجيد على القضية من الناحية النظرية الفنية (الاقتصادية) ، ومن الناحية العملية الواقعية، كذلك تم التعرف على مواقف الاقتصاديين حيال علاج هذه الظاهرة.
ثم قام الفقهاء ورجال الاقتصاد الإسلامي بالتعرف على الموقف الإسلامي من هذه الظاهرة، خاصة على مستوى العلاج لآثارها، بل ولحقيقتها، وبرصد ما قدمه الفقهاء والاقتصاديون المسلمون حيال هذه القضية نجدنا أما تنوعات واختلافات واسعة في الآراء، وبمنظور آخر نجدنا أمام العديد من الحلول المطروحة لعلاج هذه الظاهرة، يقف وراء كل حل مؤيده، ودلالة الموقف الراهن قد تكون في أن المسألة لمَّا تحسم بعد، وأنها في حاجة إلى خطوة تمكن المجمع الموقر من الوصول إلى قرار موثّق مؤصل حيال هذه القضية، وقد رأت أمانة المجمع أن هذه الخطوة تتمثل في القيام باستعراض علمي جيد لهذه الحلول المطروحة يجمع بين الدقة والموضوعية والتركيز، لا يقف عند مجرد الاستعراض، وإنما يقوّم ما تم من خلال النظر والتوجيه الفقهي والاقتصادي.
ومن ثم تجري عملية الترجيح والمفاضلة وترتيب هذه الحلول، الأمر الذي يسهل على أعضاء المجمع وخبرائه اتخاذ القرار الصحيح حيال هذه القضية. وبذلك تتضح هوية هذه الورقة وحدودها، إنها ليست بحثًا منشئًا لمعلومة في هذا الموضوع، وإنما هي عرض ونظر وتنقيح لما سبق طرحه. وهذا ما نص خطاب الدعوة الكريمة من أمانة المجمع حيث يقول:" والمأمول أن تسهم هذه الورقة في تمثل كل ما طرح من أبحاث، وأن تضيف من التوجيهات الشرعية والاقتصادية ما يرشح واحدًا أو أكثر من الحلول المطروحة " وقد رأت أمانة المجمع ألا تقتصر الورقة على ذلك، بل تحتوي أيضًا على عرض للاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية.
وفي ضوء ذلك نرى أن يقسم البحث إلى مبحث تمهيدي ومبحثين أساسيين على النحو التالي:
المبحث التمهيدي: تعريف ببعض المفاهيم ذات الأهمية.
المبحث الأول: الاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية.
المبحث الثاني: الحلول المطروحة لعلاج آثار التضخم على طرفي العقد، عرض وتقويم.
الخاتمة: أهم النتائج المستخلصة.
المبحث التمهيدي
تعريف ببعض المفاهيم ذات الأهمية
مع إدراكنا الكامل بأن هذه المفاهيم قد وردت في الأبحاث السالفة، فإننا نأتي بها هنا تتميمًا للفائدة وتخفيفًا عن القارئ مؤونة الرجوع إلى تلك الأبحاث، وإبرازًا لبعض الجوانب والدلالات في هذه المفاهيم التي رأينا أنها لم تكن واضحة بارزة فيما سبق بالقدر الكافي، مع أهميتها الكبرى في هذا الموضوع وما يرمي إليه، لذلك كله قد يكون من الأفضل التريث لحظة من أجل تذليل الصعوبات الاصطلاحية المحتملة.
1-
مفهوم التضخم (1) :
من المهم هنا الإشارة إلى أن الاقتصاديين أكدوا في هذا الصدد على ناحيتين؛ الناحية الأولى ارتفاع المستوى العام للأسعار، والناحية الثانية انخفاض القيمة الحقيقية للعملة أو النقود. وكلتا الناحيتين هما في نظر البعض وجهان لحقيقة واحدة، بينما لا يرى البعض الآخر ذلك. فإذا نظرنا لناحية الأسعار علمنا أن التضخم هو ارتفاع مستمر ومتواصل في المستوى العام للأسعار، وأحب أن يلتفت القارئ الكريم إلى مفردات هذا المفهوم، فالتضخم ارتفاع في الأسعار وليس هو أسعار مرتفعة، ثم إنه ارتفاع مستمر ومتواصل وليس مجرد ارتفاع حدث مرة ثم زال أو استقر. ومعنى ذلك أنه لو حدث ارتفاع في الأسعار مرة واحدة لا نكون أمام ظاهرة التضخم مهما كان الارتفاع كبيرًا، مثل أن يكون السعر في الأصل مائة ثم نظرًا لظروف ما أصبح مائة وخمسين وثبت عند ذلك، فلا يعد هذا تضخمًا، بينما لو كان السعر مائة ثم أصبح مائة وعشرة ثم أصبح مائة وثلاثين مثلًا كنا أمام التضخم، ومن هنا قال الاقتصاديون: التضخم هو ارتفاع في الأسعار وليس أسعارًا مرتفعة. والمشكلة هنا أنه ليس لديهم معيار موضوعي يحدد طول المدة ولا عدد المرات التي يمكن أن يقال عندها: إننا أمام ظاهرة التضخم.
وأهيب بالسادة القراء الاحتفاظ في الذاكرة بهذه المعلومة لأننا سنرجع إليها.
ثم إن الذي يرتفع ليس هو سعر سلعة أو سلعتين أو ثلاث، وإنما هو المستوى العام للأسعار في المجتمع، أي أسعار السلع والخدمات في مجملها. فلو ارتفع سعر سلعة أو سلعتين بينما هبطت أسعار سلع أخرى الأمر الذي يجعل المتوسط لا يرتفع، فإننا لن نكون أمام ظاهرة التضخم. وأخيرًا يلاحظ أن الارتفاع السعري لم يتقيد بحدود معينة، مثل ارتفاع الأسعار بنسبة (10 %) أو (20 %) إلخ. مما يعني أن مجرد حدوث ارتفاع متواصل في المستوى العام للأسعار يحقق التضخم، بغض النظر عن معدلاته، وهذا ما ذهب إليه كثير من الاقتصاديين، وإن كان البعض يذهب إلى أنه كي نكون أمام تضخم فلابد من ارتفاع سعري بحد معين، لكن ما هو هذا الحد؟ لا نجد إجابة صريحة قاطعة، وهذا لا يقلل من وجاهة هذا الرأي، فليس أي تغير وإن تواضع في المستوى العام للأسعار يعد تضخمًا، وخاصة إذا ما كنا بصدد وضع سياسات لمعالجة التضخم ومواجهة آثاره.
(1) مايكل أبدجمان، الاقتصاد الكلي، ترجمة د. محمد إبراهيم منصور، دار المريخ، الرياض، ص 361؛ د. نبيل الروبي، التضخم في الاقتصاديات المختلفة، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية،ص 12؛ باري سيجل، النقود والبنوك والاقتصاد، ترجمة د. عبد الفتاح عبد المجيد، دار المريخ، الرياض، (1987 م) ، ص 554؛ د. شوقي دنيا، التضخم والربط القياسي، مجمع الفقه الإسلامي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثامن، الجزء الثالث، (1994 م) ، ص 560.
وإذا نظرنا لناحية انخفاض قيمة النقود علمنا أن التضخم هو انخفاض مستمر في القيمة الحقيقية للنقود، فبفرض أن القيمة الحقيقية كانت في الأصل (10) ثم أصبحت بعد فترة (8) ثم أصبحت بعد فترة أخرى (5) ، فإننا نكون أمام ظاهرة التضخم، عكس ما لو كانت أصلًا (10) ثم صارت (5) واستقرت، فإننا نكون عندئذ أمام ظاهرة تغير قيمة العملة، ولسنا أمام ظاهرة التضخم.
ونحب هنا أن نؤكد على خطأ شائع، وهو أن معدل ارتفاع الأسعار يساوي معدل انخفاض قيمة النقود. فمثلًا لوا ارتفعت الأسعار بمعدل (100 %) فإن هذا يعني أن قيمة العملة انخفضت بمعدل (100 %) ، هذا خطأ جسيم مع شيوعه، فقيمة العملة هنا لم تنخفض إلا بمعدل (50 %) ، ولو ارتفعت الأسعار بمعدل (200 %) لكان معنى هذا هبوط قيمة العملة إلى (25 %)(1) . وأحب كذلك أن يحتفظ الأخوة الكرام بهذه المعلومة لأهميتها عندما نكون بصدد التغير الفاحش في قيمة العملة، فالذي يعوّل عليه عند ذلك هو معدل تغير قيمة العملة وليس معدل التضخم.
ومن المهم هنا كذلك التذكير الجيد بأن للعملة أو للنقود أكثر من قيمة، فلها قيمة نقدية أو اسمية، ولها قيمة حقيقية، ولها قيمة ذاتية أوسلعية، ولها قيمة خارجية أو سعر الصرف (2) .
(1) وذلك طبقًا للمعادلة التالية: القيمة الحقيقية للعملة = (الرقم القياسي لأسعار سنة الأساس) / (الرقم القياسي لأسعار سنة المقابلة) × (100) . ولو فرضنا أن الرقم القياسي لسنة المقارنة (10000) فإن القوة الشرائية تكون 100× 100/ 10000=1 % أي أن القيمة هبطت بمقدار (99 %) بينما ارتفعت الأسعار بمقدار (9000 %) .
(2)
لمعرفة موسعة بأنواع قيم النقود يراجع د. مصطفى رشدي، الاقتصاد النقدي والمصرفي، الدار الجامعية للطباعة والنشر، بيروت، (981) ، ص 440 وما بعدها.
وليست كل النقود مهما اختلفت طبائعها وحقيقة المادة المصنوعة منها لها هذه القيم المختلفة، كما أن هذه القيم المختلفة لوحدة النقد ليست دائمًا أو حتى غالبًا متسقة الاتجاه، بحيث إذا ارتفعت ارتفعت جميعًا ، وإذا هبطت هبطت جميعًا، بل غالبًا ما نجد التعارض والتعاكس. والمهم هنا التذكير بأن نقودنا المعاصرة ليست لها قيمة سلعية أو ذاتية على الإطلاق، اللهم إلا إذا كان لقصاصة الورق المصنوعة منها قيمة. وهذا عكس النقود الذهبية والفضية بل والنحاسية والبرونزية وغيرها من النقود المعدنية الرديئة، فلكل منها قيمة ذاتية أو سلعية، كبرت أو صغرت، بحيث لو زالت تمامًا عن النقود قيمتها النقدية، أو حتى قيمتها الحقيقية (قوتها الشرائية) فإنه يبقى لها قيمتها الذاتية أو السلعية باعتبارها سلعة من السلع الاقتصادية ذات القيمة التبادلية والاستعمالية، أي إن ماليتها لا تبطل مهما بطل رواجها. وهذا فرق جوهري مؤثر بين النقود الذهبية والفضية وبين النقود الورقية من ناحية المالية وعلاقتها بالرواج. وهذا التمييز مهم حتى نتفهم جيدًا كلام الفقهاء القدامى، فقد كانوا يتكلمون عن نقود معدنية لها قيمة ذاتية أو سلعية، بغض النظر عما يطرأ على قيمتها النقدية أو حتى الحقيقية. ونحن اليوم بصدد نقود ورقية ليست لها قيمة ذاتية، وإنما كل قيمتها في قوتها الشرائية. فإذا فقدت هذه القوة بارتفاع الأسعار أو بقرار حكومي، فقدت كل مالها من قيمة.
وتتمثل القيمة الحقيقية للعملة في قدرتها على شراء وحدات من مختلف السلع والخدمات المطروحة في المجتمع، ونحب أن نؤكد هنا على ما أشار إليه محققو الاقتصاديين من أن قيمة العملة الحقيقية هي أمر ذاتي محض وليست أمرًا موضوعيًا، بمعنى أن لكل نقود قوة شرائية خاصة بها. هب أننا في مجتمع واحد فهل تستوي نقودي ونقودك في قوتها الشرائية؟ لو كانت مشترياتي هي نفس مشترياتك لكانت الإجابة بنعم، لكن إذا اختلفت بنود المشتريات، وهذا غالبًا ما يكون، فإن الإجابة تكون بلا، فقد أشترى بنقودي سلعة رخصت حتى في ظل التضخم وتشتري أنت سلعة ارتفعت، وبذلك تكون لنقودي قوة شرائية أكبر مما لنقودك، وهكذا فإنه رغم ما قد يكون هنالك من انخفاض عام في قيمة النقود على المستوى الكلي أو القومي فإن الأمر قد يكون مخالفًا لذلك تمامًا على المستوي الجزئي أو الفردي.
2-
مقاييس التضخم (1) :
باعتراف الخبراء فإنه ليس هناك مقياس دقيق يقيس التضخم، كما يقيس المتر مثلًا الأطوال والكيلو جرام الأوزان. وإنما هي مؤشرات تقريبية تسمى بالأرقام القياسية، ولها أنواع عديدة أشهرها الرقم القياسي لتكاليف المعيشة. وهو يتعامل مع عينة من السلع والخدمات قد لا تتوفر بذاتها لأي مستهلك في الحياة العلمية. ومعنى ذلك أن هذا الرقم يتعامل مع مجرد عينة من السلع والخدمات، وليس مع السلع والخدمات كلها، كما أن هذه العينة قد يختلف حيالها طرفا العقد، ثم إنها خاضعة لرغبات القائمين على تركيبها من حيث البدء والنهاية، ومن حيث نوعية السلع، ومن حيث الأوزان النسبية لكل منها، بل ومن حيث أسعارها، والتنبيه على ذلك لا يعني عدم أهمية الأرقام القياسية في حياة الأمم، وعدم الالتفات إليها في رسم السياسات المختلفة، وإنما كل ما يعنيه أن تؤخذ بحذر وفي ظل الوعي الكامل بما هي عليه من جانب قصور. وبالطبع فإن الإسلام كثيرًا ما يعول في توجيهاته وأحكامه على التقريب، تيسيرًا على الناس.
(1) د. عبد المنعم الشافعي، مبادئ الإحصاء، دار الكتاب العربي، القاهرة، (1967 م) :1 / 302.
3-
الربط القياسي وغير القياسي:
اصطلح الاقتصاديون على أنه إذا جرى ربط شيء برقم من الأرقام القياسية سمي ربطًا قياسيا (indexation) ، أما إذا تم الربط بشيء آخر خلاف الأرقام القياسية فهو أيضًا ربط لكنه لا يسمى ربطًا قياسيا، وبهذا فنحن أمام نوعين من الربط: الربط القياسي مثل الربط بمؤشر تكاليف المعيشة. والربط غير القياسي مثل الربط بالذهب أو بعملة من العملات أو بسلعة من السلع.
ومعنى الربط – أيا كان نوعه – هو ربط قيمة الحق أو الالتزام عند حدوثه بشيء آخر، فتصير قيمة هذا الحق تابعة لهذا الشيء، إذا ثبت ثبتت وإذا تغير تغيرت، بنفس النسبة وفي نفس الاتجاه، والهدف منه تحقيق الاستقرار في قيمة الحق أو الدين، بحيث يعود لصاحبه كما ثبت له أولًا، من حيث قيمته، بغض النظر عن عدد الوحدات النقدية التي يتكون منها، أي إن الربط لا يستهدف استقرارًا أو ثبات القيمة الحقيقية لوحدة النقد، وإنما يستهدف ثبات أو استقرار قيمة الحق أو الدين ككل، وبالمثال يتضح المقال. هب أن لي عندك ألف جنيه، واتفقنا على ربطه بمؤشر تكاليف المعيشة الذي كان عند السداد (120) ، أي أن معدل الارتفاع في الأسعار (20 %) ،
وبالتالي فلكي آخذ حقي كاملًا من حيث قيمته الحقيقية أو قوته الشرائية فإنني آخذ (1200) جنيه نلاحظ هنا أن الربط لم يثبت القيمة الحقيقية لوحدة النقود وهي الجنيه، وإنما ثبت القيمة الكلية للحق أو الدين. ولذلك فإن عدد النقود التي تدفع أكبر من عددها عند الابتداء، ومرجع ذلك أن القوة الشرائية أو القيمة الحقيقية لها قد انخفضت.
مثال للربط غير القياسي: هب أن لي عندك ألف جنيه، واتفقنا سويًا على ربطها بالدولار، وكانت عند الاتفاق تعادل (300) دولار، فعند السداد علينا في ضوء الاتفاق السابق أن ننظر لما يساويه (300) دولار بالجنيهات، فإذا كانت تعادل ألفًا أخذت ألفًا، وإذا كانت تساوي أكثر أخذت الأكثر، وإذا كانت تساوي أقل أخذت الأقل.
والفرق بين الربطين بارز واوضح. في الحالة الأولى لجأ المتعاقدان إلى الأرقام المطروحة في المجتمع، وحصلا على واحد منها كما هو دون تعديل فيه أو تغير. فلا يملكان تعديل بدايته ولا تعديل نهايته ولا تعديل نوعية السلع الموجودة ولا أوزانها، وقد لا تكون هذه الجوانب مناسبة للطرفين، لكنهما لا يملكان تعديلها. فهب أن تاريخ ثبوت الدين كان في رمضان لكن الأرقام القياسية تبدأ من المحرم، وهب أن تاريخ السداد هو صفر لكن الأرقام القياسية تنتهي في رجب، فمعنى ذلك عدم توافق الرقم بداية أو نهاية مع ثبوت الحق أو وفائه. أما في الحالة الثانية فيمكن تلافي ذلك كله. وسوف نرى لاحقًا أن لهذا الفرق أثره في اختلاف مواقف الفقهاء الاقتصاديين من الربط القياسي والربط غير القياسي.
المبحث الأول
الاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية
في ضوء ما ورد في التمهيد السابق من المهم التحديد الدقيق لموقف الفقهاء القدامى، وهل كانت معالجتهم لقضية التضخم؟ أم كانت لمجرد تغير قيمة العملة، بغض النظر عما إذا كان هذا التغير مستمرًا متواصلًا، أم أنه حدث مرة وثبت؟ الملاحظ أن الفقهاء لم يتناولوا لفظة التضخم، بل ولم يعبروا بما يفيد أنهم بصدد علاج مشكلة التغير المستمر في قيمة العملة، الذي هو مضمون التضخم إذا ما أخذ اتجاهًا هبوطيًا.
وإنما باستقراء ما قدموه من المصادر الفقهية المتنوعة وجدنا حديثهم انصرف إلى تغير قيمة العملة، والمتأمل في هذا المصطلح يجد تميزًا عن مصطلح التضخم، فيجتمعان في بعض الصور والحالات، وينفردان في بعضها الآخر. ويمكن القول: إن الذي عنوا به هو معرفة الحكم الشرعي عندما يحدث تغير، ولا فرق هنا بين أن يكون هذا التغير قد حدث مرة ثم ثبت أو حدث على مرات متتالية.
وأعتقد أننا لو حذونا حذوهم وقيدنا بحوثنا هنا بما يحدث للعملة من تغير لكان أفضل، حتى يعم كل الحالات، ولا يعني هذا أن جوهر ظاهرة التضخم بمفهومها الحديث لم يحدث في العصور السابقة، وخاصة في الدول الإسلامية، فكل الأدلة التاريخية تؤكد حدوثها مرات ومرات. والملاحظة الثانية أن حديثهم انصرف أساسًا إلى ما كان يعرف عندهم بالفلوس، وهي تلك العملات الاصطلاحية، غير المتخذة من الذهب والفضة، ولكن هذا لا ينفي وجود أقوال لهم حيال النقود الأصلية وهي الذهب والفضة.
والملاحظة الثالثة أن حديثهم - طبقًا لما صرحوا به - دار حول تغير قيمة أو سعر العملة حيال عملة أخرى، الفلوس حيال النقود الذهبية والفضية والعكس، وكذلك النقود الفضية حيال النقود الذهبية والعكس، وكأنه المسألة مسألة سعر عملة إزاء عملة أخرى أو ما يعرف حاليًا بسعر الصرف أو القيمة الخارجية للعملة، مع ملاحظة أن هذه العملات فيما مضى لم تكن عملات خارجية، بل كلها محلية (نظام نقدي مغاير تمامًا لنظامنا النقدي الحاضر) ، وقد دعا هذا بعض الباحثين المعاصرين إلى القول بأن الفقهاء القدامى لم يتناولوا مشكلة التضخم، ولم يدر بخلدهم شيء عن المستوى العام للأسعار. وبدون الدخول في مجادلات حول: هل هذا التكيف صحيح أم خاطئ فإن الأفضل التركيز في نظرتنا على أنهم كانوا بصدد عملة تغيرت قيمتها، فما هو الحكم؟ ولا يؤثر بعد ذلك كون هذا التغير في القيمة الحقيقية أم في قيمتها حيال عملة أخرى، وبهذا نقي أنفسنا مؤونة البحث والمشقة في قضية لا طائل من ورائها.
والملاحظة الرابعة أن حديثهم انصب أساسًا وليس كلية على تغير حدث بعد الالتزام والتعاقد وقبل الوفاء والسداد، ومعنى ذلك بوضوح أن القضية الكبرى التي شغلوا بها تمثلت في: متعاقدين أبرما عقد بيع أو عقد قرض أو أي عقد آخر، ولم يسدد أحد الطرفين للآخر ما عليه من نقود. وعند السداد كان سعر النقود أو قيمتها قد تغيرت عما كانت عليه حين الالتزام والتعاقد.
وواضح أننا بهذا الشكل لا نكون أمام ربط بأي صورة من صور الربط، ومع ذلك فقد صرح بعض الفقهاء بصور تفيد أن المتعاقدين حين التعاقد قد التفتا بصورة من الصور إلى السعر أو القيمة الحاضرة للعملة محل التعاقد، مما يعني مراعاتها - وإن بدون تصريح - عند الوفاء والسداد.
في ضوء هذا التمهيد المهم ندلف إلى تبيان كيف واجه فقهاؤنا هذه الظاهرة، ظاهرة تغير سعر أو قيمة العملة عند الوفاء والسداد، وبالبحث في المصادر الفقهية المتنوعة نجدهم تناولوها في حالات ثلاث:
الحالة الأولى: عند الوفاء أو السداد تغيرت العملة كلية، وليس سعرها أو قيمتها.
الحالة الثانية: عند الوفاء أو السداد تغيرت قيمة العملة مع بقائها عملة.
الحالة الثالثة: عند التعاقد لوحظ سعر العملة أو قيمتها إزاء عملة أخرى.
الحالة الأولى: تغير العملة ذاتها. تحدث الفقهاء القدامى والمتأخرون منهم عن هذه الحالة التي كثيرًا ما كانت تحدث في أزمنتهم، مقدمين في ذلك العديد من الأسباب أو الصور التي كانت تتجسد فيها، من انقطاع أو كساد أو بطلان أو تحريم
…
إلخ. وبرغم ما هناك من فروق وتميزات بين هذه الصور من حيث حقيقتها، فإنها كلها تجتمع بوجه عام حول عدم وجود العملة المتعاقد بها عند الوفاء أو السداد. والمقصود بعدم وجودها هو عدم الوجود النقدي لها، أي عدم وجودها كعملة رائجة حتى ولو بقيت كسلعة، وحيث أن هذه الحالة في غالب صورها غير موجودة في زماننا هذا، للاختلاف الجذري في الأنظمة النقدية السالفة والحاضرة، وللاختلاف الجذري أيضًا بين نقودنا ونقودهم من حيث المادة المصنوعة منها هذه النقود؛ فإننا لا نجد الحاجة ماسّة إلى استعراض ما قدمه الفقهاء في المصادر الفقهية حيالها؛ لأن كل ما قدموه في هذا الصدد قليل الغناء لنا في مواجهتنا للمشكلة الراهنة، وهي تغير قيمة العملة، وليس تغير العملة ذاتها، وقد قام المجمع مشكورًا في مرحلة سابقة بتكليف بعض الباحثين باستعراض هذه القضية في المصادر الفقهية المتنوعة والتعرف على مواقف واتجاهات الفقهاء حيالها، مما يتيح لنا من الناحية العملية مصدرًا طيبًا حديثًا للمعرفة في هذه المسألة (1) .
(1) لمعرفة موسعة تراجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد التاسع الجزء الثاني،1996.
الحالة الثانية: تغير قيمة العملة عند الوفاء أو السداد، كانت هذه حالة شائعة في العديد من أقاليم الدولة الإسلامية في فترات زمنية متعددة، وحيث إن هذه الحالة تقع لدينا كثيرًا، عكس الحالة السابقة، فمن المهم الإشارة إلى مواقف الفقهاء القدامى حيال هذه الظاهرة، لا على أنها هي الفيصل في تحديد مواقفنا الحاضرة، وإنما للاستئناس بها؛ وذلك لأن الملابسات والظروف المحيطة متغايرة تمامًا، ووجه الشبه الوحيد أننا معًا أمام عملة تغيرت قيمتها عند الوفاء والسداد.
بتقصي ما قدمه الفقهاء القدامى حيال هذه الحالة نجد أن نطاق بحثهم وتناولهم لم يقتصر في كليته على ما كان يعرف بالفلوس في أزمانهم، أو ما يسمى بالنقود الاصطلاحية؛ بل انصرفت أقوال العديد منهم إلى ما كان يعرف بالنقود الخلقية أو الأصلية (الذهبية والفضية) ، وإن كان التركيز على الفلوس؛ لأنها كانت عرضة بدرجة أشد للتقلبات القيمية، إذن هم تناولوا الاثنين معًا، حتى وإن ميز بعضهم في الحكم الشرعي بين هذه وتلك. وبالاستقراء الدقيق لاتجاهاتهم حيال هذه الظاهرة من حيث الحكم الشرعي؛ وجدنا لهم ثلاثة اتجاهات، جمع كل اتجاه فقهاء من المذاهب المختلفة:
أ- اتجاه الجمهور الذي يذهب إلى عدم الاعتداد والالتفات إلى ما حدث من تغيير في السعر أو القيمة مهما كان مقداره، حتى ولو بلغ عشرة أمثال، كما نص على ذلك بعض الفقهاء، ومعنى ذلك أن الوفاء أو السداد يتم بنفس عدد العملة المتعاقد بها. ويتتبع ما قدموه من حيثيات لهذا الموقف وجدناهم يصرحون بأن هذا هو ما وقع به التعاقد ورضي به الطرفان، وأن عملية التغير في القيمة هذه ما هي إلا أمور عابرة، ترجع إلى رغبات الناس وما يعتريها من شدة وفتور، ولا يرجع إلى أمر جوهري ذاتي في النقود. وجاء الفقهاء المعاصرون وأضافوا إلى ذلك مبررات أخرى عديدة لم تكن غائبة عن القدامى، بل كانت مضمرة، مثل الربا والغرر والجهالة والعدل، مشيرين إلى بعض النصوص ذات الدلالة في هذا الشأن.
ب- اتجاه آخر معاكس يذهب إلى الاعتداد بالتغير في القيمة عند الوفاء والسداد، بمعنى أن يكون التعويل عند حدوث هذا التغير إلى السعر - أو القيمة - الذي كان قائمًا عند التعاقد، وفي داخل هذا الاتجاه وجدنا من يميز في ذلك بين النقود الذاتية والنقود الاصطلاحية، قاصرًا له على الثانية، ووجدنا من يعمم هذا الحكم عليهما معًا. وبمحاولة التعرف على تبريرات هذا الاتجاه وجدناها تعود في جملتها إلى تحقيق مبدأ العدل الحاكم في الشريعة، وكذلك حماية لمبدأ الرضى في التعاقد، والذي يقوم على المالية الحاضرة للمعقود عليه عند التعاقد. واعتبارًا لذلك يكون تغير القيمة عيبًا لحق بالنقود، ومراعاة العيوب في التعاقدات أمر مقرر ومعترف به شرعًا.
ج- اتجاه يميز بين التغير الفاحش والتغير اليسير في قيمة العملة، فيهمل اليسير ويعتد بالفاحش. وبالبحث لدى أصحاب هذا الاتجاه في المعيار الذي يحدد اليسير والكثير أو الفاحش لم نجد نصوصًا صريحة لهم في ذلك، مما جعل الفقهاء المعاصرون يختلفون حول معيار القلة والكثرة، فمنهم من يحدده بالثلث ومنهم من يحدده بأقل من ذلك، ومنهم من يحدد بأكثر من ذلك، ومنهم من يرجع الأمر في ذلك إلى العرف ورأي أهل الاختصاص، وبرغم أن من قال بذلك من الفقهاء هم أقل بكثير ممن قال بالاتجاهين السابقين، فإن هذا الاتجاه قد تكون له وجاهته من الناحية النظرية والعملية معًا، فليس من مصلحة التعاملات واستقرارها وسرعة إنجازها تأثرها عند كل تغير وإن قل، فذلك لا يكاد يسلم منه أي مجتمع. وتحمل الأثر هنا بالنسبة لصاحب الحق غير مرهق من جهة وغير مفاجئ له من جهة أخرى، فهذا أمر من طبائع الحياة الاقتصادية، لكنه عندما يكون تغيرًا فاحشًا فإن إهماله عند ذلك يرهق صاحبه من جهة ويعرقل ازدهار المعاملات من جهة ثانية، ثم إنه لم يدخل على ذلك من جهة ثالثة، وربما كان أفضل معيار للتمييز بين التغير اليسير والتغير الكثير هو العرف ورأي أهل الاختصاص.
الحالة الثالثة: عند التعاقد لوحظ سعر أو قيمة العملة إزاء عملة أخرى، وعند السداد تغير هذا السعر أو هذه القيمة. هذه الحالة هي الأخرى وثيقة الصلة بواقعنا المعاصرة، مثل الحالة السابقة، إضافة إلى وثوق صلتها بمسألة الربط التي تحتل جانبًا مهمًا في المشكلة موضع البحث والدراسة. هذه الحالة قد يُنظر إليها على أنها ربط صريح وإن لم يكن ربطًا قياسيًا لكنه ربط بعملة، وقد ينظر لها على أنها ربط ضمني، وسواء أكان هذا أم ذاك فنحن أمام حق أو التزام بنقد معين يلاحظ فيه علاقته بنقد آخر. فما الذي يعمل به عند الوفاء إذا ما حدث تغير في هذه العلاقة الملحوظة؟
بداية فإنه مما لا خلاف حوله أن النص الفقهي على هذه الحالة لم يكن بدرجة شيوع النص الفقهي على الحالتين السابقتين، وقد وجدنا النص الصريح عليها لدى بعض فقهاء المالكية وبعض فقهاء الشافعية.
ففي الفقه المالكي نجد ما يلي: " قال الحطاب: قال: ابن أبي زيد: إن من أقرضته دراهم فلوس، وهو يوم قبضها مائة درهم ثم صارت مائتين لم ترد عليه إلا عدة ما قبضت، وشرطكما غير ذلك باطل "(1) .
والشاهد هو قوله: " وشرطكما غير ذلك باطل " فهو نص صريح في الربط، وفي عدم شرعيته، ورغم صراحة هذه العبارة فإنها لم تفصل القول في تبرير بطلان هذا الشرط، كما لم تشر إلى الرأي المخالف.
وأوضح منها ما نقله ابن رشد عن ابن القاسم قائلًا: " لو قال: أبيعك ثوبي هذا بعشرة دراهم من صرف عشرين درهمًا بدينار. قال: البيع صحيح ويلزمه نصف دينار، تحول الصرف كيفما حال – أي مهما كان سعر الصرف الجديد – حيث إنه أوجب له ثوبه بنصف دينار ". وفي موطن آخر تعرض ابن رشد لهذه الحالة بتفصيل أكبر قائلًا: " سئل عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه – على الدرهم – من صرف عشرين بدينار. فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار بالغًا ما بغل من الدراهم إن كان الدين من بيع، أما إذا كان من سلف فلا يأخذ منه، إلا مثل ما أعطاه " وفسر ابن رشد كلام ابن القاسم بقوله: " إن ذكر (من صرف عشرين بدينار) معناه أنه لم يسم الدراهم العشرة إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار، فله ذلك الجزء "(2) . يلاحظ أنه رغم أن العقد مكتوب بعدد معين من عملة معينة (الدراهم) لكن ذلك مربوط بسعر صرف معين من عملة أخرى، وهنا روعي العمل بالربط في حال البيع وأهمل في حالة القرض.
(1) الحطاب، مواهب الجليل، دار الفكر، بيروت: 4 / 341.
(2)
ابن رشد، البيان والتحصيل، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 7 / 23، 6 / 487.
وبعض المعاصرين يفهم موقف أبي يوسف ومن سار على دربه أن ربط بعملة حتى ولو لم يصرح علماء المذهب بذلك، وليس هذا الفهم ببعيد عن الصواب.
وفي الفقه الشافعي نجد الإمام النووي يقول: " قال في البيان: ولو قال: بعتك بألف درهم من صرف عشرين بدينار، لم يصح؛ لأن المسمى هو الدراهم، وهي مجهولة ولا تعتبر معلومة بذكر قيمتها، قال: وإن كان نقد البلد صرف عشرين بدينار لم يصح؛ لأن السعر يختلف ولايختص ذلك بنقد البلد، قال ابن الصاغ: وهكذا يفعل الناس اليوم، يسمون الدراهم ويبتاعون بالدنانير، ويكون كل قدر من الدراهم معلوم عندهم دينارًا، قال: وهذا البيع باطل؛ لأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير بحقيقية ولا مجازًا، ولا يصح البيع بالكناية، هذا ما نقله صاحب البيان، وهو ضعيف، بل الأصح صحة البيع بالكناية. وعلى هذا إذا عبر بالدنانير عن الدراهم صح. والله أعلم "(1) .
(1) النووي، المجموع، المكتبة السلفية، المدينة المنورة: 9 / 332.
المبحث الثاني
الحلول المطروحة لعلاج آثار التضخم (تغير قيمة العملة)
عرض وتقويم
يلاحظ القارئ لما قدمه الفقهاء المعاصرون والاقتصاديون الإسلاميون من حلول لعلاج آثار مشكلة التضخم أو تغير القيمة الحقيقية للنقود، أن هناك تنوعًا بل اختلافًا واسعًا في المواقف والاتجاهات ينتج عنها وجود العديد من الحلول المطروحة. وليت هذا الحشد من الحلول كان من قبيل توارد الحلول من قبل كل الفقهاء، بمعنى أنهم جميعًا أجازوًا كذا، وهم جميعًا أجازوا كذا، لو كان الأمر على هذا النحو لكان الأمر في غاية اليسر، لكننا أمام حلول متغايرة متخالفة، فالذي قال بالحل الأول رفضه من قال بالحل الثاني، ومن قال بالحل الثاني رفضه من قال بالحل الثالث، وهكذا في معظم الحلول المطروحة وإن لم يكن في كلها.
وهذا ما يعقّد المسألة، حيث يتطلب الموقف المقارنة والمفاضلة والترجيح.
وقد يكون من المفيد محاولة التعرف على منشأ هذا الخلاف الواسع في المواقف والاتجاهات. وفي اعتقادي أن وراء ذلك عوامل عديدة أهمها ما يلي:
1-
اختلافهم في فهم مواقف الفقهاء القدامى وتوجيهاتهم لها، فالبعض يرى في موقف أبي يوسف كذا ويبني على ذلك الفهم ما يراه، والبعض يفهم موقف أبي يوسف على منحنى آخر، وهكذا.
2-
اختلافهم في تكييف النقود المعاصرة وعلاقتها بكل النقود الأصلية والفلوس، فبرغم اتفاق الجميع على أنها نقد كامل النقدية، فإنهم في مسألتنا هذه يختلفون اختلافًا شديدًا حول: هل هي مثل النقود الذهبية والفضية في كل شيء أم في أشياء دون أشياء؟ وهل هي مثل الفلوس في كل شيء أم في أشياء وأشياء؟ وهل تلحق بهذه في حال وبتلك في حال أخرى؟ تنوعت المواقف. ولو نظر الفقهاء المعاصرون جيدًا في النظام النقدي القائم حاليًا وفي النظام النقدي الذي كان ساريًا في الماضي؛ لعلموا أن هناك فروقًا جوهرية بين النظامين، ولسهل عليهم التعرف على حقيقة النقود المعاصرة وعلاقتها بالنقود القديمة.
3 -
اختلافهم حيال قضية المثلي والقيمي التي شاعت في الفقه الإسلامي، من حيث ما هية وحقيقة كل منهما، ومن حيث تفريع الأحكام الشرعية على التمييز القائم بينهما. وبالتالي من حيث إدخال النقود المعاصرة تحت دائرة كل منهما.
4-
اختلاف أفهامهم للأساليب والأدوات الإحصائية والاقتصادية، ولما تحدثه من آثار عند استخدامها.
ومع هذا الخلاف الواسع تجدر الإشارة إلى ما هنالك من نقاط اتفاق عديدة تجمع كل الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين على تنوع مواقفهم واتجاهاتهم، ومن ذلك أن الجميع لا يلتفت إلى التغير اليسير في قيمة العملة، وإن اختلفوا بعد ذلك في تحديد هذا اليسير، كذلك فإن الجميع لا يلتفت إلى التضخم المتوقع أو التغير المتوقع في قيمة العملة عند التعاقد، طالما لاحظه المتعاقدان ولم يلتفتا إليه، عند ذلك لا كلام لأحد المتعاقدين عند الوفاء، حيث كان له أن يتحوط عند التعاقد لكنه أعرض عن ذلك، مثله مثل من رأى عيبًا في المعقود عليه لكنه أعرض عنه وأجرى التعاقد، ولا يعني ذلك أن حديث الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين انصرف إلى تضخم غير المتوقع فحسب، إن الحديث والحلول المطروحة تتناول كلا الأمرين؛ المتوقع وغير المتوقع، طالما كنا في حال المتوقع في مرحلة التعاقد، فهل من حقهما أن يتحوطا له ويتعاملا معه بفرض حدوثه لاحقًا أم لا؟
بعد هذا التمهيد ندخل في استعراض وتقويم الحلول المطروحة لعلاج ما يحدثه التضخم أو تغير قيمة العملة من أثر على طرفي التعاقد، ونبني تقويمنا لهذه الحلول على النتائج المتحصلة من النظر الشرعي أولا والنظر الاقتصادي ثانيًا في كل منها.
الربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة:
سبق أن أشرنا إلى الأرقام القياسية وإلى مفهوم الربط القياسي، وعندما اشتدت حدة مشكلة التضخم في الكثير من الدول واستفحلت آثارها التوزيعية وغيرها؛ لجأت بعض الدول إلى استخدام أسلوب الربط القياسي، ظنا منها أن ذلك يحقق قدرًا من الاستقرار في قيمة هذه الحقوق والالتزامات، وغالبًا ما كان يستخدم في ذلك مؤشر تكاليف المعيشة، وقد حبذ هذا الأسلوب ونادى به بعض الاقتصاديين الوضعيين، من منطلق أنه يسهم في علاج آثار التضخم، بينما ذهب فريق آخر من الاقتصاديين إلى رفض هذا الأسلوب؛ لما له من آثار اقتصادية سلبية على عملية التضخم ذاتها، من حيث توطنها واستفحالها، وكذلك على عملية تخصيص الموارد، إضافة إلى أن هذه الأرقام القياسية لم توجد أساسًا لهدف عملية الربط بها، كما أن تعبيرها عن المستوى العام للأسعار مشكوك فيه بقوة (1) . ومع هذا الخلاف الحاد بين الاقتصاديين الوضعيين صناع هذه الأرقام وأصحابها، فإن الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين أقبلوا على دراسة وتناول هذا الحل، وقد حدث ما هو مرتقب، فجاءت المواقف بدورها مختلفة، فريق يؤيد وفريق يعارض. وقد استخدم الفريقان الحجج الاقتصادية المعروضة من قبل، مضيفين إليها حججًا شرعية يؤيد بها كل فريق موقفه، وأبرز الحجج هنا الربا والعدالة والغرر والجهالة والخروج على النصوص، وكذلك الخروج على مقتضيات قاعدة المثلي والقيمي، إضافة إلى استشهاد كل فريق بما فهمه من مواقف الفقهاء القدامى، وأخذ كل فريق يدفع اعتراضات الفريق الآخر، ومن مواطن الاشتباه القوية هنا أن كلا الفريقين اعتمد جزئيًا على حجج واحدة، فكلاهما استند إلى مبدأ العدالة، بل كلاهما استند إلى مبدأ عدم الغرر والجهالة، بل لقد وصل الأمر إلى أن كليهما استخدم حجة الربا في دعم موقفه، وبعد المحاورات الجادة المستمرة كنا نتوقع وصول الفريقين إلى كلمة سواء وإلى موقف موحد، لكن هذا لم يحدث، ولا يتوقع له أن يحدث.
وبالنظر الدقيق في كل ما طرح وقيل، وبالنظر الاقتصادي المحض، وبدون توهين هذا الموقف أو ذاك، فإنني أرى أن الأفضل والأولى الإعراض عن هذا الحل، خروجًا من الخلاف من جهة، ولما له من آثار سلبية اقتصادية غير منكورة، وبوجه خاص ما يرتبه من تشويه قوي في تخصيص الموارد، بما يؤثر على كفاءة الاقتصاد الوطني (2) ، وإضافة إلى هذا كله وجود حلول أخرى أكفأ اقتصاديًا وأقرب إلى الصواب والحق شرعيًا.
(1) مايكل أبدجمان، مرجع سابق، ص 432؛ البنك الدولي، تقرير التنمية، (1989 م) ، ص 91؛ د. محمد القري، مؤشرات وضوابط الربط القياسي، الحلقة الثانية للتضخم، كوالا لمبور، (1996 م) .
(2)
د. محمد عمر شابرا، نحو نظام نقدي عادل، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، ص 57؛ د. محمد صديق الضرير، تعقيب على بحث معالجة التضخم على مستوى البنوك الإسلامية والأفراد، حلقة التضخم الثانية، كولامبور، (1996 م) ؛ د. معبد الجارحي، ملاحظات أساسية حول موضوع الربط القياسي، حلقة التضخم الثانية، (1996 م) .
الربط بالذهب أو بسلعة من السلع أو بعملة حقيقية:
نظرًا ما قوبل به الحل القائم على الربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة من اعتراضات شرعية واقتصادية قوية، طرحت حلول أخرى تقوم على الربط غير القياسي، وعلى غير الربط كلية، وكان من بين هذه الحلول الربط بالذهب أو بسلعة من السلع أو بعملة حقيقية.
ويلاحظ أن الربط بهذه الأشياء لا يختلف من الناحية الفنية، فعند التعاقد يتفق الطرفان على ربط الحق والالتزام المحدد بعملة معينة كالجنيه المصري مثلًا، ربطه في ضوء الأسعار النسبية القائمة بمقدار معين من الذهب أو السلعة المتفق عليها أو العملة الحقيقية الأخرى كالدولار مثلًا. بحيث تكون هذه الأشياء المربوط بها مجرد وحدة تحاسب تحدد المبلغ الذي يسدد من خلال هذه الأشياء.
مثال: باع شخص لآخر بضاعة على الأجل بمبلغ خمسين ألف جنيه مصري، واتفق الطرفان على ربط هذا المبلغ بالذهب من عيار (21)(ذهب سبائك) ، وقد بلغ ذلك ألف غرام ذهب، فعند السداد ينظر الطرفان في مقدار النقود بالجنيهات المصرية التي تساوي ألف غرام ذهب، ثم يسدد هذا المبلغ المساوي، وهنا نجد الاحتمالات المتعددة، فقد يكون خمسين ألف جنيه، وقد يكون أكثر، وقد يكون أقل. ونفس الشيء لو تم الربط بسلعة ما أو عملة ما (1) .
وقد أيد هذا الحل عدد أكبر من العدد الذي أيد الحل السابق، سواء على جبهة الفقهاء أو على جبهة الاقتصاديين، مستندين في ذلك إلى نفس المبررات التي ساندت الحل السابق، مع إضافة خلوصه من بعض الاعتراضات القوية التي وردت على الحل السابق، مثل الغرر والجهالة، مستأنسين برأي بعض الفقهاء القدامى مثل ابن القاسم وابن رشد.
ومع ذلك فلم يحظ هذا الحل بالقبول الكامل لا من قبل الفقهاء ولا من قبل الاقتصاديين الإسلاميين، وكل ما في الأمر أن قوة الرأي المعارض قد قلت نسبيًا.
(1) د. موسى آدم عيسى، ربط الديون والالتزامات الآجلة، بسلعة معينة أو بسلة من السلع، بحث مقدم لحلقة التضخم الثالثة، (1997 م) .
وبالنظر في هذا الحل ومدى تحقيقيه للمقصود، وهو إعادة الحق لصاحبه بقيمته الحقيقية فإننا نلاحظ أنه لا يضمن تحقيق ذلك في كل الحالات، بل قد يعيد له نفس القيمة أو أكثر أو أقل، وذلك كله مرهون بمقدار تمشي أسعار هذه السلع لمربوط بها مع المستوى العام للأسعار، فهب أن الذهب ظل ثمنه ثابتًا أو السلعة أو العملة المربوط بها، بينما المستوى العام للأسعار قد ارتفع بشدة، فمعنى الربط هنا أن المبلغ قد عاد لصاحبه بنفس عدده الأول أو مقداره، مع أن قيمته الحقيقية قد هبطت كثيرًا، وهب أن الذهب تضاعف سعره مع ثبات المستوى العام للأسعار، معنى ذلك أن الربط سيجعل الدائن يحصل على ضعف القيمة الحقيقية لحقه وهكذا.إذن أين هي العدالة المنشودة؟ وفي ضوء ذلك لنا أن نتساءل عن مغزى الربط هنا. يمكن القول: إن المسألة في حقيقتها لم تخرج عن كونها تعاملًا بهذه الأشياء المربوط بها، لكن بطريقة ملتوية، وكان الأفضل أن لو تم التعامل رأسًا بهذه الأشياء التي يراها الدائن أكثر ثباتًا واستقرارًا في قيمتها، ولذلك لا تتعجب إن وصلنا إلى القول بأن الربط بمؤشر تكاليف المعيشة يحقق المقصود بدرجة أكبر من هذا الربط.
ومما تجدر الإشارة إليه – برغم وضوحه – أنه لو تم التعامل مبدئيًا بواحد من هذه الأشياء لما كنا إزاء ربط بأي نوع، ولما كان هناك أي اعترضا على ذلك، وخاصة من الناحية الشرعية، ولذلك فقد نادى بعض الفقهاء المعاصرين بأن الحل لهذه المشكلة التي نواجهها هو ترك التعامل الآجل بهذه العملة المعرضة للتقلبات العنيفة في قوتها الشرائية واللجوء إلى شيء آخر أكثر استقرارًا وثباتا، مثل الذهب أو عملة أجنبية لإجراء التعامل بها من البداية، وبالطبع فإن هذا الحل يواجه بقدر من العقبات من الناحية الاقتصادية والنظامية. ولو شاع هذا المسلك في مجتمع ما لأثر ذلك بقوة على العملة الوطنية وثقة الناس فيها. وربما زادها تدهورًا. ومن ثم فإنه إن ساغ سلوكه على المستوى الجزئي أو الفردي، فإن اتخاذه كمسلك عام محفوف بالمزيد من المخاطر.
الربط بسلة من السلع أو العملات:
دعا إلى هذا الحل الحرص على المزيد من الاستقرار النسبي في قيمة الحقوق والالتزامات، فإذا كان للربط القياسي مثالبه، وإذا كان للربط بعملة أو سلعة ما هو الآخر مثالبه فإن الارتكاز على أكثر من سلعة أو أكثر من عملة يحقق درجة أكبر من الاستقرار القيمي، حيث إنه من المعتاد أن يكون تعرض سعر سلعة أو عملة ما للتقلب، أكبر من تعرض سعر عدة سلع مجتمعة أو عدة عملات مجتمعة.
والربط هنا يتم فنيًا من خلال القيام بتركيب أرقام قياسية بهذه السلع أو العملات بالأوزان التي يرتضيها الطرفان، ثم يربط الحق أو الدين بهذه الأرقام.
ورب سائل يسأل عن الفرق بين هذا وبين ما سبق طرحه تحت الحل بالربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة، والجواب عن ذلك بأن هناك فروقًا جوهرية عديدة سبق أن أشرنا إليها في المبحث التمهيدي، فهنا الأرقام القياسية خاضعة كلية لسيطرة الطرفين، من حيث البدء والانتهاء وتشكيلة السلع أو العملات، وتحديد الأوزان النسبية لكل منهما، وكل ذلك مفتقد في الربط بمؤشر تكاليف المعيشة.
ومع ذلك فإن التساؤلات الكبرى تبقى قائمة، فهل حقق هذا الربط المقصود، وهو تماثل القيم وتكافؤها؟ إن ذلك يتوقف على مدى تمشي هذه الأرقام الممثلة لأسعار السلع والعملات المختارة مع المستوى العام للأسعار، والذي يعز التعرف الدقيق عليه، ومن ثم بقيت المسألة في مجال الظن والتخمين، إضافة إلى بقية الاعتراضات التي طرحها الرافضون لفكرة الربط بصورة مطلقة.
الربط بعملة حسابية:
القصد من هذا الربط نوع من الركون إلى مزيد من الاستقرار في قيمة الحقوق والالتزامات، وذلك بالالتجاء إلى ربطها بعملة حسابية، هي في الظاهر عملة واحدة ولكنها في الحقيقة عدة عملات بأوزان ونسب معينة، مثل الدينار الإسلامي والدينار العربي، ووحدة السحب الخاصة، فهب أن الحق تمثل في ألف جنيه وقد ربط ذلك بالدينار الإسلامي فكان مساويًا لمائة دينار، فعند السداد يدفع بالجنيهات ما يساوي مائة دينار بالغة ما بلغت، وفي رأيي أن هذا الحل أقل قبولًا من الحل السابق، حيث درجة الوضوح فيه أقل، وكذلك درجة الطواعية وتحكم المتعاقدين فيه، وإن تميز بنسبة أكبر من الاستقرار في القيمة الحقيقية.
الربط بمعدل نمو الناتج القومي:
من الحلول التي استخدمتها بعض الدول الإسلامية ربط الديون بمعدل، والناتج القومي، بحجة أن هذه السندات الحكومية قد أسهمت في هذا النمو من جهة، ولتعويض ما يحدث من تآكل قيم العملات من جهة أخرى. فإذا كان لفرد ما سندات بمبلغ مائة ألف جنيه، وقد بلغ معدل نمو الناتج القومي (5 %) ، فمعنى ذلك أن يصبح لصاحب السندات مبلغ مائة وخمسة آلاف جنيه. وقد كلفت أمانة المجمع أحد الباحثين بدراسة هذا الأسلوب من الناحية الفقهية والناحية الاقتصادية، وقد توصلت الدراسة إلى عدم سلامة هذا الحل شرعًا واقتصادًا (1) ، وكل من اطلع على هذه الدراسة وافق على ما انتهت إليه.
وأعتقد أننا في ضوء ذلك لسنا في حاجة إلى عرض مفصل لهذا ولما عليه من ملاحظات، ويكفي الإشارة إلى أن معدل الناتج القومي قد يكون كله حقيقيًا، عندما لا يكون هناك تضخم، وعند ذلك فلم يأخذ صاحب السندات أكثر مما دفع؟ وقد يكون هذا المعدل صفرًا أو سالبًا، رغم ما قد يكون هنالك من تضخم، وعند ذلك لا يستحق صاحبه أي زيادة بل قد يخصم منه، بالرغم من تدهور قيمة دينه، وهكذا فإن هذا الربط لا يحقق المنشود من العدالة أو تكافؤ القيم، إضافة إلى ما فيه من جهالة وغرر وربا، وما يحدثه من آثار اقتصادية سلبية على مستوى التوزيع وعلى مستوى الإنتاج وعلى مستوى تخصيص الموارد.
ومن ثم فإن هذا الحل هو حل مرفوض فقهًا واقتصادًا.
(1) د. عبد الرحمن يسري، معدل نمو الناتج القومي، بحث مقدم لحلقة التضخم الثالثة، (1997 م) .
الحل عن طريق نظام الفائدة:
هذا الحل برغم أن درجة قبوله لا تتجاوز الصفر عند الجمهرة الغفيرة من الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين، فإن البعض قد قال به من الفقهاء والاقتصاديين وغيره. حيث إن منهج هذا البحث هو عدم الاقتصار على طرح الحلول التي لها حظ من النظر، فلم نجد مانعًا من طرح هذا الحل، وخاصة أن بعض من يرفض الحل عن طريق الربط القياسي يدخل الفائدة ضمن اعتبارات الرفض، فهو يرى أن القول بالربط يؤدي لا محالة إلى القول بالفائدة.
على أية حال طرحت فكرة استخدام نظام الفائدة لمجرد التعويض عن التضخم، والحجة أن ذلك لا يعد من الربا فهي في تلك الحالة ليست زيادة على الدين، وإنما هي تعوض عما لحق الديون من تدهور وانخفاض.
ونظام الفائدة إذا ما استخدم لهذا الغرض فإنه لا يختلف عن أي أسلوب آخر قد يستخدم في ذلك. بل إنه قد يكون أقل إضرارًا بالمدين عن العمل بالربط، إضافة إلى أن سعر الفائدة يخضع تمامًا للسلطة النقدية في البلد، بحيث يمكن أن يحدد بما يعادل معدل التضخم.
ونحن إذ نناقش هذا الكلام هنا، فإننا لا نناقشه من منطلق هل نظام الفائدة الحالي حرام أم لا؟ نحن نسلم جميعًا بأنه نظام محرم وربوي من حيث أصله وطبيعته، لكن الكلام هنا هو عن مدى إمكانية استخدام هذا النظام لأداء مهمة معينة محددة بعيدة عن الربا الصريح، وهو استخدامه كأداة لرفع الضرر فقط الواقع على الدائن من جراء ما أحدثه التضخم من تدهور في قيمة دينه. ويمكن تشبيه حالتنا هذه باستخدام الخمر لإزالة الغصة أو العطش، ومعلوم أن هناك خلافًا في ذلك بين العلماء، رغم تسليم الجميع بحرمة الخمر.
وجمهور الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين يرفضون استخدام هذه الأداة لهذا الغرض؛ لاعتبارات عديدة، منها أن بعضهم يرفض فكرة مراعاة القيمة من حيث الأصل، ومنها أن طبيعة وجوهر نظام الفائدة الحالي من المستحيل اقتصاديًا استخدامه لهذا الغرض بمفرده، بل لابد من انضمام أغراض أخرى جوهرية معه، هي ربا بغير خلاف، ومنها أنه لا يحقق التماثل والعتاد بدقة، ثم إنه اتفاق مسبق على معدل محدد للفائدة قبل أن يقع التضخم وقبل أن يعرف معدله، ثم إن اعتباره تعويضًا لا يسلم، لأنه تعويض عن شيء لم يحدث بعد، وهذا مغاير لنظام التعويض في الشريعة، ولغير ذلك من الاعتبارات (1) ولذا فإنه يكاد يكون من المتفق عليه إلا نادرًا بل شاذًا عدم جواز استخدام هذا النظم لهذا الغرض.
(1) د. شوقي دنيا، تقلبات القوة الشرائية للنقود، مجلة المسلم المعاصر، العدد (41) ، (1985 م) ؛ د. عبد الرحمن يسري، مؤشرات وضوابط القياسي، الحلقة الثانية للتضخم، (1996 م) ؛ د. موسى آدم عيسى، آثار التضخم على العلاقات التعاقدية في البنوك الإسلامية، الحلقة الثانية للتضخم، (1996 م) .
تطبيق مبدأ وضع الجوائح الظروف الطارئة:
تحت ضغط الحاجة إلى إيجاد حل يعالج الآثار السلبية على أحد أطراف التعاقدات الآجلة الناشئة عن التضخم وتغير قيمة العملات بما يحقق العدالة ويزيل الضرر، ونظرًا لوجود مثالب عديدة شرعية واقتصادية لطرق العلاج القائمة على فكرة الربط، فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى حل هذه المشكلة من خلال تطبيق مبدأ وضع الجوائح، وما يعرف حديثًا بنظرية الظروف بالطارئة، وما أسماه الفقيه المالكي الشهير ابن رشد الحفيد بأحكام الطوارئ.
والفكرة في ذلك اعتبار النقص الذي طرأ على القيمة الحقيقية للعملة من قبيل الجوائح أو الظروف الطارئة، وقد قال جمهور الفقهاء بوضعها عن المشتري والمستأجر وما يلحق بهما.
ويجري العمل بهذا الحل على أساس قيام التعاقد بشكل عادي تمامًا، وعند الوفاء ينظر: هل هناك هبوط في قيمة العملة؟ وهل بلغ هذا الهبوط مقدار الثلث عند من يقول بوضع الجائحة إذا بلغت الثلث أو بلغت حدًا غير مألوف ومعتاد عند من يقول بذلك في وضع الجوائح؟ فإن كان مقدار الحق يزاد بمقدار ما طرأ من نقص على القيمة، فمثلًا لو قلنا بالثلث، وبلغ النقص في القيمة ثلثها وكان الحق (600) جنيهًا، فمعنى ذلك أن يأخذ صاحب الحق (600 + 200 = 800) جنيهًا، وذلك جبرًا عما لحق قيمة حقه من نقصان، وبذلك نكون قد وضعنا عنه الجائحة، ورغم كثرة من قال بهذا الحل من الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين الإسلاميين (1) فإنه بدوره لم يسلم تمامًا من الاعتراض من بعض الفقهاء، ومبنى الاعتراض أساسًا ما هنالك حسب رأيه من فروق جوهرية بين التضخم أو تغير قيمة العملة وبين الجائحة، فالجائحة وردت فقط في الثمار، كما أنها وردت في نقص المقدار وليس نقص القيمة، ولم يقل أحد من العلماء بوضع الجائحة إذا ما أصاب الثمر رخص حتى ولو كان فاحشًا، كما أنها ترجع إلى فعل سماوي وليس إلى فعل بشري.
ثم إن العمل به يتوقف على الربط، حتى نتعرف على مقدار التغير الذي حدث في قيمة النقود، والحل عن طريق الربط مرفوض؛ لما فيه من محاذير شرعية، وأخيرًا فإن القائلين بذلك يحتفظون على كون الحكمة من وضع الجائحة هي إزالة الظلم ورفع الضرر، فيقولون: أي ظلم ارتكبه البائع في حق المشتري الذي أصابت السماء ثمره؟ ويقولون: أي ضرر لحق بالمشتري من نقص كمية الثمر؟ والمعروف طبقًا للقوانين الاقتصادية أن الأسعار ترتفع عند نقص الكمية المعروضة، وبالتالي فلن يضار المشتري بل ربما يستفيد.
(1) وقد عرض الشيخ عبد الله بن بيه موضوع التضخم والجوائح عرضًا مفصلًا قيمًا، تطبيق مبدأ وضع الجوائح، بحث مقدم لحلقة التضخم الثالثة، (1997 م) ؛ وانظر د. علي القره داغي، الحالات الاستثنائية من مبدأ الوفاء بالمثل، بحث مقدم للحلقة الثالثة للتضخم، (1997 م) ؛ وانظر تعقيب فضيلة الشيخ الكبير محمد المختار السلامي عليه؛ د. صالح المرزوقي، ربط الدين والالتزامات الآجلة بالذهب أو بعملة معينة، بحث مقدم للحلقة الثالثة للتضخم، (1997م) .
وبالبحث والتقصي فيما قدمه الفقهاء في هذا الموضوع تبين لنا أن الكثير منهم لم يقف بالجائحة عند الثمار، بل عداها إلى كل مال أصيب بأذى بالغ، كما لم يقف بها عند الفعل السماوي، بل أدخل أيضًا الفعل البشري، وكذلك لم يقف بها عند إصابة المقدار أو الكمية بل عداها إلى إصابة القيمة، ولم يقف بها عند البيوع بل عداها إلى الإجارات، وهذه بعض نصوص الفقهاء الصريحة في ذلك يقول القرافي:
" في الجواهر: قال ابن القاسم: هي ما لا يستطاع دفعه إن علم به، فلا يكون السارق جائحة على هذا، وجعله في (الكتاب) جائحة، وقال مطرف وعبد الملك: هي الآفة السماوية كالمطر وإفساد الشجر دون صنع الآدمي، فلا يكون الجيش جائحة، وفي (الكتاب) جائحة.
وفي (الكتاب) الجائحة الموضوعة كالجراد والنار والريح والبرد والغرق والطير الغالب والدود وعفن الثمرة والسموم، واختلف إذا أسقطها الريح ولم تتلف، قال ابن شعبان: جائحة، وقال عبد الملك: ليس بجائحة لبقاء عين الثمرة، وقيل: يخير كالعيب، واختلف في الماء يباع يسقى به مدة معينة فينقص عن ذلك، قيل: من البائع قليله وكثيره لأن السقي مشترى، وقيل: إن كان أقل من الثلث لم يحط عنه شيء، قال ابن يونس: لو مات دود الحرير كله أو أكثره، والورق لا يراد إلا له الأشبه أنه جائحة، كمن اكرتى فندقًا فخلا البلد، لتعذر قبض المنفعة، قال: وكذلك عندي لو انجلى أهل الثمرة عنها ولم يجد المشتري من يبيعه " (1) .
وانظر هذا النص في (ابن شاس)(2) ، وانظره مع شرحه المفصل لدى الباجي (3)(3) . وقد نقل ذلك خليل في متنه، ونقل ما هو واضح حيث يقول:" وتعيبها كذلك " ويشرح الدردير هذه العبارة بقوله: " أي كذهاب عينها فيوضع عن المشتري إن نقص ثلث قيمتها فأكثر، ولا ينظر إلى المكيلة، فالتشبيه في مطلب الوضع لا يفيد المكيلة، فإن أصابها غبار أو عفن من غير ذهاب عينها، فإن نقصت ثلث القيمة اعتبرت وإلا فلا " وشرح الدسوقي عبارة الدردير قائلًا: " يعني أن الثمرة إذا لم تهلك بل تعيبت بغبار وشبه، فإن ذلك جائحة تحط بالشرط السابق، لكن يعتبر هنا نقص ثلث القيمة لا نقص ثلث المكيلة، كما في ذهاب العين. قال في التوضيح: فإن لم تهلك الثمار بل تعيبت فقط كغبار يصيبها أو ريح يسقطها قبل أن يتناهى طيبها فنقص ثمنها، ففي البيان المشهور أن ذلك جائحة، ينظر لما نقص هل ثلث القيمة أم لا؟ وقال ابن شعبان: ليس ذلك بجائحة وإنما هو عيب، والمبتاع بالخيار بين أن يمسك أو يرد "(4) .
وقد فصل القول في ذلك تفصيلًا شافيًا ابن تيمية رحمه الله قائلًا:: مسألة في وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤاجرات مما تمس الحاجة إليه، وذلك داخل في قاعدة تلف المقصود المعقود عليه قبل التمكن من قبضه " (5) .
(1) القرافي، الذخيرة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، (1994 م) : 5 / 212.
(2)
ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، (1995 م) : 2 / 530.
(3)
الباجي، المنتقى شرح الموطأ، دار الكتاب العربي، بيروت: 4 / 232.
(4)
الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار إحياء الكتب بالعربية بالقاهرة: 3 / 185.
(5)
ابن تيمية، مجموع الفتاوي: 30: 263.
أما عن الضرر والظلم فقد ورد في ذلك نص نبوي صحيح، ففي مسلم:(( ((لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) )) هذا الحديث الشريف ينص على أن عدم وضع الجائحة هو أخذ لمال الغير بغير حق، ألا يعد ذلك ظلمًا؟ حقًا إن البائع لم يظلم المشتري في إنزال الجائحة، لكنه ظلمه في عدم وضعها إذا نزلت. وفي ذلك يقول ابن تيمية كلاما نفيسًا:" فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه إذا باع ثمرًا أصابته جائحة فلا يحل له أن يأخذ منه شيئًا، ثم بين سبب ذلك وعلته فقال: بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ وهذا دلالة على ما ذكره الله تعالى في كتابه من تحريم أكل المال الباطل، وأنه إذا تلف المبيع قبل التمكن من قبضه كان أخذ شيء من الثمن أخذ مال بغير حق، بل بالباطل، وقد حرم الله أكل المال الباطل؛ لأنه من الظلم " ويواصل شرحه لهذا الموقف قائلًا: " ذلك أن المعاوضة كالمبايعة والمؤاجرة مبناها على المعادلة والمساواة من الجانبين، لم يبذل أحدهما ما بذله إلا ليحصل له ما طلبه، فكل منهما آخذ معط، طالب مطلوب، فإذا تلف المقصود بالعقد المعقود عليه قبل التمكن من قبضه لم يجب على المؤجر – أعتقد أنه المستأجر – أو المشتري أداء الأجرة أو الثمن "(1) . إذن مجرد عدم إسقاط ما لحق بمن أذى يعد ضررًا ولا يلتفت بعد ذلك للموقف الاقتصادي، وما إذا كان سيستفيد المشتري من الجائحة أم لا، وبفرض استفادته فإن وضع الجائحة عنه يفيده أكثر، وهو حقه قد حرم منه، ففيه ضرر وظلم.
فهل يمكن في ضوء ذلك إدخال التضخم في نطاق الجائحة أوإلحاقه بها، أو في نطاق الظروف الطارئة، أو بالتعبير الفقهي أحكام الطوارئ؟ قال بذلك كثير من العلماء، بجامع الضرر وعدم استيفاء أحد الطرفين كامل حقه، وكون الأذى فيها غير مقدور على دفعه، ثم إن هذا الحل لا يعتمد على أسلوب الربط الذي هو محل ملاحظات.
وهل يمكن عند التعاقد اشتراط تطبيق مبدأ وضع الجوائح أو اشتراط عدم تطبيقه إذا ما حدث تضخم؟ في تناول الفقهاء لموضوع الجائحة قالوا: إنه لا يحق للبائع أن يشترط هذا الشرط، أما المشتري فذلك حقه، اشترطه في العقد أو لم يشترط. فهل هناك ما يمنع من تطبيق ذلك في موضوعنا؟ تبقى مسألة مقدار الجائحة الموضوعة، وهناك خلاف بين الفقهاء، قيل الثلث، وقيل ما يصدق عليه أنه جائحة عند أهل الخبرة. وكلا الرأيين له وجاهته، وإن كان الأخير أوجه.
وفي اعتقادي أن هذا الحل من أنسب الحلول لما نحن بصدده من تغير قيمة العملة، ولا بأس من تقديم العلماء ما يرون من ضوابط تجعله يحقق المقصود منه على الوجه المرضي.
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوي: 30: 26.
تطبيق مبدأ تعين العملة:
اهتمت الشريعة اهتمامًا فائقًا بالمعقود عليه في مختلف العقود المالية وغيرها. وحيث إن عقود المفاوضات تقوم على بذل كل طرف من أطراف التعاقد مالًا بهدف الحصول على مقابله من الطرف الآخر. فقد اشترط الإسلام لصحة ذلك تحقيق الرضى من كلا الطرفين ، والرضى الحقيقي لا يقوم على جهالة كبيرة بالمعقود عليه من أي من الطرفين، إذ كيف يرضى الإنسان بشيء لا يدرك أبعاده، ومن هنا كانت معلومية المعقود عليه لدى كل من الطرفين من شروط صحة المعاوضات المالية. وفي إطار ذلك ظهرت مسألة العيوب التي قد تكون في المعقود عليه، ومعنى وجود عيب فيه أن فيه نقيصة ما قد تؤثر جوهريًا في ركن التراضي. ومن ثم تطلب الأمر دراسات فقهية مفصلة لمسألة العيوب في المعقود عليه في العقود المختلفة، حتى ما كان فيه غير مالي بطبيعته، وهذا ما قام به الفقه الإسلامي في الماضي خير قيام، وما ينبغي أن يقوم به الفقهاء في كل عصر ومكان، حيث إن العيوب متنوعة متجددة لا سيما أن مرجعها العرف، وهو متغير من مكان لمكان ومن زمان لزمان، ويترب على ذلك خطأ تحكيم أقوال فقهية سابقة في هذا المجال على ما يحدث الآن بشكل مطلق، وحيث إننا نعيش مشكلة التضخم المستمر والجامح الذي يعرض النقود للتآكل المستمر والسريع في قيمتها الحقيقية، وحيث إن نقودنا من حيث مادتها ومن حيث الآليات الحاكمة لها مختلفة عن النقود في العصور السابقة، وحيث إنها تعد معقودًا عليه كأجر أو ثمن أو قرض أو صداق أو رأسمال
…
إلخ في العديد من العقود، كان لابد من عناية الفقه المعاصر بما يعتري هذه النقود من عيوب، مستفيدا في ذلك مما يقدمه الاقتصاد من معلومات فنية، ومن هنا تجئ أهمية دراسة التضخم ومدى اعتباره عيبًا في نقودنا، ومن ثم تطبيق الأحكام الشرعية حياله. وبالفعل فقد قدمت أفكار وآراء ودراسات فقهية في هذا الصدد (1) .
1-
نقطة البدء تحديد دقيق لمفهوم العيب: وفي هذه النقطة لن نجد خلافًا يذكر بيننا وبين الفقهاء القدامى، إن الخلاف قد يكون في المصادقات والأفراد الداخلة في الماهية والمضمون، فمثلًا قال الفقهاء: إن انقطاع النقود عيب فيها، واليوم وجود هذا الشيء غير وارد، فلو حكمنا ما مضى في الحاضر لنتج عن ذلك القول بعدم وجود عيوب في نقودنا الحاضرة. مع أن حقيقة الحال قد تكون غير ذلك، ومع أن مفهوم وماهية العيب تتسع لصور أخرى قد تكون موجودة.
إذن ما هو العيب في المعقود عليه؟ نذكر مرة ثانية بأن المعقود عليه لا يقف عند حد ما يبذله طرف من طرفي التعاقد دون الآخر، وإنما هو ما يبذله كل منهما: ثمنًا كان ، مثمنًا، أخرًا كان أو منفعة، مهرًا كان أو بضعًا .... إلخ.
(1) د. حمزة الفعر، مدى اعتبار التضخم عيبًا في العملة، بحث مقدم للحلقة الثالثة للتضخم (1997 م) .
ومما يحمد لفقهائنا أنهم تضافروا على تقديم مفهوم دقيق للعيب، نذكر منهم ما يلي:
قال ابن رشد: " العيوب التي لها تأثير في العقد هي عند الجميع ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصانًا له تأثير في ثمن المبيع، وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والعوائد والأشخاص "(1)، قال ابن قدامة: " فصل في معرفة العيوب، وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار؛ لأن المبيع إنما صار محلًا للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصًا فيها يكون عيبًا، والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن (2) .
وقال السرخسي: " ثم المرجع في معرفة العيوب إلى عرف التجار، وفي كل شيء إنما يرجع إلى أهل تلك الصنعة، فما يعدونه عيبًا فهو عيب يرد به، أو ما ينقص المالية فهو عيب "(3) .
وقال القونوي: " هو نقص خلا عنه أصل الفطرة السليمة "(4) .
وقال ابن حجر الهيتمي: " كل ما ينقص العين أو القيمة نقصًا يفوت به غرض صحيح (5) .
هذه التعاريف المختلفة تقدم لنا العناصر الأساسية في حقيقة ومفهوم العيب، فهو نقص يلحق الشيء على خلاف خلقته، له أثره المالي، فهو ينقص مالية هذا الشيء الذي لحق به، والمرجع فيه إلى أهل الخبرة والاختصاص لو طبقنا هذه الخصائص على التضخم الحادث في نقودنا المعاصرة، فإننا نجدها منطبقة فيه، فعندما تصاب نقود بالتضخم فإنها تصبح نقودًا مريضة، فالتضخم في عرف أهل الاختصاص (الاقتصاديين) مرض، ثم إنه عرض مغاير لفطرة النقود الطبيعية، فالجميع يدرك أن النقود من حيث الفطرة هي معايير ومقاييس للقيم، وأن الأصل فيها أن تكون مستقرة بالقيمة. إذن تدهور قيمتها أو تقلبها الكبير خروج بها عن أصل فطرتها، ثم إنها من حيث الشرع يجب أن تكون ذلك، ومن ثم فإن التهور المستمر في قيمتها يعد خروجًا بها كذلك على الخلق الشرعي، كما قال ابن رشد. ثم إنه ينقص مالية النقود، ويؤثر بالتالي في مقدار المقابل لها، فعشرون جنيهًا مصريًا منذ عشرين عامًا ماليتها أكثر بكثير من عشرين جنيهًا مصريًا اليوم.وما تقابل به العشرون جنيهًا سابقًا من سلع وخدمات أكبر بكثير مما يقابلها اليوم من هذه السلع والخدمات، بمعنى أن الخلل الذي طرأ عليها أثر في ماليتها، وفيما يقابلها من سلع، ومعنى ذلك أن التضخم تحقق في كل من النقص عن أصل الخلقة، وأن هذا النقص أثر بالنقص أيضًا في ثمنها أو في قيمتها أو مقابلها، وأن ذلك باعتراف كل أهل الاختصاص وهم الاقتصاديون.
(1) ابن رشد، بداية المجتهد، دار الفكر، بيروت: 2 / 152.
(2)
ابن قدامة، المغنى، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، (1985 م) : 6 / 235.
(3)
السرخسي، المبسوط، دار المعرفة، بيروت: 13 / 106.
(4)
القونوي، أنيس الفقهاء، ص 207.
(5)
ابن حجر الهيتمي، تحفة الفقهاء: 4 / 327.
إذن التضخم عيب شرعي في النقود. ولا يعكر على ذلك ما ورد في كتب الفقه على لسان بعض الفقهاء من أن رخص النقد وغلائه ليس عيبًا. فالوضع والظروف والملابسات مختلفة تمامًا، وساء نظرنًا إلى مادة النقود أو تنظيمها والكثير من الفقهاء المعاصرين يرون ذلك، وإن كان البعض منهم - وتحت التأثير القوي لمقولات بعض الفقهاء السابقين حيال غلاء النقد ورخصه - لا يرون التضخم عيبًا في نقودنا، مع أن الفقهاء القدامى هم الذين قالوا لنا إن المرجع في ذلك ليس إلى الفقهاء وإنما إلى أهل الاختصاص (الاقتصاديين) ، فالفقيه الجيد لا يقول بادئ ذي بدء هذا عيب وهذا غير عيب، وإنما يعتمد في ذلك على أهل الخبرة؛ الأطباء المهندسين، الاقتصاديين
…
إلخ (1) .
2-
هناك زاوية جديرة بالاهتمام وهي أن الحديث الفقهي المفصل والمسهب في العيوب انصرف أساسًا إلى العيوب التي كانت قائمة بالمعقود عليه عند التعاقد، لكنها غير معلومة لكلا الطرفين أو أحدهما، ثم ظهرت بعد ذلك. فإلى أي مدى ينطبق ذلك على ما نحن فيه من تضخم؟ طبعًا الواضح أننا نتحدث عن تضخم متوقع وغير معلوم وقائم لدى العقد. وإلا فإنه لو كان موجودًا ومعلومًا عند التعاقد كان كعيب معلوم وموجود لدى المتعاقدين، وهذا لا كلام لاحد من المتعاقدين نفيه، فقد دخل على علم بالعيب وقد رضي به، وغالبًا ما يكون قد كيف موقفه معه ، ومع ذلك فيمكن وجود تضخم قائم وموجود، ولكنه غير معلوم على الأقل لأحد الطرفين، كما إذا تعاقد وطني مع أجنبي يجهل أوضاع العملة الوطنية. لكننا سنغض النظر عن تلك الصور التي قد لا تكون شائعة، وإذن فما زال الإشكال قائمًا، حيث أن كلام الفقهاء القدامى كان عن عيوب موجودة عند العقد غير معروفة، ولكننا الآن حيال عيب يطرأ بعد العقد وقبل القبض، فهل يأخذ حكم العيب القديم؟ المسألة متروكة لاجتهاد الفقهاء المعاصرين، مع الإشارة إلى أن بعض الفقهاء القدامى قد تحدث عن حكم عيوب تحدث في المعقود عليه قبل قبضه، وألحق بها العيوب التي كانت قائمة قبل التعاقد. يقول السرخسي:" إذا اشترى الرجل جارية بألف درهم وقيمتها ألف درهم فولدت عند البائع بنتًا تساوي ألف درهم، وأنقصت الولادة الأم فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء تركها لأنها تعيبت في ضمان البائع، والعيب الحادث قبل القبض فيها يجعل المقترن بالعقد "(2)
(1) كما صرح بذلك القرافي، الذخيرة: 5 / 82.
(2)
السرخسي، المبسوط، مرجع سابق: 13 / 186.
لو قلنا بتطبيق مبدأ العيب على موضوعنا فعلينا أن نتعرف جيدًا على أحكام تطبيق هذا المبدأ، والخيارات المتاحة أمام أحد الطرفين، وهل تتوقف عند خيار الرد أو الإمضاء أم تمتد للتعويض بمقدار العيب؟ وهل من حق الطرفين عند التعاقد اشتراط العمل به أو عدم العمل به؟ المسألة خلافية (1) ، وبعض المعاصرين يرى أن إقحام مسألة الشروط العقدية في العيب والجائحة لا مجال لها، فكل منهما سبب شرعي لا يحتاج إلى ذلك، والبعض اعتبر التعويض بعيدًا عن الربا حتى في مجال الأموال الربوية، وذهب البعض إلى أنه في تلك الحالة ترد القيمة ولا يرد المثل مع الزيادة، والقيمة هي مال مساو في المعنى دون الجنس، وقدم البعض مخرجًا آخر هو أن أمام المتعاقدين بدلًا من اشتراط العمل به الاتفاق على أنه إذا حدث ينظر فيه المحكمون.
وبتقليب النظر في هذا الحل وما يعتمد عليه من مؤيدات وما يواجه به من اعتراضات أرى أن هذا يعد من أنسب الحلول المطروحة لمواجهة مشكلة التضخم وتغير قيمة العملة، وهو قريب جدًا من الحل عن طريق الجائحة، وإن كان يتيح خيارات أوسع أمام الطرف المضار، فنطاق العيوب أوسع من نطاق الجوائح عادة، كما أنه لا يشترط فيها بلوغ الثلث.
(1) المصدر السابق: 13 / 91.
تطبيق نظام الصلح ثم التحكيم ثم القضاء:
من المسلم به أنه في حال حدوث تضخم غير متوقع وفي بعض حالات تراكم التضخم المتوقع، فإن ضررًا يلحق بصاحب الحق أو الدين، ومن المسلم به أيضًا أن الطرف الثاني لم يكن المتسبب المباشر في هذا التضخم، وتحميل هذا الضرر للطرف الثاني هو لدى الكثير إزالة ضرر بضرر، وقد يكون التضخم من الارتفاع بحيث يتعذر على الطرف الثاني تحمله، لهذا كله ذهبت الكثرة الكثيرة من الفقهاء المعاصرين إلى أن أفضل الحلول لمواجهة هذه المشكلة هو تطبيق نظام الصلح، فإن لم يكن فنظام التحكيم، فإن لم يكن فنظام القضاء.
معنى هذا أنه إذا حدث تضخم قبل الوفاء فالباب مفتوح على مصراعيه أمام الطرفين للتراضي والتصالح فيما بينهما، فيما يتحمله كل طرف من الضرر، وباب الصلح موجود وفسيح في الشرع، في إطار من الضوابط الشرعية، فإذا لم يتمكن الطرفان من الاتفاق الودي على شيء بمفرديهما فلهما اللجوء إلى التحكيم، والتحكيم هو الآخر نظام معترف به شرعًا، وعليهما الإذعان لما يحكم به، فإذا لم يكن ذلك فلهما اللجوء إلى القضاء الذي ينظر في الموضوع من جوانبه المختلفة وملابساته وظروف كل طرف، ويحكم بما يراه أقرب إلى العدالة بينهما. ومتى قلنا بذلك فإنه يسري في حالة ما إذا لاحظ الطرفان التضخم المتوقع، واتفقا على أنه إذا حدث بالفعل فأمامهما التصالح أو التحكيم أو القضاء، وفي حالة ما إذا لم يلاحظاه عند التعاقد ولكن حدث بعد ذلك، فلهما عند الوفاء اللجوء إلى الحلول المذكورة. ومعنى ذلك أن هذا الحل لا يقف عند التضخم غير المتوقع بل يشمل النوعين معًا؛ المتوقع وغير المتوقع.
وقد قال بهذا الحل فقهاء قدامى (1) وقالت به جماهير الفقهاء المعاصرين (2) وكذلك جماهير الاقتصاديين الإسلاميين، وذلك لبعده عن المحظورات الشرعية من جهة ولسلامته الاقتصادية من جهة ثانية، لاسيما إذا ما تم من خلال التصالح أو حتى التحكيم، حيث لا يتطلب الأمر مزيدًا من الجهد والمال والوقت، كما أنه يهيئ السبيل أمام المزيد من استقرار المعاملات وازدهارها.
وفي ضوء ذلك كله فإنني أرى أن هذا الحل هو أنسب الحلول على الإطلاق لمعالجة موضوعنا. برغم ما في الحلين السابقين القائمين على الجائحة والعيب من ميزات، فإن هذا الحل يتميز عنهما لخلوه من الكثير من الاعتراضات التي وردت عليهما، وكذلك لإعطائه مجالًا أوسع أمام الطرفين للاتفاق على ما يحقق لهما معًا أكبر قدر ممكن من المصلحة.
(1) السيوطي، الحاوي للفتاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، (1975 م) : 2 / 13؛ ابن عابدين، تنبيه الرقود على مسائل النقود، رسائل ابن عابدين: 2 / 66.
(2)
الشيخ عبد الله بن منيع، التضخم وموقف الإسلام منه ومن المصالحة في حال وقوعه، الحلقة الثالثة للتضخم (1997م) د. علي القره داغي، مرجع سابق.
تنصيف الضرر بين الطرفين:
قلة من الفقهاء ذهبت إلى تنصيف الضرر إجبارًا بين الطرفين (1) ، استنادًا إلى أننا حيال ضرر واقع كرهًا، وأن كلا الطرفين في الحقيقة مضار وإن تفاوتت درجة الضرر لدى كل منهما، ومن ثم فليس من المقبول أن يتحمل أحد الطرفين الضرر وحده، وإنما يتقاسمانه جبرًا. وبعض من قال بذلك أيد موقفه - إضافة إلى ما سبق - بما هو مدون لدى الفقهاء القدامى من نظام المظالم المشتركة، بجامع أن كلا منهما يمثل ضررًا واقعًا كرهًا من غير الطرفين، ومن ثم فلا يسوغ أن يحمله واحد منهما بمفرده، بل يشتركان فيه، تحقيقًا لمبدأ العدالة حتى في الظلم. وجمهور الفقهاء المعاصرين لا يرون هذا الحل؛ لأنه ليس من العدل ولا من الحق إلزام طرف من طرفي التعاقد بتحمل نصف ضرر وقع لا دخل له فيه.
وبالنظر المتأنى في مسألة المظالم المشتركة نجدها، وإن تشابهت في بعض المظاهر مع التضخم، فإنها تختلف عنه اختلافًا جذريًا، فهناك مظلمة مفروضة على الجميع، فلا يسوغ لفرد أن يتهرب منها، حيث سيتحملها من لا يتهرب منها، وبالتالي يلحق به ظلم فوق ظلم، ومن ثم ذهب بعض الفقهاء إلى أنه في تلك الحالات يتحمل الجميع ما وقع عليهم من مظالم بالعدل. والملاحظ أن التضخم مغاير لذلك تمامًا، فهو لا يلحق ضررًا بكل الأفراد، فالبعض يضار والبعض يستفيد، ثم إن موقف طرفي التعاقد أمام هذه الظاهرة غير متماثل، فليس الضرر الذي لحق بالمدين إن كان هناك ضرر لحقه أصلًا مساويًا للضرر الذي لحق بالدائن، حتى يتحمل معه الدائن نصف الضرر. وهكذا فإن الاستناد إلى القول بذلك على نظام المصالح المشتركة لا يخدم هذا الحل. على أن فكرة المشاركة في تحمل المضار بين الطرفين أمر مقبول، وقال به الكثير، لكن لا علي سبيل الإلزام من جهة، ولا على سبيل تحديد نسب المشاركة بالنصف أو بغيره من جهة أخرى، وإنما الأمر خاضع للتراضي أو لما يراه المحكمون أو القضاة في ضوء الظروف والملابسات المحيطة. وفي ضوء ذلك فإنني أرى أن هذا الحل من حيث درجة قبوله هو أقل بكثير من الحل عن طريق الجائحة أو العيب أو الصلح.
(1) فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا، انخفاض قيمة العملة الورقية، مجلة المجمع، العدد التاسع، الجزء الثاني (1996 م) ؛ د. نزيه حماد، ربط الديون والالتزامات الآجلة بمؤشر تكاليف المعيشة، بحث مقدم للحلقة الثالثة للتضخم، (1997 م) .
الحل عن طريق التمييز بين الحالات والعقود:
نظرًا لتعدد الحالات والملابسات ولتعدد أنواع العقود الآجلة وتنوع طباعها، فهل الأمثل فقهيًا أخذها كلها كشيء واحد وتطبيق ما يطرح من حل عليها كلها دون تمييز؟ أم الأمثل التمييز والتفريق بين كل حالة وأخرى وكل عقد وآخر؟ أو على الأقل مراعاة ما قد يكون هنالك من فروقات ضخمة بارزة؟
بعض الفقهاء لا يرى التمييز ولا التفريق؛ لأن ذلك يفتح أبوابًا لممارسات قد تكون خاطئة، ولأن العدالة تقتضي المعاملة الواحدة للجميع طالما أننا أمام تضخم، إما بمراعاته أوعدم مراعاته، لكن البعض يرى التمييز (1) . وأبرز مواطن التمييز ما يلي:
1-
المعاوضات والأمانات: ذهب فريق من العلماء إلى أن محل النقاش والحوار حيال مسألة التضخم ينبغي أن يكون فقط في عقود المعاوضات، مثل البيوع والإجارات والقروض
…
إلخ. ويستبعد من ذلك عقود الأمانات، مثل المضاربات، إذ في الأولى نجد طرفين مستقلين وعوضين متقابلين، ومن ثم فمن المتصور والممكن حدوث ضرر لطرف دون الآخر، وإذن فالأمر قد يستدعي النظر لإزالة هذا الضرر، لكن في الأمانات الأمر مختلف، إن الطرفين بمثابة طرف واحد، فالمضارب مثلًا أو المودع لديه هو بمثابة رب المال أو المودع. ومعنى ذلك أنه ليس لرب المال إلا مثل ماله الذي دفعه ولايعتد بتغير قيمته في حال المضاربة. وهناك نصوص فقهية تؤيد هذا التمييز.
ومع ذلك إن البعض لا يرى هذا التمييز، بل ويصرح بأنه ينبغي أن يجري الربط في الأمانات عند حدوث التضخم تمامًا بتمام كما يجري في الديون المضمونة تحقيقًا للعدالة، وحتى لا يظلم رب المال بعودة ماله ناقصًا، ويأخذ المضارب أموالًا هي ليست في الحقيقة أرباحًا تجارية بعمل يده، وهذا مثال توضيحي، لنفرض أن رجلًا دفع مائة جنيه مضاربة وفي نهاية العام كان الربح 20 جنيهًا تقسم مناصفة، وكان معدل التضخم (20 %) ، فمعنى ذلك أن صاحب المال قد حصل في نهاية العام على (110) ، وأن المضارب قد حصل على (10) جنيهات.
وإذا تأملنا جليًا لوجدنا أنه من حيث المالية والقيمة الحقيقية، فإن رأس المال الذي عاد لصاحبه قد نقص تقريبًا (20 %) أي كأنه ثمانون جنيهًا، يضاف عليها (10) لتصبح تسعين جنيهًا. معنى ذلك أنه لم يسلم له رأسماله حقيقة، فكيف يكون هناك ربح ويوزع، إذن ما العمل؟ هل يأخذ رب المال كل المبلغ وهو 120 جنيهًا بحجة أن هذا هو في الحقيقة ما دفعه من قبل؟ وهل هذا عدل في حق المضارب الذي عمل طول العام وتحمل ما تحمل من جهد ومشقة وكلفة؟ بل حقق من الناحية الواقعية الملموسة ربحًا، هل من المستساغ أن يقال له بعد كل ذلك: إن هذا ربح تضخمي أو صوري محض، وليس لك أي حق فيه؟ ومن الذي حول المال النقدي وهو المائة إلى سلع تستفيد من التضخم وترتفع أسعارها؟ ومن الذي تسبب في تحقيق (20) جنيهًا ربحًا؟ إذن المسألة تحتاج إلى نظر دقيق، والأقرب في نظري عدم إخضاع عقود الأمانات للتقويم.
(1) وهذا الخلاف في الرأي لا يقف عند الفقهاء المعاصرين، فقد ظهر هذا الخلاف لدى الفقهاء القدامى، فمنهم من عمم الحكم ومنهم من ميز بين حالة وأخرى.
2-
البيع والقرض: يذهب بعض الفقهاء إلى قيام معاملة متغايرة لكل من البيوع والقروض حيال التضخم غير المتوقع، فمن الممكن مراعاة التضخم في ديون البيع، لكن ذلك مرفوض في ديون القرض، للنصوص الصريحة الواردة فيه، وابتعادًا عن الربا وشبهه، إضافة إلى أن القرض عقد إرفاق ومعاونة، عكس البيع فهو عقد مشاحة ومكايسة. والبعض لا يرى هذا التمييز ويرى أن تعامل القروض نفس المعاملة التي تعامل بها البيوع الآجلة، بل قد يكون من الأولى رعايتها بدرجة أكبر، حيث إن الدائن في البيع الآجل من حقه أن يراعي في الثمن ما قد يحدث مستقبلًا ويحتاط له، لكن المقرض لا يسوغ له ذلك، وإلا فهو الربا الجلي. ولم تعد القروض في أيامنا هذه في كثير من الحالات قروض إرفاق وإحسان، وبفرض أنها كذلك في بعض الصور فليس من المطلوب أن يكافأ المحسن بالضرر، وليس المطلوب أن يحسن إليه، وإنما المطلوب ألا يضار. وعمومًا فإن الخلاف قوي حيال هذه القضية، ورجوع الطرفين إلى التراضي والتصالح حل جيد لجميع الحقوق والالتزامات.
3-
القروض والودائع المصرفية الجارية: التكييف الشرعي الصحيح وكذلك التكييف القانوني والاقتصادي للودائع المصرفية الجارية أنها قروض من صاحبها للمصرف. ومن ثم فتجري عليها أحكام القروض، وخاصة ما يتعلق بضمانها وعدم جواز الحصول على زيادة مشروطة أو متعارف عليها بالنسبة لها. معنى ذلك أن ما يجري على القروض حيال مسألة التضخم يجري عليها، سواء قلنا بالربط أو بالصلح أو بغير ذلك. هذا ما يتمشى مع الأصول الشرعية. لكن البعض ذهب إلى التمييز بينهما في المعاملة هنا استحسانًا، ناظرًا إلى ما هنالك من خلاف بينها يراه جوهريًا مؤثرًا في المعالجة، وهو اختلافهما في مدى حرية صاحب القرض أو الوديعة في استرداد حقه عندما يريد.
فليس له ذلك في القروض العادية، لكن ذلك حقه في الودائع المصرفية الجارية، ومعنى هذا أنه كان بوسع صاحب الوديعة أن يسحبها ويتصرف بها كيف يشاء، في الوقت الذي يريده، وبالتالي فقد كان بإمكانه التحصن ضد التضخم، ولم يمنعه المصرف من ذلك، لكنه بمطلق حريته لم يفعل، فكيف يجيء ويطالب بالتعويض عما ألحقه التضخم به من مضار؟ بينما ذلك غير متأتى في القروض العادية، حيث لها أجل محدد، ومن الواضح أن هذا الاختلاف هو اختلاف فعلي واقعي، وهو من جهة أخرى اختلاف مؤثر في القدرة على التصرفات من قبل أصحاب الأموال، ومن ثم فقد يكون للتمييز وجه قوي.
4-
المدين المماطل والمدين غير المماطل: كذلك نجد من يقول بالتمييز بين الحالتين، بحيث إن جاز القول بمراعاة التضخم بأي شكل من الأشكال بالنسبة للمدين غير المماطل، فإن ذلك مستبعد بالنسبة للمماطل، كما استبعد وضع الجائحة عن المشتري الذي فرط في جني ثمرته أو اقتلاع زرعه، ومعنى القول بالتمييز هنا أنه إن ساغ استبعاد تحميل المدين غير المماطل الضرر أو بعضه الواقع على دائنه من جراء التضخم، فإن من غير المستبعد أن يحمل المدين المماطل بذلك، بل ينبغي أن يكون هذا هو الموقف حياله، وقد استأنس من يقول بذلك ببعض المواقف الفقهية السابقة. وأعتقد أن الخلاف إذا كان قويًا حيال المدين غير المماطل وما يمكن العمل معه عند حدوث التضخم، فإن الخلاف حيال المدين المماطل أقل حدة، حيث إن الكثرة من الآراء على تحميله ما نجم عن التضخم من ضرر للدائن.
5-
الربط العام والربط الانتقائي، والربط الإجباري والربط الاختياري: بعض الأفكار التي طرحت ذهبت إلى أهمية التفرقة والتمييز بين ربط وآخر، وفضلت تغيير المواقف الشرعية والاقتصادية بتغير أنواعها، وذهبت إلى تفضيل القول بالربط في بعضها وعدمه في بعضها الآخر. لكننا لسنا أمام اتفاق في ذلك.
فمثلًا يرى البعض الربط الانتقائي لأنه من الناحية العملية هو البديل الممكن، ثم إن آثاره الاقتصادية السلبية أقل، بينما يرى البعض الآخر أنه إن كان ولابد فليكن ربطًا عامًا؛ لأنه هو الذي يحقق المستهدف منه. وأعتقد أن الخلاف هنا غير مؤثر كثيرًا، طالما توصلنا إلى أن أسلوب الربط وخاصة الربط القياسي منه لا يحظى بقبول جمهور الفقهاء المعاصرين ولا العدد الكبير من الاقتصاديين الإسلاميين.
الخاتمة
بعد هذا العرض المركز لملف هذه القضية التي ظلت ساخنة لمدة طويلة في أَرْوقة المجمع، وإن خفت حدتها حاليًا من الناحية الواقعية، ففي الكثير من الدول التي كانت منذ فترة تقع تحت وطأة تضخم جامح نجد اليوم ضبطًا قويًا لهذا التضخم ونزولًا مستمرًا في معدلاته، ومع هذه الخفة في التضخم المتوقع أو المعتاد، ظهر في الآونة الأخيرة نوع آخر من التضخم المصاحب أو المسبوق بتدهور حاد في قيم العملات، والذى يحل كالعاصفة المفاجئة، حيث خلال أيام معدودات تفقد العملات معظم قيمتها نتيجة مضاربات خارجية وعوامل أخرى، وأعتقد أن هذا اللون الذي يحدث فجأة وبقوة بالغة يعد من الكوارث الاقتصادية التي تفوق في قوتها الكوارث الطبيعية، ولا ينجو منه أحد، وهذا ما يجعلنا نوليه اهتمامًا قويًا عند تقديم القرارات والتوصيات المجمعية.
بعد هذا العرض نجدنا في حاجة ملحة إلى إبراز أهم النتائج المستخلصة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
أولًا: ليس هناك خلاف حول ماهية وأهمية الحلول الواقعية من التضخم والتقلبات المستمرة في قيم العملات الحقيقية والخارجية، الكل مجمع على ماهيتها وضرورة أخذ المسؤولين بها. والمشكلة فيها أنها حلول طويلة الأجل لا تتحقق بين يوم وليلة، ثم إنها تتطلب إحداث العديد من التغيرات الجوهرية في السياسات الاقتصادية وغيرها.
ثانيًا: تبقى الحلول العلاجية للآثار التوزيعية للتضخم وتغير قيمة العملة، وهي حلول تتميز بالسرعة من جهة، والقابلية للتطبيق بدرجة أكبر من جهة ثانية، إضافة إلى مالها من خاصية الإسعاف ورفع المضار بدرجة مناسبة من السرعة بدلًا من ترك الحال على ما هو عليه إلى أن يتم إنجاز حلول دائمة، وجميع الأفكار المطروحة حيال هذه الحلول تلتقي على أنها ليست حلًا للمشكلة، بل هي علاج لبعض آثارها، ومعنى ذلك ضرورة الوعي بأهمية القيام بالحلول الجذرية بشكل متواز مع هذه الحلول، وألا يؤدي العمل بها إلى عرقلة أو عدم الاهتمام بالحلول الدائمة.
ثالثًا: تقديم علاج شرعي لآثار التضخم وتدهور قيم العملات، وخاصة ما يتعلق منها بما يلحق بأطراف التعاقدات المالية الآجلة، من الصعوبة بمكان، ومرجع ذلك أن المشكلة بالغة التعقيد؛ لما يكتنفها ويحيط بها ويؤثر فيها من عوامل واعتبارات متعددة متعارضة، فهناك الربا وهناك الغرر والجهالة، وهناك العدالة وهناك الضرر، وهناك مآلات الأمور من الناحية الاقتصادية والناحية الشرعية، وهناك الطبيعة الفريدة للنقود الورقية المعاصرة وللأنظمة النقدية السائدة المغايرة تمام المغايرة للأنظمة النقدية التي كانت سائدة من قبل، وهناك النصوص العامة الحمالة للتفسيرات والتأويلات، وقد اعترف بهذه الصعوبة صراحة بعض الفقهاء القدامى، فيقول الإمام الرهوني:" إنها مسألة اضطرب فيها المتقدمون والمتأخرون "(1)، ويقول ابن عابدين:" إنها مسألة ذات اشتباه، وهذا غاية " ما ظهر له فيها (2) وبرغم ما لهذه المشكلة من هذه التعقيدات، فإن لها وجهًا ميسرًا يتمثل في كونها - باتفاق الفقهاء وخاصة المعاصرين - مسألةً اجتهادية، وبالتالي فهناك مجال فسيح لإعمال العقل، وهناك ساحة متسعة للرأي والرأي الآخر، ولا شك أن ذلك ييسر المهمة أمام فقهاء العصر، ومن جوانب عظمة التشريع الإسلامي أنه حيال هذا اللون من القضايا يقدم العديد من المخارج والحلول التي يمكن من خلال بعضها على الأقل التعامل الفعال مع هذه المشكلات، لكن ذلك يبقى رهين التصرف الصحيح مع هذه المخارج وتوظيفها التوظيف الجيد، ولا يقوى على ذلك إلا من رزقه الله تعالى صحة فهم وبعد نظر، والحمد لله فذاك متوفر لدى جميع من تناول هذه القضية من المشاركين في أعمال المجمع.
(1) الرهوني، حاشية الرهوني: 5 / 20.
(2)
ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، دار الفكر، بيروت، (1966م) : 4 / 538.
رابعًا: واضح أننا أمام حلول يتجاوز عددها العشرة، وبرغم أن كلا منها له مؤيداته فإنها ليست على درجة واحدة من الصواب، وليست على مسافة واحدة من مقصود الشريعة ومبناها، فمنها ما هو أبعد ما يكون عن ذلك، ومنها ما هو أقرب ما يكون من ذلك، ومن الضروري في ضوء ذلك، النظر في هذه الحلول نظرة تقويمية بهدف ترتيبها تبعًا لدرجة اقترابها من الحق والصواب بقدر الإمكان، وأمامنا في ذلك معياران: معيار كمي يتمثل في عدد من قال بهذا الحل أو ذاك في مقابلة من رفضه، أو في مقابلة كل المشاركين، فحل يقول به سبعون في المائة أفضل من حل يقول به خمسون في المائة. ومعيار كيفي أو نوعي يتمثل فيما قد يكون لبعض الحلول من اعتبارات قوية، وإن خفيت على الكثير، مما يجعل الحل وإن لم يقل به الكثير لكنه معتمد على مبررات قوية، ولقد عودنا الفقه على أنه ليس بالضرورة أن يكون رأي الجمهور أو الرأي المشهور هو الرأي الراجح، وبالطبع فإن هذين المعيارين قد يتفقان في الجهة ويسيران سويًا وقد يختلفان، ومن فضل الله أنه في موضوعنا هذا – وحسب فهمي – نجد المعيارين متوافقين.
خامسًا: حاولت قدر جهدي واعتمادًا على ما تحت يدي من أوراق وما عايشته من محاورات ولقاءات أن أحصر المشاركين في هذا الموضوع وأحدد موقف كل منهم، وفي ضوء ذلك أستطيع القول بقدر من الثقة والاطمئنان ما يلي:
1-
الحل عن طريق الربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة لا يحظى بموافقة الأغلبية لا من الفقهاء ولا من الاقتصاديين، بل لن أكون مجازفًا إن قلت: إنه لا يحظى بموافقة نصف المشاركين من الفقهاء، إضافة إلى ما عليه من ملاحظات اقتصادية وشرعية ليس من السهل التغاضي عنها، وبالتالي فمن الأفضل تجاوزه والنظر في غيره، على الأقل مراعاة للخلاف من جهة، واتباعًا لما هو أولى وأفضل من جهة ثانية.
2-
الحل عن طريق الربط غير القياسي (بعملة أو سلعة أو سلة منهما) هو الآخر لم يحظ بقبول الأغلبية من الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين، وإن كان عدد من يقبله منهما أكبر من عدد من قبل الحل عن طريق الربط بمؤشر تكاليف المعيشة، ويلاحظ أن الاعتبارات الشرعية وراء عدم قبول هذا الحل كانت أكثر بروزًا من الاعتبارات الاقتصادية، وأرى أنه من الأفضل تجاوزه هو الآخر؛ لأن الخلاف بشأنه ما زال قويًا، ولوجود ما هو أولى وأفضل منه.
3-
الحل عن طريق الربط بمعدل نمو الناتج القومي وبسعر الفائدة مرفوض من كل الفقهاء والاقتصاديين المشاركين في أعمال المجمع، ومن ثم فهما حلان مرفوضان، ومرجع ذلك ما فيهما من مآخذ شرعية واقتصادية لا يجادل فيها إلا مكابر.
4-
الحل عن طريق تطبيق مبدأ وضع الجوائح أو طريق تطبيق مبدأ العيب فهو يحظى بقبول غالبية الفقهاء والاقتصاديين، وليس عليه إلا اعتراضات قليلة هينة، ومن ثم فهو من الحلول القابلة للأخذ بها.
5-
الحل عن طريق تنصيف الضرر أو ما سماه البعض تطبيق نظام المظالم المشتركة، لا يحظى إلا بقبول قلة من الفقهاء. وأهم نقاط الضعف فيه هو الإلزام بتحميل الطرفين معًا الضرر وبنسبة متساوية، مع أن الملابسات المحيطة قد لا تؤيد ذلك.
6-
الحل عن طريق الصلح أولًا، فإن لم يكن فالتحكيم ثانيًا، فإن لم يكن فالقضاء ثالثًا؛ يحظى بقبول أكبر عدد من الفقهاء والاقتصاديين، ومن ثم فهو يعد أفضل الحلول على الإطلاق.
7-
وفي كل الحالات ظهر اتجاه للتمييز والتفرقة في الأحكام بين الحالات المختلفة والعقود والمتغايرة بحيث لا يعمم حكم على الكل، بل يفرد لكل حالة حكم يناسبها ومع ذلك فلم يسلم هذا الاتجاه بدوره من معارضة تشتد وتقوي في حالات وتهون في حالات أخرى.
والأمر في الأول والأخير معروض على أعضاء وخبراء المجمع، وهم بحمد الله على قدر رفيع من العلم والمعرفة، وعلى خلفية طيبة بالموضوع وأبعاده، ومن ثم فالثقة كاملة في التوصل إن شاء الله إلى الموقف الأقرب إلى الحق والصواب والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
شوقي أحمد دنيا