الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الجزائي
إعداد
الأستاذ الدكتور علي أحمد السالوس
أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة – جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله تعالى حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعزِّ سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله خير البشر، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم القيامة.
أما بعد: فقد قمت بهذا البحث تلبيًة لدعوة كريمة من سماحة الأمين العام للمجمع، حفظه الله تعالى ورعاه، وقسمت البحث إلى ثمانية مباحث، جعلت الأول للتعريف بالشروط وأقسامها، والأربعة التالية لبيان الشروط عند المذاهب الأربعة، أما جوهر البحث ولبه فهو في المباحث الثلاثة الأخيرة.
ففي المبحث السادس نظرت في الأحاديث الشريفة التي أستدل بها الأئمة الأعلام؛ تخريجها ودرجتها وفقهها، وناقشت الأقوال المختلفة مع الترجيح.
والمبحث السابع جعلته لما أظهرته الدراسة السابقة من ترجيح ما يتصل بالشروط الوضعية ومنها الشرط الجزائي.
والمبحث الأخير جعلته للحديث عن الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة.
وإذا كان البحث زاد على الحد الأقصى للصفحات فإن ذلك يرجع إلى المباحث الخمسة الأولى، وهي ضرورية للوصول إلى الثلاثة الأخيرة.
والخمسة الأولى تقرير ما هو واقع، وليس فيها مجال للاجتهاد، ولذلك يمكن أن تكون بين يدي القارئ الكريم يرجع إليها متى شاء عند الإشارة أو الإحالة إليها، ويبدأ القراءة بالمبحث السادس، هذا ما أعاننا الله عز وجل عليه، وهدانا إليه، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الزلل في القول والعمل.
المبحث الأول
الشروط وأقسامها
المطلب الأول
تعريف الشرط
الشرط – في اللغة – إلزام الشيء والتزامه، والجمع شروط، وقد شرط له وعليه كذا من باب ضرب ونصر، واشترط عليه والشريطة كالشرط، وجمعها شرائط.
والشرط – بالتحريك – أي بفتحتين: العلامة، والجمع: أشراط، وأشراط الساعة: علاماتها (1) .
والشرط – في الاصطلاح – ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، لذاته.
وهذا التعريف جاء دون شرح أو بيان في مطالب أولي النهي (2) ، وفي جمع الجوامع، وعلى الأخير جاء شرح الجلال المحلي، وحاشية البناني حيث ذكر أن التعريف فيه ثلاثة قيود:
القيد الأول هو قوله: (يلزم من عدمه العدم) ، احترز من المانع؛ فإنه لا يلزم من عدمه شيء.
والقيد الثاني هو قوله: (ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم) ، احترز به من السبب؛ فإنه يلزم من وجوده الوجود، وهذا القيد يخرج المانع أيضًا لأنه يلزم من وجوده العدم.
والقيد الثالث: هو قوله: (لذاته) ، احترز به من مقارنة الشرط للسبب فيلزم الوجود، كوجود الحول الذي هو شرط لوجوب الزكاة، مع النصاب الذي هو سبب للوجوب، ومع مقارنته للمانع، كالدين على القول بأنه مانع من وجوب الزكاة، فيلزم العدم، فلزم الوجوب والعدم في ذلك لوجود السبب والمانع لا لذات الشرط.
(1) راجع لسان العرب ومختار الصحاح والمعاجم اللغوية
(2)
3 / 66.
فهذا القيد للبيان ودفع توهم لزوم الوجود من وجود الشرط إذا قارن السبب، لأنه ترتب الوجود حينئذ على السبب لا على الشرط، ودفع توهم لزوم العدم من وجود الشرط إذا قارن المانع، لأن ترتب العدم حينئذ على وجود المانع لا على وجود الشرط (1) .
وقال الآمدي: (قال بعض أصحابنا: الشرط هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر في تأثيره، لا في ذاته.
وهو فاسد: فإن الحياة القديمة شرط في وجود علم الباري تعالى، وكونه عالمًا، ولا تأثير ولا مؤثر.
والحق في ذلك أن يقال: الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما على وجه لا يكون سببًا لوجوده، ولا داخلًا في السبب) (2) .
وأخذ يبين رأيه، وقال بعد ذلك:
(وهو منقسم إلى شرط عقلي، كالحياة للعلم والإرادة، وإلى شرعي، كالطهارة والصلاة، والإحصان للرجم، وإلى لغوي، وصيغه كثيرة، وهي: (إن) الخفيفة، وإذا، ومن، ومهما، وحيثما، أينما، وإذ ما، وأم هذه الصيغ (إن) الشرطية) (3) .
(1) انظر جمع الجوامع، مع شرح الجلال المحلي، مع حاشية البناني: 2 / 18 – 19.
(2)
الإحكام في أصول الأحكام: 2 / 453.
(3)
المرجع السابق: 2 / 454.
الفرق بين الشرط والسبب والمانع:
فيما سبق إشارة إلى الفرق بين الشرط والسبب والمانع:
وقد فصل الشاطبي حيث قال: الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها، أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان: أحدهما خارج عن مقدور المكلف، والآخر ما يصح دخوله تحت مقدوره.
فالأول: قد يكون سببا، ويكون شرطًا، ويكون مانعًا، فالسبب مثل كون الاضطرار سببًا في إباحة الميتة، وخوف العنت سببًا في إباحة نكاح الإماء، والسلس سببًا في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببًا في إيجاب تلك الصلوات – وما أشبه ذلك. والشرط ككون الحول شرطًا في إيجاب الزكاة، والبلوغ شرطًا في التكليف مطلقًا، والقدرة على التسليم شرطًا في صحة البيع، والرشد شرطًا في دفع مال اليتيم إليه، وإرسال الرسل شرطًا في الثواب والعقاب، وما كان نحو ذلك، والمانع ككون الحيض مانعًا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام، والجنون مانعًا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات، وما أشبه ذلك.
وأما الضرب الثاني فله نظران،: نظر من حيث هو مما يدخل تحت خطاب التكليف مأمورًا به أو منهيًّا عنه، أو مأذونًا فيه، من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبًا أو دفعًا، كالبيع والشراء للانتفاع، والنكاح للنسل، والانقياد للطاعة لحصول الفوز، وما أشبه ذلك، وهو بين. ونظر من جهة ما يدخل تحت خطاب الوضع إما سببًا أو شرطًا أو مانعًا، أما السبب فمثل كون النكاح سببًا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة، وحلية الاستمتاع، والذكاة سببًا لحلية الانتفاع بالأكل، والسفر سببًا في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سببًا للقصاص، والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابًا لحصول تلك العقوبات، وما أشبه ذلك، فإن هذه الأمور وضعت أسبابًا لشرع تلك المسببات.
وأما الشرط فمثل كون النكاح شرطًا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثًا، والإحصان شرطًا في رجم الزاني، والطهارة شرطًا في صحة الصلاة، والنية شرطًا في صحة العبادات، فإن هذه الأمور وما أشبهها ليست بأسباب ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات.
وأما المانع فككون الأخت مانعًا من نكاح الأخرى، ونكاح المرأة مانعًا من نكاح عمتها وخالتها، والإيمان مانعًا من القصاص للكافر، والكفر مانعًا من قبول الطاعات، وما أشبه ذلك.
وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببًا وشرطًا ومانعًا؛ كالإيمان هو سبب في الثواب، وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها، ومانع من القصاص منه للكافر، ومثله كثير، غير أن هذه الأمور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد، فإذا وقع سببًا لحكم شرعي فلا يكون شرطًا فيه نفسه ولا مانعًا له لما في ذلك من التدافع، وإنما يكون سببًا لحكم وشرطًا لآخر ومانعًا لآخر. ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد، ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة؛ كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف (1) .
(1) انظر الموافقات: 1 / 187 - 189
المطلب الثاني
أقسام الشروط
1-
الشروط الشرعية:
قال الشاطبي: الشروط المعتبرة في المشروعات شرعًا على ضربين:
أحدهما: ما كان راجعًا إلى خطاب التكليف _ إما مأمورًا بتحصيلها – كالطهارة للصلاة، وأخذ الزينة لها، وطهارة الثوب وما أشبه ذلك – وأما منهيًّا عن تحصيلها – كنكاح المحلل الذي هو شرط لمراجعة الزوج الأول، والجمع بين المفترق والفرق بين المجتمع خشية الصدقة، الذي هو شرط لنقصان الصدقة، وما أشبه ذلك، فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه، فالأول مقصود الفعل؛ والثاني مقصود الترك، وكذلك الشرط المخير فيه – إن اتفق – فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف: إن شاء فعله فيحصل المشروط، وإن شاء تركه فلا يحصل.
والضرب الثاني ما يرجع إلى خطاب الوضع؛ كالحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، والحرز في القطع وما أشبه ذلك. فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط، ولا في عدم تحصيله، فإبقاء النصاب حولًا حتى تجب الزكاة فيه، ليس بمطلوب الفعل أن يقال يجب عليه إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه، ولا مطلوب الترك أن يقال يجب عليه إنفاقه خوفًا أن تجب فيه الزكاة. وكذلك الإحصان لا يقال إنه مطلوب الفعل ليجب عليه الرجم إذا زنى، ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى (1) .
2-
الشروط الجعلية أو الوضعية:
الشروط المعتبرة في المشروطات شرعًا، سواء ما كان راجعًا إلى خطاب التكليف وما كان راجعًا إلى خطاب الوضع، كلها شروطًا شرعية؛ فالشرع هو الذي اشترطها وليس المكلف.
أما الشروط الجعلية فهي الشروط التي يشترطها المكلف، كشروط المتعاقد في العقد، وشروط الواقف، وشروط الموصي.
إذن ما اشترطه الشرع فهو شرط شرعي، وكل ما اشترطه المكلف فهو شرط جعلي.
فمثلًا اشتراط أن يكون محل العقد متقومًا، والأهلية وعدم الغرر، شروط شرعية.
واشتراط الكفيل لضمان الثمن، والرهن، وخيار الشرط، شروط جعلية.
ومن المعلوم أن الشرط الجزائي – موضوع البحث – من الشروط الجعلية. ولذلك نبحث هذه الشروط بالتفصيل في المذاهب المختلفة المعتبرة.
تعريف الشرط الجزائي:
عرفنا المراد بالشرط، فالمراد بالجزائي:
الجزاء: المكافأة على الشيء، جزاه به وعليه جزاء، والجزاء يكون ثوابًا ويكون عقابًا ويستعمل في الخير والشر (2) .
والمراد بالجزاء هنا العقاب لا الثواب، والشرط الجزائي يعني الجزاء المترتب على الإخلال بالشرط، والمكافأة على الإخلال بالشرط لا تكون ثوابًا.
وستأتي أمثلة كثيرة متنوعة عند الحديث عن الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة في المبحث الثامن (3) .
(1) الموافقات: 1 / 273
(2)
انظر مادة (جزى) في لسان العرب، وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية بالقاهرة
(3)
لم أجد عبارة (الشرط الجزائي) في كتب الفقه والأصول التي رجعت إليها، وهي موجودة في القوانين الوضعية، انظر على سبيل المثال: الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري: الفصل الثاني من الباب الثاني من آثار الالتزام: 2 / 851 – 877، حيث تجد حديثًا مفصلًا عن الشرط الجزائي في القانون.
المبحث الثاني
الشروط عند الحنفية
قال المرغياني:
" ومن باع عبدًا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمة على أن يستولدها فالبيع فاسد " لأن هذا بيع وشرط، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.
ثم جملة المذهب فيه أن يقال: كل شرط يقتضيه العقد كشرط الملك للمشتري لا يفسد العقد لثبوته بدون الشرط، وكل شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق يفسده كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع لأن فيه زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا، أو لأنه يقع بسببه المنازعة فيعرى العقد عن مقصوده إلا أن يكون متعارفًا لأن العرف قاض على القياس، ولو كان لا يقتضيه العقد ولا منفعة فيه لأحد لا يفسده، وهو الظاهر من المذهب، كشرط لا يبيع المشتري الدابة المبيعة، لأنها انعدمت المطالبة فلا يؤدي إلى الربا ولا إلى المنازعة. إذا أثبت هذا فنقول: إن هذه الشروط لا يقتضيها العقد لأن قضيته الإطلاق في التصرف والتخيير لا الإلزام حتمًا، والشرط يقتضي ذلك، وفيه منفعة للمعقود عليه.
وقال:
" وكذلك لو باع عبدًا على أن يستخدمه البائع شهرًا، أو دارًا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري درهمًا، أو على أن يهدي له هدية " لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وسلف، ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن صفقتين في صفقة.
ثم قال:
الكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع لأنها تبطل بالشروط الفاسدة.
والهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عند دم العمد هذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة (1) .
(1) انظر الهداية مع شرح فتح القدير: 6 / 76 – 83.
وقال البابرتي في شرحه:
قال: (ومن باع عبدًا على أن يعتقه المشتري) شرع في بيان الفساد الواقع في العقد بسبب الشرط، وذكر أصلًا جامعًا لفروع أصحابنا، وتقريره أن الشرط ينقسم أولًا إلى ما يقتضيه العقد وهو الذي يفيد ما يثبت بمطلق العقد: كشرط المالك للمشتري، وشرط تسليم الثمن، أو المبيع، وإلى ما لا يقتضيه وهو ما كان بخلاف ذلك، وهذا ينقسم إلى ما كان متعارفًا وإلى ما ليس كذلك، وهذا ينقسم إلى ما فيه منفعة لأحد المتعاقدين وإلى ما ليس فيه ذلك، وهذا ينقسم إلى ما فيه منفعة للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق وإلى ما هو بخلافه في القسم الأول جاز البيع، والشرط يزيده وكادة. لا يقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وهو بإطلاقه يقتضي عدم جوازه، لأنه في الحقيقة ليس بشرط حيث أفاد ما أفاده العقد المطلق.
وفي الأول من القسم الثاني، وهو ما كان متعارفًا، كبيع النعل مع شرط التشريك، كذلك، لأن الثابت بالعرف قاضٍ على القياس، لا يقال فساد البيع شرط ثابت بالحديث، والعرف ليس بقاضٍ عليه، لأنه معلول بوقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به وهو قطع المنازعة، والعرف ينفي النزاع فكان موافقًا لمعنى الحديث فلم يبق من الموانع إلا القياس على ما لا عرف فيه بجامع كونه شرطًا، والعرف قاضٍ عليه، وفيما إذا لم يكن متعارفًا وفيه منفعة لأحد المتعاقدين كبيع عبد بشرط استخدام البائع مدة يكون العقد فاسدًا لوجهين؛ لأنه فيه زيادة عارية عن العوض لأنهما لما قصدًا المقابلة بيع المبيع والثمن خلا الشرط عن العوض وهو الربا. لا يقال: لا تطلق الزيادة إلا على المتجانسين للمزيد عليه والمشروط منفعة فكيف يكون ربا؛ لأنه مال جاز أخذ العوض عليه ولم يعوض عنه بشيء فكان ربا، ولأنه يقع بسبب المنازعة في مقصوده فيعرى العقد عن مقصوده من قطع النزاع لما عرف في بيان أسباب الشرائع.
وفيما إذا كان فيه منفعة للمعقود عليه كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع فإن العبد يعجبه أن لا تتداوله الأيدي وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلًا، فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين فهو فاسد بالوجهين.
وفيما إذا لم يكن فيه منفعة لأحد فالبيع صحيح والشرط باطل، كشرط أن لا يبيع الدابة المبيعة لأنه لا مطالب له بهذا الشرط فلا يؤدي إلى الربا ولا إلى المنازعة، فكان الشرط لغوًا، وهو ظاهر المذهب، وفي رواية عن أبي يوسف أنه يبطل البيع به، نص عليه في آخر المزارعة لتضرر المشتري به من حيث إنه يتعذر عليه التصرف في ملكه، والشرط الذي فيه ضرر كالشرط الذي فيه منفعة لأحد المتعاقدين.
والجواب أن المعتبر المطالبة وهي تتوجه بالمنفعة في الشرط دون الضرر، وإذا ثبت هذا ظهر أن بيع العبد بشرط أن يعتقه المشتري ، يدبره أو يكاتبه، أو أمة على أن يستولدها المشتري، فاسد لأنها شروط لا يقتضيها العقد، وفيها منفعة للمعقود عليه، لأن قضيته الإطلاق في التصرف والتخير لا الإلزام، والشرط يقتضي الإلزام حتمًا، والمنافاة بينهما ظاهرة، وليس أحدهما من العقد والشرط أولى بالعمل من الآخر، فعملنا بهما وقلنا إنه فاسد، والفاسد ما يكون مشروعًا بأصله غير مشروع بوصفه؛ فبالنظر إلى وجود ركن العقد كان مشروعًا، وبالنظر إلى عروض الشرط كان غير مشروع فكان فاسدًا (1) .
(1) راجع العناية مع شرح فتح القدير: 6 / 76 – 78.
والكاساني تحدث عن الشروط الفاسدة وقال:
هي أنواع، منها: شرط في وجوده غرر، وذكر عددًا من المسائل، ثم قال: وإن شئت أفردت لجنس هذه المسائل شرطًا على حده، وخرجتها إليه فقلت: ومنها أن لا يكون المشروط محظورًا فافهم.
ثم قال: (ومنها شرط) لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو المشتري أو للمبيع إن كان من بني آدم كالرقيق، وليس بملائم للعقد، ولا مما جرى به التعامل بين الناس، نحو ما إذا باع دارًا على أن يسكنها البائع شهرًا ثم يسلمها إليه، أو أرضًا على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهرًا، أو ثوبًا على أن يلبسه أسبوعًا، أو على أن يقرضه المشتري قرضًا، أو على أن يهب له هبة، أو يزوج ابنته منه، أو يبيع منه كذا، ونحو ذلك. أو اشترى ثوبًا على أن يخيطه البائع قميصًا، أو حنطة على أن يطحنها، أو ثمرة على أن يجذها، أو ربطة قائمة على الأرض على أن يجذها، أو شيئًا له حمل ومؤنة على أن يحمله البائع إلى منزله، ونحو ذلك، فالبيع في هذا كله فاسد، لأن زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون ربا لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا. والبيع الذي فيه الربا فاسد، أو فيه شبهة الربا وإنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا على ما نقرره إن شاء الله تعالى.
وكذا لو باع جارية على أن يدبرها المشتري أو على أن يتسولدها فالبيع فاسد؛ لأنه شرط فيه منفعة وأنه مفسد. وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري، فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة – رضي الله عنهما – أنه جائز.
وبين ما يؤيد كلا من الرأيين في شرط الإعتاق، ثم قال:
(وأما) فيما سوى الرقيق إذا باع ثوبًا على أن لا يبيعه المشتري، أو لا يهبه، أو دابة على أن لا يبيعها، أو يهبها، أو طعامًا على أن لا يأكله ولا يبيعه، ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع فإنه قال: لو شرط أحد المزارعين في المزارعة على أن لا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل. وهكذا روى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله. وفي الإملاء عن أبي يوسف: البيع بهذا الشرط فاسد (ووجهه) أنه شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف بين الناس فيكون مفسداً كما في سائر الشرائط المفسدة، والصحيح ما ذكر في المزارعة، لأن هذا شرط لا منفعة لأحد، فلا يوجب الفساد، وهذا لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض ولم يوجد في هذا لأنه لامنفعة فيه لأحد، إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه لا يؤثر في العقد فالعقد جائز والشرط باطل.
ولو باع ثوباًعلى أن يحرقه المشتري أو داراً على أن يخربها فالبيع جائز والشرط باطل. لأن شرط المضرة لايؤثر في البيع على ما ذكرنا.
(وأما) الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده. كما إذا اشترى بشرط أن يمتلك المبيع أو باع بشرط أن يمتلك الثمن ونحو ذلك فالبيع جائز؛ لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط فكان ذكرها في معرض الشرط تقريراً لمقتضى العقد فلا توجب فساد العقد. وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضًا، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه، فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنًا أو كفيلًا والرهن معلوم والكفيل حاضر فقبل وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن أن الرهن لا يخلو إما أن يكون معلومًا أو مجهولًا، فإن كان معلومًا فالبيع جائز استحسانًا، والقياس أن لا يجوز، لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسدًا، إلا أنّا استحسنا الجواز لأن هذا الشرط لو كان مخالفًا مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى، لأنه الرهن بالثمن شرع توثيقًا للثمن، وكذا الكفالة، فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة فكان كل واحد منهما مقررًا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن وأنه لا يوجب فساد العقد فكذا هذا.
ثم قال: ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه، أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع، فالبيع فاسد؛ لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائمًا للعقد بخلاف الكفالة والرهن، وكذلك إن كان مما لا يقتضيه العقد ولا يلائم العقد أيضًا لكن للناس فيه تعامل فالبيع جائز، كما إذا اشترى نعلًا على أن يحذوه البائع، أو جرابًا على أن يخرزه له خفًا أو ينعل خفه. والقياس أن لا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله (وجه) القياس أن هذا شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد كما إذا اشترى ثوبًا بشرط أن يخيطه البائع له قميصًا ونحو ذلك. (ولنا) أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع (1) .
(1) انظر بدائع الصناع: 5 / 169 – 172.
الخلاصة
الشروط الصحيحة:
مما سبق نرى أن الشروط تكون صحيحة عند الحنفية في ثلاثة حالات:
الحالة الأولى:
الشرط الذي يقتضيه العقد، كشرط البائع تسليم الثمن، وشرط المشتري تملك المبيع، وشرط المستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة، وهذا في الحقيقة ليس بشرط؛ حيث أفاد ما أفاده العقد المطلق بغير الشرط، فالشرط لا يزيده إلا تأكيداً.
الحالة الثانية:
الشرط الذي لا يقتضيه العقد لكنه ملائم للعقد: وهذا الشرط أجازوه بالاستحسان، ويرون أنه بالقياس يعتبر فاسدًا، كاشتراط الرهن والكفيل لضمان الثمن، والكاساني وضح هذا، وذكر أن الحوالة ليست كفالة، فشرطها يفسد العقد. غير أنا نجد ما يخالف هذا الرأي، فالسرخسي ذكر أن الكفالة والحوالة والرهن كلها مما يلائم العقد حيث قال:
وشرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري فإن الحوالة تحويل، ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداءً على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي وجوب العقد فكان مفسدًا للعقد.
ثم قال:
وإن شرط أن يرهنه هذا المبتاع بعينه ففي القياس العقد فاسد لما بينا أنه شرط عقد في عقد وفي الاستحسان يجوز هذا العقد، لأن المقصود بالرهن الاستيفاء، فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء، وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد، ثم الرهن بالثمن للتوثق بالثمن فاشتراط ما يتوثق به كاشتراك صفة الجودة في الثمن (1) .
الحالة الثالثة:
الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، ولكن للناس فيه تعامل، وفيه عرف ظاهر.
وهذا الشرط فاسد بالقياس عندهم، ورأوا جوازه استحسانًا لأن الثابت بالعرف قاضٍ على القياس، ويسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع.
بل قال السرخسي:
الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي النزوع عن العادة الظاهرة جرح بين (2) .
(1) انظر المبسوط: 13 / 19.
(2)
المبسوط: 13 / 14 – 15
الشرط غير الصحيح:
الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، وليس فيه تعامل للناس ولا عرف ظاهر، يكون شرطًا غير صحيح.
فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين؛ أو للمعقود عليه في حالة بيع الرقيق: فالشرط فاسد ومفسد للعقد.
وإن لم يكن فيه منفعة فالعقد صحيح والشرط باطل في ظاهر المذهب، وفي رواية عن أبي يوسف أن العقد يبطل؛ وقد وضحوا أن الشرط الفاسد ما يؤدي إلى الغرر، أو الربا، فيجب ألا يكون المشروط محظورًا.
ومن هذا المحظور ما يقع تحت النهي عن بيع وسلف، وبيعتين في بيعة أو صفقتين في صفقة.
وقالوا: الكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع؛ لأنها تبطل بالشروط الفاسدة.
وقال ابن الهمام في شرحه:
(والأحسن أن يقال تبطل بالشروط الفاسدة لأنها عقود معاوضة، فيجعل بطلانها بالشروط الفاسدة أثر المشابهة، وتعلل المشابهة بأنها عقود معاوضات)(1) .
أما الهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد، فإن هذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة، بل يصح العقد ويبطل الشرط، ومثلها الوصية؛ لأن الفساد باعتبار إفضائه إلى الربا، وذلك لا يتحقق إلا في المعاوضات، وهذه تبرعات وإسقاطات (2) .
* * *
(1) شرح فتح القدير: 6 / 82.
(2)
انظر العناية مع المرجع السابق: 6 / 83.
المبحث الثالث
الشروط عند المالكية
في الجزء الرابع من المدونة الكبرى نقرأ ما يلي:
(قلت) : أرأيت لو بعت عبدًا من أجنبي بمائة دينار، وقيمته مائتا دينار، على أن أسلفني المشتري خمسين دينارًا؟ (قال: البيع فاسد، ويبلغ به قيمته إذا فات مائتي دينار. (قلت) : لِمَ؟ (قال) : لأن العقدة وقعت فاسدة؛ لأن فيها بيعًا وسلفًا، ولأن البائع يقول: أنا لم أرض أن أبيع عبدي بمائة دينار وقيمته مائتًا دينار إلا بهذه الخمسين التي أخذتها سلفًا (1) .
وقال مالك في البيع والسلف: إذا ترك الذي اشترط السف ما اشترط صحت العقدة (2) .
(قلت) : أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى ما جاء بالثمن فهو أحق بالجارية، أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال) : لا. (قلت) : لم؟ (قال) : لأن هذا يعتبر كأنه بيع وسلف (3) .
(قلت) : أرأيت إن اشتريت عبدًا على أن أعتقه، أيجوز هذا الشراء في قول مالك؟ (قال) : نعم. (قلت) : لم أجزته وهذا البائع لم يستقص الثمن كله للشرط الذي في العبد (قال) : لأن البائع وضع من الثمن للشرط الذي في العبد فلم يقع فيه الغرر (4) .
العتق إلى أجل غرر، وبتات العتق ليس بغرر (5) .
(قلت) : أرأيت الدار التي يشتريها الرجل على أن للبائع سكناها سنة أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال) : قال مالك: ذلك جائز إذا اشترط البائع سكناها الأشهر، والسنة ليست ببعيد، وكره ما تباعد من ذلك (6) .
(قلت) : أرأيت إن بعت دابتي هذه على أن لي ركوبها شهرًا أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال) : قال مالك: لا خير فيه، وإنما يجوز من ذلك في قول مالك اليوم واليومين وما أشبهه، وأما الشهر والأمر المتباعد فلا خير فيه (7) .
(قال ابن وهب) : قال مالك: إن اشترط ركوبها إلى قريب فلا بأس به، فأما إن اشترط بائع الدابة أن يركبها إلى البعد الذي يخالفه أن تدبر فيه دبرًا يهلكها ولا ترجع منه فذلك بيع الغرر، ولا يحل (8) .
وقال ابن رشد الحفيد في بيوع الشروط والثنيا:
والأصل في اختلاف الناس في هذا الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث جابر قال: ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا وشرط ظهره إلى المدينة) وهذا الحديث في الصحيح. والحديث الثاني حديث بريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط)) والحديث متفق على صحته، والثالث حديث جابر قال:(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا، ورخص في العرايا) وهو أيضًا في الصحيح خرجه مسلم. ومن هذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع وشرط)) .
(1) ص132
(2)
ص132
(3)
ص133
(4)
ص152
(5)
انظر، ص 152، وفيها توضيح حدوث الغرر.
(6)
ص220
(7)
ص220
(8)
ص221
فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث في بيع وشرط:
وذكر الاختلاف ثم قال: وأما مالك، فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام:
شروط تبطل هي والبيع معًا، وشروط تجوز هي والبيع معًا، وشروط تبطل ويثبت البيع، وقد يظن أن عنده قسمًا رابعًا وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهما الربا والغرر وإلى قلته وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصًا في الملك فما كان دخول هذه الأشياء به كثيرًا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطًا أبطل الشرط وأجاز البيع، ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب، إذا بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها، والجمع عندهم أحسن من الترجيح (1) ، وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة، وأحد من له ذلك جدي والمازري والباجي، وتفصيله في ذلك أن قال: إن الشرط في المبيع يقع على ضربين أولين:
أحدهما: أن يشترطه بعد انقضاء الملك مثل من يبيع الأمة أو العبد، ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري، فمثل هذا قالوا: يصح فيه العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة.
والقسم الثاني أن يشترط عليه شرطًا يقع في مدة الملك وهذا قالوا: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه، وإما أن يشترط على المشتري منعًا من تصرف عام أو خاص، وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع.
وهذا أيضًا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون معنى من معاني البر.
والثاني: أن يكون معنى ليس فيه من البر شيء. فأما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيره لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع، مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر، وقيل السنة، فذلك جائز على حديث جابر. وإما أن يشترط منعًا من تصرف خاص أو عام، فذلك لا يجوز لأنه من الثنيا، مثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أولا يبيعها، وإما أن يشترط معنى من معاني البر مثل العتق، فإن كان اشترط تعجيله جاز عنده، وإن تأخر لم يجز لعظم الغرر فيه (2) .
ثم قال: وأما إن اشترط معنى في المبيع ليس ببر مثل أن لا يبيعها، فذلك لا يجوز عند مالك، وقيل عنه البيع مفسوخ، وقيل بل يبطل الشرط فقط، وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت على المبيع فإنه لا يجوز عند مالك، لأنه يكون مترددًا بين بيع المبيع والسلف وإن جاء بالثمن كان سلفًا، وإن لم يجيء كان بيعًا (3) .
(1) ومع ذلك قال ابن عبد البر في الاستذكار: 19 / 73، حديث جابر اختلف في ألفاظه اختلافًا لا تقوم معه حجة، أي أنه رد الحديث الذي رواه الشيخان بألفاظ صريحة في البيع مع الشرط.
(2)
ومثال العتق الهبة والصدقة والوقف – انظر الخرشي: 3 / 81 ومعه حاشية العدوي
(3)
انظر بداية المجتهد: 3 / 308 – 312.
وقال الصاوي:
قوله: (وكبيع وشرط) : علم أن الشرط الذي يحصل عند البيع إما أن ينافي المقصود أو يخل بالثمن أو يقتضيه العقد أو لا يقتضيه ولا ينافيه، فالمضر الأولان دون الأخيرين، فالذي يناقض المقصود مثله بقوله كأن لا يركبها أو لا يبيعها. . . إلخ، والذي يخل بالثمن بقوله: كبيع بشرط سلف، والذي لا يقتضيه العقد كشرط تسليم المبيع ولم يمثل له هنا وإن كانت أحكامه معلومة، والذي يقتضيه ولا ينافيه أفاد بقوله: كشرط رهن وحميل، فهذا الأخير إن اشترط عمل به وإلا فلا، والشرط الذي قبله لازم له على كل حال، وهذا التفصيل لمالك (1) .
والخرشي بعد أن بين شرط الشرط الذي يناقض المقصود من البيع، أو يخل بالثمن، قال:
بقى شرط يقتضيه العقد، وهو واضح كشرط تسليم المبيع، وهو لازم دون شرط، فشرطه تأكيد.
وشرط لا يقتضيه العقد ولا ينافيه، وهو من مصلحته، جائز لازم بالشرط ساقط بدونه كالأجل والخيار والرهن (2) .
وقال ابن رشد الجد:
الشروط المشترطة في البيوع على مذهب مالك – رحمه الله – تنقسم على أربعة أقسام.
أحدها: يفسخ به العقد على كل حال، ولا خيار، في الربا والغرر في الثمن أو المثمون وما أشبه ذلك.
والثاني: يفسخ فيه البيع ما دام مشترط الشرط متمسكًا بشرطه، فإن رضي بترك الشرط صح البيع.
والثالث: يجوز فيه البيع والشرط وذلك إذا كان الشرط صحيحًا ولم يؤول البيع به إلى غرر، ولا فساد في ثمن ولا مثمون، ولا إلى ما أشبه ذلك من الإخلال بشرط من الشرائط المشترطة في صحة البيع، وذلك مثل أن يبيع الرجل الدار ويشترط سكناها أشهر معلومة. . .
والرابع: يجوز فيه البيع ويفسخ الشرط، وذلك ما كان الشرط فيه غير صحيح إلا أنه خفيف فلم يقع عليه حصة من الثمن، وذلك مثل أن يبيع السلعة ويشترط إن لم يأت بالثمن إلى ثلاثة أيام أو نحوها فلا بيع بينهما، ومثل الذي يبتاع الحائط بشرط البراءة من الجائحة (3) .
ثم قال:
فلا يخرج شيء من البيوع من هذه الأقسام، وإن وجد بين أصحاب مالك – رحمه الله تعالى – اختلاف في بيع من البيوع فإنما ذلك لاختلافهم من أي قسم هو من الأقسام المذكورة (4) .
(1) انظر حاشية الصاوي مع الشرح الصغير: 3 / 102
(2)
انظر الخرشي: 3 / 80
(3)
المقدمات: 2 / 544
(4)
المقدمات: 2 / 545؛ وراجع اجتماع البيع والشرط في عقد الجواهر الثمينة: 3 /422؛ وراجع الموضوع في الجزء الرابع من المدونة، ص 132 بيع وسلف، ص 152 البيع بشرط العتق، ص220.
وقال الشاطبي:
الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام:
(أحدهما) أن يكون مكملًا لحكمة المشروط وعاضدًا لها بحيث لايكون فيه منافاة لها على حال؛ كاشتراط الصيام في الاعتكاف عند من يشترطه، واشتراط الكف، والإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان – في النكاح، واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة في الثمن – في البيع، واشتراط العهدة في الرقيق، واشتراط مال العبد، وثمرة الشجرة، وما أشبه ذلك. وكذا اشتراط الحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، وعدم الطول في نكاح الإماء، والحرز في القطع فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعًا لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضي حكمًا.
(والثاني) أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته، بل هو على الضد من الأول؛ كما إذا اشترط في الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب، أو اشترط في الاعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد – بناءً على رأي مالك، أو اشترط في النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عنين، أو شرط في البيع أن لا ينتفع بالمبيع، أو إن انتفع فعلى بعض الوجوه دون بعض أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف، وأن يصدقه في دعوى التلف، وما أشبه ذلك. فهذا القسم أيضًا لا إشكال في إبطاله، لأنه مناف لحكمة السبب، فلا يصح أن يجتمع معه.
(والثالث) أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة، وهو محل نظر: هل يحلق بالأول من جهة عدم المنافاة؟ أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرًا؟ والقاعدة المستمرة في أمثال هذا، التفرقة بين العبادات والمعاملات، فما كان من العبادات لا يكتفي فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة، لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات، فكذلك ما يتعلق بها من الشروط وما كان من العاديات يكتفي فيه بعدم المنافاة؛ لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه. والله أعلم (1) .
(1) انظر الموافقات: 1 / 283 – 285.
المبحث الرابع
الشروط عند الشافعية
قال الشافعي – رحمه الله:
وإذا باع الرجل العبد على أن لا يبيعه، أو على أن يبيعه من فلان، أو على أن لا يستخدمه، أو على أن ينفق عليه كذا، أو على أن يحارجه، فالبيع كله فاسد لأن هذا كله غير تمام ملك ولا يجوز الشرط في هذا إلا في موضع واحد وهو العتق اتباعًا للسنة ولفراق العتق لما سواه فنقول: إن اشتراه منه على أن يعتقه فأعتقه في البيع جائز، إن قال رجل ما فرق بين العتق وغيره؟ قيل: قد يكون لي نصف العبد فأهبه أو أبيعه وأصنع فيه ما شئت غير العتق ولا يلزمني ضمان نصيب شريكي فيه ولا يخرج نصيب شريكي من يده، لأن كلا مالك لما ملك، فإن أعتقه وأنا موسر عتق على نصف شريكي الذي لا أملك ولم أعتق وضمنت قيمته، وخرج من يدي شريكي بغير أمره، وأعتق الحمل فتلده لأقل من ستة أشهر فيقع عليه العتق، ولو بعته لم يجز البيع مع خلافه لغيره في هذا وفي أم الولد والمكاتب وما سواه (1) .
وقال الشيرازي:
إذا شرط في البيع شرطًا نظرت – فإن كان شرطًا يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبهها – لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد فلم يبطله، فإن شرط ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة كالخيار والأجل والرهن والضمين لم يبطل العقد؛ لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في مواضعه إن شاء الله وبه الثقة، ولأن الحاجة تدعو إليه فلم يفسد العقد. فإن شرط عتق العبد المبيع لم يفسد العقد، لأن عائشة – رضي الله عنها – اشترت بريرة لتعتقها، فأراد أهلها أن يشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق)) .
وإن اشتراه بشرط العتق فامتنع من إعتقاه ففيه وجهان (أحدهما) يجبر عليه لأنه عتق مستحق عليه، فإذا امتنع أجبر عليه، كما لو نذر عتق عبد ثم امتنع من إعتقاه (الثاني) لا يجبر، بل يثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه ملكه بالعوض، وإنما شرط للبائع حقًا فإذا لم يف ثبت للبائع الخيار كما لو اشترى شيئًا بشرط أن يرهن بالثمن رهنًا فامتنع من الرهن (2) .
ثم قال:
فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى البيع بأن باع عبدًا بشرط أن لا يبيعه أو لا يعتقه، أو باع دارًا بشرط أن يسكنها مدة، أو ثوبًا بشرط أن يخيطه له أو فلعة بشرط أن يحذوها له بطل البيع، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:" أنه نهى عن بيع وشرط ". وروي أن (أن عبد الله بن مسعود اشترى جارية من امرأته زينب الثقفية وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن، فاستفتى عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما – فقال: لا تقربها، وفيها شرط لأحد)(3) .
(1) الأم: 3 / 78
(2)
المذهب من المجموع: 9 / 357.
(3)
المرجع السابق: 9 / 361.
وقال النووي في شرحه:
أما الأحكام فقال أصحابنا: الشروط خمسة أضرب:
(أحدها) ما هو من مقتضى العقد؛ بأن باعه بشرط خيار المجلس أو تسليم المبيع أو الرد بالعيب أو الرجوع بالعهدة أو انتفاع المشتري كيف شاء وشبه ذلك، فهذا لا يفسد العقد بلا خلاف لما ذكره المصنف، ويكون شرطه توكيدًا وبيانًا لمقتضاه.
(الضرب الثاني) أن يشترط مالا يقتضيه إتلاف العقد لكن فيه مصلحة للعاقد، كخيار الثلاثة والأجل والرهن والضمين والشهادة ونحوه، وكشرط كون العبد المبيع خياطًا أو كاتبًا ونحوه، فلا يبطل أيضًا بلا خلاف بل يصح ويثبت المشروط.
(الضرب الثالث) أن يشترط ما لا يتعلق به غرض يورث تنازعًا كشرط ألا يأكل إلا الهريسة، أولا يلبس إلا الخز والكتان، قال إمام الحرمين: وكذا لو شرط الإشهاد بالثمن وعين شهودًا وقلنا: لا يتعينون، فهذا الشرط لا يفسد العقد؛ بل يلغو ويصح البيع، هذا هو المذهب، وبه قطع إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما، وقال المتولي: لو شرط الالتزام ما ليس بلازم بأن باع بشرط أن يصلي النوافل، أو يصم غير رمضان أو يصلي الفرائض في أول أوقاتها، بطل البيع لأنه ألزم ما ليس بلازم، قال الرافعي: مقتضى هذا فساد العقد في مسألة الهريسة ونحوها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(الضرب الرابع) أن يبيعه عبدًا أو أمة بشرط أن يعتقه المشتري ففيه ثلاثة أقوال (الصحيح) المشهور الذي نص عليه الشافعي في معظم كتبه وقطع به المصنف وأكثر الأصحاب، أن البيع صحيح والشرط لازم يلزم الوفاء به (والثاني) يصح البيع ويبطل الشرط، فلا يلزمه عتقه (والثالث) يبطل الشرط والبيع جميعًا كغيره من الشروط، والمذهب صحتهما (1) .
(1) المجموع شرح المهذب: 9 / 358.
(الضرب الخامس) أن يشترط ما سوى الأربعة من الشروط التي تنافي مقتضى البيع، بأن باعه شيئا بشرط ألا يبيعه ولا ينتفع به، أولا يعتقه أو لًا يقبضه أو لا يؤجره أو لا يطأها أو لا يسافر به أو لا يسلمه إليه، أو بشرط أن يبيعه غيره، أو يشتري منه أو يقرضه أو يؤجره أو خسارة عليه إن باعه بأقل، أو أنه إذا باعه لا يبيعه إلا له أو ما أشبه ذلك، فالبيع باطل في جميع هذه الصور أشباهها لمنافاة مقتضاه، ولا فرق عندنا بأن يشرط شرطًا واحدًا أو شرطين.
وحكى إمام الحرمين والرافعي وغيرهما قولًا غريبًا حكاه أبو ثور، عن الشافعي أن البيع لا يفسد بالشروط الفاسدة بحال، بل يلغو الشرط ويصح البيع لقصة بريرة رضي الله عنها، وهذا ضعيف. وحينئذ البيع عكس النكاح، فإن المشهور أنه لا يفسد بالشروط الفاسدة، وفيه قول شاذ ضعيف أنه يفسد بها (1) .
وتحدث الغزالي عن النهي عن بيع وشرط فقال:
فاقتضى مطلقه امتناع كل شرط في البيع، والمفهوم من تعليله أنه إذا انضم شرط إلى البيع، بقيت معه علقه بعد العقد، يتصور بسببها منازعة، ويفوت بفواتها مقصود العاقد، وينعكس على أصل العقد، فيحسم الباب، ولم يكن محذور هذا النهي منفصلًا عن العقد، فيدل على فساده، أو فساد الشرط لا محالة.
ويستثنى من هذا الأصل حال الإطلاق ستة شروط:
الأول: أن يشترط ما يوافق العقد.
الثاني: شرط الخيار ثلاثة أيام فما دونه.
الثالث: شرط المهلة في الثمن إلى ميقات معلوم.
الرابع: شرط الوثيقة في الثمن بالرهن، أو الكفيل، أو الشهادة.
الخامس: شرط العتق في المبيع.
السادس: إذا شرط في المبيع وصفًا ناجزا، ليس يتوقف على أمر بعده. وفصل الغزالي القول في كل شرط من هذه الشروط الستة (2)
والنووي تحدث في البيوع المنهي عنها؛ عن النهي عن بيع وشرط، وعقد فصلًا في ضبط صحيح الشروط في البيع وفاسدها، وذلك في كتابه روضة الطالبين (3) ولعل ما نقلت عنه في المجموع فيه ما يكفي.
* * *
(1) المجموع شرح المهذب: 9 / 363 – 364.
(2)
راجع الوسيط: 3 / 74 – 87؛ وراجع النهي عن بيع وشرط، وما يستثنى من النهي؛ في زاد المحتاج بشرح المنهاج: 2 / 34 – 38.
(3)
راجع الكتاب المذكور: 9 / 398 – 407.
المبحث الخامس
الشروط عند الحنابلة
قال ابن قدامة:
الشروط تنقسم إلى أربعة أقسام:
(أحدها) ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم، وخيار المجلس، والتقابض في الحال. فهذا وجوده كعدمه، لا يفيد حكمًا، ولا يؤثر في العقد.
(والثاني) تتعلق به مصلحة العاقدين، كالأجل، والخيار، والرهن، والضمين، والشهادة، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع كالصناعة، والكتابة ونحوها. فهذا جائز يلزم الوفاء به. ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافًا.
(الثالث) ما ليس من مقتضاه، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، وهو نوعان، أحدهما، اشتراط منفعة البائع في المبيع، فهذا قد مضى ذكره. الثاني، أن يشترط عقدًا في عقدٍ، نحو أن يبيعه شيئًا بشرط أن يبيعه شيئًا آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يصرف له الثمن أو غيره، فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
(الرابع) اشتراط ما ينافي مقتضى البيع، وهو على ضربين، أحدهما، اشتراط ما بني على التغليب والسراية، مثل أن يشترط البائع على المشتري عتق العبد، فهل يصح؟ على روايتين؛ إحداهما: يصح. والثانية: الشرط فاسد. الضرب الثاني: أن يشترط غير العتق مثل أن يشترط أن لا يبيع، ولا يهب، ولا يعتق، ولا يطأ. أو يشترط عليه أن يبيعه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثمن، أو إن أعتقه فالولاء له، فهذه وما أشبهها شروط فاسدة، وهل يفسد بها البيع؟ على روايتين؛ قال: المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح. وهو ظاهر كلام الخرقي هاهنا، وهو قول الحسن، والشعبي والنخعي، والحكم، وابن أبي ليلى، وأبي ثور. والثانية: البيع فاسد. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط. ولأنه شرط فاسد، فأفسد البيع كما لو شرط فيه عقداً آخر. ولأن الشرط إذا فسد، وجب الرجوع مما نقصه الشرط من الثمن، وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولًا (1) .
وقال ابن قدامة:
المذهب أنه يصح اشتراط منفعة البائع في المبيع، ثم أن يشتري ثوبًا، ويشترط على بائعه خياطته قميصًا، أو فلعة ويشترط حذوها نعلًا، أو جرزة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم، نص عليه أحمد في رواية مهنا وغيره، حتى قال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي رواية في أنه لا يصح (2) .
وقال أيضًا:
ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، مثل أن يبيع دارًا ويستثني سكناها شهرًا، أو جملًا يتشرط ظهره إلى مكان.. . . نص عليه أحمد.
(1) انظر المغني: 6 / 323 – 325.
(2)
المرجع السابق: 6 / 156.
وجاء في مطالب أولى النهى، وفي الروض المربع:
الشرط الصحيح في البيع ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يقتضيه بحكم الشرع، ولا أثر له؛ لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد.
النوع الثاني: ما كان من مصلحة العقد: كالرهن والضمان.
النوع الثالث: اشتراط المشتري نفعًا معلومًا في المبيع كسكنى الدار المبيعة شهرًا مثلًا.
والشرط الفاسد ثلاثة أنواع:
أحدها: يبطل العقد من أصله كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر كسلف أو بيع أو إجارة، فهذا بيعتان في بيعة.
الثاني: شرط فاسد في نفسه غير مفسد للبيع كشرط في العقد ينافي مقتضاه، إلا إذا شرط البائع العتق على المشتري، فيصح الشرط أيضًا، لكونه قربة التزمها المشتري فأجبر عليه كالنذر.
الثالث: أي شرط لا ينعقد معه بيع، وهو المعلق عليه البيع، كبعتك كذا إن جئتني، أو إن رضي زيد، لأنه عقد معاوضة يقتضي نقل الملك حال بالعقد، والشرط يمنعه (1) .
وفي مجموع الفتاوي ذكر ابن تيمية قواعد جامعة في العقود، ننقل شيئًا منها يبين آراء الإمام أحمد، وآراء أصحابه في الشروط حيث نجد ما يخالف أو يكمل ما سبق.
قال شيخ الإسلام (2) :
القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد. ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدًا.
والذي يمكن ضبطه فيها قولان.
أحدهما: أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك: الحظر؛ إلا ما ورد الشرع بإجازته، فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا. وكثير من أصول الشافعي وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد. فإن أحمد قد يعلل أحيانًا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل.
(1) راجع مطالب أولى النهى: 3 / 67 – 77؛ والروض المربع، ص 215 – 217؛ وراجع أيضًا الشروط في البيع في بلغة الساغب، ص 180، 181، ولم يذكر في العتق كونه قربة التزمها المشتري، وإنما ذكره كونه مبنيًا على التغليب والسراية.
(2)
المنقول هنا في الجزء التاسع والشعرين، وحذفت ما يمكن حذفه، وهو كثير جدًا، مراعاة لطبيعة البحث، وإن كان عظيم النفع، والمنقول والمحذوف يقع في الصفحات من ص 126 إلى 170، ورأي ابن تيمية في الصفحات من 138 إلى 156، وحذفنا منه أيضًا الكثير.
وبين رأي أهل الظاهر وأبي حنيفة ثم الشافعي، ثم قال:
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول؛ لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح: فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل. إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين.
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي، فقد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل، ويستثنى أكثر مما يستثنى للمعارض.
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معنى النصوص التي ينفردون بها على أهل الظاهر.
وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة.
وذكر الحديث ثم عقب بقوله: ولهم من هذا الحديث حجتان.
إحداهما: قوله: ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) . فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث. ولا في الإجماع، فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع.
فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع.
ومن قال بالقياس – وهم الجمهور – قالوا: إذ دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع بالمدلول عليه بكتاب الله، فهو في كتاب الله.
والحجة الثانية: أنه يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء، لأن العلة فيه: كونه مخالفًا لمقتضى العقد. وذلك: لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فيعتبر تغييرها تغييرًا لما أوجبه الشرع؛ بمنزلة تغيير العبادات، وهذا نكتة القاعدة، وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضياتها تغيير للمشروع.
ثم قال: واحتجوا أيضًا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك: " إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط " وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث. وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه، وأجمع الفقهاء المعروفون – من غير خلاف أعلمه من غيرهم – أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبًا أو صانعًا، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك: شرط صحيح.
القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط: الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصًا أو قياسًا، عند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه: أكثرها يجري على هذا القول ومالك قريب منه؛ لكن أحمد أكثر تصحيحًا للشروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط في ما يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعًا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطًا يخالف مقتضى العقد، أو لم يرد به نص ، وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة. فقال بذلك، وبما في معناه قياسًا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص: فقد يضعفه، أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس، وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة والتي سنذكرها في تصحيح الشروط: كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقًا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضًا. ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق. فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط، والنقص منه بالشرط؛ ما لم يتضمن مخالفة الشرع، فيجوز للبائع أن يستثنى بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، إتباعًا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة.
ثم قال:
ويجوز أيضًا – على قياس قوله – استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة، والصداق وفدية الخلع، والصلح على القصاص ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك، سواء كان بإسقاط كالعتق، أو تمليك بعوض كالبيع، أو بغير عوض كالهبة.
ويجوز أحمد أيضًا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح؛ لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج)) . ومن قال بهذا الحديث قال: إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة، وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح، فيجوز أحمد أن تستثنى المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق، فتشترط أن لا تسافر معه ولا تنتقل من دارها، وتزيد على ما يملكه بالإطلاق، فتشترط أن تكون مخلية به، فلا يتزوج عليها ولا يتسرى.
ويجوز – على الرواية المنصوصة عنه المصححة عن طائفة من أصحابه – أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كاليسار والجمال ونحو ذلك، ويملك الفسخ بفواته، وهو من أشد الناس قولًا بفسخ النكاح وانفساخه فيجوز فسخه بالعيب، كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها، وبالتدليس كما لو ظنها حرة فظهرت أمة، وبالخلف في الصفة على الصحيح، كما لو شرط الزوج أن له مالًا فظهر بخلاف ما ذكر. وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية المقصودة كالتوقيت، واشتراط الطلاق.
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلًا أو تركًا في المبيع مما هو مقصود للبائع، أو للمبيع نفسه، وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا بالعتق، وقد يروى ذلك عنه؛ لكن الأول أكثر في كلامه. ففي جامع الخلال عن أبي طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية فشرط أن يتسرى بها: تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة؟ قال: لا بأس به.
وقال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له: إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني؟ قال: لا بأس به، ولكن لا يطأها ولا يقربها وله فيها شرط؛ لأن ابن مسعود قال لرجل: لا تقربنها ولأحد فيها شرط.
وقال حنبل: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته، وشرط لها: إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به. فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال: لا تنكحها وفيها شرط. وقال حنبل: قال عمي: كل شرط في فرج فهو على هذا: والشرط الواحد في البيع جائز، إلا أن عمر كره لابن مسعود أن يطأها؛ لأنه شرط لامرأته الذي شرط، فكره عمر أن يطأها وفيها شرط.
وقال الكرماني سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيعها ولا يهبها؟ فكأنه رخص فيه. ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن، فلا يقربها. يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب، حين قال لعبد الله بن مسعود.
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول، كالمقابلة، وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط، وربما تأولوا قوله:(جائز) أي العقد جائز، وبقية نصوصه تصرح بأن مراده (الشرط) أيضًا. واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله: ثلاثة من الصحابة. وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه، ولا يهبه، أو يتسراها ونحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد؛ كما روى عمر ابن شيبة في أخبار عثمان: أنه اشترى من صهيب دارًا، وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده.
وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة، فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع، وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، جوز أيضًا استثناء بعض التصرفات.
ثم قال:
إن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد: صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما؛ لحديث بريرة، وإن كان عنهما قول بخلافه.
ثم هل يصير العتق واجبًا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه عن العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع على وجهين في مذهبهما، ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجًا عن القياس؛ لما فيه من منع المشتري من التصرفات في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقًا.
قاولوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره؛ ولذلك أوجب فيه السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره فلا يجوز اشتراط غيره.
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره. قال ابن قاسم، قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها؟ فأجازه. فقيل له: فإن هؤلاء – يعني أصحاب أبي حنيفة – يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط. قال: لم لا يجوز؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة. واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا؟ قال: وإنما هذا شرط واحد. والنهي إنما هو عن شرطين. قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز؟ قال: لا يجوز.
فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر البعير لجابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع، وهو لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق.
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشطرين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره.
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكًا واشترط: هو حر بعد موتي؟ قال: هذا مدبر، فجوز اشتراط التدبير بالعتق.
رأي ابن يتيمة:
بعد أن نقلت ما بينه شيخ الإسلام من آراء الإمام أحمد وأصحابه أنقل هنا ما ذكره مبينًا به رأيه، حيث قال:(1) .
من قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، قيل له: أينافي مقتضى العقد المطلق، أو مقتضى العقد مطلقًا؟ فإن أراد الأول: فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني: لم يسلم له؛ وإنما المحذور: أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده. هذا القول هو الصحيح: بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار، مع الاستصحاب، وعدم الدليل المنافي.
وأفاض ابن تيمية في ذكر الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، التي تؤيد رأيه، ثم قال:
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة، والتشديد على من يفعل ذلك.
وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به: علم أن الأصل صحة العقود والشروط؛ إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به. فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، والمسلمون على شروطهم)) . وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخرى.
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروى ابن ماجة منه اللفظ الأول؛ لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة. وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به، فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضًا عن محمد بن عبد الرحيم بن السلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناس على شروطهم ما وافقت الحق)) وهذه الأسانيد – وإن كان الواحد منها ضعيفًا – فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا.
(1) المنقول هنا في الصفحات من 138 إلى 156، وحذفت الكثير كما أشرت من قبل.
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما أباحه الله. فإن شرطه حينئذ يكون مبطلًا لحكم الله. وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله؛ وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبًا بدونه. فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبًا ولا حرامًا، وعدم الإيجاب ليس نفيًّا للإيجاب، حتى يكون المشترط مناقضًا للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبًا، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبًا، ويباح أيضًا لكل منهما ما لم يكن مباحًا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حرامًا وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رهنًا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛ فإنه يجب، ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك.
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصول فساد الشروط، قال: لأنه إما أن تبيح حرامًا، أو تحرم حلالا؛ أو توجب ساقطًا، أو تسقط واجبًا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع، وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حرامًا بدون الشرط، فالشرط لا يبيحه، كالربا.
وأما ما كان مباحًا بدون الشرط، فالشرط يوجبه، كالزيادة في السعر والثمن والمثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء، فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار، ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجبًا.
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقًا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقًا،: لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، إن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم؛ ولكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب.
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع، وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط.
وأما الاعتبار فمن وجوه:
أحدهما: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية. والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم. كما أن الأعيان: الأصل فيها عدم التحريم. وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] عام في الأعيان والأفعال؛ وإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة، لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة.
وأيضًا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة، وإن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم، فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوًا؛ كالأعيان التي لم تحرم.
وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل أيضًا به على عدم تحريم العقود والشروط فيه سواء سمى ذلك حلالًا أو عفوًا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم، فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي، كنا محرمين ما لم يحرمه الله؛ بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله؛ فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به. فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا حرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع، كالعتق والصدقة.
وأيضًا فإن الأصل في العقود رضي المتعاقدين. وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد، لأن الله قال في كتابه العزيز:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع: ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.
وأيضًا فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد، ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود، فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد إن أريد به: ينافي العقد المطلق. فكذلك كل شرط زائد. وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد: احتاج إلى دليل على ذلك؛ وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد.
فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود، فقد جمع بين المتناقضين: بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالإتفاق؛ بل هو مبطل للعقد عندنا.
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق؛ فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصودًا للعقد. فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرًا فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، ،إنما ينافي كتاب الله وشرطه. كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق)) . فإذا كان الشرط منافيًّا لمقصود العقد كان العقد لغوًا، وإذا كان منافيًّا لمقصود الشارع كان مخالفًا لله ورسوله فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغوًا، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه؛ فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه. ولم يثبت تحريمه، فيباح؛ لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.
المبحث السادس
المناقشة والترجيح
نبدأ أولًا بالأحاديث الشريفة التي استدل بها الأئمة الأعلام، فننظر في تخريجها ودرجتها وفقهها، ونناقش الأقوال المختلفة، ونتبع ذلك بالترجيح.
والأحاديث التي سبق ذكرها هي ما يأتي:
1-
حديث جابر في بيع بعيره وشرط ظهره.
2-
حديث بريرة.
3-
حديث النهي عن الثنيا.
4-
حديث النهي عن بيع وشرط.
5-
حديث النهي عن شرطين في البيع.
حديث جابر متفق على صحته، رواه السبعة كلهم وغيرهم، وإنما الخلاف حول ألفاظه، حيث وجدنا من يرى أن فيه اضطرابًا، وأنه معارض بحديث النهي عن الثنيا، وحديث النهي عن بيع وشرط، ولذلك لم يأخذ به الحنفية والشافعية.
والاضطراب – كما يرون – لأن رواته منهم من ذكر شرط ظهره، ومنهم من ذكر ما يدل عليه، ومنهم من سكت عنه، ومنهم من ذكر ما يدل على أنه كان تبرعًا وعارية من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يكن الركوب شرطًا، بل وجدنا من يقول بأنه لم يكن في الحديث دلالة على البيع.
فلننظر إذن في كتب الحديث
في مسند الإمام أحمد (1) جاءت روايات عن جابر، في الأولى قال: كنت أسير على جمل لي فأعيا
…
. .
وفيها: قال – أي الرسول صلى الله عليه وسلم: " بعنيه "، فبعته منه واشترطت حملانه إلى أهلي.
(1) 3 / 299، وفي الصفحة نفسها رواية أخرى فيها فاستثنيت حملانه إلى أهلي، وباقي الروايات في: 3 / 314، 358، 362، 372، 375، 392 منها روايتان تدلان على الشرط، ص 362، 392 وباقي الروايات لا تدل عليه نفيًّا ولا إثباتًا غير أن الرواية في ص 358 قد توحي بعدم الشرط.
وفي الفتح الرباني (1) ذكر الحديث في أبواب الشروط في البيع – باب اشتراط منفعة المبيع وما في معناه.
والإمام أحمد استدل بهذا الحديث على جواز البيع مع الشرط (2) ، أي أنه يرجح الروايات التي تثبت الشرط مع البيع، ولا يرى فيها اضطرابًا.
وفي صحيح البخاري ورد الحديث كاملًا أو قطعة منه في خمسة كتب هي: البيوع، والوكالة، والاستقراض، والشروط، والجهاد.
والروايات التي ذكرت في هذه الكتب إما أن تنص على الشرط في البيع، أو أنها لا تذكره لكن دون ذكر ما يتعارض معه (3) .
والرواية التي وقف عندها الإمام البخاري طويلًا، وأشار إلى الخلاف، وبين رأيه، هي ما جاء في كتاب الشروط، وهي التي تناولها الحافظ ابن حجر بالشرح المفصل، وأشار إلى غيرها.
ويظهر رأي الإمام البخاري من البداية في عنوان الباب، حيث جعل الحديث تحت باب:(إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز) .
ومما جاء في الحديث. . . ((فبعته فاستثنيت حملان إلى أهلي)) (4) .
وقال ابن حجر بعد أن ذكر الباب:
(هكذا جزم بهذا الحكم لصحة دليله عنده، وهو مما اختلف فيه وفيما يشبهه كاشتراط سكنى الدار)(5) .
وبعد الحديث المتصل ذكر البخاري تعليقًا سبع روايات، بعضها يدل على الاشتراط، وبعضها لا يدل عليه، وعقب بقوله:(الاشتراط أكثر وأصح عندي) ، أي أكثر طرقًا وأصح مخرجًا كما قال ابن حجر (6) .
وفي صحيح مسلم ذكر الروايات في كتاب المساقاة تحت باب (بيع البعير واستثناء ركوبه) .
وذكر الرواية الأولى، وفيه:((واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي)) ، وذكر سندًا آخر لها وذكر الثانية، وفيها:((على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة)) . ثم ذكر سبع روايات منها روايتان تدلان على الاشتراط، وخمس لا تذكر الاشتراط ولا تنفيه، وليس منها ما ينفي البيع أو الاشتراط (7) .
(1) 15 / 55.
(2)
راجع المبحث السابق.
(3)
راجع فتح الباري: 4 / 320 حديث رقم (2097) ؛ وص 458: ح 2309؛ و5 / 59: ح 2394؛ وص 314 ح 2718؛ و6 / 121: ح 2967.
(4)
راجع الحديث رقم (2718) : 4 /314 من فتح الباري.
(5)
فتح الباري: 4 / 314
(6)
المرجع السابق نفسه.
(7)
راجع صحيح مسلم: 6 / 34 – 37. والروايات التي تدل على الاشتراط هي أرقام: 109 بسنديها، 110، 113، 114.
وصنيع الإمام مسلم يدل على أنه يتفق مع الإمام البخاري.
وفي سنن أبي داود ذكر حديثًا واحدًا تحت (باب في شرط في بيع)، وهو:" بعته – يعني بعيره – من النبي صلى الله عليه وسلم، واشترط حملانه إلى أهلي "(1) .
وفي سنن الترمذي ذكر حديثًا واحدًا تحت باب (ما جاء في اشتراط ظهر الدابة عند البيع) ، وفيه " أنه باع من النبي صلى الله عليه وسلم بعيرًا، واشترط ظهره إلى أهله ".
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد روي من غير وجه عن جابر (2) .
وفي سنن النسائي ذكر خمس روايات في باب (البيع يكون في الشرط فيصح البيع والشرط)(3) .
وفي الرواية الأولى: ((واستثنيت حملانه إلى المدينة)) .
وفي الثانية: ((بعنيه ولك ظهره حتى تقدم)) فبعته ".
والروايتان الثالثة والخامسة لا تشيران إلى الشرط.
أما الرواية الرابعة ففيها: ((وقد أعرتك ظهره إلى المدينة)) .
وعنوان الباب يبين أن النسائي يتفق مع غيره ممن ذكر من الأئمة المحدثين ، ولكن هذه الرواية تنفي الشرط حيث تذكر لفظ " أعرتك ".
ورواية واحدة لا تثبت أمام ما ذكره الشيخان وغيرهما، ونذكر ما قاله البخاري من قبل:(الاشتراط أكثر وأصح عندي) . وقال الحافظ ابن حجر في شرحه:
أي أكثر طرقا وأصح مخرجًا، وأشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا عن جابر في هذه الواقعة هل وقع الشرط في العقد عند البيع، أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد شرائه على طريق العارية؟
وأصرح ما وقع في ذلك رواية النسائي المذكورة، لكن اختلف فيها حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، وحماد أعرف بحديث أيوب من سفيان (4) والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عددًا من الذين خالفوهم، وهذا وجه من وجوه الترجيح فيكون أصح.
(1) راجع عون المعبود: 9 / 412.
(2)
راجع سنن الترمذي: 3 / 554 كتاب البيوع، ح 1253.
(3)
انظر سنن النسائي: 7 / 297 – 300. كتاب البيوع؛ الروايات من 4637 إلى 4641، ولفظ (أعرتك) في الرواية رقم 4640 وفي سندها سفيان أي ابن عيينة.
(4)
الرواية التي أشار إليها ابن حجر في صحيح مسلم، وهي رقم 113 وفي سندها حماد عن أيوب عن أبي الزبير، وفيها (قلت أي جابر: على أن لي ظهره إلى المدينة. قال: " ولك ظهره إلى المدينة ".
ويترجح أيضًا بأن الذين رووه بصيغ الاشتراط معهم زيادة، وهم حفاظ فتكون حجة، وليست رواية من لم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره (1) .
ثم قال: (وما جنح إليه المصنف من تجريح رواية الاشتراط هو الجاري على طريقة المحققين من أهل الحديث؛ لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن إذا وقع فيه الاختلاف إلا إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب الذي يرويه الخبر، وهو مفقود هنا مع إمكان التجريح)(2) .
وبعد شرح الحديث قال:
(وما جنح إليه البخاري من الترجيح أقعد، وبالرجوع إلى التحقيق أسعد، فليعتمد ذلك، وبالله التوفيق)(3) .
ويبقى من الجماعة ابن ماجة، وقد ذكر رواية واحدة لم يذكر فيها الشرط، وهي تتفق مع الرواية الأخيرة للنسائي في أن الراوي عن جابر هو أبو نضرة، وقريبة منها في المعنى (4) .
والحديث الثاني وهو حديث بريرة: متفق على صحته أيضًا، وهو مشهور عالي الإسناد، رواه مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن خالته عائشة أم المؤمنين، كما رواه بالسلسلة الذهبية، وله طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما.
وروايات الحديث تبين أن بريرة كاتبت أهلها، وجاءت إلى أم المؤمنين تستعينها في كتابتها، فرأت أن تشتري بريرة فتعقتها فيكون لها الولاء، فأبى أهلها إلا أن يكون الولاء لهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن اعتق)) ، وفي رواية:((لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن اعتق)) ، وفي أخرى:((اشتريها وأعتيقها)) ، وفي بعض الروايات: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل)) (5) .
(1) فتح الباري: 5 / 318.
(2)
المرجع السابق: 5 / 318.
(3)
5 / 321، علمًا بأن ابن حجر شافعي المذهب، فخالف الإمام الشافعي، ولم يسلك مسلك الطحاوي الذي جنح إلى تصحيح الاشتراط لكن تأوله بأن البيع المذكور لم يكن على الحقيقة! ورده القرطبي بأنه دعوى مجردة وتغيير وتحريف لا تأويل. (انظر فتح الباري: 5 / 318، 319؛ وانظر شرح معاني الآثار للطحاوي: 4 / 41، 42، والرواية التي ذكرها فيها: فبعته بأوقية، واستثنيت حملانه حتى أقدم على أهلي، ومع ذلك قال ما قال لينتهي إلى ترجيح رأي الحنفية.
(4)
انظر سنن ابن ماجة: 2 / 743. كتاب التجارات، باب السوم، ح 2205؛ والبيهقي ذكر من الروايات المختلفة ما جاء فيها الشرط وما لم يجئ ثم قال: (وبعض هذه الألفاظ تدل على أن ذلك كان شرطًا في البيع، وبعضها يدل على أن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم تفضلًا وتكرما ومعروفًا بعد البيع والله أعلم) . السنن الكبرى: 5 / 337.
(5)
راجع روايات الحديث وشروحها في الكتب التالية: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك: 3 / 373 – 381. وفتح الباري: 5 / 185 –196؛ وفي مواضع أخرى منها: 5 / 324، 4 / 369، 370، 379. وصحيح مسلم بشرح النووي: 5 / 397 – 406. وسنن النسائي بشرح السيوطي: 7 / 305 – 306. وفي عون المعبود: 8 / 438. وفي سنن الترمذي: 3 / 557.
والحديث يدل على الشراء مع الالتزام بالعتق، والعتق خروج المبيع من الملك، ومنع المالك من حرية التصرف، ولو أن أم المؤمنين أعانتها دون أن تشتريها، وأعتقها أهلها، لكان لهم الولاء، ولكنها أرادت أن يكون لها الولاء، ولا يتم هذا إلا بالشراء والعتق، فالشراء هنا مرتبط بالعتق وما يترتب عليه من الولاء (1) .
والالتزام بالعتق يتنافى مع مقتضى العقد، ومع ذلك أجازه الجمهور، وهذا الذي يتفق مع فقه الحديث، أما الحنفية فقد سبق قول الكاساني:(لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة – رضي الله عنهما – أنه جائز)(2) .
ومع أن فقه الحديث يؤدي رأي الجمهور، غير أنهم اختلفوا في بيان سبب الجواز:
فقال المالكية بأن السبب هو أن العتق عمل من أعمال البر كم سبق بيانه، وفي المدونة:(قلت) : أرأيت إن اشتريت عبدًا على أن أعتقه، أيجوز هذا الشراء في قول مالك؟ (قال) : نعم. (قلت) : لم أجزته وهذا البائع لم يستقص الثمن كله للشرط الذي في العبد؟ (قال) : لأن البائع وضع من الثمن للشرط الذي في العبد فلم يقع فيه الغرر (3) .
(1) ولذلك ذكره البخاري في كتاب الشروط. باب ما يجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق، وفي كتاب المكاتب. باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، وباب إذا قال المكتب اشترني وأعتقني – فاشتراه لذلك. (راجع الكتب والأبواب في صحيح البخاري، وفي فتح الباري: 5 / 324، 187، 196) .
(2)
بدائع الصنائع: 5 / 170.
(3)
المدونة: 4 / 152.
وهذا يرجح أن صحة مثل هذا الشرط لا يقف عند العتق وحده دون غيره، فأعمال البر كثيرة منها ما يفضل العتق، فيكون الحديث دالًا على صحة الشرط المنافي لمقتضى العقد إذا كان لمعنى من معاني البر. وما جاء في المدونة ينطبق على غير العتق؛ فمثلًا من باع أرضًا لتكون وقفًا، أو لبناء مسجد، أو لأي مشروع خيري، يمكن أن يضع من الثمن للشرط الذي في العقد، ولولا الشرط لما رضي.
أما الشافعية فإنهم يأخذون بحديث النهي عن بيع وشرط، وسيأتي في موضعه، وجعلوا الشروط خمسة أضرب كما سبق بيانه، ورأوا فساد الشرط الذي لا يقتضيه مطلق العقد ولا يتعلق بمصلحته، غير أنهم وقفوا عند البيع بشرط العتق، ففيه ثلاثة أقوال، الصحيح المشهور أن البيع صحيح والشرط لازم، وهو المذهب.
وجواز شرط العتق دون سواه عندهم اتباعًا للسنة، ولفراق العتق لما سواه كما ذكر الإمام الشافعي، وقال:(فإن قال رجل ما فرق بين العتق وغيره؟ قيل: قد يكون لي نصف العبد فأهبه أو أبيعه وأصنع به ما شئت غير العتق، ولا يلزمني ضمان نصيب شريكي فيه؛ ولا يخرج نصيب شريكي من يده، لأن كلاً مالك لما ملك. فإن أعتقته وأنا موسر عتق على نصف شريكي الذي لا أملك ولم أعتق، وضمنت قيمته، وخرج من يدي شريكي بغير أمره)(1) .
والاستدلال بالسنة واضح، ولكن عدم إلحاق شيء بالعتق فيه نظر، لأن ما ذكره من السراية شرع مثله في غير العتق، وبيان هذا يأتي في مناقشة رأي الحنابلة.
(1) الأم: 3 / 78.
وقال النووي: ولو اشترى دارًا بشرط أن يجعلها وقفًا، فالأصح أن البيع باطل، وقيل: إنه كشرط الإعتاق (1) .
والوقف قد يكون أولى من العتق، فكيف لا يلحق به؟
هذا موقف الشافعية من البيع بشرط العتق، فما موقف الحنابلة؟
معظم كتب الحنابلة تشير إلى روايتين: إحداهما: صحة الشرط، والثانية: الشرط الفاسد.
وبعض الكتب تطلقهما، وبعضها تذكر أن الصحة هي الصحيح والمذهب، وبعضها لا تشير إلى الرواية الثانية (2) .
والعتق ينافي مقتضى البيع، فلماذا أجازوه؟
ذكر من قبل قول بعض الحنابلة بأن العتق قربة التزامها المشتري فيجبر عليه، وليس معنى ذلك أنهم يجيزون كل قربة، ولذلك نص بعضهم على عدم جواز شرط الوقف (3)، وقيل: الوقف كالعتق (4) .
وذكر ابن قدامة وغيره أن العتق أجيز لأنه مبني على التغليب والسراية، ولذلك لا يلحق به غيره.
وقد بين ابن تيمية فيما سبق أن هذا رأي طائفة من أصحاب أحمد، وأصول أحمد ونصوص تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره، ثم ذكر استدلاله بالحديث الأول حديث جابر، وهذا الحديث على صحة الشرط الواحد (5) .
إذن استدلال الإمام أحمد بحديث بريرة ليس على جواز العتق فقط وإنما على جواز الشرط الواحد، وإن كان يتنافى مع مقتضى العقد، غير أنه يتفق مع مقصوده، فمقصود العقد هنا ليس مجرد الملك وكل ما يترتب عليه من آثار، وإنما الملك للعتق.
ووضح ابن تيمية رأي القائلين بالتغليب والسراية فقال: قالوا: وإنما جوزته السنة لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره، ولذلك أوجب في السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية، والنفوذ في ملك الغير، لم يلحق به غيره، فلا يجوز اشتراط غيره (6) .
(1) انظر روضة الطالبين: 3 / 402 – 403.
(2)
راجع ما نقل من كتب الحنابلة في المبحث السابق، وراجع أيضًا الفروع، وتصحيح الفروع: 4 / 64، ومجلة الأحكام الشرعية: مادة 252.
(3)
انظر مثلًا المادة السابقة من مجلة الأحكام الشرعية، والمغنى: 6 / 325؛ ومطالب أولى النهي: 3 / 74.
(4)
الفروع: 4 / 64.
(5)
راجع المبحث السابق ومجموع الفتاوى: 29 / 168 – 169.
(6)
مجموع الفتاوى: 29 / 169.
ثم رد بقوله:
(وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع: فضعيف؛ فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه) .
وذكر عددًا من هذه الأنواع، ثم قال:
(وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية. وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة، فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع، لما في الشركة من الضرر، ونحن نقول:
شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة، فإن أمكن قسمة العين وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك.
فتكميل العتق نوع من ذلك؛ إذ الشركة تزول بالقسمة تارة، وبالتكميل أخرى) (1) .
وفي الحديث شرط باطل، وهو شرط الولاء لغير المعتق، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((إنما الولاء لمن أعتق)) .
وبطلان الشرط هنا لمخالفته للشرع وليس لمقتضى العقد، فلو لم يمنعه الشرع لجاز، أو لكان من المسائل الخلافية؛ فهو لا يتنافى مع مقصود العقد.
ولا خلاف حول صحة العقد وبطلان الشرط، ولكن الخلاف فيما يلحق بهذا الشرط، وسبق بيان هذا في المباحث السابقة عند الحديث عن الشروط غير الصحيحة في كل مذهب، وتفسير ابن تيمية لما جاء في هذا الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل)) .
والحديث الثالث: النهي عن الثنيا:
روى مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا (2) .
والثنيا هنا ذكرت مطلقة غير مقيدة، أي أن الحديث يتعارض مع حديث جابر:" واستثنيت حملانه إلى المدينة ". وذكر أيضًا أن البخاري روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا، أي أن الحديث متفق عليه. وهذا غير صحيح؛ فالبخاري لم يروه، ولكن جاء في كتاب الشروط باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار، وذكر حديثًا واحدًا وهو:((إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة)) (3) .
وأما حديث مسلم فقد رواه النسائي؛ وذكر رواية قبل هذه الرواية، ومنها:((وعن الثنيا إلا أن تعلم)) ، وجعل الروايتين تحت باب " النهي عن الثنيا حتى تعلم "(4) .
وأبو داود روى الروايتين أيضًا (5) .
أما الترمذي فلم يرو إلا رواية واحدة، وهي " والثنيا إلا أن تعلم "(6) .
وهذا يؤيد حديث جابر، فالثنيا كانت معلومة.
(1) راجع المرجع السابق: 29 / 177 – 178.
(2)
انظر صحيح مسلم كتاب البيوع باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، وعن المخابرة: ح 85؛ واقرأ شرح النووي: 5 / 459.
(3)
راجع الصحيح، وذكر الباب يدل على جواز الثنيا وليس على النهي، وكذلك الحديث وفي متفاح كنوز السنة في البيوع ذكر النهي عن الثنيا وأشار إلى هذا الموضع من البخاري وباقي الكتب التي روت النهي، وانظر أن ذكر البخاري هنا غير دقيق، ولم يذكر موضعًا آخر. وراجع الثنيا في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. وفي تحفة الأشراف ذكره رواة الحديث وليس من بينهم البخاري. انظر: 2 / 182، 183، ح 2261؛ ص 224: ح 2414؛ ص 289: ح 2666. وانظر تخريج الحديث في المغنى: 6 / 172؛ وفيه بيان خطأ ابن قدامة في نسبته للبخاري. وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الحديث: ووهم ابن الجوزي فذكر في جامع المسانيد أنه متفق عليه، ولم يذكره البخاري في كتاب الثنيا، انظر تخليص الحبير: 3 /5 ح 1128.
(4)
راجع سنن النسائي، كتاب البيوع، باب 74، ج 7 / ص 296.
(5)
راجع سنن أبي داود كتاب البيوع، باب في المخابرة، ح 3387 – 3388؛ عون المعبود: 9 / 269 –271.
(6)
وانظر سنن الترمذي: كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن الثنيا: حديث 1290؛ وفي التخريج قال محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله: أخرجه البخاري في: 42 كتاب الشرب والمساقاة، 17 باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط، حديث 794 والحديث الذي أشار إليه فيه بداية الحديث وليس فيه ذكر الثنيا، وهو الذي أراده الترمذي من الباب فسبحان الله! كيف غاب هذا عن العلامة الفذ خادم الكتاب والسنة؟ !
والحديث الرابع: حديث النهي عن بيع وشرط:
وهذا يتعارض مع الأحاديث الثلاثة السابقة، ففي كل منها شطر صح مع البيع.
والحنفية والشافعية هم الذين استدلوا بهذا الحديث كما رأينا من قبل، فلننظر في تخريجه:
قال الحافظ الزيلعي: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، قلت – أي الزيلعي – رواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه الحاكم في كتاب علوم الحديث في باب الأحاديث المتعارضة، ومن جهة الحاكم ذكره عبد الحق في أحكامه، وسكت عنه.
ثم ذكر الزيلعي تضعيف ابن القطان للحديث، ثم قال: واستدل ابن الجوزي في التحقيق على صحة البيع بشرط العتق بحديث بريرة عن عائشة، اشترتها بشرط العتق، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وصحح البيع والشرط، وأقره صاحب التنقيح عليه (1) .
واستدل السبكي بالحديث، فاستغربه النووي (2) .
وذكر ابن حجر استغراب النووي، وكذلك ابن أبي الفوارس (3) .
وذكر الشوكاني أيضًا استغراب النووي وابن أبي الفوارس (4) .
وقال ابن تيمية: (قد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث. وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه)(5) .
والحديث موجود في المعجم الأوسط للطبراني كما قال الزيعلي وغيره، في الجزء الرابع، ص 335 رقم 4361، وهو:
حدثنا عبد الله بن أيوب القربي، قال: نا محمد بن سليمان الذهلي، قال: نا عبد الوارث بن سعيد، قال: قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة، قلت: ما تقول في رجل باع بيعًا وشرط شرطًا. قال: البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى، فسألته، فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فسألته، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت: يا سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفتم عليَّ في مسألة واحدة.
فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا؛ حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط.
البيع باطل، والشرط باطل.
ثم أتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا؛ حدثني هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشترى بريرة، فأعتقها. البيع جائزة، والشرط باطل.
ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال لا أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله، قال: بعت النبي صلى الله عليه وسلم جملًا وشرط لي حملانه إلى المدينة، البيع جائز، والشرط جائز. اهـ.
وفي مجمع البحرين في زوائد المعجمين ذكر بالحديث كاملًا، وجاء بعده: لم يروه عن هؤلاء الثلاثة إلا عبد الوارث.
(1) انظر نصب الراية: 4 / 47: 18.
(2)
انظر المجموع: 9 / 363.
(3)
انظر تخليص الحبير: 3 / 12.
(4)
راجع نيل الأوطار: 5 / 202.
(5)
مجموع الفتاوي: 29 / 132، وذكر هذا في المبحث السابق.
وقال المحقق في تراجم رجال الإسناد:
- عبد الله بن أيوب بن زاذان أبو محمد الضرير القربي البصري. قال الدارقطني: متروك.
- محمد بن سليمان الذهلي: لم أجد من ترجمة مجهول (1) .
والحديث جاء أيضًا في مجمع الزوائد، وفيه أن في سنده مقالًا (2) .
وإذا نظرنًا في سند الحديث وجدنا أن شيخ الطبراني متروك كما ذكر المحقق، ولذلك ذكر الذهبي في الضعفاء (3) ، وذكر قول الدارقطني، وذكر قوله أيضًا في ميزان الاعتدال (4) .
والقول نفسه جاء في لسان الميزان (5) .
أما محمد بن سليمان الذهلي فأنا أيضًا لم أجد له ترجمة في الكتب التي رجعت إليها، وليس لاسمه ذكر مع تلامذة عبد الوارث بن سعيد في تهذيب الكمال.
إذن: الحديث لا يصح سندًا ولا متنًا.
والحديث الخامس: النهي عن شرطين في البيع:
روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) .
وقال: هذا حديث حسن صحيح (6) .
والحديث رواه أحمد (7) ، وأبو داود (8) ، والنسائي (9) ، وغيرهم (10) .
ولا حاجة إلى النظر في سند الحديث ورواياته المختلفة، فهو حديث صحيح، ولا ينزل عن درجة الحسن (11) ، وصححه أيضًا النووي (12) ، والإمام أحمد لم يروه فقط وإنما استدل وعمل به (13) ومنطوقه لا يتعارض مع الأحاديث السابقة الأربعة، ولكن مفهومه يجزي الشرط الواحد، أي يتعارض مع حديث النهي عن بيع وشرط، وقد ظهر عدم صحته فلا حاجة لإزالة التعارض.
(1) المرجع المذكور: 3 / 367، والمحقق هو عبد القدوس بن محمد نذير.
(2)
راجع مجمع الزوائد: 4 / 85، وفيه: وفي طريق عبد الله بن عمرو مقال. واختلط الأمر على محمد صبحي حسن محقق بداية المجتهد حيث نسب للهيثمي أنه قال: وفيه يحيى بن صالح الأيلي، والهيثمي إنما ذكر هذا في حديث آخر. انظر بداية المجتهد: 3 / 288.
(3)
1/473، ترجمة رقم 3108.
(4)
2 /394، ترجمة رقم 4218.
(5)
2 / 262، ترجمة رقم 1124.
(6)
سنن الترمذي: كتاب البيوع: باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك: 3 / 535 – 536 حديث 1234.
(7)
راجع المسند بشرح الشيخ أحمد محمد شاكر: 10 / 120: ح 6628، ص 154: ح 6671. والرواية الأولى بلفظ (بيعتين في بيعة) بدلًا من الشرطين في بيع، فاعتبرهما بمعنى واحد، وصحح الروايتين وهذا يؤدي ما سيأتي من المراد بالشرطين.
(8)
انظر عون المعبود: 9 / 401 – 403؛ كتاب البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده: ح 3487.
(9)
راجع سنن النسائي: كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع: 7 / 288، حديث 4611؛ وباب سلف وبيع؛ وباب شرطان في بيع وهو ان يقول أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا وإلى شهرين بكذا: 7 / 295، حديث 4629، 4630، 4631.
(10)
أفاض الحافظ الزيلعي في تناول هذا الحديث. راجع نصب الراية: 4 / 18 – 20.
(11)
حسنة الشيخ الألباني، انظر إرواء الغليل: 5 / 146، حديث 1305؛ 5 / 148، حديث 1306.
(12)
راجع المجموع: 9 / 372.
(13)
وصححه الشيخ شاكر كما ذكر آنفًا.
ولكن ما المراد بالشرطين؟ هذا ما يحتاج إلى النظر
في كتاب مسائل الإمام أحمد، في باب بيعتين في بيعة، قال أحمد عن شرطين في بيع: أن تقول أبيعك إلى شهر كذا، وبنقد بكذا (1) .
أي أن اجتماع الشرطين يؤدي إلى بيعتين في بيعة.
والنسائي روى الحديث تحت باب عنوانه (شرطان في بيع وهو أن يقول أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا وإلى شهرين بكذا)(2) .
وذكر الشيخ الألباني حديث النهي عن بيعتين في بيعة، ثم قال: ورواه غيرهم بلفظ ((ولا شرطان في بيع)) .
ثم قال: ويظهر أن اللفظين بمعنى واحد، ورواه بعض الرواة عن عمرو بن شعيب بهذا، وبعضهم بهذا، ويؤيده قول ابن قتيبة في غريب الحديث: ومن البيوع المنهي عنها شرطان في بيع، وهو أن يشتري الرجل السلعة إلى شهرين بدينارين، وإلى ثلاثة أشهر بثلاثة دنانير، وهو بمعنى (بيعتين في بيعة) . وكذلك فسره عبد الوهاب بن عطاء فقال:(يعني يقول: هو لك بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين) . رواه البيهقي (3) .
وفي عون المعبود ونيل الأوطار جاء في شرح الحديث:
((ولا شرطان في بيع)) : قال البغوي: هو أن يقول بعتك هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين نسيئة، فهذا بيع واحد تضمن شرطين يختلف المقصود فيه باختلافهما، ولا فرق بين شرطين وشروط، وهذا التفسير مروي عن زيد بن علي وأبي حنيفة، وقيل معناه أن يقول بعتك ثوبي بكذا وعلى قصارته وخياطته، فهذا فاسد عند أكثر العلماء، وقال أحمد، إنه صحيح (4) .
(1) راجع الكتاب المذكور، ص 202.
(2)
الباب المذكور في كتاب البيوع من سننه: 7 / 295.
(3)
إرواء الغليل: 5 / 151، وراجعه بدءًا من، ص 146، وانظر السنن الكبرى: 5 / 343.
(4)
عون المعبود: 9 / 403؛ ونيل الأوطار: 5 / 203. وقول أحمد إنه صحيح وروى عنه غير هذا. انظر عون المعبود شرح ابن القيم: 9 / 404.
وقال ابن القيم في شرحه للحديث:
هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحيل الربوية، وقد اشتمل على أربعة أحكام.
الحكم الأول: تحريم الشرطين في البيع، وقد أشكل على أكثر الفقهاء معناه من حيث إن الشرطين إن كانا فاسدين فالواحد حرام، فأي فائدة لذكر الشرطين؟ وإن كانا صحيحين لم يحرما.
فقال ابن المنذر: قال أحمد وإسحاق فيمن اشترى ثوبًا واشترط على البائع حياكته وقاصرته، أو طعامًا واشترط طحنه وحمله: إن شرط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز، وإن شرط شرطين فالبيع باطل.
واستبعد ابن القيم هذا التفسير، وقال: اشتراط منفعة البائع في المبيع إن كان فاسدًا فسد الشرط والشرطان، وإن كان صحيحًا فأي فرق بين منفعة أو منفعتين أو منافع؟ لا سيما والمصححون لهذا الشرط قالوا: هو عقد جمع بيعًا وإجارة، وهما معلومان لم يتضمنا غررًا، فكانا صحيحين، وإذا كان كذلك فما الموجب لفساد الإجارة على منفعتين وصحتها على منفعة؟ وأي فرق بين أن يتشرط على بائع الحطب حمله، أو حمله ونقله، أو حمله وتكسيره؟
وبعد أن استبعد هذا التفسير وغيره قال:
فإذا تبين ضعف هذه الأقوال فالأولى تفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض، فنفسر كلامه بكلامه.
فنقول: نظير هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة.
ووضح ابن القيم أن المراد بالنهي هنا هو مسألة العينة، وأنه هو بعينة الشرطان في بيع، فالشرطان كالصفقتين سواء.
ثم قال:
وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عن بيعتين، وعن سلف وبيع، ورواه احمد، ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع، وعن سلف في بيع، فيجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع، مع البيعتين في البيعة.
وسر ذلك: أن كلا الأمرين يؤول إلى الربا، وهو ذريعة إليه.. . . إلخ (1) .
ومن هذا كله نرى أن الراجح أن النهي عن الشرطين في البيع هو نفسه النهي عن البيعتين في بيعة، والله عز وجل هو الأعلم.
(1) راجع عون المعبود شرح ابن القيم: 9 / 402 – 407
المبحث السابع
الشرط الجزائي
الشرط الجزائي: من الشروط الوضعية التي يتفق عليها المتعاقدون وهي التي تحدثنا عنها من قبل.
ومن الدراسة السابقة يظهر لنا ترجيح ما يأتي:
1-
الأصل في العقود والشروط الوضعية أو الجعلية التي يشترطها المكلف في المعاملات الإباحة لا الحظر، ((فالمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرمًا)) (1) .
2-
لا يصح القول بالنهي عن بيع وشرط، ويلحق بالبيع عقود المعاوضات؛ فقد ثبت عدم صحة حديث النهي عن بيع وشرط، وعارضه ثلاث أحاديث صحيحة بمنطوقها، وحديث رابع بمفهومه.
ومن استدل بالحديث، أيد الاستدلال بما روي أن عبد الله بن مسعود اشترى جارية من امرأته زينب الثقفية، وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن، فاستفتى – عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – فقال:(لا تقربها وفيها شرط لأحد)
وهذا الأثر – فيما يبدو – لا يدل على بطلان الشرط، فلم يأمره بفسخ العقد أو إبطال الشرط، بل على العكس؛ فلو كان الشرط باطلًا لم يمنع من قربانها؛ بل علل ذلك بالشرط، فدل على أن المانع من القربان هو الشرط، وأن قربانها يتضمن إبطال ذلك الشرط، لأنها قد تحمل فيمتنع عودها إليها (2) . وسبق بيان ابن تيمية أن الإمام أحمد صحح العقد والشرط ، ولو صح استدلال الحنفية والشافعية بها الأثر فإنه يعارض بالأحاديث الشريفة المذكورة.
(1)(المسلمون على شروطهم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وخالفه غيره، وفصل ابن تيمية القول فيه من قبل، وقواه – راجع مجموع الفتاوى: 29 / 146 – 147؛ وإرواء الغليل: 5 / 144 – 145.
(2)
وانظر شرح ابن القيم في عون المعبود: 9 / 404؛ والفروع: 4 /6.
3-
من الواضح صحة قول الحنفية بأن الشرط الفاسد يؤدي إلى الغرر، أو الربا، فيجب ألا يكون المشروط محظورا، ولكن يبدو من الواضح أيضًا أن هذا لا ينطبق على كل شرط لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، وليس فيه تعامل للناس، ولا عرف ظاهر، حيث جعل الحنفية هذا شرطًا غير صحيح، والأحاديث الثلاثة الأولى تبين صحته.
ومن غير الواضح تفسيرهم للربا! فقد جعلوا المنفعة المشروطة لأحد المتعاقدين من الربا! أي أن شرط جابر يعتبر من الربا المحرم!! ومثله كل منفعة إن كانت مشروعة في ذاتها، وقد ذكر الكاساني كثيرًا منها فيما سبق.
والقول بأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وتصحيح الشروط التي جرى التعامل بها بين الناس، هذا فيه نظر، فصحة الشروط ليس ردها إلى العرف وتعامل الناس؛ فما أكثر ما يتعارف الناس على أمور غير مشروعة! وهذا واضح كل الوضوح في عصرنا. وإنما تصح الشروط التي تخلو من الربا والغرر وأي محظور شرعي، سواء أجرى العرف بها أم لم يجر (1) ، والمراد بالربا هو الربا المعلوم من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح، وهو أشد تحريمًا من الغرر، ولذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة من الغرر اليسير، وحرم الربا قليله وكثيره، ولهذا لا يجوز الجمع بين الربا والغرر عند الحديث عن القليل الذي يصح معه العقد والشرط كما جاء مثلًا في كلام ابن رشد الحفيد (2) .
4-
قول المالكية بجواز اشتراط المنفعة إذا كانت يسيرة، وعدم جوازها في غير ذلك فيه نظر، فلعل الأولى أن يقال إذا كانت معلومة، فهذا هو الذي ثبت في حديث النهي عن الثنيا إلا أن تعلم، واشتراط ظهر بعير جابر كان لمسافة معلومة، وهذا هو المذهب الحنبلي، وفيما يبدو هو الراجح.
5-
البيع بشرط العتق: عدم جوازه كما ذهب إليه الحنفية لتعارضه مع النص، وجوازه عند المالكية لأنه عمل من أعمال البر يستلزم جواز شرط كل عمل من أعمال البر، والوقوف عند العتق بحيث لا يتعداه إلى غيره بسبب السراية كما بين الإمام الشافعي، أو سبب التغليب والسراية كما قال أصحاب الإمام أحمد، هذا أمر فيه نظر، وذكرنا ما يدل على عدم ترجيحه.
(1) في قرار المجمع رقم 47 (9 / 5) بشأن العرف جاء أن العرف المعتبر شرعًا لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصًا شرعيًّا، أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد.
(2)
أشار ابن رشد الحفيد إلى صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهمًا الربا والغرر، وقال: فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرًا من قبل الشرط أبطله مالك وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه وأجاز الشرط فيه. راجع قوله في المبحث الثالث: الشروط عند المالكية.
6-
ما ذهب إليه الإمام أحمد من عدم جواز الشرطين في البيع يستند إلى حديث صحيح، والراجح أن الشرطين يراد بهما البيعتان في بيعة، فاجتماع الشرطين يؤدي إلى الربا كما بين ابن القيم، أو فيه غرر كما بين غيره. أما الشرطان أو الشروط الصحيحة التي لا يؤدي اجتماعها إلى ربا أو غرر أو محظور شرعي فإنها تبقى صحيحة ويصح معها العقد.
7-
بين ابن تيمية الفرق بين مقتضى العقد، ومقصوده، ومقصود الشرع، وذهب إلى أن الشرط لا يبطل بمخالفة مقتضى العقد وإنما بمخالفة مقصوده أو مقصود الشرع، واستدل بأدلة كثيرة، ووضح رأيه بأمثلة متعددة، فلعل رأيه يعتبر راجحًا.
8-
قول الحنفية بأن الشرط الذي فيه منفعة لأحد المتعاقدين فاسد ويفسد العقد لأنه له مطالب فتحدث المنازعة، وقول الشافعية بأن الشروط الفاسدة تبطل البيع لمنافاة مقتضاه، وهو رواية عند الحنابلة غير المنصوص عن أحمد، هذه الأقوال فيها نظر؛ ففي حديث بريرة صح العقد وبطل الشرط.
وقول المالكية بأن الاشتراط إذا كان بعد انقضاء الملك، يصح العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة، أما مدة الملك في غير العتق: فقيل عن مالك: البيع مفسوخ، وقيل: بل يبطل الشرط فقط، هذه التفرقة التي انفرد بها المالكية سببها غير واضح لدي.
وقول المالكية بصحة البيع وفسخ الشرط إذا كان خفيفًا فلم يقع عليه حصة من الثمن قول لعله راجح؛ فلو وقع عليه حصة من الثمن لما أمكن فسخ الشرط دون البيع لأثر ذلك على البائع.
ولعل من الراجح أيضًا قول الحنابلة بأن اشتراط عقد في عقد آخر فاسد يفسد به البيع، فهذا بيعتان في بيعة.
ويمكن القول بأن الشرط الفاسد إذا أمكن إبطاله دون أن يؤثر على العقد: صح العقد وبطل الشرط وذلك مثل حديث بريرة.
أما إذا لم يكن إبطاله إلا بإبطال العقد، كالشرط الذي يؤدي إلى غرر فاحش في الثمن أو المثمون، أو يمكن إبطاله ولكن ذلك يؤدي إلى ضرر أو غبن أو أكل لأموال الناس بالباطل، فعندئذ يبطل العقد والشرط، ومعنى ذلك أن نجعل حديث بريرة هو الأصل الذي نقيس عليه كلما أمكن.
وإذا كان هذا في عقود المعاوضات المالية، فلعل من الأرجح والأولى أن نأخذ برأي الجمهور في النكاح، فلا نبطل العقد بالشروط الفاسدة، بل نبطل الشروط ويبقى العقد صحيحًا، والله عز وجل هو الأعلم.
بعد هذه الدراسة التي أعاننا الله سبحانه وتعالى عليها، ووفقنا إليها، نستطيع في ضوئها أن ننظر إلى الشروط الجزائية في التطبيق العملي، وأن نسترشد بها للحكم على هذه الشروط، وهو ما نتناوله في البحث التالي.
المبحث الثامن
الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة
أولًا: تأخير الديون والحقوق:
في البنوك الربوية يلتزم المقترض بدفع فوائد على القرض، إن تأخر عن أداء الدين في موعده يلتزم بدفع فوائد مركبة على الدين الأصلي وفوائده.
وفي عقود البيع بالتقسيط نجد في بعض العقود النص على فوائد التأخير.
وفي عقود الإجارة نجد أيضًا في بعض العقود النص على أن المستأجر إذا تأخر في دفع الأجرة يلتزم بدفع فوائد التأخير.
وفي بطاقات الائتمان التي تصدرها البنوك الربوية، وبعض الشركات، نجد النص على فوائد التأخير.
وفي بعض العقود الحكومية كعقود استهلاك المياه والكهرباء في كثير من البلاد نجد النص على فوائد التأخير.
وهكذا ينص على غرامة التأخير في معظم الحالات في الديون، والحقوق التي تصبح دينًا في الذمة.
ومن الواضح أن هذا شرط جزائي باطل، ففوائد التأخير من الربا المحرم. وإذا كان الذين يشترطون فوائد التأخير لا يبالون من أين أخذوا المال: أمن الحلال أو من الحرام فما موقف المصارف الإسلامية من تأخير الديون الناشئة عن بيع آجل أو عن إجارة؟
بالنسبة للتأجير لا أعلم أن مصرفًا إسلاميًّا يشترط فوائد تأخير تحت أي اسم من الأسماء، فالعين المؤجرة في ملك المصرف، ويستطيع أن يفسخ العقد إن لم يلتزم المستأجر، أما في البيع فالذي أعلمه أن عددًا من المصارف الإسلامية – للأسف الشديد – تطبق فوائد التأخير بشرط جزائي منصوص عليه في العقد، أو بدون نص عليه، غير أنها لا تسميها فوائد، وإنما تتخذ أسماء أخرى، أكثرها تداولًا (غرامات التأخير) ، ومنها (تعويض الربحية) ، بل وجدت في أحد المصارف عبارة (تعويض ربحية الربحية) !! وهي الفوائد المركبة!!
وقام أحد الإخوة بعمل استبيان ضم سبعة وعشرين مصرفًا إسلاميًّا، فنظرت فيه فوجدت الآتي:
1-
عدد المصارف التي تطبق غرامات التأخير: (12) اثنا عشر مصرفًا، وكلها تطبق على المدين المماطل فقط.
2-
غرامات التأخير بقرار من هيئة الرقابة الشرعية: (9) تسعة مصارف غير أن التطبيق العملي لا يوافق القرار في ثلاثة منها.
3-
النص على شرط الغرامة في العقود: (9) تسعة مصارف، ومصرف منها النص بدون قرار من الهيئة! .
4-
طريقة حساب الغرامات هي نفسها طريقة حساب الأرباح: (5) خمسة مصارف.
5-
الإيرادات تضاف لإيرادات المصرف: (4) أربعة مصارف.
ومن هذا يتبين أن الهدف من شرط غرامة التأخير هو زجر المدين المماطل وردعه وعقوبته، وإدراك أن هذه الغرامات من الربا المحرم، فتتفق في الصالح العام، ما عدا أربعة مصارف استحلت الغرامات، وأضافتها لإيرادات المصرف، فاختلط الحلال بالحرام، وأحد هذه المصارف الأربعة يقوم بهذا مستندًا إلى قرار من هيئة الرقابة الشرعية!!
فما الذي دفع المصارف إلى وضع هذا الشرط؟ وبم استدلت هيئات الرقابة الشرعية؟ ما حكم هذا الشرط الجزائي؟
في بحث عن البيع بالتقسيط قدمته للمجمع في دورته السادس تناولت هذا الموضوع وألحق بهذا البحث صورة من بحثي السابق، وفي الدورة المذكورة صدر قرار المجمع رقم 51 (2 / 6)، ومما جاء فيه:
(ثالثًا: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرم.
رابعًا: يحرم على المدين الملئ أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعًا اشتراط التعويض في حالة التأخير عن الأداء) .
وجاء في القرار نفسه:
خامسًا: يجوز شرعًا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها، عند تأخير المدين عن أداء بعضها، ما دام المدين قد رضى بهذا الشرط عند التعاقد) .
وقد طبقت بعض المصارف الإسلامية هذا الشرط، وابتعدت عن الربا.
أما الحقوق إذا لم تكن ديونًا فالأمر فيها مختلف:
فمثلاُ في المقاولات إذا تم التعاقد على الانتهاء من العمل في موعد محدد، مع الاتفاق على شرط جزائي إذا تأخر المقاول دون عذر مقبول، فإن هذا الشرط جائز، ولكن الأولى أن يرتبط هذا الشرط بالضرر الفعلي نتيجة للتأخير، كأن يتأخر تأجير المبنى، فيقدر الإيجار، أو يتأخر الانتفاع بالعين، فيقدر إيجار المثل، أو ترتفع الأسعار يتأثر بها صاحب المبنى، وهكذا.
وفي عقد الاستصناع كذلك يجوز الشرط الجزائي، وصدر قرار المجمع رقم 65 (3 / 7) في دورة مؤتمره السابع، وفيه:
رابعًا: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.
وكما يكون الشرط الجزائي لتأخير النفع المستهدف كما ذكرنا آنفًا في المقاولات، فيجوز أيضًا أن يكون الشرط الجزائي لأصل الإخلال بالنفع المستهدف للمشترط، كأن يتم العمل في المقاولات في الموعد المحدد ولكن مع عدم الالتزام بالمواصفات المتفق عليها، فلا يتحقق الانتفاع بالمبنى بالمستوى المطلوب فيترتب على ذلك ضرر عند التأجير مثلًا، أو يكون الاستصناع لسيارات، فيفاجأ المستصنع بأن نقل السرعات فيها يدوي على خلاف الاتفاق، أو أن عجلة القيادة تتفق مع التزام اليسار في السير وليس اليمين، ففي مثل هذه الحالات يصح الشرط الجزائي.
ثانيًّا – من معاملات المصارف:
1-
وعد المرابحة:
الوعد في بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية يكون معه دفع عربون للمصرف، وبيع العربون في الفقه الإسلامي معلوم، منعه الجمهور خلافًا للإمام أحمد، وعرضه ومناقشته ليس هدفنا هنا، وإنما ننظر إلى الشرط الجزائي في هذا الوعد.
حدث خلاف حول الإلزام بالوعد: فإذا لم يكن الوعد ملزمًا فلا يجوز الشرط الجزائي، وإذا كان ملزمًا جاز، ولكن ما الذي يترتب على هذا الشرط؟
لو أخذنا بجواز بيع العربون فإن العربون يصبح ملكًا للمصرف عندما لا يلتزم الواعد بالشراء بوعده، وإن لم يترتب على خلف الوعد أي ضرر، وهذا ما أخذ به القانون الوضعي.
وإن قلنا بعدم جواز بيع العربون مع القول بأن الوعد ملزم، فما الذي يترتب على الشرط الجزائي؟
الجواب لا يحتاج إلى بحث لأن المجمع قد حسم الموضوع.
ففي قرار المجمع رقم 40 – 41 (2 / 5 ، 3 / 5) بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء في دورة مؤتمره الخامس جاء ما يلي:
ثانيًّا: الوعد وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب، ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد.
ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ويؤخذ من هذا القرار ترجيح رأي الجمهور في عدم جواز بيع العربون.
2-
الاعتماد المستندي:
عند الاستيراد يقوم المصرف بما يعرف بفتح الاعتماد المستندي، فإذا كان الاستيراد للمتعامل مع المصرف أخذ أجرًا من العميل مقابل العمل والتكاليف أما في المرابحات الخارجية فإن الاعتماد يكون باسم المصرف. وأحيانًا يلغى الاعتماد ولا يتم الاستيراد، ففي الحالة الأولى لا يرد الأجر إلى العميل، وقد يرد جزء منه، وفي الحالة الثانية إذا كان المصرف هو الذي ألغى الاعتماد فلا شيء على العميل، أما إذا كان الإلغاء بسبب العميل فمن الشروط الجزائية إلزامه بدفع أجر فتح الاعتماد.
ولعل هذا الشرط صحيح، فالضرر الذي لحق المصرف يجب أن يتحمله العميل المتسبب في هذا الضرر.
وهنا حالة أخرى وهي إذا لم يرسل المصدر السلعة، وألغى الاعتماد فمن الذي يتحمل تبعة الضرر؟
معظم المصارف – فيما أعلم – لا تحمل العميل شيئًا، ولكن وجدت بعض المصارف تضع شرطًا جزائيًّا يحمل العميل تبعة الضرر لأنه هو الذي أرشد المصرف إلى المصدر وعرفه به.
وأظن أن هذا الشرط غير صحيح، فالمشتري من المصدر هو المصرف وليس العميل، ولا شيء على العميل إلا بعد وصول البضاعة والمطالبة بتنفيذ الوعد. بل إن المصرف يتحمل أكثر من هذا، فتقع عليه مسؤولية تلف السلعة قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وذلك كما جاء في قرار المجمع رقم 40 – 41 (2 / 5 و3 / 5) في دورة مؤتمره الخامس.
ثالثاً – عقد المناقصة:
تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيًّا ينص على غرامة مالية على التاجر إذا تأخر عن المواعيد المحددة للإنجاز.
هذا الشرط مثل الشروط التي ذكرناها في المقاولات وفي الاستصناع، واسترشاد بقرار المجمع المذكور آنفًا، يرتبط الشرط بالضرر الواقع فعلًا.
أما تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيًّا ينص على غرامة مالية على المشتري إذا تأخر عن سدد الثمن فإنه غير جائز، لأن هذا مثل غرامة التأخير، من الربا بالمحرم، ولكن يمكن أن تكون الغرامة المالية إذا لم يلتزم بالشراء.
وكذلك يمكن تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيا ينص على غرامة مالية على البائع إذا لم يلتزم بالبيع تبعًا لشروط المناقصة، والله عز وجل هو الأعلم.
الخاتمة
بعد الانتهاء من هذا البحث بمباحثه الثمانية بحمد الله تعالى وفضله ومنه ننتهي إلى النتائج التالية:
1-
الأصل في العقود والشروط الوضعية التي يشترطها المكلف في المعاملات: الإباحة لا الحظر، ومنها الشرط الجزائي.
2-
لايصح القول بالنهي عن بيع وشرط، ويلحق بالبيع عقود المعاوضات.
3-
المراد بالنهي عن شرطين في بيع البيعتان في بيعة، وتصح الشروط الصحيحة وإن تعددت في العقد الواحد ما لم يؤد اجتماعها إلى محظور شرعي كبيعتين في بيعة.
4-
صنفا الفساد الذي يخل بصحة عقود المعاوضات والشروط هما الربا والغرر، والربا تحريمه أشد، وقليله وكثيره حرام، ولهذا لا يجوز الجمع بينهما عند الحديث عن القليل أو اليسير الذي لا يؤثره في العقود والشروط، فهذا خاص بالغرر.
5-
لا يجوز تصحيح الشروط التي جرى بها التعامل بين الناس إلا إذا لم تخالف نصًا شرعيًّا، أو قاعدة من قواعد الشريعة.
6-
الشرط الفاسد إذا أمكن إبطاله دون أن يؤثر على العقد: صح العقد وبطل الشرط قياسًا على حديث بريرة.
7-
في المعاملات المعاصرة لا يجوز الشرط الجزائي الذي يؤدي إلى زيادة على الدين كالفوائد وغرامات التأخير، مهما كانت الأسباب؛ فهذا من الربا المحرم، ولكن يجوز الشرط الجزائي في الحقوق والالتزامات – ماعدا الدين – للتعويض عن الضرر الواقع فعلاً.
هذا بعض ما انتهيت إليه في بحثي، فإن كان صوابًا فمن الله عز وجل وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان (ومن المهم جدًا أن يعلم أنني لا أقول الرأي على سبيل الإفتاء، وإنما ليعرض على المجمع، ما يفتي به هو ما يقرره المجمع) .
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 –182] .
تلخيص البحث
يتكون البحث من ثمانية مباحث:
في المبحث الأول: تحدثت على تعريف الشرط، والفرق بينه وبين كل من السبب والمانع، وعن الشروط الشرعية، والشروط الوضعية أو الجعلية التي منها الشرط الجزائي.
وفي المبحث الثاني: بينت الشروط عند الحنفية.
وفي المبحث الثالث: جعلته للشروط عند المالكية، وختمته بذكر رأي الشاطبي.
وفي المبحث الرابع: للشروط عند الشافعية.
والمبحث الخامس: للشروط عن الحنابلة، وختمته برأي ابن تيمية.
والمبحث السادس: جعلته للمناقشة والترجيح: فنظرت في الأحاديث الشريفة التي استدل بها الأئمة الأعلام؛ تخريجها ودرجتها وفقهها، وناقشت الأقوال المختلفة مع الترجيح.
والمبحث السابع: جعلته لما أظهرته الدراسة السابقة مع ترجيح ما يتصل بالشروط الوضعية، ومنها الشرط الجزائي.
والمبحث الثامن: وهو الأخير، جعلته للحديث عن الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة.