المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثامن

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادالدكتور: وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌موضوع: " الأخذ بالرخص الشرعية وحكمه

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌الرخصة (التلفيق)إعدادالشيخ خليل محيي الدين الميس

- ‌التلفيق والأخذ بالرخصة وحكمهماإعدادحجة الإسلام الشيخ محمد علي التسخيري

- ‌الأخذ بالرخص الشرعية وحكمهإعدادمحمد رفيع العثماني

- ‌حكمالرخصة وتتبع الرخصفي الفقه الإسلامي

- ‌الأخذ بالرخصةإعدادأ. د. حمد عبيد الكبيسي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادأ. د. عبد العزيز عزت الخياط

- ‌الرخصةإعدادالشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهتتبع الرخص – التلفيق ورأي الفقهاء فيهإعدادفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالشيخ الطيب سلامة

- ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين

- ‌الأخذ بالرخص وحكمهإعدادالدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌بيع العربُونإعدادفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير

- ‌بيع العربُونإعدادالدكتور وهبة مصطفى الزحيلي

- ‌بيع العربونإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌بيع المزايدةإعدادفضيلة الشيخ محمد المختار

- ‌عقد المزايدةبين الشريعة الإسلامية والقانوندراسة مقابلةمع التركيز على بعض القضايا المعاصرةإعدادعبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

- ‌قواعد ومسائلفيحوادث السيرإعدادالقاضي محمد تقي العثماني

- ‌ موضوع "حوادث السير

- ‌حوادث السيرإعدادد. عبد الله محمد عبد الله

- ‌حوادث السيرإعدادالشيخ عبد القادر محمد العماري

- ‌حوادث السيرإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالدكتور علي محيي الدين القره داغي

- ‌التطبيقات الشرعيةلإقامة السوق الإسلاميةإعدادالأستاذ الدكتور / علي السالوس

- ‌الائتمان المولد على شكل بطاقةمع صيغة مقترحة لبطاقة ائتمانية خالية من المحظورات الشرعيةإعدادسعادة الدكتور محمد القري بن عيد

- ‌بطاقات الائتمانإعدادالشيخ حسن الجواهري

- ‌سر المهنة الطبية بين الكتمان والعلانيةإعدادالدكتور أحمد رجائي الجندي

- ‌مسؤولية الطبيبإعدادالدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد

- ‌مداواة الرجل للمرأةوالمرأة للرجلإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)الأحكام المتعلقة بالمرضى والمصابينإعدادأ. د. مصطفى عبد الرؤوف أبو لسان

- ‌بعض المشاكل الأخلاقية والاجتماعيةالناتجة عن مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)إعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌مرض الإيدز(نقص المناعة المكتسبة)أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعيةإعدادالدكتور سعود بن مسعد الثبيتي

- ‌التداوي بالمحرماتإعدادالدكتور محمد علي البار

- ‌بحوث مجمعية

- ‌حُسن وفاء الديونوعلاقته بالربط بتغير المستوى العام للأسعارإعدادالدكتور صالح بن زابن المرزوقي البقمي

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعارفي ضوء الأدلة الشرعيةإعدادد. حمزة بن حسين الفعر

- ‌الربط القياسي للأجور بالمستوى العام للأسعارتحليل من منظور إسلامي لمشكلة الأجورفي ظل التضخم والعلاج المقترحإعدادد. عبد الرحمن يسري أحمد

- ‌التضخم والربط القياسيدراسة مقارنة بين الاقتصاد الوضعيوالاقتصاد الإسلاميإعدادالدكتور شوقي أحمد دنيا

- ‌ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعاربين الفقه والاقتصادإعدادد. محمد أنس الزرقا

- ‌ندوة قضايا العملةالربط القياسي للديون بعملة اعتباريةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌ملاحظات أساسيةفي مسألة ربط الأجور والمستحقاتإعدادالدكتور سيف الدين إبراهيم تاج الدين

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادمجموعة دلة البركة

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةمحاورإعدادبيت التمويل الكويتي

- ‌الصعوبات التي تواجه البنوك الإسلاميةوتصورات لكيفية مواجهتهاإعدادأ. د. إسماعيل حسن محمد

- ‌مشاكل البنوك الإسلاميةعقد السلم ودوره في المصرف الإسلاميإعدادالشيخ صالح الحصين

- ‌مشكلات البنوك الإسلامية في الوقت الحاضرإعدادد. محمد نجاة الله صديقي

- ‌في مشكلات المصارف الإسلاميةإعدادالدكتور رفيق يونس المصري

- ‌حكم المشاركة في أسهم الشركات المساهمةالمتعاملة بالرباتجربة مجموعة دلة في أسلمة الشركاتعن طريق شراء أسهمهاإعدادالشيخ صالح عبد الله كامل

- ‌المشاركة في شركات تتعامل بالحرامإعدادالشيخ عبد الله بن بيه

الفصل: ‌الأخذ بالرخصة وحكمهإعدادالشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

‌الأخذ بالرخصة وحكمه

إعداد

الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي

الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بالهند

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخذ بالرخص وحكمه:

الحمد لله الذي شرح لنا الصدر، ووضع عنا الوزر، وأراد بنا اليسر ولم يرد بنا الحرج والعسر، والصلاة والسلام على سيدنا النبي الأمي الذي بعث إلينا بالحنيفية السمحة البيضاء النقية، والذي كان عزيزًا عليه ما عنتنا، حريصًا علينا، وبالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، أما بعد:

فقضية " الأخذ بالرخص " قضية مهمة من قضايا الشريعة فإن الإنسان خلق ضعيفًا، وربما لا يستطيع أن يتحمل المشاق، وله أعذار تعوقه عن أداء واجباته والتحرز عما حرم عليه، والدين دين الفطرة، والله يعلم القوي من الضعيف، والصحيح من المريض، والمستطيع من المعذور، فكان من فطرة دين الفطرة أن تراعي تلك الأحوال المختلفة، ويحكم في كل حال ما يناسبه لأن الله تعالى قال:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . فإذا لم يجد المكلف قدرة على عزائم الأمور أذن له أن يعمل بما فيه تخفيف ويسر، فهذا من نعمة الله تعالى على عباده الذي نظر إلى ضعفهم وأمرهم بما هو في وسعهم.

فحكم الله منه ما هو عزيمة ومنه ما هو رخصة والرخصة ضد العزيمة، ونحن ما دمنا بصدد دراسة الرخصة علينا أن نعرف العزيمة، لأنه بضدها تتبين الأشياء.

العزيمة والرخصة لغة واصطلاحًا:

العزيمة: لغة " الجد والإرادة الجادة للعمل " قال ابن منظور: العزم: الجد، عزم على الأمر عزما وعزيمة: أراد فعله، وقال الليث: العزم ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله

وفي الحديث قال لأبي بكر: متى توتر؟ فقال: أول الليل، وقال لعمر: متى توتر؟ قال: من آخر الليل، فقال لأبي بكر: أخذت بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالعزم. أراد أن أبا بكر رضي الله عنه حذر فوات الوتر بالنوم، فاحتاط وقدمه، وأن عمر رضي الله عنه وثق بالقوة على قيام الليل فأخر، ولا خير في عزم بغير حزم، فإن القوة إذا لم يكن معها حذر أورطت صاحبها

وتقول ما لفلان عزيمة أي لا يثبت على أمر يعزم عليه.. إلخ (1) .

(1) لسان العرب لابن منظور – 4 / 2932.

ص: 209

وقال الآمدي في الأحكام:

العزيمة في اللغة: الرقية، وهي مأخوذة عن عقد القلب المؤكد على أمر ما، ومنه قوله تعالى:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (1)[طه: 115] .

وقال الغزالي في المستصفى:

اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد، قال الله تعالى:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي قصدًا بليغًا، وسمى بعض الرسل أولي العزم لتأكيد قصدهم في طلب الحق (2) .

فالحاصل أن العزيمة فيها الجد والقوة والصبر والوكادة،

أما الرخصة:

فهي في اللغة النعومة والخفة، وقال ابن منظور:

الرخص الشيء الناعم اللين، والرخص: ضد الغلاء، رخص السعر يرخص رخصًا. والرخصة: ترخيص الله للعبد في أشياء خففها عنه (3) .

وقال في المصباح:

" رخصة وزان " غرفة " وتضم الخاء للإتباع، ومثله " ظلمة " و " قربة" و " جمعة ". والرخصة: التسهيل في الأمر والتيسير – يقال: رخص الشرع لنا في كذلا ترخيصًا وأرخص إرخاصًا إذا يسره وسهله (4) .

وقال الآمدي:

التيسير والتسهيل، ومنه يقال رخص السعر إذا تيسر وسهل، وبفتح الخاء عبارة عن الأخذ بالرخص (5) .

وقال السبكي:

الرخصة بإسكان الخاء وضمها مع ضم الراء: التسهيل: فرخصة الله تسهيله على عباده، هكذا يقتضيه كلام أهل اللغة (6) .

وقال القرافي:

الرخصة مشتقة من الرخص، والرخص هو اللين فهو من حيث الجملة من السهولة والمسامحة واللين (7) .

فالحاصل أن الرخصة لغة هي جانب السهولة والمسامحة واليسر والعزيمة هي جهة الأحوال العادية يقتضي الجد والجلادة والصبر والوكادة.

(1) الأحكام للآمدي 1 / 113.

(2)

المستصفى: 116.

(3)

لسان العرب 11 / 1616.

(4)

المصباح 1 / 323.

(5)

الأحكام 1 / 113.

(6)

الإبهاج في شرح المنهاج لشيخ الإسلام علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى 756 هـ – 1 / 81.

(7)

شرح تنقيح الفصول 85.

ص: 210

العزيمة في الاصطلاح:

المعنى اللغوي مراعى في الإطلاق الاصطلاحي الشرعي لهذين اللفظين.

قال الآمدي:

العزيمة عبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى كالعبادات الخمس ونحوها (1) .

وقال ابن أمير حاج في شرح تحرير الأصول:

والعزيمة ذلك الحكم المعبر عنه بقوله تخفيفًا لحكم (فيتقيد) ذلك الحكم (بمقابلة رخصة، وقد لا يتقيد بمقابلة رخصة فيقال) أي حكم (شرع ابتداء غير متعلق بالعوارض) أي غير مبني على أعذار العباد، وهو إيضاح لابتدائية شرعية الحكم (2) .

وقال الغزالي معرفًا للعزيمة " عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى "(3) .

فالحاصل أن ما شرع الله تعالى من الأحكام لعباده ابتداء كقانون عام للمكلفين بدون ملاحظة الأحوال المتجددة والعوارض الحادثة والأعذار الناشئة والحاجات الملجئة هو عزيمة كفرضية الصلاة والزكاة وغيرهما من المأمورات وكحرمة الخمر والميسر والزنا وغيرها من المناهي، وما شرعه الله تعالى من معاملات الناس كالبيع والإجارة والمضاربة وغيرها، وما شرع من الحدود والكفارات وغيرها من الزواجر.

أما الرخصة اصطلاحًا:

فالأصل أنه معروف ومعلوم بداهة، وقد يكون اللفظ بديهيًا يدل على معناه دلالة واضحة جلية، حتى أنه يفهمه كل أحد ولا يمكن أن يعرف تعريفًا علميًا واحدًا منطقيًا، كما قال محب الله بن عبد الشكور البهاري أن لفظ " العلم " من أجلى البديهيات، كذلك قال القرافي في بيان حد الرخصة:

" وهاهنا إني عاجز عن ضبط الرخصة بحد جامع مانع، أما جزئيات الرخصة من غير تحديد فلا عسر فيه إنما الصعوبة في الحد على ذلك الوجه "(4) .

ومع هذا عرف الأصوليون الرخصة بتعريفات مختلفة فحكى الآمدي عدة تعريفات، فقال:

قيل: إنه ما أبيح فعله مع كونه حرامًا.

وقيل: ما رخص فيه مع كونه حراما.

وقيل: إن الرخصة ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرم (5) .

(1) الأحكام 1 / 113.

(2)

التقرير والتحبير 2 / 148.

(3)

المستصفى 116.

(4)

شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول للقرافي 85 – 87.

(5)

الأحكام 1 / 114.

ص: 211

واعترض الآمدي على التعريف الأخير أنه غير جامع، فقال:" إن التعريف الأخير غير جامع، لأن الرخصة قد تكون بالفعل وقد تكون بالترك " واختار الآمدي أن "الرخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرم "(1) .

وقال الشاطبي:

" الرخصة ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه "(2) .

وأما البيضاوي فقد قال في المنهاج:

" الحكم إن ثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة، كحل الميتة للمضطر والقصر والفطر للمسافر واجبًا ومندوبا ومباحًا وإلا فعزيمة (3) .

وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول:

إن ما جاز فعله مع قيام المقتضي للمنع رخصة (4) .

وللعلماء انتقادات على هذا التعريف وقد أجاب عنها الأصفهاني في كتابه الكاشف عن المحصول.

وقال الشاشي في أصوله:

" الرخصة: صرف الأمر من عسر إلى يسر بواسطة عذر في المكلف "(5) .

وقد حكى الإمام عبد العزيز البخاري عن الإمام علاء الدين أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي من كتابه " ميزان الأصول في نتائج العقول في الفقه " أنه قال: الرخصة اسم لما تغير من الأمر الأصلي إلى تخفيف ويسر ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار" (6) .

وقال في تيسير التحرير حكاية عن بعض الحنفية: إن الرخصة ما تغير من عسر إلى يسر من الأحكام (7) .

(1) الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي المتوفى 641 هـ – 1 / 114.

(2)

الموافقات 1 / 330.

(3)

منهاج الوصول إلى علم الأصول بهامش التقرير والتحبير 1 / 52 – 53.

(4)

المحصول للرازي تحقيق – ط جابر الجزء الأول القسم الأول 154.

(5)

أصول الشاشي 385.

(6)

كشف الأسرار 2 / 299.

(7)

تيسير التحرير 2/ 229.

ص: 212

فكل هذه التعريفات وإن اختلفت ألفاظها لكنها كلها متقاربة المعنى ولكن التعريف الذي اختاره البيضاوي هو أحسن وأجمع عندي لأن لفظ " الحكم " المذكور في التعريف " جنس" يدخل فيه الرخصة والعزيمة، وأما لفظ " الثابت" فالثبوت يحتاج إلى دليل فالمراد أن الرخصة لابد لها من ثبوت ودليل، وأما قوله:" على خلاف الدليل " فالدليل عام يشمل المحرم والموجب وما يدل على الندب – فخرج منه العزيمة لأن العزيمة ما يقتضيه الدليل الأصلي، وأيضا يخرج منه كل ما ثبت موافقًا للدليل ولم يوجد دليل على منعه فلا تكون إباحتها ثابتة على خلاف الدليل وأيضا خرج منه الحكم الثابت بدليل ناسخ لحكم منسوخ، لأن المنسوخ ليس بدليل فليس هذا الحكم الثابت بدليل ناسخ حكمًا ثابتًا على خلاف الدليل وأيضا لم يدخل في هذا التعريف الحكم الثابت بدليل راجح على خلاف المرجوح لأن المرجوح ليس بدليل، وأيضا قول البيضاوي " لعذر" لفظ عام يتناول الضرورة والحاجة كلتيهما وهذا على خلاف ما اشترطه الشاطبي " بعذر شاق" وهذا أصح، لأن الرخصة كما تكون في حالة الضرورة قد تكون في الحاجة أيضًا، وأيضا قد خرج منها الموانع الشرعية كالحيض لأن هذه الموانع تمنع المشروعية فلا يسمى إسقاطًا.

مشروعية الرخصة:

الأصل الكلي أن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها وهو خبير بعباده بصير بأحوالهم – فما جعل في الدين من حرج، وهذا التسامح واليسر في الدين هو المبدأ الذي يبتنى عليه حكم الرخصة ولذلك أجمع العلماء على اعتبار الرخصة في الشريعة، وكتاب الله تعالى يدل على اعتبار الحرج كسبب للتخفيف والتيسير، فيقول الله تعالى:

1-

{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] .

2-

{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 87] .

3-

{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: 28] .

4-

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور: 61] و [الفتح: 17] .

5-

{وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] .

ص: 213

فهذه الآيات لها دلالات واضحة على أن رفع الحرج في الدين معتبر عند الشرع، وأيضا على أن التيسير والتخفيف أمر مشروع ومطلوب، قال تعالى:

1-

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .

2-

{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .

وايضًا، السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام – تدل على اعتبار هذا المبدأ العظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((بعثت بالحنيفية السمحة)) (1) .

وقالت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها:

((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا)) (2) .

قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)) (3) .

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الدين، فقال:((إن هذا الدين يسر ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)) (4) وأيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع عديدة آمرًا بالتيسير وناهيًا عن التعسير، " فقال:((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) (5) و ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) (6) .

فالحاصل أن مشروعية الرخصة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

أنواع الرخصة وأمثلتها:

الأصوليون بينوا أنواع الرخصة وقسموها باعتبارات شتى، منها تقسيمها باعتبار تنوع أحكامها الشرعية – ومنها تقسيمها باعتبار الحقيقة والمجاز، ومنها تقسيم الرخصة من حيث الكمال والنقص، والرابع تقسيمها باعتبار كونه اختياريا أو اضطراريا، والخامس تقسيمها باعتبار أنواع التخفيف من حيث كونه إسقاطًا أو إبدالاً أو غير ذلك؛ فهذا بيان هذه التقسيمات مفصلاً مع ذكر الأمثلة.

التقسيم الأول

أنواع الرخصة باعتبار أحكامها الشرعية:

هذا ما اختاره عامة الأصوليين من السادة الشافعية والمالكية والحنابلة ويسمى تقسيم الشافعية – ولكن حينما اتفقوا على تقسيمها باعتبار الأحكام اختلفوا في التفصيل – فذهب بعضهم إلى أنها على ثلاثة أقسام: واجب، ومستحب، ورخصة تركها أفضل من العمل بها.

(1) أخرجه أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث أبي أمامة.

(2)

رواه البخاري في المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في الفضائل باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله، وأبو داود في الأدب باب في التجاوز في الأمر ومالك في الموطأ وأحمد.

(3)

رواه أحمد والبيهقي عن ابن عمر والطبراني عن ابن عباس.

(4)

أخرجه البخاري والنسائي عن أبي هريرة.

(5)

أخرجه البخاري ومسلم.

(6)

أخرجه البخاري ومسلم.

ص: 214

فقال النووي:

المسألة السابعة في بيان أقسام الرخص، وهي ثلاثة أقسام: أحدها رخصة يجب فعلها كمن غص بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إلا خمرًا، يجب إساغتها بها، وكالمضطر إلى أكل الميتة وغيرها من النجاسات يلزمه أكلها على الصحيح الذي قطع به الجمهور، وقال بعض أصحابنا: يجوز ولا يجب. الثاني: رخصة مستحبة كقصر الصلاة في السفر، والفطر لمن شق عليه الصوم، وكذا الإبراد من شدة الحر على الأصح. الثالث: رخصة تركها أفضل من فعلها كمسح الخف والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن مثله، والفطر لمن لا يتضرر بالصوم – وعد أبو سعيد المتولى والغزالي في البسيط من هذا القسم الجمع بين الصلاتين في السفر ونقل الغزالي الاتفاق على أن ترك الجمع أفضل بخلاف القصر (1) .

والقاضي البيضاوي رحمه الله اختار التقسيم الثلاثي كما يظهر من عبارته فإنه قال:

السادس: الحكم إن يثبت على خلاف الدليل لعذر فرخصة كحل الميتة للمضطر والقصر والفطر للمسافر واجبًا ومندوبًا ومباحًا وإلا فعزيمة (2) .

الإمام النووي والقاضي البيضاوي مع اتفاقهما على التقسيم الثلاثي اختلفا في أنواع التقسيم – فالنووي رحمه الله جعل " خلاف الأولى " النوع الثالث، والقاضي البيضاوي ذكر مكانه " المباح " وليس هذا الاختلاف اختلافًا لفظيا، لأن المباح لا يرادف " خلاف الأولى " كما لا يخفى على أصحاب الفقه والإفتاء، وبعضهم زاد قسمًا رابعًا فقال إنها واجبة – أو مندوبة – أو مباحة أو خلاف الأولى.

فقال صاحب شرح الجلال:

والرخصة إما أن تكون وجوبًا، أو ندبًا، أو إباحة أو خلاف الأولى؛ فالأول: نحو وجوب أكل الميتة للمضطر والحكم الأصلي الحرمة وسببها خبث الميتة وهو لا يزال قائمًا عند الاضطرار الذي هو العذر، ووجوب أكلها حينئذ أسهل من حرمته لأنه وإن كان مثل الحرمة في الإلزام لكن فيه بقاء النفس وفي الحرمة تلفها، وبقاء النفس موافق للغرض فكان أسهل

والثاني: كندب القصر للمسافر سفرًا يبلغ ثلاثة أيام فصاعدًا وإلا كان الإتمام أولى خروجًا من خلاف أبي حنيفة رحمه الله بالقول بوجوبه، والحكم الأصلي حرمة القصر وسببه دخول وقت الصلاة وهو قائم في السفر، والعذر مشقة السفر، والثالث: كإباحة السلم الذي هو بيع غائب موصوف في الذمة وحكمه الأصلي الحرمة، وسببه الغرر وهو قائم، والعذر الحاجة إلى ثمن الغلات قبل إدراكها، والرابع: كمخالفة الأولى في فطر المسافرين في رمضان، وحكمه الأصلي الحرمة وسببه شهود الشهر وهو قائم، والعذر مشقة السفر (3) . والسيوطي رحمه الله زاد قسمًا خامسًا وهو المكروه – حيث قال: " الرخص أقسام، ما يجب فعلها كأكل الميتة للمضطر لمن خاف الهلاك بغلبة الجوع والعطش، وإن كان مقيمًا صحيحًا، وإساغة الغصة بالخمر، وما يندب كالقصر في السفر والفطر لمن يشق عليه الصوم في السفر أو المرض، والإبراد بالظهر والنظر إلى المخطوبة. وما يباح كالسلم. وما الأولى تركها، كالمسح على الخف، والجمع والفطر لمن لا يتضرر والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل وهو قادر عليه. وما يكره فعلها كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل (4) .

(1) الأصول والضوابط للنووي 37 – 39.

(2)

الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي 1/ 81.

(3)

شرح الجلال على الجمع 1 / 123.

(4)

الأشباه والنظائر للسيوطي 171 تحقيق وتعليق محمد معتصم بالله البغدادي – طبع 1407 هـ / 1987 م – دار الكتاب العربي ببيروت.

ص: 215

واعلم أن هذا التقسيم للرخصة باعتبار أحكامها الشرعية والخلاف في عدد أنواع هذا التقسيم لا يبتنى على أسس عميقة فالذين ذكروا خمسة أنواع استوعبوا في القسمة، والذين ذكروا ثلاثة أنواع أو أربعة أنواع ليس عندهم هذا الاستيعاب بل اكتفوا على الأنواع الهامة وتركوا بعض الأنواع التي يندر وجودها.

وبعض المحققين من الشافعية ذهبوا إلى أن الواجب ليس من أنواع الرخصة لأن الرخصة حقيقة هي الإباحة والتسهيل – والوجوب فيه وكادة تقتضي أن يكون عزيمة وهذا ما أشار إليه إمام الحرمين وتردد في كون الوجوب رخصة – وصرح الكيا الهراسي بكونه عزيمة وقال: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيًا، وقال: وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلق بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفرًا كان أو حضرًا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضًا – وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء وهو الصحيح عندنا (1) .

وبحث الزركشي هذه القضية مفصلاً فقال:

وقال ابن دقيق العيد، وهذا يقتضي أن تكون عزيمة لوجود اللزوم والتأكيد، قال: لا مانع أن يطلق عليه " رخصة " من وجه، و "عزيمة " من وجه، فمن حيث قام الدليل المانع نسميه " رخصة "، و – من حيث الوجوب نسميه "عزيمة "(2) . وهذه نكتة دقيقة من ابن دقيق العيد – فإن الحقيقة أن ارتفاع حكم الحرمة وإباحة ما حرم فيه تغير العسر إلى اليسر مع أن الدليل لحرمة قائم، وهذا هو عين الرخصة – وأما وجوب أكل الميتة للمضطر حذرًا من تلف النفس – فهذا مبني على أصل آخر فما صار مباحًا الآن تغير إلى الوجوب صيانة للنفس – فصارت عزيمة.

قال الزركشي بعد حكاية قول ابن دقيق العيد: وهذا التردد الذي أشار إليه، سبقه إليه إمام الحرمين في " النهاية " وتردد في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة، قال في باب صلاة المسافر من " النهاية ": يجوز أن يقال إن أكل الميتة ليس برخصة فإنه واجب، ولأجله قال صاحبه الكيا الهراسي في "أحكام القرآن": الصحيح عندنا أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، كالفطر للمريض في رمضان، يتحصل بذلك في مجامعة الرخصة للوجوب ثلاثة أقوال، والظاهر أن الوجوب والاستحباب يجامعها، ولا يكون داخلاً في مسماها (3) .

(1) أحكام القرآن للفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي المتوفى 504 هـ.

(2)

البحر المحيط للزركشي.

(3)

البحر المحيط في أصول الفقه لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المتوفى 794 هـ: 1 / 328.

ص: 216

وكما قلنا أولاً: إن ارتفاع حكم الحرمة فيه رفع الحرج وتغير العسر إلى اليسر ثم بعد ذلك إذا لم يتناول المحرم فمات فلم يؤد ما كان عليه واجبًا من صيانة النفس فصار عاصيًا ومعاقبًا، وجزى الله الإمام الغزالي رحمه الله فقال في " المستصفى " ما هو القول الأعدل في هذه القضية فقال: فإن قيل فالرخص تنقسم إلى ما يعصى بتركه كترك أكل الميتة والإفطار عند خوف الهلاك، وإلى ما لا يعصى كالإفطار والقصر وترك كلمة الكفر وترك قتل من أكره على قتل نفسه، فكيف يسمى ما يجب الإتيان به الرخصة وكيف فرق بين البعض والبعض، قلنا: أما تسميته رخصة وإن كانت واجبة فمن حيث إن فيه فسحة، إذ لم يكلف إهلاك نفسه بالعطش وجوز له تسكينه بالخمر وأسقط عنه العقاب، فمن حيث إسقاط العقاب عن فعله هو فسحة ورخصة، ومن حيث إيجاب العقاب على تركه هو عزيمة (1) .

التقسيم الثاني

تقسيم الرخصة باعتبار الحقيقة والمجاز:

قسم الحنفية الرخصة إلى قسمين: رخصة حقيقية، والثاني رخصة مجازية، ثم قسموا الرخصة الحقيقة إلى نوعين، والمجازية إلى نوعين، فتفصيل الأنواع أربعة؛ قال الإمام جلال الدين أبو محمد عمرو بن محمد بن عمرو الخبازي الحنفي في كتابه المغني في أصول الفقه: وأما الرخص فأربعة أنواع، نوعان من الحقيقة أحدهما أحق من الآخر، ونوعان من المجاز أحدهما أتم من الآخر فأما أحق نوعي الحقيقة فما يرخص ارتكابه مع قيام المحرم والحرمة بمنزلة العفو عن الجناية بعد استحقاق العقوبة كإجراء المكره كلمة الكفر على اللسان، وإفطاره في رمضان، وإتلافه مال الغير، وجنايته على الإحرام، وتناول المضطر مال الغير، وترك الخائف على نفسه الأمر بالمعروف، وإنما يرخص في هذا القسم لأن في الامتناع إتلاف نفسه صورة ومعنى، وفي الارتكاب إتلاف حق الشرع أو حق العبد صورة لا معنى

بخلاف النوع الثاني وهو ما يرخص فيه مع قيام السبب وتراخي حكمه بمنزلة تأجيل الدين كفطر المريض والمسافر، وحكمه أن الصوم أفضل عندنا لكمال سببه وتردد في الرخصة، فالعزيمة تؤدي معنى الرخصة من حيث تضمنها يسر موافقة المسلمين

(1) المستصفى للغزالي 1 / 99 طبع بولاق 1322 هـ.

ص: 217

وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال لانعدام سببه فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفًا، وأما النوع الرابع فما سقط عن العبد بخروج السبب من أن يكون موجبًا لحكمه في حقه مع بقائه موجبًا لذلك في الجملة كسقوط حرمة تناول الخمر والميتة عن المكره والمضطر للاستثناء حتى لا يسعهما الصبر عنهما، وسقوط اشتراط العينية في المسلم فيه أصلاً صار مفسدًا له بعد أن كان مصححًا في الجملة (1) .

هذا هو التقسيم السائد عند الحنفية في الكتب الأصولية – فالإمام حافظ الدين النسفي رحمه الله المتوفى 710 ذكر في كتابه " المنار" وشرحه كشف الأسرار " هذه الأنواع الأربعة مع بيان أحكامه فقال: " ورخصة وهي أربعة أنواع، نوعان من الحقيقة، أحدهما أحق من الآخر، ونوعان من المجاز، أحدهما أتم من الآخر

أما أحق نوعي الحقيقة فما استبيح مع قيام المحرم وقيام حكمه كالمكره على إجراء كلمة الكفر

وإفطاره وجنايته على الإحرام

وتناول المضطر مال الغير

وحكمه أن الأخذ بالعزيمة أولى، حتى لو صبر وقتل كان شهيدًا.. والثاني ما استبيح مع قيام السبب لكن الحكم تراخى عنه كالمسافر رخص له الفطر

وحكمه أن الأخذ بالعزيمة أولى، لكمال سببه، وتردد في الرخصة، فالعزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه

إلا أن يضعفه الصوم.. وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا

فيسمى ذلك رخصة مجازًا لأن الأصل لم يبق مشروعًا

والنوع الرابع ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة كقصر الصلاة في السفر....

اعلم أن النوع الرابع، وهو الثاني من نوعي الرخصة، ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة، فمن حيث أن السبب لم يبق موجبًا للحكم وسقط الوجوب أصلاً – كان مجازًا ومن حيث إنه بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بحقيقة الرخصة، وذلك مثل قصر الصلاة في السفر، فإنه إسقاط للواجب حقيقة لما لم يبق له حكم بوجه، وسمي رخصة مجازًا حتى لا يجوز للمسافر أن يصلي الظهر أربعًا، ولو صلى أربعًا كان كمن صلى الفجر أربعًا لأن السبب لم يبق في حقه موجبًا إلا ركعتين فكانت الأخريان نفلاً (2) .

الأصوليون من الأحناف كلهم متفقون على هذا التقسيم الرباعي باعتبار الحقيقة والمجاز، ليس بينهم خلاف في أصل هذا التقسيم ولا في أنواعه، إلا في بعض الأمثلة، أما تقسيم الرخصة باعتبار الأحكام الشرعية فلا يوجد عند الأحناف بالاستقلال، بل يذكرون أحكام الرخصة ضمن الأمثلة للتقسيم الرباعي السائد بينهم.

(1) المغني في أصول الفقه للخبازي الحنفي 87 إلى 89 الطبع الأولة 1403هـ.

(2)

كشف الأسرار على المنار 1 / 300 – 305 المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر 1316 هـ.

ص: 218

خلاصة القول أن الأصوليين الشافعية وتبعهم الحنابلة والمالكية اهتموا اهتمامًا بالغًا بالتقسيم الأول، أعني تقسيم الرخصة باعتبار أحكامها الشرعية من الوجوب والندب، والإباحة والكراهة ثم بعضهم ثلث القسم كالنووي في الأصول والضوابط، وبعضهم ربع القسم كالجلال في شرحه على الجمع، وبعضهم خمس القسم كالسيوطي في "الأشباه والنظائر " واختلافهم في عدد أنواع هذا التقسيم نشأ من استقصاء التتبع وعدمه، وهذا التقسيم للرخصة يوجد عند الأحناف أيضًا، لكن لا مستقلاً بل في ضمن الأمثلة المتقدمة في بحث الرخصة، فعندهم أيضا بعض أفراد الرخصة واجب وبعضها مندوب، وبعضها مباح وبعضها خلاف الأولى كما هو ظاهر من تتبع كتبهم وما اطلعت على مثال للمكروه ضمن أمثال الرخصة عند الأحناف، وأما الحرام فليس من أنواع الرخصة عند أحد كما هو الظاهر لأن الحرمة تنافي الرخصة.

التقسيم الثالث

الرخصة باعتبار الكمال والنقصان:

حينما لاحظنا الرخصة من حيث الكمال والنقص فوجدنا أن بعض الرخص لها حكم خاص باعتبار أن الشرع حينما رخص في تلك المسألة وأباح الترك فلم يوجب قضاء هذا العمل في وقت آخر، يعني هذا عفو كامل من الشرع كما أن الشرع أباح ترك الوضوء لفقد الماء وأمر بالتيمم فذهبت فرضية الوضوء من الأصل بخلاف ما إذا أباح الشرع ترك الصوم للمريض والمسافر في شهر رمضان وأباح لهما الإفطار ولكن لم تذهب فرضية الصيام بأصلها بل بقي وجوب القضاء في أيام أخر فالرخصة التي لم يبق فيها شيء، هي " رخصة كاملة" مثاله مسح الخف والتيمم، والرخصة التي بقي معها شيء كرخصة الإفطار فهذه رخصة ناقصة.

قال الإمام بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي الزركشي (المتوفى 794هـ) :

تنقسم الرخصة إلى: كاملة وهي التي لا شيء معها كالمسح على الخف، وناقصة، وهي بخلافه، وهذا تلمحته من كلام الشافعي في "الأم"، فإنه قال: والمسح رخصة كمال؛ وعلى هذا فالتيمم لعدم الماء فيما لا يجب معه القضاء رخصة كاملة، ومع ما يجب فيه القضاء رخصة ناقصة (1) .

(1) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 1 / 331 – الكويت.

ص: 219

التقسيم الرابع للرخصة

باعتبار كون سبب الرخصة اختياريًا أو اضطراريًا، ذكر الزركشي أن سبب الرخصة قد يكون اختياريًا كالسفر، وقد يكون اضطراريًا كالاغتصاص باللقمة الذي يبيح شرب الخمر.

التقسيم الخامس للرخصة

للرخصة تقسيم خامس، وعبر عنها ابن نجيم بالتخفيفات، فقال: تخفيفات الشرع أنواع، ويمكن لنا أن نسميها أنواع الرخص الشرعية.

الأول: تخفيف الإسقاط كإسقاط العبادات عند وجود أعذارها.

الثاني: تخفيف التنقيص كالقصر في السفر على القول بأن الإتمام أصل.

الثالث: تخفيف إبدال كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، والقيام في الصلاة بالقعود، والاضطجاع والركوع والسجود بالإيماء، والصيام بالإطعام.

الرابع: تخفيف التقديم، كالجمع بعرفات، وتقديم الزكاة على الحول، وزكاة الفطر في رمضان.

الخامس: تخفيف التأخير، كالجمع بمزدلفة، وتأخير رمضان للمريض والمسافر وتأخير الصلاة عن وقتها في حق مشتغل بإنقاذ غريق ونحوه.

السادس: تخفيف ترخيص كصلاة المستجمر مع بقية النجو، وشرب الخمر للغصة.

السابع: تخفيف تغيير كتغيير نظم الصلاة للخوف (1) .

(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 83 – القاهرة 1387 هـ.

ص: 220

مسألة تتبع الرخص:

قبل الخوض في قضية تتبع الرخص لابد أن نعرف أن " الرخصة " في هذا البحث ليس في معنى " الرخصة المعروفة عند الأصوليين " التي هي ضد العزيمة، فإن تلك الرخصة المعروفة عند الأصوليين ثابتة بالكتاب والسنة وليس فيها خلاف بين الأصوليين والفقهاء فإنها منصوصة ومصرحة في الكتاب والسنة وكتب الفقهاء والأصوليين، بل المراد " بتتبع الرخص ""أن يختار الإنسان من أقوال الفقهاء والمجتهدين ومذاهبهم في كل مسألة ما يكون أسهل وأخف وأيسر " ولا يتقيد بمذهب إمام من الأئمة المعروفين، ولا يكون مدار اختياره قوة الدلائل أو التورع والاحتياط بل يكون مدار اختياره الأقوال والآراء، التخفيف واليسر والسهولة.

فالفقهاء القدامى والمتأخرون جعلوا هذه القضية موضوع أبحاثهم في ثنايا كتبهم، فبعضهم رأوا أن الأمور الاجتهادية والمسائل المجتهد فيها، فيها ما هي متقارب المدارك وليس فيها شذوذ فلم يمنع من العمل بقول واحد من الأئمة أو آخر لأن المجتهدين ليس منهم من يدعي أن الحق محدود في قوله – بل القول الحق هو أن كل رأي محتمل الخطأ والصواب ولكن كل مجتهد يظن أن ما هو عليه حق بغلبة الظن مع احتمال كونه خطأ – والرأي المخالف له خطأ على غالب الظن مع احتمال كونه صوابًا – أما أن المبتلى به قد اختار الأسهل والأيسر له فليست في هذا الاختيار أي مندوحة؛ لأن الله تعالى هو الذي رفع الحرج وأراد بعباده السهولة واليسر.

وبعض الفقهاء ذهبوا إلى أن تتبع الرخص ممنوع قطعًا لأن المقصود به التشهي واتباع هوى النفس فلا يريد المبتلى به اتباع الشرع بل يقصد به ما تشتهيه النفس، والقول الثالث لبعض العلماء هو أنه لا يجوز في عامة الأحوال، نعم إذا كانت الضرورة داعية أو العذر القوي قائمًا فيجوز للمبتلى به أن يختار قولاً فيه يسر وسهولة.

ص: 221

هذه هي خلاصة أقوال الفقهاء في هذه المسألة على الإجمال – الآن نذكر أقوال الفقهاء والأصوليين في هذه المسألة بالتفصيل. قال الإمام ابن الهمام الفقيه الأصولي الحنفي:

وإذا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد قوله أخف عليه وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرع ذمه عليه، ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته)) (1) .

وقال الشوكاني ناقلاً أقوال الفقهاء في تتبع رخص المذاهب:

أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق، قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا، وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها العامي العامل بها من غير تقليد لإخلاله بفرضه وهو التقليد، فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق لأنه قلد من سوغ اجتهاده، وقال ابن عبد السلام: ينظر إلى الفعل الذي فعله، فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم، وإلا لم يأثم (2) .

قال محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحسيني الحنفي في كتابه تيسير التحرير شرح كتاب التحرير لابن الهمام: (يتخرج) أي يستنبط (منه) أي من جواز اتباع غير مقلده الأول وعدم التضييق عليه (جواز اتباعه رخص المذاهب) أي أخذه من المذاهب ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل (ولا يمنع منه مانع شرعي، إذ للإنسان أن يسلك) المسلك (الأخف عليه إذا كان له) أي للإنسان (إليه) أي ذلك المسلك الأخف (سبيل) ؛ ثم بين السبيل بقوله: (بأن لم يكن عمل بآخر) أي بقول آخر مخالف لذلك الأخف (فيه) ، أي في ذلك المحل المختلف فيه ((وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عليهم)) . في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها بلفظ ((عنهم)) ، وفي رواية بلفظ ((ما يخفف عنهم)) : أي أمته، وذكروا عدة أحاديث صحيحة دالة على هذا المعنى، وما نقل عن ابن عبد البر: من أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا، فلا نسلم صحة النقل عنه ولو سلم فلا نسلم صحة دعوى الإجماع، كيف وفي تفسيق المتتبع للرخص روايتان عن أحمد، وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولا مقلد (وقيده) أي جواز تقليد غير مقلده (متأخر) وهو العلامة القرافي (بأن لا يترتب عليه) أي على تقليد الغير (ما يمنعانه) بإيقاع الفعل على وجه يحكم ببطلانه المجتهدان معًا لمخالفته الأول فيما قلد فيه غيره

والثاني في شيء فيما يتوقف عليه صحة ذلك العمل عنه، (فمن قلد الشافعي في عدم) فرضية (الدلك) للأعضاء المغسولة في الوضوء والغسل (و) قلد (مالكًا في عدم نقض اللمس بلا شهوة) للوضوء (وصلى إن كان الوضوء بذلك صحت) صلاته عند مالك (وإن لا) أي وإن لم يكن بذلك (بطلت عندهما) أي مالك والشافعي (3) .

(1) فتح القدير 6 / 340 – 341. مطبعة الميمنية بمصر – كتاب أدب القاضي.

(2)

إرشاد الفحول الشوكاني، 272 طبع دار المعرفة – بيروت.

(3)

تيسير التحرير 4 / 254 مطبعة مصطفى البابي الحلبي.

ص: 222

بعد ذلك ناقش محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الشرط الذي اشترطه القرافي وانتقد عليه، وذلك الاعتراض على قول القرافي، وقال: إن القول بالبطلان في الصورة المذكورة عند الإمامين كليهما غير مسلم؛ لأن مالكًا مثلاً لم يقل إن من قلد الشافعي في عدم الصداق، أن نكاحه باطل " وكذلك لم يقل الشافعي:" إن من قلد مالكًا في عدم الشهود أن نكاحه باطل ". وأجيب عنه أن في ما ذكر القرافي " الرجل قلد الإمامين وخالف كلًّا منهما في شيء " بخلاف ما في الصورة المذكورة في الاعتراض؛ لأن في هذه الصورة قلد الرجل إمامًا وراعى مذهبه في جميع ما يتوقف عليه صحة العمل، فبينهما فرق واضح فلا يوجب الحكم بالصحة في صورة، والحكم بالصحة في صورة أخرى.

ثم نقل أقوال بعض العلماء في قضية انتقال المقلد إلى مذهب غير إمامه فقال:

ورجح الإمام العلائي القول بالانتقال في صورتين أحدهما: إذا كان مذهب غير إمامه أحوط.. ،الثانية: إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلاً قويا راجحًا، إذ المكلف مأمور باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا موافق لما روي عن الإمام أحمد والقدوري وعليه مشى طائفة من العلماء منهم ابن الصلاح وابن حمدان (1) .

الإمام الشاطبي لا يبيح بحال تتبع رخص المذاهب وينهى عنها أشد النهي ويقول:

واعترض بعض المتأخرين على من منع تتبع رخص المذاهب وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله، فقال: إن أراد المانع ما هو على خلاف الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي فمسلم، وإن أراد ما فيه توسعة على المكلف فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك، بل قوله عليه الصلاة والسلام ((بعثت بالحنيفية السمحة)) يقتضي جواز ذلك، لأنه نوع من اللطف بالعبد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد بل بتحصيل المصالح، وأنت تعلم بما تقدم ما في هذا الكلام لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها، فما قاله عن الدعوى، ثم نقول: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ومضاد أيضا لقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وموضع الخلاف موضع تنازع فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس " وإنما يرد إلى الشريعة وهي تبين الراجح من القولين الذي يجب اتباعه لا الموافق للغرض ".

(1) تيسير التحرير لأمير بادشاه 4 / 255.

ص: 223

وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض، حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح والخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب؛ فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم، فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ومحال الضرورات معلومة من الشريعة فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذًا عن صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها، وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ودعوى غير مقبولة (1) .

فما يظهر من تتبع أقوال الفقهاء والأصوليين أنهم في هذه القضية على ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: منع تتبع رخص المذاهب مطلقًا سواء كان هذا التتبع للتشهي والتخفيف أو كان لأعذار وأمراض.

المذهب الثاني: تسويغ تتبع الرخص مطلقًا بدون قيد أو شرط.

المذهب الثالث: منع تتبع الرخص في عامة الأحوال وتسويغه في أحوال خاصة للضرورة أو المرض أو عذر آخر، فالمذهب السائد بين عامة الفقهاء هو عدم جواز تتبع الرخص حتى أن بعضهم ادعى الإجماع على هذا – ودليلهم أن تتبع الرخص ليس إلا للتشهي واتباع الهوى، وحرمة اتباع الهوى والتشهي مصرحة في الكتاب والسنة ومجمع عليها بين الفقهاء، وعلاوة على ذلك لو أبحنا تتبع الرخص ارتفع التكليف مع أن الشريعة كلفت الإنسان بأحكام تشق على نفسه. قال الشاطبي في الموافقات: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه.

المحظور الثاني في إباحة تتبع الرخص مطلقًا أن الدين يكون لعبة للاعبين وعبثًا للعابثين، ولو عم هذا المرض في المجتمع الإسلامي يؤدي إلى الانحلال والفجور وتعطل مصالح الشريعة بل مقاصدها الكلية.

وجماعة من الفقهاء والأصوليين ذهبوا إلى إباحة تتبع الرخص مطلقًا وحجتهم أن تتبع الرخص ليس إلا طلب اليسر والسهولة في الشريعة وأن الكتاب والسنة حافلان بأدلة طلب السهولة واليسر ولا مانع من أن يقلد الإنسان مجتهدًا في مسألة ويقلد مجتهدًا آخر في أخرى، وأدلة طلب اليسر والسهولة أكثر من أن تحصى – الفقيه الأصولي ابن الهمام رأس هذا المذهب، فإنه في كتابه " فتح القدير " أباح تتبع الرخص مطلقًا، وفي كتابه " التحرير " قيد هذه الإباحة بأنه " لم يكن عمل بقول إمام آخر في ذلك المحل الذي يريد فيه التخفيف ".

(1) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي 4 / 145 طبع دار المعرفة، بيروت – لبنان.

ص: 224

القول الراجح:

القول الذي أميل إليه هو التفصيل في هذه المسألة وهو أن تتبع الرخص لا يجوز في عامة الأحوال للتشهي أو التلهي أو اتباع الهوى، أما لو كان تتبع الرخصة في أحوال خاصة للضرورة أو العذر أو المرض يجوز بشروط مخصوصة؛ تفصيل هذا الرأي أن الشريعة كما أنها نهت عن اتباع الهوى والتلهي، هكذا راعت جانب اليسر والسهولة في الأحكام {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فلا بد من رعاية هذين الجانبين في هذه المسألة والذي يظهر لي – والله أعلم – أن تتبع الرخص الممنوع الذي ادعى البعض الإجماع على منعه أن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف عليه لمحض اتباعه هوى نفسه بدون ضرورة وعذر؛ لأنه لو فتح هذا الباب يكون ذريعة للانحلال من التكاليف الشرعية ويصير الدين هزؤا، ويدخل في هذا النوع من تتبع الرخص أن يختار الإنسان أقوال مختلف الفقهاء في مختلف المسائل للتشهي والتهلي:

مثلاً: رجل أراد الفجور مع امرأة لكنه خاف إقامة حد الزنا عليه فنكح هذه المرأة بدون ولي ولا شهود فأخذ بقول أبي حنيفة في صحة نكاح المرأة البالغة بدون إذن ولي، وأخذ بقول مالك في صحة النكاح بدون شهود ولا شك أن مثل هذه الأعمال من تتبع الرخص تلاعب بالشريعة واستهزاء بها، لا يرضاها أحد من العقلاء فضلاً عن الفقهاء، فإنهم أعقل الناس وأدراهم بمقاصد الشريعة – أما الاستفادة برخص المذاهب في أحوال خاصة مثلاً: اختيار فقهاء الأحناف قول الإمام مالك رحمه الله في مسألة المفقود وفي بعض المسائل الأخرى – واختيار فقهاء الشافعية بعض الآراء من الفقه المالكي أو الفقه الحنفي فلا بأس به، فإن المعضلات المتجددة والقضايا المعاصرة لا يمكن حلها إذا قيدنا العمل بقول مجتهد واحد – خاصة في المعاملات التجارية الحديثة، ولا ينبغي أن يرخص لكل مكلف أن يختار ما شاء من أقوال على ما تشتهيه نفسه في مجال حياته حتى أنه يعمل يومًا في مسألة واحدة بقول الشافعي رحمه الله حينما وافق غرضه، ويختار قول أبي حنيفة رحمه الله غدا في عين هذه المسألة لما رأى أن قول الشافعي رحمه الله لا يوافق غرضه المطلوب اليوم، ولا يخفى أن اتباع الشريعة هو تكليف وتحمل المشاق – فلا يخلو أي حكم من أحكام الشريعة من المشقة كليًّا – بل شيء من الكلفة موجود في كل حكم – نعم {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فالحرج والعسر والمشقة مرفوعة.

ص: 225

فعلينا أن نقرر ضابطًا لاختيار الأسهل من أقوال الأئمة لئلا يصل هذا إلى الإباحية الهالكة – أو إلى تضييق منفر – فنقول:

1-

الأصل أن الأمر إذا ضاق اتسع، فإذا ظهر للمبتلى به ضيق وحرج وعسر لا يستطيع تحمله فيجوز له أن يختار قولاً لإمام آخر فيه دفع الحرج والمشقة.

2-

وعليه أن يستفتي أهل الذكر وأصحاب العلم وأرباب الفتوى الذين هم عمدة الدين وأعمق الناس علمًا وأورعهم قلبًا لئلا يقع في كيد الشيطان وما زينه له هوى النفس؛ لأن المكلف العامي كثيرًا ما لا يميز بين الضرورة واتباع الهوى.

3-

وعليه أن لا يخرج من مذاهب الأئمة الأربعة المدونة المنقحة المخدومة من القرون لأن مذاهب غيرهم المنقولة في ثنايا الكتب عامتها ليست مروية برواية الثقات أو متواترة قرنًا بعد قرن على ألسنة العلماء والفقهاء الثقات الأثبات – ولا يعرف الشروط والقيود المعتبرة عندهم.

4-

أما إذا صارت القضية اجتماعية لعموم البلوى بها أو قضية نشأت بسبب تغير الأحوال وتجدد العوائد وحدوث العرف الجديد، خاصة في معاملات الناس من التجارة والصنعة وعادات التجار والصناعيين وأهل الحرف خاصة في المعاملات في ما بين الدول فيجوز بل يجب على العلماء الراسخين وأصحاب العلم والتقوى من الفقهاء، الاجتهاد الجماعي في مثل تلك القضايا وحل تلك القضايا المعضلة طبقًا لمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية ووفقًا لما تقتضيه الأحوال المتجددة والعوائد الحادثة، ويجوز لهم العدول من قول إمام بعينه إلى قول إمام آخر من أئمة الهدى بشرط:

- أن لا يكون قولاً شاذًّا.

- وأن لا يكون مصادمًا للنص.

ص: 226

مسألة التلفيق وحكمه

التلفيق لغة واصطلاحًا:

التلفيق مأخوذ من " لفقت الثوب ألفقه لفقًا وهو أن تضم شقة إلى أخرى فتخيطها ولفق الشقتين يلفقهما لفقًا ولفقهما – ضم إحداهما إلى الأخرى فخاطهما (1) والتلفيق مصدر لفق ضم شقة إلى أخرى (2) . أما في اصطلاح الفقهاء والأصوليين فالتلفيق كما قال الرواس قلعجي هو " القيام بعمل يجمع فيه بين عدة مذاهب، حتى لا يمكن اعتبار هذا العمل صحيحًا في أي مذهب من المذاهب " (3) فالتلفيق هو " الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد " وذلك بأن يلفق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولد منها حقيقة مركبة لا يقول بها أحد كما لو توضأ فمسح بعض شعر رأسه مقلدًا للإمام الشافعي رحمه الله وبعد الوضوء مس أجنبية مقلدًا للإمام أبي حنيفة رحمه الله فإن وضوءه على هذه الهيئة حقيقة مركبة لم يقل بها كلا الإمامين (4) .

حكم التلفيق:

الأصل أن هذه القضية الهامة التي صارت مثار بحث بين العلماء المتأخرين مرتبطة بمسألة التقليد بجوازه أو منعه، وأيضا بمسئلة التزام مذهب معين، فمن أجاز التقليد وأوجب الالتزام بمذهب معين منع التلفيق، ومن لم يوجب الالتزام جوزه – ولذلك اختلف الفقهاء في الحكم فذهب أكثر الفقهاء إلى أن التلفيق ممنوع لأن التقليد لا يصح مع التلفيق، وطائفة من الفقهاء ذهب إلى جواز التلفيق مطلقًا مستدلين بأنه ليس هنا أي مانع من الكتاب والسنة – وبعض من الفقهاء قد اختار القول الثالث وهو أنه يجوز التلفيق بشرط أن لا يتأدى إلى تتبع الرخص المفضي إلى الانحلال والفجور، والذين جوزوه بشروط ذكروا له شروطًا شتى.

فقال في الدر المختار: " وإن الحكم الملفق باطل بالإجماع، وإن الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل اتفاقًا – وهو المختار في المذهب – وإن الخلاف خاص بالقاضي المجتهد، وأما القاضي المقلد فلا ينفذ قضاؤه بخلاف مذهبه أصلاً كما في القنية (5) .

مثاله: متوضئ سال من بدنه دم ولمس امرأة ثم صلى، فإن صحة هذه الصلاة ملفقة من مذهب الشافعي والحنفي، والتلفيق باطل فصحته منتفية (6) .

(1) لسان العرب لابن منظور 5 / 4056.

(2)

معجم لغة الفقهاء، وضع محمد رواس وحامد صادق 144.

(3)

معجم لغة الفقهاء 144.

(4)

عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق 91 – 92.

(5)

الدر المختار مع حاشية رد المحتار لابن عبادين 1 / 75.

(6)

الدر المختار مع حاشية رد المحتار لابن عابدين 1 / 75.

ص: 227

وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار:

(قوله: وإن الرجوع......إلخ) صرح بذلك المحقق ابن الهمام في تحريره، ومثله في أصول الآمدي وابن الحاجب وجمع الجوامع، وهو محمول كما قال ابن حجر والرملي في شرحيهما على المنهاج وابن قاسم في حاشيته على ما إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء لا يقول به أحد من المذهبين، كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة، وكما لو أفتى ببينونة زوجته بطلاقها مكرها ثم نكح أختها مقلدًا للحنفي بطلاق المكره – ثم أفتاه شافعي بعدم الحنث، فيمتنع عليه أن يطأ الأولى مقلدًا للشافعي والثانية مقلدًا الحنفي – أو هو محمول على منع التقليد في تلك الحادثة بعينها لا مثلها كما صرح به الإمام السبكي وتبعه عليه جماعة

على أن في دعوى الاتفاق نظر فقد حكي الخلاف فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه – ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر (1) .

فالحاصل أن القول ببطلان الرجوع عن التقليد بعد العمل ليس بمتفق عليه بل فيه خلاف – وأن التزام مذهب معين ليس بلازم. وحكى الزركشي مذاهب العلماء في هذه المسألة فقال:

هل يجب على العامي التزام تقليد مذهب معين في كل واقعة فيه وجهان – قال الكيا: يلزمه – وقال ابن برهان –: لا – ورجحه النووي في (أوائل القضاء) وهو الصحيح، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد

وقد رام بعض الخلفاء زمن مالك حمل الناس في الآفاق على مذهب مالك فمنعه مالك، واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها فلم الحجر على الناس

وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا – دعهم يترخصوا بمذاهب الناس

وقد كان السلف يقلدون من شاؤوا قبل ظهور المذاهب الأربعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)) .

(1) الدر المختار مع حاشية رد المحتار لابن عابدين 1 / 75.

ص: 228

وتوسط ابن منير فقال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة لا قبلهم – والفرق أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم (1) .

وبعد ذلك قال الزركشي:

فلو التزم مذهبًا معينا كمالك والشافعي واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب:

أحدها: المنع، وبه جزم الجيلي في الإعجاز لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع، فلا ضرورة إلى الانتقال إلى التشهي، ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين.

والثاني: يجوز – وهو الأصح في (الرافعي) ، لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين؛ لأن السبب وهو أهلية المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله، وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب – ووجوب الاقتصار على مفت واحد بخلاف سيرة الأولين (2) .

وحينما ذكر هذا القول وقال: إن الانتقال إلى مذهب الغير يقوى في صورتين: الأولى إذا كان مذهب الغير فيه شدة، فانتقال يدعو إليه الورع والاحتياط – والثانية إذا رأى أن للقول المخالف لمذهبه دليلاً صحيحًا، ولم يجد في مذهب إمامه دليلاً قويا عنه ولا معارضًا راجحًا عليه؛ فلا وجه لمنعه من التقليد. ثم قال:

واعلم أنا حيث قلنا بالجواز فشرطه أن يعتقد رجحان ذلك المذهب الذي قلد في هذه المسألة، وعلى هذا فليس للعامي ذلك مطلقًا، إذ لا طريق له إليه.

(1) البحر المحيط للزركشي 6 / 319.

(2)

البحر المحيط 6 / 320.

ص: 229

والثالث: أنه كالعامي الذي لم يلتزم مذهبًا معينًا، فكل مسألة عمل فيها بقول إمامه ليس له تقليد غيره، وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره.

والرابع: إن كان قبل حدوث الحوادث فلا يجب التخصيص بمذهب، وإن حدث وقلد إمامًا في حادثة وجب عليه تقليده في الحوادث التي يتوقع وقوعها في حقه، واختاره إمام الحرمين؛ لأن قبل تقرير المذاهب ممكن، وأما بعد فلا، للخبط وعدم الضبط.

والخامس: إن غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب غير مقلده أقوى من مقلده جاز – قاله القدوري الحنفي.

والسادس: واختاره ابن عبد السلام في القواعد، التفصيل بين أن يكون المذهب الذي أراد الانتقال عنه بما ينقض الحكم أو لا – فإن كان الأول فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه لبطلانه، وإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال، لأن الناس لم يزالوا كذلك في عصر الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة، من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره.

والسابع: واختاره ابن دقيق العيد – الجواز بشروط:

أحدها: أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها.

والثاني: أن لا يكون ما قلد فيه مما ينقض الحكم ولو وقع به.

والثالث: انشراح صدره للتقليد المذكور (1) .

فهذا ما قاله العلماء في مسألة التزام مذهب معين والعدول عن مذهب إمام معين إلى مذهب إمام آخر، ومما سرد من الأقوال في هذه المسألة يفهم أن الأصل أن الالتزام لتقليد إمام معين ليس بواجب، ولكن قد منعه العلماء سدا لباب الذريعة، لما أن الماجنين يتفحصون كل آن ما يحلون به الحرام، فيختارون الأقوال الشاذة أو ما كان من رخص المذاهب موافقًا لأغراضهم الفاسدة – وكما عرف أن مسألة التلفيق لها علاقة بمسألة التقليد، أولاً نقدم لنصوص الفقهاء على مسألة التلفيق ثم نستخلص المذاهب ثم نبين الراجح من آراء الفقهاء.

(1) البحر المحيط 6 / 321.

ص: 230

قال العلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين في كتابه: "العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية ": " لو فرضنا أن حاكمًا حنفيا حكم بصحة وقف الدراهم على النفس، هل ينفذ حكمه؟ فنقول: النفاذ مبني على القول بصحة الحكم الملفق، وبيان التلفيق أن الوقف على النفس لا يقول به إلا أبو يوسف وهو لا يرى وقف الدراهم، ووقف الدراهم لا يقول به إلا زفر، وهو لا يرى الوقف على النفس؛ فكان الحكم بجواز وقف الدراهم على النفس حكمًا ملفقًا من قولين، كما ترى، وقد مشى شيخ مشائخنا العلامة زين الدين قاسم في ديباجة تصحيح القدوري على عدم نفاذه، ونقل فيها عن كتاب " توفيق الحكام في غوامض الأحكام" أن الحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين. ومشى الطرطوسي في كتابه " أنفع الوسائل " على النفاذ مستندًا في ذلك لما رآه في قنية المفتى فلينظر من أراد (أقول) رأيت بخط شيخ مشائخنا منلا على التركماني في مجموعته الكبيرة ناقلاً عن خط الشيخ إبراهيم السوالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن فتاوى الشلبى ما نصه: أقول وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه وأن الحكم ينفذ وعليه العمل والله تعالى الموفق، أو ما رأيته بخطه عن الشيخ إبراهيم المذكور (وأقول أيضًا) قد يوجه ذلك بأنه ليس من الحكم الملفق الذي نقل العلامة قاسم أنه باطل بالإجماع لأن المراد بما جزم ببطلانه ما إذا كان من مذاهب متباينة كما إذا حكم بصحة نكاح بلا ولي بناء على مذهب أبي حنيفة وبلا شهود بناء على مذهب مالك بخلاف ما إذا كان ملفقًا من أقوال أصحاب المذهب الواحد فإنها لا تخرج عن المذهب فإن أقوال أبي يوسف ومحمد وغيرهما مبنية على قواعد أبي حنيفة رحمه الله أو هي أقوال مروية عنه فإنما نسبت إليهم لا إليه لاستنباطهم لها من قواعده أو لاختيارهم إياها"(1) .

قال العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه " الفتاوى الكبرى ":

ثم شرط الانتقال أن لا يعلم بمذهب في واقعة مع بقائه على تقليد إمام آخر في تلك الواقعة وهو يرى فيها خلاف ما يريد العمل به، وأن يكون ذلك الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي – قاله ابن عبد السلام وتابعه عليه ابن دقيق العيد، وألحق بما ينقض ما خالف ظاهر النص، بحيث يكون التأويل مستكرها، وزاد شرطين آخرين كما في الخادم: أحدهما أن لا تجتمع صورة يقع الإجماع على بطلانها كما إذا افتصد ومس الذكر وصلى، الثاني انشراح صدره للتقليد وعدم اعتقاده لكونه متلاعبًا بالدين لحديث ((الإثم ما حاك في نفسك)) قال: بل أقول إن هذا شرط جميع التكاليف وهو أن لا يقدم إنسان على ما يعتقده مخالفًا لأمر الله عز وجل؛ وبالأول عزم القرافي، ومثله من قلد مالكًا في عدم النقض باللمس بلا شهوة فلا بد أن يكون قلد مالكًا في تلك الطهارة التي مس فيها ويمسح جميع رأسه وإلا فصلاته باطلة عند الإمامين، ونقله عنه الإسنوي وأقره وذكر من فروعه ما لو نكح بلا ولي ولا شهود فإنه يحد – كما قاله الرافعي – لاتفاق أبي حنيفة ومالك على بطلان النكاح (2) .

(1)" العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية " للعلامة ابن عابدين الشامي 1 / 109 – طبع دار المعرفة، ببيروت – لبنان.

(2)

الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي 4 / 306. طباعة دار الفكر.

ص: 231

قال الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي:

اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد، حيث أدى إلى التليفق من كل مذهب، لأنه حينئذ كل من المذهبين أوالمذاهب يرى البطلان، كمن توضأ مثلاً ومسح شعرة من رأسه مقلدًا للشافعي ثم لمس ذكره بيده مقلدًا لأبي حنيفة فلا يصح التقليد حينئذ، وكذا لو مسح شعرة وترك القراءة خلف الإمام مقلدًا للأئمة الثلاثة، أو افتصد مخالفًا للأئمة الثلاثة ولم يقرأ مقلدًا لهم، وهذا وإن كان ظاهرًا من حيث العقل، والتعليل فيه واضح؛ لكنه فيه الحرج والمشقة على المسلمين خصوصًا على العوام الذين نص العلماء على أنه ليس لهم مذهب معين، وقد قال غير واحد: لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين كما لو يلزم في عصر أوائل الأمة. والذي أذهب إليه واختاره القول بجواز التقليد في التلفيق لا بقصد تتبع ذلك، لأن من تتبع الرخص فسق، بل من حيث وقع ذلك اتفاقًا، خصوصًا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك فلو توضأ شخص مثلاً ومسح جزءًا من رأسه مقلدًا للشافعي فوضوؤه صحيح بلا ريب، فلو لمس ذكره بعد ذلك فقلد أبا حنيفة جاز ذلك؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح بالاتفاق، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذه هي فائدة التقليد، وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر لأنهما قضيتان منفصلتان لأن الوضوء قد تم صحيحًا بتقليد الشافعي ويستمر صحيحًا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة لا في ابتدائها (1) .

انتقد العلامة الفاريني الحنبلي تلميذ الشيخ العلامة الحنبلي على رأي أستاذه انتقادًا شديد فقال:

والذي أراه وأقول به معتمدًا على ما قرره الأشياخ، والعقل والنقل يساعده ببطلان ذلك كله لأن فيه مفاسد كثيرة، وموبقات غزيرة، وهذا باب لو فتح لأفسد الشريعة الغراء ولأباح جل المحرمات، وأي باب أفسد من باب يبيح الزنا وشرب الخمر وغير ذلك، فإن قلت: فما وجه إباحة الزنا؟ قلنا: يمكن أن يصدق الرجل امرأة لازوج لها ولا عدة أو بنتًا بالغة عاقلة فيراودها عن نفسه فتجيبه لذلك فيقلد أبا حنيفة في صحة عقدها على نفسها فإنه لا يشترط الولي فقد صحت ولاية هذه على رأي أبي حنيفة، ثم يقلد الإمام مالكًا في عدم اشتراط الشهود، فإنه لا يشترط الشهود كما نقل عنه، فهذا الرجل قد أمكنه أن يزني بامرأة ولا جرم عليه، كما قرره الأستاذ طيب الله ثراه، وهذا لا يمكن أن يقول به عاقل، فإن قلت: هذا ليس كالذي قرره الشيخ، قلت: بل عينه من غير نزاع، وكل من نازع سفسطة، ولقد كان بعض أشياخي أعزهم الله تعالى توقف في بطلان التلفيق فنازعته في ذلك ثم إني أتيته بعد بهذه الصورة فرجع عن قوله، وقال. التلفيق باطل. والقاعدة أن كل ما أدى إلى محظور فهو محظور وكل قول يلزم فيه إباحة محرم فهو مردود، والشيخ قدس الله تعالى سره وإن كان عظيم الشأن ثاقب الذهن والفطنة التامة لكنه قد يكبو الجواد، ومن خصائص هذه الأمة أن لا يوقر الصغير الكبير في الحق (2) .

(1) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للعلامة محمد سعيد الباني ص 100، طبع المكتب الإسلامي – بيروت 1401هـ.

(2)

عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 101 – 102.

ص: 232

قال الإمام جوار الدين الإسنوي الشافعي في كتابه " نهاية السول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول:

إذا قلد مجتهدًا في مسألة فليس له تقليد غيره فيها اتفاقًا، ويجوز ذلك في حكم آخر على المختار، فلو التزم مذهبًا معينًا كالطائفة الشافعية والحنفية ففي الرجوع إلى غيره من المذهب ثلاثة أقوال؛ ثالثها: يجوز الرجوع فيما لم يعمل به – ولا يجوز في غيره (فائدتان) إحداهما: ذكر القرافي في شرح المحصول أن تقليد مذهب الغير حيث جوزناه فشرطه أن لا يكون موقعًا في أمر مجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إليه. فمن قلد مالكًا مثلاً في عدم النقض باللمس الخالي عن الشهوة فصلى فلابد أن يدلك بدنه ويمسح جميع رأسه وإلا فتكون صلاته باطلة عند الإمامين (1) .

وقال العلامة المحقق ابن أمير الحاج في كتابه التقرير والتحبير شرح التحرير لابن همام:

(مسألة لا يرجع المقلد فيما قلد) المجتهد (فيه) أي عمل به (اتفاقًا) ذكره الآمدي وابن الحاجب؛ لكن قال الزركشي: وليس كما قالا ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضًا، وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته؟ ! لكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام مكلف به، ما لم يظهر له غيره، والعامي لا يظهر له، بخلاف المجتهد حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة، وفصل بعضهم فقال: التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك كالحنفي يقلد في الوتر، أو من الحظر إلى الإباحة ليترك كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز والفعل والترك لا ينافي الإباحة، واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله، فلا معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد

وقال أيضًا: وهل يقلد غيره، أي غير من قلده أولاً في شيء (في غيره) أي غير ذلك الشيء؛ كأن يعمل أولاً في مسألة في قول أبي حنيفة وثانيًا في أخرى بقول مجتهد آخر (المختار) كما ذكره الآمدي وابن الحاجب (نعم للقطع) بالاستقراء التام (بأنهم) أي المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة وهلم جرّا (كانوا يستفتون مرة واحدًا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيًا واحدًا، فلو التزم مذهبًا معينًا لأبي حنيفة أو الشافعي) فهل يلزمه الاستمرار عليه فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل (فقيل يلزم) لأنه بالتزامه يصير ملزمًا به كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة (وقيل لا) يلزم وهو الأصح كما في الرافعي وغيره (2) .

(1) نهاية السول في شرح منهاج الوصول على هامش التقرير والتحبير.

(2)

التقرير والتحبير 3 / 350، دار الكتب العلمية – 1403 هـ.

ص: 233

قال العلامة زين العابدين إبراهيم الشهير بابن نجيم المصري الحنفي المتوفى 970هـ في رسالته " في صورة بيع الوقف ":

أما مسألة بيعه بغبن فاحش فقال مولانا قاضيخان في فتاواه: ولو باع أرض الوقف بثمن فيه غبن فاحش لا يجوز بيعه في قول أبي يوسف وهلال لأن القيم بمنزلة الوكيل فلا يملك البيع بغبن فاحش ولو كان أبو حنيفة يجوز الوقف بشرط الاستبدال لا يجيز بيع القيم إذا كان بغبن فاحش كالوكيل بالبيع، ويمكن أن تؤخذ صحة الاستبدال من قول أبي يوسف وصحة البيع بغبن فاحش من قول أبي حنيفة بناء على جواز صحة التلفيق في الحكم من قولين؛ قال في الفتاوى البزازية من كتاب الصلاة من فصل زلة القارى: ومن علماء خوارزم من اختار عدم الفساد بالخطأ في القراءة آخذًا بمذهب الإمام الشافعي فقال الباقوهجي: مذهبه من غير الفاتحة، فقال: أخذت من مذهبه الإطلاق وتركت القيد لما تقرر في كلام محمد أن المجتهد يتبع الدليل إلى القائد حتى صح القضاء بصحة النكاح بعبارة النساء على الغائب.

وما وقع في تقرير أن همام منع التلفيق فإنما عزاه إلى بعض المتأخرين وليس هذا المذهب (1) .

فقضية التلفيق نشأت في عصر التقليد، فإن الفقهاء من المذاهب المعروفة لما رأوا في المجتمع الإسلامي قلة الورع واتباع الهوى وميلاً شديدًا إلى أهواء النفوس ذهب كثير منهم إلى إيجاب التقليد الشخصي سدًا للذريعة ومنعًا للتشهي والفجور والانحلال، وللأصوليين والفقهاء في قضية التلفيق ثلاثة مذاهب، كما ظهر من نصوص الفقهاء التي قدمناها في هذا البحث.

المذهب الأول: جواز التلفيق مطلقًا.

المذهب الثاني: منع التلفيق مطلقًا.

المذهب الثالث: إباحة التلفيق بشروط.

لا شك أن المذهب الأول – إباحة التلفيق بإطلاق – خطير جدًّا خاصة في عصرنا هذا الذي قد تغلب فيه الهوى وقل فيه الورع، ولو اخترنا هذا المذهب في هذا العصر عصر الإباحية والفوضى – لأدى إلى تعطيل الشريعة وجعله للناس ذريعة للتلاعب بالدين وانجر إلى الاستهزاء بالدين.

(1) رسائل ابن نجيم ص 239 – 240، طبع دار الكتب العلمية – بيروت.

ص: 234

وعلى ضد ذلك اختيار المذهب الثاني – منع التلفيق بإطلاق – مع كونه غير ثابت من الكتاب والسنة لا يلائم مقتضيات هذا العصر، لأن القضايا الفقهية المتجددة لا يمكن لنا أن ننجح بحلها الشرعي إذا تقيدنا بمذهب فقهي خاص – فإن هذا التقييد كثيرًا ما يؤدي إلى ضيق وحرج – وإن تعدد المذاهب الفقهية رحمة وفسحة من الله، وكل هذه المذاهب مصدرها الكتاب والسنة فلا مانع من أن نستفيد في حل القضايا العصرية المعقدة سواء كانت في مجال الاقتصاد أو السياسة أو في أي ميدان سواهما من آراء مختلف الفقهاء والمجتهدين لا لتتبع الرخص بل لدفع الحرج والمشقة عن الأمة.

خلاصة القول: أن التلفيق ممنوع للتخلص من الواجبات وتجاوز المحرمات أو للتشهي والتلهي، ولكنه مباح لأغراض صحيحة بشروط آتية:

الأول: أن لا يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا مثلاً: لو قال لامرأته أنت طالق البتة وهو يراها ثلاثًا فأمضى رأيه فيها بينه وبينها وعزم على أنها حرمت عليه ثم رأى بعد ذلك أنها تطليقة رجعية فأراد أن يراجعها ويبقيها في زوجتيه.

الثاني: لا يستلزم الرجوع عن لازمه الإجماعي – أي عن لازم ما عمل به تقليدًا – مثلاً: لو قلد رجل أبا حنيفة في النكاح بلا ولي ونكح امرأة بالغة بلا ولي فلا شك أن صحة النكاح يستلزم صحة إيقاع الطلاق عليها فلو طلق هذا الرجل هذه " المرأة المنكوحة بدون ولي " ثلاثًا ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي فليس له ذلك لأنه رجوع عن التقليد في اللازم الإجماعي.

الثالث: أن لا يختار قولاً من نوادر العلماء وشواذهم؛ فإن نوادر العلماء وشواذهم التي رفضتها الأمة وما تلقتها بالقبول، الأخذ بها لا يجوز، قال الإمام الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام، وقال سليمان التيمي:" إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " والمراد بشواذ العلماء ونوادرهم الأقول التي تدعى بالزلات – والحاصل أنا لو أبحنا التلفيق وتتبع الرخص مطلقًا لكان فتنة وابتلاء للأمة وهتكت هيبة الشريعة، لأنهما يؤديان إلى الإباحية والانحلال والتشهي والتلهي، نعم لو احتاج الفقهاء المعتمدون لحل القضايا المعقدة المتجددة إلى اختيار الرخصة أو إلى التلفيق حسب شروطه المعتبرة لإزالة الضيق والحرج عن الأمة فلا يكون فيه بأس كما أرى؛ خصوصًا إذا كان هذا العمل باجتهاد جماعي من العلماء الراسخين، والله أعلم.

مجاهد الإسلام القاسمي

ص: 235

قائمة المصادر

1-

لسان العرب لابن منظور.

2-

المصباح.

3-

الأحكام للآمدي.

4-

المستصفى للغزالي.

5-

الإبهاج في شرح المنهاج.

6-

شرح تنقيح الفصول للقرافي.

7-

التقرير والتحبير شرح تحرير الأصول.

8-

الموافقات للشاطبي.

9-

المحصول للرازي.

10-

أصول الشاشي.

11-

كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري.

12-

تيسير التحرير لأمير بادشاه.

13-

مسند أحمد بن حنبل.

14-

الجامع الصحيح للبخاري.

15-

الصحيح لمسلم.

16-

السنن لأبي داود.

17 – الموطأ لمالك.

18-

السنن للبيهقي.

19-

الطبراني.

20-

سنن النسائي.

21-

الأصول والضوابط للنووي.

22-

شرح الجلال على الجمع.

23-

الأشباه والنظائر للسيوطي.

24-

أحكام القرآن للكيا الهراسي.

25-

البحر المحيط للزركشي.

26-

المغني في أصول الفقه للخبازي.

27-

كشف الأسرار على المنار.

28-

الأشباه والنظائر لابن نجيم.

29-

فتح القدير شرح الهداية لابن همام.

30-

إرشاد الفحول للشوكاني.

31-

معجم لغة الفقهاء وضع محمد رواس قلعجي وحامد صادق.

32-

عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق محمد سعيد الباني.

33-

الدر المختار للحصكفي.

34-

رد المحتار لابن عابدين الشامي.

35-

العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية.

36-

الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي.

37-

نهاية في شرح منهاج الوصول.

38-

رسائل ابن نجيم.

ص: 236